الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الصلاة
تعريف الصلاة:
الصلاة لغة: الدعاء بالخير.
قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي: ادع لهم.
وقال صلى الله عليه وسلم (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ صَائِماً فَلْيُصَلِّ وَإِنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَطْعَمْ) رواه مسلم.
[فليصل] أي: فليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة.
وشرعاً: هي عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.
• فرضت قبل الهجرة بثلاث سنين (ليلة الإسراء والمعراج)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها ركعتين ركعتين إلا المغرب فثلاث ركعات، فلما هاجر إلى المدينة بقيت الركعتان للسفر، وزيدت صلاة المقيم إلى أربع ركعات، إلا الفجر فبقيت ركعتين.
روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه حديث الإسراء المشهور، وفيه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ
…
قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تبارك وتعالى وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً).
وقد أجمع العلماء على أن الصلوات الخمس لم تفرض إلا في هذه الليلة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك، شيئا فشيئاً. (تفسير ابن كثير).
ثم نزل جبريل عليه السلام وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة:
فروى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَهُوَ بِالْكُوفَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:(بِهَذَا أُمِرْت) فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ: انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ يَا عُرْوَةُ؟ أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ.
وروى النسائي عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَصَلِّ الظُّهْرَ حِينَ مَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى إِذَا كَانَ فَيْءُ الرَّجُلِ مِثْلَهُ جَاءَهُ لِلْعَصْرِ فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَصَلِّ الْعَصْرَ، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ جَاءَهُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ الْمَغْرِبَ، فَقَامَ فَصَلَّاهَا حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ سَوَاءً، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ الشَّفَقُ جَاءَهُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ الْعِشَاءَ. فَقَامَ فَصَلَّاهَا
…
الحديث، وفيه: فَقَالَ - يعني جبريل - (مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ كُلُّهُ).
وروى عبد الرزاق في (مصنفه) وابن إسحاق في سيرته، كما في فتح الباري (2/ 285) أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة.
قال القرطبي رحمه الله: ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: بيان جبريل للمواقيت كان صبيحة ليلة الإسراء. (شرح العمدة (4/ 148)
(وهي واجبة).
أي: أن الصلاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.
أ- قال تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)
كتاباً: أي فرضاً. موقوتاً: أي بأوقات محددة.
ب- وقال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).
ج- وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) متفق عليه.
د- وعن معَاد. قَالَ (بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) متفق عليه.
وأجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة.
• فرضت ليلة الإسراء والمعراج، فرضت أولاً خمسين ثم خففت إلى خمس.
قال الشيخ ابن عثيمين: فرضت خمسين صلاة، لكن خففت فجعلت خمساً في الفعل وخمسين في الميزان، فكأنما صلى خمسين صلاة، وليس المراد تضعيف الحسنة بعشر أمثالها، لأنه لو كان المراد الحسنة بعشر أمثالها لم يكن لها مزية على غيرها من العبادات، إذ في كل عبادة الحسنة بعشر أمثالها، لكن الظاهر أنه يكتب للإنسان أجر خمسين صلاة بالفعل.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُتيت بالبراق فركبته
…
فأوحى الله إليّ ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة
…
فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال: يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة). رواه مسلم وعند النسائي:(فخمس بخمسين).
• ولأهميتها:
فرضت من الله عز وجل إلى رسوله بدون واسطة، وفرضت في ليلة هي أفضل الليالي لرسول صلى الله عليه وسلم، وفرضت في أعلى مكان يصل إليه البشر، وفرضت خمسين أولاً، وهذا يدل على محبة الله لها وعنايته سبحانه وتعالى بها.
• الصلاة كانت مشروعة في الأمم الماضية.
قال تعالى (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين).
قال شيخ الإسلام: ومن كان قبلنا لهم صلاة، ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات، ولا في الهيئات.
• وهي ثاني أركان الإسلام بعد الشهادتين.
• وهي أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله يوم القيامة.
• وهي عمود الدين.
(والصلوات المفروضة خمس).
قال ابن قدامة: والصلوات المكتوبات خمس في اليوم والليلة ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها، ولا يجب غيرها إلا لعارض من نذر أو
غيره هذا قول أكثر أهل العلم.
أ- عن طَلْحَة بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قال (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ «لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَصِيَامُ رَمَضَانَ». قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ قَالَ «لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ. قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ «لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) متفق عليه.
ب- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَة أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَراً بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْساً، مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ». قَالُوا لَا يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئاً. قَالَ «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الْخَطَايا) متفق عليه.
ج- وحديث بعث معاذ السابق (
…
فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ).
د- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الصَّلَاةُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِر) رواه مسلم
هـ-وعن عُبَادَة. قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّة) رواه أبو داود.
فائدة:
في حديث أبي هريرة السابق (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَراً بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ فِيه ...... ) دليل على فضل الصلوات الخمس، وأنها سبب لمحو الخطايا والذنوب.
قال ابن رجب: هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمحو الخطايا بالصلوات الخمس، فجعل مثل ذلك مثل من ببابه نهر يغتسل فيه كل يوم خمس مرار، كما أن درنه ووسخه ينقى بذلك حتى لا يبقى منه شيء، فكذلك الصلوات الخمس في كل يوم تمحو الذنوب والخطايا حتى لا يبقى منها شيء.
وقال: وتمثيله بالنهر: هو مبالغة في إنقاء الدرن، فإن النهر الجاري يذهب الدرن الذي غسل فيه ولا يبقى له فيه أثر، بخلاف الماء الراكد، فإن الدرن الذي غسل فيه يمكث في الماء، وربما ظهر مع كثرة الاغتسال فيه على طول الزمان، ولهذا روي النهي عن الاغتسال في الماء الدائم كما سبق ذكره في الطهارة.
وقال ابن حجر: وفائدة التمثيل التأكيد، وجعل المعقول كالمحسوس.
وقال ابن العربي: وجه التمثيل، أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه، ويُطهره الماء الكثير، فكذلك الصلوات تُطهّر العبد عن أقذار الذنوب حتى لا تُبقي له ذنباً إلا أسقطته وكفّرته.
• والحديث دليل على أن الصلوات الخمس تكفر وتمحو الخطايا والذنوب، والمراد بالذنوب التي تكفرها الصلاة هي الصغائر دون الكبائر.
قال ابن رجب: واستدل بذلك بعض من يقول: إن الصلاة تكفر الكبائر والصغائر، لكن الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يكفرها مجرد الصلاة بدون توبة، يقولون: هذا العموم خص منه الكبائر بما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر).
وفيه - أيضاً - عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة وكذلك الدهر كله).
وخرج النسائي، وابن حبان، والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (والذي نفسي بيده، ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل له: ادخل بسلام).
وخرج الإمام أحمد، والنسائي من حديث أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضاً.
وقال ابن مسعود: الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
وروي عنه مرفوعاً. والموقوف أصح.
وقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس؛ فإنهن كفارة لهذه الجراح، ما لم تصب المقتلة.
وقد حكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك، وأن الكبائر لا تكفر بمجرد الصلوات الخمس، وإنما تكفر الصلوات الخمس الصغائر خاصة.
(وهي واجبة على كل مسلم).
أي: أن الصلاة المفروضة تجب على المسلم. (وهو من جاء بالشهادة).
لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ إلى اليمن (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة
…
).
• وأما الكافر فلا تجب عليه حال كفره.
لقوله تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ
…
).
• ولا يلزم الكافر إذا أسلم أن يقضيها، وذلك لأمور:
أولاً: لقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
ثانياً: لقوله صلى الله عليه وسلم (الإسلامُ يهدم ما قبلَه) رواه مسلم.
ثالثاً: لأن في إلزامه بقضائها بعد إسلامه مشقة وتنفير عن الإسلام. (الشرح الممتع).
رابعاً: وأسلم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير، وبعده، فلم يؤمر أحد منهم بقضاء، ولأن في إيجاب القضاء عليه تنفيراً عن الإسلام، فعفي عنه. (المغني).
(بالغ عاقل).
البالغ: فلا تجب على الصغير، العاقل: فلا تجب على المجنون.
أ-لحديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق). رواه الترمذي
ب-ولأنهما ليسا أهلاً للتكليف.
(لا حائضاً ولا نُفساء).
أي: لا تجب الصلاة على الحائض والنفساء، ولا تصح منهما.
أ- عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَلتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلا تَقْضِي الصَّلاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. فَقَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلا نُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ) متفق عليه.
(أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَضَمّ الرَّاء الْأُولَى وَهِيَ نِسْبَة إِلَى حَرُورَاء، وَهِيَ قَرْيَة بِقُرْبِ الْكُوفَة قَالَ السَّمْعَانِيّ: هُوَ مَوْضِع عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْكُوفَة، كَانَ أَوَّل اِجْتِمَاع الْخَوَارِج بِهِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: تَعَاقَدُوا فِي هَذِهِ الْقَرْيَة فَنَسَبُوا إِلَيْهَا. فَمَعْنَى قَوْل عَائِشَة رضي الله عنها إِنَّ طَائِفَة مِنْ الْخَوَارِج يُوجِبُونَ عَلَى الْحَائِض قَضَاء الصَّلَاة الْفَائِتَة فِي زَمَن الْحَيْض، وَهُوَ خِلَاف إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَام الَّذِي اِسْتَفْهَمَتْهُ عَائِشَة هُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار أَيْ هَذِهِ طَرِيقَة الْحَرُورِيَّة، وَبِئْسَ الطَّرِيقَة. (نووي).
ب-قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم) متفق عليه.
ج- وقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش (
…
فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) متفق عليه.
قال النووي: هَذَا الْحُكْم مُتَّفَق عَلَيْهِ أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْحَائِض وَالنُّفَسَاء لَا تَجِب عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَلَا الصَّوْم فِي الْحَال.
(فمن جحَد وجوبها لجهلهِ عرّف ذلك).
أي: من جحد وجوبها لجهله فإنه يعرف بذلك حتى يزول عنه الجهل.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا، أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ، كَالْحَدِيثِ الْإِسْلَامِ، وَالنَّاشِئِ بِبَادِيَةٍ، عُرِّفَ وُجُوبَهَا، وَعُلِّمَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ.
(وإن جحدها عناداً كفر).
أي: من ترك الصلاة عناداً فهو كافر.
لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.
قال ابن عبد البر رحمه الله: أجمع المسلمون على أن جاحد فرض الصلاة كافر يقتل إن لم يتب من كفره ذلك.
وحكى الإجماع أيضاً ابن قدامة، فقال:
…
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ، كَالنَّاشِئِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، لَمْ يُعْذَرْ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ادِّعَاءُ الْجَهْلِ، وَحُكِمَ بِكُفْرِهِ; لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْوُجُوبِ ظَاهِرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَهَا عَلَى الدَّوَامِ، فَلَا يَخْفَى وُجُوبُهَا عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهُ، فَلَا يَجْحَدُهَا إلَّا تَكْذِيبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ، فِي الِاسْتِتَابَةِ وَالْقَتْلِ، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافاً. (المغني).
قال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ).
…
ومكذب للرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (بني الإسلام على خمس: وذكر منها: وإقامة الصلاة) متفق عليه.
(ومن تركها تهاوناً كفر، ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً).
أي: من ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً فإنه يكفر أيضاً.
وهذا مذهب الحنابلة، ورجحه الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحم الله الجميع.
أ-لحديث جابر قال: قال صلى الله عليه وسلم (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) رواه مسلم.
ب-ولحديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه الترمذي.
ج-وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال (لم يكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) رواه الترمذي.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يكفر.
وبه قال الحنفية، والمالكية، ونسبه النووي للأكثر من السلف والخلف.
أ-لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) رواه البخاري.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه مسلم.
فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أن من قال لا إله إلا الله فقد استحق دخول الجنة.
ج-ولقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
والراجح القول الأول أنه كافر.
• فإذا قال قائل: ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحداً لوجوبها؟
قلنا: لا يجوز ذلك لأن فيه محذورين:
الأول: إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به، فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود، ورتب الأخوة في الدين على إقام الصلاة دون الإقرار بوجوبها، فلم يقل الله تعالى: فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة. أو العهد الذي بيننا وبينهم الإقرار بوجوب الصلاة، فمن جحد وجوبها فقد كفر.
ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيان الذي جاء به القرآن الكريم، قال الله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ). وقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم).
الثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطاً للحكم:
فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواء صلى أم ترك.
فلو صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل ما يعتبر لها من شروط، وأركان، وواجبات، ومستحبات، لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه لكان كافراً مع أنه لم يتركها. (الشيخ ابن عثيمين).
• فإن قال قائل: ما هو الجواب عن الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة؟
قلنا: الجواب: أن هذه الأدلة لم يأت فيها أن تارك الصلاة لا يكفر، أو أنه مؤمن، أو أنه لا يدخل النار، أو أنه في الجنة. ونحو ذلك.
ومن تأملها وجدها لا تعارض أدلة القائلين بأنه كافر.
القسم الأول: ما لا دليل فيه أصلاً للمسألة.
مثل استدلال بعضهم بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء).
فإن معنى قوله تعالى (مَا دُونَ ذَلِكَ) ما هو أقل من ذلك، وليس معناه ما سوى ذلك، بدليل أن من كذب بما أخبر الله به ورسوله، فهو كافر كفراً لا يغفر وليس ذنبه من الشرك،
…
ولو سلمنا أن معنى (مَا دُونَ ذَلِكَ) ما سوى ذلك، لكان هذا من باب العام المخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما سوى الشرك، والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن شركاً.
القسم الثاني: عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة
مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار).
•
ماذا يترتب على قولنا بأنه كافر؟
قال الشيخ محمد بن عثيمين: وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر كفر ردة فإنه يترتب على كفره أحكام المرتدين ومنها:
أولاً: أنه لا يصح أن يزوج، فإن عقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل.
ثانياً: أنه إذا ذبح لا تؤكل ذبيحته.
ثالثاً: لا يرث ولا يورث.
رابعاً: إذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين.
خامساً: أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
• اختلف العلماء القائلون بتكفير تارك الصلاة هل يكفر بترك صلاة واحدة؟ أو بترك صلاتين؟ أو ثلاث؟ أو بالترك الكلي، فلا يسجد لله سجدة على أقوال:
القول الأول: يكفر بترك صلاة واحدة، واختاره الشيخ ابن باز.
قال ابن حزم: وقد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد. (المحلى:(2/ 15)
القول الثاني: أنه لا يكفر حتى يترك ثلاث صلوات وتضايق وقت الرابعة.
القول الثالث: أنه تارك الصلاة، لا يكفر إلا بالترك الكلي، واختاره الشيخ ابن عثيمين.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، فمن كان يصلي أحياناً لم يصدق عليه أنه ترك الصلاة.
• وقوله (ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً) أي: يقال له: تب إلى الله وصل وإلا قتلناك.
• وقوله (ثلاثاً) أراد به ثلاثة أيام، وكيفية استتابته في مدة الثلاث أن يُدعى إلى فعلها كل وقت حتى يُصلي.
• وجمهور العلماء على أن قتله حداً، لأنهم لا يرون كفر تارك الصلاة، وقيل: بل قتله ردة لكفره.
جاء في (الموسوعة الفقهية ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَاركَ الصَّلَاةِ تَهَاوُنًا وَكَسَلاً، لَا جُحُودًا، يُقْتَل حَدًّا أَيْ أَنَّ حُكْمَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمُ الْمُسْلِمِ فَيُغَسَّل، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ تَكَاسُلاً يُدْعَى إِلَى فِعْلِهَا وَيُقَال لَهُ: إِنْ صَلَّيْتَ وَإِلاَّ قَتَلْنَاكَ، فَإِنْ صَلَّى، وَإِلاَّ وَجَبَ قَتْلُهُ. وَلَا يُقْتَل حَتَّى يُحْبَسَ ثَلَاثًا وَيُدْعَى فِي وَقْتِ كُل صَلَاةٍ، فَإِنْ صَلَّى وَإِلاَّ قُتِل حَدًّا، وَقِيل كُفْرًا، أَيْ لَا يُغَسَّل وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. لَكِنْ لَا يُرَقُّ وَلَا يُسْبَى لَهُ أَهْلٌ وَلَا وَلَدٌ كَسَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ " انتهى.
(ويؤمر بها صغير لسبع، ويضرب عليها لعشر).
أي: أن الصبي إذا بلغ سبع ودخل في الثامنة، فإنه يؤمر بالصلاة، وإذا بلغ العاشرة من عمره ضرب عليها.
لحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) رواه أبو داود.
قال ابن قدامة: هَذَا الْأَمْرُ وَالتَّأْدِيبُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِتَمْرِينِهِ عَلَى الصَّلَاةِ، كَيْ يَأْلَفَهَا وَيَعْتَادَهَا، وَلَا يَتْرُكَهَا عِنْدَ الْبُلُوغ.
وقال العيني: يؤمر الصبي ابن سبع سنين بالصلاة تخلقاً وتأدباً يعني أنها غير واجبة عليه لا يأثم بتركها.
وقال الشيخ ابن عثيمين: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نأمر أولادنا بالصلاة لسبع سنين، وأن نضربهم عليها لعشر سنين، مع أنهم لم يُكلفوا بعد، من أجل أن يتمرنوا على فعل الطاعة ويألفوها، حتى تسهل عليهم بعد الكبر، وتكون محبوبة لديهم، كذلك الأمور التي ليست بالمحمودة، لا ينبغي أن يعود الصغار عليها وإن كانوا غير مكلفين؛ وذلك لأنهم يألفونها عند الكبر ويستسيغونها. (نور ع الدرب).
قال النووي: من لا تلزمه الصلاة لا يؤمر بفعلها لا إيجاباً ولا ندباً إلا الصبي والصبية فيؤمران بها ندباً إذا بلغ سبع سنين وهما مميزان، ويضربان على تركها إذا بلغا عشر سنين، فإن لم يكونا مميزين لم يؤمروا; لأنها لا تصح من غير مميز.
ودليل هذه القاعدة:
قوله تعالى (وأمر أهلك بالصلاة).
وقوله تعالى (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً).
وقوله صلى الله عليه وسلم (وإن لولدك عليك حقاً) رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
…
(المجموع).
فيؤمر الصبي والجارية بالصلاة لسبع، ويضربان عليها لعشر، كما يؤمران بصوم رمضان، ويشجعان على كل خير، من قراءة القرآن، وصلاة النافلة، والحج والعمرة، والإكثار من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، ويمنعان من جميع المعاصي.
• ويشترط في ضرب الصبي على الصلاة أن يكون ضربا هينا غير مبرّح، لا يشق جلداً، ولا يكسر سناً أو عظماً، ويكون على الظهر أو الكتف وما أشبه ذلك، ويتجنب الوجه لأنه يحرم ضربه، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يكون فوق عشرة أسواط، ويكون للتأديب والتربية، فلا يظهر به الرغبة في العقاب إلا عند الحاجة إلى بيان ذلك، لكثرة نفور الصبي وتركه للصلاة ونحوه.
(فإن بلغ في أثنائِها أو بعدها أعاد).
أي: إذا بلغ الصبي في أثناء فعله للصلاة، أو بعد فعلها فإنه يجب عليه أن يعيد.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وداود.
أ-أن الصلاة التي صلاها قبل البلوغ نافلة في حقه فلا تجزئ عن الفريضة.
ب-وقالوا: القياس على النافلة، فإن المصلي - بالغاً أو غير بالغ - إذا نوى صلاة نافلة لم تجزئه عن الفريضة، فكذا الصبي إذا صلى قبل البلوغ فصلاته نافلة فلا تنقلب فرضاً.
ج-أن من لم يبلغ صلى قبل وجوبها عليه فلم تجزه بعد وجود سبب وجوبها عليه كمن صلى قبل دخول الوقت.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يلزمه إعادتها.
وهو قول الشافعي، اختاره ابن تيمية، والشيخ ابن عثيمين.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع
…
) قالوا: إن الصبي قد صلى كما أمر، فلا يؤمر بإعادة الصلاة مرة ثانية.
ب-وقالوا: قياساً على الصيام إذا بلغ في أثنائه، فكما لا يعيده كذلك لا يعيد الصلاة إذا بلغ في أثنائها.
وهذا القول هو الصحيح والله أعلم.
• أما إذا بلغ الصبي ولم يكن قد صلى، فهنا يجب عليه أن يصلي، وهذا لا نزاع فيه.
(ويحرم تأخيرها عن وقتها).
أي: يحرم تأخير الصلاة عن وقتها.
قال ابن قدامة: أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محددة.
جاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على تحريم تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها بلا عذر شرعي.
أ-قال تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً).
ب-وقَالَ تَعَالَى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ هُمْ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا.
ج-وقَالَ تَعَالَى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا.
قال الشيخ ابن عثيمين: وإذا كانت مفروضةً في وقت معيَّن فتأخيرُها عن وقتها حرامٌ. وكذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وقَّتَ أوقاتَ الصَّلاة، وهذا يقتضي وجوبَ فعلها في وقتها.
وتأخيرها يشمَلُ تأخيرها بالكلِّيَّة؛ أو تأخيرَ بعضها، بحيث يؤخِّر الصَّلاة حتَّى إذا لم يبقَ إلاَّ مقدارُ ركعةٍ صلَّى، فإنَّه حرامٌ عليه؛ لأنَّ الواجبَ أن تقع جميعُها في الوقت.
قال ابن تيمية: لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلَ، وَلَا يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ لِشُغْلِ مِنْ الْأَشْغَالِ، لَا لِحَصْدِ وَلَا لِحَرْثِ وَلَا لِصَنَاعَةٍ وَلَا لِجَنَابَةِ. وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا صَيْدٍ وَلَا لَهْوٍ وَلَا لَعِبٍ وَلَا لِخِدْمَةِ أُسْتَاذٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلِّيَ الْفَجْرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا يَتْرُكَ ذَلِكَ لِصَنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ، وَلَا لِلَّهْوِ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْغَالِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَمْنَعَ مَمْلُوكَهُ، وَلَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ الْأَجِيرَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا.
وقال رحمه الله: فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لِجَنَابَةِ وَلَا حَدَثٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَقَدْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضِ أَوْ لِبَرْدِ. وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانَا، وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ فِي ثِيَابِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُزِيلَهَا فَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ. وَهَكَذَا الْمَرِيضُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ:(صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ) فَالْمَرِيضُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ قَاعِدًا أَوْ عَلَى جَنْبٍ، إذَا كَانَ الْقِيَامُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَائِمًا. وَهَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَرْضٌ، وَالْوَقْتُ أَوْكَدُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ. (مجموع الفتاوى: 22/ 30).
• لكن إذا استيقظ الإنسان من نومه قبل طلوع الشمس وهو جنب، فإن اغتسل طلعت الشمس، وإن تيمم صلى بالوقت، هنا يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس.
قال ابن تيمية: وَإِذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ فَإِذَا اغْتَسَلَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُنَا يَقُولُونَ: يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: بَلْ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا هُنَا وَيُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِالْغُسْلِ.
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا)
، فَالْوَقْتُ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا فِي حَقِّهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِهَا فَقَدْ صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُفَوِّتْهَا؛ بِخِلَافِ مَنْ اسْتَيْقَظَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ. (مجموع الفتاوى: 22/ 36).
(إلا لناوٍ جمعَها).
أي: يستثنى من تحريم تأخير الصلاة، من يحق له الجمع كالمسافر والخائف، فيؤخر الظهر إلى العصر، أو المغرب إلى العشاء.
(أو مشتغلٍ بشرطِها).
وهذا أيضاً مما يستثنى من تأخير الصلاة عن وقتها، وهو من يشتعل بشرط الصلاة الذي يحصله قريباً.
مثاله: إنسان انشقَّ ثوبه فصار يخيطُه فحانَ خروجُ الوقت، فإن صَلَّى قبل أن يخيطَه صلَّى عُرْياناً، وإن انتظر حتَّى يخيطَه صلَّى مستتراً بعد الوقت، فهذا تحصيلُه قريب، فهنا يجوز أن يؤخِّرها عن وقتها، أمَّا إذا كان بعيداً فلا.
ومثله لو وصل إلى الماء عند غروب الشَّمس، فإن اشتغل باستخراجه غربتِ الشَّمسُ، فله أن يؤخِّرها عن وقتها، لأنَّه اشتغل بشرطٍ يُحصِّلُه قريباً، وهو استخراج الماء من البئر، وإن كان يحتاج إلى حفر البئر فلا يؤخِّرها، لأن هذا الشَّرطَ يُحصِّله بعيداً.
وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي في المشهور، واختاره ابن قدامة.
أ- لقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا).
ب- أن الصلاة لا تصح إلا بشروطها ما دام قادراً عليها أو على بعضها، فمتى كان شرطاً مقدوراً عليه وجب الاشتغال بتحصيله.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز أن يؤخرها في هذه الحالة، فيصلي الصلاة في وقتها ولو بالتيمم عارياً إذا لم يمكنه تحصيل الماء لطهارته، والثوب لستر عورته إلا بعد خروج الوقت.
وبهذا قال زفر، وبعض الحنفية، واختاره ابن تيمية.
أ- لقوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً).
ب- قوله صلى الله عليه وسلم (الصلاة ما بين هذين الوقتين).
وجه الدلالة: أن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت آكد فرائض الصلاة، فيجب على العبد أن يصلي في الوقت كما أمر بحسب الإمكان، فما قدر عليه من شروط الصلاة فعله، وما عجز عنه سقط عنه.
قال ابن تيمية:
…
إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالُوا يَشْتَغِلُ بِتَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ. وَهَكَذَا قَالُوا فِي اشْتِغَالِهِ بِخِيَاطَةِ اللِّبَاسِ وَتَعَلُّمِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، بَلْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ.
وهذا القول هو الراجح.
(ويقضي من زال عقلُه بنوم).
أي: من نام عن الصلاة فإنه يجب عليه أن يقضيها إذا استيقظ.
قال الشوكاني: أجمع العلماء على وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان.
أ- لحديثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرهَا، وَلا كَفَّارَةَ لَهَا إلاَّ ذَلِكَ " أَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) متفق عليه.
وَلِمُسْلِمٍ (مَنْ نَسِيَ صَلاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا. فَكَفَّارَتُهَا: أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا).
ب-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى صلاة الفجر لما نام عنها في السفر.
ج-وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى قال لبلال: اكلأ لنا الليل فصلى بلال
ما قدر له ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر فغلبت بلالاً عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ رسول صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس
…
الحديث - وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتادوا فاقتادوا رواحلهم شيئاً ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالاً فأقام الصلاة فصلى الصبح فلما قضى الصلاة قال: من نسي الصلاة فليصليها إذا ذكرها).
وفي رواية (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان، قال ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين. ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة).
فائدة: إن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم لما أستيقظ أمرهم أن يرتحلوا من مكانهم إلى مكان آخر؟
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل بقوله (هذا منزل حضرنا فيه الشيطان)، فلا ينبغي أن يصلى في أماكن حضور الشياطين.
قال القرطبي: أخذ بهذا بعض العلماء فقال: من انتبه من نوم عن صلاة فائتة في سفر، فليتحول عن موضعه، وإن كان وادياً فيخرج عنه، وقيل: إنما يلزم في ذلك الوادي بعينه.
وقال غيره: يؤخذ منه أن من حصلت له غفلة في مكان استحب له التحول عنه، ومنه أمر الناعس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكانه إلى مكان آخر.
• اختلف العلماء لو فاتت الصلاة بغير عذر؛ هل تقضى أم لا مع الاتفاق أنه آثم؟ على قولين:
القول الأول: أنه يقضيها.
وبه قال أكثر العلماء، منهم الأئمة الأربعة، وحكي إجماعاً ورده ابن رجب وابن القيم.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها).
قال النووي: فيه وجوب قضاء الفريضة الفائتة، سواء تركها بعذر كنوم ونسيان أم بغير عذر، وإنما قيد في الحديث بالنسيان لخروجه على سبب، لأنه إذا وجب القضاء على المعذور، فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
ب- قوله تعالى (وأقم الصلاة لذكري) وقوله تعالى (وأقيموا الصلاة) وقوله صلى الله عليه وسلم (خمس صلوات افترضهن الله
…
).
وجه الدلالة: أن هذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على وجوب الصلاة، فلا يجوز إسقاطها إلا ببرهان نص أو إجماع.
ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أفطر بالجماع في رمضان عمداً أن يقضي يوماً مكانه (كما عند أبي داود) ويقاس عليه الصلاة، بجامع أن كلاً منهما أخّر عبادة عظيمة من أركان الإسلام عن وقتها المحدد عمداً، فإذا جاز القضاء لأحدهما جاز للآخر ولا فرق.
د- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، مما يدل على أن صلاتهم صحيحة مجزئة - مع إيقاعهم للصلاة في غير وقتها - وإن كانوا آثمين بالتأخير، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، فسمى صلاتهم صلاة.
القول الثاني: أنه لا يقضي.
وبه قال بعض السلف، وهو مذهب أهل الظاهر، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية واختاره الشيخ ابن عثيمين، ومال إليه ابن رجب وابن القيم.
أ- لقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ).
ب- ولقوله تَعَالَى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ).
وجه الدلالة: أن تأخيرها عن وقتها من السهو عنها، وهو أيضاً من إضاعتها، فتوعد الله سبحانه من فوّت الصلاة عن وقتها بوعيد تاركها، ولو كان العامد لترك الصلاة مدركاً لها بعد خروج وقتها لما كان له الويل، ولا لقي الغيّ، كما لا ويل ولا غي لمن أخرها إلى آخر وقتها الذي يكون مدركاً لها.
ج- قوله صلى الله عليه وسلم (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) رواه البخاري.
د- قوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أن تأخير الصلاة عن وقتها إحداث عمل ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون مردوداً، وإذا ثبت أن هذه الصلاة مردودة فليست بصحيحة ولا مقبولة.
هـ- القياس على من صلاها قبل الوقت، إذ لا فرق بين من صلاها قبل الوقت وبين من صلاها بعده، فكلاهما صلى في غير الوقت، فكما لا تصح قبله لا تصح بعده، لقوله صلى الله عليه وسلم (الصلاة ما بين هذين الوقتين).
…
والله أعلم.
(أو إغماء).
أي: ويقضي من زال عقله بإغماء.
وهذا المذهب، واستدلوا:
أ-عن عمار بن ياسر (أنه أغمي عليه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأفاق في بعض الليل فقضاهن) رواه عبد الرزاق.
ب-قياساً على النوم.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب عليه القضاء.
وهذا مذهب مالك، والشافعي.
لقوله صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) فهذا المغمى عليه جميع الوقت لم يدرك ركعة من الصلاة.
وهذا القول هو الصحيح، واختاره الشيخ ابن عثيمين.
وقياس المغمى على النائم قياس غير صحيح، لأن النائم ينام باختياره، ويمكن أن يوقظ، لكن المغمى عليه لا يمكن أن يوقظ لأنه لا يشعر، فهو شبيه بالمجنون، وهناك من تطول مدة إغمائه وخاصة في هذا العصر.
وقال بعضهم: إن أغمي خمس صلوات قضاها، وإن زادت سقط فرض القضاء في الكل.
وهذا قول أبي حنيفة.
• فائدة: اعلم أن الخلاف في المغمى عليه فقط، أما غيره:
o فالمجنون لو عقل بعد خروج الوقت لا يلزمه القضاء بلا خلاف.
o الصبي إذا بلغ بعد خروج الوقت لا يلزمه القضاء إجماعاً.
o الكافر إذا خرج وقت الصلاة ولم يصلِّ، ثم أسلم بعد خروج وقت الصلاة، فإنه لا يلزمه القضاء بلا خلاف.
• إذا غاب عن الوعي باختياره، كمن أخذ البنج أو المادة المنوّمة لإجراء عملية مثلا، فهذا يلزمه القضاء.
وإلى هذا ذهب الحنابلة، ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
قال في (الإنصاف) أما إذا زال عقله بشرب دواء، يعني مباحاً، فالصحيح من المذهب: وجوب الصلاة عليه. وعليه جماهير الأصحاب. وقيل: لا تجب عليه
…
وقال المصنف في المغني، ومن تبعه: من شرب دواء فزال عقله به: فإن كان زوالاً لا يدوم كثيراً، فهو كالإغماء، وإن تطاول فهو كالمجنون.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " إذا أغمي على المريض وفقد الوعي فإنه لا صلاة عليه
…
فلو قدر أن المريض أغمي عليه لمدة يوم أو يومين أو شهر أو شهرين ثم أفاق فإنه لا قضاء عليه، ولا يمكن أن يقاس الإغماء على النوم؛ لأن النائم يمكن أن يستيقظ إذا أوقظ، والمغمى عليه لا يمكن، فهو في حال بين الجنون وبين النوم، والأصل براءة الذمة، وعلى هذا فيكون من أغمي عليه لمرض أو حادث فإنه لا يقضي الصلوات قلّت أو كثرت، أما إذا أغمي عليه للبنج الذي استعمله باختياره ولكنه لم يصح بعد البنج إلا بعد يومين أو ثلاثة فعليه أن يعيد الصلاة؛ لأن هذا حصل باختياره.
(أو سكر).
أي: أن السكران يقضي ما فاته حال سكره.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً.
وقال ابن عبد البر: وكل صلاة تركها السكران أو صلاها أو بعضها في حالة سكره وتمكن الخمر من رأسه فعليه قضاؤها. اهـ
• اتفق العلماء على عدم صحة صلاة السكران وقت سكره، وجماهير العلماء على إيجاب القضاء عليه لما فاته حال سكره.
• قال ابن تيمية: صلاة السكران الذي لا يعلم ما يقول لا تجوز باتفاق، بل ولا يجوز أن يُمكّن من دخول المسجد.
• جاءت الأحاديث الصحيحة الكثيرة في عقوبة من شرب الخمر وأنه لا تُقبل صلاته أربعين يوماً، وقد ورد هذا من حديث عمرو بن العاص، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو.
من هذه الأحاديث ما رواه ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدَغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا رَدَغَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عُصَارَةُ أَهْلِ النَّار).
وليس معنى عدم قبول الصلاة أنها غير صحيحة، أو أنه يترك الصلاة، بل المعنى أنه لا يثاب عليها. فتكون فائدته من الصلاة أنه يبرئ ذمته، ولا يعاقب على تركها.
قال أبو عبد الله ابن منده: " قوله " لا تقبل له صلاة " أي: لا يثاب على صلاته أربعين يوماً عقوبة لشربه الخمر، كما قالوا في المتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب إنه يصلي الجمعة ولا جمعة له، يعنون أنه لا يعطى ثواب الجمعة عقوبة لذنبه.
وقال النووي: وَأَمَّا عَدَم قَبُول صَلاته فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لا ثَوَاب لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَة فِي سُقُوط الْفَرْض عَنْهُ، وَلا يَحْتَاج مَعَهَا إِلَى إِعَادَة.
وهذه العقوبة على شارب الخمر إنما هي لمن لم يتب، أما من تاب وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه ويتقبل منه أعماله. كما في الحديث السابق:(فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ). وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). رواه ابن ماجه
باب الأذان والإقامة
تعريفه:
الأذان لغة: الإعلام، ومنه قوله تعالى (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
…
) أي: إعلام من الله ورسوله.
وشرعاً: إعلام بحلول فعل الصلاة.
• وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ).
والسنة أحاديث كثيرة ستأتي إن شاء الله.
وأجمعت الأمة على أن الأذان مشروع للصلوات الخمس. [قاله ابن قدامة].
• والصحيح أن الأذان شرع في المدينة في السنة الأولى ولم يكن قد شُرع بمكة.
ويدل لذلك: حديث ابْن عُمَر: أَنَّهُ قَالَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَوَاتِ وَلَيْسَ يُنَادِى بِهَا أَحَدٌ فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمُ اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ فَقَالَ عُمَرُ أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِى بِالصَّلَاةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاة) متفق عليه.
وهذا يدلُّ على: أنَّ الأذان لم يكن قد شرع في مكَّة قبل الهجرة، لأنَّه لو كان مشروعًا، ما فعل الصحابة ذلك.
• قال ابن حجر: وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث.
• وقد شرع برؤية رآها عبد الله بن زيد بن ربِهِ وأقره النبي صلى الله عليه وسلم عليها.
عن عبد الله بن زيد بن ربه قال (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يًعمل ليُضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل
ناقوساً في يده، فقلت يا عبد الله! أتبيع الناقوس، قال: وما تصنع به، فقلت ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلكَ على ما هو خير لك من ذلك، فقلت له: بلى، فقال، تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، اشهد أن محمداً رسول الله، اشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحتُ أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك، فقمت مع بلال فجعلتُ أُلقيهِ عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله! لقد رأيت مثلَ ما رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد) رواه أبوداود.
•
الحكمة من الأذان:
ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء: إظهار شعار الإسلام، وكلمة التوحيد، والإعلام بدخول وقت الصلاة وبمكانها، والدعاء إلى الجماعة. [شرح النووي].
(الأذان فضله عظيم).
حيث جاءت الأحاديث الكثيرة في بيان فضله.
أ-عن مُعَاوِيَةُ. قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقاً يَوْمَ الْقِيَامَة) رواه مسلم.
ب-وعَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ذَهَبَ حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ) متفق عليه.
ج-وعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا) متفق عليه.
د-وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ. قال: قال صلى الله عليه وسلم (
…
فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة) رواه البخاري.
• قوله (أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقاً يَوْمَ الْقِيَامَة)؟
قيل: أكثر الناس تشوقاً إلى رحمة الله.
وقيل: إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق.
وقيل: معناه أنهم سادة ورؤساء والعرب تصف السادة بطول العنق. [شرح النووي].
• قوله (ذَهَبَ حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ) لماذا يهرب الشيطان عند سماع الأذان؟
قيل: لئلا يسمعه فيضطر إلى أن يشهد له بذلك يوم القيامة.
وقيل: إنما يُدبر لعظم أمر الأذان لما اشتمل عليه من قواعد التوحيد وإظهار شعائر الإسلام وإعلانه.
وقيل: ليأسه من وسوسة الإنسان عند الإعلان بالتوحيد. [شرح النووي].
•
اختلف العلماء: أيهما أفضل الإمامة أو الأذان على قولين؟
القول الأول: أن الأذان أفضل.
وهو مذهب الشافعية والحنابلة، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ ابن عثيمين.
أ- واستدلوا بالأحاديث التي سبقت والتي تدل على فضل الأذان.
ب-ولأن الأذان أشق.
القول الثاني: أن الإمامة أفضل.
وهو مذهب الحنفية والمالكية.
أ-لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم).
ب-أن النبي صلى الله عليه وسلم تولاها بنفسه، وكذلك خلفاؤه، ولم يتولوا الأذان، ولا يختارون إلا الأفضل.
ج-ولأن الإمامة يُختار لها من هو أكمل حالاً وأفضل.
وأجاب أصحاب القول الأول عن أدلة القول الثاني:
قالوا: كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم بمهمة الأذان ولا خلفاؤه الراشدون يعود السبب فيه لضيق وقتهم عنه، لانشغالهم بمصالح المسلمين التي لا يقوم بها غيرهم، فلم يتفرغوا للأذان، ومراعاة أوقاته.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لولا الخلافة لأذَّنتُ. (الموسوعة الفقهية).
وقال الشيخ ابن عثيمين: وإنما لم يؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون؛ لأنهم اشتغلوا بأهم من المهم، لأن الإمام يتعلق به جميع الناس فلو تفرغ لمراقبة الوقت لانشغل عن مهمات المسلمين.
•
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ هَل الأْذَانُ أَفْضَل أَمِ الإْمَامَةُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّ الإْمَامَةَ أَفْضَل مِنَ الأْذَانِ.
لأِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَلاَّهَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَلَمْ يَتَوَلَّوُا الأْذَانَ، وَهُمْ لَا يَخْتَارُونَ إِلاَّ الأْفْضَل، وَلأِنَّ الإْمَامَةَ يُخْتَارُ لَهَا مَنْ هُوَ أَكْمَل حَالاً وَأَفْضَل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الأْذَانَ أَفْضَل مِنَ الإْمَامَةِ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِل صَالِحًا).
قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رضي الله عنها: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأْوَّل ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا).
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَل النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَة).
وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (الإْمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأْئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ).
وَالأْمَانَةُ أَعْلَى وَأَحْسَنُ مِنَ الضَّمَانِ، وَالْمَغْفِرَةُ أَعْلَى مِنَ الإْرْشَادِ.
قَالُوا: كَوْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُمْ بِمُهِمَّةِ الأْذَانِ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَعُودُ السَّبَبُ فِيهِ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ عَنْهُ، لاِنْشِغَالِهِمْ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَا يَقُومُ بِهَا غَيْرُهُمْ، فَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِلأْذَانِ، وَمُرَاعَاةِ أَوْقَاتِهِ.
قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَوْلَا الْخِلَافَةُ لأَذَّنْتُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْفَضْل.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقِيَامَ بِحُقُوقِ الإْمَامَةِ وَجَمِيعِ خِصَالِهَا، فَهِيَ أَفْضَل، وَإِلاَّ فَالأْذَانُ أَفْضَل.
•
هل أذن النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
قيل: أذن مرة في السفر.
لحديث يعلى بن بسرة: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانتهوا إلى مضيق فحضرت الصلاة فمطروا، السماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته وأقام
…
) رواه الترمذي.
وقيل: لم يباشر الأذان.
وهذا القول هو الصحيح.
وأما الحديث السابق فهي رواية مختصرة، وقد جاءت رواية أخرى بلفظ (فأمر المؤذن فأذن وأقام).
فعرف أن معنى قوله (فأذن) أمر به.
(والأذان والإقامة فرضا كفاية).
أي: أن الأذان والإقامة حكمهما فرض كفاية (فإذا كانوا في بلد وأذن بعض الناس الذين تقوم بهم الكفاية، فإن هذا يكفي).
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم
…
) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
ب-ولحديث أبي الدرداء. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من ثلاثة في قرية لا يؤَذَّنُ ولا تُقام فيهِم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان) رواه أبو داود. فترك الأذان استحواذ من الشيطان فيجب تجنبه.
ج-وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَكَانَ يَسْتَمِعُ الأَذَانَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَاناً أَمْسَكَ وَإِلاَّ أَغَارَ فَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «عَلَى الْفِطْرَةِ». ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ». فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ رَاعِى مِعْزًى) رواه مسلم.
فدل الحديث على أن الأذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر.
وهذا القول هو الصحيح، وهو أنه فرض كفاية، (فإذا كانوا في بلد وأذن بعض الناس الذين تقوم بهم الكفاية، فإن هذا يكفي).
والدليل كونه فرض كفاية قوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) وهذا يدل على أنه يكتفَى بأذان واحد، ولا يجب الأذان على كل أحد.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه سنة.
وهو مذهب الحنفية والشافعية. واستدلوا:
أ-بحديث المسيء في صلاته، قالوا: فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي باستكمال شروط وأركان الصلاة وواجباتها، ولم يذكر معها الأذان والإقامة.
ب-وأن الأذان ثبت عن مشورة حتى تقرر برؤيا عبد الله بن زيد، وليس هذا من صفات الواجبات، وإنما هو من صفات المندوبات.
(على الرجال).
أي: فلا يجب على النساء، ولا على الصغار.
• واختلف العلماء لو أذّنت المرأة وأقامت لجماعة النساء أو لنفسها على أقوال:
قيل: يكره لهن الأذان والإقامة.
وهذا مذهب الحنابلة.
وقيل: يكره لهن الأذان وتستحب الإقامة.
وقيل: يستحب لهن الأذان والإقامة.
وقيل: يباح لهن الأذان والإقامة مع خفض الصوت.
وهذا أرجح.
• وقوله (على الرجال) أي: يجب على الجماعة، (اثنان فأكثر) فلا يجب على المنفرد لكنه يستحب في حقه.
لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يعجب ربك عز وجل من راعي غنم في رأس الشظية للجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم، يخاف شيئاً، قد غفرت له، وأدخلته الجنة). رواه أبو داود
قال الشيخ ابن عثيمين: الأذان والإقامة للمنفرد سنة، وليسا بواجب؛ لأنه ليس لديه من يناديه بالأذان، ولكن نظراً لأن الأذان ذكر لله عز وجل، وتعظيم، ودعوة لنفسه إلى الصلاة وإلى الفلاح.
قال الشوكاني: والحديث يدل على شرعية الأذان للمنفرد فيكون صالحاً لرد قول من قال: إن شرعية الأذان تختص بالجماعة.
(المقيمين).
أي: فالمسافرون لا يجب عليهم الأذان.
وذهب بعض العلماء: إلى وجوبه.
واختاره الشيخ السعدي.
لقوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ومن معه لما أرادوا السفر (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم
…
) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
قال الشيح محمد بن عثيمين مرجحاً هذا القول: الصحيح أن الأذان للمسافر واجب
…
ثم ذكر حديث مالك السابق
…
حيث أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الأذان حضراً ولا سفراً.
(للصلوات الخمس ولو مقضية).
أي: أن الأذان خاص بالصلوات الخمس المكتوبة، فلا يجب لغيرها، كالوتر، والسنن، والعيد، والاستسقاء، والكسوف.
أ- لأنه لم يؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لغير الصلوات الخمس المفروضة.
ب- أن المقصود من الأذان الإعلام بوقت الصلاة على الأعيان، وهذا لا يوجد في غير المكتوبة.
• قوله (ولو مقضية)
أي: ولو كانت الصلاة قضاء، فإنه يسن لها الأذان.
وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة.
أ-لحديث أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ (سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ بِلَالٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا وَأَسْنَدَ بِلَالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَالَ: يَا بِلَالُ أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ قَالَ مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ، يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلَاةِ، فَتَوَضَّأَ فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ قَامَ فَصَلَّى) متفق عليه.
حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن وقد فاتتهم الصلاة.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم
…
) وهذا يشمل حضورها في الوقت، وحضورها بعد الوقت.
ج-ولأن الأذان من سنن الصلاة المفروضة، فاستوى حاله في الوقت وغيره كالإقامة.
تنبيه: وهذا إذا كان من فاتتهم الصلاة حتى خرج وقتها في مكان لم يؤذن فيه كالصحراء، أما إذا كانوا في البلد فيكتفَى بأذان البلد، لأنه حصلت به الكفاية.
• فائدة: العبادة توصف بثلاثة أوصاف:
أداء: ما فعل في وقته أولاً.
قضاء: ما فعل بعد الوقت.
إعادة: ما فعل في الوقت ثانياً لخلل في الأولى.
(وتحرم أجرَتُهما، لا رَزق من بيت المال لعدم متطوع).
أي: يحرم على الإنسان أن يؤذن بعقد إجارة فإن فعل فهو آثم، بأن يستأجر شخصاً يؤذن ويقيم.
وهذه المسألة لها أحوال:
أ- اتفق الفقهاء على جواز أخذ الأجرة على الأذان إذا كان ذلك من بيت المال، إلا أن الشافعية والحنابلة قيدوا ذلك بعدم وجود متبرع.
وإنما كان جائزاً إذا كان من بيت المال لأمور:
أولاً: أن ما يأخذه من بيت المال ليس عوضاً وأجرة، بل رزق للإعانة على الطاعة.
ثانياً: أن بالمسلمين حاجة إلى الأذان والإقامة وقد لا يوجد متطوع بهما، وإذا لم يدفع الرزق فيهما تعطّلتا.
ثالثاً: أن بيت المال معدّ لمصالح المسلمين، فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجاً إليه كان من المصالح.
ب- أخذ الأجرة على الأذان من غير بيت المال، فهذه اختلف العلماء فيها على أقوال:
القول الأول: أنه لا يجوز.
وبه قال أبو حنيفة.
أ-لقوله تعالى (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).
ب- ولحديث عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ اِجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي. قَالَ: "أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاِتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا) أَخْرَجَهُ اَلْخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.
ج-ولأن الأذان قربة لفاعله، لا يصح إلا من مسلم، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه كالصوم والصلاة.
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية أن أخذ الأجرة على القُرَب يفوّت الأجر بالاتفاق.
القول الثاني: أنه يجوز.
وهذا مذهب المالكية والشافعية.
أ-لحديث أبي محذورة وما جاء في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له الأذان، وفيه: (
…
ثم دعا لي حين قضيت التأذين فأعطاني صُرةً فيها شيء من فضة) رواه أحمد والنسائي.
وقالوا: إن حديث (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) محمول على الندب والورع.
لكن أجاب أصحاب القول الأول عن حديث أبي محذورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه صرة من فضة تأليفاً لقلبه وليس أجرةً على أذانه.
القول الثالث: أنه لا يجوز إلا في حالة الحاجة من غير شرط. (كأن يكون الآخذ فقيراً).
واختار هذا ابن تيمية.
وعللوا المنع بحديث عثمان بن أبي العاص.
وعللوا الجواز في حالة الحاجة: بقلة من يقوم بالأذان حسبة لله تعالى، فبمراعاته للأوقات والاشتغال به يقلّ اكتسابه عما يكفيه لنفسه وعياله، فيأخذ الأجرة لئلا يمنعه الاكتساب عن إقامة هذه الوظيفة الشريفة.
قال ابن تيمية بعد أن ذكر الأقوال الماضية: وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ - وَهُوَ أَقْرَبُ - قَالَ: الْمُحْتَاجُ إذَا اكْتَسَبَ بِهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْوِيَ عَمَلَهَا لِلَّهِ وَيَأْخُذُ الْأُجْرَةَ لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ عَلَى الْعِيَالِ وَاجِبٌ أَيْضًا فَيُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ بِهَذَا؛ بِخِلَافِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَسْبِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُ أَنْ يَعْمَلَهَا لِغَيْرِ اللَّهِ؛ بَلْ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَغْنَاهُ وَهَذَا فُرِضَ عَلَى الْكِفَايَةِ: كَانَ هُوَ مُخَاطَبًا بِهِ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ إلَّا بِهِ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَيْنًا.
ج-هل يجوز للمسلمين أن يعيّنوا شخصاً يؤذن فيهم ويُجمع له راتب؟
نعم، لا بأس بشرط ألا يشارطهم ويقول: لا أؤذن إلا بكذا وكذا.
(والأذان خمس عشرة كلمة يرتلها على علو).
أي: أن عدد جمل الأذان (15) جملة لا ترجيع فيها.
لحديث عبد الله بن زيد فإنه فيه الأذان: 15 جملة يسمى أذان بلال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلال أن يلقيه.
عن عَبْدِ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ (لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى، قَالَ: فَقَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ، قَالَ: وَتَقُولُ: إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ، اللَّهُ
أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ، فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ، وَيُؤَذِّنُ بِهِ، قَالَ: فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَيَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَلِلَّهِ الْحَمْد). رواه أبو داود
وذهب بعض العلماء: إلى أنه 19 جملة بالتكبير في أوله أربعاً مع الترجيع.
لحديث أبي محذورة كما عند أبي داود (بتربيع التكبير).
عن أبي مَحْذُورَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ الأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَالإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً: الأَذَانُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَالإِقَامَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه 17 جملة.
وهذا مذهب مالك.
التكبير مرتين في أوله مع الترجيع.
لحديث أبي محذورة كما في رواية مسلم.
عَنْ أَبِى مَحْذُورَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ هَذَا الأَذَانَ (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ - ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ - أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ - مَرَّتَيْنِ - حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ - مَرَّتَيْنِ». زَادَ إِسْحَاقُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) رواه مسلم.
والراجح أن كل هذا وردت به السنة فينبغي أن يؤذن بهذا مرة وبهذا مرة إن لم يحصل تشويش.
فالقاعدة: أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة أن تنوع، ففيها:
حفظاً للسنة، وحضوراً للقلب، وحفظاً للشريعة.
• (الترجيع) هو: أن يقول الشهادتين بصوت منخفض يُسمع من كان بقربه، ثم يقولهما بصوت مرتفع كسائر جمل الأذان.
اختلف العلماء في حكم الترجيع في الأذان على أقوال:
القول الأول: أنه سنة.
وهذا مذهب مالك الشافعي.
لحديث أبي محذورة، فإن فيه الترجيع.
القول الثاني: أنه غير مشروع.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لحديث عبد الله بن زيد، فهو أصل في مشروعية الأذان، وليس فيه ذكر الترجيع، فالأخذ به أولى، لأن بلالاً كان يؤذن به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً وحضراً.
القول الثالث: فعله سنة وتركه سنة.
وهذا مذهب أحمد وإسحاق ورجحه ابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن عثيمين.
عملاً بجميع الأحاديث.
قال ابن تيمية: فكل واحد من أذان بلال وأبي محذورة سنة، فسواء رجّع المؤذن أو لم يرجّع
…
فقد أحسن واتبع السنة.
وهذا القول هو الراجح، لأن هذا من التنوع في العبادات.
• قوله (يرتلها) أي: يقولها جملة جملة.
هذا المذهب.
أن السنة أن يقف المؤذن على كل تكبيرة ويؤديها بنَفَس واحد.
أ-لحديث جابر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال (إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر) رواه الترمذي وهو ضعيف.
وجه الدلالة: قالوا: إن الترسل هو التأني والتمهل، وهذا لا يكون إلا بالوقف بعد نهاية كل جملة.
ب-ولحديث أبي محذورة قال (ألقىَ عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
…
). رواه أبو داود
وذهب بعض العلماء: إلى أن السنة أن يقرن بين التكبيرتين، فيصل كل تكبيرتين بصوت واحد وبنفس واحد.
وهذا قول الحنفية الشافعية ورجحه الألباني.
أ-لحديث أنس قال (أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ اَلْآذَانَ
…
).
ب- ولحديث عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ أَحَدُكُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّة). رواه مسلم
فهذا ظاهره أن المؤذن يجمع بين كل تكبيرتين، وأن السامع يجيبه كذلك.
والله أعلم.
(والإقامة إحدى عشرة كلمة).
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
أن عدد ألفاظ الإقامة (إحدى عشرة جملة)[ما عدا التكبير في أولها وآخرها وقول: قد قامت الصلاة، فهي مثنى].
أ-لحديث عبد الله بن زيد في رؤيا الأذان وفيه (
…
ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ، قَالَ: وَتَقُولُ: إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ .. ).
ب- ولحديث أَنَس قَالَ: (أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ اَلْآذَانَ، وَيُوتِرَ اَلْإِقَامَةَ، إِلَّا اَلْإِقَامَةَ، يَعْنِي قَوْلَهُ: قَدْ قَامَتِ اَلصَّلَاةُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ اَلِاسْتِثْنَاءَ، وَلِلنَّسَائِيِّ:(أَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالاً).
فقوله (وَيُوتِرَ اَلْإِقَامَةَ) معناه: يأتي بها وتراً ولا يثني بخلاف الأذان.
وقد استشكل: عدم استثناء التكبير في الإقامة فإنه يثنى كما في حديث عبد الله بن زيد، وأجيب: بأنه وتر بالنسبة إلى تكبير الأذان، فإن التكبير في أول الأذان أربع.
وقوله (إِلَّا اَلْإِقَامَةَ): يعني إلا لفظ: قد قامت الصلاة، فإنه لا يوترها بل يثنيها.
وذهب بعض العلماء: أن عدد ألفاظها (سبع عشرة جملة)[التكبير في أولها أربعاً، وبقية ألفاظها مثنى ما عدا: لا إله إلا الله].
وهذا قول الحنفية.
لحديث أَبِي مَحْذُورَةَ قَالَ (عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه) رواه أبو داود.
وذهب بعضهم: أن عدد ألفاظها (10). [كلها مفردة ما عدا التكبير في أولها وآخرها].
هذا مذهب مالك.
لحديث أنس السابق (
…
وَيُوتِرَ اَلْإِقَامَة
…
).
فالحديث صرح بأن الإقامة وتر، فدل على أن قول (قد قامت الصلاة) يكون مفرداً.
والجواب عن هذا: بأن للحديث روايات أخرى صحيحة اشتملت على زيادة وهي قوله (إلا الإقامة) وهذا يدل على أنها مستثناة من الإيتار لكونها تثنى.
والراجح - والله أعلم - أن يقال بأن القول الأول والثاني كلاهما صحيح، وأن الاختلاف فيهما محمول على الإباحة والتخيير، كالاختلاف في الترجيع ورجح هذا القول ابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، والشوكاني.
(ويكونُ المؤذنُ صيتاً أميناً عالماً بالوقت).
هذه بعض الصفات التي تنبغي بالمؤذن:
(صيتاً) أي: رفيع الصوت.
قال النووي: الصِّيت بتشديد الياء، هو: شديد الصوت ورفيعه.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد (
…
فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ
…
).
وفي رواية للترمذي بلفظ (فقم مع بلال، فإنه أندى أو أمد صوتاً منك).
والمراد بقوله (أو أمد صوتاً منك) أي: أرفع صوتاً منك.
واختار صلى الله عليه وسلم أبا محذورة للأذان لكونه صيتاً.
قال الشوكاني: وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان.
ب- ولأنه أبلغ في الإعلام.
• وقد ذهب بعض العلماء - إن كان المؤذن يؤذن لجماعة غير حاضرين معه - إلى اشتراط رفع الصوت بالأذان وأنه لا يصح بدونه.
وهو مذهب الحنابلة والصحيح عند الشافعية وهو قول لبعض الحنفية.
أ-واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن أبي صعصعة (فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ " قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: إذا كان هذا الرفع للصوت في حق المنفرد في البادية ففي حق الجماعة من باب أولى.
ب-أن المقصود من الأذان الإعلام ولا يحصل إلا برفع الصوت.
ج- ولأنه أبلغ في الإعلام وجمع الجماعة.
وذهب آخرون إلى أنه لا يشترط رفع الصوت بالأذان، وأنَّه سنَّة فحسب.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية والوجه الثاني عند الشافعية.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد رضي الله عنه (إِنهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ).
قالوا: والأمر في هذا وفي حديث أبي سعيد على الاستحباب.
والصواب من القولين: الأول؛ لأن المقصود من الأذان في الأصل إعلام الناس بدخول الوقت، ولا يحصل هذا إلا مع رفع الصوت به.
وإذا قلنا برفع الصوت فإنه لا يراد به ذاك الصوت الذي يشق السمع ويتسبب في الضرر على نفسه أو على السامعين.
قال ابن رجب: ومتى رفع صوته رفعاً يَخشى على نفسه الضرر منه كره، وقد قال عمر لأبي محذورة لما سمعه يؤذن بمكة " أما خشيتَ أن ينشق مريطاؤك؟ ".
ذكره أبو عبيد وغيره، وهي ما بين السرة والعانة، قاله أبو عبيد والأكثرون، وقيل: ما بين الصدر والعانة " انتهى من (فتح الباري).
وأما إن كان المؤذن يؤذن لنفسه أو لجماعة حاضرين معه - في غرفة أو مكتب أو مصلَّى خاص - فلا يشترط له رفع الصوت إلا بقدر ما يسمع نفسه أو يسمع الحاضرين معه؛ لأن المقصود من الأذان وهو الإعلام يحصل بذلك، وهل يستحب له رفع الصوت بالأذان أو لا يستحب؟! قولان للعلماء والأظهر عدم استحبابه - وهو وجه عند الشافعية - وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في رفع الصوت أنها للأذان لجماعة غير حاضرين معه.
قال الشيخ ابن عثيمين: فالواجب أن يُسْمِعَ من يُؤَذِّنُ لهم فقط، وما زاد على ذلك فغير واجب.
(أميناً) وهذا واجب.
لأنه أمين على الوقت، وأمين على عورات الناس (وخاصة في الزمن السابق).
قال ابن قدامه رحمه الله: ويستحب أن يكون المؤذن عدلاً أميناً بالغاً؛ لأنه مؤتمن يرجع إليه في الصلاة والصيام، فلا يؤمن أن يغرهم بأذانه، إذا لم يكن كذلك، ولأنه يؤذن على موضع عال، فلا يؤمن منه النظر إلى العورات.
(عالماً بالوقت).
وهذا ليس بشرط لكن أفضل.
فإن ابن أم مكتوم كان رجلاً أعمى، وكان الصحابة يخبرونه بالوقت فيقولون له: أصبحت أصبحت.
لكن الأفضل أن يكون عالماً بالوقت، لأنه قد لا يكون هناك من يخبره بالوقت، ولأن غير العالم بالوقت قد يؤذن قبل الوقت.
• ويستحب أن يكون حسن الصوت.
أ-لحديث أَبِي مَحْذُورَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْجَبَهُ صَوْتُهُ، فَعَلَّمَهُ اَلْآذَانَ) رَوَاهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ.
حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أبا محذورة للأذان لكونه حسن الصوت.
قال الصنعاني: وفيه دلالة على أنه يستحب أن يكون صوت المؤذن حسناً.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد - (فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ
…
).
قيل معناه: أرفع وأعلى، وقيل: أحسن وأعذب.
ج-ولأن حسن الصوت يكون أرق لسامعه فيميلون إلى الإجابة.
(ويستحب أن يؤذن قائماً).
السنة أن يؤذن المؤذن قائماً، كما كان يفعل مؤذنو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما سار عليه المسلمون إلى يومنا هذا، وانعقد عليه إجماع الكافة، فإن أذن قاعدا أو مضجعا لغير عذر، صح أذانه مع الكراهة.
قال ابن قدامة: وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الَّذِي رَوَيْنَاه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ قُمْ فَأَذِّن).
وَكَانَ مُؤَذِّنُو رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤَذِّنُونَ قِيَامًا.
وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ قَاعِدًا.
قَالَ الْحَسَنُ الْعَبْدِيُّ: رَأَيْت أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُؤَذِّنُ قَاعِدًا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
فَإِنْ أَذَّنَ قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَيَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِآكَدَ مِنْ الْخُطْبَةِ، وَتَصِحُّ مِنْ الْقَاعِدِ. (المغني).
وحديث أبي قتادة بهذا اللفظ رواه البخاري.
وقال النووي رحمه الله: السنة أن يؤذن قائما مستقبل القبلة .. ، فلو أذن قاعداً أو مضطجعاً أو إلى غير القبلة: كُرِه، وصح أذانه; لأن المقصود الإعلام، وقد حصل. (المجموع).
(متطهراً).
أي: من الحدث الأصغر والأكبر.
اتفق الفقهاء على أن الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر مطلوبة للأذان والإقامة، وتتأكد في الإقامة أكثر لاتصالها بالصلاة.
أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يُؤَذِّنُ إِلَّا مُتَوَضِّئٌ) رواه الترمذي وهو ضعيف.
ب-ولحديث المهاجر بن قنفذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة) رواه أبو داود.
ج-ولأن الأذان ذكر مشروع معظم، فأداه مع الطهارة أقرب إلى التعظيم.
• واتفق الفقهاء على صحة الأذان والإقامة من المحدث حدثاً أصغر، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن هبيرة.
واختلف في كراهة أذان المحدث حدثاً أصغر:
فقيل: لا يكره.
وقيل: يكره.
لحديث (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة).
وهذا هو الراجح.
• حكم أذان وإقامة الجنب؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
وجمهور العلماء: أنه يصح مع الكراهة.
واعتبروا كراهته أشد من كراهة أذان وإقامة المحدث حدثاً أصغر. واستدلوا:
أ- أن الأذان ذكر، والجنب لا يمنع من الأذكار اتفاقاً غير القرآن، فكذا لا يمنع من الأذان.
ب- أن المقصود من الأذان الإعلام، وهو حاصل مع الجنابة.
• والحكمة من مشروعية الطهارة للأذان لأمرين:
أولاً: اتصاله بالصلاة.
ثانياً: أن الأذان عبادة ينبغي الإتيان بها على طهارة، لا سيما العبادة المتعلقة بالصلاة.
(على موضعٍ عال).
استحب العلماء أن يكون المؤذن على موضع عال، واستدلوا على ذلك:
أ-حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه عن امرأة من بني النجار قالت (كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه الفجر) رواه أبو داود.
ب-ما جاء في رواية عبد الله بن زيد رضي الله عنه للأذان، وفي بعض الروايات قال (
…
رأيت في المنام كأن رجلاً قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذّن
…
).
ج-ما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا.
وجه الدلالة: قوله (ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا) فهذا يدل على أنهما يؤذنان على مكان مرتفع؛ لأنه ذكر النزول
والارتقاء، وهذا لا يكون إلا في المرتفع من المكان.
د-أن الأذان من مكان مرتفع أبلغ في الإعلام، وهو المقصود الأعظم من الأذان.
(مستقبل القبلة).
أي: يسن للمؤذن أن يستقبل القبلة حال الأذان.
قال ابن قدامة: المستحب أن يؤذن مستقبل القبلة، لا نعلم فيه خلافا؛ فإن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة.
وقال النووي: السنة أن يؤذن قائماً مستقبل القبلة، فلو أذن قاعداً أو مضطجعاً أو إلى غير القبلة كره وصح أذانه؛ لأن المقصود الإعلام وقد حصل، هكذا صرح به الجمهور. انتهى (المجموع).
(ويترسلُ في الأذان، ويحدرُ في الإقامة).
أي: يسن للمؤذن أن يترسل في الأذان ويحدر في الإقامة.
الترسل: التمهل والتؤدة والتحقيق في ألفاظ الأذان من غير عجلة.
والحدر: الإسراع في الإقامة مع بيان حروفها وكلماتها.
أ- لحديث جَابِر رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ (إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتُ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ اَلْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ.
ب-ما روي عن عمر بن الخطاب قال لمؤذن بيت المقدس (إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر) رواه الدارقطني.
ج-أن الأذان إعلام للغائبين، فكان الترسل فيه أبلغ في الإعلام، والإقامة إعلام للحاضرين فكان الحدر فيه أنسب.
د-أن الإقامة لا تحتاج لرفع الصوت للاجتماع عندها، بخلاف الأذان.
(جَاعلاً إِصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ).
لحديث أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: (رَأَيْتُ بِلَالاً يُؤَذِّنُ وَأَتَتَبَّعُ فَاهُ، هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَإِصْبَعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ) رَوَاهُ أَحْمَد.
وَلِابْنِ مَاجَهْ (وَجَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ).
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم يستحبون أن يُدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان.
وقال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أنه يجعل إصبعه في أذنيه، وعليه العمل عند أهل العلم، يستحبون أن يجعل المؤذن إصبعيه في أذنيه
وقال النووي رحمه الله: السنة أن يجعل أصبعيه في صماخي أذنيه، وهذا متفق عليه، ونقله المحاملي في المجموع عن عامة أهل العلم.
قال أصحابنا: وفيه فائدة أخرى، وهي أنه ربما لم يسمع إنسان صوته لصمم أو بعد أو غيرهما، فيستدل بأصبعيه على أذانه.
فإن كان في إحدى يديه علة تمنعه من ذلك، جعل الأصبع الأخرى في صماخه.
ولا يستحب وضع الأصبع في الأذن في الإقامة، صرح به الروياني في الحلية وغيره. (المجموع).
• الحكمة من جعل الإصبعين في الأذنين، قال العلماء: في ذلك فائدتان:
أحدهما: أنه قد يكون أرفع لصوته.
ثانيهما: أنه علامة للمؤذن ليعرف من رآه على بُعْد أو كان به صمم أنه يؤذن.
• قال ابن حجر: لم يرد تعيين الإصبع التي يستحب وضعها، وقد جزم النووي أنها المسبحة وإطلاق الأصابع مجاز عن الأنملة.
(مُلْتَفِتاً فِي الحَيْعَلة يَمِيْناً وشِمَالاً).
أي: يسن أن يلتفت يميناً وشمالاً عند الحيعلتين.
• والحيعلة: قول (حي على الصلاة).
لحديث أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ وَهُوَ بِالأَبْطَحِ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، قَالَ: فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوَضُوئِهِ فَمِنْ نَائِلٍ وَنَاضِحٍ -
قَالَ - فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ، قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلَالٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا؛ يَقُولُ يَمِيناً وَشِمَالاً: يَقُولُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ يَمُرُّ بَيْنْ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ لَا يُمْنَع ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ) وليس فيهما ذكر الدوران ولا وضع الإصبع في الأذنين.
(وَهُوَ بِالأَبْطَحِ) قال النووي: هو الموضع المعروف على باب مكة. (فَمِنْ نَائِلٍ) أي: آخذ من ذلك الوضوء (وَنَاضِحٍ) أي: متمسح بما أصابه من يد صاحبه.
• اتفق جمهور الفقهاء والقائلون بسنية الالتفات في الحيعلتين على أن المؤذن إذا التفت في الحيعلتين يجعل وجهه يميناً وشمالاً، واختلفوا في كيفية ذلك على صيغتين اذكرهما؟
الأولى: أنه يقول (حي على الصلاة) مرتين عن يمينه، ثم يقول عن يساره مرتين (حي على الفلاح).
وهذا مذهب الحنابلة.
قال النووي: إنه قول الجمهور، وهو الأصح عند الشافعية. [شرح مسلم].
وقال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب عندي. [شرح العمدة].
وهذه الصيغة أقرب إلى لفظ الحديث لقوله (يَقُولُ يَمِيناً وَشِمَالاً يَقُولُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ).
الثانية: يقول عن يمينه (حي على الصلاة) مرة، ثم مرة عن يساره، ثم يقول (حي على الفلاح) مرة عن يمينه، ثم مرة عن يساره.
قالوا: ليكون لكل جهة نصيب منهما.
والأمر في ذلك واسع، والمعمول به الآن هو الأول.
• اختلف العلماء: هل يلتفت الآن مع وجود مكبرات الصوت أم لا على قولين:
قيل: لا يلتفت، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
لأن الحكمة من الالتفات إبلاغ المدعوين، ومع المكرفون ربما لو التفت انخفض الصوت.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فالذي أرى في مسألة مكبر الصوت الآن أنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، لا في حي على الصلاة، ولا في حي على الفلاح، ويكون الالتفات الآن بالنسبة للسماعات، فينبغي أنه يجعل مثلاً في المنارة سماعة على اليمين وسماعة على الشمال. (لقاء الباب المفتوح).
وقيل: يلتفت.
وهذا قول من يقول: إن الالتفات سنة في الأذان مطلقاً.
ولأنه ربما يكون هناك مقاصد أخرى غير التبليغ.
(قَائِلاً بَعْدَهما في أَذَانِ الصُّبحِ: الصَّلاةُ خَيرٌ من النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ).
بعدهما: أي: بعد الحيعلتين.
أي: يسن للمؤذن أن يقول في أذان الصبح بعد الحيعلتين: الصلاة خير من النوم مرتين. (ويسمى التثويب).
أ-عَنْ أَنَسٍ قَالَ (مِنْ اَلسُّنَّةِ إِذَا قَالَ اَلْمُؤَذِّنُ فِي اَلْفَجْرِ: حَيٌّ عَلَى اَلْفَلَاحِ، قَالَ: اَلصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ اَلنَّوْمِ) رواه ابن خزيمة.
ب-وقال صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة (فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم) رواه أبو داود.
ج-لأن صلاة الفجر في وقت ينام فيه عامة الناس، ويقومون إلى الصلاة من نوم، فاختصت صلاة الفجر بذلك دون غيرها من الصلوات.
•
مكان التثويب:
الجمهور يكون بعد الحيعلتين.
فهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
أ-لحديث أبي محذورة، فالنبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان والصلاة خير من النوم بعد حي على الفلاح.
ب- ولحديث ابن عمر قال: (كان في الأذان الأول بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم) رواه الدار قطني، وحسنه الحافظ ابن حجر.
• اختلف العلماء: متى يكون التثويب؟ هل في أذان الفجر الأول أم الثاني على قولين:
القول الأول: أن التثويب يكون في الأذان الأول [الذي قبل طلوع الفجر].
ونسب هذا القول لأبي حنيفة، ورجحه الصنعاني، ومن المعاصرين الشيخ الألباني.
أ-لحديث ابن عمر أنه قال (كان في الأذان الأول بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم) أخرجه الدارقطني وحسنه الحافظ ابن حجر في التلخيص.
ب-ولحديث أبي محذورة (كنت أؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أقول في أذان الفجر الأول: حي على الفلاح الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم) رواه أبو داود والنسائي.
القول الثاني: أن التثويب يكون في الأذان الثاني [الذي بعد طلوع الفجر].
وهو مذهب الحنابلة اختاره الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين.
أ- أن روايات الأحاديث التي جاءت بمشروعية التثويب قيدته بالأذان لصلاة الفجر أو الصبح، وهذا ينصرف إلى الأذان الثاني الذي يعتبر هو الأصل المتفق عليه، وهو الذي يكون بعد دخول وقت الصلاة.
ب- ما رواه البيهقي في سننه بسند صحيح عن نُعيْم بن النحام قال (كنت في لحاف امرأتي في غداة باردة، قال: فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر، قال: فقلت: لو قال: ومن قعد فلا حرج، قال: فلما قال: الصلاة خير من النوم قال: ومن قعد فلا حرج، ومن قعد فلا حرج) صححه الحافظ ابن حجر.
وهو يدل على أن (الصلاة خير من النوم) في الأذان الثاني من وجوه:
أولاً: قوله (في غداة) لأن الغداة تطلق على ما بعد طلوع الفجر إلى شروق الشمس.
ثانياً: قوله (نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن ذلك النداء كان نداءً للصلاة، وهذا إنما يصدق على الأذان الثاني الذي عند دخول الوقت لا على الأول.
ثالثاً: قوله (ومن قعد فلا حرج) فإن المناسب لهذه الكلمة هو الأذان الثاني، لأنه هو الذي يخرج الناس بعده إلى المسجد.
ج-أن المقصود بالحديث بقوله (كان في الأذان الأول
…
) الأذان الحقيقي (الذي يكون بعد طلوع الفجر) لأن الأذان الأول ليس نداء للصلاة، وإنما بين الرسول صلى الله عليه وسلم حكمته بقوله (ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم) فهذا نص صريح في أن الأذان الأول ليس لصلاة الفجر.
د-أن الأذان الثاني هو المناسب لهذه الجملة، وذلك ببيان أن الصلاة التي فرض الله تعالى على عباده خير لهم من نومهم في هذا الوقت.
وهذا القول هو الصحيح.
والجواب عن قوله (الأذان الأول):
أن لفظة (الأول) تعني الأول بالنسبة للإقامة، وتكون الإقامة هي الأذان الثاني، وقد ورد في السنة الصحيحة تسمية الإقامة أذاناً، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم (بين كل أذانين صلاة) متفق عليه.
وجاء في صحيح مسلم تسمية الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت بالأذان الأول، وذلك فيما حدثته عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت (كان ينام أول الليل ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام فإذا كان عند النداء الأول قالت: وثب فأفاض عليه الماء، وإن لم يكن جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى الركعتين).
والمقصود بالركعتين: سنة الفجر الراتبة، قاله النووي.
• ذهب جمهور العلماء إلى أنه يكره التثويب في غير أذان صلاة الفجر.
لأن الأحاديث الواردة في مشروعية التثويب في الأذان إنما خصت الأذان لصلاة الصبح دون غيرها.
عن مجاهد قال (دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً وقد أذن فيه، ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوب المؤذن، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال: اخرج من عند هذا المبتدع) رواه الترمذي وأبو داود.
(ويقيم من أذّن).
أي: أن الأفضل أن من تولى الأذان هو الذي يتولى الإقامة.
أ-لحديث زياد بن الحارث. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من أذن فهو يقيم) رواه الترمذي، وهو ضعيف.
ب- ولحديث سهل بن سعد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي للناس فأقيم، قال: نعم) متفق عليه.
ففي هذا الحديث أن الإقامة من وظيفة المؤذن فهو الذي يقيم الصلاة، فدل على أن هذا هو السنة.
ج-وهذا هو فعل بلال وأبي محذورة.
د-ولأن من تولى الإعلام أولاً هو الذي يتولى الإعلام ثانياً.
وقد قال الترمذي: العمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم.
لأن بلالاً هو الذي يتولى الإقامة، وهو الذي يتولى الأذان.
• لكن لو أذن شخص وأقام غيره فإنه جائز من غير كراهة لحديث عبد الله بن زيد - حديث الباب - فإن ظاهره جواز أن يؤذن شخص ويقيم آخر، وقد سبق أن الحديث ضعيف.
(ولا يصح إلا مرتباً).
أي: لا يصح الأذان إلا مرتباً.
والترتيب: أن يبدأ بالتكبير، ثم التشهد، ثم الحيعلة، ثم التكبير، ثم التوحيد.
وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ- لأن الأحاديث الواردة في مشروعية الأذان والإقامة، كحديث عبد الله بن زيد، وحديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان مرتباً.
فقالوا: بأنهما شرعا في الأصل مرتبين فلا يغير هذا الترتيب، وحملوا الترتيب الوارد في تلك الأحاديث على الوجوب.
ب- أن الأذان ذكر متعبد به، فلم يجز الإخلال بنظمه كأركان الصلاة.
ج- أن الأذان عبادة شرعت على وجه مخصوص، فلا يغير.
د- مداومة مؤذنيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إلقاء الأذان والإقامة مرتبين، وكذلك من بعدهم.
(متوالياً).
أي: أن يكون الأذان متوالياً، فلا يفصل بين كلمات الأذان بعضها عن بعض.
فإن كان الفصل طويلاً فإن ذلك يخل بالموالاة، ويجب استئناف الأذان والإقامة، وعلى هذا فالموالاة شرط لصحة الأذان والإقامة.
وهذا مذهب الجماهير.
أ- لأن الأذان شرع في الأصل متوالياً، وعليه عمل مؤذنيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب-أن ترك الموالاة يخل بالإعلام لإخلاله بنظام الأذان وتخليطه على السامع، فلا يعلم حينئذ أنه أذان.
• اختلف العلماء في ضابط الفصل الطويل، والأقرب الرجوع إلى العرف، وذلك لعدم وجود ضابط محدد من الشرع.
• اتفق الفقهاء على أنه إذا فُصل بين كلمات الأذان أو الإقامة بكلام أو سكوت أو نوم أو إغماء، وكان ذلك يسيراً فلا تنقطع
الموالاة.
• قال الشيخ ابن عثيمين:
…
فإن فَصَلَ بعضَه عن بعض بزمن طويل لم يجزئ، فلا بُدَّ أن يكون متوالياً؛ لأنَّه عبادة واحدة، فلا يصحُّ أن تتفرَّق أجزاؤها، فإن حَصَل له عُذر مثل إن أصابه عُطاس أو سُعَال، فإنه يبني على ما سبق؛ لأنه انفصل بدون اختياره.
• فمن ترك شيئاً من كلمات الأذان أو الإقامة نسياناً فإن كان الوقت يسيراً فإنه يأتي بما نسيه ثم يكمل بعده، وإن كان الزمن طويلاً فإنه يعيد الأذان أو الإقامة من أوله.
وإذا أعاد الأذان أو الإقامة في الحالتين فلا حرج عليه.
قال النووي رحمه الله: "لو ترك بعض كلماته [الأذان] أتى بالمتروك وما بعده، ولو استأنف كان أولى. (المجموع).
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: ما الحكم إذا نسي المؤذن (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر؟
فأجابوا: "إذا نسي المؤذن كلمة من الأذان، ثم ذكر في حال الأذان فإنه يأتي بالكلمة المنسية وما بعدها من كلمات الأذان، وإن لم يذكر إلا في وقت متأخر فإنه يعيد الأذان كاملاً، إذا لم يكن حوله مؤذن غيره يسقط بأذانه فرض الكفاية.
(ويجزئُ من مُمَيز).
أي: يصح الأذان من الطفل المميز.
والمميز، قيل: من بلغ سبعاً، وقيل: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب.
وقد اتفق الفقهاء على أنَّ أذان الطفل غير المميِّز (غير العاقل) لا يَصِحُّ ولا يجزئ؛ لأنَّه لا يُدْرِك ما يفعله، ومن شروط صِحَّة الأذان: الإسلام والعقل والذُّكورة.
قال في (بدائع الصنائع) وَأَمَّا أَذَانُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا يُجْزِئُ، وَيُعَادُ؛ لِأَنَّ مَا يَصْدُرُ لَا عَنْ عَقْلٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، كَصَوْتِ الطُّيُورِ" انتهى.
وقال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافًا.
• ثم اختلفوا في صِحَّة أذان الصبي المُمَيِّز (وهو مَن بلغ سبعًا إلى البلوغ).
فأجازَه جمهور العلماء ما دام يعقل الأذان.
وهو قول عطاء والشعبي وابن أبي ليلى وأبي ثَور، واختارَه ابن المنذِر.
واحتجُّوا بما جاء عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ قَال (كَانَ عُمُومَتِي يَأْمُرُونَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ لَهُمْ وَأَنَا غُلَامٌ لَمْ أَحْتَلِمْ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ شَاهِدٌ، فلَمْ يُنْكِرْ ذَلِك).
قال ابن قدامة: وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ وَلَا يَخْفَى، وَلَمْ يُنْكَرْ؛ فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
وَلِأَنَّهُ ذَكَرٌ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، فَاعْتُدَّ بِأَذَانِهِ، كَالْعَدْلِ الْبَالِغ. (المغني).
وفصَّل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المسألة، فقال: والأشبه أنَّ الأذان الذي يُسْقِط الفرض عن أهل القرية، ويُعتمَد في وقت الصلاة والصيام: لا يجوز أن يُباشِرَه صبيّ قولاً واحدًا، ولا يُسْقِط الفرض، ولا يُعتمَد في مواقيت العبادات.
وأما الأذان الذي يكون سُنَّة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر [يعني: بحيث يؤذِّن مع الصبيِّ غيرُه]، ونحو ذلك؛ فهذا فيه الروايتان، والصحيح جوازه. (الاختيارات الفقهية).
وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين، قال رحمه الله: " وفَصَّلَ بعض العلماء، فقال: إنْ أذَّنَ معه غيرهُ فلا بأس، وإن لم يكن معه غيرُه فإِنَّه لا يُعتمد عليه، إلا إذا كان عنده بالغ عاقل عارف بالوقت ينبِّهه عليه. وهذا هو الصَّواب.
(ولا يجزئ قبل الوقت).
أي: لا يجزئ الأذان قبل الوقت.
وقد اتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة الأذان والإقامة دخول وقت الصلاة المفروضة، فلا يصح الأذان ولا الإقامة قبل دخول الوقت،
كما اتفقوا على أنه إذا أذّن قبل وقت الصلاة أعاد الأذان بعد دخول الوقت.
أ-لحديث مالك بن الحويرث. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (
…
فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم).
فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالأذان على حضور الصلاة، وحضورها يكون بدخول وقتها.
ج-ولأن الأذان شرع للإعلام بوقت الصلاة، فلا يشرع قبل الوقت، لئلا يذهب مقصوده.
(إلا الفجر).
أي: إلا الفجر فيجوز أن يؤذن قبل الوقت.
لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ اِبْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
…
) متفق عليه.
فقوله (إِنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ
…
) أي: قبل طلوع الفجر.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجزئ الأذان قبل الفجر إلا إذا وجِد من يؤذن بعد الفجر.
أولاً: أن الأصل وجوب الأذان عند دخول الوقت، لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) وهذا عام لا يستثنى منه شيء.
ثانياً: أن الأذان الأول ليس للصلاة، بل لحكمة أخرى جاء التصريح بها كما جاء في حديث عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ - أَوْ قَالَ نِدَاءُ بِلَالٍ - مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ - أَوْ قَالَ يُنَادِى - بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُوقِظَ نَائِمَكُم) متفق عليه.
قوله (لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَيُوقِظَ نَائِمَكُم) قال النووي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَذِّن بِلَيْلٍ لِيُعْلِمَكُمْ بِأَنَّ الْفَجْر لَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَيَرُدّ الْقَائِم الْمُتَهَجِّد إِلَى رَاحَتْهُ لِيَنَامَ غَفْوَةً لِيُصْبِحَ نَشِيطًا، أَوْ يُوتِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْتَرَ، أَوْ يَتَأَهَّب لِلصُّبْحِ إِنْ اِحْتَاجَ إِلَى طَهَارَةٍ أُخْرَى، أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحه الْمُتَرَتِّبَة عَلَى عِلْمه بِقُرْبِ الصُّبْح، وَقَوْله صلى الله عليه وسلم.
(وَيُوقِظ نَائِمَكُمْ) أَيْ لِيَتَأَهَّب لِلصُّبْحِ أَيْضًا بِفِعْلِ مَا أَرَادَ مِنْ تَهَجُّدٍ قَلِيلٍ، أَوْ إِيتَارٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْتَرَ، أَوْ سَحُور إِنْ أَرَادَ الصَّوْم، أَوْ اِغْتِسَال أَوْ وُضُوء أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاج إِلَيْهِ قَبْل الْفَجْر.
قال الشيخ ابن عثيمين: الأذان الذي يكون في آخر الليل ليس للفجر، ولكنه لإيقاظ النُّوَّمِ؛ من أجل أن يتأهَّبوا لصلاة الفجر، ويختموا صلاة الليل بالوتر، ولإرجاع القائمين الذين يريدون الصِّيام.
(ومن جمعَ أو قضى فوائت أذّن للأولى ثم أقام لكل فريضة).
أي: إذا جمع الإنسان بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء -في حالة جواز الجمع- فإنه يؤذن للأولى ويقيم لكل صلاة.
وهذا مذهب الشافعي في القديم، وهو مذهب ابن حزم، واختاره ابن الماجشون من فقهاء المالكية، واختاره الطحاوي الحنفي، وهو مذهب أبي ثور.
أ- لحديث جابر - في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه (حَتَّى أَتَى اَلْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا اَلْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا
…
) رواه مسلم.
ب-فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فإن الرواية لم تختلف أن النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أذّن أذان واحد للظهر والعصر، وأقام لكل صلاة منهما إقامة.
قال ابن القيم: والصحيح أنه صلاهما بأذان واحد وإقامتين كما فعل بعرفة.
ج- التعليل: فلأن وقت المجموعتين صار وقتاً واحداً، فاكتُفيَ بأذان واحد.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يؤذن مرة واحدة ويقيم مرة واحدة.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لحديث ابن عمر قال (جَمَعَ بَيْنَ اَلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ) رواه مسلم.
فحديث ابن عمر لم يذكر إلا إقامة واحدة، وأما الأذان فيفهم من نصوص أخرى كحديث جابر وغيره.
والجواب عن هذا:
أولاً: أن قوله (بإقامة واحدة) فيه اختصار من بعض الرواة ترتب عليه تغيير المعنى، ولذلك جاء في رواية أبي داود بعد قوله بإقامة واحدة قال:(لكل صلاة)، وهذه الزيادة (لكل صلاة) تقلب المعنى قلباً تاماً، بدلاً من أن تكون الإقامة واحدة للصلاتين أصبحت إقامة لكل صلاة، فيكون حديث ابن عمر هذا موافق لحديثه الذي في البخاري، وموافق لحديث أسامة، وحديث جابر.
ثانياً: أن يقال بالترجيح، فنرجح رواية ابن عمر الأخرى، وهي قوله (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمْع لكل واحدة منهما إقامة).
(ويسن لسامعه متابعته سراً، وحوقلتهِ في الحَيعلَة، وقولُه بعد فراغه: الدعاء الوارد).
(ويسن لسامعه) أي: يسن لسامع الأذان، فيشمل الذكر والأنثى (متابعته سراً) أي: يقول مثلما يقول سراً (وحوقلتهِ في الحَيعلَة) أي: قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، عند قول المؤذن: حي على الصلاة.
(وقولُه بعد فراغه: الدعاء الوارد) وهو: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة .....
•
أذكار الأذان:
أولاً: متابعة المؤذن في كل جملة يقولها:
أ- لحديث أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَمِعْتُمْ اَلنِّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ اَلْمُؤَذِّنُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ب- ولحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَة) رواه مسلم
إلا في الحيعلتين فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
لحديث عمر ولفظه:
عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ أَحَدُكُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. مِنْ قَلْبِه) رواه مسلم.
ثانياً: الدعاء بعد الشهادتين بالدعاء الوارد.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، غفر له ذنبه). رواه مسلم
وفي رواية: (وأنا أشهد
…
).
ثالثاً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان.
لحديث عبد الله بن عمرو - السابق - (إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً
…
).
رابعاً: قول: اللهم ربِّ هذه الدعوة
…
ألخ
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يسمع النداء: اللهم ربِّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته
…
) رواه البخاري.
(رَبَّ هَذِهِ اَلدَّعْوَةِ اَلتَّامَّةِ) المراد بالدعوة ألفاظ الأذان، ووصفت بالتامة، لأنها ذكرٌ لله تعالى وتعظيم له وشهادة بالوحدانية. (وَالصَّلَاةِ اَلْقَائِمَةِ): قيل: بيان للدعوة التامة. وقيل: المراد بالصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ، قال ابن حجر: وهو أظهر. (آتِ مُحَمَّدًا
اَلْوَسِيلَة) هي ما يتقرب بها إلى الكبير، والمراد بها المنزلة العلية، ووقع عند مسلم تفسيرها:(فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي لأحد إلا لعبد من عباد الله). (وَالْفَضِيلَةَ) أي: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى أو تفسير للوسيلة.
(وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا) أي يحمد القائم فيه، والمراد بها كل ما يحمده الخلائق عليها ومن أعظمها الشفاعة العظمى. (اَلَّذِي وَعَدْتَهُ) قال الطيبي: المراد بذلك قوله تعالى (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً)، وأطلق عليه الوعد، لأن عسى من الله واقع.
• قوله (يسن لسامعه .. ) فيه دليل على أن متابعة المؤذن سنة.
واختلف العلماء في حكم إجابة المؤذن على قولين:
القول الأول: أنه واجب.
وهذا مذهب الظاهرية.
أ-لقوله ( .. فقولوا
…
).
ب- ولحديث عبد الله بن عمرو. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً ثُمَّ سَلُوا لي الوسيلة
…
) رواه مسلم.
فقوله (
…
فقولوا
…
) هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
القول الثاني: أنه سنة غير واجب.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
والصارف عن الوجوب:
أ- لحديث أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجت من النار، فنظروا فإذا هو راعي معزى) رواه مسلم.
قالوا: إن ظاهر الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتابع المؤذن.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم).
وجه الدلالة: أن المقام مقام تعليم، والحاجة تدعوا إلى بيان كل ما يحتاج إليه، وهؤلاء وفد قد لا يكون عندهم علم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في متابعة المؤذن، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التنبيه على ذلك مع دعاء الحاجة إليه، دلَّ على أن الإجابة ليست واجبة. [الشرح الممتع].
وهذا القول هو الراجح.
• ماذا أجاب أصحاب القول الأول عن حديث صاحب المعزى؟
قالوا: يجاب عنه من وجهين:
الأول: ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فقد يكون قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة، ونقل القول الزائد.
الثاني: يحتمل أن يكون الأمر بالإجابة بعد هذه القضية، أو أن يكون قاله لكن بصوت منخفض لم يسمع.
• الحكمة من إبدال الحيعلة بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله)؟
لأن (حي على الصلاة) نداء ودعاء من المؤذن للناس، يعني: هلموا وتعالوا، فناسب أن يقول المستمع: لا حول ولا قوة إلا بالله، يستعين بالله تعالى على إجابة هذا الدعاء.
• قوله في الحديث (فقولوا مثل ما يقول
…
) يشمل من كان في ذكر أو دعاء أو طواف، لأن إجابة المؤذن عبادة مؤقتة يفوت وقتها، بخلاف القراءة والذكر والدعاء، فإن وقتها لا يفوت.
•
اختلف العلماء: هل المصلي إذا سمع المؤذن يجيبه أم لا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يجيبه سواء كانت الصلاة فرضاً أم نفلاً.
وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
لحديث ابن مسعود. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن في الصلاة شغلاً) متفق عليه.
القول الثاني: أنه يجيبه إن كان في نافلة، ولا يجيبه إن كان في فرض.
وهو قول المالكية. قالوا:
أ-قالوا: إن النافلة الأمر فيها أخف من الفريضة
ب-ولأن النافلة يجوز فيها ما لا يجوز في الفريضة، كالصلاة على الراحلة إلى غير القبلة ونحوه.
القول الثالث: أنه يجيبه في الفرض والنفل.
وهو رأي لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
لحديث الباب (فقولوا مثل ما يقول) فالحديث عام، فيُجاب المؤذن في جميع الحالات من غير فرق بين المصلي وغيره.
والراجح القول الأول وأن المصلي لا يجيب المؤذن.
•
هل المؤذن يجيب نفسه أم لا؟
قولان للعلماء أصحهما أنه لا يجيب نفسه.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم النداء
…
) فإنه يدل بظاهره على التفريق بين المؤذن والسامع، فلا يدخل المؤذن في ذلك.
ب-ولأن المؤذن أتى بألفاظ الأذان، فلا معنى لكونه يجيب نفسه، ورجحه ابن رجب.
• قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (إذا سمعتم المؤذن
…
) نستفيد منه: أن متابعة المؤذن مشروطة بسماع الأذان، فمن شاهد المؤذن ولم يسمعه فإنه لا يقول شيئاً، ومن سمعه ولم يره - كما في هذا الزمان - فإنه يتابعه لقوله (إذا سمعتم) فعلق الأمر بالسماع.
قال النووي: مَن رأى المؤذن، وعلِم أنه يؤذن، ولم يسمعه، لبُعد، أو صمم: الظاهر أنه لا تُشرع له المتابعة؛ لأن المتابعة معلقة بالسماع، والحديث مصرح باشتراطه، وقياساً على تشميت العاطس، فإنه لا يشرع لمن يسمع تحميده. (المجموع)
•
اختلف العلماء: هل يجيب المقيم أم لا على قولين:
القول الأول: يستحب لسامع الإقامة أن يقول مثل ما يقول المؤذن إلا في الحيعلة.
وهذا مذهب كثير من الفقهاء من الحنابلة والشافعية، وقال به من المعاصرين علماء اللجنة الدائمة والشيخ ابن باز والشيخ الألباني.
جاء في (الموسوعة الفقهية): وكذلك بالنّسبة للمقيم فقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أن يستحبّ أن يقول في الإقامة: مثل ما يقول في الأذان" انتهى.
قال الشيرازي الشافعي رحمه الله: ويستحب لمن سمع الإقامة أن يقول مثل ما يقول" انتهى.
وشرحه النووي رحمه الله بقوله: واتفق أصحابنا علي استحباب متابعته في الإقامة كما قال المصنف، إلا الوجه الشاذ الذي قدمناه عن " البسيط. (المجموع).
وقال ابن قدامة: ويستحب أن يقول في الإقامة مثل ما يقول.
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: السنَّة أن المستمع للإقامة يقول كما يقول المقيم؛ لأنها أذان ثان، فتجاب كما يجاب الأذان.
أ-لأنه نداء، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم أذاناً في قوله (بين كل أذانين صلاة) فسماها أذاناً.
ب- ولحديث أبي أمامة (أن بلالاً أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقامها الله وأدامها، وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان) رواه أبو داود وهو حديث ضعيف لا يصح.
القول الثاني: أنه لا يستحب لسامع الإقامة أن يقول مثل ما يقول.
وهو ظاهر مذهب المالكية، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين.
أ-لأنه لا يوجد دليل صحيح يدل على ذلك، والاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى دليل.
ب- وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم (بين كل أذانين صلاة) فسمى الإقامة أذاناً، فهذا من باب التغليب، ورجحه الشيخ محمد بن إبراهيم، وهذا هو الصحيح.
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن المتابعة في الإقامة.
فأجاب: المتابعة في الإقامة فيها حديث أخرجه أبو داود، لكنه ضعيف لا تقوم به الحجة، والراجح: أنه لا يُتابع.
• تكون متابعته في كل كلمة عقب فراغ المؤذن منها، ولا يقارنه، ولا يؤخر عن فراغه من الكلمة.
أ-لقوله (إذا سمعتم المؤذن فقولوا
…
) والفاء تقتضي التعقيب.
ب-ولحديث عمر السابق (إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ أَحَدُكُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
…
).
فدل هذا الحديث على أنه يستحب أن يقول السامع كل كلمة بعد فراغ المؤذن منها، ولا ينتظر فراغه من كل الأذان.
• اختلف العلماء إذا سمع الأذان في منتصفه:
فقيل: يستحب له أن يجيبه في جميع الأذان - ما سمع منه وما لم يسمعه -.
وقيل: يستحب له أن يجيبه فيما سمع فقط.
لقوله (إذا سمعتم
…
).
ولأن ما فات قد مضى محله.
والراجح الأول.
•
هل يجيب من يسمع الأذان في المذياع أو التلفاز؟
الأذان لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون على الهواء أي أن الأذان كان لوقت الصلاة من المؤذن، فهذا يجاب لعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن)، إلا أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا كان قد أدى الصلاة التي يؤذن لها فلا يجيب.
الحال الثانية: إذا كان الأذان مسجلاً، وليس أذاناً على الوقت، فإنه لا يجيبه؛ لأن هذا ليس أذاناً حقيقياً، أي أن الرجل لم يرفعه حين أمر برفعه، وإنما هو شيء مسموع لأذان سابق، وإن كان لنا تحفظ على كلمة: يرفع الأذان، ولذا نرى أن يقال أذن فلان، لا رفعَ الأذان. (فتاوى ابن عثيمين).
• إذا قال المؤذن في صلاة الفجر (الصلاة خير من النوم)، فظاهر الحديث (فقولوا مثل ما يقول .. ) أنه يجيبه بمثل ما يقول، فيقول المجيب (الصلاة خير من النوم).
فلم يرد في السنة استثناء من هذا العموم إلا في الحيعلتين.
وأما ما ذكره بعض علماء الحنابلة والشافعية وغيرهم من أنه يقول (صدقت وبررت) فليس عليه دليل، ولا يصح.
• ما الحكم إذا دخلت المسجد والمؤذن يؤذن فهل الأولى أن أصلي تحية المسجد أو أتابع المؤذن؟
هذا فيه تفصيل، إذا دخلت والمؤذن يؤذن لصلاة الجمعة، الأذان الذي بين يدي الخطيب، فهاهنا نقول: بادر بتحية المسجد، ولا تنتظر انتهاء المؤذن؛ لأن تفرغك لسماع الخطبة أولى من متابعتك للمؤذن؛ حيث إن استماع الخطبة واجب، وإجابة المؤذن غير واجبة.
وأما إذا كان الأذان لغير ذلك (يعني: لغير صلاة الجمعة) فالأفضل أن تبقى قائماً حتى تجيب المؤذن، وتدعو بالدعاء المعروف بعد الأذان:" اللهم صل على محمد، اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد "، ثم بعد ذلك تأتي بتحية المسجد. (فتاوى ابن عثيمين).
• إذا كان الإنسان يقرأ القرآن، فأذن المؤذن، فالأفضل في حقه أن يترك القراءة، ويشتغل بمتابعة المؤذن.
أ-وذلك امتثالاً لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ).
ب- ولأن الأذان يفوت وقته.
قال الإمام النووي رحمه الله: ولو سمع المؤذن قطع القراءة وأجابه بمتابعته في ألفاظ الأذان والإقامة ثم يعود إلى قراءته وهذا متفق عليه عند أصحابنا. (التبيان).
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: إذا أذن المؤذن والإنسان يقرأ القرآن، فهل الأفضل له أن يرجع معه فيقول مثل ما يقول، أم إن اشتغاله بالقرآن يعتبر أفضل باعتبار تقديم الفاضل على المفضول؟
فأجاب: " السنة إذا كان يقرأ وسمع الأذان: أن يجيب المؤذن؛ امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي
…
) ولأن إجابة المؤذن سنة تفوت إذا استمر في القراءة، والقراءة لا تفوت، وقتها واسع، وفق الله الجميع. (مجموع فتاوى ابن باز).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل، مثاله: قراءة القرآن من أفضل الذكر، والقرآن أفضل الذكر، فلو كان رجل يقرأ وسمع المؤذن يؤذن، فهل الأفضل أن يستمر في قراءته أو أن يجيب المؤذن؟ هنا نقول: إن الأفضل أن يجيب المؤذن، وإن كان القرآن أفضل من الذكر، لكن الذكر في مكانه أفضل من قراءة القرآن؛ لأن قراءة القرآن غير مقيدة بوقت متى شئت فاقرأ، لكن إجابة المؤذن مربوطة بسماع المؤذن. (لقاء الباب المفتوح).
• هل يكفي تشغيل الأذان عبر المسجل في مكبر الصوت عند دخول الوقت؟
الأذان الذي يذاع من المسجل: لا يكفي عن الأذان الشرعي المشروع للإعلام بدخول الوقت؛ لأنه ليس أذاناً حقيقيّاً، وإنما هو صوت مخزون، والأذان عبادة لا بد فيها من عمل ونية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
وعليه: فلا بد من الأذان عند دخول الوقت في المكان الذي يصلى فيه، وإذا احتيج إلى مكبر الصوت لأجل إبلاغ الناس للحضور للصلاة: فحسن. (فتاوى اللجنة).
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: نقل الأذان بواسطة التسجيل: لا يجزئ عن الأذان الشرعي؛ وذلك لأن الأذان الشرعي ذِكر وثناء على الله، ولا بد فيه من عمل، والتسجيل ليس بعمل؛ فإنك إذا سمعت المسجل لا يعني ذلك أن المسجل يعمل عبادة يتقرب بها إلى الله، وإنما هو سماع صوت شخص، ربما يكون قد مات أيضاً، فلا يجزئ عن الأذان الشرعي، فلا بد من أذان شرعي يقوم به المكلف يكبر الله، ويشهد له بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، ويدعو إلى الصلاة، وإلى الفلاح، لا بد من هذا، وإذا قلنا إن ما سجل ليس بأذان مشروع: فإنه لا تشرع إجابته، أي: لا يشرع للإنسان أن يتابعه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن) ونحن في الحقيقة لم نسمع المؤذن، وإنما سمعنا صوتاً مسجَّلاً سابقاً.
وأما قول السائل: ما الفرق بين ما نقل على الهواء وما نقل بواسطة التسجيل: فالفرق ظاهر؛ لأن ما نقل على الهواء: فهو صوت المؤذن الذي يؤذن الأذان الشرعي، فهذا يجاب، ويتابع، ويدعو بعد المتابعة بما وردت به السنَّة، وأما الأذان المسجل: فليس أذاناً في الواقع، كما أشرنا إليه. (فتاوى نور على الدرب).
•
هل تعاد الإقامة إذا أقام المؤذن وحصل عذر وتأخر الإمام لفترة؟
السنة: أن يحرم الإمام بالصلاة بعد فراغ المؤذن ولا يتأخر عن ذلك إلا بمقدار ما يأمر الناس بتسوية الصفوف ويتأكد من ذلك.
فإن أقام المؤذن الصلاة ثم حصل عذر أدى إلى تأخير دخول الإمام في الصلاة فلا حرج في ذلك، ولا يحتاج إلى إعادة إقامة الصلاة.
وقد دل على ذلك حديثان:
الحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ، فَرَجَعَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ) رواه البخاري.
زاد الدار قطني في سننه من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال (إني كنت جنباً فنسيت أن أغتسل).
قال الحافظ ابن حجر: في الحديث جواز الفصل بين الإقامة والصلاة؛ لأن قوله (فصلى) ظاهر في أن الإقامة لم تُعد.
وقال بدر الدين العيني: فإن قلت: هل اقتصر على الإقامة الأولى أو أنشأ إقامة ثانية؟ قلت: لم يصح فيه نقل، ولو فعله لنقل. (عمدة القاري).
وقال رحمه الله أيضاً: ويستفاد من الحديث: أن الإمام إذا أقام الصلاة، ثم ظهر أنه محدث ومضى ليزيل حدثه، أي حدث كان، وأتى لا يحتاج إلى تجديد إقامة ثانية؛ لأن ظاهر الحديث لم يدل على هذا.
الحديث الثاني: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: (أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ: لِي حَاجَةٌ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِيهِ، حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ أَوْ بَعْضُ الْقَوْمِ، ثُمَّ صَلَّوْا) متفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين: في هذا الحديث: دليل على جواز مناجاة الإمام بعد الإقامة، وأن طول المناجاة أيضاً لا يضر، وأنه لا تشترط المولاة بين الإقامة والصلاة، لأن الصحابة رضي الله عنهم ناموا، ثم قام فصلى، فدل ذلك على أن طول الفصل بين الإقامة والصلاة لا بأس به، لكن بشرط أن يكون قد أقام عند إرادة الصلاة، يعني: أنه لا يقيم ويعلم أنه لن يصلي إلا بعد مدة، ولكن يقيم ثم إذا حصل ما يمنع أو ما يفصل بين الإقامة والصلاة ـ فهذا لا بأس به ـ ولو طال الفصل.
•
ما الحكم لو سمع المؤذن، ثم سمع آخر؟
يجيب الأول، ويجيب الثاني، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن).
ولكن لو صلى ثم سمع مؤذناً بعد الصلاة فظاهر الحديث أنه يجيب لعمومه.
وقال بعض العلماء: إنه لا يجيب لأنه غير مدعو بهذا الأذان فلا يتابعه، ولا يمكن أن يؤذن آخر بعد أن تؤدى الصلاة، فيحمل الحديث على المعهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا تكرار في الأذان، ولكن لو أخذ أحد بعموم الحديث وقال: إنه ذِكْرٌ وما دام الحديث عاماً فلا مانع من أن أذكر الله عز وجل فهو على خير. (فتاوى ابن عثيمين)
(وحرُمَ خروج من مسجد بعده بلا عذر).
بعده: أي بعد الأذان. أي: يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر.
لما روى مسلم عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم.
ورواه الترمذي وقال عقبه: وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُمْ، أَنْ لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْه.
ورواه أحمد بزيادة: (ثُمَّ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ).
• وقد حمل جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، النهي الوارد في تلك الأحاديث على الكراهة.
وأما الحنابلة فحملوه على التحريم.
لأن أبا هريرة أطلق عليه لفظ المعصية، والمعصية تطلق على المحرم ولا تطلق على المكروه. (أحكام الأذان والاقامة سامي فراج).
• من حكمة النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان، أن لا يكون متشبهاً بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان.
• من الأعذار المبيحة للخروج: أن يخرج ليتوضأ إذا كان محل الوضوء خارج المسجد، أو يخرج بنية العودة، كما لو خرج ليوقظ أهله مثلا ثم يعود، وكذلك الخروج للصلاة في مسجد آخر إذا علم أنه سيدرك الجماعة فيه
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في (الفتاوى) تحريم الخروج من المسجد فيه تفصيل: إِن كان بلا داعي ولا غرض له صحيح حرم، وذلك أَن صورته صورة من ينصرف عن المسجد لا يصلي. أَما إِذا كان يريد الصلاة في مسجد آخر أَو له عذر أَو ناويًا الرجوع والوقت متسع فلا يحرم " انتهى.
(ويسن أن يقول عند المطر: ألا صلوا في رحالكم).
أي: يسن للمؤذن أن يقول عند المطر، أو الريح الباردة (ألا صلوا في رحالكم) أو (الصلاة في الرحال).
أ- عن نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ نَادَى بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ وَمَطَرٍ فَقَالَ فِي آخِرِ نِدَائِهِ أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ،
ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ أَوْ ذَاتُ مَطَرٍ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقُولَ أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ) متفق عليه.
ب- وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ (خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ رَدْغٍ فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَإِنَّهَا عَزْمَة) رواه البخاري.
ج- وعن أسامة الهذلي رضي الله عنه (أن يوم حنين كان يوم مطر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن الصلاة في الرحال) رواه أبو داود.
•
وقد اختلف العلماء في متى يقول: صلوا في رحالكم على أقوال:
القول الأول: أنها تقال أثناء الأذان بدلاً من الحيعلة.
وهو وجه للشافعية، وظاهر مذهب الحنابلة.
لحديث عبد الله بن الحارث السابق، ولفظ مسلم:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إِذَا قُلْتَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ - قَالَ - فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ فَقَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْض).
وقد بوب ابن خزيمة، وتبعه ابن حبان، ثم المحب الطبري (حذف حي على الصلاة في يوم المطير) نظراً إلى المعنى، لأن معنى (حي على الصلاة) هلموا إلى الصلاة، ومعنى (الصلاة في الرحال) تأخروا عن المجيء إليها، فلا يتناسب سبب إيراد اللفظين معاً، لأن أحدهما نقيض الآخر.
القول الثاني: أنها تقال بعد الفراغ من الأذان.
لحديث ابْنِ عُمَرَ السابق (أَنَّهُ نَادَى بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ وَمَطَرٍ فَقَالَ فِي آخِرِ نِدَائِهِ أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ
…
).
قال ابن حجر: هذا صريح في أن القول المذكور كان بعد الفراغ.
القول الثالث: أنها تقال أثناء الأذان ولكن بعد الحيعلتين.
أ- لحديث نعيم بن النحام رضي الله عنه قال (سمعت مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة باردة وأنا في لحاف امرأتي، فتمنيت أن يقول: صلوا في رحالكم، فلما بلغ حي على الفلاح، قال: صلوا في رحالكم، ثم سألت عنها فإذا النبي صلى الله عليه وسلم كان أمر بذلك) رواه البيهقي.
ب- و عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ قال (أَنْبَأَنَا رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُنَادِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ فِي السَّفَرِ - يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، صَلُّوا فِي رِحَالِكُم) رواه النسائي وأحمد.
والراجح أن الأمر في ذلك واسع:
قال الإمام النووي: وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس رضي الله عنه أَنْ يَقُول: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالكُمْ فِي نَفْس الْأَذَان، وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ فِي آخِر نِدَائِهِ. وَالْأَمْرَانِ جَائِزَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى - فِي الْأُمّ فِي كِتَاب الْأَذَان، وَتَابَعَهُ جُمْهُور أَصْحَابنَا فِي ذَلِكَ، فَيَجُوز بَعْد الْأَذَان، وَفِي أَثْنَائِهِ لِثُبُوتِ السُّنَّة فِيهِمَا، لَكِنَّ قَوْله بَعْده أَحْسَن لِيَبْقَى نَظْم الْأَذَان عَلَى وَضْعه، وَمِنْ أَصْحَابنَا مَنْ قَالَ: لَا يَقُولهُ إِلَّا بَعْد الْفَرَاغ، وَهَذَا ضَعِيف مُخَالِف لِصَرِيحِ حَدِيث اِبْن عَبَّاس رضي الله عنهما، وَلَا مُنَافَاة بَيْنه وَبَيْن الْحَدِيث الْأَوَّل حَدِيث اِبْن عُمَر رضي الله عنهما; لِأَنَّ هَذَا جَرَى فِي وَقْت وَذَلِكَ فِي وَقْت، وَكِلَاهُمَا صَحِيح. (نووي)
وأما الجواب عن أصحاب القول الأول في أنها تقال بدلاً من الحيعلتين: فقد قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بينهما ولا يلزم منه ما ذكر بأن يكون معنى الصلاة في الرحال رخصة لمن أراد أن يترخص، ومعنى هلموا إلى الصلاة ندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ولو تحمل المشقة، ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال ليصل من شاء منكم في رحله)
فوائد:
فائدة: 1
لا يجوز أذان امرأة للرجال.
ويدل لذلك:
عن ابْن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاةَ لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلا تَبْعَثُونَ رَجُلا يُنَادِي بِالصَّلاةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا بِلالُ، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاة).
فهذا الحديث يدل على أنه من المقرر عند الصحابة أنه لا ينادي للصلاة إلا الرجال، وأنه لا مدخل للنساء في ذلك، لقول عمر رضي الله عنه:(أَوَلا تَبْعَثُونَ رَجُلا يُنَادِي بِالصَّلاة).
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاء).
قال الحافظ": وَكَأَنَّ مَنْعَ اَلنِّسَاءِ مِنْ اَلتَّسْبِيحِ لأَنَّهَا مَأْمُورَة بِخَفْضِ صَوْتِهَا فِي اَلصَّلاةِ مُطْلَقًا لِمَا يُخْشَى مِنْ اَلافْتِتَانِ ". انتهى
فإذا كانت المرأة منهية عن تنبيه الإمام بالقول إن أخطأ، وإنما تصفق، حتى لا ترفع صوتها بحضرة الرجال، فكيف يسمح لها بالأذان؟!
فلا يشرع لها أن تؤذِّن لدعوة الناس إلى صلاة الجماعة باتفاق العلماء، وأقوالهم في ذلك تدور بين التحريم والكراهة.
قال الشافعي في الأم: ولا تؤذن امرأة، ولو أذنت لرجال لم يجز عنهم أذانها.
وقال في المغني: ولا يعتد بأذان المرأة؛ لأنها ليست ممن يشرع له الأذان.
•
وقد اختلف العلماء، هل إذا أذنت المرأة كما يؤذن الرجال هل يصح أذانها أم لا؟ على قولين:
القول الأول: لا يصح أذانها.
وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
قال النووي: فإذا أذنت للرجال لم يعتد بأذانها.
وقال في الإنصاف: لا يعتد بأذان امرأة.
القول الثاني: صحة هذا الأذان مع الكراهة.
وهو مذهب الحنفية.
والصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه هو مذهب الجمهور وهو عدم أذان النساء للرجال لأن ذلك من المحدثات، ولم يكن في السلف، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة؛ ولأن المؤذن يستحب له أن يشهر نفسه ويؤذن على المكان العالي ويرفع صوته، والمرأة منهية عن ذلك كله لما في ذلك من تعرضها.
باب شروط الصلاة
تعريف الشرط:
لغة: العلامة، قال تعالى (فقد جاء أشراطها).
واصطلاحاً: ما يَلزَمُ من عَدَمِه العَدَم، ولا يَلْزَم من وجوده الوُجود.
مثاله: الوُضُوء شرط لصحَّة الصَّلاة، يلزم مِن عَدَمِه عَدَمُ الصِّحة، ولا يلزم من وجوده وجود الصَّلاة؛ لأنه قد يتوضَّأ ولا يُصلِّي.
•
والفرق بين الأركان والشروط:
أولاً: أنَّ الشُّروط قبل الصلاة والأركانَ فيها.
وثانياً: أنَّ الشُّروطَ مستمرَّة من قبل الدّخول في الصَّلاة إلى آخر الصَّلاة، والأركان ينتقل من ركن إلى ركن: القيام، فالرُّكوع، فالرَّفع من الرُّكوع، فالسُّجود، فالقيام من السُّجود، ونحو ذلك.
ثالثاً: الأركان تتركَّبُ منها ماهيَّةُ الصَّلاة بخلاف الشُّروط، فَسَتْرُ العورة لا تتركَّبُ منه ماهيَّة الصَّلاة؛ لكنه لا بُدَّ منه في الصَّلاة.
(الشرح الممتع).
(أحدها: الطهارة من الحدث).
أي: أن من شروط الصلاة الطهارة من الحدث، وقد تقدم ذلك.
أ-لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الله صلاةَ أحدِكم إذا أحدث حتى يتوضأ) متفق عليه.
وفي رواية للبخاري (قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فُساء أو ضراط).
وتفسير أبي هريرة للحدث بالفساء أو الضراط تفسير للحدث منه، لأن الحدث أعم من ذلك، وكأن أبا هريرة فسره بالأخص:
أولاً: تنبيهاً بالأخف على الأغلظ، وثانياً: ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما.
ب-وحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تُقبلُ صلاةٌ بغير طُهور، ولا صدقةٌ من غُلول) رواه مسلم.
قال النووي: وهذا الحديث نص في وجوب الطهارة للصلاة، وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة.
ج- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتكى أحدكم في صلاته فلم يدرِ أخرج منه شيء أم لا، فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) رواه مسلم.
ففي هذا الحديث: أن خروج الريح من الدبر ينقض الوضوء وتبطل به الصلاة، وقد أجمع العلماء على ذلك.
• من أحدث أثناء الصلاة، فإنه يجب أن يخرج ويتوضأ ويعيدها، وهذا قول جماهير العلماء.
أ-لحديث عَلِي بْن طَلْقٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي اَلصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدْ اَلصَّلَاةَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
ب-وقد يستدل بحديث أبي هريرة (لا يقبل الله صلاةَ أحدِكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فإنه يفيد أن صلاة المحدث لا تقبل، وهذا يعم ما قبل الصلاة من الحدث اختياراً وما حصل في أثنائها اضطراراً، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين حدث وحدث.
وقد ذهب بعض العلماء: إلى أن الإنسان إذا أحدث في صلاته فإنه ينصرف ويتوضأ ويبني على ما مضى.
وهذا مذهب الحنفية.
لحديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أصابه قيء أو قلس أو رعاف أو مذي فلينصرف وليتوضأ وليبني على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم)، لكن هذا الحديث ضعيف.
من انتقض وضوءه وهو إمام فإنه يجب أن يخرج من صلاته، ولا يجوز أن يكمل صلاته، ويقدم أحد المأمومين ليكمل بالمصلين.
•
ما حكم صلاة المأموم إذا تبين له حدث إمامه بعد الفراغ من الصلاة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: يعيد المأموم صلاته.
وهذا مذهب الحنفية.
القول الثاني: إن كان الإمام يعلم حدثه لزمت المأموم الإعادة، وإن كان لا يعلم حدثه صحت صلاة المأموم.
القول الثالث: تصح صلاة المأموم فلا يعيدها، وهذا القول هو الصحيح.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة خلف أئمة الجور (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) رواه البخاري.
ب-ولأن الحدث مما يخفى، ولا سبيل للمأموم إلى معرفة حدث الإمام فكان معذوراً في الاقتداء به، لأنه لم يكلف علم ما غاب عنه من أمره، وإذا صح اقتداؤه صحت صلاته فلا يعيدها.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ مُحْدِثًا، أَوْ جُنُبًا، غَيْرَ عَالِمٍ بِحَدَثِهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ هُوَ وَلَا الْمَأْمُومُونَ، حَتَّى فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ بَاطِلَةٌ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم.
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
لإجماع الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُرُفِ، فَأَهْرَقَ الْمَاءَ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلَامًا، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْمُصْطَلِقِ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَارْتَفَعَ النَّهَارُ فَإِذَا هُوَ بِأَثَرِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، فَأَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا.
وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِالْقَوْمِ فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ آمُرُهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُعِيدَ، وَلَا آمُرُهُمْ أَنْ يُعِيدُوا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الْغَدَاةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا. رَوَاهُ كُلَّهُ الْأَثْرَمُ.
وَهَذَا فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا. (المغني).
وكذلك على القول الراجح لو أحدث الإمام في أثناء الصلاة، فصلاة المأمومين صحيحة، ويخرج الإمام ويقدم من يكمل بهم.
(اجتناب النجاسة في بدنه، وثوبه، وموضعَ صلاته).
أي: ومن شروط الصلاة، طهارة البدن، والثوب، والبقعة.
في البقعة:
لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ اَلْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ اَلنَّاسُ، فَنَهَاهُمْ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاء فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وقال صلى الله عليه وسلم في المساجد (إنَّه لا يصلُح فيها شيءٌ من الأذى والقَذَر) رواه مسلم.
وفي الثوب:
أ-لقوله تعالى (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) على أحد التفسيرين.
ب-أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر الحائض إذا أصابها دم الحيض أن تغسله ثم تُصلِّي فيه.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ -فِي دَمِ اَلْحَيْضِ يُصِيبُ اَلثَّوْبَ- (تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ج-خَلْعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم نعليه لمَّا أخبره جبريلُ أنَّ فيهما أذى، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يجوز استصحاب النَّجَاسة في حال الصَّلاة.
وفي البدن:
لحديث ابن عباس (مر النبي بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير
…
أما أحدهما فكان لا يتنزه من بوله
…
). متفق عليه
وكذلك أحاديث الاستنجاء والاستجمار كلُّها تفيد أنه يجب التنزُّه من النَّجاسة في البدن.
(وإن صلى وعليه نجاسة لم يكن علم بها، أو علِم بها ثم نسيها أعاد).
لأن طهارة اللباس شرط لصحة الصلاة.
وهذا مذهب أبي حنيفة، والمشهور من مذهب الحنابلة.
مثال: رَجُل صَلَّى؛ فلما سَلَّم وَجَدَ على ثوبه نجاسة يابسة؛ يتيقَّن أنها أصابته قبل الصَّلاة، ولكن لم يعلم بها، فإنه يعيد.
مثال آخر: علم بالنجاسة على ثوب، لكنه نسيها ولم يتذكرها إلا بعد الصلاة، فإنه يعيد.
ومثل ذلك لو نسي أن يغسلها.
أ- لعموم الأدلة الدالة على أن طهارة اللباس شرط لصحة الصلاة، فهذه الأدلة جاءت عامة، ولم تفرق بين العامد والجاهل والناسي.
ب- واحتجوا بالقياس على الحدث، فكما لا تصح الصلاة مع الحدث، سواء كان جاهلاً أو ناسياً، فكذا لا تصح مع النجاسة ولا فرق.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا إعادة عليه.
وهذا قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين.
فقد حكي عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، وطاووس، وعطاء، وسالم بن عبد الله، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والزهري، والأوزاعي.
وهو قول المالكية، والقديم للشافعي.
واختار هذا القول من الحنابلة ابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن سعدي.
أ- لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ (بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا - أَوْ قَالَ: أَذًى -وَقَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ: فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا) رواه أبو داود.
وجه الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد أول صلاته التي صلاها مع وجود النجاسة في النعل، لأنه كان جاهلاً وجودها، فدل على أن من صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً فصلاته صحيحة.
ب- ولحديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن حبان.
قال الخطابي: فيه من الفقه: أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها، فإن صلاته مجزئة ولا إعادة عليه.
وقد دلت الأدلة الشرعية على أن الكلام ونحوه في الصلاة يعفى فيه عن الجاهل والناسي، فتقاس عليه النجاسة، بجامع أن كلاً منهما من باب المنهي عنه في الصلاة.
(وإنْ علِم بها في الصلاة أزالها وبنى على صلاتهِ).
أي: من رأى نجاسة على ثيابه أثناء الصلاة أو طرأت عليه وهو يصلي فإنه لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يمكنه طرح النجاسة من غير زمن طويل، ولا عمل كثير.
فهنا يجب طرحها وإزالتها في الحال، وذلك بتنحيتها إن كانت يابسة، أو بخلع ما طرأت عليه إن كانت رطبة ويبني على ما مضى من صلاته.
لحديث أبي سعيد السابق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره جبريل بأن فيهما قذراً ألقاهما وأكمل صلاته.
الحال الثانية: أن يحتاج طرح النجاسة وإزالتها إلى زمن طويل أو عمل كثير.
فهنا يجب عليه أن يقطع صلاته ويزيل النجاسة ويستأنف من جديد، لأن حاله لا يخلو من حالين:
أ- إما أن يصلي مستصحباً للنجاسة زمناً طويلاً وهو عالم بها.
ب- وإما أن يقوم بعمل كثير في صلاته يؤثر فيها من أجل إزالتها.
وكل واحد من الأمرين يبطل الصلاة.
• وقد اختلف العلماء هل يعفى عن يسير البول والغائط إذا وقع على لباس المصلي أم لا على قولين:
القول الأول: لا يعفى عن يسير البول والغائط ونحوهما من النجاسات.
وإلى هذا ذهب أبو ثور.
وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ- لعموم الأدلة على اشتراط طهارة اللباس لصحة الصلاة، من غير تفريق بين يسير النجاسة وكثيرها.
ب- ولحديث أبي سعيد السابق، في قصة خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه، وهو في صلاته لما أخبره جبريل.
وجه الدلالة: لو كان يسير النجاسة الواقع على لباس المصلي معفواً عنه لما خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه وهو في صلاته، إذْ إن القذر الذي كان موجوداً في نعليه يسير.
ج-أن يسير البول ونحوه نجاسة لا تشق إزالتها، ويمكن الاحتراز منها غالباً فوجب إزالتها كالكثير.
القول الثاني: يعفى عن يسير البول والغائط ونحوهما من النجاسات.
وإليه ذهب الحنفية ما عدا زفر.
أ- قالوا: أن الاستنجاء بالماء غير واجب بالإجماع، ومعلوم أن الاستجمار بالأحجار لا يستأصل النجاسة.
ب- أن القليل من النجاسات يشق الاحتراز منه، فلم تجب إزالته.
والراجح الأول.
• وذهب أكثر العلماء إلى أنه يعفى عن يسير الدم.
قال ابن قدامة: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَالْقَيْحِ.
لحديث عَائِشَةَ قَالَتْ (قَدْ كَانَ يَكُونُ لِإِحْدَانَا الدِّرْعُ، فِيهِ تَحِيضُ وَفِيهِ تُصِيبُهَا الْجَنَابَةُ، ثُمَّ تَرَى فِيهِ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ، فَتَقْصَعُهُ بِرِيقِهَا) وَفِي لَفْظٍ (مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إلَّا ثَوْبٌ، فِيهِ تَحِيضُ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهَا بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا، ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِظُفُرِهَا). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّيقَ لَا يُطَهَّرُ بِهِ وَيَتَنَجَّسُ بِهِ ظُفُرُهَا، وَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ أَمْرِهِ.
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
وروى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ، فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ، فَيَضَعُهُمَا بِالْأَرْضِ، وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا، مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ.
وَعَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ، فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. (المغني).
وجاء عن أبي هريرة أنه لم يكن يرى بالقطرتين من الدم في الصلاة بأساً. رواه ابن أبي شيبة.
وعن ابن عباس أنه قال: إذا كان الدم فاحشاً فعليه الإعادة، وإن كان قليلاً فليس عليه إعادة.
ولأن يسير الدم يشق التحرز منه، وتعم به البلوى.
(الثاني: الوقت).
أي: ومن شروط الصلاة دخول الوقت، فمن صلى قبل الوقت فصلاته غير صحيحة، سواء كان عالماً أو جاهلاً، والمراد بالوقت: الزمن المحدد لأداء الصلاة فيه.
قال تعالى (إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً). (كتاباً) أي مفروضاً، (موقوتاً) أي محددة في أوقات.
قال في المغني: أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محددة.
(فوقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثلَه).
أي: بداية وقت الظهر: إذا زالت الشمس، وهذا بالإجماع.
قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس.
أ- لحديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس) متفق عليه.
ب- ولحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ. أَنَّ نَبِيَّ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَقْتُ اَلظُّهْرِ إِذَا زَالَتْ اَلشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ اَلرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ اَلْعَصْرُ، وَوَقْتُ اَلْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ اَلشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ اَلْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ اَلشَّفَقُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ اَلْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اَللَّيْلِ اَلْأَوْسَطِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ اَلصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ اَلْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ اَلشَّمْسُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ج-ولحديث بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن ثم أمره فأقام الصلاة) رواه مسلم.
د- وعن أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قال (كَان صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْهَجِيرَ - الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى - حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ
…
). رواه البخاري
نهاية وقتها: حين يكون ظل الشيء مثله.
وبذلك قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
أ-لحديث عبد الله بن عمرو السابق (
…
وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر).
ب- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (هَذَا جِبْرِيلُ عليه السلام جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ، فَصَلَّى الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ رَأَى الظِّلَّ مِثْلَهُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَحَلَّ فِطْرُ الصَّائِمِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ شَفَقُ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَهُ الْغَدَ فَصَلَّى بِهِ الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ قَلِيلاً، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ الظِّلُّ مِثْلَهُ،
…
) رواه النسائي.
• صلاة الظهر لها أسماء: تسمى الهاجرة: لحديث جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة).
وسميت بالهاجرة لأن الناس يهجرون فيها السعي في أعمالهم نظراً لشدة الحر.
وتسمى الأولى: والسبب في ذلك أنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن رجب: في قوله (كَان صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْهَجِيرَ - الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى
…
) في هذه الرواية: أن لصلاة الظهر اسمين آخرين:
أحدهما: الهجير؛ لأنها تصلى بالهاجرة. (وهُوَ وَقْتُ شِدَّةِ الْحَر).
والثاني: الأولى.
وقيل: سميت بذلك لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي عند البيت، في أول ما فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء.
وقال ابن دقيق العيد: وإنما قيل لصلاة الظهر الأولى؛ لأنها أول صلاة أقامها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث إمامة جبريل عليه السلام.
وقال ابن عبد الهادي: " أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس مطلقاً: الظهر بمكة، باتفاق.
(ووقت صلاة العصر - وهي الوسطى - من آخر وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس).
أي: يدخل وقتها إذا صار ظل الشيء مثله يكون دخل وقت صلاة العصر، وخرج وقت صلاة الظهر.
وهذا قول جمهور العلماء.
نقله عنهم النووي في شرح مسلم، وكذلك الشوكاني حيث قال: وأما أول وقت العصر فذهب الجمهور إنه مصير ظل الشيء مثله. (نيل الأوطار).
للحديث السابق (ووقت الظهر إذا زال الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر).
يدل هذا على أنه إذا حضر وقت العصر خرج وقت الظهر.
قال النووي: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث وَمَا بَعْدهَا دَلِيل لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجُمْهُور الْعُلَمَاء أَنَّ وَقْت الْعَصْر يَدْخُل إِذَا صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَدْخُل حَتَّى يَصِير ظِلّ الشَّيْء مِثْلَيْهِ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيث حُجَّة لِلْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ مَعَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس رضي الله عنه فِي بَيَان الْمَوَاقِيت، وَحَدِيث جَابِر، وَغَيْر ذَلِكَ. (شرح مسلم).
• وينتهي إذا اصفرت الشمس.
لحديث ابن عمرو السابق (وَوَقْتُ اَلْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ اَلشَّمْسُ).
وذهب بعض العلماء: إلى أن وقت العصر ينتهي ويمتد إلى أن يصير ظل الشيء مثليه.
واستدلوا بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (أَمَّنِي جِبْرِيلُ عليه السلام عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ
…
، وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ، .. الحديث
…
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ صَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَيْهِ). رواه أبو داود
والراجح القول الأول، وأن وقتها ينتهي باصفرار الشمس.
• ووجه هذا الترجيح:
أ- أن حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم وهو متأخر، لأن إمامة جبريل كانت بمكة في أول الفرض.
ب- أنه اشتمل على زيادة لم ترد في حديث ابن عباس، والأخذ بالزيادة لا ينافي ذلك.
ج- أنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وحديث ابن عباس فعل، والقول أقوى من الفعل.
د- لأن جعْل وقتها إلى اصفرار الشمس أخذ بالزائد، والأخذ بالزائد أخذ بالزائد والناقص، والأخذ بالناقص إلغاء للزائد.
• معنى اصفرار الشمس: أن يرى الإنسان الصفرة أو الحمرة على الأرض أو الأبنية.
• قوله في حديث عبد الله بن عمرو (وَقْتُ اَلظُّهْرِ إِذَا زَالَتْ اَلشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ اَلرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ اَلْعَصْرُ):
قال النووي: وَفِيهِ: دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى - وَلِلْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا اِشْتَرَاك بَيْن وَقْت الظُّهْر وَوَقْت الْعَصْر، بَلْ مَتَى خَرَجَ وَقْت الظُّهْر بِمَصِيرِ ظِلّ الشَّيْء مِثْله غَيْر الظِّلّ الَّذِي يَكُون عِنْد الزَّوَال، دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْر، وَإِذَا دَخَلَ وَقْت الْعَصْر لَمْ يَبْقَ شَيْء مِنْ وَقْت الظُّهْر. وَقَالَ مَالِك رضي الله عنه وَطَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء: إِذَا صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله دَخَلَ وَقْت الْعَصْر وَلَمْ يَخْرُج وَقْت الظُّهْر، بَلْ يَبْقَى بَعْد ذَلِكَ قَدْر أَرْبَع رَكَعَات صَالِح لِلظُّهْرِ وَالْعَصْر أَدَاء، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث جِبْرِيل عليه السلام:(صَلَّى بِي الظُّهْر فِي الْيَوْم الثَّانِي حِين صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله، وَصَلَّى بِي الْعَصْر فِي الْيَوْم الْأَوَّل حِين صَارَ كُلّ شَيْء مِثْله). فَظَاهِره اِشْتِرَاكهمَا فِي قَدْر أَرْبَع رَكَعَات. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ بِظَاهِرِ الْحَدِيث الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث جِبْرِيل عليه السلام بِأَنَّ مَعْنَاهُ: فَرَغَ مِنْ الظُّهْر حِين صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله، وَشَرَعَ فِي الْعَصْر فِي الْيَوْم الْأَوَّل حِين صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله، فَلَا اِشْتِرَاكَ بَيْنهمَا. فَهَذَا التَّأْوِيل مُتَعَيِّن لِلْجَمْعِ بَيْن الْأَحَادِيث، وَأَنَّهُ إِذَا حُمِلَ عَلَى الِاشْتِرَاك يَكُون آخِر وَقْت الظُّهْر مَجْهُولًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا اِبْتَدَأَ بِهَا حِين صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله لَمْ يَعْلَم مَتَى فَرَغَ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ يَكُون آخِر وَقْت الظُّهْر مَجْهُولًا، وَلَا يَحْصُل بَيَان حُدُود الْأَوْقَات. وَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَا تَأَوَّلْنَاهُ حَصَلَ مَعْرِفَة آخِر الْوَقْت وَانْتَظَمَتْ الْأَحَادِيث عَلَى اِتِّفَاق. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق. (شرح مسلم)
• قوله (وهي الوسطى).
أي: أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى التي أثنى الله عليها في القرآن.
وقد اختلف العلماء في تحديد الوسطى على أقوال: أصحها أنها صلاة العصر.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال النووي: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة رضي الله عنهم فَمَنْ بَعْدهمْ فِي الصَّلَاة الْوُسْطَى الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فَقَالَ جَمَاعَة: هِيَ الْعَصْر؛ مِمَّنْ نُقِلَ هَذَا عَنْهُ: عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود وَأَبُو أَيُّوب وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَبِيدَة السَّلْمَانِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذِر وَغَيْرهمْ رضي الله عنهم. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ رضي الله عنهم. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ مِنْ أَصْحَابنَا: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ رحمه الله لِصِحَّةِ الْأَحَادِيث فِيهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّهَا الصُّبْح لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الْعَصْر وَمَذْهَبه اِتِّبَاع الْحَدِيث. (شرح مسلم).
قال الماوردي: هو قول جمهور التابعين.
وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر.
وبه قال من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية" انتهى من (فتح الباري).
وقال النووي رحمه الله: الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر، وهو المختار. (المجموع).
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ (مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ) متفق عليه.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى - صَلاةِ الْعَصْرِ - ثُمَّ صَلاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ).
•
فضل صلاة العصر:
أولاً: أن المحافظة عليهما من أسباب دخول الجنة.
لحديث أبي موسى. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه.
ثانياً: سبب للنجاة من النار.
قال صلى الله عليه وسلم: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، يعني الفجر والعصر) متفق عليه.
ثالثاً: الملائكة يجتمعون في هاتين الصلاتين.
قال صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون عليكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) متفق عليه.
قال الحافظ: وقد ورد أن الرزق يُقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه، وفي عمله.
• فائدة: قوله (مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ) اختلف في المراد بهؤلاء الملائكة:
فقيل: المراد بهم الحفظة.
وقيل: بل غيرهم، ورجحه القرطبي، والحافظ ابن حجر.
قال الحافظ ابن حجر: ويقوّيه أنه لم يُنقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار
رابعاً: سبب لرؤية الله في الآخرة.
قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) متفق عليه.
خامساً: خصصها الله بالمحافظة عليها.
قال تعالى (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِين).
سادساً: جاء في الترهيب في تركها ما لم يرد في غيرها.
عن بُرَيْدَةَ. قال: قال النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) رواه البخاري.
وعن ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ) متفق عليه.
• قوله (فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَه).
قال النووي: رُوِيَ بِنَصْبِ اللَّامَيْنِ وَرَفْعهمَا، وَالنَّصْب هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول ثَانٍ، وَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله.
وَمَعْنَاهُ: اِنْتُزِعَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَهَذَا تَفْسِير مَالِك بْن أَنَس.
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَة النَّصْب فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: مَعْنَاهُ نُقِصَ هُوَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَسُلِبَهُ، فَبَقِيَ بِلَا أَهْل وَلَا مَال، فَلْيَحْذَرْ مِنْ تَفْوِيتهَا كَحَذَرِهِ مِنْ ذَهَاب أَهْله وَمَاله.
وَقَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ: مَعْنَاهُ عِنْد أَهْل اللُّغَة وَالْفِقْه أَنَّهُ كَاَلَّذِي يُصَاب بِأَهْلِهِ وَمَاله إِصَابَة يَطْلُب بِهَا وَتْرًا، وَالْوَتْر الْجِنَايَة الَّتِي يَطْلُب ثَأْرهَا فَيَجْتَمِع عَلَيْهِ غَمَّانِ: غَمّ الْمُصِيبَة وَغَمّ مُقَاسَاة طَلَب الثَّأْر.
وَقَالَ الدَّاوُدِيّ مِنْ الْمَالِكِيَّة: مَعْنَاهُ يَتَوَجَّه عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِرْجَاع مَا يَتَوَجَّه عَلَى مَنْ فَقَدَ أَهْله وَمَاله، فَيَتَوَجَّه عَلَيْهِ النَّدَم وَالْأَسَف لِتَفْوِيتِهِ الصَّلَاة.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَاتَهُ مِنْ الثَّوَاب مَا يَلْحَقهُ مِنْ الْأَسَف عَلَيْهِ كَمَا يَلْحَق مَنْ ذَهَبَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ.
•
ما المراد بتفويت الصلاة؟
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى -: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِفَوَاتِ الْعَصْر فِي هَذَا الْحَدِيث:
فَقَالَ اِبْن وَهْب وَغَيْره: هُوَ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا فِي وَقْتهَا الْمُخْتَار.
وَقَالَ سَحْنُون وَالْأَصِيلِيّ: هُوَ أَنْ تَفُوتهُ بِغُرُوبِ الشَّمْس.
وَقِيلَ: هُوَ تَفْوِيتهَا إِلَى أَنْ تَصْفَرّ الشَّمْس، وَقَدْ وَرَدَ مُفَسَّرًا مِنْ رِوَايَة الْأَوْزَاعِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيث. قَالَ فِيهِ: وَفَوَاتهَا أَنْ يَدْخُل الشَّمْس
صُفْرَة.
وَرُوِيَ عَنْ سَالِم أَنَّهُ قَالَ هَذَا فِيمَنْ فَاتَتْهُ نَاسِيًا.
وَعَلَى قَوْل الدَّاوُدِيّ هُوَ فِي الْعَامِد، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَر، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه (مَنْ تَرَكَ صَلَاة الْعَصْر حَبَطَ عَمَله) وَهَذَا إِنَّمَا يَكُون فِي الْعَامِد.
•
هل يلحق غير العصر بالعصر؟
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَلْحَق بِالْعَصْرِ بَاقِي الصَّلَوَات: وَيَكُون نَبَّهَ بِالْعَصْرِ عَلَى غَيْرهَا، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا تَأْتِي وَقْت تَعَب النَّاس مِنْ مُقَاسَاة أَعْمَالهمْ وَحِرْصهمْ عَلَى قَضَاء أَشْغَالهمْ وَتَسْوِيفهمْ بِهَا إِلَى اِنْقِضَاء وَظَائِفهمْ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَر، لِأَنَّ الشَّرْع وَرَدَ فِي الْعَصْر، وَلَمْ تَتَحَقَّق الْعِلَّة فِي هَذَا الْحُكْم فَلَا يُلْحَق بِهَا غَيْرهَا بِالشَّكِّ وَالتَّوَهُّم، وَإِنَّمَا يُلْحَق غَيْر الْمَنْصُوص بِالْمَنْصُوصِ إِذَا عَرَفْنَا الْعِلَّة وَاشْتَرَكَا فِيهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح النووي).
(ويبقى وقت الضرورة إلى غروب الشمس).
أي: ويبدأ وقت الضرورة من اصفرار الشمس إلى غروبها.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْر) متفق عليه.
فحديث عبد الله بن عمرو يحمل على وقت الاختيار، وحديث أبي هريرة (من أدرك ركعة) على وقت الضرورة.
•
ومعنى وقت ضرورة:
هو أن يؤخر الصلاة لهذا الوقت للضرورة، كالحائض تطهر في هذا الوقت، أو كافر يسلم، أو نائم يستيقظ، أو مغمى عليه يستيقظ، أو جريح اشتغل بتضميد جرحه، فهؤلاء يصلون ولو بعد اصفرار الشمس، وتكون صلاتهم أداء.
قال ابن قدامة:
…
إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ تَأْخِيرُهَا لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، كَحَائِضٍ تَطْهُرُ، أَوْ كَافِرٍ يُسْلِمُ، أَوْ صَبِيٍّ يَبْلُغُ، أَوْ مَجْنُونٍ يُفِيقُ، أَوْ نَائِمٍ يَسْتَيْقِظُ، أَوْ مَرِيضٍ يَبْرَأُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (مَعَ الضَّرُورَةِ). (المغني).
• لكن لا يجوز للإنسان أن يؤخر صلاة العصر إلى وقت الضرورة.
قال ابن قدامة: وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ، حَتَّى إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ، فَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، أَوْ عَلَى قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، قَامَ، فَنَقَرَ أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا) وَلَوْ أُبِيحَ تَأْخِيرُهَا لَمَا ذَمَّهُ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ عَلَامَةَ النِّفَاقِ. (المغني).
وقال النووي: وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت.
(ووقتُ المغربِ من الغروب إلى أن يغيب الشفق الأحمر).
وهذا بإجماع العلماء.
قال ابن قدامة: أما دخول وقت المغرب بغروب الشمس، فإجماع أهل العلم، لا نعلم بينهم خلافاً فيه.
وقال النووي: فأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وتكامل غروبها، وهذا لا خلاف فيه، نقل ابن المنذر وخلائق لا يحصون الإجماع فيه.
أ-لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا وجبت) رواه مسلم.
ب-ولحديث أبي موسى (أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب حين وقعت الشمس) رواه مسلم.
ج- ولحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَال (كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ،
…
) متفق عليه.
وينتهي وقتها إلى مغيب الشفق. (الشفق هو الحمرة كما هو مذهب الجمهور).
أ-لحديث عبد الله بن عمر السابق (
…
ووقت المغرب ما لم يغب الشفق).
ب-ولحديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق).
(ووقت العشاء من ذلك إلى نصف الليل، ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني).
أي: ووقت العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل.
أما بداية وقتها من مغيب الشفق، فهذا بإجماع المسلمين.
قال ابن قدامة: لا خلاف في دخول وقت العشاء بغيبوبة الشفق.
لحديث أبي موسى (أنه صلى الله عليه وسلم أمر فأقام العشاء حين غاب الشفق) رواه مسلم.
وأما نهاية وقتها ففيه خلاف والصواب أنه إلى نصف الليل.
لحديث عبد الله بن عمرو السابق (وَوَقْتُ صَلَاةِ اَلْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اَللَّيْلِ اَلْأَوْسَط).
•
كيف معرفة منتصف الليل؟
من أجل معرفة نصف الليل: نحسب من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر، فنصف ما بينهما هو آخر وقت صلاة العشاء.
فلو أن الشمس تغيب الساعة الخامسة، والفجر يؤذن الساعة الخامسة فمنتصف الليل هو الساعة الحادية عشرة مساءً، ولو أن الشمس تغيب الساعة الخامسة والفجر يطلع الساعة السادسة، فمنتصف الليل الساعة الحادية عشرة والنصف وهكذا.
(ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني).
هذا هو الوقت الثاني لصلاة العشاء، وهو وقت الضرورة، ويبدأ من منتصف الليل إلى الفجر.
لحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى) رواه مسلم
قالوا: الحديث يدل على أن وقت كل صلاة يمتد إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا صلاة الفجر، فإنها لا تمتد إلى الظهر، فإن العلماء أجمعوا على أن وقتها ينتهي بطلوع الشمس.
قال الحافظ: عموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصبح.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه ليس للعشاء وقت ضرورة.
واختاره ابن حزم ورجحه الألباني.
وأجابوا عن حديث: (ليس في النوم تفريط
…
):
أنه ليس فيه بيان أوقات الصلاة، ولا سيق من أجل ذلك، وإنما فيها بيان إثم من يؤخر الصلاة حتى يخرجها عن وقتها مطلقاً سواء كان يعقبها صلاة أخرى، مثل العصر مع المغرب، أو لا، مثل الصبح مع الظهر.
والراجح المذهب.
فائدة الخلاف: لو طهرت حائض قبل الفجر، فعلى القول الراجح تصلي العشاء.
(ووقت الفجر من ذلك إلى طلوع الشمس).
أي: ويبدأ وقت الفجر من طلوع الفجر الثاني.
قال ابن قدامة: وجملته أن وقت الصبح يبدأ بطلوع الفجر الثاني إجماعاً.
وقال النووي: وأجمعت الأمة على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق وهو الفجر الثاني.
أ-لحديث عبد الله بن عمرو السابق، حيث جاء في رواية (وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَي شَيْطَان).
ب- وفي حديث أبي موسى (أنه صلى الله عليه وسلم أقام الفجر حين انشق القمر) رواه مسلم.
ج- وفي حديث بريدة (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ: صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ، يَعْنِى الْيَوْمَيْنِ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالاً فَأَذَّنَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ،
…
الحديث وفيه: ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ) رواه مسلم.
وينتهي وقتها بطلوع الشمس.
لحديث عبد الله بن عمرو السابق (ووقت صلاة الصبح ما لم تطلع الشمس).
(والصلاة في أول وقتها أفضل).
أي: أن فعل الصلاة في أول وقتها أفضل.
ومما يدل على استحباب ذلك، أدلة عامة، وأدلة خاصة.
الأدلة العامة:
قوله تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
…
).
وقوله تعالى (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
…
).
ولحديث ورد في ذلك (الصلاة في أول وقتها) عند من صححها.
ومما يدل تفضيل ذلك، ما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يبادر بالصلاة بعد الأذان، بعد وقت يتوضأ فيه المتوضئ ويتهيأ فيه.
وبعضهم استدل بحديث ابن مسعود في الصحيحين الذي سبق (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا).
وقد اختلف العلماء في معنى: الصلاة على وقتها، على قولين:
فقيل: المعنى أداء الصلاة في الوقت سواء كان في أول الوقت أو وسطه أو آخره، بحيث لا يخرجها عن وقتها.
وقيل: أي في أول وقتها.
والصحيح الأول. [لوقتها] أي أدائها في الوقت، ونأخذ أفضلية أول الوقت من أدلة أخرى.
وقد جاء في رواية (أَفْضَلُ اَلْأَعْمَالِ اَلصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وضعف بعض العلماء هذه الرواية.
وأما الأدلة الخاصة على استحباب الصلاة في أول الوقت:
صلاة الفجر.
أ-عن جابر قال (كَانَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَس) متفق عليه.
ب- وعن عَائِشَة. قالت (لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَس) متفق عليه.
والغلس: قال النووي: هو بقايا ظلام الليل، قَالَ الدَّاوُدِيّ: مَعْنَاهُ مَا يُعْرَفْنَ أَنِسَاء هُنَّ أَمْ رِجَال.
وقال في سبل السلام: الغَلَس: ظلمة آخر الليل، كما في القاموس، وهو أول الفجر.
وقال الشيخ الفوزان: هو اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل مع غلبة الظلمة.
قال ابن قدامة: وَأَمَّا صَلاةُ الصُّبْحِ فَالتَّغْلِيسُ بِهَا أَفْضَلُ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِك.
صلاة الظهر.
عن جابر بن سمرة. قال (كَانَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْر إِذَا دَحَضَتْ الشَّمْس) رواه مسلم.
(دَحَضَتْ) هُوَ بِفَتْحِ الدَّال وَالْحَاء أَيْ إِذَا زَالَتْ.
قال النووي: وَفِيهِ: دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب تَقْدِيمهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ.
صلاة العصر.
تقدم حديث أبي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيَ اَلْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ) متفق عليه.
وعن بُرَيْدَة. عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ «صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ». يَعْنِى الْيَوْمَيْنِ فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالاً فَأَذَّنَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ) رواه مسلم.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَة) رواه مسلم.
وعَنه قَالَ (كُنَّا نُصَلِّى الْعَصْرَ ثُمَّ يَخْرُجُ الإِنْسَانُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَيَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ) رواه مسلم.
قال النووي: وَالْمُرَاد بِهَذِهِ الْأَحَادِيث وَمَا بَعْدهَا الْمُبَادَرَة لِصَلَاةِ الْعَصْر أَوَّل وَقْتهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن أَنْ يَذْهَب بَعْد صَلَاة الْعَصْر مِيلَيْنِ وَثَلَاثَة وَالشَّمْس بَعْدُ لَمْ تَتَغَيَّر بِصُفْرَةٍ وَنَحْوهَا إِلَّا إِذَا صَلَّى الْعَصْر حِين صَارَ ظِلّ الشَّيْء مِثْله، وَلَا يَكَاد يَحْصُل هَذَا إِلَّا فِي الْأَيَّام الطَّوِيلَة. وَقَوْله: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْر، ثُمَّ يَخْرُج الْإِنْسَان إِلَى بَنِي عَمْرو بْن عَوْف فَيَجِدهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْر.
قَالَ الْعُلَمَاء: مَنَازِل بَنِي عَمْرو بْن عَوْف عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْمَدِينَة، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى الْمُبَالَغَة فِي تَعْجِيل صَلَاة رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ صَلَاة بَنِي عَمْرو فِي وَسَط الْوَقْت، وَلَوْلَا هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّة، وَلَعَلَّ تَأْخِير بَنِي عَمْرو لِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَهْل أَعْمَال فِي حُرُوثِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَحَوَاطِيهِمْ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ أَعْمَالهمْ تَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ وَغَيْرهَا ثُمَّ اِجْتَمَعُوا لَهَا، فَتَتَأَخَّر صَلَاتهمْ إِلَى وَسَط الْوَقْت لِهَذَا الْمَعْنَى. (شرح مسلم).
وقال في المجموع: وأما العصر فتقديمها في أول الوقت أفضل، وبه قال جمهور العلماء.
صلاة المغرب.
أ-عن سلَمة بن الأكوع (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب) متفق عليه.
(قال النووي: اللَّفْظَانِ بِمَعْنًى، وَأَحَدهمَا تَفْسِير لِلْآخَرِ).
ب-وعن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ (كُنَّا نُصَلِّي اَلْمَغْرِبَ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
قال النووي: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُبَكِّر بِهَا فِي أَوَّل وَقْتهَا بِمُجَرَّدِ غُرُوب الشَّمْس، حَتَّى نَنْصَرِف وَيَرْمِي أَحَدنَا النَّبْل عَنْ قَوْسه وَيُبْصِر لِبَقَاءِ الضَّوْء.
وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْمَغْرِب تُعَجَّل عَقِب غُرُوب الشَّمْس وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ. (نووي).
وقال في العمدة: معنى الحديث، أنه يبكّر بالمغرب في أول وقتها بمجرد غروب الشمس، حتى ينصرف أحدنا، ويرمى النبل عن قوسه، ويبصر موقعه لبقاء الضوء.
ج- وروى أحمد من طريق علي بن بلال، عن ناس من الأنصار، قالوا (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم نرجع فنترامى، حتى نأتي ديارنا، فما يخفى علينا مواقع سهامنا).
قال الحافظ ابن حجر: ومقتضاه المبادرة بالمغرب في أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باق.
وقال ابن رجب بعد ذكره لعدة أحاديث في ذلك: وهذا كله يدل على شدة تعجيل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة المغرب، ولهذا كانت تسمى صلاة البصر، كما خرجه الإمام أحمد من رواية أبي طريف الهذلي قال (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء خبر أهل الطائف، فكان يصلي بنا صلاة البصر، حتى لو أن رجلاً رمي لرأى موقع نبله) قال الإمام أحمد: صلاة البصر: هي صلاة المغرب.
(إلا العشاء إذا لم يشق).
أي: إلا العشاء فيستحب تأخيرها إذا لم يشق على الناس.
أ- لحديث أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيَ اَلْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَكَانَ يسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ اَلنَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا .... ) متفق عليه.
ب- وعن جابر. قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا
وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ كَانَ إِذَا رَآهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ وَالصُّبْحَ كَانُوا أَوْ - قَالَ - كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ) متفق عليه.
ج- وعن عائِشَةَ قَالَتْ (أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فَقَالَ «إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى) متفق عليه.
…
قوله [إنه لوقتها] أي: الفاضل.
قال النووي: وقوله [حتى ذهب عامة الليل] أَيْ كَثِير مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَكْثَره، وَلَا بُدّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيل لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّهُ لَوَقْتُهَا) وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهَذَا الْقَوْل مَا بَعْد نِصْف اللَّيْل؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء: إِنَّ تَأْخِيرهَا إِلَى مَا بَعْد نِصْف اللَّيْل أَفْضَل.
د- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ (مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا نَدْرِى أَشَيْءٌ شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَقَالَ حِينَ خَرَجَ: إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى) رواه مسلم.
هـ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعِشَاءِ. فَخَرَجَ عُمَرُ، فَقَالَ: الصَّلاةُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ يَقُولُ: لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي - أَوْ عَلَى النَّاسِ - لأَمَرْتُهُمْ بِهَذِهِ الصَّلاةِ هَذِهِ السَّاعَةِ) متفق عليه.
لكن هذا مقيد بما لم يشق على الناس:
لحديث جابر السابق (
…
وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا: إِذَا رَآهُمْ اِجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ).
ولذلك الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء أنه يراعي اجتماع الناس فإذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطئوا تأخر.
وفي حديث عائشة السابق (أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فَقَالَ: إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي).
•
والسبب في أن تأخير العشاء أفضل:
أولاً: أن فيه انتظاراً للصلاة، وفي الحديث (ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة).
ثانياً: أن تأخيرها يوافق سكون الناس وهذا أدعى إلى الخشوع.
• قوله في الحديث (وَكَانَ يَكْرَهُ اَلنَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) فيه دليل على كراهة النوم قبل صلاة العشاء.
قال النووي: قال العلماء: وسبب كراهية النوم قبلها أنه يعرضها لفوات وقتها باستغراق النوم، أو لفوات وقتها المختار والأفضل، ولئلا يتساهل الناس في ذلك فيناموا عن صلاتها جماعة.
وفيه دليل أيضاً على كراهة الحديث بعدها.
قال العلماء: والمكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها (نووي).
والسبب: أنه يؤدي إلى السهر، ويخاف فيه غلبة النوم عن صلاة الفجر، أو قيام الليل، ولأن السهر بالليل سبب للكسل في النهار عما يتوجب من حقوق الوالدين من الطاعات ومصالح الدين.
• يستثنى: ما فيه مصلحة وخير، فلا كراهة فيه، كمدارسة العلم، وحكايات الصالحين، ومحادثة الضيف، والعروس للتأنيس. [قاله النووي].
ولذلك بوب البخاري [باب السهر في الفقه والخير بعد العشاء].
ثم ذكر حديث ابن عمر قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتكم ليلتكم
…
).
وبوب أيضاً [باب السهر مع الضيف والأهل].
وذكر حديث أبي بكر مع أضيافه.
وقد روى الترمذي من حديث عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهر هو وأبو بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معهما).
• المراد في الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم (وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) الحديث المباح، لأن المحرّم لا اختصاص لكراهته بما بعد صلاة العشاء، بل هو
حرام في الأوقات كلها.
و- قوله في حديث أبي برزة (الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ) اختلف العلماء في تسمية العشاء بالعتمة على أقوال:
القول الأول: الجواز.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً) متفق عليه.
القول الثاني: الكراهة.
لحديث ابن عُمَرَ. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ أَلَا إِنَّهَا الْعِشَاءُ وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالإِبِلِ) رواه مسلم
القول الثالث: الجواز بشرط عدم هجران الاسم الشرعي وهو العشاء، ورجح هذا ابن القيم.
قال ابن القيم: والتحقيق: كراهية هجر الاسم المشروع وهو العشاء، والاستبدال به اسم العتمة، فأما إذا كان المستعمل هو الاسم الشرعي ولم يهجر، وأطلق الآخر أحياناً فلا بأس وعلى هذا تتفق الأحاديث. [تحفة الودود 99]
قال الحافظ ابن حجر: واختلف السلف في ذلك فمنهم من كرهه كابن عمر راوي الحديث، ومنهم من أطلق جوازه نقله بن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق وغيره، ومنهم من جعله خلاف الأولى وهو الراجح وسيأتي للمصنف وكذلك نقله بن المنذر عن مالك والشافعي واختاره.
وقال النووي: وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة تَسْمِيَتهَا بِالْعَتَمَةِ كَحَدِيثِ (لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْح وَالْعَتَمَة لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) وَغَيْر ذَلِكَ. وَالْجَوَاب عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدهمَا: أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَأَنَّ النَّهْي عَنْ الْعَتَمَة لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: يَحْتَمِل أَنَّهُ خُوطِبَ بِالْعَتَمَةِ مَنْ لَا يَعْرِف الْعِشَاء فَخُوطِبَ بِمَا يَعْرِفهُ، وَاسْتَعْمَلَ لَفْظ (الْعَتَمَة)؛ لِأَنَّهُ أَشْهَر عِنْد الْعَرَب.
(والظهر في شدة الحر).
أي: وإلا الظهر، فيسن تأخيرها في شدة الحر.
لحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا اِشْتَدَّ اَلْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ اَلْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه. (فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ): أي: أخروها حتى يبرد الجو، قال الخطابي: الإبراد: انكسار شدة حر الظهيرة، قال النووي: أَيْ أَخِّرُوهَا إِلَى الْبَرْد وَاطْلُبُوا الْبَرْد لَهَا.
(مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) جملة تعليلية لمشروعية التأخير المذكور، وفيح جهنم: أي من وهج حرها وسعة انتشارها.
• المراد بالصلاة في قوله في الحديث (فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ) صلاة الظهر.
أ- لأنها الصلاة التي يشتد الحر غالباً في أول وقتها.
ب-وقد ورد صريحاً في حديث أبي سعيد (أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم) رواه البخاري.
قال النووي: وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِبْرَاد إِنَّمَا يُشْرَع فِي الظُّهْر، وَلَا يُشْرَع فِي الْعَصْر عِنْد أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء إِلَّا أَشْهَب الْمَالِكِيّ، وَلَا يُشْرَع فِي صَلَاة الْجُمُعَة عِنْد الْجُمْهُور. وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يُشْرَع فِيهَا.
وقال الحافظ ابن حجر: ولم يقل أحد به في المغرب، ولا في الصبح، لضيق وقتهما.
•
إلى متى يكون الإبراد؟
قال الشيخ ابن عثيمين: الإبراد لا يتحقق إلا إذا أُخّرتْ صلاة الظهر إلى قريب من صلاة العصر، لأنه حينئذ يحصل الإبراد، أما ما يفعله الناس من كونهم يبردون بها فيؤخّرونها بعد الأذان بنصف ساعة أو إلى ساعة أحياناً، فهذا ليس بإبراد.
• قوله صلى الله عليه وسلم (فإن شدة الحرّ من فيح جهنم) اختلف في معناها.
فقيل: أن في الكلام تشبيهاً، والمعنى أن شدة الحر تشبه نار جهنم، وهذا ضعيف.
وقيل أن الشمس هي شعلة من النار أخرجها الله منها شرارة ثم استقرت في المكان الذي هي فيه لمصلحة العباد.
وقيل: إن لشدة الحر سببين: سبب شرعي: فهو من حر جهنم، وسبب طبيعي: من الشمس.
وهذا هو الصحيح وأنه على ظاهره.
ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) متفق عليه.
والمراد بالزمهرير: شدة البرد، واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال؛ لأن المراد بالنار: محلها، وفيها طبقة زمهريرية. (فتح الباري).
•
الحكمة من الإبراد:
اختلف في حكمة هذا التأخير.
فقيل: دفع المشقة، لكون شدة الجر مما يذهب الخشوع. قال الحافظ رحمه الله: وهذا أظهر.
وقيل: لأنه وقت تُسْجَرُ فيه جهنم، ويؤيده حديث عمرو بن عَبَسَةَ عند مسلم، حيث قال له:"أقْصِرْ عن الصلاة عند استواء الشمس، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم". وقد استُشْكلَ هذا بأن الصلاة سبب الرحمة، ففعلها مَظِنَّةٌ لطرد العذاب، فكيف أَمر بتركها؟
وقال ابن رجب: اختلف في السبب الذي من أجله أمر بالإبراد:
فمنهم من قال: هو حصول الخشوع فيها، فلا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة.
ومنهم من قال: هو خشية المشقة على من بَعُدَ من المسجد بمشيه في الحرّ.
ومنهم من قال: هو وقت تنفس جهنم، فلا فرق بين من يصلي وحده أو جماعة.
• فإن قيل: ما الجمع بين حديث الإبراد وحديث جابر (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة)؟
أجيب عنه بأجوبة لعل من أظهرها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها أولاً بالهاجرة ثم أمر بالإبراد بعد ذلك، وهذا جواب الإمام أحمد، فإنه قال (هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويدل لذلك حديث المغيرة بن شعبة قال (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهاجرة، فقال لنا صلى الله عليه وسلم: أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم).
• فإن قيل: ما الجواب عن حديث خباب قال (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا، أي لم يعذرنا ولم يزل شكوانا) رواه مسلم.
الجواب عليه:
قيل: إنه منسوخ، وهذا ذهب إليه الأثرم والطحاوي.
واستدل له الطحاوي بحديث المغيرة بن شعبة قال (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا أبردوا بالصلاة .... الحديث) وهو حديث رجاله ثقات رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان، ونقل الخلال عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الفتح).
ومما يدل على النسخ حديث المغيرة: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبراد.
وقيل: إن قوله (فلم يشكنا) أي فلم يحوجنا إلى شكوى بل أذن لنا في الإبراد.
وقيل: إن حديث خباب محمول على أنهم طلبوا تأخيراً زائداً على وقت الإبراد.
وقيل: إن الإبراد أفضل، وحديث خباب يدل على الجواز.
(ومن كبّر للصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها).
أي: أن إدراك الوقت يحصل بإدراك تكبيرة الإحرام.
وهذا المشهور من مذهب الحنابلة.
قالوا: لأن من أدرك تكبيرة الإحرام أدرك جزءاً من الوقت، وإدراك الجزء كإدراك الكل، لأن الصلاة لا تتبعض.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الوقت لا يدرك إلا بإدراك ركعة قبل خروج الوقت.
أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) متفق عليه.
ب- وعنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَدْرَكَ مِنْ اَلصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلِ أَنْ تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ اَلصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ اَلْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ اَلشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ اَلْعَصْرَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه
ومفهوم الحديث أن من أدرك أقل من ركعة ثم طلعت عليه الشمس أو غربت أنه لا يكون مدركاً للوقت.
وهذا قول الشافعي واختار ذلك ابن تيمية.
• حديث (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) نص في جميع الإدراكات، سواء إدراك وقت، أو إدراك جماعة.
قال ابن تيمية: إن قدر التكبيرة لم يعلق به الشارع شيئاً من الأحكام لا في الوقت ولا في الجمعة ولا الجماعة ولا غيرها، فهو وصف ملغي في نظر الشارع فلا يجوز اعتباره، وإنما علق الشارع الأحكام بإدراك ركعة.
وهذا القول هو الراجح.
•
وينبني على القولين أمور منها:
أولاً: أن المرأة الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس بقدر تكبيرة الإحرام فإن صلاة العصر تلزمها، وعلى القول الصحيح أنها تلزمها إذا كان هناك وقت يتسع لغسلها وتأدية ركعة كاملة من الصلاة.
ثانياً: أن المرأة إذا حاضت قبل غروب الشمس ولو بقدر تكبيرة الإحرام فإنها تلزمها الصلاة إذا طهرت، لأنها أدركت مقدار تكبيرة الإحرام في الوقت، وعلى القول الصحيح أنها لا تلزمها.
(ومن حاضت بعد دخول الوقت قضتها).
أي: إذا حاضت المرأة بعد دخول الوقت، فإنه يجب عليها قضاء الصلاة بعد طهرها.
وكذا لو أن عاقلاً بالغاً جنّ بعد دخول الوقت، أو أغمي عليه بعد دخول الوقت، فإنه يجب أن يقضي الصلاة بعد زوال هذا العذر.
لكن اختلف العلماء متى تكون واجباً عليه القضاء على أقوال:
القول الأول: إن أدرك ولو قدر تكبيرة الإحرام قبل أن يطرأ العذر وجبت الصلاة في ذمته.
وهذا المذهب. تعليلهم:
أ-أنه أدرك جزءاً من الصلاة، والصلاة لا تتجزأ، فيكون كما لو كان أدركها كاملة.
ب-وقالوا: إن الصلاة وجبت بدخول وقتها، والأصل عدم سقوطها فيجب عليه القضاء.
القول الثاني: إن أدرك من الصلاة ركعة قضى.
لحديث النبي صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) متفق عليه.
القول الثالث: لا يلزمه القضاء إلا إذا بقي من وقت الصلاة بمقدار فعل الصلاة، حينئذٍ يلزم القضاء.
وهذا مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
قالوا: إن الإنسان له أن يؤخر هذه الصلاة، فإذا طرأ المانع فقد طرأ عليه في وقت يجوز له تأخيرها إليه، وهو غير مفرط ولا معتدي، بل فاعل ما يجب عليه، ولأن هذا يقع كثيراً في حيض النساء، ولم ينقل أن المرأة إذا حاضت في أثناء الوقت ألزمت بقضاء الصلاة التي حاضت في أثناء وقتها، والأصل براءة الذمة.
والقول الثاني أصح، وهو أحوط واختاره الشيخ ابن عثيمين.
(ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمته).
كامرأة زال حيضها وطهرت قبل خروج الوقت، أو بلغ قبل خروج الوقت، أو زال الإغماء قبل خروج الوقت.
فهنا يلزمه تلك الصلاة.
لكن اختلف العلماء متى تكون واجبة عليه على أقوال:
القول الأول: أن من أدرك قدر تكبيرة الإحرام قضى الصلاة.
وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد.
وعلى هذا القول لو طهرت الحائض قبل غروب الشمس بدقيقة فإنها تقضي.
لحديث عائشة قال: قال صلى الله عليه وسلم (من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها) رواه مسلم.
قالوا: الحديث صريح على أن من أدرك من الصلاة جزءاً يسيراً - كسجدة ونحوها - فقد أدركها، فكذلك من أدرك منها تكبيرة الإحرام، فإنه تلزمه لأنه أدرك وقتها.
القول الثاني: أن من الصلاة قدر ركعة قبل خروج الوقت فإنه يلزمه.
وهذا مذهب المالكية ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
لحديث أبي هريرة السابق (من أدرك من العصر
…
).
ولحديث (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة).
وجه الدلالة: أن مفهوم الحديثين يدل على أن من أدرك أقل من ركعة لم يدرك الصلاة، وهذا عام يشمل إدراك الوقت والجماعة والجمعة، فمن طرأ عليه التكليف قبل خروج الوقت بركعة فقد أدرك الصلاة فتلزمه وإلا فلا.
وهذا الصحيح.
وأما دليل القول الأول، فالجواب عنه: أن المراد بالسجدة هنا الركعة، فقد جاء في آخر حديث عائشة (والسجدة إنما هي الركعة).
(وما يُجمع إليها قبلَها).
أي: ولزمه ما يُجمع إليها قبلها.
فلو أن حائضاً طهرت العصر، فإنه يجب عليها أن تصلي العصر والظهر.
ولو طهرت العشاء، فإنه يجب عليها أن تصلي العشاء والمغرب.
يلزمها أن تصلي العشاء لأنها أدركت وقتها، وكذلك يلزمها أن تصلي المغرب؛ لأنها تُجمع مع العشاء عند وجود العذر.
وهذا قول جمهور العلماء.
وأما إذا طهرت بعد الصبح أو بعد الظهر أو بعد المغرب فإنه لا تصلي إلا صلاة واحدة، وهي الصلاة التي طهرت في وقتها:
(الصبح أو الظهر أو المغرب)؛ لأن هذه الصلوات لا تُجمع إلى شيء قبلها.
قال ابن قدامة: وَإِذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، صَلَّوْا الظُّهْرَ فَالْعَصْرَ، وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَطَهُرَتْ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، صَلَّوْا الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ.
وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَامَّةُ التَّابِعِينَ يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، إلَّا الْحَسَنَ وَحْدَهُ قَالَ: لَا تَجِبُ إلَّا الصَّلَاةُ الَّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا وَحْدَهَا.
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
لِأَنَّ وَقْتَ الْأُولَى خَرَجَ فِي حَالِ عُذْرِهَا، فَلَمْ تَجِبْ كَمَا لَوْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا.
أ-وَلَنَا مَا رَوَى الْأَثْرَمُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمَا، بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ: تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا.
ب- وَلِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلْأُولَى حَالَ الْعُذْرِ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ الْمَعْذُورُ لَزِمَهُ فَرْضُهَا، كَمَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الثَّانِيَةِ. (المغني).
(وَيَجِبُ قضاءُ الفَوَائِتِ مرتبة فوراً).
قوله (ويجب) الواجب: ما أُمِرَ به على وجه الإلزام بالفعل.
وقوله: (قضاء الفوائت) الفوائت جمع فائتة، وهي كلُّ عبادة مُؤقَّتة خرج وقتها قبل فعلها؛ سواء كانت نَفْلاً أم فرضاً كالصَّلوات الخمس.
وقوله (فوراً) أي: مبادرة بدون تأخير.
•
مباحث قضاء الفوائت:
أولاً: الفائتة كل عبادة خرجت عن وقتها سواء كانت نفلاً كالوتر، أو فرضاً كالصلوات الخمس.
وسمي قضاءً لأنه فعل العبادة بعد خروج وقتها.
•
فيجب قضاء الصلاة الفائتة:
أ-لحديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) متفق عليه.
واللام للأمر والأمر للوجوب، فدل على وجوب المبادرة بقضاء الصلاة الفائتة. وربما يستدل لذلك بقوله تعالى (وأقم الصلاة لذكري) أي لتذكري.
ب- ولحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ) متفق عليه.
ج- ولأن هذا الإنسان الذي فاتته العبادة شغلت ذمته بها فوجب عليه قضاؤها، لأنها كانت ديناً عليه.
هـ-والنبي صلى الله عليه وسلم قضى صلاة الفجر حين نام عنها في السفر.
قال الشوكاني: الحديثان يدلان على وجوب فعل الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان، وهو إجماع.
• قوله (مرتبة) أي: يجب أن تكون مرتبة.
فإذا كان عليه خمس صلوات؛ بدأ بالظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر.
قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن الترتيب واجب في قضاء الفوائت.
نص عليه أحمد في مواضع
…
ونحوه عن النخعي، والزهري، وربيعة، ويحيى الأنصاري، ومالك، والليث، وأبي حنيفة، وإسحاق.
وقال الشافعي: لا يجب; لأن قضاء الفريضة فائتة، فلا يجب الترتيب فيه، كالصيام
…
إذا ثبت هذا، فإنه يجب الترتيب فيها وإن كثرت، وقد نص عليه أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يجب الترتيب في أكثر من صلاة يوم وليلة; ولأن اعتباره فيما زاد على ذلك يشق، ويفضي إلى الدخول في التكرار، فسقط، كالترتيب في قضاء صيام رمضان.
…
(المغني).
فتحصل من ذلك أن الترتيب واجب عند الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة، إلا أن الحنفية والمالكية لا يوجبونه إذا زادت الفوائت على صلوات يوم وليلة.
والدليل على وجوب ذلك:
أ- حديث أنس السابق: (
…
فليصلها إذا ذكرها) فهذا يشمل عين الصلاة وكيفية الصلاة، وكذلك يشمل مكان الصلاة، وإذا شمل مكانها لزم أن يكون في موضعها الترتيبي، فمثلاً الظهر يصليها ما بين الفجر والعصر
ب- ولحديث جابر السابق (فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى، يَعْنِي الْعَصْرَ - بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ ثمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ).
ج- وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الجمع يجمع بين الصلاتين، فيبدأ بالأولى. ويمكن أن يستدل بحديث (صلوا كما رأيتموني أصلي).
• ويجب الترتيب بين الفوائت والصلاة الحاضرة.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْوَقْتِيَّةِ إِذَا اتَّسَعَ الْوَقْتُ. فَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ أَوْ صَلَوَاتٌ وَهُوَ فِي وَقْتِ أُخْرَى، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ مُرَتَّبَةً، ثُمَّ يُؤَدِّيَ
الصَّلَاةَ الْوَقْتِيَّةَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا لَا يَتَّسِعُ لأِكْثَرَ مِنَ الْحَاضِرَةِ فَيُقَدِّمُهَا، ثُمَّ يَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ، عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ يَسِيرِ الْفَوَائِتِ مَعَ صَلَاةٍ حَاضِرَةٍ، وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُهَا.
• قوله (فوراً) أي: يجب قضاء الفائتة مباشرة من حين أن يتذكرها.
لحديث أنس السابق (
…
فليصلها إذا ذكرها)، فهذا يدل على أنها تقضى فور الذكر.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة:
فذهب بعض العلماء - وهو الصحيح عند الشافعية - أن من فاتته الصلاة لعذر يقضيها على التراخي ويستحب أن يقضي على الفور.
وذهب الجمهور إلى وجوب القضاء على الفور بكل حال إلا أن يتضرر بالقضاء، فيؤخر بما لا يحصل له به ضرر.
قال في (حاشية الروض المربع) أي: يجب قضاء الفوائت فوراً، والفور مصدر مأخوذ من فور القدر، وذلك ما لم يتضرر في بدنه، والتضرر أن يلحقه مشقة، أو نقص في بدنه بضعف أو خوف أو مرض أو نصب أو إعياء، وهو أقل من النصب لأن النصب هو التعب، فتسقط عنه الفورية إلى القدرة بلا ضرر، والمريض يقضيها وإن كان جالساً، ما لم يتضرر ولا يؤخرها ليصلي قائماً.
وقال: أي يجب في أول الإمكان بحيث يلحقه الإثم بالتأخير عنه قضاء الفرائض الفوائت ما لم يلحقه ضرر، لقوله صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ولغيره من الأحاديث المستفيضة في الأمر بالصلاة عند الذكر والأمر يقتضي الوجوب، فتجب المبادرة إلى فعلها على الفور وهو قول جمهور الفقهاء،
…
وحجة من رأى التأخير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في المكان الذي ناموا فيه، وهو لا يدل إلا على التأخير اليسير الذي لا يصير صاحبه مهملاً معرضًا عن القضاء، بل يفعله لتكميل الصلاة، ومن اختيار بقعة. (الحاشية).
فإن قال قائل: ما الجواب عن الحديث الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نام وأصحابه عن صلاة الفجر ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس، فلم يصلها صلى الله عليه وسلم مباشرة بل قال (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) وفي رواية:(أمر بالارتحال وقال: فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان).
والجواب: أن هذا ليس فيه دلالة على التأخير المستمر، لأن حديث أنس: (من نام عن صلاة
…
) نص صريح في الوجوب على الفور، وأما هذا الحديث فمحمول على التأخير اليسير الذي لا يصير صاحبه مهملاً معرضاً عن القضاء، وخاصة أنه جاء في الحديث بيان السبب، هو:(أن هذا مكان حضرنا فيه الشيطان).
قال المرداوي: قوله (لزمه قضاؤها على الفور) مقيد بما إذا لم يتضرر في بدنه أو في معيشة يحتاجها؛ فإن تضرر بسبب ذلك: سقطت الفورية.
•
متى يسقط الترتيب؟
أولاً: في حالة النسيان.
مثال: إنسان عليه قضاء صلاة الظهر والعصر والمغرب، فبدأ بالعصر نسياناً صح القضاء.
لقوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).
ولقوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) رواه ابن ماجه.
وهو مذهب الإمامين أبي حنيفة وأحمد رحمه الله.
ثانياً: الجهل.
مثال: إنسان عليه عدة صلوات فائتة، فبدأ بالظهر ثم المغرب ثم العصر ثم العشاء ثم الفجر جاهلاً بذلك فقضاؤه صحيح.
ثالثاً: إذا خشي خروج وقت الحاضرة.
مثال: رجل ذكر أن عليه فائتة، وقد بقي على طلوع الشمس ما لا يتسع لصلاة الحاضرة [صلاة الفجر].
فنقول له: قدم الحاضرة وهي الفجر. ثم بعد ذلك صلِ الفائتة.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: لأنك إذا قدمت الفائتة لم تستفد شيئاً، بل تضررت، لأنك إذا قدمت الفائتة صارت كلتا
الصلاتين قضاء، وإذا بدأت بالحاضرة صارت الحاضرة أداء والثانية قضاء، وهذا أولى بلا شك.
•
حكم من نسي صلاة ثم تذكرها وهو يصلي:
من نسي الصلاة حتى دخل وقت الصلاة الثانية، ثم ذكرها فله ثلاثة أحوال:
أولاً: أن يتذكر الصلاة الفائتة قبل أن يبدأ في الصلاة الحاضرة، فيجب عليه حينئذٍ أن يبدأ بالصلاة الفائتة، ثم يُصلي الصلاة الحاضرة.
ثانياً: أن يصلي الصلاة الحاضرة ويتمها ثم يتذكر أن عليه صلاة فائتة لم يصلها، فإن الصلاة الحاضرة صحيحة ويصلي الصلاة الفائتة فقط. وهو معذور في عدم الترتيب بالنسيان.
ثالثاً: أن يتذكر أثناء الصلاة الحاضرة أنه لم يصلِّ الصلاة السابقة (الفائتة).
فإنه يتم الحاضرة وتكون نفلاً، ثم يصلي الفائتة، ثم يعيد بعدها الحاضرة محافظة على الترتيب.
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
وهو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
روى مالك في الموطأ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلا وَهُوَ مَعَ الإِمَامِ، فَإِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ فَلْيُصَلِّ الصَّلاةَ الَّتِي نَسِيَ ثُمَّ لِيُصَلِّ بَعْدَهَا الأُخْرَى.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (ومتى ذكر الفائتة في أثناء الصلاة كان كما لو ذكر قبل الشروع فيها، ولو لم يذكر الفائتة حتى فرغت الحاضرة فإن الحاضرة تجزئة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد
…
).
(وكونه يتم الصلاة التي هو فيها على سبيل الاستحباب لا الوجوب، فإذا قطعها ثم صلى الصلاة الفائتة ثم الحاضرة بعدها كان ذلك جائزاً).
وذهب بعض العلماء إلى أنه يتم الصلاة (الحاضرة) التي هو فيها ثم يصلي الفائتة، ولا يلزمه إعادة الحاضرة مرة أخرى.
وهو مذهب الشافعي، واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
• الصلاة الفائتة تقضى على صفتها.
لأن القضاء يحكي الأداء.
أ-ففي حديث - نوم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة عن صلاة الفجر - قال (فصلى الغداة فصنع كما يصنع كل يوم) رواه مسلم.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فقوله (فليصلها) يشمل فعل الصلاة وكيفيتها.
فإذا قضى صلاة الليل في النهار جهر بها بالقراءة، وإذا قضى صلاة نهار في ليل أسر فيها بالقراءة.
قال النووي: قَوْله: (كَمَا كَانَ يَصْنَع كُلّ يَوْم) فِيهِ: إِشَارَة إِلَى أَنَّ صِفَة قَضَاء الْفَائِتَة كَصِفَةِ أَدَائِهَا.
وقد سئل الشيخ ابن باز: من فاتته صلاة الفجر، فصلاها بعد طلوع الشمس، هل يسر بصلاته أم يجهر بها؟
فأجاب رحمه الله: يجهر، إذا صلاها بعد طلوع الشمس يجهر بها، النبي صلى الله عليه وسلم، لما نام هو أصحابه عن صلاة الفجر في بعض الليالي في بعض الأسفار صلاها بعد ارتفاع الشمس، وجهر بالقراءة عليه الصلاة والسلام، فالسنة الجهر بالقراءة، القضاء يحكي الأداء " انتهى من " فتاوى نور على الدرب لابن باز.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " وقوله: (قضاء الفوائت) يستفاد منه أنه يقضي الصلاة الفائتة على صفتها؛ لأن القضاء يحكي الأداء، هذه القاعدة المعروفة، فعلى هذا إذا قضى صلاة ليل في النهار، جهر فيها بالقراءة، وإذا قضى صلاة نهار في ليل أسر فيها بالقراءة، والدليل على ذلك ما يلي: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)، فكما أن الأمر عائد إلى ذات الصلاة، فهو عائد إلى صفة الصلاة أيضاً، ومن صفاتها الجهر بالقراءة إذا كانت الصلاة ليلية، والإسرار بالقراءة إذا كانت الصلاة نهارية
…
(الشرح الممتع).
(وستر العورة).
أي: ومن شروط الصلاة ستر العورة. (أي تغطية العورة).
قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عرياناً وهو قادر على الاستتار.
جاء في الموسوعة الفقهية: ستر العورة شرط من شروط صحة الصلاة، فلا تصح الصلاة إلا بسترها، وقد اتفق الفقهاء على بطلان صلاة من كشف عورته فيها قصداً، واختلفوا فيما لو انكشفت بلا قصد متى تبطل صلاته.
قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
فالآية تدل على وجوب ستر العورة في الصلاة، لأن الله تعالى أمر بأخذ الزينة، وهي الثياب الساترة للعورة عند كل صلاة، والأمر يقتضي الوجوب، فدل ذلك على أن ستر العورة في الصلاة شرط لا تصح إلا به.
وهذه الآية وإن كانت نزلت في شأن الطواف بالبيت عراة كما كانت العرب تفعله في الجاهلية، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ب- حديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَصِيدُ أَفَأُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قالَ: نَعَمْ وَازْرُرْهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ) رواه أبو داود.
فهذا الحديث يدل على أن ستر العورة في الصلاة شرط، لأن أمره صلى الله عليه وسلم له بزرهِ ولو بشوكة إنما هو خشية انكشاف العورة، ولولا أنها شرط ما أمره بذلك.
ج- حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب عام حجة الوداع أن يؤذّن في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان).
وجه الدلالة: أن الطواف إذا مُنِع فيه من التعري فالصلاة أولى، إذ يشترط فيها ما يشترط في الطواف وزيادة.
والزينة المأمور بأخذها عند الصلاة قسمان:
زينة واجبة: هي ستر العورة كما سيأتي، وزينة مستحبة: وهي ستر ما زاد على العورة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به). متفق عليه
(بِثَوْبٍ مُبَاحٍ).
أي: بشرط أن يكون الثوب الساتر مباحاً، فلا يجوز أن يكون محرماً.
والمحرم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
محرم لعينه: كما لو صلى بثوب حرير [ومن المعلوم أن الحرير حرام للرجال] فلا تصح صلاته.
محرم لكسبه: كمن صلى بثوب مغصوب أو مسروق، فلا تصح صلاته.
محرم لوصفه: كمن صلى في ثوب مسبل.
وقد جاء في الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه) رواه أحمد وهو ضعيف
وذهب بعض العلماء إلى صحة الصلاة بالثوب المحرم مع الإثم، وهذا القول هو الصحيح.
لأن جهة الأمر والنهي مختلفة.
(لَا يَصِفُ اَلْبَشْرَةَ).
هذا الشرط الثاني للثوب الساتر، أن لا يصف البشرة، يعني لا يكون رقيقاً يصف البشرة، فإن كان رقيقاً يصف البشرة من احمرار أو اسوداد ونحو ذلك؛ فإنه لا يصح الستر به، لأنه لا يسمى ساتراً.
قال ابن قدامة: والواجب الستر بما يستر لون البشرة، فإن كان خفيفا يَبِينُ لونُ الجلد من ورائه فيعلم بياضه أو حمرته لم تجز الصلاة فيه؛ لأن الستر لا يحصل بذلك " انتهى.
وقال النووي: قال أصحابنا: يجب الستر بما يحول بين الناظر ولون البشرة، فلا يكفي ثوب رقيق يُشاهَد من ورائه سوادُ البشرة أو بياضُها " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين: إذا كان الثوب الذي على البدن يبين تماما لون الجلد فيكون واضحا، فإن هذا ليس بساتر، أما إذا كان يبين منتهى السروال من بقية العضو فهذا ساتر " انتهى.
ولأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار لم أرهما
…
نساء كاسيات عاريات) قال العلماء: يدخل في الكاسية العارية التي تلبس ثوباً تكتسي به لكنه عاري في نفس الوقت لخفته لكونه خفيفاً.
• ومن الشروط: أن يكون طاهراً، فإن كان نجساً فإنه لا تصح الصلاة به، لا لعدم الستر، ولكن لأنه لا يجوز حمل النجاسة في الصلاة.
وهذا أدلته أدلة اجتناب النجاسة، ومنها حديث أبي سعيد:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم بأصحابه، فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم، فلما سلم سألهم لماذا خلعوا نعالهم، قالوا: رأيناك خلعت نعالك فخلعنا نعالنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً). رواه أبو داود
(وَالْعَوْرَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ)
أي: أن العورة على أقسام ثلاثة: مغلظة، ومخففة، ومتوسطة.
وسيأتي ذكر هذه الأنواع إن شاء الله.
(مُغَلَّظَةٌ، وَهِيَ: عَوْرَةُ اَلْمَرْأَةِ اَلْحُرَّةِ اَلْبَالِغَةِ، فَجَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ فِي اَلصَّلَاةِ إِلَّا وَجْهَهَا).
هذا النوع الأول: وهي العورة المغلظة، وَهِيَ: عَوْرَةُ اَلْمَرْأَةِ اَلْحُرَّةِ اَلْبَالِغَةِ، فَجَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ فِي اَلصَّلَاةِ إِلَّا وَجْهَهَا)
وعورة المرأة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: شعرها.
يجب على المرأة أن تستر شعر رأسها في الصلاة إجماعاً.
نقله ابن قدامة في المغني، وأنه لو ظهر جميع شعر رأسها في الصلاة أنها تعيد هذه الصلاة، وكذلك رقبتها.
أ- لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى قبول صلاة المرأة إذا صلت مكشوفة الرأس إلا بخمار، وهذا يدل على وجوب ستر رأس المرأة في الصلاة، بل على اشتراطه، وإذا تقرر هذا الحكم في الرأس ففي البطن وغيره من سائر البدن أولى.
ب-ولحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) رواه الترمذي.
وجه الدلالة: أن قوله صلى الله عليه وسلم (المرأة عورة) يقتضي وجوب ستر جميع بدنها، وهو عام في الصلاة وفي غيرها، إلا أنه يستثنى الوجه في الصلاة فلا يجب ستره بالإجماع، وكذلك الكفان والقدمان لا يجب سترهما عند طائفة.
قال ابن قدامة: وأجمع أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها الإعادة.
فائدة: قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: إذَا انْكَشَفَ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ شَعْرِهَا وَبَدَنِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الْإِعَادَةُ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
ثانياً: وجهها.
وأما وجه المرأة الحرة في الصلاة؛ فقد أجمع العلماء على جواز كشفه.
وممن حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
وقال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم.
ثالثاً: الكفان والقدمان.
اختلف العلماء في حكم ستر المرأة لكفيها ويديها في الصلاة على أقوال:
القول الأول: لا يجب سترهما.
وهذا مذهب أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عثيمين.
أ-قالوا: وَالنِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ لَهُنَّ قُمَّصٌ وَكُنَّ يَصْنَعْنَ الصَّنَائِعَ والقمص عَلَيْهِنَّ فَتُبْدِي الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا إذَا عَجَنَتْ وَطَحَنَتْ وَخَبَزَتْ، وَلَوْ كَانَ سَتْرُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، كَذَلِكَ الْقَدَمَانِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْخِمَارِ فَقَطْ مَعَ الْقَمِيصِ فَكُنَّ يُصَلِّينَ بقمصهن وَخُمُرِهِنَّ. (مجموع الفتاوى).
ب-ولحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه
…
).
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكفين والقدمين يسجدان مع المصلي كما يسجد الوجه، ومن المعلوم أن المرأة لا يجب عليها أن تستر وجهها في الصلاة فكذلك كفاها وقدماها.
ج-ولأن القول بوجوب تغطية المرأة كفيها وقدميها في الصلاة فيه حرج كبير.
القول الثاني: لا يجوز للمرأة الحرة أن تكشف كفيها وقدميها.
وهذا مذهب الحنابلة.
لحديث ابن مسعود. قال: قال صلى الله عليه وسلم (المرأة عورة) رواه الترمذي.
وجه الدلالة: أنه يدل بعمومه على أن المرأة عورة كلها، لكن خرج منه الوجه بالإجماع.
القول الثالث: يجوز لها في الصلاة أن تكشف كفيها دون قدميها.
وهذا مذهب المالكية والشافعية، واختاره ابن جرير، وابن المنذر، والموفق، والمرداوي، وابن باز.
لقوله صلى الله عليه وسلم (المرأة عورة).
قالوا: إن قوله (عورة) يقتضي بعمومه ستر جميع بدنها، ويستثنى من ذلك ما دعت الحاجة إلى كشفه كالوجه والكفين، وأما ما عداه [ومن ذلك القدمان] فيبقى على العموم.
والراجح القول الأول.
وأما الحديث الأول (المرأة عورة) فالاستدلال به لا يصح، لأن الحديث فيه زيادة عند ابن خزيمة وهي (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) وهذا يدل على أن المرأة عورة خارج الصلاة عند الأجانب.
• وقوله (الحرة) خرج بذلك الأمة، فإن عورتها من السرة إلى الركبة، وهذا مذهب جماهير العلماء، ونقل بعض العلماء الإجماع على ذلك، فقد قال ابن قدامة:"وصلاة الأمة مكشوفة الرأس جائز لا نعلم أحداً خالف في هذا إلا الحسن البصري".
• وقوله (البالغة) تخرج غير البالغة، فهذه كلها عورة إلا الرأس والكفين والقدمين، فلها أن تصلي في ثوبها دون أن تستر رأسها ما دام أنها لم تبلغ لمفهوم حديث عائشة:(لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار).
(وَمُخَفَّفَة وَهِيَ: عَوْرَةُ اِبْنِ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى عَشْرٍ، وَهِيَ اَلْفَرْجَانِ)
هذا القسم الثاني، وهي العورة المخففة، وهي عَوْرَةُ اِبْنِ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى عَشْرٍ، وَهِيَ اَلْفَرْجَان.
أي: إذا ستر قُبُله ودُبُرَه فقد أجزأ السترُ، ولو كانت فخذيه بادية.
(وَمُتَوَسِّطَةٌ: وَهِيَ عَوْرَةُ مِنْ عَدَاهُمْ، مِنْ اَلسُّرَّةِ إِلَى اَلرُّكْبَةِ).
هذا القسم الثالث: وهي العورة المتوسطة، وهي عورة من عدا ما مضى، وهو الرجل من عشر فما فوق، فإن عورته من السرة إلى الركبة.
أولاً: لا خلاف بين العلماء في أن ما فوق سرة الرجل وما تحت ركبتيه ليس بعورة.
ثانياً: لا خلاف بينهم في أن القبل والدبر عورة.
ثالثاً: وإنما الخلاف فيما عدا الفرجين مما تحت السرة وفوق الركبة.
فذهب أكثر العلماء: من المالكية، والحنفية، والشافعية، والحنابلة إلى أن الفخذ عورة.
أ-عن جرهد الأسلمي (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ به وهو كاشف عن فخذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غط فخذك فإنها من العورة) رواه أبو داود والترمذي
ب-وعن محمد بن جحش قال (مرّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه - على معْمر وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا معمر، غط فخذيك فإن الفخذين عورة) رواه أحمد والبخاري تعليقاً.
ج-وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت) رواه أبو داود.
وهذه الأحاديث صححها جمع من العلماء: كابن حبان، والحاكم، والذهبي، وابن حجر، والألباني.
وذهب بعض العلماء: إلى أن عورة الرجل الفرجان فقط.
وهذا مذهب الظاهرية.
أ-لحديث أَنَسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ قَالَ فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ وَأَنَا رَدِيفُ أَبِى طَلْحَةَ فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَانْحَسَرَ الإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي لأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
…
) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن الفخذ ليس بعورة، إذ لو كانت عورة ما كشفها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب-ولحديث عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَوَّى ثِيَابَهُ
…
فلما خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: أَلَا أَسْتَحِى مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِى مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ) رواه مسلم.
وأجاب جمهور العلماء عن هذين الحديثين بما يلي:
أما حديث أنس:
قالوا: إن الحديث محمول على أن الإزار انكشف وانحسر بنفسه، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد كشفه، بل انكشف لضرورة الإغارة والجري والزحام، وعلى هذا تدل رواية مسلم:(فانحسر الإزار).
والرد على هذا:
قال ابن حجر: لا فرق بين الروايتين: (حسر، وانحسر) في الدلالة على الحكم، فعلى التسليم يكون قد انحسر بنفسه فإن بقاءه مكشوفاً يدل على أن الفخذ ليس بعورة، إذ لو كان كذلك لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أقرَّ عليه، ولنبه عليه كما كان يفعل، فاستوى الحال في كون الإزار انحسر بنفسه أو بفعله.
وهناك جمع آخر لابن القيم، قال: وطريق الجمع بين هذه الأحاديث، ما ذكر غير واحد من أصحاب أحمد وغيره، أن العورة عورتان: مخففة، ومغلظة، فالمغلظة السوأتان، والمخففة الفخذان، ولا تنافي بين الأمر بغض البصر عن الفخذين، لكونها عورة، وبين كشفها، لكونها عورة مخففة.
وأما حديث عائشة:
أ-قالوا: إن هذا الحديث لا حجة فيه، مشكوك في المكشوف هل هما الساقان أو الفخذان، حيث جاء في رواية مسلم التردد في كون النبي صلى الله عليه وسلم كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، والساق ليس بعورة إجماعاً.
ب- أن هذه حكاية فعل لا تنتهض على معارضة الأحاديث القولية الدالة على أن الفخذ عورة، لأنها تتضمن إعطاء حكم كلي، وإظهار شرعٍ عام، فكان العمل بها أولى.
قال الألباني: وأدلة القائلين بأنه عورة؛ قولية من جهة، وحاضرة من جهة أخرى، ومن القواعد الأصولية التي تساعد على الترجيح بين الأدلة والاختيار بعيداً عن الهوى، قاعدتان: أن الحاضر مقدم على المبيح - والقول مقدم على الفعل لاحتمال الخصوصية وغيرها.
• وقوله (من السرة إلى الركبة) ظاهره أن السرة والركبة ليسا من العورة، بل العورة ما بينهما.
وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة
ويدل على أنهما ليسا من العورة:
أ-حديث (الفخذ عورة) صححه الألباني.
ب- وحديث علي في قصة حمزة لما شرب الخمر وثمل شارفي جمل علي وطعنهما
…
في الحديث أن حمزة صعد النظر إلى سرة النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن السرة ليست من العورة.
ج- وأيضاً جاء في صحيح مسلم في قصة أبي بكر: (قد جاء وفد رفع ثوبه وأبدى ركبتيه فقال صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غافر)
د- وجاء في حديث: (ما بين السرة إلى الركبة عورة).
• وقوله (من السرة إلى الركبة) ظاهره يدل على أنه لا يجب ستر أحد العاتقين، وهذا هو الصحيح خلافاً لبعض العلماء الذين قالوا: يجب على الرجل أن يستر أحد العاتقين في الفرض.
مثال: لو صلى سنة الظهر وقد ستر ما بين السرة والركبة ولم يستر أحد عاتقيه فصلاته صحيحة، وفي فرض الظهر لو أنه صلى وستر ما بين السرة والركبة ولم يستر أحد عاتقيه فصلاته غير صحيحة.
وهذا هو مذهب الحنابلة.
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء). متفق عليه
قالوا: فيجب على المصلي في صلاة الفرض أن يستر أحد عاتقيه، وخصوه بالفرض دون النفل لأن صلاة النفل مبناها على التخفيف.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجب ستر العاتق في الصلاة.
واستدلوا بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان ضيقاً فاتزر به). متفق عليه
ومعنى ذلك أن جابر سوف يصلي وعاتقاه مكشوفتان.
وأما حديث أبي هريرة: (لا يصلي أحدكم وليس على عاتقه
…
) فمحمول على الاستحباب، ولأنه أبلغ في الزينة.
• والمراد بالثوب في قوله: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد
…
) الإزار الذي يكسوا أسفل جسم الإنسان، أو الرداء الذي يكسو أعلاه، ليس المراد به القميص.
• لا خلاف بين العلماء في جواز كشف الرجل عاتقيه خارج الصلاة.
• لا خلاف بينهم في مشروعية ستر العاتقين في الصلاة، وأن ذلك هو الأكمل والأفضل في حق المصلي [وإنما الخلاف في الوجوب كما سبق]
(وتستحب صلاته في ثوبين).
أي: أن الأفضل أن يصلي الرجل في ثوبين.
عن أَبِى هُرَيْرَةَ. (أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ «أَوَ لِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ) متفق عليه.
قال النووي: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة فِي ثَوْب وَاحِد، وَلَا خِلَاف فِي هَذَا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود رضي الله عنه فِيهِ، وَلَا أَعْلَم صِحَّته، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الصَّلَاة فِي ثَوْبَيْنِ أَفْضَل.
(ويكفي ستر عورتهِ في النفل، ومع أحد عاتقيهِ في الفرض).
أي: في صلاة النفل يكفي ستر العورة (كما تقدم حدها) وأما في صلاة الفرض فيجب أن يستر أحد العاتقين مع العورة.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي اَلثَّوْبِ اَلْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ) متفق عليه.
وهذا المذهب، وذكر بعض الحنابلة أنها من المفردات.
أ-للحديث السابق (لا يصلي أحدكم في الثوب
…
).
قالوا: هذا محمول على صلاة الفريضة، لأن الفرض هو المكلف به.
ب- ولحديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد بعضه علي) رواه أبو داود.
قالوا: ظاهر هذا الحديث أنه كان في صلاة نفل.
ج- وقالوا: إن صلاة النفل مبناها على التخفيف.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجب أن يضع المصلي على عاتقه شيئاً من اللباس فرضاً كانت الصلاة أم نفلاً.
وهذا ذهب إليه المالكية والحنابلة في رواية، ورجح هذا القول جمع من العلماء: ابن المنذر، والبخاري، وابن بطال، وابن حجر، وابن رجب، وابن قدامة.
للحديث السابق (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على العاتق منه شيء نهياً مؤكداً، والأصل في النهي التحريم، فدل على وجوب ستر العاتق في الصلاة.
قالوا: والحديث عام، فيشمل الفرض والنفل، لأنه ما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل.
وذهب بعضهم: إلى أنه مستحب لا واجب.
وإليه ذهب جمهور العلماء: الحنفية، وأكثر المالكية، والشافعية.
واستدلوا على الاستحباب بالحديث السابق (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد
…
).
واستدلوا على عدم الوجوب: بحديث جابر: (
…
وإذا كان ضيقاً فاتزر به) فدل ذلك على أن الصلاة بإزار واحد مع إعراء المنكبين صحيحة.
واستدلوا بالقياس: وهو أن العاتقين ليسا بعورة، فأشبها بقية البدن.
واستدلوا: بالإجماع المحكي على جواز الصلاة مع ترك ستر العاتقين [وهذا الإجماع فيه نظر].
والراجح: القول بوجوب ستر أحد العاتقين في الصلاة إن تيسر قول قوي، ويكون حديث جابر تجتمع به الأدلة.
(وصلاتها في درعٍ وخمارٍ وملحفة).
أي: ويسن للمرأة أن تصلي في درع وخمار وملحفة، فهذا الأفضل والأكمل.
لما ورد عن ابن عمر قال: إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة. أخرجه ابن أبي شيبة.
الدرع وهو القميص يغطي بدنها وقدميها.
والخمار يغطي رأسها.
والملحفة: ما يلف على الجسم كله كالعباءة والجلباب.
(ويُجزئُ سترُ عورتِها).
أي: يجزئ المرأة ستر عورتها، فلو تلفلفتْ المرأة بثوب يستر رأسها وكفيها وقدميها وبقية بدنها، ولا يخرج منه إلا الوجه أجزأ.
(ومن انكشفَ بعضُ عورتهِ وفحُشَ، أو صلى في ثوب محرّمٍ، أو نجسٍ أعاد).
•
هذه مسائل:
المسألة الأولى:
من انكشفت بعض عورته - عن غير عمد - وفحش، فإنه يجب أن يعيد.
وذهب بعض العلماء إلى عدم البطلان، إذا كان الزمن قليلاً، ورجحه الشيخ ابن عثيمين:
فقال في الشرح الممتع: خلاصة هذه المسألة:
أولاً: إذا كان الانكشاف عَمْداً بطلت الصَّلاة، قليلاً كان أو كثيراً، طال الزَّمنُ أو قَصُرَ.
ثانياً: إذا كان غير عَمْدٍ وكان يسيراً، فالصَّلاة لا تبطل.
ثالثاً: إذا كان غير عَمْد، وكان فاحشاً لكن الزمن قليل، فظاهر كلام المؤلِّف أنها تبطل، والصَّحيح أنها لا تبطل.
ويُتَصَوَّرُ ذلك فيما لو هبَّت ريحٌ، وهو راكع وانكشف الثَّوب، ولكن في الحال أعاده، فظاهر كلام المؤلِّف أن الصَّلاة تبطل، والصَّحيح: أنها لا تبطل؛ لأنه ستره عن قُرْب، ولم يتعمَّد الكشف، وقد قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
رابعاً: إذا انكشف عن غير عَمْد انكشافاً فاحشاً، وطالَ الزَّمن بأن لم يعلم إلا في آخر صَلاتِهِ، أو بعد سلامه، فهذا لا تصحُّ صلاته؛ لأنَّه فاحش والزَّمن طويل.
مثاله: إنسانٌ صَلَّى في سروال أو إزار، وبعد صلاته وَجَدَ أن هناك فتحة كبيرة تُحاذي السَّوأة، ولكن لم يعلم بها إلا بعد أن سَلَّم، فنقول: صلاتُه غير صحيحة ويُعِيد؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصَّلاة، والغالب عليه في مثل الحال أنه مفرِّط. أما إذا انشق الثَّوب في أثناء الصَّلاة، وهذا يقع كثيراً، ولا سيَّما في الثِّياب الضيِّقة، ثم بسرعة أمسكه بيده فالصَّلاة صحيحة؛ لأنه وإن كان فاحشاً فالزَّمن قصير، ولم يتعمَّد. (الشرح الممتع).
قال في (كشاف القناع) ولا تبطل الصلاة بكشف يسير من العورة بلا قصد
…
ولو كان الانكشاف اليسير في زمن طويل، وكذا لا تبطل الصلاة إن انكشف من العورة شيء كثير في زمن قصير، فلو أطارت الريح سترته عن عورته، فظهر منها ما لم يُعْفَ عنه لو طال زمنه لفُحْشه ولو كان الذي انكشف كل العورة، فأعادها سريعاً بلا عمل كثير لم تبطل صلاته، لقصر مدته أشبه اليسير في الزمن الطويل، فإن احتاج في أخذ سترته لعمل كثير بطلت صلاته.
وقال مرعي بن يوسف الحنبلي في (دليل الطالب) في فصل ما يبطل الصلاة: يبطلها كشف العورة عمداً، لا إن كشفها ريح فسترها في الحال أولا وكان المكشوف لا يفحش في النظر. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (شرح العمدة) يعفى عن يسير العورة قدراً أو زماناً، فلو انكشف منها يسير ـ وهو ما لا يفحش في النظر ـ في جميع الصلاة، أو كشفت الريح عورته فأعادها بسرعة، أو انحل مئزره فربطه لم تبطل صلاته، وسواء في ذلك العورة المغلظة والمخففة. اهـ.
• حد اليسير: وقال ابن تيمية: حد اليسير ما لا يفحش في النظر في عرف الناس وعادتهم إذ ليس له حد في اللغة ولا في الشرع، وإن كان يفحش من الفرجين ما لا يفحش من غيرهما.
• الخلاصة:
وقع الخلاف: في الانكشاف الكثير في زمن قصير (كما لو هبت ريح فكشفت العورة فسترها في الحال).
والراجح لا تبطل صلاته.
وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة.
أ-لقوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به).
ب- لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان
…
).
وجه الدلالة: أن هذا الانكشاف للعورة حصل بسبب عارض خارج عن قصد المصلي، ومن غير تقصير منه، وما كان كذلك فهو معفو عنه.
ب- ولحديث عمرو بن سلَمة وفيه (
…
فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ، أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ، فَاشْتَزَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيص) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أنه يدل على أن انكشاف العورة اليسير أثناء الصلاة غير مؤثر في الصلاة ولا مبطل لها، فكذلك الانكشاف الكثير في الزمن اليسير، بجامع أن كلاً منهما غير مقصود ولا متعمد، ومثل ذلك يشق التحرز عنه.
وقع الخلاف أيضاً: في الانكشاف اليسير في المقدار إذا طال زمنه.
والراجح أيضاً أن الصلاة لا تبطل بالانكشاف اليسير في المقدار - غير المتعمد - إذا طال زمنه.
أ- لحديث عمرو بن سلَمة وفيه (
…
فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ، أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ، فَاشْتَزَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيص) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أنه كان يصلي بقومه، فإذا سجد انكشفت عورته لتقلص بردته عنها، وقد كان هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد صحابته، وهو مما ينتشر، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه أنكر عليه أو أمره بالإعادة.
ب- ولحديث سهل بن سعد. قال (كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ وَقَالَ لِلنِّسَاءِ لَا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا) رواه البخاري ومسلم وزاد (من ضيق الأُزُر).
وجه الدلالة: أن النساء أمِرنَ بعدم رفع رؤوسهن قبل نهوض الرجال، لئلا تنكشف عوراتهم بسبب ضيق الأُزُر، فدل ذلك على أن انكشاف العورة اليسير بغير اختيار المصلي مما يَعفَى عنه، إذ لم يؤمروا بالإعادة مع احتمال الانكشاف.
ج- أن ثياب كثير من الفقراء لا تخلو في الغالب من خرق أو فتق يسير، والاحتراز عن ذلك يشق. (أحكام اللباس: الغامدي).
المسألة الثانية:
قوله (أو صلى في ثوب محرّمٍ .... أعاد).
وقد تقدم أن المحرم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
محرم لعينه: كما لو صلى بثوب حرير [ومن المعلوم أن الحرير حرام للرجال] فلا تصح صلاته.
محرم لكسبه: كمن صلى بثوب مغصوب أو مسروق، فلا تصح صلاته.
محرم لوصفه: كمن صلى في ثوب مسبل.
وقد جاء في الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه) رواه أحمد وهو ضعيف
وذهب بعض العلماء إلى صحة الصلاة بالثوب المحرم مع الإثم، وهذا القول هو الصحيح.
لأن جهة الأمر والنهي مختلفة.
المسألة الثالثة:
قوله ( .. أو نجسٍ أعاد).
أي: صلى في ثوب نجس فإنه يجب أن يعيد.
وهذا إذا كان يعلم نجاسته، فهذا واضح أنها لا تصح صلاته.
وأما إن كان جاهلاً، أو ناسياً، فإنه لا يعيد على القول الراجح.
وقد تقدم: أن من صلى وعليه نجاسة لم يكن علم بها، أو علِم بها ثم نسيها، فصلاته صحيحة.
وهذا قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين، فقد حكي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاووس وعطاء وسالم بن عبد الله ومجاهد والشعبي والنخعي والزهري والأوزاعي.
وهو قول المالكية والقديم للشافعي، واختار هذا القول من الحنابلة ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
أ- لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ (بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا - أَوْ قَالَ: أَذًى -وَقَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ: فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا) رواه أبو داود.
وجه الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد أول صلاته التي صلاها مع وجود النجاسة في النعل، لأنه كان جاهلاً وجودها فدل على أن من صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً فصلاته صحيحة.
• لكن: لو لم يكن عنده إلا ثوب نجس، ولم يجد ما يغسله به، ولا ما يستر به عورته؟
فهنا اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: يصلي عرياناً ولا يعيد.
وبه قال الشافعي.
القول الثاني: يصلي به ويعيد.
وهذا المشهور عند الحنابلة.
القول الثالث: يصلي فيه ولا يعيد.
وبه قال مالك.
واختار هذا القول ابن قدامة، وابن تيمية.
أ- القياس على ستر العورة بجامع أنهما شرطان في الصلاة، فكما أنه إذا عجز عن ستر عورته صحت صلاته عرياناً، فكذلك إذا عجز عن اجتناب النجاسة فصلى في ثوب نجس صحت للضرورة.
ب-عموم قوله صلى الله عليه وسلم (غط فخذك).
ج- أن مصلحة الستر أعظم من مصلحة اجتناب النجاسة.
د- أن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، وقد عجز عنه فيسقط عنه كسائر شروط الصلاة عند العجز عنها، فإذا صلى صحت صلاته فلا يعيدها.
واستدلوا على عدم لزوم الإعادة:
أ- أن المسلم مأمور بأن يتقي الله حسب استطاعته، وهذا قد فعل ما في وسعه.
و- وقالوا: إن الله لم يأمر العبد أن يصلي الفرض مرتين بدون سبب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً:
فقيل: يُصلي عرياناً.
وقيل: يُصلي فيه ويُعيد.
وقيل: يُصلي فيه ولا يُعيد.
وهذا أصح أقوال العلماء.
فإن الله لم يأمر العبد أن يُصلي الفرض مرتين إلا إذا لم يفعل الواجب الذي يقدر عليه في المرة الأولى، مثل: أن يُصلي بلا طمأنينة فعليه أن يُعيد الصلاة كما أمر النبي من صلى ولم يطمئن أن يُعيد الصلاة، وقال:(ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)، وكذلك من نسي الطهارة وصلى بلا وضوء فعليه أن يُعيد كما أمر النبي من توضأ وترك لمعة في قدمه لم يمسها الماء أن يُعيد الوضوء والصلاة، فأما من فعل ما أُمِرَ به بحسب قدرته فقد قال تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
(ومن وجدَ كفاية عورتهِ سترها، وإلا فالفرجين، فإن لم يكْفِهِما فالدبر).
أي: من وجد كفاية عورته وجب عليه سترها، لأن ذلك من شروط الصلاة.
فإن لم يوجد معه ما يكفي فإنه يستر الفرجان.
فإن لم يكف الموجود الفرجين ستر الدبر، لأن القُبُل إذا ضم فخذيه ستره.
قال ابن قدامة: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَسْتُرُ بَعْضَ الْعَوْرَةِ سَتَرَ الْفَرْجَيْنِ.
لِأَنَّهُمَا أَفْحَشُ، وَسَتْرَهُمَا آكَدُ، وَهُمَا مِنْ الْعَوْرَةِ بِغَيْرِ خِلَافٍ.
فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا سَتَرَ أَيَّهُمَا شَاءَ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَوْلَاهُمَا بِالسَّتْرِ:
فَقِيلَ: الدُّبُرُ؛ لِأَنَّهُ أَفْحَشُ، لَا سِيَّمَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَقِيلَ: الْقُبُلُ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ بِهِ الْقِبْلَةَ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَسْتُرُهُ، وَالدُّبُرُ مَسْتُورٌ بِالْأَلْيَتَيْنِ. (المغني).
(فإن عدِمَ السترَ بكل حالٍ صلى جالساً يومئ بالركوع والسجود، وإن صلى قائماً جاز).
قال ابن قدامة:
…
أَنَّ الْعَادِمَ لِلسُّتْرَةِ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ بِهِ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يُصَلِّي قَائِمًا، بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ.
أ- لِقَوْلِهِ عليه السلام (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَجَالِساً) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ب-وَلِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِلْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لَهُ كَالْقَادِرِ عَلَى السَّتْرِ.
وَلَنَا مَا رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فِي قَوْمٍ انْكَسَرَتْ بِهِمْ مَرَاكِبُهُمْ، فَخَرَجُوا عُرَاةً، قَالَ: يُصَلُّونَ جُلُوسًا، يُومِئُونَ إيمَاءً بِرُءُوسِهِمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ.
وَلِأَنَّ السَّتْرَ آكَدُ مِنْ الْقِيَامِ بِدَلِيلِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ بِحَالٍ، وَالْقِيَامُ يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْقِيَامَ يَخْتَصُّ الصَّلَاةَ، وَالسَّتْرَ يَجِبُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَرْكِ أَحَدِهِمَا، فَتَرْكُ أَخَفِّهِمَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ آكَدِهِمَا.
وَلِأَنَّهُ إذَا اسْتَتَرَ أَتَى بِبَدَلٍ عَنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالسَّتْرُ لَا بَدَلَ لَهُ.
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالٍ لَا تَتَضَمَّنُ تَرْكَ السُّتْرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالسَّتْرُ لَا يَحْصُلُ كُلُّهُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْضُهُ، فَلَا يَفِي بِتَرْكِ الْقِيَامِ.
قُلْنَا: إذَا قُلْنَا الْعَوْرَةُ الْفَرْجَانِ.
فَقَدْ حَصَلَ السَّتْرُ.
وَإِنْ قُلْنَا: الْعَوْرَةُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَقَدْ حَصَلَ سَتْرُ آكَدِهَا وُجُوبًا فِي السَّتْرِ، وَأَفْحَشِهَا فِي النَّظَرِ، فَكَانَ سَتْرُهُ أَوْلَى.
وَإِنْ صَلَّى الْعُرْيَانُ قَائِمًا، وَرَكَعَ وَسَجَدَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ رحمه الله، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. (المغني)
(وإنْ أعِيرَ سترةً لزمَه قبولها).
لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ.
وَإِنْ وُهِبَ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَّةً.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَارَ فِي بَقَاءِ عَوْرَتِهِ مَكْشُوفَةً أَكْبَرُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْمِنَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ. (المغني).
(وإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ).
أي: إن وجد الذي يصلي عرياناً في أثناء الصلاة سترة:
فإن كانت قريبة: أخذها وبنى.
مثال: جاء إليه رجل وهو يصلي عرياناً، فقال: خذ استر نفسك.
وإن كانت بعيدة، فإنه يقطع صلاته، ويبتدئ الصلاة من جديد.
والدليل على ذلك:
أن السترة إذا كانت قريبة منه فهو واجد لها، فيلزمه استعمالها، ويبني على ما مضى من صلاته، قياساً على أهل قباء لما علموا بتحويل القبلة في الصلاة استداروا إلى الكعبة وبنوا على ما مضى من صلاتهم، لأنهم دخلوا في صلاتهم بوجه صحيح، وهذا عمل قليل فلم يمنع من البناء على ما مضى من الصلاة
…
وأما إذا كان العمل كثيراً فلا تصح الصلاة، لأن السترة شرط لصحة الصلاة، وهو واجد لها فلا بد من استعمالها، ولا يصح ذلك مع العمل الكثير، لأن العمل الكثير يبطل الصلاة لأنه ينافيها.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه تبطل صلاته ويلزمه الستر بها، وإعادة الصلاة من أولها.
وهذا مذهب الحنفية.
قالوا: قياساً على المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة فيلزمه استعماله، وإعادة صلاته من أولها.
وقالوا: إن ستر العورة شرط لصحة الصلاة وقد سقط عن العاري للعجز عنه، فإذا وجد السترة فقد زال العجز وحصلت القدرة على الستر فلزمه استعمالها.
والراجح الأول.
وقياس من قال تبطل صلاته على المتيمم، فالجواب عنه: بالفارق بينهما، وذلك لأن واجد الماء لا يمكنه تحصيل الطهارة إلا بإبطال صلاته، وهو منهي عن إبطال عمله، أما من وجد السترة قريبة منه فإنه يمكنه الستر من غير إبطال لصلاته فافترقا.
فائدة:
من صلى عرياناً لعدم وجود سترة، ثم وجد سترة بعد الفراغ من صلاته، فتصح صلاته ولا يعيد.
وهذا قول جماهير العلماء.
أ- أن سترة العورة شرط من شروط الصلاة فسقط عند العجز عنه، كما لو عجز عن استقبال القبلة فصلى إلى غيرها فلا يعيد.
ب- أن العري عذر عام وربما اتصل ودام، فيكون مسقطاً للإعادة، إذْ لو أوجبنا الإعادة معه لحصل الحرج والمشقة.
(ومنها: استقبال القبلة، فلا تصح بدونه).
أي: ومن شروط الصلاة استقبال القبلة، فلا تصح بدونه، والمراد بالقبلة الكعبة.
والدليل على أن استقبال القبلة من شروط الصلاة:
أ- قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
وهذا أمر يفيد وجوب استقبال القبلة.
ب- ولحديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ (بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ) متفق عليه.
فقوله (أمِر) أمر يفيد وجوب الاستقبال، وكذا أهل قباء استداروا في صلاتهم واستقبلوا القبلة، وهذه حركة كثيرة، فلولا أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة لما اغتُفِر ذلك.
ج- وقال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر) متفق عليه.
وأجمع المسلمون على أن استقبال القبلة من شروط الصلاة، وممن نقل الإجماع ابن عبد البر، والقرطبي.
• والقبلة هي الجهة التي يستقبلها المصلي، وسميت قبلة لإقبال الناس عليها، أو لأن المصلي يقابلها وهي تقابله.
• الحكمة من ذلك: أن يتجه الإنسان ببدنه إلى بيت الله، كما يتجه بقلبه إلى ربه في السماء.
• وكانت القبلة أولاً إلى بيت المقدس، ثم نسخت إلى الكعبة، وكان تحويل القبلة في شعبان في السنة الثانية.
(إلا لعاجز).
أي: فيسقط استقبال القبلة.
أي: من الحالات التي يسقط فيها استقبال القبلة إذا كان عاجزاً.
مثل أن يكون مريضاً لا يستطيع الحركة وليس عنده أحد يوجهه إلى القبلة، فهنا يتجه حيث كان وجهه، ومثله المأسور والمصلوب إلى غير القبلة.
لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
ولقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
ولأن هذا شرط عجز عنه فسقط. (لا واجب مع العجز).
(ومتنفلٍ راكبٍ سائرٍ في سفر).
أي: ومن الحالات التي يسقط فيها استقبال القبلة: المسافر المتنفل على راحلته.
المسافر: فلا يجوز للمقيم أن يصلي إلى غير القبلة.
المتنفل: فلا يجوز في الفرض أن يصلي إلى غير القبلة.
على راحلته: فلا يجوز للمسافر النازل أن يتنفل إلى غير القبلة، فلا بد أن يكون مسافراً، ويصلي نافلة على راحلته.
والدليل على هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم:
أ- عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه) متفق عليه.
ب- وعن جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة) رواه البخاري.
ج- وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به). متفق عليه.
زاد البخاري: (يومئ برأسه - ولم يكن يصنعه في المكتوبة).
• قال النووي: جواز التنفل على الراحلة حيث توجهت به جائز بإجماع المسلمين.
وقال ابن قدامة: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِكُلِّ مَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ، يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ. (المغني).
• قوله (كان يسبح) قال الحافظ: أي يصلي النافلة، والتسبيح حقيقة في قول: سبحان الله، فإذا أطلق على الصلاة فهو من باب إطلاق اسم البعض على الكل.
• كيفية الصلاة على الراحلة:
يومئ برأسه كما في الحديث السابق عند البخاري.
وعند الترمذي: (يجعل السجود أخفض من الركوع).
قال الشوكاني: الحديث يدل على أن سجود من صلى على الراحلة يكون أخفض من ركوعه، ولا يلزمه وضع الجبهة على السرج، ولا يبذل غاية الوسع في الانحناء، بل يخفض سجوده بمقدار يفترق فيه السجود عن الركوع.
•
الحكمة من هذا التخفيف:
حتى لا ينقطع المسافر عن العبادة، ولا المتعبد عن السفر.
قال المباركفوري: كأن السر فيما ذكر من جواز التطوع على الدابة في السفر؛ تحصيل النوافل على العبادة وتكثيرها تعظيماً لأجورهم رحمة من الله بهم.
• فإن قيل: هل تجوز الفريضة للرَّاكب السَّائر في السَّفر بدون استقبال القِبْلة؟
فالجواب: لا؛ إلا في الحال التي يتعذَّر فيها استقبال القِبْلة.
فإن قيل: إذا كان المسافرُ نازلاً في مكان، فهل يجوز أن يتنفَّل إلى غير القبلة؟
فالجواب: لا؛ لأنَّ تخصيص العام يُقتصر فيه على الصُّورة التي وقع فيها التَّخصيص فقط.
فإن قيل: إذا كان الإنسانُ في بلده، لكن البلد متباعد الأحياء؛ فهل له أن يتنفَّل في هذه الحال إلى جهة سيره؟
فالجواب: ليس له ذلك؛ لأنه غير مسافر. (الشرح الممتع).
(ويلزمه افتتاح الصلاة إليها).
أي: يلزم الراكب افتتاح الصلاة إلى الكعبة.
وهذا مذهب الحنابلة.
لحديث أَنَسٍ قال (كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اِسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ اَلْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهَ رِكَابِهِ) رواه أبو داود
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب ذلك.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ-لما فيه من المشقة.
ب-ولأن الأحاديث في الصحيحين التي وصفت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة ليس فيها الاستقبال.
ج- ولأنه جزء من الصلاة أشبه سائرها.
قالوا: حديث أنس فعل، والفعل يدل على الاستحباب.
فيحمل حديث أنس على الاستحباب كما قال ابن قدامة في المغني.
قال ابن قدامة:
…
لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ سَائِرَ أَجْزَائِهَا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ مَشَقَّةٍ، فَسَقَطَ، وَخَبَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالنَّدْبِ
وقال ابن القيم بعد ذكره لحديث أنس: وفي الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام، ولا غيرها كعامر بن ربيعة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وحديثهم أصح من حديث أنس هذا.
فحديث أنس (كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اِسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ اَلْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ
…
) مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة في الصحيحين، فإن هذه الأحاديث ليس فيه استثناء تكبيرة الإحرام وأنها إلى القبلة، كما قال ابن القيم.
(وفرْضُ من قرُب من القبلة إصابة عينِها، ومن بعُدَ جهتُها).
أي: من كان قريباً مشاهداً للكعبة ففرضة إصابة عينها، وأما البعيد فإلى جهتها.
ففرض المصلي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يمكنه مشاهدة الكعبة، ففرضه أن يتجه إلى عين الكعبة.
وهذا بالاتفاق.
قال ابن قدامة:
…
ثُمَّ إنْ كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إلَى عَيْنِهَا، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
القسم الثاني: من لا يمكنه مشاهدة الكعبة كالبعيد، فالواجب عليه أن يتجه إلى جهة الكعبة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ- لحديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا بَيْنَ اَلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِي.
قال الصنعاني: والحديث دليل على أن الواجب استقبال الجهة، لا العين في حق من تعذرت عليه العين.
وقال الشيخ ابن عثيمين: وبهذا نعرف أن الأمر واسع، فلو رأينا شخصاً يصلي منحرفاً يسيراً عن مسامتة [أي: محاذاة] القبلة، فإن ذلك لا يضر، لأنه متجه إلى الجهة.
ب-أن الصف الطويل صلاتهم صحيحة بالإجماع، مع أنه يجزم بأنه ليس كلهم مستقبلي القبلة.
ج-أن إلزام الناس استقبال عين الكعبة في الأماكن البعيدة متعذر ومتعسر.
• الانحراف اليسير عن القبلة لا يضر ما دام في الجهة.
(وإن خفيتْ عليه القبلة في الحضر، سأل واستدل بمحاريب المسلمين).
أي: من خفيت عليه القبلة عند إرادة الصلاة فالمشروع في حقه أمران:
الأول: أن يسأل عن جهة القبلة، فإن أخبرَ بجهتها من قِبل رجل أو امرأة عمل بما أخبر به.
الثاني: أن يستدل عليها بما في المساجد من محاريب المسلمين.
•
من يقبل خبره في شأن القبلة:
يشترط فيمن يقبل خبره في تحديد اتجاه القبلة أن يكون: مُسْلِمًا، عَاقِلاً، بَالِغًا، عَدْلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَة.
فلا يُقبَلُ خبر الكافر في اتجاه القبلة، لأن هذا من الأمور الدينية، وهذه لا يقبل فيها خبر الكافر.
قال الإمام النووي: وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْكَافِرِ فِي الْقِبْلَةِ بِلَا خِلَافٍ. . .
وجاء في الموسوعة الفقهية: وَلَا يُقْبَل خَبَرُ الْكَافِرِ فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ، وَلَا خَبَرُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ. . اهـ.
وإذا كان فاسقاً لم تقبل شهادته أيضا في تحديد اتجاه القبلة.
جاء في الموسوعة الفقهية عن شهادة الفاسق في اتجاه القبلة: وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْفَاسِقِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ قَبُول خَبَرِهِمَا، لأِنَّ رِوَايَتَهُمَا وَشَهَادَتَهُمَا لَا تُقْبَل. . . أَمَّا الْفَاسِقُ فَلِقِلَّةِ دِينِهِ، وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ. . اهـ.
(فإن أخطأ فعليه الإعادة).
أي: في الحضر.
أي: فإن اجتهد في الحضر، فبان أنه صلى إلى غير القبلة، فإن عليه الإعادة.
أ- لأن الحضر ليس بمحل اجتهاد، لقدرة من فيه على الاستدلال بالمحاريب ونحوها.
ب- ولوجود من يخبره عن يقين غالباً.
وإنما وجب الإعادة عليهما لتفريطهما بعدم الاستخبار، أو الاستدلال بالمحاريب مع القدرة عليه.
قال ابن قدامة:. . . . فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، سَوَاءٌ إذَا صَلَّى بِدَلِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَضَرَ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ مَنْ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَارِيبِ وَالْقِبَلِ الْمَنْصُوبَةِ، وَيَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ غَالِبًا، فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، كَالْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ.
وقال في الكافي: وإن أتى بفرضه فبان أنه أخطأ، وكان في الحضر، أعاد، لأن ذلك لا يكون إلا لتفريط، وإن كان مسافراً، لم يعده، لأنه أتى بما أمر من غير تفريط فلم تلزمه إعادة. انتهى.
وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أن البصير إذا صلى في الحضر فأخطأ عليه الإعادة مطلقاً وعليه الأصحاب، وعنه لا يعيد إذا كان عن اجتهاد، احتج أحمد بقضية أهل قباء.
• فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن الحضر ليس موضعاً للاجتهاد.
لأن بإمكانه أن يعرف القبلة عن يقين وأن يسأل أهل البلد وينظر للمحاريب
…
إلى آخره.
وقال بعض العلماء: إن الحضر موضع للاجتهاد.
إذا كان من مجتهد يعرف أدلة القبلة وكيف يستدل بها.
والمذهب أحوط.
(وإن خفيتْ في السفر اجتهد وصلى ولا إعادة عليه).
أي: إن خفيت القبلة على المسافر، فالمشروع في حقه أن يجتهد، فإن تبين له أنه أخطأ القبلة فلا إعادة عليه.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، كَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ الَّذِي صَلَّى بِتَقْلِيدِهِ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
أ-لأنه قد أدى الواجب عليه من الاجتهاد.
أ- ولأنه داخل في عموم قول الله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله).
ب-ولأنه أتى بما أمر به وهو في الصلاة إلى جهة تحريه، فخرج من عهدته كالمصيب.
ج-أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة في حال القدرة، فيسقط عند العجز عنه كسائر شروطها.
وقد ورد في ذلك حديث:
عن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه قَالَ: (كُنَّا مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ مَظْلَمَةٍ، فَأَشْكَلَتْ عَلَيْنَا اَلْقِبْلَةُ، فَصَلَّيْنَا. فَلَمَّا طَلَعَتِ اَلشَّمْسُ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا إِلَى غَيْرِ اَلْقِبْلَةِ، فَنَزَلَتْ: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ.
• المجتهد هو من يعرف أدلة القبلة وكيف الاستدلال بها.
• من ظهر خطؤه وهو في الصلاة.
ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية، والحنابلة، وقول للشافعية إلى أنه يستدير ويبني على ما مضى في صلاته.
وقال المالكية، والشافعية، يقطع صلاته ويعيدها لاتجاه القبلة.
والراجح هو رأي جمهور أهل العلم القائل بالاستدارة لجهة القبلة مع إتمام الصلاة.
أ- وذلك لأنه في أول صلاته قد أدى ما عليه واجتهد قدر وسعه فلا تثريب عليه فيه فلما ظهر له الصواب أتى بما عليه.
ب- ولحديث ابْنِ عُمَر قَالَ (بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ) متفق عليه.
وجه الدلالة: لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة.
ج- ولحديث الْبَرَاء بْن عَازِبٍ، رضي الله عنهما، قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ
…
فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ) متفق عليه.
(وإن صلى بغير اجتهادٍ ولا تقليد مع قدرته أعاد).
(إن صلى بلا اجتهاد) إن كان من أهل الاجتهاد، بأن يعرف أدلة القبلة وكيف يستدل بها، ثم بعد ذلك ترك النظر في أدلة القبلة
…
إلى آخره وصلى، فيقول المؤلف رحمه الله: بأنه يعيد.
(ولا تقليد) إنسان لا يعرف أدلة القبلة جاهل لكن هناك مجتهد يعرف أدلة القبلة ومع ذلك لم يقلده وصلى، فإنه يعيد.
لأنه مفرط، فلم يأتِ بما يجب عليه. (الواجب الاجتهاد إن كان من أهله، أو التقليد إن لم يكن من أهله مادام أنه وجد مجتهداً).
• التقليد عند الفقهاء: قبول قول غيره من غير حجة.
• وقوله (أعاد) ظاهره ولو أصاب القبلة، فإنه يجب أن يعيد.
وقيل: إن أصاب القبلة فإنه لا يعيد.
فالخلاصة:
إن صلى بغير اجتهاد ولا تقليد، فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يخطي القبلة.
فهنا يعيد لأنه مفرط.
الحال الثانية: إن يصيب القبلة:
فقيل: يعيد، لأنه مفرط.
وقيل: لا يعيد.
وهذا هو الصحيح.
(ويجتهدُ العارفُ بأدلةِ القبلة لكل صلاة).
أي: يلزم المجتهد أن يجتهد لكل صلاة، فإذا اجتهد مثلاً لصلاة الظُّهر؛ وتبيَّن له أن القِبْلة أمامه؛ ووضع العلامة على القِبْلة؛ وصَلَّى فصلاته صحيحة، فإذا جاء العصر فلا يعتمد على الاجتهاد الأوَّل، ويجب أن يعيد الاجتهاد مرَّة ثانية، وينظر إلى الأدلَّة مرَّة ثانية، فلكلِّ صلاة اجتهاد؛ لاحتمال الخطأ في الاجتهاد الأوَّل.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب عليه أن يجتهد لكل صلاة مالم يطرأ عليه ما يوجب تغير الاجتهاد.
ورجحه ابن عثيمين.
(ومنها: النية).
أي: ومن شروط الصلاة النية.
قال ابن قدامة: وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى).
وَمَعْنَى النِّيَّةِ الْقَصْدُ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ.
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الصلاة لا تجزئ إلا بالنية.
قال ابن رجب: والنيةُ في كلام العُلماء تقعُ بمعنيين:
أحدهما: بمعنى تمييز العباداتِ بعضها عن بعضٍ، كتمييزِ صلاة الظُّهر مِنْ صلاةِ العصر مثلاً، وتمييزِ صيام رمضان من صيام غيرِه، أو تمييز العباداتِ مِنَ العادات، كتمييز الغُسلِ من الجَنَابةِ مِنْ غسل التَّبرُّد والتَّنظُّف، ونحو ذلك، وهذه النيةُ هي التي تُوجَدُ كثيراً في كلامِ الفُقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني: بمعنى تمييزِ المقصودِ بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريكَ له، أم غيره، أم الله وغيرُه، وهذه النيّة هي التي يتكلَّمُ فيها العارفُونَ في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي تُوجَدُ كثيراً في كلام السَّلَفِ المتقدّمين.
(فيجب أن ينوي عينَ صلاةٍ معينةٍ).
• أي: فيجب أن ينوي المصلي عين صلاة معينة كالظهر أو العصر، أو الوتر أو راتبة الفجر.
(وينوي مع التحريمة).
هذا محل النية.
أي: يجعل النية مقارنة لتكبيرة الإحرام.
(وله تقديمها عليها بزمن يسير في الوقت).
أي: له أن يقدّم النية قبل التحريمة بزمن يسير في الوقت.
• قوله (بزمن يسير) فلو طال الفصل لا تصح.
وقيل: بل يصح ما لم ينوِ فسخها.
(وإنْ قطعَها أثناء الصلاة أو تردد بطلت).
ذكر هنا ما يبطل النية، فمما يبطل النية قطعها.
فإذا قطع النية في أثناء الصلاة بطلت.
مثال: كرجل قام يتنفل، ثم ذكر أن له شغلاً، فقطع النية، فإن الصلاة تبطل.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) وهذا قد نوى القطع فانقطعت.
قال ابن قدامة: وَلَنَا، أَنَّهُ قَطَعَ حُكْمَ النِّيَّةِ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ، فَفَسَدَتْ، كَمَا لَوْ سَلَّمَ يَنْوِي الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَطَعَهَا بِمَا حَدَثَ، فَفَسَدَتْ لِذَهَابِ شَرْطِهَا
• قوله (أو تردد).
أي: ومما يبطل النية التردد في القطع.
كأن يسمع قارعاً يقرع الباب فتردد بين قطع الصلاة والاستمرار فيها.
لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ النِّيَّةِ شَرْطٌ مَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَكُونُ مُسْتَدِيمًا لَهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَطْعَهَا. (المغني).
وذهب بعض العلماء: إلى أنها لا تبطل بالتردد.
لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ.
وذلك لأن الأصل بقاء النية.
ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال (أنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى هممت بأمر سوء قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأن أدعه).
قال الشيخ ابن عثيمين: قال بعض أهل العلم: لا تبطل الصلاة بالتردد؛ لأن الأصل بقاء النية، والتردد لا يبطلها، وهذا القول هو الصحيح، فما دام أنه لم يعزم على القطع فهو في الصلاة " انتهى.
(وإن قلبَ منفردٌ فرضَه نفلاً في وقتع المتسع جاز).
مثال: دخل رجل في صلاة الظهر منفرد، وفي أثناء الصلاة قلب الفرض إلى نفل.
هذا العمل جائز بشرط: أن يكون الوقت متسعاً للصلاة، فإن كان ضيقاً بحيث لم يبق منه إلا مقدار أربع ركعات، فإن هذا الانتقال لا يصح، لأن الوقت الباقي تعين للفريضة، وإذا تعين للفريضة لم يصح أن يشغله بغيرها.
لكن هذا العمل مستحب أو مكروه؟
هذا العمل يكره لغير غرض صحيح، لكونه أبطل عمله.
وقال الشيخ ابن عثيمين: هو مستحب في بعض الأمور، وذلك فيما إذا شرع في الفريضة منفرداً، ثم حضرت جماعة، ففي هذه الحال يستحب له أن يقطعها لأجل أن يحصّل الجماعة.
الخلاصة:
يشترط لكي يقلب فرضه نفلاً شروط:
الشرط الأول: أن يقلبه إلى نفل مطلق.
الشرط الثاني: أن يتسع الوقت لفعل الفريضة.
الشرط الثالث: أن لا يؤدي ذلك إلى ترك واجب كالجماعة وكالإئتمام بالإمام ونحو ذلك.
(وإن انتقل بنيتهِ من فرض إلى فرض بطلا).
مثال: إنسان شرع يصلي العصر، ثم ذكر أنه صلى الظهر على غير وضوء، فنوى أنها الظهر؛ فلا تصح صلاة الظهر ولا العصر، فالعصر بطلت لأنه قطع النية، والظهر لم تنعقد لأنه لم يبدأ بها من أولها.
قال ابن قدامة: وَإِذَا أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ، ثُمَّ نَوَى نَقْلَهَا إلَى فَرِيضَةٍ أُخْرَى، بَطَلَتْ الْأُولَى، لِأَنَّهُ قَطَعَ نِيَّتَهَا، وَلَمْ تَصِحَّ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا مِنْ أَوَّلِهَا.
• فالانتقال من معين إلى معين لا يصح.
كما لو انتقل من سنة العشاء إلى الوتر فلا يصح.
يبطل الأول، ولم ينعقد الثاني.
مثال آخر: انتقل من صلاة الظهر إلى السنة الراتبة القبلية، فإنسان أحرم بصلاة الظهر ثم تذكر أنه لم يصلي السنة الراتبة ثم انتقل، نقول بطلت الفريضة ولم تنعقد الثانية.
• إن انتقل نفل معين أو فرض معين إلى نفل مطلق، صح.
كما لو رجل دخل يصلي بنية الفجر، ثم بدا له أن يجعلها سنة مطلقة، فهذا يصح.
• فإن انتقل من مطلق إلى معين: لا يصح.
رجل قام يصلي ركعتين تطوعاً لله تعالى، ثم ذكر أنه لم يصل الفجر، فنواها عن صلاة الفجر، فلا يصح لأنه انتقل من مطلق إلى معين، والمعين لا بد أن ينويه من أوله.
• سئل الشيخ - أيضاً -: هل يجوز تغيير النية من معيَّن إلى معيَّن؟ فأجاب:
" لا يجوز تغيير النية من معيَّن إلى معيَّن، أو من مطلق إلى معيَّن، وإنما يجوز تغيير النية من معيَّن إلى مطلق.
مثال الأول: من معيَّن إلى معيَّن، تغير النية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، ففي هذه الحالة تبطل صلاة الظهر؛ لأنه تحول عنها، ولا تنعقد صلاة العصر؛ لأنه لم ينوها من أولها وحينئذ يلزمه قضاء الصلاتين.
ومثال الثاني: من مطلق إلى معيَّن: أن يشرع في صلاة نفل مطلق ثم يحول النية إلى نفل معين فيحولها إلى الراتبة، يعنى أن رجلاً دخل في الصلاة بنية مطلقة، ثم أراد أن يحولها إلى راتبة الظهر - مثلاً - فلا تجزئه عن الراتبة، لأنه لم ينوها من أولها.
ومثال الثالث: من معيَّن إلى مطلق أن ينوي راتبة المغرب ثم بدا له أن يجعلها سنَّة مطلقة فهذا صحيح لا تبطل به الصلاة؛ وذلك لأن نية الصلاة المعينة متضمنة لنية مطلق الصلاة، فإذا ألغى التعيين بقي مطلق الصلاة لكن لا يجزئه ذلك عن الراتبة لأنه تحول عنها " انتهى.
• وقوله (بنيتهِ) خرج ما لو انتقل من فرض إلى فرض بتحريمة، والتَّحريمة بالقول، ففي المثال الذي ذكرنا ذكر أنه صَلَّى الظُّهر على حَدَث فانتقل من العصر وكبَّر للظُّهر؟ نقول: بطلت صلاةُ العصر؛ لأنه قطعها وصحَّت الظُّهر؛ لأنه ابتدأها من أوَّلها، ولهذا قيَّده المؤلِّف بقوله:«بنيَّة» ، أي: لا بتحريمة. (الشرح الممتع).
(ويجبُ نيةُ الإمامةِ والائتمام).
أي: يجب على الإمام أن ينوي أنه إمام يقتدى به، ويجب على المأموم أن ينوي أنه مأموم يقتدي بالإمام
• أما المأموم فلا إشكال أنه لا يكون مأموم إلا بنيته، فإن لم ينو لم يكن مأموماً.
• وأما الإمام: فالمذهب يرون أنه يشترط لصحة الإمامة وصحة صلاة الجماعة أن ينوي الإمام الإمامة.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).
ب- وقالوا: إنه يترتب على صلاة الجماعة أحكام كثيرة منها: سقوط السهو عن المأموم، ومنها وجوب المتابعة، وأحكام أخرى كثيرة،
ولا يتميز الإمام عن المأموم إلا بنية
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشترط أن ينوي الإمامة.
وهذا مذهب الشافعي.
أ- لحديث ابْن عَبَّاسٍ قَالَ (بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ «نَامَ الْغُلَيِّمُ». أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ - أَوْ خَطِيطَهُ - ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاة) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي، ثم قام معه ابن عباس فاقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أحرم الرسول، ولم ينكر عليه، فدل على أن نية الإمامة ليست شرطاً.
ب- ولحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا إني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي منفرداً، فلما رآه الصحابة اقتدوا به، ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم، فدل على أن نية الإمامة ليست شرطاً.
ج-ولحديث أبي سعيد الخدري (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فقام رجل فصلى معه) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: حيث أن الرجل لم ينوِ الإمامة، لأن الذي قام معه قام بعد أن أحرم بالصلاة، والنية لا تكون إلا قبل تكبيرة الإحرام.
وهذا الراجح.
فائدة: قال النووي في روضة الطالبين: لكن هل تكون صلاته صلاة جماعة إذا لم ينوها؟ وجهان: أصحهما: لا ينالها، لأنه لم ينوها، وقال القاضي حسين: فيمن صلى منفرداً، فاقتدى به جمع ولم يعلم بهم، ينال فضيلة الجماعة، لأنهم نالوها بسببه، وهذا كالتوسط بين الوجهين.
(وإن نوى المنفرد الائتمام لم تصح)
مثاله: شخصٌ ابتدأ صلاته منفرداً؛ ثم حضرت جماعة فصلُّوا جماعة؛ فانتقل من انفراده إلى الائتمام بالإمام الذي حضر.
فهذا لا يصح.
لأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة، فتبعَّضت النيَّة؛ حيث كان في أول الأمر منفرداً ثم كان مؤتمّاً، فلما تبعّضت النيَّة بطلت الصلاة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن ذلك يصح.
لأنه ثبت في السنة - كما سيأتي في حديث ابن عباس إن شاء الله - صحة انتقال الإنسان من انفراد إلى إمامة، فكما يصح الانتقال من انفراد إلى إمامة يصح الانتقال من انفراد إلى ائتمام ولا فرق.
وهذا الراجح.
• انتقال المنفرد إلى إمامة.
مثاله: رجُلٌ ابتدأ الصَّلاة منفرداً، ثم حضر شخصٌ أو أكثر فدخلوا وصلوا معه، فصار إماماً لهم، (فانتقل من انفراد إلى إمامة).
الصحيح أنه جائز في الفرض والنفل.
لحديث ابْن عَبَّاسٍ قَالَ (بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ «نَامَ الْغُلَيِّمُ». أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ - أَوْ خَطِيطَهُ - ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاة) متفق عليه.
فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم هنا من انفراد إلى إمامة.
فإن قيل: هذا في النفل؟
فالجواب: أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل.
(وإن انفرد مؤتمٌ بلا عذرٍ بطلت).
أي: انتقل المصلي من مؤتم إلى انفراد، فهذا إن كان لعذر جاز، وإن لم يكن عذر لم يجز.
لحديث جَابِر قَالَ (كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ فَقَالُوا لَهُ أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ قَالَ لَا وَاللَّهِ وَلآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلأُخْبِرَنَّهُ. فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فَقَال صلى الله عليه وسلم: يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا، اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) متفق عليه.
وجه الدلالة: قال ابن قدامة: لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ بِالْإِعَادَةِ، وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلَهُ
• وَالْأَعْذَارُ الَّتِي يَخْرُجُ لِأَجْلِهَا، مِثْلُ الْمَشَقَّةِ بِتَطْوِيلِ الْإِمَامِ، أَوْ الْمَرَضِ، أَوْ خَشْيَةِ غَلَبَةِ النُّعَاسِ، أَوْ شَيْءٍ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ مَالٍ أَوْ تَلَفِهِ، أَوْ فَوْتِ رُفْقَتِهِ، أَوْ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ الصَّفِّ لَا يَجِدُ مَنْ يَقِفُ مَعَهُ، وَأَشْبَاهُ هَذَا. (المغني).
من الأعذار: تطويل الإمام تطويلاً زائداً على السُّنَّة، فإنه يجوز للمأموم أن ينفرد، كما في الحديث السابق.
ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ على الإنسان قَيْئٌ في أثناء الصَّلاة؛ لا يستطيع أن يبقى حتى يكمل الإمام؛ فيخفِّف في الصَّلاة وينصرف.
ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ على الإنسان غازاتٌ «رياح في بطنه» يَشُقُّ عليه أن يبقى مع إمامه فينفرد ويخفِّف وينصرف.
ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ عليه احتباسُ البول أو الغائط فيُحصر ببول أو غائط.
(وتبطل صلاةُ مأمومٍ ببطلانِ صلاة إمامهِ فلا استخلاف).
أنه إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم، وأنه لا يجوز ولا يصح للإمام أن يستخلف، وهذا معنى قوله (فلا استخلاف).
والاستخلاف هو أن ينيب الإمام رجلاً من الجماعة ليكمل الصلاة بالباقين
فعند الحنابلة إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم ولا يصح ولا يجوز أن يستخلف.
قالوا لارتباط صلاة الإمام بالمأموم فإذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم.
وذهب بعض العلماء: إلى عدم بطلان صلاة المأمومين ببطلان صلاة الإمام.
وهذا القول هو الصحيح: سواء كان بطلان صلاته أثناء الصلاة أو لم يعلم إلا بعد الفراغ من الصلاة.
قال العثيمين: والصحيح في هذه المسألة: أنَّ صلاةَ المأمومينَ صحيحةٌ بكُلِّ حالٍ، إلا مَن عَلِمَ أنَّ الإِمامَ مُحدِثٌ، وذلك لأنهم كانوا جاهلين، فهم معذورون بالجهلِ، وليس بوسعِهم ولا بواجبٍ عليهم أن يسألوا إمامَهم: هل أنت على وُضُوءٍ أم لا؟ وهل عليك جنابةٌ أم لا؟ فإذا كان هذا لا يلزمُهم وصَلَّى بهم وهو يعلم أنه مُحدثٌ، فكيف تَبطلُ صلاتُهم؟!! وههنا قاعدةٌ مهمَّةٌ جداً وهي:«أنَّ مَن فَعَلَ شيئاً على وَجْهٍ صحيحٍ بمقتضى الدَّليلِ الشَّرعي، فإنَّه لا يمكن إبطالُه إلا بدليلٍ شرعيٍّ» ، لأننا لو أبطلنا ما قامَ الدليلُ على صحَّتِهِ لكان في هذا قولٌ بلا عِلْمٍ على الشرعِ، وإعنات للمكلف ومشقَّةٌ عليه، فهم فعلوا ما أُمِرُوا به مِن الاقتداء بهذا الإِمامِ، وما لم يكلَّفوا به فإنَّه لا يلزمهم حُكمه. اهـ
وقال السعدي: الذي نختار أن المأموم المعذور الذي لا يعلم حدث إمامه ولا نجاسته، أن صلاته صحيحة ولو كان الإمام عالماً بحدث نفسه ونجاسته، لأن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، والمأموم لم يحصل له من مبطلات الصلاة ومفسداتها شيء، فكيف يحكم ببطلان صلاته؟! اهـ
أ- قال صلى الله عليه وسلم في الصلاة خلف أئمة الجور (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) رواه البخاري.
قال الإمام البغوي: فيه دليل على أنه إذا صلى بقوم وكان جنباً أو محدثاً، فإن صلاة القوم صحيحة، وعلى الإمام الإعادة،
سواء كان عالماً بحدثه متعمداً الإمامة، أو كان جاهلاً.
وقال ابن المنذر: هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت، فسدت صلاة من خلفه.
وقال ابن تيمية معلقاً على الحديث السابق: فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَخْطَأَ كَانَ دَرْكُ خَطَئِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَأْمُومِينَ. فَمَنْ صَلَّى مُعْتَقِدًا طَهَارَتَهُ وَكَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَقُلْنَا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِلنَّجَاسَةِ كَمَا يُعِيدُ مِنْ الْحَدَثِ: فَهَذَا الْإِمَامُ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ فَيَكُونُ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ فَيُعِيدُ صَلَاتَهُ. وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَلَهُمْ هَذِهِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَطَئِهِ شَيْءٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا نَصٌّ فِي إجْزَاءِ صَلَاتِهِمْ.
ب- ولأن الحدث مما يخفى، ولا سبيل للمأموم إلى معرفة حدث الإمام فكان معذوراً في الاقتداء به، لأنه لم يكلف علم ما غاب عنه من أمره، وإذا صح اقتداؤه صحت صلاته فلا يعيدها.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ مُحْدِثًا، أَوْ جُنُبًا، غَيْرَ عَالِمٍ بِحَدَثِهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ هُوَ وَلَا الْمَأْمُومُونَ، حَتَّى فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ بَاطِلَةٌ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم.
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
لإجماع الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُرُفِ، فَأَهْرَقَ الْمَاءَ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلَامًا، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْمُصْطَلِقِ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَارْتَفَعَ النَّهَارُ فَإِذَا هُوَ بِأَثَرِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، فَأَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا.
وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِالْقَوْمِ فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ آمُرُهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُعِيدَ، وَلَا آمُرُهُمْ أَنْ يُعِيدُوا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الْغَدَاةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا. رَوَاهُ كُلَّهُ الْأَثْرَمُ.
وَهَذَا فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا. (المغني).
وكذلك على القول الراجح لو أحدث الإمام في أثناء الصلاة، فصلاة المأمومين صحيحة، ويخرج الإمام ويقدم من يكمل بهم.
• هناك أحوال تبطل بها صلاة المأموم ببطلان صلاة الإمام، فمن ذلك:
• إذا بطلت صلاة الإمام بسبب ظاهر واضح لا يخفى عادة على المأمومين واستمروا على متابعته في الصلاة، والاقتداء به، كما لو ترك استقبال القبلة وستر العورة، أو ترك تكبيرة الإحرام، أو ترك قراءة الفاتحة في صلاة جهرية.
قال ابن قدامة: إذَا اخْتَلَّ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، كَالسِّتَارَةِ [ستر العورة] وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، لَمْ يُعْفَ عَنْهُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى غَالِبًا، بِخِلَافِ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ " انتهى.
• وتبطل صلاة الإمام والمأموم إذا مر بين الإمام وبين سترته ما يقطع الصلاة كالمرأة والحمار والكلب الأسود، فإذا مرت امرأة بين الإمام وسترته بطلت صلاته وبطلت صلاة المأمومين جميعا؛ لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ).
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل تبطل صلاة المأموم ببطلان صلاة الإمام؟
فأجاب: لا تبطل صلاة المأموم ببطلان صلاة الإمام؛ لأن صلاة المأموم صحيحة، والأصل بقاء الصحة، ولا يمكن أن تبطل إلا بدليل صحيح، فالإمام بطلت صلاته بمقتضى الدليل الصحيح، ولكن المأموم دخل بأمر الله فلا يمكن أن تفسد صلاته إلا بأمر الله، القاعدة: " أن من دخل في عبادة حسب ما أمر به فإننا لا نبطلها إلا بدليل.
ويستثنى من ذلك ما يقوم به مقام المأموم مثل السترة، فالسترة للإمام سترة لمن خلفه، فإذا مرت امرأة بين الإمام وسترته بطلت صلاة الإمام وبطلت صلاة المأموم؛ لأن هذه السترة مشتركة، ولهذا لا نأمر المأموم أن يتخذ سترة، بل لو اتخذ سترة لعد متنطعاً مبتدعا" انتهى
"مجموع فتاوى ابن عثيمين"(12/ 372)
(وَتَصِحُّ اَلصَّلَاةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ).
أي: الأصل أن الصلاة تصح في كل موضع من الأرض.
ويدل لذلك حديث جابر في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي
…
وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
وهذا من خصائص هذه الأمة، لأن الأمم السابقة لا تصح صلاتهم إلا في مواضع معينة.
لكن هناك مواضع مستثناة لا تصح بها وهي:
(إِلَّا: فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ).
أي: فلا تصح الصلاة في محل ومكان نجس، وقد سبق أن من شروط الصلاة طهارة ثوب المصلي وبدنه وبقعته.
والدليل على أن الصلاة لا تصح إذا كانت البقعة نجسة:
أ-لقوله تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود).
ب- ولحديث أنس قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة من المسجد فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه). متفق عليه [بذنوب] الذنوب الدلو المليء بالماء.
• لكن لو حبسَ في مكان نجس؛ فإن صلاته صحيحة، لأنه مكره على المكث في هذا المكان، والإكراه حكمه مرفوع عن هذه الأمة (أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ).
هذا هو الموضع الثاني الذي لا تصح فيه، وهو المقبرة، والمقبرة: موضع دفن الموتى.
والأدلة على عدم صحة الصلاة في المقبرة:
أ-حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) متفق عليه.
ب- ولحديث أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) رواه مسلم.
فإذا نهي عن الصلاة إلى القبور؛ فالنهي عن الصلاة عندها من باب أولى.
ج- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) رواه الترمذي.
د-وعن ابن عمر. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً) متفق عليه.
قوله (من صلاتكم) المراد النوافل بدليل ما رواه مسلم مرفوعاً (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته).
(ولا تتخذوها قبوراً) أي: كالمقابر لا يُصلى فيها، وقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة. [فتح الباري].
• الحكمة من النهي عن الصلاة في المقبرة:
سداً للذريعة، ولئلا تتخذ القبور مساجد.
أما قول بعض العلماء: إن العلة هي خشية نجاسة المقبرة لما يختلط بالتراب من صديد الموتى، أو ربما تنبش القبور ويخرج منها صديد الأموات فينجس التراب؟ فهذا تعليل ضعيف، لأمور:
أولاً: أن الأصل عدم نبش القبور.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور، وهذا يدل على أن العلة تتعلق بخشية تعظيم المقبورين.
ثالثاً: أن صلاة الجنازة تجوز في المقبرة، كما صلى عليه الصلاة والسلام على المرأة التي كانت تقم المسجد، وهذا يدل على أن العلة ليست نجاسة الأرض.
رابعاً: أن قبور الأنبياء لا تجوز الصلاة فيها ولا إليها، مع أن الأنبياء أطهار طاهرون أحياء وأمواتاً.
قال ابن تيمية: وقد ظن طائفة من أهل العلم أن الصلاة في المقبرة نهي عنها من أجل النجاسة؛ لاختلاط تربتها بصديد الموتى، ولحومهم،
وهؤلاء قد يفرقون بين المقبرة الجديدة والقديمة، وبين أن يكون هناك حائل أو لا يكون. والتعليل بهذا ليس مذكورًا في الحديث، ولم يدل عليه الحديث لا نَصاً ولا ظاهرًا، وإنما هي علة ظنّوها، والعلة الصحيحة عند غيرهم ما ذكره غير واحد من العلماء من السلف والخلف في زمن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم: إنما هو ما في ذلك من التشبه بالمشركين، وأن تصير ذريعة إلى الشرك، ومعلوم أن النهي لو لم يكن إلا لأجل النجاسة، فمقابر الأنبياء لا تنتن، بل الأنبياء لا يَبْلُون، وتراب قبورهم طاهر، والنجاسة أمام المصلي لا تبطل صلاته.
• اختلف العلماء: هل القبر الواحد يمنع الصلاة أم لابد من ثلاثة فأكثر؟
قيل: إن القبر الواحد والاثنين لا يمنع صحة الصلاة.
وقيل: بل يمنع.
والصحيح أنه يمنع حتى القبر الواحد، لأن المكان قُبرَ فيه فصار الآن مقبرة بالفعل. (الشرح الممتع).
• لو عُيّنت الأرض مقبرة ولم يدفن فيها أحد، فإنه تصح الصلاة فيها لأنه لم يدفن فيها أحد.
• يستثنى من النهي عن الصلاة في المقبرة شيء: الصلاة على القبر، فإنه يجوز.
لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَجُلاً أَسْوَدَ - أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ - كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَمَاتَ، فَسَأَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ. قَالَ «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ». - أَوْ قَالَ قَبْرِهَا - فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْه) متفق عليه.
وقاس على ذلك بعض العلماء فقالوا: يجوز الصلاة على الميت في المقبرة.
(أَوْ حَمَّامٍ).
هذا هو الموضع الثالث الذي لا تصح الصلاة فيه، وهو الحمام، والحمام: هو موضع الاغتسال بالماء الحار، ثم قيل لموضع الاغتسال بأي ماء كان.
لحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) رواه الترمذي.
• والعلة من النهي:
قيل: النجاسة.
لأنه ربما يقع فيه شيء من النجاسات.
وقيل: لأنها مأوى الشياطين.
لأن الشيطان يرغب بأماكن كشف العورات. وهذا هو الصحيح.
• ومثل ذلك الحش (وهو مكان قضاء الحاجة) وهو أولى، لأنه نجس خبيث، ولأنه مأوى الشياطين.
وإذا نُهي عن الصلاة في الحمام فالنهي عن الصلاة في الحُش (وهو موضع قضاء الحاجة) من باب أولى، وإنما لم يرد النهي عن الصلاة في الحش لأن كل عاقل سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن الصلاة في الحمام علم أن الصلاة في الحش أولى بهذا النهي.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولم يرد في الحشوش نص خاص (يعني بالنهي عن الصلاة فيها) لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين أن يحتاج إلى دليل.
(أَوْ أَعْطَانِ إِبِلٍ).
هذا هو الموضع الرابع من المواضع التي لا تصح الصلاة فيه، وهو أعطان الإبل.
والأعطان: جمع عَطَن: هي مباركها وما تقيم فيه وتأوي إليه
فأعطان الإبل لا تصح الصلاة فيها.
وهذا مذهب الحنابلة.
أ- لحديث جابر بن سمرة: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا) رواه مسلم.
ب- ولحديث البراء قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: توضؤوا منها، وسئل عن لحوم الغنم، فقال: لا توضؤوا
منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: صلوا فيها فإنها بركة) رواه أبو داود.
• العلة من تحريم ذلك:
قيل: لنجاستها.
لكن هذا ليس بصحيح لأمرين:
الأول: لأن الراجح أن أبوال وأرواث الإبل طاهرة.
والثاني: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صلوا في مرابض الغنم) ولا فرق بين أعطان الإبل ومبارك الغنم وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء.
وقيل: لأن كثيراً من الناس يتقون بالإبل إذا بركت فيتبولون، والغالب أن معاطنها يبول الناس فيه.
وهذا ضعيف، لأنه غير مطرد.
وقيل: لأنها مأوى للشياطين، وهذا هو الصحيح.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين).
(أو مغصوب).
هذا هو الموضع الخامس الذي لا تصح الصلاة فيه وهو المغصوب، فمن صلى في أرض مغصوبة لا تصح صلاته.
والمغصوب: كل ما أخذ من مالكه قهراً بغير حق.
وهذا المذهب عند الحنابلة.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
قالوا: والصلاة في المكان المغصوب محرّمة، وليست من أمر الإسلام فتكون مردودة غير مقبولة.
ب- أن الصلاة عبادة وقربة إلى الله، وقد أتى بها على وجهٍ منهيّ عنه، فلم تصح، كصلاة الحائض وصومها
وذهب بعض العلماء: إلى صحة الصلاة في الأرض المغصوبة مع الإثم.
وهذا قول الجمهور من أهل العلم.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
وهذا موضع طاهر فصحت الصلاة فيه كالصحراء.
ب- إجماع العلماء على صحة الصلاة في الموضع المغصوب وسقوط الفرض بها إذا صلى، ولم ينقل عن أحد من العلماء أنهم أمروا بإعادة الصلاة في الموضع المغصوب، كما أجمع السلف على عدم أمر الظلمة بإعادة الصلاة إذا صلوا بالدور المغصوبة، فدل ذلك على إجماع السلف على صحتها فلا تعاد.
ج- أن النهي لا يعود إلى ذات الصلاة، بل لأمر خارج عنها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع: (والقول في المسألة أنها تصح في المكان المغصوب مع الإثم، لأنهم يقولون: إن الصلاة لم ينه عنها في المكان المغصوب، بل نهي عن الغصب، والغصب أمر خارج
…
وهذا هو القول الصحيح). والله أعلم
والراجح -وقد سبقت المسألة- أن الصلاة في مكان مغصوب أو ثوب مغصوب صحيحة، لأن تحريمها لأمر خارج عن الصلاة.
(وتصح الصلاة إليها).
أي: وتصح الصلاة إلى هذه الأماكن.
لعموم (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
وإن كان الأولى والأفضل عدم الصلاة إلى الحش والحمام، لأن المصلي قد يتأذى من الرائحة الكريهة.
• أما الصلاة إلى المقبرة فالصحيح أنها حرام ولا تجوز.
أ-لحديث أبي مرثد السابق (لَا تُصَلُّوا إِلَى اَلْقُبُور).
ب- ولأن العلة من منع الصلاة في المقبرة موجودة في الصلاة إلى القبر.
• أما الصلاة في أسطحتها، فالصحيح أيضاً أنه يصح ذلك لعموم (لعموم (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
فتصح فوق سطح الحش، وفوق سطح الحمام، وفوق سطح أعطان الإبل
…
الخ، ما عدا المقبرة، فلا يصح فوف سطحها، لأن العلة من تحريم ذلك سد ذريعة الشرك.
(ولا تصح الفريضة في الكعبة).
وهذا المذهب.
وهو قول ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح.
أ- لقوله تعالى (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره).
وجه الدلالة: قالوا: إن المصلي فيها أو على ظهرها غير مستقبل لجهتها.
ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى في جوف الكعبة النافلة، وقال عقب الصلاة خراج البيت وهو يشير إلى الكعبة: هذه القبلة.
لأن القبلة المأمور باستقبالها هي البنية كلها، لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كاف في الفرض.
ج - ولحديث ابن عمر. قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في سبع مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق الكعبة) رواه الترمذي وهو ضعيف.
وجه الدلالة: أن النهي عن الصلاة فوق الكعبة تنبيهاً على النهي عن الصلاة فيها، لأنهما سواء في المعنى.
د- أن لمصلي في جوف الكعبة يستدبر منها ما يصلح أن يكون قبلة مع قدرته على عدم استدباره.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه تصح الفريضة في الكعبة.
وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
لحديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت فصلى فيه ركعتين) متفق عليه.
قالوا: وما ثبت في حق النفل ثبت في الفرض إلا بدليل تخصيص أحدهما دون الآخر.
قال ابن عبد البر: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى فيها ركعتين، وهو المبين عن الله مراده، وكل موضع يجوز فيه صلاة النافلة جازت فيه صلاة الفريضة قياساً ونظراً، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له.
وهذا القول هو الصحيح.
• أما النافلة فتصح في الكعبة.
قال ابن قدامة: وتصح النافلة في الكعبة وعلى ظهرها لا نعلم فيه خلافاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين.
فائدة:
لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت في الحج، ولا هو من سنن الحج، وجعْل الدخول بالبيت من سنن الحج غلط.
الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل البيت يوم فتح مكة، وقد قال ابن عباس:(يا أيها الناس إن دخولكم البيت ليس من حجكم في شيء). رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح.
وجاء عند البخاري معلقاً: (وكان ابن عمر يحج كثيراً ولا يدخل).
آداب المشي إلى الصلاة
(يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهَا ماشياً).
أي: يستحب الإتيان إلى المسجد ماشياً على الأقدام مقارباً بين خطاه.
وقد ورد الأجر العظيم في المشي إلى المسجد:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ). رواه مسلم
وعنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَيْهَا مَمْشًى فَأَبْعَدُهُمْ) رواه مسلم.
ج- وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَجُلٌ لا أَعْلَمُ رَجُلًا أَبْعَدَ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْهُ وَكَانَ لا تُخْطِئُهُ صَلاةٌ، فَقِيلَ لَهُ أَوْ قُلْتُ لَهُ: لَوْ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي الظَّلْمَاءِ وَفِي الرَّمْضَاءِ؟ قَالَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ) رواه مسلم.
فانظر أخي المسلم إلى هذا الثواب العظيم من الرب الكريم، حيث دل الحديث على إثبات الأجر في الخطا في الرجوع من الصلاة كما في الذهاب إليها، ولهذا آثر هذا الصحابي رضي الله عنه المشي على قدميه مع بعد داره عن المسجد.
د- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً) رواه مسلم.
هـ- وعَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أبو داود.
قال في دليل الفاتحين: الظُّلَم: جمع ظلمة، وهي تعم ظلمة العشاء والفجر. وفي الحديث: فضل المشي إلى الصلاة سواء كان المشي طويلاً أو قصيراً، وفضل المشي إليها للجماعات في ظلم الليل " انتهى.
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَاةُ الرَّجُلِ في جماعةٍ تزيدُ عَلَى صَلَاتِهِ في سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بضْعاً وعِشْرينَ دَرَجَةً، وذلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِد لا يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلَاةَ، لا يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلَاةُ، لَمْ يَخطُ خُطوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِها دَرجةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطيئَةٌ حتَّى يَدْخلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دخل الْمَسْجِدَ كانَ في الصَّلَاةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِيَ التي تحبِسُه) متفق عليه.
ب- وعن عبد الله بن عمرو. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب له حسنة ذاهباً وراجعاً) رواه أحمد.
ج-وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل سلامى من الناس عليه صدقة،
…
وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة) متفق عليه.
فهذه الأحاديث وغيرها فيها حث للمسلم على أن يجتهد في إتيان المسجد ماشياً لا راكباً ولو كانت داره بعيدة، ما لم تكن مشقة أو عذر ككبر ونحوه، وألا يعوَّد نفسه ركوب السيارة، إذا كان المسجد تصله القدم بلا مشقة.
• ضابط مقاربة الخطا، أن يمشي على العادة دون تكلف، فالمقاربة المقصودة هي المشي الموافق للعادة دون تكلف.
• قوله في حديث أبي هريرة (
…
لَمْ يَخطُ خُطوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِها دَرجةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطيئَةٌ حتَّى يَدْخلَ الْمَسْجِدَ) ظاهر هذا الحديث أن الخطوة توجب شيئين اثنين: رفعة الدرجة وحط الخطيئة.
لكن جاء في مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِىَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَة).
وفيه أيضاً من حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( .. إلا كتب له بها حسنة أو حُط عنه بها خطيئة).
وهذه الأحاديث فيها إشكال:
الجمع بينها هو ما استظهر ابن حجر: أن العبد إذا خطا خطوة، إما أن تكون عليه خطيئة أو لا تكون عليه خطيئة، فإذا كانت عليه خطيئة محيت تلك الخطيئة، وإن لم تكن عليه خطيئة كتب له بها حسنة توجب رفعة درجة.
قال ابن رجب: والمشيُ إِلَى المسجد أفضل من الركوب كما تقدّم في حديث أوس في الجُمُعة، ولهذا جاء في حديث معاذ ذكرُ المشي عَلَى
الأقدام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرجُ إِلَى الصلاة إلا ماشيًا حتى العيد يخرج إِلَى المُصلَّى ماشيًا، فإن الآتي للمسجد زائر الله، والزيارة عَلَى الأقدام أقربُ إِلَى الخضوع والتذلل كما قيل:
لو جئتكم زائرًا أسعى عَلَى بصري
…
لم أدِّ حفًّا وأي الحق أديت؟!
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من غدا إِلَى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح).
والنزل: هو ما يعد للزائر عند قدومه.
وكلما شقَّ المشي إِلَى المسجد كان أفضل، ولهذا فضل المشي إِلَى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعدل بقيام الليل كله كما في "صحيح مسلم عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من صلّى العشاء في جماعة فكأنَّما قام نصف الليل، ومن صلَّى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أثقل صلاة عَلَى المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).
وإنما ثقلت هاتان الصلاتان عَلَى المنافقين لأنّ المنافق لا ينشط للصلاة إلا إذا رآه الناس كما قال تعالى (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً).
وصلاة العشاء والصبح يقعان في ظلمة، فلا ينشط للمشي إليهما إلا كل مخلصٍ يكتفي برؤية الله عز وجل وحده لعلمه به.
وثواب المشي إِلَى المساجد في الظلم: النور التام في ظلم القيامة كما في سنن أبي داود والترمذي عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (بشر المشائين في الظلم إِلَى المساجد بالنور التام يوم القيامة).
حديث أوس بن أوس هو. قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ، وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرُ سَنَةٍ: صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا).
(بِسَكِينَةٍ وَوَقَار).
أي يسن أن يذهب إلى الصلاة بسكينة ووقار.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلَا تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) متفق عليه.
[السكينة] التأني في الحركات واجتناب العبث [والوقار] في الهيئة؛ كغض البصر، وخفض الصوت، وعدم الالتفات.
• الحكمة في عدم الإسراع:
جاء في صحيح مسلم بيان الحكمة، فقد ذكر نحو حديث الباب، وقال في آخره (
…
فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ) أي أنه في حكم المصلي، فينبغي اعتماد ما ينبغي للمصلي اجتنابه.
وأيضاً عدم الإسراع يستلزم كثرة الخطا، وهذا مقصود لذاته، وقد جاءت فيه أحاديث كما تقدم.
• قوله (ولا تسرعوا) نهي عن الإسراع، وهو عام في جميع الأحوال.
فلا فرق بين أن يخاف فوات تكبيرة الإحرام أو فوات ركعة، أو فوات الجماعة بالكلية أو يخاف شيئاً من ذلك، كما أنه لا فرق بين الجمعة وغيرها، لأن النصوص عامة ولم تستثن حالة واحدة.
وبهذا قال جمهور العلماء.
قال ابن رجب: وقد أجمع العلماء على استحباب المشي بالسكينة إلى الصلاة، وترك الاسراع والهرولة في المشي، ولما في ذلك من كثرة الخطا إلى المساجد. وسيأتي أحاديث فضل المشي فيما بعد - إن شاء الله تعالى -.
وهذا ما لم يخش فوات التكبيرة الأولى والركعة، فإن خشي فواتها، ورجا بالإسراع إدراكها، فاختلفوا: هل يسرع حينئذ، أم لا؟ فيه قولان.
أحدهما: أنه يسعى لإدراكهما.
وروي عن ابن مسعود، أنه سعى لإدراك التكبيرة.
ونحوه عن ابن عمر، والأسود، وعبد الرحمن بن يزيد، وسعيد بن جبير.
والقول الثاني: أنه لا يسرع بكل حالٍ.
روي عن أبي ذر، ويزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعطاء.
وحكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء، وهو قول الثوري.
• قوله (وما فاتكم) فيه دليل على جواز قول: فاتتنا الصلاة، وأنه لا كراهية فيه، وبهذا قال جمهور العلماء، وكرهه ابن سيرين، وقال: إنما يقال لم ندركها. (قاله النووي).
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (إذا سمعتم الإقامة) إِنَّمَا ذَكَرَ الْإِقَامَة لِلتَّنْبِيهِ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ إِتْيَانهَا سَعْيًا فِي حَال الْإِقَامَة مَعَ خَوْفه فَوْت بَعْضهَا فَقَبْل الْإِقَامَة أَوْلَى، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْعِلَّة فَقَالَ صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِد إِلَى الصَّلَاة فَهُوَ فِي صَلَاة) وَهَذَا يَتَنَاوَل جَمِيع أَوْقَات الْإِتْيَان إِلَى الصَّلَاة، وَأَكَّدَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا آخَر قَالَ: فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، فَحَصَلَ فِيهِ تَنْبِيه وَتَأْكِيد لِئَلَّا يَتَوَهَّم مُتَوَهِّم أَنَّ النَّهْي إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَمْ يَخَفْ فَوْت بَعْض الصَّلَاة، فَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ وَإِنْ فَاتَ مِنْ الصَّلَاة مَا فَاتَ، وَبَيَّنَ مَا يُفْعَل فِيمَا فَات. (شرح مسلم).
ويحتمل أن هذا خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أنه إنما يفعل ذلك من خاف الفوت، فأما من بادر في أول الوقت فلا يفعل ذلك، لوثوقه بإدراك أول الصلاة.
قال ابن رجب: قوله (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، ولا تسعوا) أمر بالمشي ونهي عن الإسراع إلى الصلاة لمن سمع الإقامة، وليس سماع الإقامة شرطاً للنهي، وإنما خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن الاستعجال إنما يقع عند سماع الإقامة خوف فوت إدراك التكبيرة أو الركعة.
• في الحديث النهي عن الإسراع، فما الجواب عن قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)؟
الجواب: أن المراد بالإسراع في الآية المضي والذهاب، يقال: سعيت إلى كذا، أي: ذهبت إليه، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى).
• قوله (فما أدركتم فصلوا
…
) نستفيد منه أنه ينبغي الدخول مع الإمام ولو لم يدرك إلا قليلاً من الصلاة.
فإذا دخل المصلي المسجد والإمام في الصلاة دخل معه على أي حال كان؛ في القيام أو الركوع أو السجود أو بين السجدتين.
أ-لهذا الحديث (فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا).
قال الحافظ: استُدِل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حال وجد عليها.
ب- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا وَلا تَعُدُّوهَا شَيْئًا، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاة) رواه أبو داود.
ج-وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الصَّلاةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإِمَام). رواه الترمذي
وقد نقل ابن حزم رحمه الله الإجماع على ذلك، فقال: واتفقوا أن من جاء والإمام قد مضى من صلاته شيء قلّ أو كثر ولم يبق إلا السلام فإنه مأمور بالدخول معه وموافقته على تلك الحال التي يجده عليها ما لم يجزم بإدراك الجماعة في مسجد آخر.
وقال ابن قدامة: ويستحب لمن أدرك الإمام في حال متابعته فيه، وإن لم يعتد له به
…
وذكر بعض الأحاديث المتقدمة ثم قال: والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: إذا جاء الرجل والإمام ساجد فليسجد، ولا تجزئه تلك الركعة. وقال بعضهم: لعله أن لا يرفع رأسه من السجدة حتى يغفر له.
• قوله (فأتموا) استدل به من يقول: أن ما يدركه المأموم مع إمامه هو أول صلاته، وما يقضي هو آخرها.
قال النووي: وبهذا قال الشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف.
لقوله (فأتموا
…
) ومعنى أتموا: أكملوا، وهذا معناه أن ما أدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته.
فعلى هذا لو أدرك المسبوق مع الإمام الركعة الثانية من صلاة المغرب فهذه الركعة تكون هي الثانية للإمام والأولى لهذا المأموم، ثم الثالثة للإمام تكون هي الثانية للمأموم، فإذا سلم الإمام قام هذا المسبوق ليتم صلاته فتكون هذه هي الركعة الثالثة له، فيقرأ فيها بالفاتحة سراً.
وذهب بعض العلماء: إلى أن ما يدركه المأموم مع إمامه هو آخر صلاته.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لأنه جاء في رواية: (فاقضوا
…
) والقضاء لا يكون إلا شيء قد فات.
والراجح الأول.
والجواب عن قوله (فاقضوا):
أ- أَنَّ أَكْثَر الرِّوَايَات (وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا).
ب-وأما رواية (فاقضوا) أَنَّ الْمُرَاد بِالْقَضَاءِ الْفِعْل لَا الْقَضَاء الْمُصْطَلَح عَلَيْهِ عِنْد الْفُقَهَاء، وَقَدْ كَثُرَ اِسْتِعْمَال الْقَضَاء بِمَعْنَى الْفِعْل فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى (فَقَضَاهُنَّ سَبْع سَمَاوَات) وَقَوْله تَعَالَى (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِككُمْ) وَقَوْله تَعَالَى:(فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاة) وَيُقَال: قَضَيْت حَقّ فُلَان، وَمَعْنَى الْجَمِيع الْفِعْل. (شرح مسلم للنووي).
(ولا يشبك بين أصابعه).
أي: إذا خرج الإنسان للصلاة فلا يشبك بين أصابعه.
لحديث كَعْبَ بْنَ عُجْرة. أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ فِي صَلاةٍ) رواه أبو داود.
وتشبيك الأصابع ينقسم إلى أقسام:
أولاً: أن يكون في الصلاة، فهذا مكروه.
لما روي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد شبك أصابعه في الصلاة، ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه) رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد.
ثانياً: أن يكون في المسجد منتظراً لها.
وهذا أيضاً مكروه.
وبهذا قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
لأن انتظار الصلاة هو في حكم الصلاة.
لحديث كَعْبَ بْنَ عُجْرة. أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ فِي صَلاةٍ) رواه أبو داود.
فهذا الحديث دليل على النهي عن تشبيك الأصابع حال المشي إلى المسجد للصلاة؛ لأن هذا العامد إلى المسجد في حكم المصلي.
قال الخطابي رحمه الله: تشبيك اليد هو إدخال الأصابع بعضها في بعض، والاشتباك بهما، وقد يفعله بعض الناس عبثاً، وبعضهم ليفرقع أصابعه عندما يجده من التمدد فيها، وربما قعد الإنسان فشبك بين أصابعه واحتبى بيديه، يريد به الاستراحة، وربما استجلب به النوم، فيكون ذلك سبباً لانتقاض طهره، فقيل لمن تطهر وخرج متوجهاً إلى الصلاة: لا تشبك بين أصابعك؛ لأن جميع ما ذكرناه من هذه الوجوه على اختلافها لا يلائم شيءٌ منها الصلاة ولا يشاكل حال المصلي.
ثالثاً: أن يكون بعد الفراغ من الصلاة ولو كان في المسجد.
فهذا لا يكره.
لحديث ذي اليدين:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ- قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا- قَالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِد ..... ) متفق عليه.
رابعًا: في غير المسجد.
فهو أولى بالإباحة وعدم الكراهة.
لحديث أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ) متفق عليه.
قال ابن حجر عن الجمع بين هذه الأحاديث وأحاديث النهي: وجمع الإِسْمَاعِيلِيّ بِأَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّد بِمَا إِذَا كَانَ فِي الصَّلاةِ أَوْ قَاصِدًا لَهَا، إِذْ مُنْتَظِر الصَّلاةِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي، وأحاديث الباب الدالة على الجواز خالية من ذلك، أما الأولان فظاهران، وأما حديث أبي هريرة فلأن تشبيكه إنما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه، فهو في حكم المنصرف من الصلاة.
• اختلف في الحكمة في النّهي عن التّشبيك في المسجد.
فقيل: إنّ النّهي عنه لما فيه من العبث.
وقيل: لما فيه من التّشبّه بالشّيطان.
وقيل: لدلالة الشّيطان على ذلك.
وقيل: لأنّه يجلب النّوم، والنّوم من مظانّ الحدث.
ولما نبّه عليه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه: (تلك صلاة المغضوب عليهم)، فكره ذلك لما هو في حكم الصّلاة حتّى لا يقع في المنهيّ عنه، وكراهته في الصّلاة أشد.
(فَإِذَا دَخَلَ اَلْمَسْجِدَ قَالَ الدعاء الوارد في ذلك).
أي: يسن عند دخول المسجد أن يقول الدعاء الوارد في ذلك.
ومما ورد:
أ-عَنْ أَبِى حُمَيْدٍ - أَوْ عَنْ أَبِى أُسَيْدٍ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِك) رواه مسلم.
وعند أبي داود (فليسلم على النبي).
ب- وعنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، قَالَ: أَقَطْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا قَالَ: ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ) رواه مسلم.
• هذا الدعاء سنة.
• قال الشوكاني: السر في تخصيص الرحمة بالدخول؛ والفضل بالخروج: أن الداخل مشتغل بتحصيل الثواب والقرب إلى جنته، وأما الخارج فساع في تحصيل الرزق الحلال.
• لم يثبت دعاء في الذهاب للمسجد، وأما حديث (اللهم إني أسألك بحق السائلين، وبحق ممشاي
…
) فلا يصح.
وأما حديث (اللهم اجعل في قلبي نوراً، ومن خلفي نوراً
…
) فالصحيح أنه يقال ضمن الأدعية التي تقال بعد التشهد الأخير وقبل السلام.
(وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ اليُمْنَى لِدِخُوْلِ المَسْجِدِ وَاليُسْرَى لِلخُرُوْجِ مِنْهُ).
أي: ويسن أن يقدم رجله اليمنى عند دخول المسجد، واليسرى للخروج.
وقد سبقت القاعدة: أن ما كان من باب التكريم يكون باليمين، وما كان ضد ذلك يبدأ به بالشمال.
لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله). متفق عليه
وعن أنس رضي الله عنه قال: (من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمين، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى). رواه الحاكم
وقد قال البخاري في صحيحه: باب التَّيَمُّنِ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى.
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ).
فاستدل البخاري رحمه الله بحديث عائشة، وهو من أمثل الأدلة في استحباب دخول المسجد في الرجل اليمنى.
وأما الأحاديث الصريحة في هذا المعنى فلم يثبت منها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوى ما جاء من المنقول ما علقه البخاري هنا عن ابن عمر (كان إذا دخل المسجد دخل برجله اليمنى وإذا خرج قدم اليسرى) وهذا مما علقه البخاري مجزوماً.
(ولا يجلس حتى يصلي ركعتين).
أي: إذا دخل المصلي المسجد فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين تحية المسجد.
وهذه التحية سنة.
لحديث أَبِى قَتَادَةَ السَّلَمِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِس) متفق عليه.
وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوبها.
ونسب لداود الظاهري، ورجحه الشوكاني، والألباني.
أ-للحديث السابق (فليركع) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
ب-وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ «يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا - ثُمَّ قَالَ - إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا) رواه مسلم.
وذهب جماهير العلماء إلى عدم وجوبها.
والصارف عن الوجوب:
أ-حديث الأعرابي لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن عليه خمس صلوات، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: (لا إلا أن تطوع)
ب-حديث عبد الله بن بسر (أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يعظ الناس فقال: اجلس فقد آذيت وآنيت) رواه أبو داود.
ج-حديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، وهو في الصحيحين.
د-وبقصة الثلاثة الذين جاؤوا والنبي صلى الله عليه وسلم في حلقة جالس مع أصحابه (فإن أحدهم جلس في الحلقة، وأما الثاني فجلس خلفهم
…
) متفق عليه.
وهذا القول هو الصحيح.
• قوله (قبل أن يجلس) نص على الجلوس، فهو يشمل من دخل المسجد بنية الجلوس فيه، ومن باب أولى من دخل المسجد للنوم.
وأيضاً: ظاهره لا يتناول من لم يرد الجلوس، كمن دخل ماراً بالمسجد، أو دخل ليعمل عملاً وهو واقف.
• قوله (إذا دخل أحدكم المسجد
…
) عام يشمل جميع المساجد حتى المسجد الحرام.
لكن يستثنى المسجد الحرام في حالة واحدة: فإن تحيته الطواف لمن أراد أن يطوف، أما إذا دخل المسجد الحرام للصلاة أو لغرض آخر غير الطواف، فإن له تحية المسجد كغيره من المساجد.
فلا يخلو حال الداخل إلى المسجد الحرام من حالين:
الأول: أن يدخله بقصد الطواف، سواء كان للحج أو العمرة أو تطوعاً:
فهذا أول ما يبدأ به الطواف، ولا يشرع له البدء بركعتي تحية المسجد قبل الطواف، إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء، ولم يخالف في ذلك إلا أفراد، منهم ابن عقيل من الحنابلة - كما نقله عنه ابن تيمية في "شرح عمدة الفقه" -.
ويستثنى من ذلك ما إذا منع مانعٌ كالزحام الشديد عن البدء بالطواف، فيصلي ركعتين تحية المسجد، وينتظر حتى ينجلي الزحام ليشرع في الطواف.
الثاني: أن يدخله بقصد الصلاة أو الجلوس أو حضور حلق العلم أو الذكر أو قراءة القرآن أو غيرها من العبادات:
فيستحب له أن يصلي ركعتي تحية المسجد؛ لعموم حديث أبي قتادة.
وأما ما يرويه الناس من حديث (تحية البيت الطواف) فليس له أصل في كتب السنة، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أصلاً، فلا يجوز نسبته إليه.
قال الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(رقم/ 1012): لا أعلم له أصلاً وإن اشتهر على الألسنة، وأورده صاحب " الهداية " من الحنفية بلفظ (من أتى البيت فليحيه بالطواف)، وقد أشار الحافظ الزيلعي في تخريجه إلى أنه لا أصل له، بقوله (2/ 51):" غريب جدا "، وأفصح عن ذلك الحافظ ابن حجر، فقال في "الدراية" (ص 192): " لم أجده، قلت - أي الشيخ الألباني -: ولا أعلم في السنة القولية أو العملية ما يشهد لمعناه، بل إن عموم الأدلة الواردة في الصلاة قبل الجلوس في المسجد تشمل المسجد الحرام أيضاً، والقول بأن تحيته الطواف مخالف للعموم المشار إليه، فلا يقبل إلا بعد ثبوته، وهيهات، لا سيما وقد ثبت بالتجربة أنه لا يمكن للداخل إلى المسجد الحرام الطواف كلما دخل المسجد في أيام المواسم، فالحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، (وما جعل عليكم في الدين من حرج).
وإن مما ينبغي التنبه له أن هذا الحكم إنما هو بالنسبة لغير المحرم، وإلا فالسنة في حقه أن يبدأ بالطواف ثم بالركعتين بعده.
• لو دخل الإنسان المسجد في وقت النهي، هل يصلي هذه التحية أم لا؟
اختلف العلماء في الصلوات ذات السبب (كتحية المسجد، وصلاة الاستخارة، والكسوف) هل تفعل في وقت النهي أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
أ-لعموم الأدلة (لا صلاة بعد الصبح
…
).
ب-وحديث عقبة بن عامر (ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّي فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ اَلشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ
…
).
ففي هذه الحديث النهي عام عن جميع الصلوات، فتدخل ذوات الأسباب في هذا العموم.
القول الثاني: يجوز في أوقات النهي فعل ماله سبب.
وهذا مذهب الشافعي، ورجحه كثير من المحققين كابن تيمية، وابن القيم، والشيخ ابن عثيمين، وابن باز.
أ-لحديث بلال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك أمامي في الجنة؟ فقال بلال: ما عملت في الإسلام عملاً أرجى عندي من أني أتطهر طهوراً من ليل أو نهار إلا صليت بهذا الطهور ما شاء الله) متفق عليه.
فدل على أنه يصلي ركعتي الوضوء في أي وقت، ولم ينكر عليه.
ب-أن أحاديث النهي عامة، وأحاديث ذوات السبب خاصة، والخاص مقدم على العام.
ج-أن الصلوات ذات السبب مقرونة بسبب فيبعد أن يقع فيها الاشتباه في مشابهة المشركين، لأن النهي عن الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لئلا يتشبه المصلي المسلم بالمشركين، فإذا كانت الصلاة لها سبب معلوم، كانت المشابهة بعيدة.
د-وأيضاً جاء في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) رواه مسلم.
وجه الاستدلال: أن النهي جاء عن تحري الصلاة، والتحري هو التعمد وقصد الصلاة في هذا الوقت، وهذا لا يكون إلا في التطوع المطلق، وأما ماله سبب فلم يتحره المصلي بل فعله لأجل سببه، وهذا القول هو الراجح.
• لو دخل المسجد بعد العشاء وصلى الوتر ركعة، فهل تجزئ عن تحية المسجد أم لا؟ الذي عليه جمهور الفقهاء أن التحية لا تسقط بفعل ركعة واحدة.
لأن الحديث نص على ركعتين (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فمفهومه عدم إجزاء الواحدة.
قال الحافظ ابن حجر قوله (ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتباره، فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين.
• لو جاء الإنسان المسجد والناس يصلون الفريضة فدخل معهم فإن ذلك يجزئ عن تحية المسجد.
• قال الشيخ ابن عثيمين في هل تجزئ صلاة الجنازة عن تحية المسجد: لا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لأن صلاة الجنازة ليست من جنس صلاة الركعتين، فلا تجزئه عن تحية المسجد.
• حكم تحية المسجد إذا تكرر دخوله:
قيل: تستحب لكل مرة إذا تكرر دخوله.
قال النووي: وهو الأقوى والأقرب لظاهر الحديث.
وقيل: لا تكرر إذا عاد للمسجد من قرب.
قال الشيخ ابن عثيمين:
…
أما الذي يخرج من المسجد ويعود عن قرب فلا يصلي تحية المسجد؛ لأنه لم يخرج خروجاً منقطعاً، ولهذا لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خرج لبيته لحاجة وهو معتكف ثم عاد أنه كان يصلي ركعتين، وأيضاً فإن هذا الخروج لا يعد خروجاً، بدليل أنه لا يقطع اعتكاف المعتكف، ولو كان خروجه يعتبر مفارقة للمسجد لقطع الاعتكاف به، ولهذا لو خرج شخص من المسجد على نية أنه لن يرجع إلا في وقت الفرض التالي، وبعد أن خطا خطوة رجع إلى المسجد ليتحدث مع شخص آخر ولو بعد نصف دقيقة فهذا يصلي ركعتين؛ لأنه خرج بنية الخروج المنقطع.
• الحكم إذا جلس ولم يصل تحية المسجد وطال جلوسه:
قال الشيخ ابن عثيمين:
…
وكذلك تحية المسجد إذا جلس الإنسان وطال الجلوس فإنه لا يقضيها لأنها فاتت عن وقتها.
(وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة).
هذا لفظ حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم في صحيحه.
أي: إذا أقيمت الصلاة فلا يجوز للإنسان أن يبدأ بنافلة، لا فرق بين سنة الفجر ولا غيرها.
أ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةُ) رواه مسلم.
وقال الإمام الترمذي رحمه الله: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إذا أقيمت الصلاة أن لا يصلي الرجل إلا المكتوبة وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
ب- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ يُصَلِّى وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَكَلَّمَهُ بِشَيْءٍ لَا نَدْرِى مَا هُوَ فَلَمَّا انْصَرَفْنَا أَحَطْنَا نَقُولُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: قَالَ لِي: يُوشِكُ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ أَرْبَعاً) رواه مسلم.
وفي رواية البخاري (وَقَالَ لَه رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ أَرْبَعًا الصُّبْحَ أَرْبَعًا) بهمزة ممدودة في أوله، ويجوز قصرها، وهو استفهام إنكار، وأعاده تأكيداً للإنكار.
•
الحكمة من عدم صلاة النافلة عند إقامة الصلاة:
قال النووي: الحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام، وإذا اشتغل بنافلة فاته الإحرام مع الإمام، وفاته
بعض مكملات الفريضة فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها، قال القاضي: وفيه حكمة أخرى وهو النهي عن الاختلاف على الأئمة.
وقال الشيخ ابن عثيمين: والحكمةُ مِن النَّهي هو: أن لا يتشاغلَ الإنسانُ بنافلةٍ يقيمُها وحدَه إلى جَنْبِ فريضةٍ تقيمُها الجماعةُ؛ لأنه يكون حينئذٍ مخالفاً للنَّاسِ مِن وجهين:
الوجه الأول: أنَّهُ في نافلةٍ، والنَّاسُ في فريضةٍ.
الوجه الثاني: أَنَّهُ يُصلِّي وحدَه، والنَّاسُ يصلُّون جماعةً.
•
اختلف العلماء في حكم من يصلي النافلة وقد أقيمت الصلاة على أقوال:
القول الأول: أنه يقطعها.
وبه قال الظاهرية، واختاره ابن باز.
أ-لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: واستدل بعموم قوله (فلا صلاة إلا المكتوبة) لمن قال يقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة،
ب- واستدلوا ببعض الآثار الواردة عن السلف ومنها:
عن بيان بن بشر الأحمسي قال (قيس بن أبي حازم يؤمنا فأقام المؤذن الصلاة، وقد صلى ركعة، قال: فتركها، ثم تقدم فصلى بنا).
وعن مغيرة عن الشعبي قال (إذا كان الرجل قائماً يصلي فسمع الإقامة فليقطع، وقال إبراهيم: يضيف إليها أخرى ولا يقطع).
القول الثاني: يتم النافلة ما لم يخش فوات الجماعة.
وهذا قول الجمهور.
قال النووي: قال المصنف رحمه الله تعالى (وإن دخل في صلاة نافلة ثم أقيمت الجماعة فإن لم يخش فوات الجماعة أتم النافلة ثم دخل في الجماعة وإن خشي فوات الجماعة قطع النافلة لأن الجماعة أفضل).
الشرح: هذه المسألة مشهورة عند الأصحاب على التفصيل الذي ذكره المصنف ومراده بقوله (خشي فوات الجماعة) أن تفوت كلها بأن يسلم من صلاته هكذا صرح به الشيخ أبو حامد والشيخ نصر وآخرون والله أعلم. (المجموع).
وقال ابن قدامة: إن أقيمت الصلاة وهو في النافلة ولم يخش فوات الجماعة أتمها ولم يقطعها لقول الله تعالى (ولا تُبْطِلُوا أَعَمَالَكُم (وإن خشي فوات الجماعة فعلى روايتين إحداهما:
يتمها لذلك.
والثانية يقطعها، لأن ما يدركه من الجماعة أعظم أجراً وأكثر ثواباً مما يفوته بقطع النافلة، لأن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الرجل وحده سبعاً وعشرين درجة. (المغني).
أ-استدلوا بقول الله تعالى (ولا تُبْطِلُوا أَعَمَالَكُم)، قالوا: إذا شرع المصلي في النفل يجب عليه صونه عن البطلان لهذه الآية.
ب- كما أنهم استدلوا ببعض الآثار الواردة عن السلف ومنها:
عن فضيل عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أهما يكرهان الصلاة عند الإقامة، وقال إبراهيم: إن كنت قد دخلت في شيء فأتمه.
وعن إبراهيم قال: إذا افتتحت الصلاة تطوعاً وأقيمت الصلاة، فأتم.
وعن ميمون بن مهران قال: إن كبرت بالصلاة تطوعاً قبل أن يكبر بالإقامة فصل ركعتين.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة، فإذا خرج الإمام وأنت راكع، فاركع إليها أخرى خفيفة، ثم سلم وفي رواية أخرى عنه: إذا كنت في المسجد فأقيمت الصلاة فلا تركع، إلا أن تكون على وتر فلتشفع.
وأجابوا عن أدلة القول الأول:
أما الحديث فالنفي فيه يحتمل أن يكون للصحة أو إلى الكمال، وهو عندي إلى نفي الصحة أقرب، ولكن قد يتوجه معناه فيكون: لا ابتداء لنافلة بعد إقامة الصلاة، أما من كان في نافلة وقد أيقن أنه سيدرك الصلاة فليتمها خفيفة ويدخل مع الإمام وإلا فليقطعها وبهذا
تجتمع الأدلة.
قال الشيخ ابن عثيمين: والذي يظهر أن قولَه صلى الله عليه وسلم (لا صلاة) المراد به ابتداؤها، وأنه يَحرُمُ على الإنسانِ أن يبتدئَ نافلةً بعدَ إقامةِ الصَّلاةِ، أي: بعدَ الشروعِ فيها؛ لأنَّ الوقت تعيَّنَ لمتابعةِ الإمام .... ثم قال بعد ذلك
…
وأما ما ورد عن السلف في ذلك فيجاب عليه بأنه معارض بكلامهم الآخر والله تعالى أعلم ..
القول الثالث: يتمها ولا يقطعها.
لقوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم).
القول الرابع: أنه إذا كان في أولها قطعها، وإذا في الركعة الثانية أتمها خفيفة.
واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
وقال رحمه الله: والذي نرى في هذه المسألةِ: أنك إنْ كنتَ في الرَّكعةِ الثانيةِ فأتمَّها خفيفةً، وإنْ كنت في الرَّكعةِ الأولى فاقطعْهَا، ومستندُنا في ذلك قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (مَن أدركَ ركعةً مِن الصَّلاةِ فقد أدركَ الصَّلاة) وهذا الذي صَلَّى ركعةً قبلَ أَنْ تُقامَ الصَّلاةُ يكون أدركَ ركعةً مِن الصَّلاةِ سالمة مِن المعارضِ الذي هو إقامةُ الصَّلاةِ، فيكون قد أدرك الصلاةَ بإدراكِه الركعةَ قبلَ النهي فليُتمَّها خفيفةً، أما إذا كان في الركعة الأولى ولو في السَّجدةِ الثانيةِ منها فإنَّه يقطعُها؛ لأنه لم تتمَّ له هذه الصَّلاةُ، ولم تخلصْ له؛ حيث لم يدركْ منها ركعة قبلَ النَّهي عن الصَّلاةِ النافلةِ. وهذا هو الذي تجتمع فيه الأدلَّة.
باب صفة الصلاة
ينبغي للمسلم أن يصلي كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقد جاء في البخاري عن مالك بن الحويرث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فالحديث دليل على الإقتداء به صلى الله عليه وسلم، وأنه ينبغي أن نصلي مثل ما كان يصلي في الأفعال والأقوال. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم صفة الصلاة للأمة بالقول، وبالفعل.
(يسن القيام عند قد من إقامتها).
أي: يسن للمأموم أن يقوم إذا قال المقيم (قد) من (قد قامت الصلاة).
وقد جاء في حديث أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي) متفق عليه.
هذا الحديث دليل على أن الإمام إذا لم يدخل إلى المسجد بعد؛ فإن للمأمومين ألا يقوموا حتى يروا الإمام.
جاء في عمدة القاري: قال العلماء: والنهي عن القيام قبل أن يروه، لئلا يطول عليهم القيام؛ لأنه قد يعرض له عارض فيتأخر بسببه.
وقال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: وَالنَّهْي عَنْ الْقِيَام قَبْل أَنْ يَرَوْهُ لِئَلَّا يَطُول عَلَيْهِمْ الْقِيَام، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِض لَهُ عَارِض فَيَتَأَخَّر بِسَبَبِه.
• فإن قيل: ما الجواب عن حديث أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه: (فَيَأْخُذ النَّاس مَصَافّهمْ قَبْل خُرُوجه).
قال النووي: لَعَلَّهُ كَانَ مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَنَحْوهمَا، لِبَيَانِ الْجَوَاز أَوْ لِعُذْرٍ، وَلَعَلَّ قَوْله صلى الله عليه وسلم (فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي) كَانَ بَعْد ذَلِكَ.
• وأما إذا كان الإمام في المسجد، فقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في الوقت الذي يقوم فيه المأموم للصلاة على أقوال ذكرها النووي رحمه الله في المجموع وهي كما يلي:
القول الأول: يقوم إذا شرع المؤذن في الإقامة، وبه قال عطاء والزهري.
القول الثاني: يقوم إذا قال: حي على الصلاة، وبه قال أبو حنيفة.
القول الثالث: يقوم إذا فرغ المؤذن من الإقامة، وبه قال الشافعي.
القول الرابع: ليس للقيام وقت محدد، بل يجوز للمصلي القيام في أول الإقامة، أو أثناءها، أو آخرها. وبه قال المالكية.
القول الخامس: يسن القيام عند قول المؤذن "قد قامت الصلاة" إن رأى المأموم الإمام، فإن لم يره، فإنه يقوم عند رؤيته لإمامه، وبه قال الإمام أحمد.
وليس هناك دليل واضح من السنة على أحد هذه الأقوال، وإنما هي اجتهادات من الأئمة، حسب ما ظهر لكل منهم.
وعليه، فالأمر في هذا واسع فللمأموم أن يقوم متى شاء في أول الإقامة أو أثنائها
…
لكن دلت السنة على أن المؤذن إذا أقام الصلاة ولم يدخل الإمام المسجد فإن المأمومين لا يقومون حتى يروه لحديث الباب (إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي) وفي رواية لمسلم: (حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ).
قال ابن رشد المالكي: "
…
فإن صح هذا - أي حديث أبي قتادة المتقدم - وجب العمل به، وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه، أعني أنه ليس فيها شرع، وأنه متى قام كل واحد، فحسن". انتهى من الموسوعة الفقهية.
وسئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: هل ورد في السنة وقت محدد للقيام للصلاة عند الإقامة؟
فأجاب: لم ترد السنة محددة لموضع القيام؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقوموا حتى تروني) فمتى قام الإنسان في أول الإقامة، أو في أثنائها، أو عند انتهائها فكل ذلك جائز.
(وتسوية الصف).
أي: ويسن تسوية الصف.
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك:
عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ) متفق عليه.
وفي رواية (
…
فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ (أَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ)، وعند أحمد من حديث أنس بلفظ (أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ إِقَامَةَ الصَّف)
وعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُم) متفق عليه.
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَقِيمُوا الصُّفُوفَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِي) متفق عليه.
وعن النُّعْمَان بْنَ بَشِير قال (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّى صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّى بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُم) رواه مسلم.
وعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ «اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا) متفق عليه.
وعن أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: قال صلى الله عليه وسلم (أَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ). رواه مسلم وعن أَنَس عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب تسوية الصفوف.
وهذا مذهب ابن حزم، واختاره ابن تيمية، والشيخ ابن عثيمين.
أ- لحديث أنس (
…
فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ).
قال ابن حزم: تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة، فهو فرض، لأن إقامة الصلاة فرض وما كان من الفرض، فهو فرض.
ب- لحديث أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها) رواه أبو داود.
وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
ج- ولحديث - النعمان - قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ).
قال الألباني: فإن هذا التهديد لا يقال فيما ليس بواجب كما لا يخفى.
د- ولحديث أبي مسعود السابق قال (كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: اسْتَوُوا .. ).
قال ابن حجر في ترجمة البخاري: (باب إثم من لم يتم الصفوف).
ويحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله (سووا صفوفكم)، ومن عموم قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)،
ومن ورود الوعيد على تركه فرجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنساً مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة.
وجمهور العلماء: على أنه سنة مؤكدة غير واجب.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (
…
فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة) وفي رواية: (من كمال الصلاة).
وجه الدلالة: حيث لم يذكر الحديث أن تسوية الصفوف من أركان الصلاة، ولا من واجباتها، وإنما من تمامها وحسنها، وهذا غايته الاستحباب ليس إلا.
وقد عقّب الحافظ في الفتح على كلام ابن حزم السابق، بقوله: ولا يخفى ما فيه ولا سيما وقد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، وتمسك ابن بطال بظاهر لفظ حديث أبي هريرة فاستدل به على أن التسوية سنة قال لأن حسن الشيء زيادة على تمامه وأورد عليه رواية من تمام الصلاة.
وردَّ البدر العيني رحمه الله دعوى ابن حزم، فقال: قوله (فإنه من حُسن الصلاة) يدل على أنها ليْست بفرضِ، لأن ذلك أمر رائد على نفس الصلاة، ومعنى قوله (من تمام الصلاة) من تمام كمال الصلاة، وهو- أيضاً- أمر زائد، فافهم.
والراجح: الله أعلم.
• إذا لم تسو الصفوف هل تبطل الصلاة؟
قال ابن عثيمين: قد يقال: إنها تبطل، لأنهم تركوا الواجب، ولكن احتمال عدم البطلان مع الإثم أقوى.
وقال الحافظ ابن حجر: ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسوِ صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة وأفرط بن حزم فجزم بالبطلان. (الفتح).
• قوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ). قال العراقي: وقد ذكر العلماء في معنى إقامة الصلاة أمورًا:
أحدها: حصول الاستقامة والاعتدال ظاهرًا كما هو المطلوب باطنًا.
ثانيها: لئلا يتخللهم الشيطان، فيفسد صلاتهم بالوسوسة كما جاء في ذلك الحديث.
ثالثها: ما في ذلك من حسن الهيئة.
رابعها: أن في ذلك تمكنهم من صلاتهم مع كثرة جمعهم، فإذا تراصوا وسع جميعهم المسجد، وإذا لم يفعلوا ذلك ضاق عنهم.
خامسها: أن لا يشغل بعضهم بعضًا بالنظر إلى ما يشغله منه إذا كانوا مختلفين، وإذا اصطفوا غابت وجوه بعضهم عن بعض وكثير من حركاتهم وإنما يلي بعضهم من بعض ظهورهم. انتهى
•
تسوية الصَّفِّ تكون بالتساوي، بحيث لا يتقدَّم أحدٌ على أحد:
والمعتبر المناكب في أعلى البَدَن، والأكعُب في أسفل البَدَن لا أطراف الأصابع.
وذلك لأن أطراف الأصابع تتفاوت بِتفاوت طول القَدَم، بينما لا تتفاوت الكعوب ولا الأعقاب طولاً.
قال الإمام البخاري: باب إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ.
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ.
وعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِه).
وما ذَكَره البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه رواه الإمام أحمد بلفظ: (قال: فرأيت الرجل يُلزق كَعْبه بِكَعْب صَاحِبه) ورواه أبو داود بِنحوه.
فالمعتبر هو الْمُحاذاة بالكَعْب، وهو العظم البارز في جنب القَدَم.
قال ابن عثيمين: وليس التساوي بأطراف الأصابع بل بالأكعب، أكرر ذلك لأني رأيت كثيراً من الناس يجعلون مناط التسوية رؤوس
الأصابع وهذا غلط.
•
هناك أمور تستحب في تسوية الصفوف:
أولاً: تسويةَ المحاذاة.
وهذه تقدمت وقد قال بعض العلماء بوجوبها.
ثانياً: التَّراصَّ في الصَّفِّ، وعدم جعل فرج.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا». فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّف) رواه مسلم.
وعن ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّه) رواه أبوداود.
وعن أَنَس عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
(وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ) جمع عنق، والمراد به الرقبة. (خلل) الخلل ما يكون بين الاثنين من اتساع عند التزاحم. (الحَذَف) غنم سود صغار حجازية.
قال الكسائي كما في غريب الحديث (1/ 161): التراص أن يلصق بعضهم ببعض حتى لا يكون بينهم خلل، ومنه قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوص).
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّون) واعلمْ أنَّ الصفوفَ في الصلاةِ ممَّا خصَّ اللَّهُ به هذه الأمةَ وشرَّفها به، فإنهم أشَبْهوا بذلك صُفوفَ الملائكةِ في السَّماءِ، كما أخبر اللَهُ عنهم أنَّه قالوا:(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ)، وأقْسَمَ بالصافّاتِ صفًّا، وهُم الملائكة.
وفي "صحيح مسلم عنِ حذيفةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (فُضلنا على الناسِ بثلاثٍ: جُعلت صُفوفُنا كصفوفِ الملائكة
…
).
وفيه - أيضًا - عن جابرِ بنِ سَمُرةَ، قال: خرَجَ علينا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال (ألا تصفون كما تصفُّ الملائكةُ عِندَ ربِّها؟ فقلنا: يا رسول اللَّه، وكيف تصفُّ الملائكةُ عِندَ ربِّها؟ قال: يُتمُّون الصفوفَ الأولَى، ويتراصُّون في الصف).
ولكن المراد بالتَّراصِّ أن لا يَدَعُوا فُرَجاً للشياطين، وليس المراد بالتَّراص التَّزاحم؛ لأن هناك فَرْقاً بين التَّراصِّ والتَّزاحم؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب
…
ولا تذروا فُرُجَات للشيطان، أي: لا يكون بينكم فُرَج تدخل منها الشياطين؛ لأن الشياطِين يدخلون بين الصُّفوفِ كأولاد الضأن الصِّغارِ؛ من أجل أن يُشوِّشوا على المصلين صلاتَهم.
ثالثاً: إكمالَ الأول فالأول.
فلا يُشرع في الصَّفِّ الثاني حتى يَكمُلَ الصَّفُّ الأول، ولا يُشرع في الثالث حتى يَكمُلَ الثاني وهكذا.
أ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِى يَلِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّر) وعنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا». فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ) رواه مسلم.
قال النووي: وَمَعْنَى إِتْمَام الصُّفُوف الْأَوَّل أَنْ يَتِمّ الْأَوَّل وَلَا يَشْرَع فِي الثَّانِي حَتَّى يَتِمّ الْأَوَّل، وَلَا فِي الثَّالِث حَتَّى يَتِمّ الثَّانِي، وَلَا فِي الرَّابِع حَتَّى يَتِمّ الثَّالِث، وَهَكَذَا إِلَى آخِره.
رابعاً: التقاربُ فيما بينها، وفيما بينها وبين الإِمام؛ لأنهم جماعةٌ.
للحديث السابق (رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا).
يعني اجعلوا صفوفكم يقترب بعضها من بعض
والجماعةُ مأخوذةٌ مِن الاجتماع: ولا اجتماع كامل مع التباعد، فكلما قَرُبَت الصُّفوفُ بعضها إلى بعض، وقَرُبَت إلى الإِمام كان أفضل وأجمل.
وحَدُّ القُرب: أن يكون بينهما مقدار ما يَسَعُ للسُّجودِ وزيادة يسيرة.
خامساً: أن يدنوَ الإِنسانُ مِن الإِمامِ.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لِيَلِينِي منكم أولُو الأحْلامِ والنُّهَى).
•
هل يمين الصف أفضل من اليسار؟
نعم، أيمن الصَّفِّ أفضل مِن أيسره، ولكن ليس على سبيل الإِطلاق؛ كما في الصَّفِّ الأول؛ لأنه لو كان على سبيل الإِطلاق، كما في الصف الأول؛ لقال الرَّسولُ عليه السلام:(أتمُّوا الأيمن فالأيمن) كما قال: (أتمُّوا الصَّفَّ الأول، ثم الذي يليه). وإنما يكون يمين الصف أفضل من يساره إذا تساوى اليمينُ واليسار أو تقاربا، كما لو كان اليسار خمسة واليمين خمسة؛ وجاء الحادي عشر؛ نقول: اذهبْ إلى اليمين؛ لأنَّ اليمين أفضلُ مع التَّساوي، أو التقارب أيضاً؛ بحيث لا يظهر التفاوتُ بين يمين الصَّفِّ ويسارِه، أما مع التَّباعد فلا شكَّ أنَّ اليسار القريبَ أفضل من اليمين البعيد. ويدلُّ لذلك: أنَّ المشروع في أول الأمر للجماعة إذا كانوا ثلاثة أن يقف الإِمام بينهما، أي: بين الاثنين. وهذا يدلُّ على أن اليمينَ ليس أفضلَ مطلقاً؛ لأنه لو كان أفضلَ مطلقاً؛ لكان الأفضل أن يكون المأمومان عن يمينِ الإِمامِ، ولكن كان المشروعُ أن يكون واحداً عن اليمين وواحداً عن اليسار حتى يتوسَّط الإِمام، ولا يحصُل حَيْفٌ وجَنَفٌ في أحد الطرفين.
•
هل تؤخر صفوف الصبيان بحيث تلي صفوف الرجال؟
يرى بعض العلماء ذلك، وأن ذلك من تسوية الصفوف.
لحديث أبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَفَّ الرِّجَالَ وَصَفَّ خَلْفَهُمُ الْغِلْمَانَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ فَذَكَرَ صَلَاتَهُ
…
) رواه أبوداود، ولكنه حديث ضعيف.
وذهب بعض العلماء: إلى وقوف الصبيان مع الرجال، وأن من سبق من الصبيان إلى مكان فلا يؤخر.
ورجحه الشيخ ابن باز وابن عثيمين.
قال ابن عثيمين: يرى بعض العلماء أن الأولى بالصبيان أن يصفوا وراء الرجال، ولكن هذا القول فيه نظر، والأصح أنهم إذا تقدموا لا يجوز تأخيرهم، فإذا سبقوا إلى الصف الأول أو إلى الصف الثاني فلا يقيمهم من جاء بعدهم، لأنهم سبقوا إلى حق لم يسبق إليه غيرهم فلم يجز تأخيرهم لعموم الأحاديث في ذلك، لأن في تأخيرهم تنفيراً لهم من الصلاة، ومن المسابقة إليها فلا يليق ذلك.
وقال رحمه الله: وهذا الذي ذكرنا في تقديم الرِّجالِ، ثم الصبيان، ثم النساء، إنَّما هو في ابتداءِ الأمرِ، أما إذا سَبَقَ المفضولُ إلى المكان الفاضلِ؛ بأنْ جاءَ الصَّبيُّ مبكِّراً وتقدَّمَ وصار في الصَّفِّ الأولِ، فإن القولَ الرَّاجحَ الذي اختاره بعضُ أهلِ العِلم ـ ومنهم جَدُّ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية، وهو مَجْدُ الدِّين عبد السلام ـ أنه لا يُقامُ المفضولُ مِن مكانِه.
أ- وذلك لقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (مَن سَبَقَ إلى ما لم يَسبقْهُ إليه مسلمٌ فهو له) وهذا العمومُ يشمَلُ كلَّ شيءٍ اجتمع استحقاقُ النَّاسِ فيه، فإنَّ مَن سَبَقَ إليه يكون أحقَّ به.
ب- ولأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال (لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مجلِسِه ثم يَجلسُ فيه).
ج- ولأنَّ هذا عدوان عليه.
د- ولأنَّ فيه مفسدةَ تنفيرِ هؤلاء الصبيان بالنسبة للمسجد.
هـ- وكذلك مِن مفاسده أنَّ هذا الصَّبيَّ إذا أخرجه شخصٌ بعينه فإنه لا يزال يَذكرُه بسوءٍ، وكلَّما تذكَّره بسوءٍ حَقَدَ عليه، لأنَّ الصَّغيرَ عادةً لا يَنسى ما فُعِلَ به. (الشرح للممتع).
• قوله (فإني أراكم من ورائي ظهري).
قال الألباني: قوله (أراكم من وراء ظهري) في الحديث معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، و هي رؤيته صلى الله عليه وسلم من ورائه، و لكن ينبغي أن يعلم أنها خاصة في حالة كونه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، إذ لم يرد في شيء من السنة، أنه كان يرى كذلك خارج الصلاة أيضاً.
• جاء في رواية: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال: أتموا صفوفكم
…
).
دليل على أن شروع الإمام في تكبيرة الإحرام عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة بدعة، لمخالفتها للسنة الصحيحة، لأن الحديث يدل على أن الإمام بعد إقامة الصلاة أمر الناس بتسوية الصف
• قال النووي: فِيهِ الْحَثّ عَلَى تَسْوِيَتهَا، وَفِيهِ جَوَاز الْكَلَام بَيْن الْإِقَامَة وَالدُّخُول فِي الصَّلَاة، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب جَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَمَنَعَهُ بَعْض الْعُلَمَاء، وَالصَّوَاب الْجَوَاز، وَسَوَاء كَانَ الْكَلَام لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاة أَوْ لِغَيْرِهَا أَوْ لَا لِمَصْلَحَةٍ.
• على الأئمة أن يسووا بين الصفوف، فعلى الإمام أن يتفقد الصف الذي يليه.
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا وَيَقُولُ: لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ).
فائدة: أحاديث ضعيفة في هذا الباب:
إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج.
من عمر مياسر الصف فله أجران.
إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف.
• قوله (أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُم) اختلف في معناها.
فقيل: معناه يمسخها ويحولها عن صورها.
وقيل: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، وهذا هو الصحيح.
ويؤيده رواية أبي داود (أو ليخالفن الله بين قلوبكم).
قال النووي: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما يقال تغير وجه فلان على أي ظهر لي من وجهه كراهة لي، وتغير قلبه علي لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن.
• إذا حصلت فرجة في الصف الأول، ولم يكن في الصف الثاني سوى رجلين، فلا ينبغي لأحدهما أن يتقدم ليصل الصف؛ لئلا يترك أخاه منفرداً وحده خلف الصف.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي خلف الصف، فلما انصرف قال له:(استقبل صلاتك [أي: أعدها]، فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، رواه ابن ماجه.
وحيث تعارض أمران: الأمر بسد الفُرَج، والأمر بعدم انفراد المأموم خلف الصف: فالأقرب هنا تقديم الوقوف مع صاحبه في الصف؛ لأنه أقوى الأمرين، وهو أحوط للصلاة، خروجا من خلاف من أبطل صلاة المنفرد خلف الصف.
وفي صورة السؤال: الوقوف مع المصلي الآخر: هو الأصل، فلا يعدل عنه إلا لمعارض أرجح.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما في الاختيارات الفقهية (ص 64)
وكذلك لو حضر اثنان وفي الصف فرجة، فأيهما أفضل: وقوفهما جميعا، أو سد أحدهما الفرجة وينفرد الآخر؟
رجح أبو العباس [يعني: ابن تيمية] الاصطفاف مع بقاء الفرجة، لأن سد الفرجة مستحب، والاصطفاف واجب. انتهى.
(ويقول: الله أكبر).
أي: أن المصلي يبدأ صلاته بتكبيرة الإحرام: الله أكبر.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة). متفق عليه. [هنيهة] أي قليلاً.
• الحكمة من افتتاح الصلاة بهذا هو تعظيم الله، قال القاضي عياض: "استحضار المصلي عظمته من تهيأ لخدمته والوقوف بين يديه
، ليمتلئ هيبة فيحضر قلبه ويخشع ولا يغيب ".
• وسميت تكبيرة الإحرام بهذا الاسم: لأنه يحرم على المصلي ما كان حلالاً له قبلها من موانع الصلاة كالأكل والشرب والكلام ونحو ذلك.
…
(كشاف القناع).
وهي ركن من أركان الصلاة.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته (إذا قمت إلى الصلاة فكبر) متفق عليه.
ب- ولحديث علي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير) رواه الترمذي.
قال العيني: قوله (وتَحريمها التكبير) أي: تحريم الصلاة الإتيانُ بالتكبير، كأن المصلي بالتكبير والدخول فيها صار ممنوعًا من الكلام، والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالِها، فقيل للتكبير: تحريمٌ؛ لمنعِه المصلي من ذلك؛ ولهذا سُمِّيَت تكبيرة الإحرام؛ أي الإحرام بالصلاة، وبهذا استدلَّ علماؤنا على فرضيَّة تكبيرة الإحرام.
قال النووي رحمه الله: فتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها.
هذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجمهور السلف والخلف، وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن الزهري أنه قال: تنعقد الصلاة بمجرد النية بلا تكبير. قال ابن المنذر: ولم يقل به غير الزهري.
ثم قال: قد ذكرنا أن تكبيرة الإحرام لا تصح الصلاة إلا بها، فلو تركها الإمام أو المأموم سهوا أو عمدا لم تنعقد صلاته، ولا تجزئ عنها تكبيرة الركوع ولا غيرها، هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود والجمهور. (المجموع).
• لا يجزئ للمصلي أن يكبر بغير لفظ: الله أكبر، فلا بد من لفظ: الله أكبر.
وهذا مذهب الجمهور.
لأن ألفاظ الذكر توقيفية، يُتوقف فيها على ما ورد به النص ولا يجوز إبدالها بغيرها.
قال ابن قدامة: ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تحريمها التكبير.
وقال للمسيء في صلاته: إذا قمت إلى الصلاة فكبر.
وفي حديث رفاعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلة فيقول: الله أكبر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بقوله: الله أكبر.
ولم ينقل عنه عدول عن ذلك حتى فارق الدنيا، وهذا يدل على أنه لا يجوز العدول عنه. (المغني).
• ورد فيمن أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام جملة من النصوص والآثار.
ومن ذلك: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ) رواه الترمذي.
وهذا الحديث يروى موقوفاً على أنس بن مالك رضي الله عنه، ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجح الترمذي والدارقطني وقفه، واختار الشيخ الألباني تحسينه مرفوعاً.
وسواء صح مرفوعاً أو موقوفاً فله حكم الرفع؛ لأن مثل هذا الحكم لا يقوله أنس رضي الله عنه اجتهاداً من عند نفسه، فالظاهر أنه علم ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد في فضل إدراك تكبيرة الإحرام أحاديث أخرى مرفوعة ولكنها لا تخلو من ضعف.
ينظر: "مجمع الزوائد"(2/ 123)، "التلخيص الحبير"(2/ 27).
وأما الآثار عن السلف في الحرص على إدراك تكبيرة الإحرام فكثيرة جداً، ومنها:
عن مجاهد قال: سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا أعلمه إلا ممن شهد بدراً- قال لابنه: أدركت الصلاة معنا؟ قال: نعم، قال: أدركت التكبيرة الأولى؟ قال: لا. قال: لَمَا فاتك منها خير من مئة ناقة كلها سود العين. (مصنف عبد الرزاق).
وقال سعيد بن المسيب: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة. (حلية الأولياء).
وقال وكيع: كان الأعمش قريبا من سبعين سنة، لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه قريباً من سنتين، فما رأيته يقضي ركعة.
(مسند ابن الجعد).
وعن إبراهيم قال: إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه [يعني: لا خير فيه]. (حلية الأولياء).
وقال يحيى بن معين: سمعت وكيعاً، يقول:(من لم يدرك التكبيرة الأولى فلا ترج خيره). (شعب الإيمان).
قال ابن حجر: وَالْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ فِي فَضْلِ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى آثَارٌ كَثِيرَةٌ ". (التلخيص الحبير).
فينبغي الحرص على إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام.
…
(الإسلام سؤال وجواب).
- للعلماء أقوال: بماذا يدرك المأموم فضل تكبيرة الإحرام؟
الأول: أن المأموم يدرك فضلها بحضوره تكبيرة إحرام إمامه، وتكبيره بعده دون تأخير.
الثاني: أنه يدركها ما لم يشرع الإمام في الفاتحة.
الثالث: يدركها إذا أدرك الإمام قبل أن ينتهي من قراءة الفاتحة، وهو قول وكيع حيث سئل عن حد التكبيرة الأولى، فقال: ما لم يختم الإمام بفاتحة الكتاب. (طبقات المحدثين" للأصبهاني)(3/ 219).
الرابع: أنها تُدرك بإدراك القيام مع الإمام لأنه محل تكبيرة الإحرام.
الخامس: أنها تحصل بإدراك الركوع الأول مع الإمام، وهو مذهب الحنفية.
والقول الأول هو الأقرب، وهو مذهب جمهور العلماء من الشافعية والحنابلة وغيرهم.
قال النووي: يستحب المحافظة على إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام، وفيما يدركها به أوجه: أصحها بأن يشهد تكبيرة الإمام ويشتغل عقبها بعقد صلاته، فإن أخر لم يدركها.
وقال ابن رجب: " ونص [الإمام] أحمد فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيْم بْن الحارث عَلَى أَنَّهُ إذا لَمْ يدرك التكبيرة مَعَ الإمام لَمْ يدرك التكبيرة الأولى.
وقال أيضاً: " وقد قال وكيع: من أدرك آمين مع إمامه فقد أدرك معه فضيلة تكبيرة الإحرام.
وأنكر الإمام أحمد ذلك، وقال: لا تُدرك فضيلة تكبيرة الإحرام إلا بإدراكها مع الإمام ".
وقال ابن مفلح رحمه الله: قَالَ جَمَاعَةٌ: وَفَضِيلَةُ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى لَا تَحْصُلُ إلَّا بِشُهُودِ تَحْرِيمِ الْإِمَامِ. "الفروع" لابن مفلح (1/ 521)
وقال الحجاوي: " وإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام فضيلة، وإنما تحصل بالاشتغال بالتحرم عقب تحرم إمامه مع حضوره تكبيرة إحرامه". " الإقناع "(1/ 151).
وقال الشيخ ابن عثيمين: " السنة: إذا كبر الإمام أن تبادر وتكبر حتى تدرك فضل تكبيرة الإحرام، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا كبر فكبروا) والفاء تدل على الترتيب والتعقيب، يعني: من حين أن يكبر وينقطع صوته من الراء بقوله: (الله أكبر) فكبر أنت ولا تشتغل لا بدعاء ولا بتسوك ولا بمخاطبة من بجانبك، فإن هذا يفوت عليك إدراك فضل تكبيرة الإحرام. (لقاء الباب المفتوح)
وفي "الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان: ولا تحصل فضيلتها المنصوصة إلا بشهود تحريم الإمام. (الإسلام سؤال وجواب).
- لابد أن يكون تكبير المأموم بعد انتهاء الإمام من التكبير.
قال النووي: قوله (فإِذا كبر، فكبروا) قال النووي: فيه أمر المأموم بأن يكون تكبيره عقب تكبير الإمام، ويتضمن مسألتين:
إِحداهما: أنه لا يكبر قبله، ولا معه، بل بعده، فلو شرع المأموم في تكبيرة الإحرام ناويًا الاقتداء بالإمام، وقد بقي للإمام منها حرف، لم يصح إحرام المأموم بلا خلاف، لأنه نوى الاقتداء بمن لم يصر إمامًا، بل بمن سيصير إمامًا إذا فرغ من التكبير.
والثانية: أنه يستحب كون تكبيرة المأموم عقب تكبيرة الإمام، ولا يتأخر، فلو تأخر جاز، وفاته كمال فضيلة تعجيل التكبير.
• قوله (ويقول: الله أكبر) فيه لابد من النطق بها.
قال ابن هبيرة: واتَّفقوا على أن تكبيرة الإحرام مع فروض الصلاة، وكذلك اتفقوا على أنه لا تصحُّ الصلاة إلا بنطق، وأنه لا يَكفي فيه مجرد النية بالقلب من غير نطق بالتكبير.
• الأخرس ينوي الدخول بالصلاة بقلبه، ولا يلزمه أن يحرك لسانه في أصح القولين، إذ لا منفعة منه.
(رافعاً يديهٍ).
أي: يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام.
وهذا الرفع في هذا الموضع مستحب عند الجميع.
قال النووي: أجمعت الأمة على ذلك عند تكبيرة الإحرام.
(لكن قال بعض العلماء بالوجوب، كداود وابن حزم وجماعة).
لحديث اِبْن عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا اِفْتَتَحَ اَلصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ).
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه نَحْوُ حَدِيثِ اِبْنِ عُمَرَ، وَلَكِنْ قَالَ (حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ).
ومن المواضع التي يستحب فيها رفع اليدين: عند الركوع وعند الرفع منه.
لحديث ابن عمر السابق، فهو واضح الدلالة على ذلك.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع رفع اليدين فيهما في غير تكبيرة الإحرام.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
أ-لحديث البراء بن عازب قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب أذنيه ثم لم يعد) رواه أبو داود.
وهو من رواية يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد اتفق الحفاظ أن قوله (لم يعد) مدرجاً في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد.
والحديث ضعفه: سفيان بن عيينة، والشافعي، والحميدي شيخ البخاري، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والدارمي، والبخاري وغيرهم.
ب- ولحديث ابن مسعود قال (لأصلين لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة) رواه أبو داود.
وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حزم.
والحديث ضعفه: عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والبيهقي، والدارقطني وغيرهم. (المجموع).
ولذلك قال الشوكاني: لكن عارض هذا التحسين والتصحيح قول ابن المبارك: لم يثبت عندي، وقول ابن أبي حاتم: هذا حديث خطأ، وتضعيف أحمد، وتصريح أبي داود بأنه ليس بصحيح، وقول الدار قطني: أنه لم يثبت.
والقول الأول هو الصحيح.
• وهناك موضع رابع يشرع فيه رفع اليدين وهو: عند القيام من التشهد الأول.
واختار هذا القول ابن المنذر، والنووي، والبيهقي، ورجحه ابن تيمية، وهو مذهب أمير المؤمنين في الحديث البخاري.
أ-عَنْ نَافِعٍ (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ. وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّه صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
ب-جاء عند أبي داود من حديث أبي حميد قال (إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كَمَا كَبَّرَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح.
ج - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ مِثْلَ
ذَلِكَ إِذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَصْنَعُهُ إِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّر) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
قال النووي: وهذا القول هو الصواب، فقد صح في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله، رواه البخاري، وصح أيضاً من حديث أبي حميد الساعدي، رواه أبو داود، والترمذي بأسانيد صحيحة.
قال ابن دقيق العيد: ثبت الرفع عند القيام من الركعتين.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
لحديث ابن عمر السابق (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا اِفْتَتَحَ اَلصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ).
وجه الدلالة: أنه صريح في رفع اليدين في ثلاثة مواضع فقط وهي: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه.
والراجح القول الأول.
• رفع اليدين في هذه المواضع سنة من سنن الصلاة.
• اختلف العلماء هل ترفع الأيدي حال السجود أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أنها ترفع.
وهذا القول قول ابن حزم، ورجحه ابن المنذر وجماعة، واختاره الألباني.
لحديث مَالِك بْن الْحُوَيْرِثِ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ فِي صَلَاتِهِ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا سَجَدَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْه) رواه النسائي.
القول الثاني: لا يستحب.
وهذا مذهب الجماهير.
لحديث ابن عمر (ولا يفعل ذلك في السجود).
وهذا القول هو الصحيح.
وقد قال الحافظ ابن حجر: وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة ولا يخلو شيء منها من مقال.
• إلى أين ترفع الأيدي؟
في حديث ابن عمر (إلى حذو منكبيه).
وبهذا قال جمهور العلماء.
وفي حديث مالك: (إلى فروع أذنيه).
وهذا مذهب أبي حنيفة.
وكلا الصفتين من العبادات التي تفعل هذه مرة وهذه مرة.
•
الحكمة من رفع اليدين:
قيل: إعظام لله، واتباع لرسوله.
وقيل: استكانة وانقياد.
وقيل: هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه.
وقيل: إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بكليته على صلاته ومناجاته ربه.
قال النووي: وفي أكثرها نظر.
وقال القرطبي: قيل: فيه أقوال أنسبها مطابقة قوله (الله أكبر) لفعله.
وقال ابن عبد البر: معنى رفع اليدين عند الافتتاح وغيره خضوع واستكانة وابتهال وتعظيم لله واتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-هذه السنة تشترك فيها الرجال والنساء ولم يرد ما يدل على الفرق بينهما فيها، والأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما دل الدليل عليه.
• متى يكون الرفع، هل يكون قبل التكبير أم معه أم بعده؟
ورد الرفع مع التكبير، وورد قبله، وورد بعده.
ورد قبله، كحديث ابن عمر (رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه، ثم كبر).
وورد بعد الرفع، كما في حديث مالك بن الحويرث عند مسلم بلفظ:(كبر ثم رفع يديه).
وورد ما يدل على المقارنة، كحديث ابن عمر:(كان إذا دخل في الصلاة كبر ثم رفع يديه).
• ما حكم نظر المأموم إلى الإمام؟
يجوز إذا كان الإمام معروفاً بعلمه ودينه وتطبيقه للسنة، فإنه ينظر إليه ليقتدي به، لكن بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى الالتفات، كأن يكون الإمام بعيداً، لأن الأصل في الالتفات في الصلاة مكروه.
ومما يدل على الجواز:
عَنْ أَبِى مَعْمَرٍ قَالَ (قُلْنَا لِخَبَّابٍ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَالَ نَعَمْ. قُلْنَا بِمَ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَاكَ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ) رواه البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم كما في صلاة الكسوف - (لَقَدْ رَأَيْتُنِي أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفاً مِنَ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أُقَدِّمُ - وَقَالَ الْمُرَادِيُّ أَتَقَدَّمُ - وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ) رواه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حينما صلى على المنبر أول ما صُنع قال (يَا أُيُّهَا النَّاسُ إِنِّي صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي) رواه مسلم، وهذا يدل على أنهم ينظرون إليه. (ابن عثيمين).
(ويُسمِع الإمامُ من خلفَه)
أي: على الإمام أن يرفع صوته بالتكبير ليسمع من خلفه.
أ-لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
أ-عنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ (صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَحِينَ سَجَدَ وَحِينَ رَفَعَ وَحِينَ قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
وجه الدلالة: فيه التصريح بالجهر بالتكبير من أبي سعيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.
ب- وعن أبي هُرَيْرَةَ قال (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لَمِنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوس) متفق عليه.
وجه الدلالة: فعْله صلى الله عليه وسلم للتكبير، ونقل الصحابة له دليل على أنه كان يجهر بذلك.
ج-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ
…
) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن قوله (فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا) دليل على الجهر بالتكبير وإلا فكيف يكبر المأموم بعد تكبير الإمام لو كان الإمام يسر بالتكبير.
د-ولأنه لا يتم اقتداء المأمومين بالإمام إلا بسماع التكبير، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
• أما المأموم فلا يشرع له رفع صوته بالتكبير.
أ-عن جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ لِيُسْمِعَنا) رواه مسلم.
وكان ذلك في مرض الرسول صلى الله عليه وسلم فكان صوته ضعيفا لا يسمعه المصلون، فكان أبو بكر يبلغ الناس تكبير النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان المقتدون به عليه السلام يرفعون أصواتهم بالتكبير لما احتاج أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يرفع صوته وحده كي يُسمِع الصحابةَ مِن خلفه.
ب-وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المصلي أن يجهر بقراءته إذا كان ذلك سيشوش على مصلِّ آخر، فقال (أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَعْلَمْ أَحَدُكُمْ مَا يُنَاجِي رَبَّهُ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ). رواه أحمد
وجهر المأموم بالتكبير يشوش على المصلين، بل قد يتسبب في خطأ بعض المأمومين في الصلاة، حين يدخل أحد المصلين متأخرا فيدخل في الصلاة مع الإمام وهو ساجد، ويجهر بالتكبير فيرفع بعض المأمومين من السجود ظنا منهم أن الإمام هو الذي كبر.
ولذلك قال البهوتي الحنبلي رحمه الله: يكره جهر مأموم في الصلاة بشيء من أقوالها؛ لأنه يخلط على غيره.
ج- ويدل على ذلك أيضاً: أن الإمام إنما شرع الجهر في حقه حتى يتمكن المأموم من الاقتداء به، أما المأموم فلا حاجة لأن يجهر بالتكبير.
ويدل على ذلك أيضاً: الإجماع العملي من المسلمين في مساجدهم، فلم يزل المسلمون في مساجدهم ينكرون على المأموم إذا رفع صوته بالتكبير أو القراءة.
وأما الإجماع: فقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية اتفاق الأئمة على أنه لا يشرع أن يجهر المأموم بالتكبير، فقال:" لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإمام لغير حاجة باتفاق الأئمة ".
وقال النووي الشافعي رحمه الله: أما غير الإمام فالسنة الإسرار بالتكبير سواء المأموم والمنفرد. (المجموع).
• التبليغ خلف الإمام.
تعريف التبليغ: هو إيصال صوت الإمام للمأمومين.
يجوز التبليغ خلف الإمام إذا كان هناك حاجة، كانخفاض صوت الإمام، أو مرضه، أو سعة المسجد وكثرة المصلين.
قال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ، بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمَأْمُومُونَ لِيُكَبِّرُوا، فَإِنَّهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ التَّكْبِيرُ إلَّا بَعْدَ تَكْبِيرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إسْمَاعُهُمْ، جَهَرَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ لِيَسْمَعَهُمْ، أَوْ لِيَسْمَعَ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ.
وقال النووي: يسن للإمام الجهر بتكبيرات الصلاة كلها وبقوله سمع الله لمن حمده ليعلم المأمومون انتقاله، فإن كان ضعيف الصوت لمرض وغيره فالسنة أن يجهر المؤذن أو غيره من المأمومين جهراً يسمع الناس وهذا لا خلاف فيه. (المجموع).
والأصل في مشروعية التبليغ خلف الإمام:
أ- عَنْ جَابِرٍ قَالَ (اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ «إِنْ كِدْتُمْ آنِفِاً لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا) رواه مسلم.
ب- عَنْ جَابِرٍ قَالَ (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ فَإِذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ لِيُسْمِعَنَا) رواه مسلم.
ج- وعَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ (لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَتَاهُ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ قَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ فَقُلْتُ مِثْلَهُ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ فَصَلَّى وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخُطُّ بِرِجْلَيْهِ الأَرْضَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ صَلِّ فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَقَعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنْبِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ) رواه البخاري.
فهذه الأدلة فيها دلالة واضحة على أنه يجوز التبليغ من أحد المأمومين عند الحاجة إليه، كضعف صوت الإمام، أو كثرة المصلين بحيث لا يبلغهم صوت الإمام، وذلك لأن متابعة الإمام أمر مطلوب شرعاً ولا تحصل عند ضعف صوت الإمام بالتبليغ.
قال ابن تيمية: لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإمام لغير حاجة باتفاق الأئمة، فإن بلالاً لم يكن يبلغ خلف النبي صلى الله عليه وسلم هو ولا غيره، ولم
يكن يبلغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس مرة وصوته ضعيف، وكان أبو بكر يصلي إلى جنبه يسمع الناس التكبير، فاستدل العلماء بذلك على أنه يشرع التكبير عند الحاجة مثل ضعف صوته، فأما بدون ذلك فاتفقوا على أنه مكروه غير مشروع، وتنازعوا في بطلان صلاة من يفعله على قولين، والنزاع في الصحة معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما. غير أنه مكروه باتفاق المذاهب كلها، والله أعلم. انتهى.
وقال أيضاً: التبليغ خلف الإمام لغير حاجة بدعة غير مستحبة باتفاق الأئمة، وإنما يجهر بالتكبير الإمام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يفعلون، ولم يكن أحد يبلغ خلف النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم ضعف صوته، فكان أبو بكر رضي الله عنه يسمع بالتكبير، وقد اختلف العلماء: هل تبطل صلاة المبلغ؟ على قولين في مذهب مالك، وأحمد وغيرهما ".
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: فإذا احتيج إلى التبليغ لسعة المسجد وكثرة الجماعة أو لضعف صوت الإمام لمرض أو غيره، فإنه يقوم بعض الجماعة بالتبليغ، أما إذا كان الصوت واضحاً للجميع ولا يخفى على أحد في الأطراف، بل علم أن الجميع يسمعه فليس هناك حاجة للتبليغ ولا يشرع. انتهى.
(وغيرُه نفسَه).
أي: وغير الإمام - كالمأموم والمنفرد - يُسمع نفسه، يعني يتكلم بنطق بحيث يسمع نفسه.
• تنبيه: اتفق العلماء على أنه لابد أن يحرك لسانه بالحروف وينطق بها، فلا يجزئه أن ينوي القراءة والأذكار من دون نطق وتلفظ بالحروف، واختلفوا في حكم رفع صوته قليلاً بحيث يسمع نفسه.
فقيل: يجب أن يسمع المصلي نفسه.
وقيل: لا يجب ذلك، بل يجزئه أن يأتي بالحروف ولو لم يسمع نفسه.
وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله، وهو الراجح.
(ويجعل يديه تحت سرتهِ).
ذهب جماهير العلماء أن السنة في اليدين حال القيام هو الوضع وليس الإرسال.
قال ابن قدامة: أما وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة: فمن سنتها في قول كثير من أهل العلم، يروى ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز وسعيد بن جبير والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وحكاه ابن المنذر عن مالك
أ- لحديث وائل بَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: (صَلَّيْتُ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ اَلْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ اَلْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ). أَخْرَجَهُ اِبْنُ خُزَيْمَة
ب-ولحديث وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى
…
) رواه مسلم.
ج-ولحديث هلب الطائي قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه) رواه الترمذي.
د-ولحديث سهل بن سعد قال (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) رواه البخاري.
وذهب بعض العلماء: إلى أن السنة الإرسال.
قال الشوكاني: وروى ابن المنذر عن ابن الزبير والحسن البصري والنخعي أنه يرسلها ولا يضع اليمنى على اليسرى.
لحديث المسيء في صلاته، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسيء في صلاته.
والصحيح القول الأول.
والجواب عن حديث المسيء في صلاته أن يقال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم المسيء في صلاته إلا الأركان والواجبات.
• قوله (تحت سرته) اختلف العلماء: أين يضع المصلي يديه هل على صدره أم تحت سرته في مكان آخر على أقوال:
القول الأول: على صدره.
وهو قول إسحاق وجماعة، ورجحه ابن عثيمين رحمه الله.
لحديث وائل بن حجر السابق (صَلَّيْتُ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ اَلْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ اَلْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ).
قال الشوكاني: ولا شيء في الباب أصح من حديث وائل المذكور.
قال الألباني: وضعهما على الصدر هو الذي ثبت في السنة، وخلافه إما ضعيف أو لا أصل له " انتهى.
وقال السندي في حاشية ابن ماجة: وَبِالْجُمْلَةِ فَكَمَا صَحَّ أَنَّ الْوَضْع هُوَ السُّنَّة دُون الإِرْسَال ثَبَتَ أَنَّ مَحَلّه الصَّدْر لا غَيْر، وَأَمَّا حَدِيث:(أَنَّ مِنْ السُّنَّة وَضْع الأَكُفّ عَلَى الأَكُفّ فِي الصَّلاة تَحْت السُّرَّة) فَقَدْ اِتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفه " انتهى.
وقال ابن عثيمين: وذهب آخرون مِن أهل العِلم: إلى أنه يضعهما على الصَّدرِ، وهذا هو أقرب الأقوال.
• لكن هذه الزيادة (على صدره) شاذة.
وأصل الحديث في صحيح مسلم من حديث وائل بن حجر بدون لفظ (على صدره).
وهذه الزيادة تفرد بها مؤمل بن إسماعيل.
تفرد مؤمل به عن الثوري، ومؤمل ليس بالقوي، وقد وصفه الحافظ بأنه صدوق سيئ الحفظ
أيضاً: أن مؤملاً قد خالف جمعاً من الحفاظ عن الثوري، كعبد الرازق، والفريابي، والمخزومي، وغيرهم. تنظر رواياتهم في (المسند الجامع 15/ 676)، لم يذكر أحد منهم وضعها على الصدر، وإنما هو مطلق الأخذ باليمين على الشمال.
ج/ أنه قد تابع الثوري جماعة من الحفاظ عن عاصم بن كليب يقاربون العشرة، لم يذكر أحد منهم وضعها على الصدر.
فيتبين من تلك الأوجه أن هذه الرواية شاذة، لا يعوّل عليها.
وأصل الحديث في مسلم دون (على صدره) بلفظ (ثم وضع يده اليمنى على اليسرى).
القول الثاني: تحت السرة.
وهو مذهب أبي حنيفة، وسفيان الثوري.
لقول علي (إن من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة) رواه أبو داود.
وهذا ضعيف بالاتفاق كما قال النووي.
قال البيهقي: لا يثبت إسناده.
القول الثالث: أنه مخير.
وبه قال الأوزاعي، وابن المنذر.
قال ابن المنذر: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، فهو مخير.
وهذا القول هو الراجح.
لأنه ثبت أن السنة وضع اليمنى على اليسرى أثناء القيام، ولم يثبت دليل في مكان الوضع، فيكون المصلي مخيراً.
قال الترمذي في (سننه) والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم: يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة، ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم.
•
كيفية وضع اليدين، لها صفتان:
الأولى: وضع كفه اليمنى على كفه اليسرى ورسغها وساعدها.
لحديث وَائِل بْن حُجْرٍ أنه قال (قُلْتُ: لأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُصَلِّي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَقَامَ فَكَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَتَا بِأُذُنَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ
…
) رواه أبو داود.
قال السندي: قوله (الرُّسْغ) هُوَ مَفْصِل بَيْن الْكَفّ وَالسَّاعِد، وَالْمُرَاد أَنَّهُ وَضَعَ بِحَيْثُ صَارَ وَسَط كَفّه الْيُمْنَى عَلَى الرُّسْغ، وَيَلْزَم مِنْهُ أَنْ يَكُون بَعْضهَا عَلَى الْكَفّ الْيُسْرَى، وَالْبَعْض عَلَى السَّاعِد.
الثانية: أن يقبض باليمنى على كوع اليسرى.
لحديث وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ قَائِمًا فِي الصَّلاةِ قَبَضَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِه) رواه النسائي.
الكوع: هو طرف الزند الذي يلي الإبهام.
• ما الحكمة من هذه الصفة.
قال النووي: قال العلماء: والحكمة في وضع إحداهما على الأخرى أنه أقرب إلى الخشوع ومنعهما من العبث، والله أعلم.
وقال الحافظ: قال العلماء الحكمة في هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل، وهو أمنع للعبث، وأقرب للخشوع.
(وينظر موضعَ سجودهِ).
أي: يسن للمصلي أن ينظر موضع سجوده.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: يستحب للمصلي أن يجعل نظره إلى موضع سجوده، قال أحمد - في رواية حنبل -: الخشوع في الصلاة: أن يجعل نظره إلى موضع سجوده، وروي ذلك عن مسلم بن يسار، وقتادة.
أ- لحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فما جاوز بصره موضع سجوده) رواه الحاكم.
ب-ولأن الله أثنى على المؤمنين ومدحهم بالخشوع في الصلاة، ومن صفات الخاشع أن ينظر إلى موضع سجوده.
قال ابن تيمية: إن خفض البصر من تمام الخشوع.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه ينظر أمامه.
وهذا مذهب المالكية.
استدلالاً بقوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام).
قالوا: إن المصلي مأمور بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وإذا نظر إلى موضع سجوده احتاج إلى نوع من الانحناء، والمنحني إلى موضع سجوده لم يولِ وجهه شطر المسجد الحرام.
والصحيح القول الأول.
فائدة: قال ابن حجر: ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم فيستحب للأمام النظر إلى موضع السجود وكذا للمأموم إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام والله أعلم.
• يستثنى من ذلك:
حال التشهد فإنه ينظر إلى سباحته.
فعن عبد الله بن الزبير (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في التشهد وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بالسبابة لا يجاوز بصره إشارته).
رواه أبو داود والنسائي واللفظ له - وصححه النووي في " شرح مسلم " فقال: والسنَّة أن لا يجاوزه بصره إشارته، وفيه حديث صحيح في " سنن أبي داود. (شرح مسلم).
واستثنى بعضُ أهلِ العِلمِ: فيما إذا كان في صلاة الخوف، لقوله تعالى (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ).
وبأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ عيناً يوم حُنين، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ناحية الشِّعْبِ وهو يُصلِّي لينظر إلى هذا العين.
واستثنى بعضُ العلماءِ أيضاً: المُصلِّي، في المسجد الحرام وقالوا: ينبغي أن ينظر إلى الكعبة؛ لأنها قِبْلةُ المصلِّي.
ولكن هذا القول ضعيف؛ فإن النَّظَرَ إلى الكعبة يشغل المُصلِّي بلا شَكٍّ؛ لأنه إذا نَظَرَ إلى الكعبة نَظَرَ إلى النَّاسِ وهم يطوفون فأشغلوه، والصَّحيح أنَّ المسجدَ الحرامَ كغيره؛ ينظر فيه المصلِّي إما إلى موضع سجودِه، أو إلى تلقاءِ وجهه. (الشرح الممتع).
(ثم يقول: دعاء الاستفتاح الوارد).
أي: بعد تكبيرة الإحرام يقول دعاء الاستفتاح.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيَّةً، قَبْلِ أَنْ يَقْرَأَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: "أَقُولُ: اَللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ اَلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اَللَّهُمَّ نقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى اَلثَّوْبُ اَلْأَبْيَضُ مِنْ اَلدَّنَسِ، اَللَّهُمَّ اِغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وقد وردت عدة أدعية للاستفتاح:
أ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلَاثًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ) رواه أبو داود.
• وهذا الحديث بعض العلماء ضعفه كأحمد وابن خزيمة، وصححه بعضهم كالعقيلي، وابن حجر، وأحمد شاكر.
لكن:
جاء عن عمر أنه كان يستفتح به يجهر به.
فقد روى مسلم: عَنْ عَبْدَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ.
وعبدة ابن أبي لبابة لم يدرك عمر.
لكن الطحاوي في شرح معاني الآثار روى الحديث من طريق عمرو بن ميمون الأودي أنه صلى مع عمر بذي الحليفة صلاة الظهر فدعا بهذا الدعاء وجهر به. ورجاله ثقات، وجاء عنه أيضاً عند أبي شيبة والدار قطني والحاكم والبيهقي وإسناده صحيح، وللحديث شواهد تقويه:
أ-جهر عمر.
ب-جاء عند أبي داود مرفوعاً كما تقدم وفيه ضعف.
قال ابن المنذر في الأوسط: وممن روينا عنه أنه كان يقول هذا القول إذا استفتح الصلاة، أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود.
وقال ابن رجب: صح هذا (يعني: الاستفتاح بـ سبحانك اللهم وبحمدك) عن عمر وابن مسعود، وروي عن أبي بكر وعثمان.
ب- دعاء:) اَللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ اَلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
…
) كما تقدم في حديث أبي هريرة.
(إِذَا كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ) أي: تكبيرة الإحرام. (سَكَتَ) المقصود عدم رفع الصوت بدليل قوله كما جاء في رواية عن أبي هريرة قال: (ما تقول). (هُنَيَّةً) أي قليلاً.
ج- عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعاً إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ لَا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) رواه مسلم.
د- (الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً) استفتح به رجل من الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(عجبت لها فتحت لها أبواب السماء) رواه مسلم.
هـ- (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه) استفتح به رجل آخر فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها) رواه مسلم.
و- (اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) رواه مسلم.
وهذا في صلاة الليل.
فقد قالت عائشة (كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ .... ).
•
اختلف العلماء في أفضلها:
فاختار بعض العلماء دعاء: (سبحانك اللهم
…
).
قال أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر [سبحانك اللهم وبحمدك
…
]، ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح لكان حسناً"، قال ابن القيم: وإنما اختار الإمام أحمد هذا لعشرة أوجه:
منها: جهر عمر به يعلمه الصحابة، ومنها: اشتماله على أفضل الكلام بعد القرآن، وأفضل الكلام بعد القرآن: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ومنها: أنه استفتاح أخلص للثناء على الله، وغيره متضمن للدعاء، والثناء أفضل من الدعاء.
وقيل: دعاء: اللهم باعد بيني وبين خطاياي.
قال الشوكاني: ولا يخفى أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالإيثار والاختيار، وأصح ما روي في الاستفتاح حديث أبي هريرة ثم حديث علي.
واختار شيخ الإسلام أن العبادة إذا وردت على وجوه متنوعة فالأفضل تفعل هذه مرة وهذه مرة، وفي ذلك فوائد:
اتباعاً للسنة، وحضوراً للقلب، وإحياء السنة، وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
•
حكمه: سنة.
قال ابن قدامة: وهو من سنن الصلاة في قول أكثر أهل العلم.
لهذه الأحاديث.
•
يقال سراً.
قال ابن قدامة: وعليه عامة أهل العلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر به.
• يكون في الركعة الأولى فقط.
فائدة: تختلف الركعة الأولى عن الثانية بأمور:
أولاً: الاستفتاح في الركعة الأولى.
ثانياً: تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى.
ثالثاً: التعوذ في الركعة الأولى على القول الراجح.
رابعاً: القراءة في الركعة الأولى أطول من الركعة الثانية.
• دعاء الاستفتاح يكون في الفرض والنفل.
• دعاء الاستفتاح يكون بين التكبير والقراءة.
لقوله (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيَّةً، قَبْلِ أَنْ يَقْرَأَ).
• خالف الإمام مالك فقال: إن دعاء الاستفتاح لا يشرع.
لحديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين).
والأحاديث ترد عليه.
وأما قول: (يستفتح القراءة
…
) أي القراءة الجهرية.
•
لا يشرع الجهر بدعاء الاستفتاح:
لقوله (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيَّةً، قَبْلِ أَنْ يَقْرَأَ).
• لا يشرع أن يجمع بين أكثر من دعاء من أدعية الاستفتاح في صلاة واحدة.
• اختلف العلماء: هل يشرع دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة على قولين:
القول الأول: أن دعاء الاستفتاح لا يسن في صلاة الجنازة.
وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
أ-أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استفتح في صلاة الجنازة.
ب-قالوا: إن صلاة الجنازة شرع فيها التخفيف، فناسب ترك الاستفتاح فيها.
قال النووي: وَأَمَّا دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، واتفق الأصحاب على أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَرْكُهُ.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: أما الاستفتاح فلا بأس بفعله ولا بأس بتركه، وتركه أفضل أخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(أسرعوا بالجنازة).
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يشرع دعاء الاستفتاح في الصلاة على الجنازة؟
فأجاب: ذكر العلماء أنه لا يستحب، وعللوا ذلك بأن صلاة الجنازة مبناها على التخفيف، وإذا كان مبناها على التخفيف، فإنه لا استفتاح.
القول الثاني: أن دعاء الاستفتاح يسن في صلاة الجنازة.
وهو قول الأحناف.
عللوا: بأنها صلاة، فيستفتح لها، كما يستفتح لسائر الصلوات.
واختار بعض الأحناف - كالطحاوي رحمه الله أنه لا استفتاح لها.
والأقرب: عدم مشروعية الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنها مبناها على التخفيف، ولهذا لا ركوع فيها ولا سجود، ولا يقرأ فيها سوى الفاتحة.
(ثم يستعيذ).
أي: يسن أن يقول بعد دعاء الاستفتاح (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). (والاستعاذة للقراءة لا للصلاة).
وجمهور العلماء على أنها سنة.
لقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
قال ابن كثير: وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة، يأثم تاركها.
وقال النووي: ثم إن التعوذ مستحب وليس بواجب، وهو مستحب لكل قارئ، سواء كان في الصلاة أو في غيرها.
ويدل على عدم الوجوب:
أ-حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد أنزلت علي سورة آنفاً: بسم الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر) رواه مسلم. ولم يذكر الاستعاذة.
ب-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها الأعرابي حين علمه الصلاة.
[أعوذ بالله] أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي [الشيطان] الشيطان في لغة العرب مشتق من شَطُنَ إذا بَعُدَ فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير
ج- جاء في (الموسوعة الفقهية) واحتجّ الجمهور بأنّ الأمر للنّدب، وصرفه عن الوجوب إجماع السّلف على سنّيّته.
• يقولها المصلي سراً.
قال ابن قدامة: يسر الاستعاذة ولا يجهر بها لا أعلم فيه خلافاً.
• اختلف العلماء هل يستعيذ كل ركعة أم يكفي في الركعة الأولى على قولين:
القول الأول: أنه يستعيذ في كل ركعة.
وهذا مذهب الشافعي، واختاره ابن حزم، وابن تيمية، ومال إليه المرداوي.
أ-لعموم قوله تعالى: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
قالوا: إن التعوذ للقراءة فهو تبع لها، فيقتضي تكرير الاستعاذة عند تكرير القراءة، فيكون مشروعاً لكل من يريد القراءة، سواء كان داخل الصلاة أو خارجها، وسواء في الركعة الأولى أو في الركعات التي بعدها ب-أنها مشروعة للقراءة فتكرر بتكررها، لحصول الفصل بين القراءتين - الأولى والثانية -.
ب- أنها مشروعة للقراءة فتكرر بتكررها، لحصول الفصل بين القراءتين.
القول الثاني: أنه يكفي في أول ركعة.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ورجحه ابن القيم، والشوكاني.
أ- لحديث أبي هريرة قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح للقراءة بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت) رواه مسلم.
قال ابن قدامة: وهذا يدل على أنه لم يكن يستفتح ولا يستعيذ.
ب- قالوا: لأن قراءة الصلاة كلها قراءة واحدة.
ويدل لذلك قوله تعالى (وقرآن الفجر) فجعل الصلاة كلها قرآناً.
ج- القياس على استحباب الترتيب بين سور القرآن في الركعتين، بجامع أن الصلاة جملة واحدة، فالقراءة فيها كلها كالقراءة الواحدة.
قال ابن القيم رحمه الله: والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر.
وقال الشوكاني: الأحاديث الواردة في التعوذ ليس فيها إلا أنه فعل ذلك في الركعة الأولى، فالأحوط: الاقتصار على ما وردت به السنة، وهو الاستعاذة قبل قراءة الركعة الأولى فقط. (نيل الأوطار).
وهذا القول هو الراجح.
• وقد اختلف الفقهاء في مكان الاستعاذة في الصلاة:
فقال قوم: تكون بعد القراءة وهو قول ضعيف.
قال ابن كثير: والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها.
وقال الجصَّاص: وقول من قال: الاستعاذة بعد الفراغ من القراءة: شاذ، وإنما الاستعاذة قبل القراءة لنفي وساوس الشيطان عند القراءة، قال الله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان) فإنما أمر الله بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذه العلة.
•
صيغ الاستعاذة.
الأولى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟
قال القرطبي: هذه الصيغة اختارها أكثر العلماء، لأنها الصيغة التي جاءت بالقرآن.
وهو الذي ورد في السنة كما في حديث سليمان بن صُرد قال (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عند ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،
…
) متفق عليه.
قال ابن عطية: وأما لفظ الاستعاذة، فالذي عليه جمهور الناس، هو لفظ كتاب الله تعالى (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
الصيغة الثاني: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم،
كما قال تعالى (فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم).
الصيغة الثالثة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
كما في حديث أبي سعيد الذي عند أبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك ـ ثم يقول ـ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من
همزه ونفخه ونفثه).
قال ابن كثير: وقد فسر الهمز بالموتة وهي الخنق، والنفخ الكبر، والنفث الشعر [الشعر المذموم].
•
الحكمة من استعاذة الإنسان قبل القراءة:
ذكر ابن القيم عدة أمور:
منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يُذْهِب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أثره فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء يخلو منه القلب ليصادف الدواء محلاً خالياً، فيتمكن منه، ويؤثر فيه.
فيجيء هذا الدواء الشافي إلى قلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فيجتمع فيه.
ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته، كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(تلك الملائكة)، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى يُحَصِّلَ خاصته وملائكته، فهذه وليمة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.
ومنها: أن الشيطان يُجْلِب على القارئ بخيله ورَجْله، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه.
ومنها: أن القارئ مناجٍ لله تعالى بكلامه، والله تعالى أشد أذَناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنَة إلى قينته، والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته تعالى واستماع الرب قراءته.
ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عند ما يهُمُّ بالخير أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذٍ فيه، فهو يشتد عليه حينئذٍ ليقطعه عنه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:(إن شيطاناً تفلت علي البارحة، فأراد أن يقطع علي صلاتي)، وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى، كان اعتراض الشيطان له أكثر.
(ثم يبسمل سراَ).
أي: وبعد أن يستعيذ يسن أن يبسمل يقول: [بسم الله الرحمن الرحيم].
وهذا قول جمهور العلماء.
لحديث أبي هريرة: (أنه صلى فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حتى بلغ: ولا الضالين، حتى إذا أتم الصلاة قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله) رواه النسائي.
• قوله (سراً) هذا الأفضل وهو السنة.
وهذا المذهب.
قال في المغني: ولا يختلف الرواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون.
قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم.
وذكره ابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وعمار وأصحاب الرأي.
أ-لحديث أَنَس أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ اَلصَّلَاةِ بِـ (اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
زَادَ مُسْلِمٌ (لَا يَذْكُرُونَ: (بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ) فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا).
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ (لَا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيم).
وَفِي أُخْرَى لِابْنِ خُزَيْمَةَ (كَانُوا يُسِرُّونَ).
ب-ولحديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله ربّ العالمين) رواه مسلم.
ج-ولحديث عبد الله بن مغفل (أنه صلى مع ابنه فجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم، فلما فرغ من صلاته قال له أبوه، وهو عبد الله بن
مغفل: يا بني، إياك والحدث في الدين، فإني صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلم يكونوا يجهرون بـ: بسم الله الرحمن الرحيم) رواه الترمذي.
د-أن البسملة تقاس على التعوذ، لم يثبت أنه كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ جهراً، بل قال ابن قدامة: يُسَرُّ التعوذ، لا أعلم فيه خلافاً.
وذهب بعض العلماء: إلى استحباب الجهر بها.
وهذا مذهب الشافعي.
أ-لحديث نُعَيْم اَلْمُجَمِّرِ رضي الله عنه قَالَ (صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ: (بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ). ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ اَلْقُرْآنِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ:(وَلَا اَلضَّالِّينَ)، قَالَ:"آمِينَ" وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ، وَإِذَا قَامَ مِنْ اَلْجُلُوسِ: اَللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
قال ابن حجر: هو أصح حديث ورد في الباب.
ونقل النووي في المجموع تصحيحه وثبوته عن الدار قطني، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي.
ب-ولحديث ابن عباس قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) رواه الحاكم وهو ضعيف.
ج-وعن أم سلمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته يقول: بسم الله الرحمن الرحيم - ثم يسكت - الحمد لله رب العالمين) رواه الحاكم.
والصحيح القول الأول، لكن لا بأس أن يجهر بها أحياناً.
قال ابن القيم: كان يجهر بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، تارة ويخفيها تارة أكثر مما يجهر بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة خمس مرات حضراً وسفراً، ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه أهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال.
قال ابن تيمية: المداومة على الجهر بها بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث المصرحة في الجهر كلها موضوعة.
• الجواب عن حديث نعيْم المجمر عن أبي هريرة: يحتمل أموراً:
أ-قيل: أن لفظة (بسم الله الرحمن الرحيم) شاذة.
ب-وقيل: إن الحديث ليس صريحاً بالجهر، لأنه قال (قرأ
…
) فقد يكون جهر أحياناً، فإن الإمام لا بأس أن يجهر بالقراءة أحياناً.
ج-وقيل: أنه لو فرض أنه جهر، فإن هذه ليست عادته الدائمة، وإنما جهر ليعلم الناس شرعيتها بالصلاة، ولهذا أقسم في آخر الحديث أنه أشبه الناس صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومع هذا: فالصواب: أن ما لا يُجهر به، قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة، فيشرع للإمام - أحياناً - لمثل تعليم المأمومين، ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحياناً، ويسوغ أيضاً أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة، خوفاً من التنفير عما يصلح، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم، وقال ابن مسعود، لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه، فقيل له في ذلك، فقال:" الخلاف شر "؛ ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة، وفي وصل الوتر، وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول؛ مراعاة ائتلاف المأمومين أو لتعريفهم السنَّة وأمثال ذلك.
وقال رحمه الله أيضاً - فترك الأفضل عنده لئلا ينفر الناس، وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأمَّ بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم: كان قد أحسن. (مجموع الفتاوى).
فائدة: اختلف العلماء في البسملة في أول السور هل هي من السورة أم لا على قولين:
القول الأول: هي آية من سورة الفاتحة، ومن كل سورة.
وهذا مذهب الشافعي.
أ-لحديث أَنَسٍ قَالَ (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَهً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّماً فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «أُنْزِلَتْ عَلَىَّ آنِفاً سُورَةٌ». فَقَرَأَ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ». ثُمَّ قَالَ «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ». فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبي .. ) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة بنزول سورة عليه، ثم ابتدأ بالبسملة، ثم قرأ سورة الكوثر، وهذا يدل على أن البسملة من السورة.
ب-ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَرَأْتُمْ اَلْفَاتِحَةِ فَاقْرَءُوا: بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، فَإِنَّهَا إِحْدَى آيَاتِهَا) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَوَّبَ وَقْفَه.
ج- ولحديث أم سلمة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ يقطع قراءته آية آية (بسم الله الرحمن الرحيم (1) الرحمن الرحيم (2) رواه الدارقطني.
القول الثاني: ليست من الفاتحة ولا من أول سورة بل هي آية مستقلة نزلت للفصل بين السور.
وهذا مذهب الحنفية، واختيار ابن تيمية.
أ- لحديث أبي هريرة. قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِي
…
) رواه مسلم.
وجه الدلالة: فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بقوله: الحمد لله رب العالمين، دون بسم الله الرحمن الرحيم، ولو كانت البسملة من الفاتحة لبدأ بها لا بالحمد.
ب- ولحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن سورة من القرآن من ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: تبارك الذي بيده الملك) رواه الترمذي.
وجه الدلالة: فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن مقدار سورة الملك ثلاثون آية، وقد اتفق القراء وغيرهم على أنها ثلاثون آية سوى البسملة، ولو كانت منها لكانت إحدى وثلاثين، وهو خلاف قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
ج- ولحديث أَبِى سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ (كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّى. فَقَالَ «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ثُمَّ قَالَ لِي لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ». ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ أَلَمْ تَقُلْ «لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ» . قَالَ «(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُه) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح الفاتحة من قول تعالى (الحمد لله رب العالمين) دون البسملة، ولو كانت البسملة منها لابتدأ بها
د- ولحديث ابن عباس قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن ابن عباس أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف الفصل بين السور إلا بنزول البسملة، وهذا يدل على أنها أنْزلت للفصل.
وهذا القول هو الصحيح.
فائدة الخلاف: أن من قال أنها آية من أول كل سورة قال بوجوب قراءتها قبل الفاتحة في الصلاة، لأنها إحدى آياتها، ومن لم يقل بأنها آية من أول كل سورة لم يقل بذلك.
• ما الجواب عن أدلة القول الأول:
أما حديث أنس (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
…
).
بأنه غبر ظاهر الدلالة، فيمكن حمل بسملة النبي صلى الله عليه وسلم فيه بأنه أراد قراءة السورة من أولها، والتسمية مشروعة عند ابتداء السورة بالإجماع.
وأما حديث (إِذَا قَرَأْتُمْ اَلْفَاتِحَةِ فَاقْرَءُوا: بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ .... ) فهو حديث ضعيف لا يصح.
وأما حديث أم سلمة.
فقد ناقشه ابن قدامة من وجهين:
الوجه الأول: أنه من رأي أم سلمة ولا ينكر الاختلاف في ذلك.
الوجه الثاني: أنها نسلم بأنها آية، ولكنها آية مفردة للفصل بين السور.
فائدة:
اتفق العلماء على أن (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من سورة النمل، وهي قوله تعالى (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم).
قال الجصاص: لا خلاف بين المسلمين في أن بسم اللّه الرحمن الرحيم من القرآن في قوله تعالى (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
وقال النووي: وأما البسملة في أثناء سورة النمل (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) فقرآن بالإجماع فمن جحد منها حرفاً كفر بالإجماع.
(ثم يقرأ الفاتحة).
أي: بعد البسملة يقرأ الفاتحة.
وسميت الفاتحة بهذا الاسم لأنه افتتح بها القرآن العظيم، ولأنه يفتتح بها الصلاة.
• وهي ركن من أركان الصلاة.
أ- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب) متفق عليه.
ب-وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْيَ خِدَاجٌ - ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَام) رواه مسلم.
وسيأتي إن شاء الله أنها ركن في حق الإمام والمنفرد والمأموم.
ج- وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ (كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ قُلْنَا: نَعَمْ هَذًّا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا). رواه أبو داود.
فلابد من قراءة الفاتحة في الصلاة، فمتى تركها المصلي إماماً أو منفرداً بطلت صلاته.
وهذا مذهب جماهير العلماء للأحاديث السابقة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الصلاة تصح بدون الفاتحة.
وهذا مذهب الحنفية.
أ-لقوله تعالى: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته (ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن) متفق عليه.
والصحيح قول الجمهور.
والجواب عن أدلة الحنفية:
أما قوله تعالى (فاقرءوا ما تيسر من القرآن .. ) فهذا عام، وجاء الحديث الذي يأمر بقراءة الفاتحة فخصص.
وأما قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها المسيء في صلاته، نقول: جاء في رواية عند أبي داود (ثم اقرأ بأم القرآن
…
).
(ويجهرُ الكلٌّ بآمين في الجهرية).
أي: المنفرد، والمأموم، والإمام بالجهرية.
أما الإِمام فواضح أنه يجهر بآمين؛ لأن ذلك ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله (إذا أمَّنَ الإِمامُ فأمِّنوا) فعلَّق تأميننا بتأمين الإِمام، ولولا أننا نسمعُهُ لم يكن بتعْليقِهِ بتأمين الإِمامِ فائدة، بل لكان حَرَجاً على الأمة، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يجهرُ بآمين حتى يَمُدَّ بها صوتَه.
وكذلك المأمومون يجهرون بها، كما كان الصَّحابةُ رضي الله عنهم يجهرون بذلك خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حتى يرتجَّ المسجدُ بهم وهذه السُّنَّةُ صحيحةٌ ثابتة.
لكن المنفرد إن جَهَرَ بقراءته؛ جَهَرَ بآمين، وإن أسرَّ أسرَّ بآمين، ودليل ذلك: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في صلاة السِرِّ كالظُّهر والعصر لا يجهر بآمين، وهذا يقتضي أنك إذا لم تجهر بالقراءة لم تجهر بآمين.
• والتأمين حكمه سنة لكل مصل، إماماً أو مأموماً.
وهذا مذهب الجمهور، وهو قول داود الظاهر، واختيار ابن عبد البر.
أ- لحديث وائل بن حُجر قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقال: أمين، ومد بها صوته) هذا لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود (ورفع بها صوته).
قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحافظ: سنده صحيح.
ب- لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أمن الإمام فأمنوا).
وجه الدلالة: ففي هذين الحديثين دلالة صريحة على قول الإمام (آمين) ويجهر بها.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع للإمام أن يؤمن.
وهذا مذهب مالك.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا: آمين
…
)، فقوله: (إذا قال الإمام ولا الضالين
…
) دليل على أن التأمين للمأموم فقط.
لكن هذا القول ضعيف، ويدفعه رواية (إذا أمن الإمام فأمنوا).
قال ابن قدامة: وإنما قصد به تعريفهم موضع تأمينهم وهو عقب قول الإمام ولا الضالين، لأنه موضع تأمين الإمام؛ ليكون تأمين الإمام والمأمومين في وقت واحد موافقا لتأمين الملائكة.
•
متى تقال آمين؟
أما الإمام فيقول آمين: بعد قوله: (ولا الضالين)، وكذلك المنفرد.
وأما المأموم فاختلفوا.
قال بعض العلماء: يقول آمين إذا فرغ الإمام من قول آمين.
واستدلوا بظاهر قوله (إذا أمّن الإمام فأمنوا
…
).
لكن هذا القول ضعيف والصحيح: أنه يقول آمين بعد قول الإمام: ولا الضالين.
لأنه جاء في الحديث عن أبي هريرة. قال. قال صلى الله عليه وسلم (إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين) متفق عليه.
ويكون معنى (إذا أمّن) أي بلغ ما يؤمن عليه وهو ولا الضالين.
قال النووي: وأما رواية (إذا أمن الإمام فأمنوا) فمعناها: إذا أراد التأمين.
• معنى (آمِين) أي: اللهم استجب.
(ويقرأ بعدها سورةً).
أي: بعد الفاتحة يسن أن يقرأ سورة سورة في الركعتين الأوليين من كل صلاة.
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا، فَيَقْرَأُ فِي اَلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ - فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ اَلْأُولَيَيْنِ - بِفَاتِحَةِ اَلْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَيُسْمِعُنَا اَلْآيَةَ أَحْيَانًا، وَيُطَوِّلُ اَلرَّكْعَةَ اَلْأُولَى، وَيَقْرَأُ فِي اَلْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ اَلْكِتَابِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
(وَسُورَتَيْنِ) أي: في الركعتين، في كل ركعة سورة، وقد جاء في البخاري (بفاتحة الكتاب وسورة سورة)، وسميت االسورة سورة، لانفصالها عن أختها، وقيل: لشرفها وارتفاعها، كما يقال لما ارتفع من الأرض سورة، وقيل: لأنها قطعة من القرآن
قال في المغني: لا نعلم خلافاً أنه يسن قراءة سورة مع الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة.
• قوله (يقرأ بعدها سورة) هل يسكت الإمام أم لا؟
فقيل: يسكت بقدر أن يقرأ المأموم الفاتحة.
وقيل: يسكت سكتة خفيفة.
وهذا القول هو الراجح.
قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ يَسْكُتُ سَكْتَةً تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ.
• سئل الشيخ ابن باز رحمه الله رحمه الله: ما حكم سكتة الإمام بعد الفاتحة، وقد سمعت أنها بدعة؟
فأجاب: الثابت في الأحاديث سكتتان: إحداهما: بعد التكبيرة الأولى، وهذه تسمى سكتة الاستفتاح، والثانية: عند آخر القراءة قبل أن يركع الإمام وهي سكتة لطيفة تفصل بين القراءة والركوع.
وروي سكتة ثالثة بعد قراءة الفاتحة، ولكن الحديث فيها ضعيف، وليس عليها دليل واضح فالأفضل تركها، أما تسميتها بدعة فلا وجه له؛ لأن الخلاف فيها مشهور بين أهل العلم، ولمن استحبها شبهة فلا ينبغي التشديد فيها، ومن فعلها أخذاً بكلام بعض أهل العلم لما ورد في بعض الأحاديث مما يدل على استحبابها، فلا حرج في ذلك.
•
الخلاصة:
قال بعض العلماء: السكتات المشروعة ثلاثة:
1 -
بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة.
2 -
بعد الفاتحة ليتمكن المأموم من قراءة الفاتحة.
3 -
بعد القراءة وقيل الركوع، سكتة يسيرة يرد إليه نفسه.
وذهب بعض العلماء: إلى أن السكتات المشروعة سكتتان:
1 -
بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة.
2 -
بعد القراءة، وقيل الركوع.
وأما السكتة من أجل أن يقرأ المأموم الفاتحة فليست مشروعة.
• قوله (سورة) فيه دليل أن يستحب أن تكون السورة كاملة، فقراءة سورة كاملة في الركعة أفضل من قراءة ما يعادلها من سورة أخرى طويلة.
لحديث أبي قتادة السابق (بفاتحة الكتاب وسورة سورة).
وقد كره بعض العلماء قراءة مقدار من سورة طويلة.
والصحيح أنه لا بأس بذلك.
أ- لعموم قوله تعالى: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).
ب- وقال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن).
ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في راتبة الفجر في الركعة الأولى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
…
البقرة) وفي الركعة الثانية (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
…
آل عمران) وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل.
• قوله في الحديث (وَيَقْرَأُ فِي اَلْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ اَلْكِتَابِ) دليل على أنه يقتصر على الفاتحة في الركعتين الأخريين من الظهر والعصر وثالثة المغرب.
• فإن قيل: ما الجواب عن حديث أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي
اَلرَّكْعَتَيْنِ اَلْأُولَيَيْنِ مِنْ اَلظُّهْرِ قَدْرَ: (الم تَنْزِيلُ) اَلسَّجْدَةِ. وَفِي اَلْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ اَلنِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي اَلْأُولَيَيْنِ مِنْ اَلْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ اَلْأُخْرَيَيْنِ مِنْ اَلظُّهْرِ، وَالْأُخْرَيَيْنِ مِنْ اَلظُّهْرِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فقوله (وَفِي اَلْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ اَلنِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ) ومعلوم أن السجدة [30] آية، إذاً ظاهره أنه يقرأ في الركعتين الأخريين مقدار:[15] آية، إذاً بقدر سورة الفاتحة ومعها سورة قدر ثمان آيات.
فالجواب:
أ-بعض العلماء رجح حديث أبي قتادة على حديث أبي سعيد، لأنه في الصحيحين، وحديث أبي سعيد في صحيح مسلم، ولأن حديث أبي قتادة جاء بصيغة الجزم، وحديث أبي سعيد قال (حزرنا قيامه) وفرق بين الجزم بالشيء وبين حزره وتقديره.
ب- وبعضهم ذهب إلى أن قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأخريين سنة، وهذا مذهب الشافعي.
ج- وبعضهم من جمع بين الحديثين؛ وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل هذا أحياناً ويفعل هذا أحياناً.
وهذا الصحيح لأمرين:
أولاً: أن القاعدة في الأصول أنه متى أمكن الجمع بين الدليلين فهو أولى من الترجيح، لأن الجمع عمل بكلا الدليلين.
ثانياً: أن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وقد تنوعت كثير من أقوالها وأفعالها، فيكون تنوع مقدار القراءة من هذا الباب.
• قوله (وَيُسْمِعُنَا اَلْآيَةَ أَحْيَانًا) دليل على أنه ينبغي للإمام أن يسمع الآية أحياناً في قراءة الظهر والعصر، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
(تكون في الصبحِ من طِوال المفصل).
أي: يسن أن يقرأ المصلي في صلاة الصبح بطوال المفصل.
والمفصل: يبدأ من (ق) إلى سورة (الناس) وله طوال، وأواسط، وقصار.
طواله: من ق - عم.
وأواسطه: من عم - الضحى.
وقصاره: من الضحى - الناس.
وسمي بالمفصل:
قال النووي: سمي بذلك لقصر سوره، وقرب انفصال بعضه من بعض.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أول المفصل من ق إلى آخر القرآن على الصحيح، وسمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة على الصحيح.
• فالسنة في صلاة الصبح أن تكون القراءة بطوال المفصل.
قال ابن القيم: أجمع الفقهاء أن السنة في صلاة الفجر أن يقرأ بطوال المفصل. (حاشية السنن).
أ- عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ فُلَانٍ يُطِيلُ اَلْأُولَيَيْنِ مِنْ اَلظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ اَلْعَصْرَ، وَيَقْرَأُ فِي اَلْمَغْرِبِ بِقِصَارِ اَلْمُفَصَّلِ وَفِي اَلْعِشَاءِ بِوَسَطِهِ وَفِي اَلصُّبْحِ بِطُولِهِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءِ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلَاةِ بِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
ب-ولحديث أبي برزة: (
…
وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة).
(وفي المغرب من قِصاره).
أي: من (الضحى) إلى (الناس).
أ- لحديث سليمان بن يسار السابق (
…
وَيَقْرَأُ فِي اَلْمَغْرِبِ بِقِصَارِ اَلْمُفَصَّلِ
…
).
ب- ولحديث رَافِع بْن خَدِيج قال (كُنَّا نُصَلِّى الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِه) متفق عليه
لكن يسن أحياناً أن يقرأ فيها من أواسط المفصل وطواله.
• فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالطور، وهي من طوال المفصل.
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ (سَمِعْتَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي اَلْمَغْرِبِ بِالطُّورِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
• وثبت عنه أنه قرأ بالمرسلات، وهي من طوال المفصل.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) فَقَالَتْ يَا بُنَىَّ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ إِنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ) متفق عليه.
• وثبت عنه مرة واحدة أنه قرأ بالأعراف.
قال ابن حجر: وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل القراءة في صلاة المغرب إما لبيان الجواز وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين.
قال ابن القيم: أما المداومة على قصار المفصل دائماً فهو من فعل مروان بن الحكم، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت وقال: مالك تقرأ بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين الأعراف.
(وفي سائر الصلوات من أوساطهِ).
أي: ويقرأ المصلي في باقي الصلوات - كالظهر، والعصر، والعشاء - من أواسط المفصل.
صلاة العشاء:
أ- حديث سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ (
…
وَيَقْرَأُ فِي اَلْمَغْرِبِ بِقِصَارِ اَلْمُفَصَّلِ وَفِي اَلْعِشَاءِ بِوَسَطِهِ وَفِي اَلصُّبْحِ بِطُولِهِ).
ب- ولحديث جَابِر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما طوّل في صلاة العشاء: أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى. وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) متفق عليه.
صلاة العصر:
يقرأ فيها بأواسط المفصل.
وهذا قول الحنفية والشافعية والحنابلة.
لحديث جابر بن سمرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر (والسماء والطارق) و (والسماء ذات البروج) ونحوهما من السور) رواه أبو داود.
صلاة الظهر:
يقرأ بأواسط المفصل.
وهذا مذهب الحنابلة.
لحديث جابر بن سمرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر (والسماء والطارق) و (والسماء ذات البروج) ونحوهما من السور) رواه أبو داود.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يقرأ بطوال المفصل.
وهذا قول الجمهور.
أ-لحديث أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية) رواه مسلم.
ب- وعنه قال (لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها) رواه مسلم.
ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى من صلاة الظهر بحيث يذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ويدركها معه، وهذا يدل على أنه كان يطيل القراءة فيها، فيقرأ بطوال المفصل.
• يجوز جمع سورتين فأكثر في الركعة الواحدة.
أ- لحديث حذيفة قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّى بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّح) رواه مسلم.
وما جاز في النفل جاز في الفرض إلا بدليل.
ب- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِ - (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى فَقَالَ مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّهَا فَقَالَ حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ) رواه البخاري.
ج- عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فَلَمَّا رَجَعُوا ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «سَلُوهُ لأَىِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ» . فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ) متفق عليه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة سورتين بعد الفاتحة في كثير من الصلوات، وسميت هذه السور بـ (النظائر) وقد جاء في الأحاديث الصحيحة ذِكرها وبيانها.
عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأتُ المفصَّل الليلة في ركعة، فقال: هَذًّا كهذِّ الشعر؟ لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصَّل سورتين في كل ركعة. متفق عليه.
وبوَّب عليه البخاري بقوله: باب الجمع بين السورتين في الركعة.
والهذّ: سرعة القراءة.
وعن علقمة والأسود قالا: أتى ابنَ مسعود رجلٌ فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أهذّاً كهذ الشعر ونثراً كنثر الدقل؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة: النجم والرحمن في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة. رواه أبو داود
والدقل: رديء التمر.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ويجوز للإنسان أن يقرأ بعد الفاتحة سورتين، أو ثلاثاً، وله أن يقتصر على سورة واحدة، أو يقسم السورة إلى نصفين، وكل ذلك جائز لعموم قوله تعالى (فاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن).
• يجوز تفريق السورة الواحدة بين الركعتين.
فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف قسمها بين الركعتين.
• يجوز قراءة السورة الواحدة في الركعتين.
لحديث معاذ بن عبد الله: (أن رجلاً من جهينة أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الصبح: إذا زلزلت
…
في الركعتين كليهما) رواه أبو داود.
• حكم تنكيس السور (كأن يقرأ في الركعة الأولى: الناس، وفي الثانية: الإخلاص).
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: يجوز بلا كراهة.
وبه قال الشافعي، واختار هذا القول الموفق، وابن تيمية، وابن باز.
أ-لحديث حذيفة. قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّى بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّح
…
) رواه مسلم.
حيث قرأ النبي صلى الله عليه وسلم البقرة ثم النساء ثم آل عمران.
ب- ولحديث أنس السابق قال (كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِ - (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
…
).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرجل على قراءته بسورة الإخلاص وسورة بعدها في كل ركعة من كل صلاة، ومعلوم أنه ليس بعد سورة الإخلاص إلا سورتا الفلق والناس، وهذا يدل على أنه كان يقرأ سورة الإخلاص وسورة مما قبلها في الترتيب، لأنه يبعد أن يقتصر على قراءة الفلق أو الناس بعدها في كل ركعة من كل صلاة، فهذا يدل على جواز تنكيس السور في القراءة في الصلاة.
ج-ما ذكره البخاري هنا (وَقَرَأَ الأَحْنَفُ بِالْكَهْفِ فِي الأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ، أَوْ يُونُسَ وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه الصُّبْحَ بِهِمَا) قال ابن حجر وصله جعفر الغريابي في كتاب الصلاة له من طريق عبد الله بن شقيق قال: صلى بنا الأحنف فذكره.
القول الثاني: يكره.
وبه قال مالك، وأحمد، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
لأن ذلك خلاف ترتيب المصحف الذي وضعوه الصحابة.
ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وقال عن حديث حذيفة: لعله قبل العرضة الأخيرة.
القول الثالث: يكره التنكيس في صلاة الفرض ولا يكره في صلاة النفل.
والراجح - والله أعلم - القول الأول.
(ويجهرُ الإمامُ في القراءة في الصبح والأوليين من المغرب والعشاء، ويسر فيما عدا ذلك)
وهذا مستحب، وهو الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم، وفعل خلفائه من بعده.
قال النووي: فَالسُّنَّةُ الْجَهْرُ فِي رَكْعَتِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَفِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالْإِسْرَارُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَثَالِثَةِ المغرب، والثالثة وَالرَّابِعَةِ مِنْ الْعِشَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَظَاهِرَةِ عَلَى ذَلِكَ. (شرح المهذب).
وقال ابن قدامة: لْجَهْرُ فِي مَوَاضِعِ الْجَهْرِ، وَالْإِسْرَارُ فِي مَوَاضِعِ الْإِسْرَارِ، لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِهِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ.
فَإِنْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، أَوْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ، تَرَكَ السُّنَّةَ، وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ.
إلَّا أَنَّهُ إنْ نَسِيَ فَجَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ، بَنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ.
وَإِنْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا يَمْضِي فِي قِرَاءَتِهِ.
وَالثَّانِيَةُ يَعُودُ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ إنَّمَا لَمْ يَعُدْ إذَا جَهَرَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِزِيَادَةٍ. (المغني).
• وقد تقدم في حديث أبي قتادة قوله (وَيُسْمِعُنَا اَلْآيَةَ أَحْيَانًا) وهذا فيه دليل على أنه ينبغي للإمام أن يسمع الآية أحياناً في قراءة الظهر والعصر، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
•
الحكمة من الجهر في صلاة الليل دون النهار:
تلمس بعض العلماء الحكمة من الجهر بالقراءة في الصلاة الليلية، والإسرار في الصلوات النهارية، وحاصل ما ذكروه في ذلك:
أن الليل وقت الهدوء والخلوة وفراغ القلب، فشرع فيه الجهر إظهاراً للذة مناجاة العبد لربه، وحتى يتوافق على القراءة القلب واللسان والأذن.
وإلى هذا المعنى أشارت الآية الكريمة (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً).
قال ابن كثير: والغرض أن ناشئة الليل هي ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة ولهذا قال تعالى:(هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش " انتهى.
وقال القرطبي: فالمعنى: أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان، لانقطاع الأصوات والحركات " انتهى.
وقال السعدي: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي أقرب إلى حصول مقصود القرآن، يتواطأ عليه القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره.
وهذا بخلاف النهار، فإنه لا يحصل به هذه المقاصد، ولهذا قال:(إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) أي: تردداً في حوائجك ومعاشك يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام " انتهى.
وقال ابن القيم: وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والإسرار ففي غاية المناسبة والحكمة; فإن الليل مظنة هدوء الأصوات وسكون الحركات وفراغ القلوب واجتماع الهمم المشتتة بالنهار، فالنهار محل السبح الطويل بالقلب والبدن، والليل محل مواطأة القلب للسان، ومواطأة اللسان للأذن; ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات.
(ثم يركع)
أي: بعد القراءة يركع.
والركوع من أركان الصلاة.
• والمقصود منه تعظيم الله، ولذلك جاء في الحديث (
…
فَأَمَّا اَلرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ اَلرَّبَّ
…
).
•
حد الركوع المجزئ:
قيل: هو أن ينحني المصلي بقدر ما تمس يده ركبته.
قال البهوتي: والمجزئ الانحناء بحيث يمكن مس ركبتيه بيديه.
وقيل: ينحني بحيث يكون إلى الركوع التام أقرب منه إلى الوقوف التام، فيكون من يراه يعرف أنه راكع وبه قال المجد.
(مكبراً).
أي: يركع قائلاً الله أكبر.
أي: يكون التكبير في حال هويهِ إلى الركوع
وهذه التكبيرات تسمى تكبيرات الانتقال، وهي واجبة، والدليل على وجوبها:
أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها، ولم يحفظ عنه أنه ترك التكبير أبداً، مع قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ب-وقال صلى الله عليه وسلم (وإذا كبر فكبروا).
ج-وقال صلى الله عليه وسلم في الصلاة (إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) فدل على أن الصلاة لا تخلو من التكبير كما لا تخلو من قراءة القرآن، وكذلك التسبيح.
د-ولأنها شعار الانتقال من ركن إلى ركن.
• يستثنى من ذلك تكبيرة الإحرام، فإنها ركن كما سبق.
وتكبيرة المسبوق إذا أدرك إمامه راكعاً فإنها سنة، للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام، وكذا الزوائد في العيد والاستسقاء فإنها سنة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن تكبيرات الانتقال ليست بواجبة بل مستحب.
وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية، والشافعية، والمالكية.
قال ابن المنذر: وبهذا قال أبو بكر الصديق وعمر وابن مسعود وابن عمر وابن جابر وقيس بن عباد وشعيب والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وعوام أهل العلم.
واحتج أصحاب هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسيء في صلاته إلا بتكبيرة الإحرام.
قال النووي: وأما فعله صلى الله عليه وسلم فمحمول على الاستحباب جمعا بين الأدلة.
• تكبيرات الانتقال تكون ما بين الركنين، لا يبدأ بها قبل ولا يؤخرها إلى ما بعد.
• لا يشترط استيعاب ما بين الركنين، لأن ذلك مشقة، فالمشترط أن يكون هذا الذكر بين الركنين.
• الحكمة من التكبير في كل خفض ورفع:
قيل: إن المكلف أمِر بالنية في أول الصلاة مقرونة بالتكبير، وكان من حقه أن يستصحب النية إلى آخر الصلاة، فأمِر أن يجدد العهد في أثنائها بالتكبير الذي هو شعار النية.
وقيل: الحكمة في شرعية تكرار التكبير، تنبيه المصلي على أن الله الذي قام بين يديه يناجيه أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، فلا ينبغي شغل القلب عن مناجاته بشيء من الأشياء.
(رافعاً يديهِ).
أي: كما تقدم في تكبيرة الإحرام، إما إلى حذو منكبيه وإما إلى فروع أذنيه.
لحديث ابن عمر - وقد تقدم - (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا اِفْتَتَحَ اَلصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ).
(ثم يضع يديه على ركبتيه).
والمراد باليدين هنا الكفان، لأن اليد إذا أطلقت فالمراد بها الكف.
والدليل على استحباب ذلك:
لحديث أَبِي حُمَيْدٍ اَلسَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ (رَأَيْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرِهِ
…
) رواه البخاري.
وتمكين اليد من الركبة يكون بأمرين:
الأول: القبض.
وقد جاء في حديث آخر بإسناد صحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبض على ركبته).
والثاني: تفريج الأصابع.
وقد جاء أيضاً في حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج بين أصابعه) رواه الحاكم.
• قوله (على ركبتيه) هذا هو السنة، وقد كانت السنة قبل التطبيق.
عن مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ قال (صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ فَنَهَانِي أَبِي وَقَالَ كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ) متفق عليه.
قال الترمذي: التطبيق منسوخ عند أهل العلم، لا خلاف بين العلماء في ذلك إلا ما روي عن ابن مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبّقون.
وأخرج ابن المنذر بسنده حديث الباب، ثم أخرج بسند قوي عن ابن عمر قال: إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة - يعني التطبيق -.
ثم قال: فقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وضع يديه على ركبتيه، ودل خبر سعد - يعني حديث الباب - على نسخ التطبيق والنهي عنه.
وأن الواجب وضع اليدين على الركبتين.
(ويفرج أصابعَه).
أي: ويستحب تفريج الأصابع على الركبة.
أ- لحديث وَائِل بْن حُجْرٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَكَعَ فَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَإِذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ) رَوَاهُ اَلْحَاكِمُ.
ب- وأمر بذلك المسيء في صلاته فقال له (إذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك، ثم فرج بين أصابعك، ثم امكث حتى يأخذ كل عضو مأخذه) رواه ابن خزيمة.
• الحكمة من تفريج الأصابع حال الركوع، لأن ذلك أمكن للركوع، وأثبت لحصول تسوية ظهره برأسه.
(ويَمد ظهرَه).
أي: ويستحب حال الركوع أن يمد ظهره، فيكون مستوياً.
أ- لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ اَلصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ: بِـ (اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ) وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ
…
) رواه مسلم.
(إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ) أي: لم يرفعْه. (وَلَمْ يُصَوِّبْهُ) أي: لم يخفضه ولم يُنكّسْه.
ب- وجاء في حديث ابن عباس (كان صلى الله عليه وسلم إذا ركع بسط ظهره وسواه، حتى لو صب الماء عليه لاستقر) رواه ابن ماجه.
(ويقول سبحان ربي العظيم).
أي: يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم.
لحديث حُذَيْفَةَ قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّى بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ». فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى». فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ) رواه مسلم.
• وقد اختلف العلماء في حكم هذا الذكر في الركوع:
فقيل: واجب.
قال النووي: وأوجبه أحمد وطائفة من أهل الحديث.
أ-لقوله (فَأَمَّا اَلرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ اَلرَّب
…
) وهذا أمر والأمر للوجوب.
ب-ولحديث حذيفة السابق (
…
ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ
…
) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ج- ولحديث عقبة بن عامر قال (لما نزلت [فسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى] قال: اجعلوها في سجودكم) رواه أبو داود.
وقيل: سنة.
وهذا مذهب جماهير العلماء كما قال النووي.
لحديث المسيء في صلاته، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلمه التسبيح، ولو كان واجباً لأمره به.
والقول الأول هو الصحيح، والله أعلم.
• الواجب أن يقال هذا الذكر مرة واحدة.
• من الأذكار التي يستحب للمصلي أن يقولها أيضاً في ركوعه:
أ-سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ [رَبَّنَا] وَبِحَمْدِكَ، اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي.
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) يَتَأَوَّلُ الْقُرْآن. متفق عليه.
ب- سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
عن عَائِشَة. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ) رواه مسلم.
ج- اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ
ما جاء في حديث علي قال (
…
وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبي) رواه مسلم.
د- سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَة.
عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ،
…
يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ) رواه أبو داود.
هـ- قول: سبحان ربي العظيم وبحمده.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَكَعَ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ ثَلاثًا، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ ثَلاثًا) رواه أبوداود.
وهذه الزيادة: (وبحمده) قد اختلف أهل العلم في تصحيحها وتضعيفها، أما راويها أبو داود فقد قال: وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة، انفرد أهل مصر بإسنادها.
• فينبغي للمسلم أن يحافظ على هذه السنن الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي بهذا أحياناً، وهذا أحياناً، وله أن يجمع بين هذه الأذكار في الركوع الواحد.
قال النووي: ولكن الأفضل أن يجمعَ بين هذه الأذكار كلها إن تمكن من ذلك بحيث لا يشقّ على غيره، ويقدّم التسبيح منها، فإن أراد الاقتصارَ فيستحبُّ التسبيح. وأدنى الكمال منه ثلاث تسبيحات، ولو اقتصر على مرّة كان فاعلاً لأصل التسبيح. ويُستحبّ إذا اقتصر على البعض أن يفعل في بعض الأوقات بعضها، وفي وقت آخر بعضاً آخر، وهكذا يفعل في الأوقات حتى يكون فاعلاً لجميعها " انتهى. (الأذكار).
وقال في (الإقناع) ولا تكره الزيادة على قول رب اغفر لي، ولا على سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى، في الركوع والسجود، مما ورد " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع"(3/ 77) بعد أن ذكر جملة من أذكار الركوع، وهل يجمع بين هذه الأذكار أو يقتصر على ذكر واحد؟
قال: " هذا محل احتمال، وقد سبق أن الاستفتاحات الواردة لا تقال جميعاً، إنما يقال بعضها أحياناً وبعضها أحياناً، وبينّا دليل ذلك، لكن أذكار الركوع المعروف عند عامة العلماء أنها تذكر جميعاً " انتهى.
• نهيَ المصلي عن قراءة القرآن في ركوعه وسجوده.
لحديث اِبْن عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ اَلْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا اَلرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ اَلرَّبَّ، وَأَمَّا اَلسُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي اَلدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ولحديث علي قال (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً) رواه مسلم.
•
اختلف العلماء: هل هذا النهي للكراهة أم للتحريم على قولين:
القول الأول: أنه للكراهة.
وهو مذهب الجمهور.
القول الثاني: أنه للتحريم.
وهو قول بعض أهل الظاهر.
وهذا الظاهر.
• الحكمة من النهي عن القراءة حال الركوع والسجود:
قيل: لأَنَّ أَفْضَل أَرْكَان الصَّلاة الْقِيَام وَأَفْضَل الأَذْكَار الْقُرْآن، فَجَعَلَ الأَفْضَل لِلأَفْضَلِ وَنَهَى عَنْ جَعْله فِي غَيْره لِئَلا يُوهِم اِسْتِوَائِهِ مَعَ بَقِيَّة
الأَذْكَار. (عون المعبود)
ويؤيد هذا القول حديث جابر. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت.
وقيل: لما كان الركوع والسجود وهما غاية الذل والخضوع مخصوصين بالذكر والتسبيح نهى صلى الله عليه وسلم عن القراءة فيهما، كأنه كرِهَ أن يُجمع بين كلام الله تعالى وبين كلام الخلق في موضع واحد، فيكونا على السواء. قاله الطيبي.
وقيل: لأن القرآن أشرف الكلام، إذ هو كلام الله، وحالة الركوع والسجود ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب أن لا يقرأ كلام الله في هاتين الحالتين. (مجموع الفتاوى 5/ 338)
قال الشيخ ابن عثيمين: لأن حال الركوع والسجود فيها نوع من التطامن والتواضع من الإنسان، فلا يليق أن يكون التالي له على هذه الحال.
• من نسي فقال في الركوع سبحان ربي الأعلى، أو قال في السجود: سبحان ربي العظيم، له حالان:
الحالة الأولى: أن يتذكر أنه لم يأت بالذكر في موضعه، فيقول: سبحان ربي العظيم قبل أن يرفع من الركوع، ويقول في السجود: سبحان ربي الأعلى قبل أن يرفع
فهذا لا يجب عليه سجود السهو، لأنه لم يترك واجباً، وإنما يستحب له السجود، لأنه أتى بذكر في غير موضعه.
الحالة الثانية: أن لا يتذكر أنه لم يأت بالذكر في موضعه إلا بعد الرفع من الركوع أو السجود، فهنا يجب عليه سجود السهو، لأنه ترك واجباً.
ويكون السجود في هذه الحالة قبل السلام.
قال الشيخ ابن عثيمين: إذا أتى بقول مشروع في غير موضعه، فإنه يسن له أن يسجد للسهو، كما لو قال:"سبحان ربي الأعلى" في الركوع، ثم ذكر فقال:"سبحان ربي العظيم" فهنا أتى قول مشروع وهو "سبحان ربي الأعلى"، لكن "سبحان ربي الأعلى" مشروع في السجود، فإذا أتى به في الركوع قلنا: إنك أتيت بقول مشروع في غير موضعه، فالسجود في حقك سنة.
(ثم يرفعُ رأسَه)
أي: يرفع رأسه وظهره من الركوع.
لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته (ثم ارفع حتى تطمئن قائماً) متفق عليه.
(قائلاً)
أي: يكون القول في حال الرفع، فلا يقال قبله ولا يؤخر لما بعده.
(إمامٌ ومنفردٌ: سمع الله لمن حمده).
أي: أن الإمام أو المنفرد يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. (يجمع بين التسميع والتحميد).
اتفق الفقهاء على أن المنفرد يجمع بين التسميع والتحميد، فيقول:(سمع الله لمن حمده) حين يرفع من الركوع، فإذا استوى قائما قال:(ربنا ولك الحمد).
وقد نقل الاتفاق: الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وابن عبد البر في "الاستذكار".
• أما المأموم فلا يجمع بين التسميع والتحميد وإنما يقتصر على التحميد.
وهذا المذهب.
لحديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا ولك الحمد) متفق عليه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجمع بين التسميع والتحميد.
وهذا مذهب الشافعي.
أ- لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى اَلصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ
يَقُولُ: "سَمِعَ اَللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ:"رَبَّنَا وَلَكَ اَلْحَمْدُ" ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا
…
) متفق عليه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
ب-ولأنه ذكْرٌ شُرع للإمام فيُشرع للمأمور كسائر الأذكار.
والراجح الأول.
أما الجواب عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أنه يكون عام مخصوص منه المأموم.
(ويقول الكل: ربنا ولك الحمد).
أي: يقول هذا الذكر بعد الرفع من الركوع، وهذا الذكر يقوله الكل: الإمام والمأموم والمنفرد.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى اَلصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ:"سَمِعَ اَللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ:"رَبَّنَا وَلَكَ اَلْحَمْدُ" ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي
سَاجِدًا
…
) متفق عليه.
وقد ورد عدة صيغ:
منها ما ذكره المصنف: ربنا ولك الحمد.
لحديث أبي هريرة السابق، ولحديث أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً،
…
وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) متفق عليه.
ومنها: ربنا لك الحمد [من غير واو].
لحديث أبي سعيد قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد) رواه مسلم.
ومنها: اللهم ربنا لك الحمد.
لحديث أبي هريرة. قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قال: اللهم ربنا لك الحمد) متفق عليه.
ومنها: اللهم ربنا ولك الحمد.
لحديث أبي هريرة. قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قال: اللهم ربنا ولك الحمد) رواه البخاري.
والأفضل أن يأتي بهذا مرة، وبهذا مرة، ليكون متبعاً للسنة.
(مِلْءَ اَلسَّمَاءِ، وَمِلْءَ اَلْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ).
أي: يسن للمصلي (إمام أو مأموم أو منفرد) أن يزيد في الرفع من ركوعه هذا الدعاء.
لحديث أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ قَالَ: " اَللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ اَلْحَمْدُ مِلْءَ اَلسَّمَوَاتِ وَمِلْءَ اَلْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ اَلثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ اَلْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ - اَللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا اَلْجَدِّ مِنْكَ اَلْجَدُّ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
{مِلْءَ اَلسَّمَوَاتِ وَمِلْءَ اَلْأَرْضِ} قال الخطابي: "هو تمثيل وتقريب، فالكلام لا يقدر بالمكاييل ولا تسعه الأوعية، والمراد تكثير القول لو قدر ذلك أجساماً ملأ ذلك كله". وقال النووي: "قال العلماء: معناه: حمداً لو كان أجساماً لملأ السموات والأرض" وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الصحيح أن المعنى: أن الله محمود على كل مخلوق يخلقه، وعلى كل فعل يفعله". {وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ} فيه إشارة إلى أن حمد الله تعالى لا منتهى له ولا يحصيه عاد، ولا يجمعه كتاب. {أَهْلَ اَلثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ} أي أنت أهل الثناء والمجد، والثناء: هو المدح بالأوصاف الكاملة، والمجد هو العظمة ونهاية الشرف. {أَحَقُّ مَا قَالَ اَلْعَبْدُ} أي ذلك أحق ما قال العبد، والمراد ما سبق من الثناء والمجد، أحق ما قال العبد: أي أصدقه وأثبته. {وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ} فيه التنبيه على أنه تعالى مالك لجميع العباد. {اَللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ} إذا أردتَ إعطاءَه. {وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ} إذا أردت منعه، فما قدر سبحانه عطاءه وجِدَ، وما قدر منعه لا يوجد. {وَلَا يَنْفَعُ ذَا اَلْجَدِّ
مِنْكَ اَلْجَدُّ} الجَد بفتح الجيم، هو الحظ والغنى و (من) بمعنى عند، والمعنى: لا ينفع صاحب الغنى عندك غناه ولا حظه، وإنما ينفعه العمل بطاعتك.
• هذا الذكر للإمام والمنفرد والمأموم في الفرض والنفل.
• من الأذكار التي تقال بعد الرفع من الركوع: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ (كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ: فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ) رواه البخاري.
قال ابن رجب: وقد دل الحديث على فضل هذا الذكر في الصلاة، وأن المأموم يشرع له الزيادة على التحميد بالثناء على الله عز وجل، كما هو قول الشافعي وأحمد في رواية.
وأن مثل هذا الذكر حسنٌ في الاعتدال من الركوع في الصلوات المفروضات؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم إنما كانوا يصلون وراء النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات المفروضة غالباً، وإنما كانوا يصلون وراءه التطوع قليلا.
وفيه أيضاً: دليل على أن جهر المأموم أحيانا وراء الإمام بشيء من الذكر غير مكروه، كما أن جهر الإمام أحياناً ببعض القراءة في صلاة النهار غير مكروه. " فتح الباري " لابن رجب.
وقال الحافظ ابن حجر: قوله: (مباركا فيه) زاد رفاعة بن يحيى: (مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى)، فأما قوله:(مباركاً عليه) فيحتمل أن يكون تأكيداً، وهو الظاهر، وقيل الأول بمعنى الزيادة والثاني بمعنى البقاء
…
وأما قوله: (كما يحب ربنا ويرضى) ففيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد.
والظاهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة، ويؤيده ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا:(إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر) الحديث.
واستدل به على أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة، والحكمة في سؤاله صلى الله عليه وسلم له عمن قال، أن يتعلم السامعون كلامه فيقولوا مثله. (فتح الباري لابن حجر).
• المشروع إطالة هذا الركن، وأنه بقدر الركوع، بخلاف كثير من الناس.
قال ابن القيم: قال شيخنا: إن تقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة، وأحدثوا فيه كما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه صلى الله عليه وسلم، وربي في ذلك من ربي حتى ظن أنه من السنة.
فقد ثبت عند النسائي عن أنس قال: (إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع من الركوع انتصب قائماً يقول القائل قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود مكث حتى يقول القائل قد نسي).
•
فائدة: أين يضع يديه بعد الركوع؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه مخير إما أن يرسلهما من على جنبيه أو أنه يضع اليمنى على اليسرى.
والرأي الثاني: أنه يرسلهما ولا يضعهما.
والرأي الثالث: أنه يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، ودليل ذلك حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان الناس يأمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، وهذا يشمل جميع الصلاة، فالصواب في هذه المسألة: أنه يضع يده اليمنى على اليسرى، هذا الصواب.
(ثم يخر ساجداً مكبراً ولا يرفع يديه).
أي: ثم يسجد المصلي، ويكون سجوده على أعضائه السبعة من غير رفع لليدين.
عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى اَلْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ اَلْقَدَمَيْنِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
فالسجود على هذه الأعضاء السبعة واجب، وأنه لا بد من السجود عليها جميعاً فلا يجزئ السجود على بعضها.
وهذا مذهب الحنابلة.
لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، والأمر يقتضي الوجوب، والأمة تبع له في هذا، ويؤيده رواية (أُمرْنا).
قال النووي: لَوْ أَخَلَّ بِعُضْوٍ مِنْهَا لَمْ تَصِحّ صَلاته.
وقال الشيخ ابن عثيمين: لا يجوز للساجد أن يرفع شيئاً من أعضائه السبعة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ) فإن رفع رجليه أو إحداهما، أو يديه أو إحداهما، أو جبهته أو أنفه أو كليهما، فإن سجوده يبطل ولا يعتد به، وإذا بطل سجوده فإن صلاته تبطل. (لقاء الباب المفتوح).
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز السجود على الجبهة دون الأنف.
وهذا مذهب الشافعي وجماعة.
أ-أن هذا هو السجود اللغوي (السجود في اللغة: هو وضع الجبهة على الأرض).
ب-وجاء في حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد على أعلى الجبهة) وهو ضعيف.
ج- قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء السجود (سجد لك وجهي
…
) رواه مسلم.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجزئ السجود على الأنف فقط.
قال ابن المنذر رداً عليه: وهو قول يخالف الحديث الصحيح.
وعلى هذا، فمن رفع أحد أعضاء السجود عن الأرض جميع السجود، ولم يسجد عليه، لم تصح صلاته.
وأما من رفعه وقتاً يسيراً فصلاته صحيحة إن شاء الله تعالى.
وقد سئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: إنسان رفع أحد أعضاء السجود هل تبطل صلاته وهو ساجد؟
فأجاب: الظاهر أنه إن رفع في جميع السجود -أي: ما زال ساجداً وهو رافعٌ أحد الأعضاء- فسجوده باطل، وإذا بطل السجود بطلت الصلاة، وأما إذا كان رفعه لمدة يسيرة مثل أن يحك رجله بالأخرى ثم أعادها فأرجو ألا يكون عليه بأس. (لقاء الباب المفتوح)
• يجوز أن يسجد ولو على حائل منفصل، لأن السجود على حائل ينقسم إلى قسمين:
أ- السجود على حائل منفصل عن المصلي، فهذا جائز.
كأن يسجد على فرشة أو سجادة.
لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الخمرة).
الخمرة: هي السجادة، وسميت خمرة لأنها تخمر الوجه أي تغطيه.
لكن يستثنى من ذلك أن يخص جبهته بشيء يسجد عليه دون بقية بدنه، فهذا ينهى عنه لأمرين:
أولاً: أن في ذلك موافقة للرافضة وتشبهاً بهم، لأنهم يسجدون على قطعة من المدَر كالفخار.
ثانياً: رفع التهمة، والذي ينبغي للمسلم اتقاء مواضع التهم.
ب- أن يسجد على حائل متصل به، فهذا يكره إلا لحاجة، كأن يسجد على شماغه أو بعضه.
لحديث أنس قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه). متفق عليه فقوله: (فإذا لم يستطع أحدنا) دليل على أنهم لا يفعلون ذلك مع الاستطاعة.
• لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء لو كان مستوراً، بل يسجد على العضو ولو مع الساتر، كشراب اليدين والرجلين،
لأمرين:
الأول: أن مسمى السجود يحصل بوضع الأعضاء على الأرض دون كشفها.
الثاني: ما ذكره البخاري في صحيحه عن الحسن قال: (كان القوم يسجدون على العمامة - القلنسوة - ويداه في كمه)،
• هل يجب أن يستوعب العضو للأرض أم يجزئ السجود على بعض العضو المأمور به؟
الكمال أن يستوعب في سجوده العضو كله، فيسجد عليه بكامله.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد اسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةَ. رواه البخاري.
ولما رواه أبو داود من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمسيء صلاته (وإذا سجدت فمكن لسجودك) واستيعاب العضو في السجود من تمكين السجود.
ويجزئ السجود على بعض العضو المأمور السجود عليه على الصحيح من مذهب الشافعية والحنابلة.
قال النووي: السجود علي الجبهة واجب بلا خلاف عندنا، والأولى أن يسجد عليها كلها، فإن اقتصر علي ما يقع عليه الاسم منها أجزأه مع أنه مكروه كراهة تنزيه، هذا هو الصواب الذي نص عليه الشافعي في الأم وقطع به جمهور الأصحاب. (المجموع)
وقال المرداوي: يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى بَعْضِ الْعُضْوِ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَيَجُوزُ.
السُّجُودُ بِبَعْضِ الْكَفِّ، وَلَوْ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَكَذَا عَلَى بَعْضِ أَطْرَافِ أَصَابِعِ قَدَمَيْهِ، وَبَعْضِ الْجَبْهَةِ. (الإنصاف)
وعليه؛ فمن سجد على رجليه، فمسّ ببعض أطراف أصابعه الأرض فصلاته صحيحة، والسنة: أن يمكن لأعضاء السجود على قدر استطاعته.
• الحكمة من السجود على هذه الأعضاء: لأجل أن يشمل السجود أعالي الجسد وأسافله، وأعضاء كسبه وسعيه، فيكمل ذل العبد وعبادته لله تعالى، لأن السجود عليها إذلال لله رب العالمين.
• إذا عجز عن السجود عن بعض الأعضاء فإنه يسجد على بقيتها.
لقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
ولقوله صلى الله عليه وسلم (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.
(ولا يرفع يديه).
أي: لا يشرع رفع اليدين حال السجود أو القيام منه.
وهذا مذهب الجماهير.
لحديث ابن عمر وقد تقدم (ولا يفعل ذلك في السجود).
وهذا القول هو الصحيح.
وقد قال الحافظ ابن حجر: وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة ولا يخلو شيء منها من مقال.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها ترفع.
وهذا القول قول ابن حزم، ورجحه ابن المنذر وجماعة، واختاره الألباني.
لحديث مَالِك بْنِ الْحُوَيْرِثِ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ فِي صَلَاتِهِ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا سَجَدَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْه) رواه النسائي.
قال الحافظ ابن حجر: وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود ما رواه النسائي
…
" ثم ذكر هذا الحديث.
ورواه أحمد ولفظه: عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِيَالَ فُرُوعِ أُذُنَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُود).
وروى ابن أبي شيبة عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُود).
فذهب بعضهم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع أحياناً، ولكن كان أكثر حاله على عدم الرفع
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله بعض الروايات التي فيها الرفع في السجود ثم قال: ويجاب عن هذه الروايات كلها، على تقدير أن يكون
ذكر الرفع فيها محفوظاً، ولم يكن قد اشتبه بذكر التكبير بالرفع، بأن مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر: لم يكونا من أهل المدينة، وإنما كانا قد قدما إليها مرة أو مرتين، فلعلهما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذَلِكَ مرة، وقد عارض ذَلِكَ نفي ابن عمر، مع ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على حفظ أفعاله واقتدائه به فيها، فهذا يدل على أن أكثر أمر النبي صلى الله عليه وسلم كانَ ترك الرفع فيما عدا المواضع الثلاثة والقيام من الركعتين، وقد روي في الرفع عندَ السجود وغيره أحاديث معلولة. (فتح الباري).
وقال السندي رحمه الله: الظَّاهِر أَنَّهُ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ أَحْيَانًا وَيَتْرُك أَحْيَانًا، لَكِنَّ غَالِب الْعُلَمَاء عَلَى تَرْك الرَّفْع وَقْت السُّجُود، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِذَلِكَ بِنَاء عَلَى أَنَّ الْأَصْل هُوَ الْعَدَم، فَحِين تَعَارَضَتْ رِوَايَتَا الْفِعْل وَالتَّرْك: أَخَذُوا بِالْأَصْلِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ " انتهى.
• وذهب الأكثرون إلى ترجيح عدم الرفع؛ لأنه المحفوظ رواية ودراية، وحكموا على روايات الرفع بالشذوذ، وأن الراوي أخطأ فذكر الرفع بدل التكبير؛ لأن الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل خفض ورفع، كما في البخاري، ومسلم.
وروى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَر).
قال الترمذي عقبه: " حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ " انتهى.
(ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم كفاه، ثم جبهته وأنفه).
أي: أن السنة للمصلي أن يبدأ إذا سجد بركبتيه أولاً، ثم يديه.
وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم، فهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، والمشهور عند أحمد، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، واختاره ابن المنذر، والخطابي، وابن القيم، وابن باز، وابن عثيمين.
أ-لحديث وائل بن حجر (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) رواه أبو داود.
وهذا الحديث اختلف فيه العلماء:
فضعفه جماعة: كالبيهقي، والدارقطني، والمباركفوري، والألباني.
وصححه جماعة: كالنووي، وابن القيم، والخطابي.
وسبب ضعفه لوجود شريك بن عبد الله القاضي، فهو سيء الحفظ.
ب- (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بروك كبروك البعير).
قالوا: والإبل في بروكها تبدأ باليد، فينبغي أن يبدأ المصلي بالرجِل.
ج-ويشهد لهذا فعل بعض الصحابة وكبار التابعين، فهو المنقول عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وإبراهيم النخعي، وأبي قلابة، والحسن، وابن سيرين.
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عمر (أنه يخر في صلاته بعد الركوع على ركبتيه كما يخر البعير ويضع ركبتيه قبل يديه).
وذهب بعض العلماء: إلى أن السنة البدء باليدين ثم الركبتين.
وهو المشهور عن مالك.
أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ اَلْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ) رواه أبو داود
وقد اختلف العلماء في هذا الحديث:
فصححه قوم: كالسيوطي، وعبد الحق الأشبيلي، وأحمد شاكر، والألباني.
وضعفه قوم: كالبخاري، والترمذي، والدار قطني، والبيهقي.
وسبب ضعفه: فقد قال أهل العلم أنه تفرد به الدراوردي، تفرد بهذا الحديث عن شيخه محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية.
وقد نص على التفرد جماعة من الحفاظ، منهم: الدار قطني، والبيهقي.
ب-وبشاهده حديث ابن عمر.
والراجح - والله أعلم - القول الأول لما يلي:
أولاً: أن الحديث وائل بن حجر له متابع وشواهد، وحديث أبي هريرة فيه ضعف.
ثانياً: أن حديث وائل يوافق حديث أبي هريرة الذي فيه نهي المصلي عن بروك كبروك الجمل.
ثالثاً: أن تقديم الركبتين أرفق بالمصلي.
رابعاً: أن هذا هو الموافق للمنقول عن الصحابة.
فائدة: قال ابن تيمية: أما الصلاة بكليهما فجائزة باتفاق العلماء، إن شاء المصلي يضع ركبتيه قبل يديه، وإن شاء وضع يديه ثم ركبتيه وصلاته صحيحة في الحالتين باتفاق العلماء ولكن تنازعوا في الأفضل.
(ويجافي عضُديهِ عن جنبيهِ).
أي: ويسن للمصلي الساجد أن يجافي عن عضديه.
لحديث اِبْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
(كَانَ إِذَا صَلَّى) أي: إذا سجد. (فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: باعد بين يديه، أي: عضديه. (حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ) أي: حتى يظهر.
وقد جاء عن ميمونة قالت (لو أن بهمة شاءت أن تمر لمرت).
لكن يستثنى:
أولاً: إذا طال السجود ولم يستطع الإنسان أن يستمر على المجافاة، فهنا يعتمد على ركبتيه.
روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال (شكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: استعينوا بالركب).
تفرجوا: يعني باعدوا العضدين عن الجنبين.
قال ابن عجلان أحد رواة الحديث: (أنه يضع مرفقيه على ركبتيه إذا أطال السجود).
ولعموم (فاتقوا الله ما استطعتم).
ثانياً: إذا كان في صلاة جماعة وخشي أن يؤذي غيره، فهنا لا يستحب فعلها، لما يحصل فيها من الإيذاء لمن بجانبه.
- الحكمة من هذه الصفة:
أ- لأجل أن تنال اليدان حظهما من الاعتماد والاعتدال في السجود.
ب- أن يبتعد الساجد عن مظاهر الكسل والفتور.
ج- أن السجود على هذه الهيئة دليل على النشاط والقوة.
قال القرطبيّ: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السّجود: أنّه يخفّ بها اعتماده عن وجهه ولا يتأثّر أنفه ولا جبهته، ولا يتأذّى بملاقاة الأرض.
وقال غيره: هو أشبه بالتّواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، مع مغايرته لهيئة الكسلان.
(ويفرق ركبتيه).
أي: ويستحب للساجد أن لا يضم ركبتيه بعضهما إلى بعض.
لحديث أَبِى حُمَيْدٍ - عند البخاري - وفيه (وَإِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ).
لحديث أبي حميد عند أبي داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه). رواه أبو داود
قال الشوكاني: والحديث يدل على مشروعية التفريج بين الفخذين في السجود، ورفع البطن عنهما، ولا خلاف في ذلك.
• أما وضع القدمين أثناء السجود، هل السنة المباعدة بينهما، أو رصهما وإلصاقهما؟ فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على
قولين.
القول الأول: استحباب التفريق بينهما.
وهو قول جماهير أهل العلم الذين نصوا على هذه المسألة.
واستدلوا بما ثبت في السنة النبوية من استحباب تفريج الركبتين والفخذين أثناء السجود، قالوا: والقدمان تبع لهما، فالأصل أن يفرج بينهما أيضاً.
فقد روى أبو داود عن أبي حميد رضي الله عنه قال في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا سجد فَرَّج بين فخذيه).
قال الشوكاني: قوله: (فرَّجَ بين فخذيه) أي: فرق بين فخذيه، وركبتيه، وقدميه.
قال أصحاب الشافعي: يكون التفريق بين القدمين بقدر شبر.
…
(نيل الأوطار).
وقال النووي: قال الشافعي والأصحاب: يستحب للساجد أن يفرج بين ركبتيه وبين قدميه. قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: قال أصحابنا: يكون بين قدميه قدر شبر.
…
(المجموع).
القول الثاني: استحباب ضم القدمين.
واختار هذا القول من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني رحمهما الله
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معي على فراشي، فوجدته ساجداً، راصّاً عقبيه، مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة، فسمعته يقول: أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، أثني عليك، لا أبلغ كل ما فيك) رواه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، لا أعلم أحداً ذكر ضم العقبين في السجود غير ما في هذا الحديث.
قال ابن الملقن: إسناده صحيح.
وصححه الشيخ الألباني.
وقد بوب ابن خزيمة لهذا الحديث بقوله: باب ضم العقبين في السجود.
وبَوَّب له البيهقي في السنن الكبرى (2/ 167): باب ما جاء في ضم العقبين في السجود.
وقال الشيخ ابن عثيمين: الذي يظهر مِن السُّنَّة أن القدمين تكونان مرصوصتين، يعني: يرصُّ القدمين بعضهما ببعض، كما في "الصحيح" من حديث عائشة حين فَقَدَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فوقعت يدُها على بطن قدميه وهما منصوبتان، وهو ساجد. واليد الواحدة لا تقع على القدمين إلا في حال التَّراصِّ.
وقد جاء ذلك أيضاً في "صحيح ابن خزيمة"في حديث عائشة المتقدِّم (أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم كان رَاصًّا عقبيه) وعلى هذا فالسُّنَّةُ في القدمين هو التَّراصُّ، بخلاف الرُّكبتين واليدين.
(ويرفع ذراعيهِ عن الأرض).
لحديث اَلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ب- ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْب). متفق عليه
(اعتدلوا في السجود) أي: كونوا فيه على العدل والاستقامة، قال ابن دقيق العيد: لعل الاعتدال هنا محمول على أمر معنوي، وهو وضع هيئة السجود موضع الشرع.
(ولا يبسط ذراعيه
…
) أن: لا يجعل ذراعيه على الأرض كالبساط والفراش، والذراع من الإنسان من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى.
قال النووي: والحكمة في هذا أنه أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من هيئة الكسالى، فإن المتبسط
كشبه الكلب يُشعر حاله بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها والإقبال عليها.
وقال ابن حجر: قال ابن دقيق العيد: قد ذكر الحكمَ هنا مقروناً بعلته، فإنّ التّشبيه بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصّلاة. انتهى.
والهيئة المنهيّ عنها أيضاً مشعرة بالتّهاون وقلة الاعتناء بالصّلاة. (الفتح).
فائدة:
ومما يستحب في السجود: أن يضع راحتيه على الأرض مبسوطتين مضمومتي الأصابع مستقبلة القبلة حذو منكبيه.
لحديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على كفيه ويبسطهما) رواه أبو داود.
ولحديث وائل بن حجر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ضم أصابعه) رواه الحاكم.
وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك) رواه مسلم.
وعن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي - في صفة الصلاة - (
…
فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ، وَلَا قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَة).
وعند أبي داود (ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه). رواه أبو داود
والحكمة في بسطهما مع ضمهما: ليحصل بذلك كمال استقبال القبلة بها، وهو أعون على تحملها في أثناء السجود.
(ويكون على أطرافِ قدميه).
لحديث أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي - في صفة الصلاة - (
…
فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ، وَلَا قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَة).
(ويقول: سبحان ربي الأعلى).
أي: يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى.
لحديث حُذَيْفَةَ - وقد تقدم - قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ
…
ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ» . فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى. فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ) رواه مسلم.
• وهذا التسبيح واجب في الصلاة، كما سيأتي في واجبات الصلاة إن شاء الله.
• يستحب أن يقول بعض الأذكار الأخرى الواردة في السجود وقد تقدم بعضها:
أ-ما جاء في حديث عائشة وقد تقدم (سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ [رَبَّنَا] وَبِحَمْدِكَ، اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي).
ب-ما جاء في حديث عائشة وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول (سبوح قدوس رب الملائكة والروح).
ج- ما جاء في حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ) رواه مسلم.
د-ما جاء في حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ -وقد تقدم- قَالَ: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ،
…
يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ). رواه أبو داود
هـ- ما جاء في حديث علي قال (
…
وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين) رواه مسلم.
• ووصف الرب بالعلو في هذه الحالة غاية في المناسبة، لأن الإنسان أذل ما يكون لربه وأخضع له حيث يضع أشرف شيء فيه وهو وجهه على التراب خشوعاً لربه واستكانة له، وخضوعاً لعظمته، وهو في ذلك أقرب ما يكون من ربه.
•
يستحب الإكثار من الدعاء في السجود:
أ-عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ اَلْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا اَلرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ اَلرَّبَّ، وَأَمَّا
اَلسُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي اَلدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ب-وعن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء) رواه مسلم.
قال الشيخ ابن عثيمين: وإنما كان أقرب لأن السجود أعلى أنواع الذل والخضوع، ولهذا لما ذللت لربك ونزّلت أعاليك تعظيماً له وذلاً رفعك الله وكنت أقرب ما يكون منه في حال السجود.
(ثم يرفع رأسه مكبراً).
أي: ثم يرفع رأسه من السجود مكبراً.
وقد تقدم أن هذه التكبير واجب، وأن مكانه ما بين الركنين.
(ويجلس مفترشاً).
أي: ويكون جلوسه بين السجدتين الافتراش.
والافتراش: أن ينصب الرجل اليمنى ويفرش اليسرى.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى) رواه مسلم.
وهناك جلسة أخرى كما جاء في صحيح مسلم عن طَاوُوس قال (قُلْنَا لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي الإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ هِيَ السُّنَّةُ. فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالإقعاء هنا: أن يجعل إليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو مراد ابن عباس بقوله سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
فالحديث دليل على أن من السنة الجلوس على العقبين في الصلاة بين السجدتين.
وورد صريحاً: عند الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال (من السنة في الصلاة أن تضع إليتيك على عقبيك بين السجدتين).
وهذا مذهب الشافعي.
وقد اختلف العلماء في حكم هذا الإقعاء على قولين:
القول الأول: أنه مكروه.
وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في رواية، وأحمد بن حنبل.
أ-عن أنس. قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب) رواه ابن ماجه. (وهو ضعيف).
ب-وعنه. (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقعاء والتورك في الصلاة) رواه البيهقي. (وفيه ضعف).
ج- وعن علي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (يا علي لا تقع إقعاء الكلب) رواه ابن ماجه. (وهو ضعيف).
د- ولحديث الباب (وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ اَلشَّيْطَانِ).
القول الثاني: أنه سنة.
وقال به: ابن عباس، وابن الزبير، وهو قول للشافعي في الجلوس بين السجدتين، اختاره النووي، وابن الصلاح.
أ- عن طَاوُس قال (قُلْنَا لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي الإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ هِيَ السُّنَّةُ. فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّك صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.
ب-أنه ورد عن جماعة من الصحابة أنهم فعلوه.
وذهب أصحاب القول الأول إلى أنه منسوخ بالأحاديث الثابتة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى.
قال ابن عثيمين: لعل ابن عباس لم يعلم أنه منسوخ من كون النبي صلى الله عليه وسلم يفترش أو يتورك، وهذا اختيار الشيخ ابن عثيمين.
قال النووي: اِعْلَمْ أَنَّ الْإِقْعَاء وَرَدَ فِيهِ حَدِيثَانِ: فَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ سُنَّة، وَفِي حَدِيث آخَر النَّهْي عَنْهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره مِنْ رِوَايَة عَلِيّ، وَابْن مَاجَهْ مِنْ رِوَايَة أَنَس، وَأَحْمَد بْن حَنْبَل - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى - مِنْ رِوَايَة سَمُرَة وَأَبِي هُرَيْرَة، وَالْبَيْهَقِيّ مِنْ رِوَايَة سَمُرَة وَأَنَس،
وَأَسَانِيدهَا كُلّهَا ضَعِيفَة. وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حُكْم الْإِقْعَاء وَفِي تَفْسِيره اِخْتِلَافًا كَثِيرًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَالصَّوَاب الَّذِي لَا مَعْدِل عَنْهُ أَنَّ الْإِقْعَاء نَوْعَانِ.
أَحَدهمَا: أَنْ يُلْصِق أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ، وَيَنْصِب سَاقَيْهِ، وَيَضَع يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْض كَإِقْعَاءِ الْكَلْب.
هَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدَة مَعْمَر بْن الْمُثَنَّى وَصَاحِبه أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَام وَآخَرُونَ مِنْ أَهْل اللُّغَة، وَهَذَا النَّوْع هُوَ الْمَكْرُوه الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّهْي.
وَالنَّوْع الثَّانِي: أَنْ يَجْعَل أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ بَيْن السَّجْدَتَيْنِ.
وَهَذَا هُوَ مُرَاد اِبْن عَبَّاس بِقَوْلِهِ: سُنَّة نَبِيّكم صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيّ رضي الله عنه فِي الْبُوَيْطِيّ وَالْإِمْلَاء عَلَى اِسْتِحْبَابه فِي الْجُلُوس بَيْن السَّجْدَتَيْنِ، وَحَمَلَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس رضي الله عنهما عَلَيْهِ جَمَاعَات مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ الْبَيْهَقِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاض وَآخَرُونَ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالسَّلَف أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، قَالَ: وَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا عَنْ اِبْن عَبَّاس رضي الله عنهما مِنْ السُّنَّة أَنْ تَمَسّ عَقِبَيْك أَلْيَيْكَ، هَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي تَفْسِير حَدِيث اِبْن عَبَّاس. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّافِعِيّ رضي الله عنه عَلَى اِسْتِحْبَابه فِي الْجُلُوس بَيْن السَّجْدَتَيْنِ، وَلَهُ نَصٌّ آخَر وَهُوَ الْأَشْهَر: أَنَّ السُّنَّة فِيهِ الِافْتِرَاش، وَحَاصِله أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ، وَأَيّهمَا أَفْضَل؟ فِيهِ قَوْلَان. (شرح مسلم).
تنبيهات:
ما ورد من النهي عن الإقعاء:
كحديث أبي هريرة رضي الله عنه (ونهاني خليلي صلى الله عليه وسلم عن إقعاء كإقعاء الكلب " رواه أحمد.
وحديث عائشة رضي الله عنها (كان ينهى عن عقبة الشيطان) رواه مسلم، فالمراد به هو الذي يكون كإقعاء الكلب.
والإقعاء الذي صرح به ابن عباس، وغيره أنه من السنة هو وضع الإليتين على العقبين بين السجدتين والركبتان على الأرض
• الإقعاء المسنون يسن فعله بين السجدتين فقط لا كما يفعله بعض أهل البلدان المجاورة من الإقعاء في كل جلسات الصلاة فيقعون بين السجدتين وفي التشهد الأول والثاني و
…
و .. الخ.
• رد الألباني في صفة الصلاة على كلام ابن القيم حيث يقول بعد أن ذكر الافتراش بين السجدتين: (ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع جلسة غير هذه).
• الإقعاء المنهي عنه قال أحد العلماء في حكمه (مكروه باتفاق العلماء)(وسيأتي في مكروهات الصلاة).
• لا يشرع بين السجدتين الإشارة بسبابة اليد اليمنى (وهذا قول أكثر العلماء).
قالوا: تكون اليد اليمنى كاليد اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع موجهة إلى القبلة.
لأن الأحاديث كلها صريحة في أن الإشارة تكون في التشهد الأول والأخير كما سيأتي إن شاء الله في التشهد، ورجح هذا القول الشيخ ابن باز والشيخ الألباني رحمهما الله.
وقال بعض العلماء: تكون اليد اليمنى كالتشهد يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام والوسطى ويرفع السبابة ويحركها عند الدعاء، لكن هذا القول ضعيف. (وستأتي المسألة إن شاء الله قريباً).
(ويقول رب اغفر لي).
أي: أن المصلي إذا جلس بين السجدتين يقول: رب اغفر لي.
لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي) رواه أبوداود.
وإن زاد (وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني، وعافني) فحسن.
• اغفر لي: المغفرة: طلب المغفرة من الله وهو ستر الذنب والتجاوز عنه
• هذا الذكر من واجبات الصلاة، والواجب أن يقال مرة واحدة والأكمل ثلاث مرات.
• زيادة (ولوالدي) في دعاء الجلوس بين السجدتين (رب اغفر لي) لا أصل لها.
(ويسجد الثانية كالأولى).
أي: كالسجدة الأولى في الأقوال والأفعال.
قال العلماء: إنما شرع تكرار السجود في كل ركعة دون غيره، لأنه أبلغ ما يكون في التواضع، وأفضل أركان الصلاة الفعلية، وسرها الذي شرعت له.
(ثم يرفع رأسه مكبراً، وينهض قائماً).
أي: فلا يجلس للاستراحة.
وجلسة الاستراحة: هي جلسة خفيفة يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى بعد الركعة الأولى قبل أن ينهض للثانية، وبعد الركعة الثالثة قبل أن ينهض للرابعة.
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها: هل يجلس للاستراحة أم لا على أقوال:
القول الأول: أنها مستحبة.
وهذا مذهب الشافعي.
قال النووي: مذهبنا الصحيح المشهور أنها مستحبة، وبه قال مالك بن الحويرث، وأبو حميد، وأبو قتادة وجماعة من الصحابة، وأبو قلابة، وغيره من التابعين.
ورجحه الشيخ ابن باز، والألباني.
لحديث مَالِك بْن الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه (أَنَّهُ رَأَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ
وجه الدلالة: حيث أن مالك بن الحويرث وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فذكرها، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).
القول الثاني: أنها غير مشروعة.
وهذا مذهب الجمهور.
قال النووي: وقال كثيرون أو الأكثرون لا يستحب، بل إذا رفع رأسه من السجود نهض، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عباس وأبي الزناد ومالك والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق.
قال أحمد: وأكثر الأحاديث على هذا.
أ-لأنها لم تذكر في أكثر الأحاديث.
ب-أنه ليس لها ذكر خاص.
ج-أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها عندما كبر وحطمه الناس.
ويؤيد القول باستحبابها أمران:
أحدهما: أن الأصل في فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعلها تشريعاً ليُقتدي به.
والأمر الثاني: في ثبوت هذه الجلسة في حديث أبي حميد الساعدي الذي رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، وفيه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة من الصحابة رضي الله عنهم فصدقوه في ذلك.
القول الثالث: سنة عند الحاجة وإلا فلا.
وهذا اختيار ابن قدامة، والشيخ السعدي رحمه الله، والشيخ ابن عثيمين.
قال السعدي: أصح الأقوال الثلاثة في جلسة الاستراحة استحبابها للحاجة إليها، واستحباب تركها عند عدم الحاجة إليها.
قال في المغني: وبهذا القول تجتمع الأدلة.
• ما الحكم إذا كان الإمام لا يجلس للاستراحة، فهل للمأموم أن يفعلها؟
اختلف العلماء هل الأفضل للمأموم أن يجلس للاستراحة أم لا؟ وسبب الخلاف في المسألة هو: هل جلوس المأموم في هذه الحال وتأخره عن الإمام ينافي المتابعة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟
القول الأول: أن المأموم يجلس للاستراحة ولو لم يجلسها الإمام، وتأخر المأموم في هذه الحال يسير لا يضر.
قال النووي: وَإِنْ تَرَكَ الإِمَامُ جلْسَةَ الاسْتِرَاحَةِ أَتَى بِهَا الْمَأْمُومُ، قَالَ أَصْحَابُنَا (يعني الشافعية): لأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِيهَا يَسِيرَةٌ.
القول الثاني: أنه لا يجلسها.
واختار هذا الشيخ ابن عثيمين.
وقال الشيخ ابن عثيمين في (الشرح الممتع) مسألة: إذا كان الإنسان مأموماً فهل يُسن له أن يجلس إذا كان يرى هذا الجلوس سنة أو متابعة الإمام أفضل؟
الجواب: أن متابعة الإمام أفضل، ولهذا يترك الواجب وهو التشهد الأول، ويفعل الزائد كما لو أدرك الإمام في الركعة الثانية فإنه سوف يتشهد في أول ركعة فيأتي بتشهد زائد من أجل متابعة الإمام، بل يترك الإنسان الركن من أجل متابعة الإمام، فقد قال النبي عليه السلام: (إذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً (فيترك ركن القيام وركن الركوع، فيجلس في موضع القيام، ويومئ في موضع الركوع، كل هذا من أجل متابعة الإمام.
فإن قال قائل: هذه الجلسة يسيرة لا يحصل بها تخلف عن الإمام.
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا كبّر فكبروا) فأتى بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب بدون مهلة، وهذا يدل على أن الأفضل في حق المأموم ألا يتأخر عن الإمام ولو يسيراً، بل يبادر بالمتابعة، فلا يوافق، ولا يسابق، ولا يتأخر، وهذا هو حقيقة الائتمام. ا. هـ
فائدة: سئل شيخ الإسلام كما في "الفتاوى الكبرى"(1/ 135) عن رجل يصلي مأموماً ويجلس بين الركعات جلسة الاستراحة ولم يفعل ذلك الإمام فهل يجوز ذلك له؟
فأجاب: جلسة الاستراحة قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم جلسها لكن تردد العلماء هل فعل ذلك من كبر السن للحاجة أو فعل ذلك لأنه من سنة الصلاة؟ فمن قال بالثاني استحبها، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، ومن قال بالأول لم يستحبها إلا عند الحاجة كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. ومن فعلها لم ينكر عليه وإن كان مأموماً، لكون التأخر بمقدارها ليس هو من التخلف المنهي عنه عند من يقول باستحبابها. وهل هذا إلا فعل في محل اجتهاد؟ فإنه قد تعارض فعل هذه السنة عنده والمبادرة إلى موافقة الإمام، فإن ذلك أولى من التخلف لكنه يسير، فصار مثلما إذا قام من التشهد الأول قبل أن يكمله المأموم، والمأموم يرى أنه مستحب، أو مثل أن يسلم وقد بقي عليه يسير من الدعاء هل يسلم أو يتمه؟ ومثل هذه المسائل هي من مسائل الاجتهاد والأقوى أن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب والله أعلم. ا. هـ
أ-حكى بعض العلماء الإجماع على أنها ليست بواجبة.
ب-جاء ذكر جلسة الاستراحة في حديث المسيء في صلاته في بعض روايات البخاري، لكنها شاذة.
ج-هذه الجلسة ليس لها ذكر خاص وليس لها تكبير.
(ويصلي الثانية كالأولى).
أي: ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى في القيام، والركوع، والسجود، والجلوس، وما يقال فيها، لحديث المسيء في صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف له الركعة الأولى قال (ثم افعل ذلك في صلاتك كلِّها).
• لكن هناك أشياء تختلف فيها الركعة الثانية عن الأولى ولهذا:
(ما عدا التحريمة، والاستفتاح، والتعوذ).
دعاء الاستفتاح: فلا يشرع في الركعة الثانية، لأن الاستفتاح تفتتح به الصلاة.
والتحريم: أي تكبيرة الإحرام، فلا تعاد، لأنها للدخول في الصلاة، وهو منتفٍ هنا.
الاستعاذة: فلا تشرع في الثانية، وإنما يستعيذ في الركعة الأولى فقط ورجحه ابن القيم، قالوا: لأن الصلاة جملة واحدة، لم يتخلل القراءتين فيها سكوت. (وقد تقدمت المسألة).
ومما تختلف فيه الركعة الثانية عن الأولى:
أن الركعة الأولى أطول من الثانية: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطول في الأولى ما لا يطول في الثانية.
كما في حديث أبي قتادة - وقد تقدم - (وَيُطَوِّلُ اَلرَّكْعَةَ اَلْأُولَى).
قال ابن قدامة: ويستحب أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة; ليلحقه القاصد للصلاة .. ، لحديث أبي قتادة رضي الله عنه
…
قال أحمد، رحمه الله، في الإمام يطول في الثانية، يعني أكثر من الأولى: يقال له في هذا: تَعَلَّم. وقال أيضاً، في الإمام يقصر في الأولى ويطول في الآخرة: لا ينبغي هذا، يقال له، ويؤمر.
• والحكمة في مشروعية تطويل الركعة الأولى عن الثانية:
قيل: إن المصلي يكون في أول الصلاة نشيطاً مقبلاً على صلاته.
وقيل: حتى يدرك الناس الركعة الثانية.
(فإذا فرغ منهما جلس للتشهد مفترشاً)
وهذا يسمى التشهد الأول، ويجلس مفترشاً، فيكون جلوسه هنا مثل جلوسه بين السجدتين.
ففي حديث أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ -في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (
…
فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى).
(فيبسطُ يده اليسرى على فخذهِ اليسرى، ويده اليمنى على فخذهِ اليمنى، يقبض منها الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى ويشير بالسبابة).
يضع اليد اليمنى على فخذه اليمنى، واليسرى على فخذه اليسرى.
وأما الأصابع:
فأصابع اليد اليمنى لها صفتان:
الصفة الأولى: أن يقبض الخنصر والبنصر والإبهام مع الوسطى ويشير بالسبابة.
فقد دل عليها:
أ- حديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَعَدَ لِلتَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ اَلْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ اَلْيُسْرَى، وَالْيُمْنَى عَلَى اَلْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ اَلسَّبَّابَةِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ (وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بِاَلَّتِي تَلِي اَلْإِبْهَامَ).
[عقد ثلاثاً وخمسين] صورته أن يقبض الخنصر والبنصر ثم يحلق بالإبهام مع الوسطى [التحليق] إشارة إلى الثلاثة، وقبض الخنصر والبنصر إشارة إلى الخمسين [السبابة] الإصبع التي تقع
ب- وحديث عَبْدِ اللَّه بْنِ الزُّبَيْر. قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَعَدَ يَدْعُو وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى إِصْبَعِهِ الْوُسْطَى وَيُلْقِمُ كَفَّهُ الْيُسْرَى رُكْبَتَهُ) رواه مسلم.
الصفة الثانية: أن يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويضم إليها الإبهام، وتبقى السبابة مرفوعة يشير بها.
ودليل هذه الصفة رواية (وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بِاَلَّتِي تَلِي اَلْإِبْهَامَ).
[وقبض أصابعه كلها] أي اليد اليمنى.
• أما أصابع اليد اليسرى تكون مبسوطة مضمومة غير مفرجة، وأطرافها إلى القبلة، ولها صفتان:
الصفة الأولى: أن يجعل اليدين على الفخذين.
ففي حديث ابن عمر: (
…
ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها).
الصفة الثانية: أن يجعل اليمنى على طرف الركبة اليمنى واليسرى يجعلها على الركبة اليسرى كالقابض.
كما جاء في حديث ابن الزبير: (
…
وأشار بإصبعه السبابة
…
ويلقم كفه اليسرى على ركبته).
الإلقام: العطف، يعطف أصابع اليد اليسرى على ركبته.
• ويسن أيضاً أن يشير بسبابته في التشهد.
لقوله (وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ اَلسَّبَّابَةِ).
والحكمة: لأجل أن يجتمع للمصلي في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد.
لكن: هل يحرك إصبعه أم لا؟
اختلف العلماء: وقد ورد في ذلك حديثان.
ورد ما يثبت ذلك:
فقد ثبت التحريك في حديث وائل بن حجر عند أبي داود وأحمد والنسائي: (
…
ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها).
من طريق زائد بن قدامة عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: (أخبرني وائل
…
).
فانفرد زائدة بهذه اللفظة.
صححها بعضهم وضعفها بعضهم.
قال ابن خزيمة لما ساقه: إن الأخبار ليس فيها يحركها إلا في هذا الخبر، زائدة ذكره، فمن صححها البيهقي، لأنه تأولها، والتأويل فرع عن التصحيح.
وصححها الألباني وانتصر لها، لأن زائدة ثقة ثبت.
وسبب من ضعفها أنه خالف جمع: [السفيانان، وشعبة] فهي شاذة.
وأما زيادة: (لا يحركها) جاءت في حديث ابن الزبير: (
…
وكان يشير بإصبعه إذا دعا لا يحركها) رواه أبو داود.
صححها ابن الملقن والنووي، لكن ضعفها: ابن القيم وقال: في صحتها نظر.
لأن الإمام مسلم أخرج الحديث في صحيحه وليس فيه (لا يحركها).
وتفرد بها ابن جريج عن بقية الرواة، وقد حكم الألباني في شذوذها.
ولهذه الأحاديث اختلف العلماء:
القول الأول: يحركها، وهو قول بعض الشافعية والمالكية واختاره الألباني وابن باز.
القول الثاني: لا يحركها، وهو قول الحنفية والشافعية وبعض المالكية واختاره ابن حزم.
القول الثالث: كل ذلك جائز، واختاره القرطبي، والصنعاني.
قال القرطبي: اختلفوا في تحريك إصبع السبابة، فمنهم من رأى تحريكها، ومنهم من لم يره، وكل ذلك مروي في لآثار الصحاح المسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميعه مباح، واختاره الصنعاني.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لكن دلت السنة على أنه يشير بها عند الدعاء فقط، لأن لفظ الحديث (يحركها يدعو بها) وقد ورد الحديث نفي التحريك وإثبات التحريك، والجمع بينهما سهل، فنفي التحريك يراد به التحريك الدائم، وإثبات التحريك يراد به التحريك عند الدعاء.
-
متى يشير المصلي؟
قيل: عند لفظ الجلالة.
وقيل: عند قول لا إله إلا الله.
وقيل: عند الدعاء، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
فائدة: يكره الإشارة بمسبحته اليسرى، حتى لو كان أقطع اليمنى، لم يشر بمسبحته اليسرى لأن سنتها البسط دائماً.
• قوله: (إذا قعد للتشهد قبض الخنصر والبنصر
…
) هذه الصفة خاصة بجلوس التشهد الأول والثاني، فهل يفعل ذلك في الجلوس بين السجدتين؟
اختلف العلماء هل يفعل ذلك بين السجدتين؟
القول الأول: يفعل ذلك.
وهو ظاهر كلام ابن القيم، ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
واستدلوا برواية في وائل بن حجر: (ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ثم أشار بسبابته، ووضع الإبهام على الوسطى وحلق
…
ثم سجد) عند عبد الرزاق وأحمد، من طريق سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر.
القول الثاني: لا يفعل.
وهذا ما عليه الأكثر.
وهذا هو المعروف عند العلماء أنه إذا أطلق الجلوس فالمراد به التشهد.
نقل ابن حجر عن ابن رشيْد قوله: إذا أطلق في الأحاديث الجلوس في الصلاة من غير تقييد فالمراد به جلوس التشهد.
وحكم على هذه الرواية التي فيها الإشارة بين السجدتين بالشذوذ، فقد تفرد بها عبد الرزاق.
فقد رواه عن عاصم جمع صرحوا بأنه في التشهد، منهم: ابن عيينة، وشعبة، وأبي الأحوص، وخالد، وزهير بن معاوية وغيرهم.
هؤلاء خالفوا عبد الرزاق في روايته عن الثوري، فعبد الرزاق انفرد: (
…
ثم أشار بسبابته ثم سجد).
وأيضاً خالف عبد الرزاق: عبد الله بن الوليد عند أحمد، ومحمد بن يوسف الفريابي (وكان ملازماً للثوري) ولم يذكر السجدة بعد الإشارة.
قال الألباني بعد ذكره لحديث النسائي (كان إذا جلس في الثنتين أو في الأربع يضع يديه على ركبتيه، ثم أشار بإصبعه)
هي فائدة هامة تقضي على بدعة الإشارة بإصبعه في غير التشهد، و لذلك خصصتها بالتخريج بياناً للناس. ورواه أحمد (4/ 3) بلفظ:" كان إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى و يده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره إشارته ". وأخرجه أبو داود وغيره نحوه، وزاد في رواية:" ولا يحركها ". وهي زيادة شاذة.
وفي الحديث مشروعية الإشارة بالإصبع في جلسة التشهد، و أما الإشارة في الجلسة التي بين السجدتين التي يفعلها بعضهم اليوم، فلا أصل لها إلا في رواية لعبد الرزاق في حديث وائل بن حجر و هي شاذة.
(ويقول التحيات لله والصلوات والطيبات
…
).
أي: إذا جلس المصلي بعد الركعتين، فإنه يقول التشهد.
وهذا يسمى التشهد الأول، وموضعه يكون بعد الركعتين.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا جلس أحدكم في الصلاة).
وللنسائي (كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، وإن محمداً علم مفاتح الخير وخواتيمه، فقال: إذا قعدتم في كل ركعتين
فقولوا
…
).
وفي رواية (فقولوا في كل جلسة).
ولابن خزيمة عن عبد الله (علمني رسول الله التشهد في وسط الصلاة).
عن عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ (اِلْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ،
اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ وَرَحْمَةَ اَللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اَللَّهِ اَلصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَلِأَحْمَدَ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ اَلتَّشَهُّد، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ اَلنَّاسَ).
[التحيات لله] جمع تحية. قال الحافظ: " معناه السلام، وقيل: التحية، وقيل: العظمة ". وقال الخطابي والبغوي: "المراد بالتحيات أنواع التعظيمات". [والطيبات] كل ما طاب من قول أو فعل فهو لله، وأما بالنسبة للعباد فإنه لا يقبل إلا الطيب كما في الحديث:(إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً). [السلام عليك أيها النبي] الدعاء للنبي بالسلامة من كل آفة ومكروه، وهذا شامل من مخاوف الدنيا والآخرة. [ورحمة الله] دعاء له بالرحمة، وهو يتضمن الدعاء بحصول كل أمر مرغوب فيه. [وبركاته] جمع بركة، والبركة الخير الكثير المستمر، وبركات الله على نبيه تشمل حال حياته وحال مماته.
[السلام علينا] أي علينا معشر المصلين، وقيل: المصلون ومعهم الملائكة، وقيل: المراد جميع الأمة المحمدية وهذا أقرب
•
بعض صيغ التشهد:
للتشهد عدة صيغ:
الصيغة الأولى: ما جاء في حديث ابن مسعود السابق.
وقد اختار هذا التشهد أحمد، وأبي حنيفة، والثوري.
قال الترمذي: عليه العمل عند أكثر أهل العلم والصحابة والتابعين.
قال البزار: إنه متفق عليه.
الصفة الثانية: تشهد ابن عباس، كما عند مسلم قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد: التحيات، المباركات الصلوات الطيبات لله
…
).
الصفة الثالثة: تشهد عمر، ولفظه: (التحيات لله
…
).
-
ما أفضل هذه التشهدات؟
القول الأول: تشهد ابن عباس.
وهذا مذهب الشافعي، وبعض أصحاب مالك.
لزيادة لفظ (المباركات) فيه.
القول الثاني: تشهد ابن مسعود.
وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وجمهور الفقهاء وأهل الحديث.
قال البزار: هو أصح حديث في التشهد، وقد روي من نيف وعشرين طريقاً.
وقال مسلم: إنما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود.
وهو متفق عليه دون غيره.
وأن رواته لم يختلفوا في حرف فيه، بل نقلوه مرفوعاً على صفة واحدة.
القول الثالث: تشهد عمر.
وهو قول مالك.
لأنه علمه الناس على المنبر ولم ينازعه أحد.
قال النووي: واتفق العلماء على جوازها كلها، يعني التشهدات الثابتة من وجه صحيح.
-
ما حكم التشهد في الصلاة؟
التشهد الأول واجب، والتشهد الثاني ركن، وهذا مذهب الحنابلة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ. . .).
ولقوله صلى الله عليه وسلم (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد. . .).
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علم ابن مسعود التشهد وأمره أن يعلمه الناس.
لكن استثني من ذلك التشهد الأول فليس بركن.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تركه جبره بسجود السهو، ومعلوم أن الركن لا بد أن يأتي به ولا يكفي أن يجبر بسجود سهو، فلذلك كان التشهد الأول واجباً.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن التشهد الأول سنة، وهذا مذهب مالك والشافعي.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه ولم يرجع إليه.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسيء في صلاته.
والصحيح مذهب الحنابلة.
•
هل يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول.
وهذا مذهب الشافعي، واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله.
أ-لعموم أحاديث الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ب-ولأنه قعود شرع به التشهد تشرع به الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: لا تشرع.
وهذا مذهب أبي حنيفة، وحكي عن عطاء والشعبي والنخعي والثوري ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
لحديث ابن مسعود المتقدم في التشهد الأول، وليس فيه ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيدوا هذا بأمرين:
الأول: رواية جاءت في المسند: (
…
ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو ثم يسلم). رواه أحمد وسنده صحيح
الثاني: أن التشهد الأول مبني على التخفيف، والثاني مبني على التطويل.
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من التشهد يقوم دليل على أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أنه كان لا يدعو. ويؤيد هذا:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف التشهد الأول حتى كأنه على الرضف، وهي الحجارة المحماة.
وهذا الحديث وإن كان فيه من ضعف، لكن جاء عن أبي بكر أنه كان يجلس كأنه على الرضف. رواه أحمد
والظاهر أنها مشروعة في التشهد الأول، لكن آكديتها في الثاني أكثر.
فائدة: المأموم إذا فرغ من التشهد الأول ولم يقم إمامه، فإنه ينبغي له أن يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسكت كما يفعل بعض العامة، لأن الصلاة لا سكوت فيها.
(ثُمَّ يُكَبِّرُ. وَيُصَلِّي بَاقِي صَلَاتِهِ بِالْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَة).
أي: يكبر للقيام من التشهد الأول رافعاً يديه ويصلي الثالثة والرابعة كالثانية، لكن يقتصر فيهما بالفاتحة فقط، فلا يزيد عليها. [وقد سبقت المسألة وأنه يسن الزيادة أحياناً على الفاتحة].
(ثُمَّ يَتَشَهَّدُ اَلتَّشَهُّدَ اَلْأَخِيرَ وَهُوَ اَلْمَذْكُور).
أي يقول التشهد الأخير وهو ما سبق (التحيات لله والصلوات والطيبات .... ).
(وَيَزِيدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتُ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد).
أي: في التشهد الأخير يزيد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
لحديث كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ قال (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلَّمَنَا اللَّهُ كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ: فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) متفق عليه.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (قَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَمَرَنَا اَللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ? فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: " قُولُوا: اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي اَلْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَالسَّلَامُ كَمَا عَلَّمْتُكُمْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَزَادَ اِبْنُ خُزَيْمَةَ فِيهِ: (فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا).
• وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها واجبة.
وهذا مذهب الشافعي وإسحاق.
قال الشوكاني: إلى ذلك ذهب عمر وابنه وابن مسعود وجابر بن زيد والشعبي.
واختاره ابن العربي والألباني والصنعاني.
أدلتهم:
أ-قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
وجه الدلالة: أن الله سبحانه أمر المؤمنين بالصلاة والتسليم على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمره المطلق يقيد الوجوب.
ب-حديث أبي مسعود السابق (قولوا: اللهم صلّ على محمد
…
) وهذا أمر، والأمر للوجوب.
ج-ولقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أنتم صليتم عليّ فقولوا: اللهم صلّ على محمد
…
).
وقال الشوكاني: إن في حديث فضالة حجة لمن لا يرى الصلاة عليه فرضاً حيث لم يأمر تاركها بالإعادة
وقد رد الشوكاني على كل أدلة من يقول بالوجوب، فقال رحمه الله: لا يتم الاستدلال على وجوب الصلاة بعد التشهد لهذه النصوص، لأن غايتها الأمر بمطلق الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وهو يقتضي الوجوب في الجملة بإيقاع فروضها خارج الصلاة.
القول الثاني: أنها سنة وليست بواجبة.
قال الشوكاني: وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب.
ورجحه الشوكاني وابن المنذر.
أ-لعدم الدليل الذي يدل على الوجوب.
ب-ولحديث فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: (سَمِعَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رجْلاً يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ، لَمْ يَحْمَدِ اَللَّهَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَجِلَ هَذَا " ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ. رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
حيث لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة.
ج-ولحديث المسيء في صلاته حيث لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها.
القول الثالث: أنها ركن.
وهذا مذهب الحنابلة
والراجح الأول والله أعلم.
• قوله صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ الله) المراد بقوله (إذا صلى
…
) أي: إذا دعا لأمرين:
الأول: قرينة قوله (فليبدأ بتحميد الله).
والثاني: أن الصلاة الشرعية لا تبدأ بالحمد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
• في حديث فضالة (سَمِعَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رجْلاً يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ).
ظاهر صنيع الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، أن هذا الدعاء الذي سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل كان في جلوسه التشهد.
قال ابن القيم: لأنه ليس في الصلاة موضع يشرع فيه الثناء على الله ثم الصلاة على رسوله، ثم الدعاء إلا في التشهد آخر الصلاة، فإن ذلك لا يشرع في القيام ولا في الركوع ولا السجود اتفاقاً، فعلم أنه إنما أراد به آخر الصلاة حال الجلوس في التشهد.
• لا تشرع التسمية في بداية التشهد لأنها لم تثبت.
• لا يشرع زيادة سيدنا في التشهد لأنه لم يرد.
• يشرع الدعاء بعد التشهد، لقوله (ويدع بما أحب).
• هل يجوز الدعاء بغير ما ورد من أمور الدنيا، مثل:(اللهم ارزقنا بيتاً واسعاً)؟
قيل: لا يجوز، وقيل: يجوز، وستأتي المسألة إن شاء الله.
• ما معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟
القول الأول: صلاة الله على نبيه هي ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
كما قال أبو العالية ونصره ابن القيم واختاره الحافظ ابن حجر.
قال الحافظ: أولى الأقوال ما يقدم عن أبي العالية، أن معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه وتعظيمه.
القول الثاني: صلاة الله رحمته.
وهو قول الضحاك.
قال الحافظ بعد أن نقل قول الضحاك: وتعقب بأن الله غاير بين الصلاة والرحمة في قوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ).
القول الثالث: أن صلاة الله مغفرته.
(ويستحب أن يتعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال).
أي: ويسن للمصلي أن يقول بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ اَلْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ اَلْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ اَلْمَسِيحِ اَلدَّجَّالِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ (إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ اَلتَّشَهُّدِ اَلْأَخِيرِ).
وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب هذا الدعاء.
وهذا مذهب الظاهرية.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فليستعذ
…
) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وجمهور العلماء على أنه سنة غير واجب.
لحديث أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (ما تقول في صلاتك؟ قال: أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن) رواه أبو داود.
(الدندنة: صوت لا يفهم معناه).
قال النووي رحمه الله: وإن طاوساً رحمه الله تعالى أمر ابنه حين لم يدع بهذا الدعاء فيها بإعادة الصلاة، هذا كله يدل على تأكيد هذا الدعاء، والتعوذ، والحث الشديد عليه، وظاهر كلام طاوس رحمه الله تعالى أنه حمل الأمر به على الوجوب، فأوجب إعادة الصلاة لفواته، وجمهور العلماء على أنه مستحب، ليس بواجب. (شرح النووي)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل قد ذهب طائفة من السلف، والخلف، إلى أن الدعاء في آخرها واجب، وأوجبوا الدعاء الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم آخر الصلاة بقوله:(إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال) رواه مسلم، وغيره، وكان طاووس يأمر من لم يدع به أن يعيد الصلاة، وهو قول بعض أصحاب أحمد. (مجموع الفتاوى)
والأرجح هو قول الجمهور، ويُحمل فعل طاوس رحمه الله إن صح عنه - على توكيد هذا الاستحباب؛ حيث إن أمره بالإعادة كان لابنه في سياق تعليمه، لا لعامة المصلين، وهو احتمال ذكره أبو العباس القرطبي، وارتضاه جمع من الأئمة، حيث قال: ويحتمل: أن يكون ذلك إنما أمره بالإعادة تغليظًا عليه؛ لئلا يتهاون بتلك الدعوات، فيتركها، فيُحْرَم فائدتها، وثوابها. (المفهم).
•
هناك أدعية تقال غير هذا الدعاء لم يذكرها المصنف:
منها: ما جاءَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ اَلصِّدِّيقِ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. قَالَ قُلْ: "اَللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْه
اختلف العلماء في موضع هذا الدعاء، متى يقال في الصلاة، لأن أبا بكر قال (علمني دعاء أدعو به في صلاتي) لم يحدد المكان.
فقيل: عقب التشهد وقبل السلام.
وهذا ظاهر صنيع الحافظ ابن حجر في البلوغ، حيث جعله في هذا المكان.
وإلى ذلك جنح البخاري في صحيحه فقال: باب الدعاء قبل السلام، ثم ذكر حديث أبي بكر هذا.
وقيل: يقال في السجود، لقوله صلى الله عليه وسلم (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
والصحيح أنه يقال إما في السجود أو بعد التشهد.
ومنها: عن عائشة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ». قَالَتْ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَف) متفق عليه.
ومنها: ما جاءَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: (إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ اَلصَّلَاةِ: " اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ اَلْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ اَلْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ اَلدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ اَلْقَبْرِ). رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ
ومنها: ما جاءَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولُ: اَللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ
وينبغي الاعتناء بهذا الدعاء لثلاثة أمور: لأنه وصية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ فيه: إني أحبك، ولأنه دعاء جامع شامل.
ومنها: ما جاء عن أبي هريرة. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: كيف تقول في صلاتك؟ قال: أتشهد وأقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنَتَك ولا دندنةَ معاذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حولَها ندندن). رواه أبو داود
ومنها: ما جاء عن علي. قال (
…
وكان آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا
أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْت) رواه مسلم.
ومنها: ما جاء عن عائشة. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول (اللهم حاسبني حساباً يسيراً). رواه أحمد
(ويدعو بما أحب).
أي: ويدعو المصلي في نهاية التشهد بما أحب.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ) متفق عليه.
وفي رواية (ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو).
وعند النسائي (فليدع به).
وجاء في رواية (ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا أَحَبَّ).
وفى رواية أبى هريرة رضي الله عنه: (ثم يدعو لنفسه ما بدا له) قال النسائي: إسناده صحيح.
وقد اختلف العلماء هل يجوز الدعاء بغير ما ورد من أمور الدنيا، مثل (اللهم ارزقنا بيتاً واسعاً) أم لا؟
قيل: لا يجوز.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لأنه كلام آدميين.
وقيل: يجوز الدعاء بحوائج الدنيا.
وقيل: يجوز الدعاء بحوائج الدنيا وملاذها.
واختاره الشيخ السعدي، وبه قال مالك، والثوري، وإسحاق.
لقوله (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه).
ولمسلم (ثم ليتخير بعدُ من المسألة ما شاء أو ما أحب).
جاء في موقع الإسلام سؤال وجواب وفقهم الله:
ذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، وبعض الحنابلة إلى جواز الدعاء في الصلاة بحاجات الدنيا المتنوعة، مما يُحِبُّ المُصلي أن يدعوَ به ويحتاج إليه، كأن يدعو بالزواج أو الرزق أو النجاح وغير ذلك.
واستدلوا بحديث (ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ المَسْأَلَةِ مَا شَاءَ).
وقد روى ابن أبي شيبة في "المصنف" عَنْ الْحَسَنِ والشَّعْبِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: اُدْعُ فِي صَلَاتِك بِمَا بَدَا لَك " انتهى.
وجاء في "المدونة"(1/ 192): قَالَ مَالِكٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ بِجَمِيعِ حَوَائِجِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ، حَوَائِجِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، فِي الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ وَالسُّجُودِ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي مَالِكٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ فِي حَوَائِجِي كُلِّهَا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى فِي الْمِلْحِ " انتهى.
وخالف في ذلك الحنفية وأكثر الحنابلة، فقالوا بعدم جواز الدعاء بأمور الدنيا في الصلاة، بل قالوا ببطلان صلاة من دعا بأي شيء من ذلك.
جاء في (الإنصاف) من كتب الحنابلة: الدُّعَاءُ بِغَيْرِ مَا وَرَدَ، وَلَيْسَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ: فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ. وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَعَنْهُ - أي عن الإمام أحمد - يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِحَوَائِجِ دُنْيَاهُ، وَعَنْهُ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِحَوَائِجِ دُنْيَاهُ وَمَلَّاذِهَا. كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي جَارِيَةً حَسْنَاءَ، وَحُلَّةً خَضْرَاءَ، وَدَابَّةً هِمْلَاجَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وجاء في "الفتاوى الهندية (1/ 100) من كتب الحنفية: وَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي فُلَانَةَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفْسُدُ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَيْضًا مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ " انتهى.
وقد أخذوا ذلك عن جماعة من السلف، روى عنهم ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 332) أنهم كانوا يستحبون الدعاء في الفريضة بما في القرآن فقط، بل روى عن عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَدْعُوَ فِي الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.
جاء في "الموسوعة الفقهية"(20/ 265 - 266): قال الحنفيّة والحنابلة: يسنّ الدّعاء في التّشهّد الأخير بعد الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بما يشبه ألفاظ القرآن، أو بما يشبه ألفاظ السّنّة، ولا يجوز له الدّعاء بما يشبه كلام النّاس، كأن يقول: اللّهمّ زوّجني فلانة، أو أعطني كذا من الذّهب والفضّة والمناصب، وأمّا المالكيّة، والشّافعيّة فذهبوا إلى أنّه: يسنّ الدّعاء بعد التّشهّد وقبل السّلام بخيري الدّين والدّنيا، ولا يجوز أن يدعو بشيء محرّم أو مستحيل أو معلّق، فإن دعا بشيء من ذلك بطلت صلاته، والأفضل أن يدعو بالمأثور " انتهى.
والصحيح هو قول المالكية، والشافعية، وذلك لقوة ما استدلوا به، ولضعف حجة ما استدل به أصحاب القول الآخر.
قال النووي رحمه الله في (المجموع) مذهبنا أنه يجوز أن يدعو فيها بكل ما يجوز الدعاء به خارج الصلاة من أمور الدين والدنيا، وله - أن يقول -: اللهم ارزقني كسباً طيباً، وولداً، وداراً، وجارية حسناء يصفها، و: اللهم خلص فلاناً من السجن، وأهلك فلاناً، وغير ذلك، ولا يبطل صلاته شيء من ذلك عندنا، وبه قال مالك، والثوري، وأبو ثور، وإسحق.
وقال أبو حنيفة، وأحمد لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة الموافقة للقرآن، واحتج لهم بقوله صلى الله عليه وسلم (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم.
وبالقياس على رد السلام وتشميت العاطس.
واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم (وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء) فأطلق الأمر بالدعاء ولم يقيده، فتناول كل ما يُسَمَّى دعاءً.
ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا في مواضع بأدعية مختلفة، فدل على أنه لا حجر فيه.
وفى الصحيحين في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر التشهد (ثم ليتخير من الدعاء ما أعجبه) و (أحب إليه) و (ما شاء).
وفى رواية أبي هريرة (ثم يدعو لنفسه ما بدا له) قال النسائي وإسناده صحيح.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في قنوته (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلهما عليهم سنين كسني يوسف) رواه البخاري ومسلم.
وفى الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم العن رِعلاً وذَكوانَ وعُصَيَّةَ عصت الله ورسوله) وهؤلاء قبائل من العرب.
والأحاديث بنحو ما ذكرناه كثيرة.
والجواب عن حديثهم: أن الدعاء لا يدخل في كلام الناس، وعن التشميت ورد السلام أنهما من كلام الناس؛ لأنهما خطاب لآدمي بخلاف الدعاء. والله تعالى أعلم " (المجموع).؟؟؟
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع"(3/ 283): وظاهر كلام المؤلِّف - يعني الإمام موسى الحجاوي من الحنابلة -: أنه لا يدعو بغير ما وَرَدَ، فلا يدعو بشيء مِن أمور الدُّنيا مثل أن يقول: اللَّهُمَّ اُرزقني بيتاً واسعاً، أو: اللَّهُمَّ ارزقني زوجة جميلة، أو: اللَّهُمَّ اُرزقني مالاً كثيراً، أو: اللَّهُمَّ اُرزقني سيارة مريحة، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا يتعلَّق بأمور الدُّنيا، حتى قال بعض الفقهاء رحمهم الله: لو دعا بشيء مما يتعلَّق بأمور الدنيا بطلت صلاتُه.
لكن هذا قول ضعيف بلا شَكٍّ.
والصحيح: أنه لا بأس أن يدعو بشيء يتعلَّق بأمور الدُّنيا؛ وذلك لأن الدُّعاء نفسه عبادة ولو كان بأمور الدنيا، وليس للإنسان ملجأ إلا الله، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (أقربُ ما يكون العبدُ مِن ربِّه وهو ساجد) ويقول:(أمَّا السُّجودُ فأكثروا فيه مِن الدُّعاء فَقَمِنٌ أن يُستجاب لكم) ويقول في حديث ابن مسعود لما ذَكَرَ التَّشهُّدَ (ثم ليتخيَّر مِن الدُّعاء ما شاء) والإنسان لا يجد نفسه مقبلاً تمام الإقبال على الله إلا وهو يُصلِّي، فكيف نقول: لا تسأل الله - وأنت تُصلِّي - شيئاً تحتاجه في أمور دنياك! هذا بعيد جدًّا
…
فالصَّواب بلا شَكٍّ أن يدعوَ بعد التشهُّدِ بما شاء مِن خير الدُّنيا والآخرة " انتهى.
(ثم يسلم عن يمينهِ: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك).
أي بعد التشهد والدعاء يسلم عن يمينه فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، وكذا عن يساره.
وصيغ السلام:
الأولى: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.
لحديث ابن مسعود: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيسر). رواه النسائي
وهذا أكثر ما نقل.
قال ابن القيم: هذا كان فعله وقد رواه عنه خمسة عشر صحابياً.
الثانية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله [بزيادة: وبركاته في الأولى].
وقد اختلف العلماء فيها:
فقيل: الأفضل عدم زيادتها.
وهذا مذهب الحنابلة.
لأن أكثر الرواة لم يذكروها.
وقيل: لا بأس بزيادتها أحياناً.
لحديث وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله) رواه أبو داود
والله أعلم؛؛؛
الثالثة: السلام عليكم، السلام عليكم.
لحديث جابر بن سمرة قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم). رواه مسلم الرابعة: الاقتصار على تسليمة واحدة.
هذا جاء في أحاديث عن عائشة، وسهل بن سعد، لكن ضعفها جمع من المحققين: ابن القيم، وابن عبد البر، وغيرهم.
لكن ثبتت من فعل بعض الصحابة.
والأحوط ألا يفعل ذلك.
•
حكم التسليم في الصلاة:
القول الأول: أن التسليم غير واجب.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لحديث المسيء في صلاته، حيث لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
ولحديث ابن مسعود: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فعلمه التشهد في الصلاة، ثم قال: إذا قلت هذا، وفعلت هذا، فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فقعد). رواه أبو أحمد وداود
لكن قوله (إذا فعلت هذا فقد قضيت
…
) الصواب أنه موقوف على ابن مسعود.
حديث: (
…
من أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته) حديث باطل كما قال ابن القيم في زاد المعاد.
القول الثاني: الأولى واجبة دون الثانية.
وهذا مذهب الأكثر.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ من أهل العلم أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة صحيحة.
أ-لحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة) رواه أبو داود.
ب-وكذلك حديث أنس في الاقتصار على تسليمة واحدة، وغيرهما.
ج-ولقوله صلى الله عليه وسلم (تحليلها التسليم).
د-وحديث عائشة (كان صلى الله عليه وسلم يختم بالتسليم) فقالوا: هذا مطلق، ويحصل بالتسليمة الأولى.
هـ-ولأنه ورد عن بعض الصحابة الاقتصار على تسليمة واحدة.
القول الثالث: أنه لا بد من التسليمتين.
وهي رواية عن أحمد واختارها الشيخ ابن باز، ابن عثيمين. واستدلوا:
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (وتحليلها التسليم) فقالوا المقصود بالتسليم التسليم المعهود من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسلم عن يمينه وعن شماله.
ب-ولحديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله) رواه مسلم.
قوله: (يكفي) دليل على أنه لا يكفي أقل من ذلك.
ج-محافظة النبي صلى الله عليه وسلم على التسليمتين حضراً وسفراً.
قال في "كشاف القناع"(1/ 388) في بيان أركان الصلاة: الثالث عشر: (التسليمتان) لقوله صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم)، وقالت عائشة (كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم صلاته بالتسليم)
…
، إلا في صلاة جنازة فيخرج منها بتسليمة واحدة، وإلا في نافلة فتجزيء تسليمة واحدة على ما اختاره جمع منهم المجد عبد السلام بن تيمية.
قال في المغني والشرح: لا خلاف أنه يخرج من النفل بتسليمة واحدة.
وعلى هذا القول فلا يجوز للمسبوق أن يقوم إلا بعد تسليم الإمام التسليمة الثانية.
قال في "منار السبيل"(1/ 119): وإن قام المسبوق قبل تسليمة إمامه الثانية ولم يرجع انقلبت نفلاً، لتركه العود الواجب لمتابعة إمامه بلا عذر، فيخرج عن الإئتمام ويبطل فرضه.
وقال في "حاشية الروض المربع"(2/ 277): لتركه الواجب بلا عذر يبيح المفارقة، ففسد فرضه بذلك، ذاكرًا أو ناسيًا، عامدًا أو جاهلاً، وهذا على القول بوجوب التسليمة الثانية في الفرض.
والراجح مذهب الجمهور، والأحوط أن يسلم تسليمتين.
•
متى يبدأ التسليم؟
يبدأ التسليم مع الالتفات، ولا يبدأ التسليم وهو مستقبل القبلة، فالتسليم يبدأ مع الالتفات.
ويستحب أن يلتفت حتى يرى بياض خده، للحديث الذي سبق.
• يسن حذف السلام، وقد جاء هذا عن جماعة من السلف أنهم قالوا: حذف السلام سنة، وروي مرفوعاً ولا يصح، لكنه ثابت عن جماعة من السلف، والمقصود بحذف السلام عدم تطويله.
(ثم يجلس في تشهدهِ الأخير متوركاً).
أي: إذا أتى بما بقي إما ركعة إن كانت الصلاة ثلاثية، وإما ركعتين إن كانت رباعية جلس في التشهد الأخير متوركاً.
لحديث أَبِي حُمَيْدٍ اَلسَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ (رَأَيْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرِهِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اِسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ اَلْقِبْلَةَ، وَإِذَا جَلَسَ فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اَلْيُسْرَى وَنَصَبَ اَلْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي اَلرَّكْعَةِ اَلْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ اَلْيُسْرَى وَنَصَبَ اَلْأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
فقوله (وَإِذَا جَلَسَ فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اَلْيُسْرَى وَنَصَبَ اَلْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي اَلرَّكْعَةِ اَلْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ اَلْيُسْرَى وَنَصَبَ اَلْأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِه).
دليل على أن المصلي يجلس في التشهد الأول مفترشاً وفي التشهد الثاني متوركاً.
فهو حديث صريح في التفريق بين التشهدين.
وهذا مذهب أحمد والشافعي وأهل الحديث.
قال ابن حجر: وفي هذا الحديث حجة قوية للشافعي ومن قال بقوله في أن هيئة الجلوس في التشهد الأول مغايرة لهيئة الجلوس في الأخير.
وقال النووي: قال الشافعي: والأحاديث الواردة بتورك أو افتراش مطلقة لم يبين فيها أنه في التشهدين أو أحدهما، وقد بينه أبو حميد ورفقته ووصفوا الافتراش في الأول والتورك في الأخير، وهذا مبين فوجب حمل ذلك المجمل عليه والله أعلم.
وقال الإمام ابن القيم: لم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم التورك إلا في التشهد الأخير.
وذهب بعض العلماء: إلى التورك في التشهدين.
وهذا مذهب مالك.
واستدلوا بحديث عبد الله بن الزبير في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة جعل رجله اليسرى بين فخذه وساقه وفرش اليمنى). قوله: (للتشهد) أي التشهد الثاني.
وذهب بعضهم: إلى الافتراش في التشهدين.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لحديث عائشة لما ذكرت صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت (وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى) رواه مسلم.
والراجح التفريق.
•
صفة التورك:
ورد له عدة صفات:
الأولى: ما ورد في حديث أبي حميد (إِذَا جَلَسَ فِي اَلرَّكْعَةِ اَلْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ اَلْيُسْرَى وَنَصَبَ اَلْأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ).
الثانية: أن يفرش القدمين جميعاً، ويخرجهما من الجانب الأيمن. رواه أبو داود.
الثالثة: أن يفرش اليمنى، ويدخل اليسرى من بين فخذ وساق الرجل اليمنى. رواه مسلم، لكن الصواب رواية أبي داود (تحت فخذه وساقه).
•
الحكمة من التفريق بين التشهدين:
قيل: إزالة الشك واللبس الذي قد يحدث للمصلي.
وقيل: أن التشهد الأول قصير، بخلاف التشهد الثاني فهو طويل.
وجاء في حديث فيه نظر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في التشهد الأول فكأنه على الرضف) وهي الحجارة المحمية.
وقيل: أن التشهد الأول يعقبه حركة.
•
اختلف العلماء في كيفية الجلوس في التشهد إذا كانت الصلاة ذات تشهد واحد كالجمعة والعيد والنوافل على قولين:
القول الأول: يتورك.
وهذا مذهب الشافعي.
أ-لعموم حديث الباب (وَإِذَا جَلَسَ فِي اَلرَّكْعَةِ اَلْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ
…
).
قال ابن حجر رحمه الله: وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ تَشَهُّد الصُّبْح كَالتَّشَهُّدِ الْأَخِير مِنْ غَيْره؛ لِعُمُومِ قَوْلُهُ (فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرة).
وقال النووي رحمه الله: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مُفْتَرِشًا وَفِي الثَّانِي مُتَوَرِّكًا، فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ جَلَسَ مُتَوَرِّكًاً. (المجموع).
ب-ولأنه يسن تطويله.
القول الثاني: لا يشرع التورك بل يجلس مفترشاً.
وهذا مذهب الحنابلة.
لأن حديث عائشة يدل على أن الأصل في الجلوس في التشهد في الصلاة هو الافتراش، وأخرجنا التشهد الأخير لحديث أبي حميد).
وهذا هو الصحيح.
قال ابن قدامة رحمه الله: جَمِيعُ جَلَسَاتِ الصَّلَاةِ لَا يُتَوَرَّكُ فِيهَا إلَّا فِي تَشَهُّدٍ ثَانٍ. لحَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى). وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يُسَلِّمُ فِيهِ وَمَا لَا يُسَلِّمُ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَانِ يَقْضِيَانِ عَلَى كُلِّ تَشَهُّدٍ بِالِافْتِرَاشِ، إلَّا مَا خَرَجَ مِنْهُ، لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَشَهُّدٍ ثَانٍ، فَلَا يَتَوَرَّكُ فِيهِ كَالْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّشَهُّدَ الثَّانِيَ، إنَّمَا تَوَرَّكَ فِيهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَشَهُّدٌ وَاحِدٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرق. (المغني).
(والمرأة مثلهُ).
أي: أن المرأة كالرجل في حكام الصلاة.
وقد ذهب بعض العلماء: إلى أنها كالرجل إلا أنها تضم نفسها حال الركوع وحال السجود فلا تجافي.
ولكن الصحيح أن المرأة كالرجل في كل شيء.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
وهذا الخطاب يشمل الرجال والنساء.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: كل ما تقدم من صفة صلاته صلى الله عليه وسلم يستوي فيه الرجال والنساء ولم يرد في السنة ما يقتضي استثناء النساء من بعض ذلك، بل إن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي، يشملهن.
ب- عموم قوله صلى الله عليه وسلم (إنما النساء شقائق الرجال) رواه أبو داود.
قال البخاري رحمه الله: كَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلَاتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ فَقِيهَةً.
ذكر الحافظ في "فتح الباري" أن لأَبِي الدَّرْدَاء زَوْجَتَينِ كُلّ مِنْهُمَا أُمّ الدَّرْدَاء، فَالْكُبْرَى صَحَابِيَّة، وَالصُّغْرَى تَابِعِيَّة، واختار أن المراد هنا في كلام البخاري الصغر.
(فإذا سلم استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام .... ).
بعد السلام من الصلاة المفروضة يشرع للمصلي أن يقول الأذكار الواردة:
فهذه الأذكار تقال بعد السلام من الصلاة المفروضة.
لحديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً) رواه مسلم.
قول: أستغفر الله ثلاثاً، اللهم أنت السلام ومنك السلام ....
لحديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اِنْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اِسْتَغْفَرَ اَللَّهَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَلسَّلَامُ وَمِنْكَ اَلسَّلَامُ. تَبَارَكْتَ يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وعن عائشة قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: استغفر الله ثلاثاً، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا
الجلال والإكرام) رواه مسلم.
وقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ اَلْمُلْكُ، وَلَهُ اَلْحَمْدُ ....
عَنْ اَلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةِ مَكْتُوبَةٍ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ اَلْمُلْكُ، وَلَهُ اَلْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اَللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا اَلْجَدِّ مِنْكَ اَلْجَدُّ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ظاهر الحديث أنه لا يأتي بهذا الدعاء إلا مرة واحدة، لكن جاء في رواية عند النسائي وأحمد (ثلاث مرات) لكن قال الحافظ ابن رجب: هذه زيادة غريبة.
وقول: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ..
عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ قَالَ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ (لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ». وَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ. رواه مسلم.
ثم يقول: سبحان الله 33، والحمد لله 33، والله أكبر: 33، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له
…
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ سَبَّحَ اَللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اَللَّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اَللَّهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ اَلْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ اَلْمُلْكُ، وَلَهُ اَلْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ لَهُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ اَلْبَحْرِ) رَوَاهُ مُسْلِم.
• ورد عدة صفات في التسبيح والتحميد والتكبير الواردة التي تقال بعد الصلاة:
الصفة الأولى: ما في حديث أبي هريرة السابق.
سبحان الله [33] والحمد لله [33] والله أكبر [33] وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد ....
الصفة الثانية: سبحان الله [33] والحمد لله [33] والله أكبر [34].
كما في حديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - وقد تقدم - (مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاة) رواه مسلم.
الصفة الثالثة: سبحان الله [33] والحمد لله [33] والله أكبر [33].
كما في حديث أبي هريرة (أن فقراء المهاجرين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الثور من الأموال بالدرجات العلى
…
ألا أخبركم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدركم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله؟ تسبحون الله وتكبرون خلف كل صلاة، ثلاثاً وثلاثين
…
) رواه البخاري
الصفة الرابعة: سبحان الله [25] والحمد لله [25] والله أكبر [25] ولا إله إلا الله [25].
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال (أُمرنا أن نسبح دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ونحمده ثلاثاً وثلاثين، قال: فرأى رجل في المنام فقال: أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسبحوا في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوا الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبروا أربعاً وثلاثين، قال: نعم، قال: فاجعلوا خمساً وعشرين، واجعلوا التهليل معهن، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه فقال، افعلوا) رواه الترمذي.
الصفة الخامسة: سبحان الله [10] والحمد لله [10] والله أكبر [10].
لحديث عبد الله بن عمر قال صلى الله عليه وسلم: (خصلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسير ومن يعمل بهما قليل، تسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، وتكبره عشراً، وتحمده عشراً، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده، فتلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان) رواه الترمذي.
قوله (فتلك خمسون ومائة باللسان) وذلك لأن بعد كل صلاة من الصلوات الخمس ثلاثون تسبيحة وتحميدة وتكبيرة وبعد جميع خمس الصلوات مائة وخمسون، وقد صرح بهذا النسائي في عمل اليوم والليلة من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: (ما يمنع أحدكم أن يسبح
دبر كل صلاة عشراً، ويكبر عشراً، ويحمد عشراً، فذلك في خمس صلوات خمسون ومائة).
قوله (وألف وخمسمائة في الميزان) وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، فيحصل من تضعيف المائة والخمسين عشر مرات ألف وخمسمائة.
ثم يقرأ آية الكرسي.
لحديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَرَأَ آيَةَ اَلْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ اَلْجَنَّةِ إِلَّا اَلْمَوْتُ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
ثم يقرأ بالمعوذتين.
لحديث عقبة بن عامر (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة). رواه أبو داود وحسنه الألباني
• اختلف العلماء في المراد بالمعوذات في حديث عقبة، هل يدخل معها سورة الإخلاص أم لا على قولين:
قيل: المراد بالمعوذات: الإخلاص والفلق والناس.
وهذا قول الأكثر.
لأن المعوذات في الشرع إذا أطلقت فإنها تنصرف إلى المعوذات مع سورة الإخلاص كما في حديث عائشة الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه قبل أن ينام بالمعوذات، وفي الرواية الأخرى قالت: ينفث على نفسه بـ (قل هو الله أحد) و (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس).
وقيل: لا يشرع قراءة سورة الإخلاص بعد الصلاة.
لأن حديث عقبة جاء في رواية (بالمعوذتين).
واختاره ابن حبان، وابن المنذر.
والصحيح الأول.
قوله في حديث اَلْمُغِيرَة رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةِ مَكْتُوبَةٍ) فيه أن هذا الدعاء يقال عقب الصلاة المفروضة ولا يقال عقب الصلاة النافلة، كما جاء في حديث كعب بن عجرة قال صلى الله عليه وسلم (معقبات لا يخيب قائلهن بعد كل فريضة
…
)
(ويسن أن يجهر بهذه الأذكار).
أي: ويسن للمصلي أن يجهر بهذه الأذكار بعد الصلاة.
وهذا قال به جماعة من الفقهاء، واختاره الطبري، وابن تيمية، وابن حزم.
عن ابْنَ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما (أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ).
وفي رواية (كنتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْبِيرِ).
وقال ابن حزم رحمه الله: " ورفع الصوت بالتكبير إثر كل صلاة حسن.
ونقل البهوتي في "كشاف القناع"(1/ 366) عن شيخ الإسلام ابن تيمية استحباب الجهر: (قال الشيخ [أي ابن تيمية]: ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب كل صلاة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يستحب.
وهو قول الشافعي والجمهور.
لحديث أبي موسى قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا علوا رفعوا أصواتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) متفق عليه.
وقالوا عن حديث ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليه وإنما فعله للتعليم ثم ترك.
قال الشافعي رحمه الله: وأختار للإمام والمأموم أن يذكر الله بعد الانصراف من الصلاة، ويخفيان الذكر إلا أن يكون إماماً يجب أن يُتعلم منه فيجهر حتى يرى أنه قد تُعلم منه، ثم يسر؛ فإن الله عز وجل يقول (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) يعنى- والله تعالى أعلم-: الدعاء، (ولا تجهر) ترفع، (ولا تخافت) حتى لا تُسمع نفسك.
وأحسب ما روى ابن الزبير من تهليل النبي صلى الله عليه وسلم، وما روى ابن عباس من تكبيره كما رويناه - قال الشافعي: وأحسبه إنما جهر قليلاً ليتعلم الناس منه؛ وذلك لأن عامة الروايات التي كتبناها مع هذا وغيرها ليس يذكر فيها بعد التسليم تهليل، ولا تكبير، قد يذكر أنه ذكر بعد الصلاة بما وصفت ويذكر انصرافه بلا ذكر، وذكرتْ أم سلمة مكثه ولم تذكر جهراً، وأحسبه لم يمكث إلا ليذكر ذكراً غير جهر.
والراجح استحباب الجهر.
• والجهر يعم جميع هذه الأذكار ولا يختص بأولها، فما عليه كثير من الناس من الجهر بأولها والإسرار بآخرها خلاف السنة.
• ويخص من هذا الجهر آية الكرسي، فإنها تكون سراً بالاتفاق، فإن القائلين بالجهر يرون قراءة آية الكرسي يكون سراً ولا يجهر بها.
• والمراد بالجهر: رفع الصوت مع قصد إسماع غيره ولو لم يسمع.
• وقت أذكار كل صلاة بعدها إلى خروج وقتها، ومن اعتادها فنسيها أو شغل عنها بلا تفريط حتى خرج وقتها، قالها بعده.
فائدة: أذكار تقال بعد الصلاة النافلة:
أولاً: قول بعد الوتر: سبحان الملك القدوس ثلاثاً، ويرفع صوته بالثالثة.
لحديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، كَانَ يَقْرَأُ فِي الأُولَى بِـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِذَا فَرَغَ، قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ) رواه النسائي.
وروى الدارقطني زيادة بعدها وهي (رب الملائكة والروح) وإسنادها ضعيف.
ثانياً: اللهم اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور.
عن زاذان عن رجل من الأنصار قال (مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الضحى فسمعته يقول: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور، حتى عددت مائة مرة) رواه النسائي في الكبرى.
وقد اختلف العلماء في هذا الذكر:
فقيل: يقال بعد صلاة الضحى.
وهذا اختيار البيهقي.
وقيل: أن هذا الذكر من أذكار الصلوات المكتوبة.
وهذا قول النسائي، واختاره الألباني. والله أعلم.
(والسنة أن يستقبل الإمام الناس إذا سلم).
أي: أن الإمام بعد سلامه من الصلاة يسن له أن يستقبل الناس.
أ-عن عائشة قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: استغفر الله ثلاثاً، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) رواه مسلم.
ب- وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ) متفق عليه.
ج- وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ) متفق عليه.
د- وعَنْ أَنَسٍ قَالَ (أَخَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَلَمَّا صَلَّى أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
صَلَّوْا وَرَقَدُوا وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ) متفق عليه.
فهذه الأحاديث تدل على أن المشروع للإمام أن يستقبل الناس بعد سلامه من الصلاة.
والحكمة من ذلك:
قال الحافظ ابن حجر: سِيَاقُ سَمُرَةَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ.
قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي اسْتِقْبَالِ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ الْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْرِيفُ الدَّاخِلِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ انْقَضَتْ إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ الْإِمَامُ عَلَى حَالِهِ لَأَوْهَمَ أَنَّهُ فِي التَّشَهُّدِ مَثَلًا.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: اسْتِدْبَارُ الْإِمَامِ الْمَأْمُومِينَ إِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْإِمَامَةِ فَإِذَا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ زَالَ السَّبَبُ، فَاسْتِقْبَالُهُمْ حِينَئِذٍ يَرْفَعُ الْخُيَلَاءَ وَالتَّرَفُّعَ على الْمَأْمُومين.
…
(الفتح).
(ويجوز أن ينصرف عن يمينه أو شماله).
أي: أن للإمام أن ينصرف للمأمومين عن يمينه أو عن شماله.
عن عَبْدُ اللهِ قال (لَا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلاَّ عَنْ يَمِينِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ) رواه البخاري.
وعن أنس قال (أما أنا، فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه) رواه مسلم.
والجمع بينهما:
قال النووي: وَجْه الْجَمْع بَيْنهمَا: أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَل تَارَة هَذَا وَتَارَة هَذَا، فَأَخْبَرَ كُلّ وَاحِد بِمَا اِعْتَقَدَ أَنَّهُ الْأَكْثَر فِيمَا يَعْلَمهُ؛ فَدَلَّ عَلَى جَوَازهمَا، وَلَا كَرَاهَة فِي وَاحِد مِنْهُمَا.
وقال ابن بطال: فالانفتال والانصراف عن اليمين والشمال جائز عند العلماء لا يكرهونه؛ لما ثبت عن الرسول فى هذا الباب، وإن كان انصرافه عليه السلام عن يمينه أكثر؛ لأنه كان يحب التيامن في أمره كله، وإنما نهى ابن مسعود عن التزام الانصراف من جهة اليمين؛ خشية أن يجعل ذلك من اللازم الذي لا يجوز غيره. انتهى.
(ويجوز للمأموم الانصراف إذا سلم الإمام).
أي: حتى ولو لم يلتفت للمأمومين.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ) رواه البخاري.
فهذا الحديث دليل على أنه إذا سلم الإمام جاز للمأموم الانصراف سواء التفت الإمام إلى المأمومين أو بقي مكانه، أو قام من موضعه، والأولى للمأموم أن يبقى حتى يلتفت الإمام ويستقبل المأمومين، لاحتمال أن يكون الإمام جالساً ليسجد سجدتي السهو بعد التسليم من الصلاة، والأفضل من هذا: أن يكون قيامه بعد قيام الإمام.
• وأما ما رواه مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي إِمَامُكُمْ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي).
فالمراد بالانصراف هنا: السلام.
قال النووي رحمه الله: قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ) فِيهِ تَحْرِيم هَذِهِ الْأُمُور وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَالْمُرَاد بِالِانْصِرَافِ: السَّلَام.
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة
دروس فقهية
باب سجود السهو - باب صلاة التطوع
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
الموقع/ رياض المتقين
www.almotaqeen.net
أركان الصلاة وواجباتها
(أركانها)
أي: أركان الصلاة.
الأركان جمع ركن، وهو في اللغة جانب الشيء الأقوى.
وأركان الصلاة: أجزاؤها التي لا تتم الصلاة إلا بها، فتنعدم بعدمها.
• وتنقسم أقوال الصلاة وأفعالها إلى ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ما لا يسقط عمداً ولا سهواً ولا جهلاً، وأطلقوا عليه الركن، تشبيهاً له بركن البيت الذي لا يقوم إلا به، لأن الصلاة لا تتم إلا به.
الضرب الثاني: ما تبطل الصلاة بتركه عمداً لا سهواً أو جهلاً، ويجبر بالسجود.
وأطلقوا عليه الواجبات اصطلاحاً.
الضرب الثالث: ما لا تبطل بتركه ولو عمداً، وهو السنن.
(القيام في الفرض).
أي: من أركان الصلاة القيام في صلاة الفرض.
أ- لقوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وهذا أمر والأمر للوجوب.
ب- وقال صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً) رواه البخاري.
ج- وقال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ
…
) متفق عليه.
•
يسقط القيام في حال العجز عنه.
قال ابن قدامة: أجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا.
وقال النووي: أجمعت الأمة على أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعداً ولا إعادة عليه.
•
من قدر على القيام وعجز عن الركوع والسجود لم يسقط عنه القيام.
قال ابن قدامة: وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَعَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِيَامُ، وَيُصَلِّي قَائِمًا، فَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُومِئُ بِالسُّجُودِ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ الْقِيَامُ.
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ، فَسَقَطَ فِيهَا الْقِيَامُ كَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (صَلِّ قَائِمًا).
وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَالْقِرَاءَةِ، وَالْعَجْزُ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَهُ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ. (المغني)
• لا يصح أن يعتمد على شيء بحيث لو أزيل لسقط، لأن هذا يزيل مشقة القيام، ويجعله كالمستلقي.
• قوله (القيام في الفرض) أما في النفل فليس بركن، ويجوز أن يصلي النافلة جالساً.
لحديث عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَكَانَ مَبْسُورًا، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا فَقَالَ (إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهْوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ،
…
) متفق عليه.
وعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ) رواه مسلم.
قال النووي: معناه أن صلاة القاعد فيها نصف ثواب القائم، فيتضمن صحتها ونقصان أجرها، وهذا الحديث محمول على صلاة النفل قاعداً مع القدرة على القيام، فهذا له نصف ثواب القائم، وأما إذا صلى النفل قاعداً لعجزه عن القيام فلا ينقص ثوابه بل يكون كثوابه قائماً.
(وتكبيرة الإحرام).
أي: ومن أركان الصلاة تكبيرة الإحرام.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته (إذا قمت إلى الصلاة فكبر) متفق عليه.
ب- ولحديث علي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير) رواه الترمذي.
قال النووي: فتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها.
• وليس شيء من التكبيرات ركناً سوى تكبيرة الإحرام.
وقد تقدمت مباحثها.
• والتحريم جعل الشيء محرماً، سميت بها لتحريمها الأشياء المباحة قبل الشروع.
(والفاتحة).
أي: ومن أركان الصلاة قراءة الفاتحة.
أ- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب) متفق عليه.
ب-وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْيَ خِدَاجٌ - ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَام) رواه مسلم.
وسيأتي إن شاء الله أنها ركن في حق الإمام والمنفرد والمأموم في الصلاة السرية والجهرية.
ج- وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ (كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ قُلْنَا: نَعَمْ هَذًّا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا). رواه أبو داود.
فلابد من قراءة الفاتحة في الصلاة، فمتى تركها المصلي إماماً أو منفرداً بطلت صلاته.
وهذا مذهب جماهير العلماء للأحاديث السابقة.
• والفاتحة لابد منها في الصلاة والسرية والجهرية، للإمام والمنفرد والمأموم.
هذا القول هو الراجح.
وبه قال الشافعي وأكثر أصحابه، واختاره البخاري، والشوكاني، للأحاديث السابقة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها واجبة في السرية دون الجهرية.
وهذا قول الإمام مالك، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
أ-لقوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
قالوا: هذا أمر بالاستماع والإنصات لمن يقرأ القرآن، وقد ذكر الإمام أحمد الإجماع على أنها نزلت في الصلاة.
ب-وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) رواه ابن ماجه وأحمد.
قال البخاري: هذا خبر لم يثبت عند أهل العلم.
وقال ابن حجر: كل طرقه معلولة.
ج - قالوا: كيف يلزم المأموم بقراءة الفاتحة في الجهرية وقد سمعها من الإمام وأمّن عليها، والسامع المؤمن كالفاعل، بدليل قوله تعالى في قصة موسى وهارون (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا
…
قد أجيبت دعوتكما) ومعلوم أن الداعي موسى بنص القرآن، وهارون كان يؤمّن، فجعل الله دعوة موسى دعوة لهارون.
والراجح أنها ركن مطلقاً في الصلاة السرية والجهرية.
وأما الجواب عن أدلة القول الثاني:
أما الآية فهي عامة، وحديث عبادة الأمر بالفاتحة خاص، والخاص يقضي على العام.
وأما حديث (من كان له إمام فقراءة الإمام
…
) فهذا حديث لا يصح.
وأما قولهم إن ذلك عبث، نقول: ما دام أنه جاء النص بقراءة الفاتحة فيلزم أن يقرأها ثم ينصت.
• تسقط الفاتحة في حق المسبوق إذا أدرك إمامه راكعاً.
لحديث أبي بكرة (أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: زادك الله حرصاً ولا تعد) رواه البخاري.
ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الركعة.
ومن النظر: أن هذا الرجل لم يدرك القيام الذي هو محل قراءة الفاتحة، فسقط عنه الذكر لسقوط محله، كما يسقط غسل اليد في الوضوء إذا قطعت يده من المرفق لفوات المحل. (ابن عثيمين).
ووجه الدلالة: أنه لو لم يكن إدراك الركوع مجزئاً لإدراك الركعة مع الإمام لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء تلك الركعة التي لم يدرك القراءة فيها، ولم ينقل عنه ذلك، فدل على أن من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة (سلسلة الأحاديث الصحيحة).
قال الشوكاني: وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الداخل بأن يصنع كما يصنع الإمام، ومعلوم أنه لا يحصل الامتثال إلا إذا ركع مع إمامه، فإذا أخذ يقرأ الفاتحة فقد أدرك الإمام على حالة ولم يصنع كما صنع إمامه، فخالف الأمر الذي وجب عليه امتثاله.
•
هل لابد من الفاتحة في كل ركعة؟
نعم، لا بد من الفاتحة في كل ركعة. قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها).
فائدة: قوله (لا تعد (اختلف العلماء: قيل: لا تعد إلى الإسراع، وقيل: إلى الركوع دون الصف، والراجح الأول.
(وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله).
(والركوع).
أي: ومن أركان الصلاة الركوع.
وهو ركن بالإجماع، قاله في المغني.
أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا).
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (
…
ثم اركع حتى تطمئن راكعاً).
• قال الشيخ ابن باز: إذا أدرك المأموم الإمام راكعا أجزأته الركعة ولو لم يسبح المأموم إلا بعد رفع الإمام. انتهى.
• وإذا أدركه حال الركوع أجزأته تكبيرة واحدة، وهي تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع، روي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر وسعيد وعطاء والحسن وإبراهيم النخعي، وبه قال الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد).
قال أبو داود: قلت لأحمد: أُدرك الإمام راكعاً؟ قال: يجزيك تكبيرة. (مسائل الإمام أحمد).
وذلك لأن حال الركوع يضيق عن الجمع بين تكبيرتين في الغالب، ولأنه اجتمع عبادتان من جنس واحد في محل واحد، ونية الركوع لا تنافي نية افتتاح الصلاة، فأجزأ الركن وهي تكبيرة الإحرام عن الواجب وهي تكبيرة الركوع، كطواف الإفاضة يغني عن طواف الوداع إذا جعله آخر شيء.
…
انظر (المغني)(القواعد لابن رجب).
فإن أمكن أن يأتي بتكبيرتين: الأولى للإحرام، والثانية للركوع فهذا أولى، قال أبو داود: " قلت لأحمد: يكبر مرتين أحب إليك؟ قال: فإن كبر مرتين فليس فيه اختلاف.
…
(مسائل الإمام أحمد).
وسئل الشيخ ابن باز: إذا حضر المأموم إلى الصلاة والإمام راكع هل يكبر تكبيرة الافتتاح والركوع أو يكبر ويركع؟
فأجاب: " الأولى والأحوط أن يكبر التكبيرتين:
إحداهما: تكبيرة الإحرام وهي ركن ولا بد أن يأتي بها وهو قائم.
والثانية: تكبيرة الركوع يأتي بها حين هويه إلى الركوع، فإن خاف فوت الركعة أجزأته تكبيرة الإحرام في أصح قولي العلماء، لأنهما عبادتان اجتمعتا في وقت واحد فأجزأت الكبرى عن الصغرى، وتجزئ هذه الركعة عند أكثر العلماء.
• وعلى الداخل أن يكبر للإحرام قائماً، فإن أتى به على حال انحنائه للركوع لم يصح.
قال النووي: إذا أدرك الإمام راكعا كبر للإحرام قائما ثم يكبر للركوع ويهوي إليه، فإن وقع بعض تكبيرة الإحرام في غير القيام لم تنعقد صلاته فرضا بلا خلاف، ولا تنعقد نفلا أيضاً على الصحيح.
…
(المجموع).
وقال الشيخ ابن عثيمين: ولكن هنا أمْرٌ يجبُ أن يُتفَطَّنُ له، وهو أنَّه لا بُدَّ أنْ يكبِّرَ للإحرامِ قائماً منتصباً قبل أنْ يهويَ؛ لأنَّه لو هَوى في حالِ التكبيرِ لكان قد أتى بتكبيرةِ الإحرامِ غير قائمٍ، وتكبيرةُ الإحرامِ لا بُدَّ أن يكونَ فيها قائماً.
• وإذا ركع مع الإمام أجزأته الركعة ولو لم يقرأ الفاتحة، وهو قول الجمهور، وهو الراجح ـ إن شاء الله كما تقدم لحديث أبي بكرة.
•
حكم الركوع دون الصف:
جاء في حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّهُ اِنْتَهَى إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى اَلصَّفِّ، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَادَكَ اَللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِيهِ (فَرَكَعَ دُونَ اَلصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى إِلَى اَلصَّفِّ).
فقوله (ولا تَعُد).
قيل: لا تعد إلى الإسراع والسعي الشديد.
وهذا جاء نهي عنه بخصوصه كما في حديث أبي هريرة (
…
فعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا).
وقيل: إلى الركوع دون الصف.
لرواية أبي داود (أيكم الذي ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف).
ويؤيده حديث أبي هريرة (إذا دخلت والإمام راكع فلا تركع حتى تأخذ مصافك من الصف) رواه الطحاوي، وقد روي مرفوعاً، لكن صحح ابن رجب أنه موقوف.
• فإذا ركع المسبوق قبل الوصول إلى الصف، كي يدرك الركعة مع الإمام، فقد وقع في المكروه، ولكن صلاته صحيحة إن شاء الله.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: فكأنه أحب له الدخول في الصف، ولم ير عليه العجلة بالركوع حتى يلحق بالصف، ولم يأمره بالإعادة، بل فيه دلالة على أنه رأى ركوعه منفردا مجزئا عنه " انتهى من (الأم).
وقال الخطابي رحمه الله: قوله: (ولا تعد) إرشاد له في المستقبل إلى ما هو أفضل، ولو لم يكن مجزيًا لأمره بالإعادة. (معالم السنن)
وقال الشيخ ابن عثيمين: الصواب أنه لا يركع قبل أن يصل إلى الصف؛ لأن الحديث عام: (لا تعد).
فائدة: وذهب بعض العلماء إلى جواز الركوع دون الصف، وممن رجح هذا القول الشيخ الألباني.
لفعل بعض الصحابة.
وقد قال عطاء بن يسار أنه سمع عبد الله بن الزبير على المنبر يقول للناس (إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعاً، حتى يدخل في الصف، فإن ذلك السنة). رواه ابن خزيمة والطبراني
وقد فعل ذلك بعض الصحابة:
كأبي بكر: عند البيهقي.
وزيد بن ثابت: رواه البيهقي.
وابن مسعود: كما عند ابن أبي شيبة.
والله أعلم.
(والرفع منه).
أي: ومن أركان الصلاة الرفع من الركوع.
لحديث المسيء في صلاته قال له: (
…
ثم ارفع حتى تطمئن قائماً).
• يستثنى من هذا: الركوع الثاني وما بعده في صلاة الكسوف فإنه سنة.
(والسجود).
أي: ومن أركان الصلاة السجود.
وهو ركن بالإجماع.
لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً).
(والجلوس بين السجدتين).
لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته (ثم ارفع حتى تطمئن جالساً).
(والطمأنينة في الكل).
أي: ومن أركان الصلاة: الطمأنينة.
وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.
أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا قُمْتُ إِلَى اَلصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ اَلْوُضُوءَ، ثُمَّ اِسْتَقْبِلِ اَلْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اِقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ اَلْقُرْآنِ، ثُمَّ اِرْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ اِرْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اِرْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اِرْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اِفْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا) أَخْرَجَهُ اَلسَّبْعَةُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
ووقع في حديث رفاعة بن رافع - عند ابن أبي شيبة - في هذه القصة (فدخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها).
وجه الدلالة: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على الصحابي سرعته وقال (إنك لم تصلّ) وأمره بالإعادة وأخبره بأنه لم يصلِ مع أنه كان جاهلاً.
ب-ولحديث أبي مسعود قال صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق في صلاته لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها). رواه أحمد
ج- عن زَيْدَ بْن وَهْب قَالَ (رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلاً لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ قَالَ مَا صَلَّيْتَ وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها سنة.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) فهذا أمر بمطلق الركوع والسجود.
والصحيح الأول، وأما الآية فهي مطلقة بينت السنة المراد بها.
• اختلف العلماء في حد الاطمئنان المطلوب على قولين:
القول الأول: هي استقرارٌ بقدر الإتيان بالواجب.
مثال: في الركوع يطمئن بقدر سبحان ربي العظيم.
القول الثاني: أنها السكون وإن قلَ.
والصحيح الأول.
(والتشهد الأخير).
أي: ومن أركان الصلاة التشهد الأخير.
وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
لحديث ابن مسعود قال: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
…
). رواه النسائي
والأصل أن التشهدين [الأول والثاني] كليهما فرض، لكن التشهد الأول لما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم وجبره بسجود سهو، علم بذلك أنه من الواجبات، ويبقى التشهد الأخير على فرضيته ركناً.
(وجلسته).
أي: ومن أركان الصلاة جلسة التشهد الأخير.
فلو قرأ التشهد وهو قائم لم تصح صلاته، لأنه ترك ركناً.
(والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه).
أي: ومن أركان الصلاة: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير.
وقد تقدم الخلاف في هذا:
فقيل: واجبة.
وقيل: ركن.
وقيل: سنة.
(والترتيب).
أي: ومن أركان الصلاة: الترتيب بين أركان الصلاة.
أي ترتيب الأركان: قيام، ثم رفع، ثم سجود،
…
، فلو قدم المصلي السجود قبل الركوع فلا تصح صلاته.
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم علم المسيء في صلاته بقوله (ثم
…
ثم
…
ثم
…
) وثم تدل على الترتيب.
ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على هذا الترتيب.
(والتسليمة الأولى).
أي: ومن أركان الصلاة: التسليمة الأولى.
وقد تقدم - في صفة الصلاة - بيان ذلك.
وأن أكثر العلماء: على أن الأولى واجبة دون الثانية.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ من أهل العلم أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة صحيحة.
أ-لحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة) رواه أبو داود.
ب-وكذلك حديث أنس في الاقتصار على تسليمة واحدة، وغيرهما.
ج-ولقوله صلى الله عليه وسلم (تحليلها التسليم).
د-وحديث عائشة (كان صلى الله عليه وسلم يختم بالتسليم) فقالوا: هذا مطلق، ويحصل بالتسليمة الأولى.
هـ-ولأنه ورد عن بعض الصحابة الاقتصار على تسليمة واحدة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا بد من التسليمتين.
وهي رواية عن أحمد واختارها الشيخ ابن باز، ابن عثيمين.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (وتحليلها التسليم) فقالوا المقصود بالتسليم التسليم المعهود من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسلم عن يمينه وعن شماله.
ب-ولحديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله) رواه مسلم.
قوله: (يكفي) دليل على أنه لا يكفي أقل من ذلك
ج-محافظة النبي صلى الله عليه وسلم على التسليمتين حضراً وسفراً.
(هذه الْأَرْكَانُ لَا تَسْقُطُ سَهْوًا وَلَا جَهْلاً وَلَا عَمْدًا).
أي: أن هذه الأركان لا تسقط مطلقاً لا سهواً ولا جهلاً، بل لا بد أن يأتي بها ويسجد للسهو.
وهذا هو الفرق بين الواجبات والأركان، فالأركان لا بد أن يأتي بها المصلي لا تسقط أبداً.
مثال: إنسان ترك الركوع ناسياً، فلا بد أن يأتي بالركوع ويسجد للسهو، لأن الركوع ركناً من أركان الصلاة.
مثال: لو ترك قراءة الفاتحة ناسياً، فإنه يلزمه أن يأتي بها.
والدليل على أن الأركان لا تسقط:
حديث أبي هريرة قال (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِىِّ إِمَّا الظُّهْرَ وَإِمَّا الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَتَى جِذْعاً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا مُغْضَباً وَفِى الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يَتَكَلَّمَا وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ قُصِرَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمِيناً وَشِمَالاً فَقَالَ «مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ» . قَالُوا صَدَقَ لَمْ تُصَلِّ إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ) متفق عليه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من ركعتين في الظهر، وأخبر بذلك، قام وأتي بالركعتين وسجد للسهو بعد السلام.
(وواجباتها).
أي: وواجبات الصلاة.
(التكبير غير التحريمة).
أي: من واجبات الصلاة تكبيرات الانتقال ما عدا تكبيرة الإحرام فإنها ركن كما تقدم.
وقد تقدم دليل وجوبها.
أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها، ولم يحفظ عنه أنه ترك التكبير أبداً، مع قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ب-وقال صلى الله عليه وسلم (وإذا كبر فكبروا).
ج-وقال صلى الله عليه وسلم في الصلاة (إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) فدل على أن الصلاة لا تخلو من التكبير كما لا تخلو من قراءة القرآن، وكذلك التسبيح.
د-ولأنها شعار الانتقال من ركن إلى ركن.
• يستثنى من ذلك:
تكبيرة الإحرام، فإنها ركن كما سبق.
وتكبيرة المسبوق إذا أدرك إمامه راكعاً فإنها سنة، للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام، وكذا الزوائد في العيد والاستسقاء فإنها سنة.
(والتسميع والتحميد).
أي: قول الإمام والمنفرد: سمع الله لمن حمده، والتحميد: للإمام، والمأموم، والمنفرد.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد).
ب- ولمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
(والتسبيح في الركوع والسجود مرة).
أي: ومن واجبات الصلاة: قول سبحان ربي العظيم في الركوع، وقول سبحان ربي الأعلى في السجود.
قال النووي: وأوجبه أحمد وطائفة من أهل الحديث.
أ-لقوله (فَأَمَّا اَلرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ اَلرَّب
…
) وهذا أمر والأمر للوجوب.
ب-ولحديث حذيفة قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّى بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ». فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ج- ولحديث عقبة بن عامر قال (لما نزلت [فسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى] قال: اجعلوها في سجودكم) رواه أبو داود.
(وقول: رب اغفر لي بين السجدتين).
أي: ومن واجبات الصلاة: قول رب اغفر لي بين السجدتين.
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(صلوا كما رأيتموني أصلي).
والواجب مرة، وما زاد فهو أكمل.
وأكثر العلماء على أن هذا الذكر سنة.
(والتشهد الأول).
أي: ومن واجبات الصلاة: التشهد الأول.
لحديث عبد الله بن بحينة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى صلاته وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم فسلم). متفق عليه
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نسيه لم يَعُد إليه وجبره بسجود السهو، ولو كان ركناً لم ينجبر بسجود السهو.
(فهذه إن تركها عمداً بطلت صلاته، وإن تركها سهواً سقطت وجبرها بسهو).
أي: هذه الواجبات حكمها:
من تركها عمداً بطلت صلاته.
ومن تركها سهواً فإنه يجبرها بسجود سهو.
فلو أنه ترك التشهد الأول ناسياً، فإنه لا يلزمه أن يأتي به، ويجبره بسجود سهو.
وكذا لو ترك [سبحان ربي العظيم] في الركوع ناسياً، فإنه لا يلزمه أن يأتي به، ويجبره بسجود سهو.
ولو تركها عمداً فإنه تبطل صلاته.
مثال: لو ترك التشهد الأول عمداً، فإن صلاته باطلة.
لو ترك سبحان ربي الأعلى عمداً، فإن صلاته باطلة.
(وما عدا هذا، فسنن لا تبطل الصلاة بتركها، ولا يجب السجود لسهوها).
أي: ما عدا الأركان والواجبات فهو سنن، وهي على نوعين، سنن قولية وسنن فعلية.
والسنة ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام، وحكمها: يثاب فاعلها امتثالاً ولا يعاقب تاركها.
أمثلة: دعاء الاستفتاح، رفع اليدين، البسملة، والتعوذ، قول آمين عند الانتهاء من قراءة الفاتحة، قراءة سورة أو بعض سورة بعد الفاتحة، ما زاد على الواحدة في تسبيح الركوع والسجود، الدعاء بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، رفع اليدين في المواضع الأربع التي سبقت، وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر.
مكروهات الصلاة
(ويكره في الصلاة التفاتُهُ).
أي: ومن مكروهات الصلاة الالتفات.
أ-لحديث عائشة. قَالَتْ (سَأَلْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلِالْتِفَاتِ فِي اَلصَّلَاةِ? فَقَالَ: هُوَ اِخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ اَلشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ اَلْعَبْدِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
ب- وقال صلى الله عليه وسلم (
…
فإذا صليتم فلا تلتفتوا
…
) رواه الترمذي.
ج- وقال صلى الله عليه وسلم (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه عنه انصرف).
[اختلاس] أي اختطاف بسرعة، [الالتفات] المراد بالرأس أو العنق [تحويل الوجه عن القبلة]، وأما الالتفات بالصدر حرام.
• جمهور العلماء على أن الالتفات مكروه.
• يجوز إذا كان لحاجة، ويدل لذلك:
أ- حديث سهل بن الحنضلية قال (ثوب في الصلاة - يعني صلاة الفجر - فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب).
قال أبو داود: وكان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل فارساً إلى الشعب يحرس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت إليه ويترقب قدومه.
ب- وحديث أنس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج والمسلمون في صلاة الفجر وكشف السترة
…
فنظر إلى المسلمين وهم صفوف فتبسم صلى الله عليه وسلم فطفق أبو بكر يريد أن يتأخر
…
ونظر المسلمون إلى رسولهم حتى كادوا أن يفتتنوا.
ج- وفي حديث جابر أنه قال (اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فصليت وراءه وهو قاعد فالتفت فرآنا قياماً
…
).
قال الشيخ ابن عثيمين: ومن ذلك لو كانت المرأة عندها صبيها وتخشى عليه فصارت تلتفت إليه، فإن هذا من الحاجة ولا بأس به، لأنه عمل يسير يحتاج إليه الإنسان".
• جاء في (الموسوعة الفقهية) لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الاِلْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الاِلْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَال: (هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ) رواه البخاري، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ أَوِ الْعُذْرِ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ: كَخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ لَمْ يُكْرَهْ.
•
الحكمة من النهي عن الالتفات:
قيل: لأنه ينافي الخشوع.
وقيل: لأن فيه انصراف عن الله. ولا مانع من القولين.
• قال القرطبي: سمي الالتفات اختلاساً تصويراً لقبح تلك الفعلة بالمختلس، لأن المصلي يقبل عليه الرب سبحانه وتعالى والشيطان مرتصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلك الحالة.
•
الالتفات في الصلاة ينقسم إلى قسمين:
الأول: الالتفات بالقلب عن الله إلى غير الله.
والثاني: الالتفات بالبصر.
وكلاهما منهي عنه.
• فالالتفات بالصدر، بأن يحول صدره عن جهة القبلة، فهذا الالتفات يبطل الصلاة، لأن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة.
وأما الالتفات بالرأس أو والرقبة أو بالعين فقط، مع بقاء البدن مستقبلاً القبلة، فهذا الالتفات مكروه، إلا إذا فعله المسلم لحاجته إلى ذلك. (وهو المقصود هنا).
فإذا فعله من غير حاجة فقد نقص ثواب صلاته، غير أنها صحيحة لا تبطل بذلك.
(ورفعُ بصرهِ إلى السماء).
أي: ومن مكروهات الصلاة رفع البصر إلى السماء.
أ- لحديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى اَلسَّمَاءِ فِي اَلصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعَ إِلَيْهِمْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ب- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِى الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ) رواه مسلم.
ج- وعن أَنَس بْن مَالِك. قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُم) رواه البخاري.
قوله (أَوْ لَا تَرْجِعَ إِلَيْهِمْ) أي أبصارهم، و (أو) للتخيير المقصود به التهديد، والمعنى: ليكونن منهم الانتهاء عن رفع الأبصار أو خطف الأبصار عند الرفع فلا تعود إليهم.
• جمهور العلماء على أن رفع البصر في الصلاة مكروه.
وذهب بعض العلماء إلى تحريم ذلك.
لأن الحديث فيه النهي، والنهي يقتضي التحريم، وأيضاً فيه التهديد على من فعل ذلك، وهذا قول ابن حزم.
• قوله (عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ) هل النهي خاص وقت الدعاء في الصلاة؟
لا، النهي عام سواء حال الدعاء أو غيره.
أ- لأن معظم الروايات جاءت مطلقة.
ب- ولأن المعنى الذي نهي المصلي من أجله أن يرفع بصره إلى السماء موجود حال الدعاء وغيره.
ج- وجاء عند ابن ماجه وابن حبان من حديث ابن عمر بغير تقييد ولفظه (لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء)، وأخرجه بغير تقييد أيضاً الطبراني من حديث أبي سعيد، وكعب بن مالك.
قال القرطبي: وهذا أيضًا وعيد بإعماء من رفع رأسه إلى السماء في الصلاة، ولا فرق بين أن يكون عند الدعاء أو عند غيره؛ لأن الوعيد إنما تعلق به من حيث إنه إذا رفع بصره إلى السماء أعرض عن القبلة، وخرج عن سَمْتِها وعن هيئة الصلاة، وقد نقل بعض العلماء الإجماع على النهي عن ذلك في الصلاة.
• الحكمة من النهي عن ذلك:
لأنه ينافي الخشوع والإقبال على الله.
ولأن فيه إعراضاً عن القبلة.
وخروجاً عن هيئة الصلاة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع حرمه النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد عليه.
• قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة (أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ):
فقيل: هو وعيد، وعلى هذا فالفعل المذكور حرام.
وقيل: أنه يخشى على الأبصار من الأنوار التي تنزل بها الملائكة على المصلين.
والمعنى الأول أقوى. [فتح الباري].
•
اختلف العلماء في حكم رفع البصر حال الدعاء خارج الصلاة على قولين:
القول الأول: أنه جائز.
قال ابن حجر: واختاره الأكثرون، لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة.
جاء في "الموسوعة الفقهية"(8/ 99): " نص الشافعية على أن الأولى في الدعاء خارج الصلاة رفع البصر إلى السماء، وقال الغزالي منهم: لا يرفع الداعي بصره إليها " انتهى.
وقال النووي رحمه الله في "شرح مسلم": " قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَاخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَة رَفْع الْبَصَر إِلَى السَّمَاء فِي الدُّعَاء فِي غَيْر الصَّلَاة فَكَرِهَهُ شُرَيْح وَآخَرُونَ، وَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ "
ودل على جواز رفع البصر إلى السماء في الدعاء خارج الصلاة: ما رواه مسلم في قصة شرب المقداد رضي الله عنه لشراب النبي صلى الله عليه وسلم دون علمه وفيه: (ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: الْآنَ يَدْعُو عَلَيَّ فَأَهْلِكُ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِي).
وروى أبو داود عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا عِنْدَ الرُّكْنِ قَالَ: فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَضَحِكَ، فَقَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ ثَلَاثًا، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ)، والحديث صححه النووي في المجموع.
القول الثاني: أنه مكروه.
ورجحه الشيخ ابن باز، وقال: الصواب أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، لوجوه:
أولها: أن هذا القول لا دليل عليه من الكتاب والسنة ولا يعرف عن سلف الأمة.
الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستقبل القبلة في دعائه، كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة.
الثالث: أن قبلة الشيء هي ما يقابله لا ما يرفع إليه بصره.
• رفع البصر إلى السماء في غير الدعاء جائز، لأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع بصره إلى السماء كما في حديث ابن عباس حين بات عند خالته ميمونة، فقد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم قام من الليل، فخرج فنظر إلى السماء.
(وتغميض عينيه).
أي: ومن مكروهات الصلاة تغميض العينين.
قال ابن القيم: ولم يكن من هديه تغميض عينيه في الصلاة.
قيل: لأنه من فعل اليهود. ولأنه مظنة النوم.
لكن إن كان هناك شيء في قبلته يشغله ويشوش عليه فهو أفضل.
قال ابن القيم: وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه، فهنالك لا يكره التغميض قطعاً، والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة.
فائدة:
قال الشيخ ابن عثيمين: يذكر كثير من الناس أنه إذا أغمض عينيه كان أخشع له، وهذا من الشيطان يخشِّعُه إذا أغمض عينيه من أجل أن يفعل هذا المكروه.
(وإقعاؤه).
أي: ومن مكروهات الصلاة الإقعاء.
لحديث أبي هريرة. (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقعاءٍ كإقعاء الكلب) رواه أحمد.
وهو أن يلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض.
وقد تقدمت مباحثه.
(وافتراش ذراعيه ساجداً).
أي: ومن مكروهات الصلاة افتراش الذراعين حال السجود، وقد تقدم شرح ذلك.
لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْب) متفق عليه.
وعن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي - في صفة الصلاة - (
…
فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ، وَلَا قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَة) رواه البخاري.
(اعتدلوا في السجود) أي: كونوا فيه على العدل والاستقامة، قال ابن دقيق العيد: لعل الاعتدال هنا محمول على أمر معنوي، وهو وضع هيئة السجود موضع الشرع.
(ولا يبسط ذراعيه
…
) أن: لا يجعل ذراعيه على الأرض كالبساط والفراش، والذراع من الإنسان من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى.
قال النووي: والحكمة في هذا أنه أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من هيئة الكسالى، فإن المتبسط كشبه الكلب يُشعر حاله بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها والإقبال عليها.
وقال ابن حجر: قال ابن دقيق العيد: قد ذكر الحكمَ هنا مقروناً بعلته، فإنّ التّشبيه بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصّلاة. انتهى.
والهيئة المنهيّ عنها أيضاً مشعرة بالتّهاون وقلة الاعتناء بالصّلاة. (الفتح).
وقد جاء في حديث البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك) رواه مسلم.
(وعبثُه).
أي: ومن مكروهات الصلاة عبثه.
ومعنى العبث: اللعب والحركة التي ليست لها فائدة، سواء كان العبث بيد أو رِجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك، لأن العبث ينافي الخشوع والإقبال على الله.
(وتخصرهُ).
أي: ومن مكروهات الصلاة تخصره في صلاته.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ اَلرَّجُلُ مُخْتَصِرًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
• وَمَعْنَاهُ: هو أن يضع الإنسان يده على خاصرته، وبذلك جزم أبو داود ونقله الترمذي عن بعض أهل العلم، وهذا هو المشهور في تفسيره.
والخاصرة: هي ما فوق رأس الورك، جمعها خواصر، والخضر الوسط، وهو المستدق فوق الوركين، والجمع خصور، والخصر والخاصرة مترادفان ويقال: الخصران والخاصرتان. (حاشية الروض).
وقيل: المراد بالاختصار قراءة آية أو آيتين من آخر السورة.
وقيل: أن يحذف الطمأنينة.
• جمهور العلماء على أن التخصر في الصلاة مكروه.
أ- للحديث السابق.
ب- ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاختصار راحة أهل النار) رواه ابن خزيمة.
ج- ولأن في الاختصار تشبهاً باليهود.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه حرام.
وذهب إليه ابن حزم.
لحديث أبي هريرة السابق، فهو صريح في النهي، ولا صارف له عن التحريم.
وهذا القول له قوة.
•
الحكمة من النهي:
قيل: لأن إبليس أهبط مختصراً.
وقيل: لأن اليهود تكثر من فعله، فنهى عنه كراهة التشبه بهم، وأخرجه البخاري عن عائشة من فعله.
وقيل: لأنه راحة أهل النار.
وقيل: لأنه صفة الزاجر حين ينشد.
وقيل: لأنه فعل المتكبرين.
وقيل: لأنه فعل أهل المصائب.
قال ابن حجر: وقول عائشة أعلى ما ورد، ولا منافاة بين الجميع.
(وتروحهُ).
أي: ومن مكروهات الصلاة أن يروّح على نفسه بالمروحة.
لأن ذلك من العبث والحركة بلا حاجة.
• لكن إن كان هناك حاجة كغم وحر شديد فلا بأس.
للقاعدة: أن المكروه يباح للحاجة.
فائدة:
قال الشيخ ابن عثيمين: وأما التروُّح الذي هو المراوحة بين القدمين بحيث يعتمد على رِجْل أحياناً، وعلى رِجْل أُخْرى أحياناً؛ فهذا لا بأس به، ولا سيما إذا طال وقوف الإنسان، ولكن بدون أن يقدِّمَ إحدى الرِّجلين على الثانية، بل تكون الرِّجْلان متساويتين، وبدون كثرة.
(وفرقعة أصابعهِ).
أي: ومن مكروهات الصلاة فرقعة الأصابع.
ومعناه: شد الأصابع أو لَيّ مفاصلها حتى تُصَوِّت.
وهذه مكروهة لأنها عبث لا يليق بالمصلي، وهو دليل على عدم الخشوع، إذ لو خشع القلب لخشعت الجوارح وسكنت.
وقد ورد عن شعبة مولى ابن عباس قال (صليت إلى جنب ابن عباس، ففقعت أصابعي، فلما قضيت الصلاة قال: لا أمَّ لك، تفقع أصابعك وأنت تصلي) رواه ابن أبي شيبة.
(وتشبيكُهَا).
أي: ومن مكروهات الصلاة تشبيك الأصابع.
وقد تقدم بحث هذه المسألة.
(وأن يكون حاقناً).
أي: ومن مكروهات الصلاة أن يدخل في الصلاة وهو حاقن.
والحاقن: هو المحتاج إلى البول.
أ-لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ) رواه مسلم.
وعند ابن حبان ولفظه (لا يقوم أحدكم إلى الصلاة وهو بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان الغائط والبول).
ب- وعن زيد بن أرقم. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء وأقيمت الصلاة فليبدأ بالخلاء) رواه أبو داود.
• فلو صلى الإنسان وهو يدافع الأخبثان فصلاته مكروهة عند أكثر العلماء.
وقال بعض العلماء ببطلانها.
قال ابن رشد: اختلفوا في صلاة الحاقن فأكثر العلماء يكرهون أن يصلي الرجل وهو حاقن.
لما روي من حديث زيد بن أرقم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة).
ولما روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان) يعني الغائط والبول.
ولما ورد من النهي عن ذلك عن عمر أيضاً.
وذهب قوم إلى أن صلاته فاسدة وأنه يعيد. (بداية المجتهد).
وقال النووي: وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ صِحَّةُ صَلَاتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عن أهل الظاهر بطلانها والله أعلم. (المجموع).
وقال البسام: وذهب جمهور العلماء إلى صحة الصلاة مع كراهتها على هذه الحال. (تيسير العلام).
وقالوا: إن نَفْى الصلاة في هذا الحديث، نَفيٌ لكمالها، لا لصحتها.
•
الحكمة من النهي عن ذلك:
لأن مدافعة الإنسان للحدث تمنع حضور قلبه في الصلاة وإقباله عليها.
وأيضاً تمنع خشوعه فيها، وتجعله مهتماً بإنهائها بأسرع وقت حتى يذهب لقضاء حاجته. فلا يكون مقبلاً على صلاته لأنه مشغول.
جاء في الروض المربع: والحاقن هو المحتبس بوله، وكذا كل ما يمنع كمالها كاحتباس غائط أو ريح وحر وبرد وجوع وعطش مفرط، لأنه يمنع الخشوع.
• إذا كان الرجل على وضوء وهو يدافع البول والريح، فإذا قضى حاجته لم يكن عنده ماء يتوضأ به، فهل تقول: أقضي حاجتك وتيمم للصلاة، أو تقول صل وأنت مدافع الأخبثين؟
الجواب نقول: أقضي حاجتك وتيمم ولا تصل وأنت تدافع الأخبثين، لأن الصلاة بالتيمم لا تكره بالإجماع، أما الصلاة مع مدافعة الأخبثين مكروهة ومن العلماء من حرمها.
• ما الحكم إذا كان الإنسان حاقن ويخشى إن قضى حاجته أن تفوته صلاة الجماعة، فهل يصلي حاقناً ليدرك الجماعة، أو يقضي حاجته ولو فاتته الجماعة؟
الجواب: يقضي حاجته ويتوضأ ولو فاتته الجماعة، لأن هذا عذر.
•
ما الحكم إذا ترتب على قضاء حاجته خروج الوقت؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يصلي ولو مع مدافعة الأخبثين.
وهذا قول الجمهور.
حفاظاً على الوقت.
القول الثاني: أنه يقضي حاجته ويصلي ولو خرج الوقت.
وهذا قول ابن حزم، وحكاه النووي عن بعض الشافعية، وهذا قول وجيه. والله أعلم.
• يلحق بمدافعة الأخبثين كل ما يشغل بال المصلي، من ريح في جوفه، أو حر أو برد شديدين، أو جوع أو عطش كذلك.
لأن المعنى المراد موجود في الجميع، وهو حضور القلب.
(أو بِحضرةِ طعامٍ يشتهيهِ).
أي: ومن مكروها الصلاة أن يصلي بحضرة طعام يشتهيه.
أ- لحديث عائشة السابق (لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ) رواه مسلم.
ب- وعنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَؤُوا بِالْعَشَاءِ) متفق عليه.
ج- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فَابْدَؤُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ) متفق عليه.
د- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَؤُوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ) متفق عليه.
فهذه الأحاديث دليل على أنه إذا حضرت الصلاة، وقدّم العشاء، فإنه يُبدأ بالعشاء.
فتكره الصلاة عند حضور الطعام لقوله (لا صلاة بحضرة طعام
…
)، وهذا مذهب الجمهور، أن الصلاة مكروهة، وأن المستحب أن يبدأ بالطعام.
قال ابن حجر: قوله (فابدءوا بالعشاء) حمل الجمهور هذا الأمر على النّدب، وأفرط ابن حزمٍ فقال: تبطل الصّلاة.
قال الشوكاني: وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر الأحاديث ابن حزم الظاهري، فقالوا: يجب تقديم الطعام، وجزم ببطلان الصلاة إذا قدمت.
ومذهب الجمهور هو الصحيح.
• الحكمة من ذلك:
أن المطلوب في الصلاة هو حضور القلب، والحاجة إلى الطعام تشغل القلب وتحول دون الخشوع في الصلاة.
قال النووي رحمه الله: في هذه الأحاديث -يعني أحاديث الباب- كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، لما فيه من ذهاب كمال الخشوع، ويلتحق به ما في معناه مما يشغل القلب.
وعليه: ينبغي إبعاد كل ما يشغل المصلي عن الخشوع.
وفي هذا دليل على أهمية الخشوع.
قال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).
وقال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. . . أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُون).
• قوله (وَحَضَرَ الْعَشَاءُ) المراد وضعه بين يدي الآكل، لا استواؤه، ولا غَرْفه في الأوعية.
لحديث ابن عمر (إذا وضع عشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدأوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتها حتى يفرغ منه، وإنه ليسمع قراءة الإِمام. (تحفة الأحوذي).
ويؤيد: أن المراد بحضوره: وضعه بين يدي الآكل:
حديث أنس رضي الله عنه، عند البخاري بلفظ (إذا قدم العشاء) ولمسلم (إذا قرب العشاء) وعلى هذا، فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء، لكنه لم يقرب للأكل، كما لو لم يقرب. (الفتح).
• قوله في حديث أنس (فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا اَلْمَغْرِبَ .... ) هل الحديث خاص بصلاة المغرب؟
قال ابن دقيق العيد قوله (وأقيمت الصلاة)
…
ويترجح حمله على المغرب.
لقوله في الرواية الأخرى (فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب) والحديث يفسر بعضه بعضًا.
وفي رواية صحيحة (إذا أقيمت الصلاة، وأحدكم صائم، فليبدأ بالعشاء قبل صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم). رواه ابن حبان
والصواب أنه ليس خاصاً بصلاة المغرب، بل عام لكل الصلوات.
أ- لحديث عائشة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا صلاة بحضرة طعام).
ب-ولحديثها الآخر (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَحَضَرَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ).
ج-وللعلة في ذلك وهي اشتغال القلب بالطعام، وذهاب كمال الخشوع في الصلاة عند حضوره، والصلوات متساوية في هذا.
قال الشوكاني مرجحاً العموم:
…
حديث (لا صلاة لحضرة طعام) عند مسلم وغيره، ولفظ (صلاة) نكرة في سياق النفي، ولا شك أنها من صيغ العموم، ولإطلاق الطعام، وعدم تقييده بالعشاء، فذكر المغرب من التنصيص على بعض أفراد العام، وليس بتخصيص، على أن العلة التي ذكرها شرّاح الحديث للأمر بتقديم العَشَاء، كالنووي وغيره لعدم الاختصاص ببعض الصلوات، فإنهم قالوا: إنها اشتغال القلب بالطعام، وذهاب كمال الخشوع عند حضوره، والصلوات متساوية الإقدام في هذا.
• ظاهر الأحاديث أنه يقدم الطعام مطلقاً على الصلاة، لكن جمهور العلماء اشترطوا شروطاً لذلك:
أ- أن يكون الطعام حاضراً.
ب - وأن تكون نفسه تتوق إليه.
ج-وأن يكون قادراً على تناوله حساً وشرعاً.
فان كان ممنوع منه شرعا: كالصائم إذا حضر طعام الفطور عند صلاة العصر والرجل جائع جداً، فنقول هنا: يصلي ولا يؤخر الصلاة.
وان كان ممنوع منه حساً: كما لو قدّم له طعام حار ولا يستطيع أن يتناوله، فهنا نقول يصلي ولا تكره صلاته لأن انتظاره لا فائدة فيه.
•
هل يأكل حتى يشبع أو يأكل ما يسد رمقه؟
قال بعض العلماء أنه يأكل مقدار ما يسد رمقه، والصحيح أن له أن يشبع ويدل لذلك:
رواية (
…
ولا تعجلوا عن عشائكم). وفي رواية (
…
ولا يعجل حتى يفرغ منه).
قال النووي: في هذا دليل على أنه يأكل حاجته من الأكل بكماله هذا هو الصواب، وأما ما تأوله بعض أصحابنا على أنه يأكل لقماً يكسر بها شدة الجوع فليس بصحيح وهذا الحديث صريح في إبطاله.
وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وأنه ليسمع قراءة الإمام.
• قوله (إِذَا قُدِّمَ اَلْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِهِ) واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله (فابدؤوا) على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل، وأما من شرع، ثم أقيمت الصلاة، فلا يتمادى، بل يقوم إلى الصلاة.
قال النووي رحمه الله: وصنيع ابن عمر يبطل ذلك، وهو الصواب. وتعقب بأن صنيع ابن عمر اختيار له، وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ما ذكروه؛ لأنه يكون قد أخذ من الطعام ما دفع شغل البال به، ويؤيد ذلك حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ذراعًا يحتزّ منها، فدعي إلى الصلاة، فقام، فطرح السكين، فصلى، ولم يتوضأ. (الفتح).
والراجح تعميم الحكم فيمن بدأ بالأكل، ومن لم يبدأ به.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا وضع عشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه).
وقوله (إذا كان أحدكم على الطعام، فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه، وإن أقيمت الصلاة) فهذا نص واضح فيمن بدأ، ومن لم يبدأ.
• قال ابن الجوزي: ظن قوم أن هذا من باب تقديم حق العبد على حق الله، وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الحق، ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة.
(ويكره أن يعتمد على يده أو غيرها وهو جالس)
أي: ويكره أن يعتمد على يده أو غيرها وهو جالس، ومعناه أن يضع يده على الأرض ويتكئ عليها.
أ- لقول ابن عمر (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده) رواه أحمد.
ب- ولأنه إذا جلس هذه الجلسة لم يكن جالساً حقيقة.
ج- ولأنه يفوت سنة وضع اليدين على الفخذين.
(وأن يستند إلى جدار ونحوه).
أي: ويكره للمصلي أن يستند إلى جدار ونحوه حال قيامه بلا حاجة.
لأنه يزيل مشقة القيام إلا من حاجة.
• فإن كان يسقط لو أزيل لم تصح صلاته.
مثال: إذا استند المصلي على جدار أو خشبة فالأصل أن هذا مكروه إلا لحاجة.
لكن متى يحرم؟
لو أزيلت هذه الخشبة لسقط، لأنه بمنزلة غير القائم.
جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية): يَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ مَنْعَهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. قَالُوا: مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى عَصًا أَوْ حَائِطٍ وَنَحْوِهِ بِحَيْثُ يَسْقُطُ لَوْ زَال الْعِمَادُ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، قَالُوا: لأنَ الْفَرِيضَةَ مِنْ أَرْكَانِهَا الْقِيَامُ، وَمَنِ اسْتَنَدَ عَلَى الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَوْ زَال مِنْ تَحْتِهِ سَقَطَ، لَا يُعْتَبَرُ قَائِمًا.
أَمَّا إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ لَوْ زَال مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهٌ، صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَة.
(ويكره تقليبه الحصا، ومسحه)
أي: ويكره مسح الحصا أثناء الصلاة.
لحديث أبي ذر مرفوعاً (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصا، فإن الرحمة تواجهه) رواه أحمد وأهل السنن بإسناد جيد، وفي
الصحيحين (إن كنت فاعلا فواحدة).
وفي السنن (واحدة أودع).
والمعنى لا تمسح وإن مسحت فلا تزد على واحدة.
واتفق أهل العلم على كراهته إذا لم يكن عذر للأخبار.
ولأنه يخالف التواضع والخشوع.
والتقييد بالحصا والتراب خرج مخرج الغالب، فلا يدل على نفي غيره من الرمل والقذر وغيره، والأولى مسحه قبل الدخول في الصلاة لئلا يشغل باله وهو في الصلاة.
(أو إلى نائم أو متحدث).
أي: وتكره الصلاة إلى نائم أو متحدث.
لحديث ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تصلوا خلف النائم والمتحدث). رواه أبو داود، وقال: طرقه كلها واهية.
وقال النووي: هو ضعيف باتفاق الحفاظ.
وإلى هذا وذهب مجاهد، وطاووس، ومالك.
إلى كراهة الصلاة إلى النائم، خشية مما يبدو منه مما يلهي عن صلاته.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يكره. وهو مذهب أكثر العلماء.
لحديث عَائِشَة زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا. قَالَتْ وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ) متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن الصلاة إلى النائم لا تكره، وقد وردت أحاديث ضعيفة في النهي عن ذلك، وهي محمولة - إن ثبتت - على ما إذا حصل شغل الفكر به.
قال الشيخ بن باز رحمه الله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث) ضعيف من جميع طرقه كما نبه على ذلك الخطابي وغيره، ومما يدل على ضعفه أيضاً ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وهي معترضة بين يديه) والله ولي التوفيق.
(لا جمعُ سُورٍ في فرض كنفلٍ).
أي: لا يكره جمع السور في الفرض، كما لا يُكره في النفل.
ومعناه: أن يقرأ سورتين فأكثر بعد الفاتحة.
لحديث حذيفة - وقد تقدم - (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في قيام الليل، البقرة ثم النساء ثم آل عمران).
وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل.
وقد تقدمت المسألة وأدلتها.
(وله ردُ المار بين يديه).
أي: وللمصلي أن يرد من أراد المرور بين يديه.
والمذهب يستحب له ذلك.
أ- لحديث عَبْد اللَّهِ بْنِ عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّى فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ) رواه مسلم.
ب- ولحديث أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ اَلنَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وبالاستحباب قال جماهير العلماء.
قال النووي: الأمر بالدفع أمر ندب متأكد، ولا أعلم أحداً من العلماء أوجبه، بل صرح أصحابنا وغيرهم بأنه مندوب غير واجب.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه واجب.
وهو قول أهل الظاهر ورجحه الشوكاني.
قال الحافظ ابن حجر بعد أن نقل كلام النووي السابق: وقد صرح بوجوبه أهل الظاهر.
قال ابن حزم: ودفع المار بين يدي المصلي وسترته ومقاتلته - إن أبى - حق واجب على المصلي لظاهر الحديث، فإنه أمر والأمر يقتضي الوجوب.
وقال الشوكاني: وظاهر الحديث مع من أوجب الدفع.
فائدة: رجح الشيخ ابن عثيمين: التفريق بين ما يقطع الصلاة وبين ما لا يقطعها.
والراجح القول بالوجوب.
•
الحكمة من دفع المار:
قال الصنعاني: وقد اختلف في الحكمة المقتضية للأمر بالدفع، فقيل: لدفع الإثم عن المار، وقيل: لدفع الخلل الواقع بالمرور في الصلاة، لأن عناية المصلي بصيانة صلاته أهم من دفعه الإثم عن غيره.
وقال الحافظ ابن حجر: وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود (أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته) وروى أبو نعيم عن عمر (لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس). فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي، ولا يختص بالمار، وهما وإن كانا موقوفين لفظاً فحكمهما حكم الرفع، لأن مثلهما لا يقال بالرأي.
•
كيفية دفع المار:
يشرع دفع المار بالأسهل فالأسهل، بالإشارة ولطيف المنع، أو بوضع اليد في نحر المار كما في رواية مسلم (فليدفعه في نحره).
• حكم إذا مرّ ولم يدفعه فهل يرده:
ذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا مرّ ولم يدفعه فلا ينبغي له أن يرده، لأن فيه إعادة للمرور.
• المراد بالمقاتلة في قوله (
…
فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ):
نقل القاضي عياض، والقرطبي، وابن عبد البر الإجماع على أن المقاتلة في قوله (فليقاتله) لا تكون بالسيف ولا بالسلاح ولا بالخطاب، ولا يبلغ به المصلي مبلغاً يفسد به صلاته لمخالفة ذلك لقاعدة الصلاة والاشتغال بها.
قال الْقَاضِي عِيَاض: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُ مُقَاتَلَته بِالسِّلَاحِ، وَلَا مَا يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكه، فَإِنْ دَفَعَهُ بِمَا يَحُوز فَهَلَكَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَوَد عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء. (شرح مسلم).
وقال العيني: اختلفوا في معنى (فليقاتله) والجمهور على أن معناه الدفع بالقهر لا جواز القتل، والمقصود المبالغة في كراهة المرور.
وقال البغوي: المراد من المقاتلة الدفع بالعنف لا القتل، فإنه يروى في حديث أبي سعيد (وليدرءه ما استطاع).
وقال الباجي: ويعدل عن ظاهر المقاتلة بالإجماع على أنه لا يجوز المقاتلة التي تفسد صلاته.
• وللمصلي رد المار ولو كان في مكة، وستأتي المسألة إن شاء الله في السترة.
• ذهب بعض العلماء إلى أن الدفع مقيد بوضع السترة، فإن فرط ولم يضع سترة فليس له دفع المار.
منهم الإمام الخطابي، والبغوي، والنووي، وابن القيم، والصنعاني، والشوكاني، بل حكى النووي الاتفاق على ذلك، فقال: واتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته، بل احتاط وصلى إلى سترة أو في مكان يأمن المرور بين يديه.
واستدلوا بمفهوم (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره).
وذهب بعض العلماء إلى أنه يشرع رد المار مطلقاً.
لعموم حديث ابن عمر (إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر
…
). فهذا الحديث مطلق ولم يقيد بوضع السترة، واختاره الشيخ ابن باز.
(والفتح على إمامهِ).
أي: وللمصلي تنبيه إمامه إذا أخطأ.
والفتح على الإمام ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: فتح واجب.
وهو ما يترتب عليه بطلان الصلاة، كأن يخطئ الإمام بالفاتحة، أو نقصان ركوع.
وأما دليلهم على وجوب الفتح على الإمام في الفاتحة فلأنها ركن في الصلاة لا تصح إلا بها، فكما أنه يجب على المأموم تنبيه إمامه إذا نسي سجدة أو ركنا فكذلك يجب الفتح إذا غلط أو نسي شيئا من الفاتحة وأما قراءة غير الفاتحة فسنة، فكذلك الفتح فيها سنة.
القسم الثاني: فتح مستحب.
وهو ما لا يترتب عليه بطلان الصلاة، كأن يخطئ في السورة التي بعد الفاتحة.
والأدلة على مشروعية الفتح على الإمام:
أ- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن (النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها ليس عليه فلما انصرف قال لأبي كعب: أصليت معنا قال: نعم، قال: فما منعك) رواه أبو داود.
وجه الاستدلال: أن قوله عليه الصلاة والسلام: " فما منعك " أي من الفتح على، وهذا يدل على مشروعية الفتح إذ لو لم يكن مشروعا ومستحبا لما سأل عن سبب تركه.
ب- وعن المسور بن يزيد المالكي قال (شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فترك شيئاً لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله تركت آية كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا أذكرتنيها) رواه أبو داود.
وجه الاستدلال: أن طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكيره الآية - وهو الفتح عليه - دليل على مشروعيته.
ج- قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما أن بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني) متفق عليه.
وجه الاستدلال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتذكيره حين النسيان، وهو عام في أفعال الصلاة وأقوالها، والفتح بالقراءة من التذكير في الأقوال.
د-أن الفتح على الإمام عليه العمل من غير نكير، فكان إجماعاً.
هـ- أن الفتح تنبيه للإمام بما هو مشروع في الصلاة - وهو القراءة - فأشبه التنبيه عليه بالتسبيح، والتسبيح مشروع فكذلك الفتح قياساً.
• وقت الفتح على الإمام.
اتفق الفقهاء - القائلون بمشروعية الفتح على الإمام أو جوازه - على أن وقت الفتح إذا وقف الإمام وسكت، أما إذا كرر الآية ورددها، أو انتقل إلى آية أخرى، أو شرع في الركوع فلا يفتح عليه، وأنه يسن للمأموم ألا يعجل بالفتح.
• فتح المصلي على غير إمامه.
لهذه المسألة صور:
الصورة الأولى: فتح المصلي على غير المصلي "على من ليس في صلاة" كما لو كان مصل وبجانبه شخص يقرأ، فهل يفتح المصلي عليه إذا أخطأ؟
الصورة الثانية: فتح المصلي على مصل آخر ليس معه في الصلاة. كما لو كانا يصليان النافلة مثلا بجانب بعض، وجهر أحدهما بالقراءة وسمعه الآخر وفتح عليه.
وقد اختلف الفقهاء في هاتين الصورتين على ثلاثة أقوال:
القول الأول: عدم جواز الفتح في هاتين الصورتين.
وهو مذهب الحنفية، والمشهور من مذهبي المالكية، والحنابلة.
القول الثاني: كراهة الفتح.
وهو قول للمالكية، والحنابلة.
القول الثالث: جواز الفتح.
وهو مذهب الشافعية، واختيار الشوكاني، والذي يفهم من كلام ابن القيم- رحمهما الله -.
اختار الشيخ ابن عثيمين عدم الجواز.
قال ابن قدامة: يكره أن يفتح من هو في الصلاة على من هو في صلاة أخرى، أو على من ليس في صلاة لأن ذلك يشغله عن صلاته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن في الصلاة لشغلاً.
• فتح غير المصلي على المصلي.
يحصل أن يكون شخص يصلي ويجهر بالقراءة، ويقع منه خطأ، ويكون بجانبه شخص غير مصل، فهل يجوز لهذا الشخص أن يفتح على المصلي؟ وهذا يحدث - أيضاً - حينما يدخل شخص المسجد، وقبل أن يدخل مع الجماعة يخطئ الإمام، فهل له أن يفتح عليه - وهو لم يصل بعد؟ خلاف بين الفقهاء على قولين:
القول الأول: جواز فتح غير المصلي على المصلي.
وهو مذهب الجمهور: المالكية، والشافعية، والحنابلة. ويدل لذلك:
أ- عن عبيدة بن ربيعة قال (أتيت المسجد فإذا رجل يصلي خلف المقام طيب الريح، حسن الثياب، وهو يقرأ، ورجل إلى جنبه يفتح عليه، فقلت من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان) وهذا واضح الدلالة، وهو قول صحابي.
2 -
ما ورد أن أنساً رضي الله عنه كان إذا قام يصلي قام خلفه غلام معه مصحف فإذا تعايا في شيء فتح عليه.
3 -
أن فيه مصلحة وهو أن الفتح إعانة على تكميل صلاة المصلي، في حين أنه لا يشغله.
(وله قتل حية وعقرب).
أي: وللمصلي قتل حية وعقرب إذا هاجمته.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اُقْتُلُوا اَلْأَسْوَدَيْنِ فِي اَلصَّلَاةِ: اَلْحَيَّةَ، وَالْعَقْرَبَ) رواه أبو داود.
فالحديث دليل على مشروعية قتل الحية والعقرب ولو في الصلاة.
وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء.
• هل يقاس عليهما كل مؤذ؟
نعم، يشرع قتل كل مؤذٍ من الهوام وغيرها في الصلاة أو خارجها.
• أن الأمر بقتل الحية والعقرب مطلق غير مقيد بضربة أو بضربتين.
وقد أخرج البيهقي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفاك للحية ضربة أخطأتها أم أصبتها) وهذا يوهم التقييد بالضربة.
قال البيهقي: وهذا إن صح فإنما أراد والله أعلم وقوع الكفاية بما في الإتيان بالمأمور، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، وأراد والله أعلم إذا امتنعت بنفسها ولم يرد به المنع من الزيادة على ضربة واحدة.
ثم استدل البيهقي على ذلك بحديث أبي هريرة عند مسلم (من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة أدنى من الأولى، ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة أدنى من الثانية).
(وتبطل الصلاة بحركة كثيرة متوالية من غير ضرورة ولو سهواً).
أي: أن الحركة التي تبطل الصلاة لها شروط:
أن تكون كثيرة.
أن تكون متوالية.
لغير ضرورة.
فالشرط الأول: أن تكون كثيرة.
جاء في الموسوعة الفقهية: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْعَمَل الْكَثِير.
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَمَل الْكَثِيرَ الَّذِي تَبْطُل الصَّلَاةُ بِهِ هُوَ مَا لَا يَشُكُّ النَّاظِرُ فِي فَاعِلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ
…
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ هُوَ الْعُرْفُ، فَمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ قَلِيلاً فَقَلِيلٌ، وَمَا يَعُدُّونَهُ كَثِيرًا فَكَثِيرٌ. انتهى.
وقال النووي: إن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إن كان كثيراً أبطلها بلا خلاف، وإن كان قليلاً لم يبطلها بلا خلاف، هذا هو الضابط ثم اختلفوا في ضبط القليل والكثير على أربعة أوجه إلى أن قال: والرابع وهو الصحيح المشهور وبه قطع المصنف والجمهور: أن الرجوع فيه إلى العادة فلا يضر ما يعده الناس قليلاً، كالإشارة برد السلام، وخلع النعل، ورفع العمامة ووضعها، ولبس خف ونزعه، وحمل صغير ووضعه ودفع مارٍ، ودلك البصاق في ثوبه وأشباه هذا، وأما ما عده الناس كثيراً كخطوات كثيرة متوالية وفعلات متتابعة فتبطل الصلاة.
• فإن كانت الحركة قليلة لا تبطل الصلاة.
ومن الأدلة على أن العمل القليل والحركات القليلة في الصلاة لا تبطلها، وهكذا العمل والحركات المتفرقة غير المتوالية:
أ- ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه فتح الباب يوما لعائشة وهو يصلي.
ب- وثبت عنه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه صلى ذات يوم بالناس، وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
ج- وفي صلاة الكسوف تقدّم ورجع وتأخر.
د- وحين صُنع له المنبر، صار يصلي عليه، فيصعد عند القيام والركوع، وينزل للأرض عند السجود.
الشرط الثاني: أن تكون متوالية.
فإن فرَّق لم تبطل الصَّلاة، فلو تحرَّك ثلاث مرَّات في الركعة الأولى، وثلاثاً في الثانية، وثلاثاً في الثالثة، وثلاثاً في الرابعة، لو جمعت لكانت كثيرة، ولما تفرَّقت كانت يسيرة باعتبار كلِّ رَكعة وحدها، فهذا لا يبطل الصلاة أيضاً.
الشرط الثالث: أن تكون لغير ضرورة.
وأما الحركة الكثيرة للضرورة: فمثالها الصلاة في حال القتال؛ قال الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ* فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) فإن من يصلي وهو يمشي لا شك أن عمله كثير ولكنه لما كان للضرورة كان مباحاً لا يبطل الصلاة.
وقد قسم بعض العلماء الحركة في الصلاة إلى أقسام:
أولاً: الحركة الواجبة.
هي التي يتوقف عليها صحة الصلاة، هذا هو الضابط لها والصور كثيرة:
منها: لو أن رجلاً ابتدأ الصلاة إلى غير القبلة بعد أن اجتهد، ثم جاءه شخص وقال له القبلة على يمينك، فهنا الحركة واجبة، فيجب
أن يتحرك إلى جهة اليمين.
ولو ذكر أن في غترته نجاسة وهو يصلي وجب عليه خلعها، لإزالة النجاسة.
ثانياً: الحركة المستحبة.
هي التي يتوقف عليها كمال الصلاة، ولها صور عديدة:
منها: لو تبين له أنه متقدم على جيرانه في الصف، فتأخره سنة.
ومنها: ولو تقلص الصف حتى صار بينه وبين جاره فرجة، فالحركة هنا سنة.
ثالثاً: الحركة المباحة.
هي الحركة اليسيرة للحاجة، أو الكثيرة للضرورة.
مثال: رجل يصلي في الظل فأحس ببرودة فتقدم، أو تأخر، أو تيامن، أو تياسر من أجل الشمس، فهذه مباحة.
رابعاً: الحركة المكروهة.
هي اليسيرة لغير حاجة، ولا يتوقف عليها كمال الصلاة، كما يوجد في كثير من الناس الآن كالنظر إلى الساعة، وأخذ القلم.
خامساً: الحركة المحرمة.
هي الكثيرة المتوالية لغير ضرورة.
(وإذا نابَه شيءٌ سبّح رجل، وصفقت امرأة).
أي: وإذا ناب المصلي شيء، أي: عرض له، كما لو استأذن عليه أحد، أو أخطأ إمامه فقام إلى خامسة في الرباعية، فإنه يسبح الرجل، وتصفق المرأة.
أ- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
زَادَ مُسْلِمٌ (فِي اَلصَّلَاةِ).
ب- وعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ أَتُصَلِّى بِالنَّاسِ فَأُقِيمُ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ - فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ لاِبْنِ أَبِى قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّىَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ: مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاء) رواه مسلم.
ج- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا استؤذن على الرجل وهو يصلي فإذنه التسبيح، وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلي فإذنها التصفيق) رواه البيهقي.
ففي هذه الأحاديث: استحباب التسبيح في حق الرجال إذا نابهم شيء في صلاتهم، وأن المرأة إذا نابها شيء وهي تصلي فإنها تصفق.
مثال: كسهو الإمام، أو يريد أن يأذن لأحد بالدخول، أو يريد أن ينبه أنه يصلي.
• وإلى هذا الحكم ذهب جماهير العلماء. قالوا: التسبيح للرجال والتصفيق للنساء.
وقال مالك: يسبحان جميعاً (يسبح الرجال، وتسبح المرأة).
وتأول الحديث (التصفيق للنساء) أي من شأن النساء خارج الصلاة، فهو مذموم فلا ينبغي للرجل ولا للمرأة أن تفعله لا في الصلاة ولا في خارجها، وهذا تأويل بعيد وضعيف.
•
الحكمة من هذا التفريق:
قيل: لأن صوت المرأة عورة.
وقيل: خشية الافتتان، ورجح هذا ابن عبد البر.
قال ابن عبد البر: قال بعض أهل العلم: إنما كره التسبيح للنساء وأبيح لهن التصفيق من أجل أن صوت المرأة رخيم في أكثر النساء وربما شغلت بصوتها الرجال المصلين معها.
وقال ابن حجر: وكان منع النساء من التسبيح لأنها مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقاً لما يخشى من الافتتان ومنع الرجال من التصفيق لأنه من شأن النساء.
• هل هذا الحكم (التصفيق للنساء) عام حتى لو مع مجموعة نساء، أو مع رجال من محارمها؟
قال بعض العلماء بهذا، وقالوا: إن المرأة تصفق مطلقاً حتى لو كانت مع محرمها.
وقال بعضهم: إنها تسبح، لأن قوله صلى الله عليه وسلم (فليسبح الرجال ولتصفق النساء) قد يفهم منه أن المراد مع اجتماع الرجال والنساء.
قال الزركشي: وقد أطلقوا التصفيق للمرأة، ولا شك أن موضعه إذا كانت بحضرة رجال أجانب، فلو كانت بحضرة النساء أو الرجال المحارم فإنها تسبح كالجهر بالقراءة بحضرتهم. (مغني المحتاج (1/ 418).
• ومن طرق التنبيه الأخرى: التنحنح.
عَنْ عَلَيٍّ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ لِي مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَدْخَلَانِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي تَنَحْنَحَ لِي) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ
(ويَبصقُ في الصلاة عن يسارهِ، وفي المسجد في ثوبهِ).
أي: أن المصلي إذا احتاج للبصاق فإنه يبصق عن يساره، ولا يبصق عن يمينه ولا أمام وجهه.
أ- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي اَلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَفِي رِوَايَةٍ (أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ).
ب- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقاً فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّى، فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى) متفق عليه.
ج- وعن أَبَي هُرَيْرَة عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ، فَإِنَّمَا يُنَاجِى اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكاً، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَيَدْفِنُهَا) متفق عليه.
فهذه الأحاديث تدل على النهي أن يبزق المصلي أمامه أو عن يمينه.
•
والحكمة من النهي عن ذلك؟
أما أمام المصلي:
لقوله (فإن ربه بينه وبين القبلة). وفي رواية (فإن الله قِبل وجه المصلي).
وأما عن يمينه:
جاء عند البخاري من حديث أبي هريرة (ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً).
•
ما حكم أن يبزق المصلي أمامه أو عن يمينه؟
ظاهر الحديث التحريم.
لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لما رأى البصاق في جهة القبلة.
• قوله صلى الله عليه وسلم (ولكن عن شماله) فإذا قيل: كيف يبصق عن شماله وفيه ملكاً أيضاً؟
الجواب:
أولاً: أن المصلي لا يبصق في الصلاة إلا في حال الحاجة، والحاجة تبيح المكروهات.
ثانياً: جهة اليمين أشرف من جهة الشمال.
ثالثاً: الملك المقيم في جهة اليمين أشرف من الملك المقيم في جهة الشمال.
• قوله صلى الله عليه وسلم (ولكن عن يساره
…
) متى يكون هذا؟
هذا يكون إذا كان المصلي يصلي في صحراء أو في بيته أو أرض رملية.
وأما في المسجد فإنه يبصق في ثوبه أو منديله.
وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم (عن يساره) محمول على ما إذا كانت جهة يساره خالية من المصلين، لما ورد في حديث طارق بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قام أحدكم إلى الصلاة، أو إذا صلى أحدكم فلا يبزقن أمامه، ولا عن يمينه، ولكن تلقاء يساره إن كان فارغاً أو تحت قدمه).
إذاً قوله صلى الله عليه وسلم (ولكن عن يساره) هذا مشروط بشرطين:
الأول: ألا يكون عن شماله مصلٍ آخر في صلاة الجماعة، سواء كان في المسجد أو خارج المسجد.
الثاني: ألا يكون في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن البصاق في المسجد خطيئة.
• اختلف العلماء في حكم البصاق اتجاه القبلة أو عن يمينه: على قولين:
القول الأول: التحريم مطلقاً سواء في المسجد أو خارج المسجد، أو كان يصلي أو لا يصلي.
ورجح هذا القول النووي، والصنعاني، والألباني.
أن أغلب الأحاديث التي وردت في النهي عن البصاق في القبلة أو عن يمينه مطلقة ليس بها تقييد ذلك البصاق بالصلاة.
وذكر الشيخ الألباني واحتج بحديث (من تفل اتجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلته بين عينيه) رواه ابن خزيمة.
القول الثاني: أن ذلك محرم في الصلاة فقط.
وهذا قول الأكثر لورود التقييد.
(إذا كان أحدكم يصلي.
. .).
وظاهر صنيع البخاري أنه يرجح هذا المذهب، ولذلك بوب في صحيحه:(باب: لا يبصق عن يمينه في الصلاة).
ومما يؤيد أن ذلك خاص بالصلاة قوله: (
…
ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكاً) يعني أثناء الصلاة.
وهذا القول هو الراجح.
• اختلف العلماء في حكم النخامة في المسجد على أقوال:
القول الأول: المنع مطلقاً.
وهذا الذي رجحه النووي، والصنعاني، والألباني.
لحديث. أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (البصاق في المسجد خطيئة
…
) متفق عليه.
قالوا: وكونه عد ذلك خطيئة دليل على أنه محرم.
القول الثاني: يجوز أن يتفل إن كان في نيته أن يدفن هذه النخامة.
وهذا الذي قال به القاضي عياض والأكثرون.
أ-لأحاديث الباب (
…
وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ).
قالوا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمصلي أن يتفل عن يساره أو تحت قدمه، وهذا مطلق في المسجد وغيره.
ب- ولحديث سعد بن أبي وقاص. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من تنخم فليغيب نخامته لا تصيب مسلماً في بدنه أو ثوبه فتؤذيه) رواه أحمد وحسن إسناده ابن حجر في الفتح.
القول الثالث: التوسط، قالوا: إن كان محتاجاً إلى أن يتنخم في المسجد ثم يدفنها فلا شيء عليه في ذلك، وإن لم يكن محتاجاً فإنه يكون ممنوعاً من ذلك.
وهذا القول هو الراجح.
قال ابن حجر: وهذا تفصيل حسن.
• الحديث دليل على أن البلغم والنخامة طاهر.
لحديث (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: (مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ؟ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا) وَوَصَفَ الْقَاسِمُ - أحد رواة الحديث - فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ.
قال ابن قدامة رحمه الله: ولو كانت نجسة لما أمر بمسحها في ثوبه وهو في الصلاة ولا تحت قدمه، ولا فرق بين ما يخرج من الرأس والبلغم الخارج من الصدر.
وقال أيضاً: البلغم أحَدُ نَوْعَيْ النُّخَامَةِ، أَشْبَهَ الْآخَرَ، ولَوْ كَانَ نَجِسًا نَجُسَ بِهِ الْفَمُ
…
وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ - شَيْءٌ مِنْ ذَلِك.
(وتسن صلاته إلى سُترة).
أي: ويسن للمصلي أن يصلي إلى سترة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لازم تخاذ السترة حضراً وسفراً، في العمران والفضاء.
وقد ثبتت السترة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله.
أولاً: أمره صلى الله عليه وسلم الاستتار بالسهم.
كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ وَلَوْ بِسَهْمٍ).
ثانياً: استتاره صلى الله عليه وسلم بالحربة.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّى إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأُمَرَاءُ) متفق عليه.
ثالثاً: استتاره صلى الله عليه وسلم بالعَنَزَة.
عن أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلَالاً أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَاكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئاً تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بِلَالاً أَخَذَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا، صَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْعَنَزَة) متفق عليه.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى، وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، تُحْمَلُ وَتُنْصَبُ بِالْمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّى إِلَيْهَا) رواه البخاري.
وعن أنس قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليها بالمصلى يعني العنَزَة) رواه ابن خزيمة.
رابعاً: استتاره صلى الله عليه وسلم بالراحلة.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّى إِلَيْهَا) متفق عليه.
خامساً: استتاره صلى الله عليه وسلم بالمقام.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِى أَوْفَى قَالَ (اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ) رواه البخاري.
حديث جابر (وصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت) رواه مسلم.
سادساً: استتاره صلى الله عليه وسلم بالشجرة.
عن علي قال (لقد رأيتنا وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة يدعو حتى أصبح) رواه النسائي.
سابعاً: استتاره صلى الله عليه وسلم بالسرير.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ فَيُصَلِّى، فَأَكْرَهُ أَنْ أُسَنِّحَهُ فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَي السَّرِيرِ حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي) متفق عليه.
ثامناً: استتاره صلى الله عليه وسلم بالجدار.
عَنْ سَهْلٍ قَالَ (كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاة) متفق عليه.
تاسعاً: استتاره صلى الله عليه وسلم بالاسطوانة.
عن يَزِيدُ بْنُ أَبِى عُبَيْدٍ قَالَ (كُنْتُ آتِى مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ فَيُصَلِّى عِنْدَ الأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ. فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الأُسْطُوَانَةِ. قَالَ فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا) متفق عليه.
قال ابن قدامة: السنة للمصلي أن يصلي إلى سترة
…
ولا نعلم في استحباب ذلك خلافاً.
وقال النووي: السنة للمصلي أن يكون بين يديه سترة من جدار أو سارية أو غيرهما ويدنو منها.
وقد ذهب بعض العلماء: إلى وجوب السترة.
وهذا مذهب ابن خزيمة، ورجحه ابن حزم، والشوكاني.
أ- لحديث سَبْرَة بْنِ مَعْبَدٍ اَلْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ وَلَوْ بِسَهْمٍ) أَخْرَجَهُ اَلْحَاكِم.
ب- ولحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم فليصلّ إلى سترة وليدن منها) رواه أبو داود.
قال الشوكاني: فيه أن اتخاذ السترة واجب.
ورجحه الألباني، وقال: القول بالاستحباب ينافي الأمر بالسترة في عدة أحاديث.
ج- وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم فليستتر) رواه ابن خزيمة.
وذهب جماهير العلماء: إلى عدم وجوبها.
أ- لحديث ابْنِ عَبَّاس. قَال (أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى بِالنَّاسِ بِمِنًى إلى غَيرِ جِدار، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَىَّ أَحَد) متفق عليه.
وجه الدلالة: قوله (إلى غير جدار).
قال الحافظ ابن حجر: أي إلى غير سترة، قاله الشافعي، وسياق الكلام يدل على ذلك، لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، ويؤيده رواية البزار بلفظ (والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ليس لشيء يستره).
ب- ولحديث أبي سعيد (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أن يجتاز بين يديه
…
).
وجه الدلالة: قوله: (إذا صلى أحدكم
…
) يدل على أن المصلي قد يصلي إلى شيء يستره وقد لا يصلي.
وهذا القول هو الراجح.
•
الحكمة من السترة:
قال النووي: قال العلماء: الحكمة من السترة كف البصر عما وراءه ومنع من يجتاز بقربه.
وقال الصنعاني: وفائدة اتخاذها أنه مع اتخاذها لا يقطع الصلاة شيء، ومع عدم اتخاذها يقطعها ما يأتي
…
).
وقال بعض العلماء: الحكمة من السترة قطع نظر المصلي عما أمامه، فيجعل بصره محصوراً في موضع سجوده، فلا يذهب بصره يمنة ويسرة.
• قوله (وتسن صلاته إلى سُترة) سواء صلى في العمران أو في الفضاء، خشي ماراً أو لم يخشى.
قال الشوكاني: اعلم أن ظاهر أحاديث الباب عدم الفرق بين الصحاري والعمران، وهو الذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من اتخاذه السترة سواء في
الفضاء أو في غيره.
وقال السفاريني: اعلم أنه يستحب صلاة المصلي إلى سترة اتفاقاً ولو لم يخشى ماراً خلافاً لمالك.
• قوله (وتسن صلاته إلى سترة .. ) ما حكم المسبوق إذا قام يقضي ما فاته؟
قال الشيخ ابن عثيمين: إذا سلم الإمام وقام المسبوق لقضاء ما فاته فإنه يكون في هذا القضاء منفرداً حقيقة، وعليه أن يمنع من يمر بين يديه، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وترك بعض الناس منع المار قد يكون عن جهل منهم بهذا، أو قد يكون عن تأويل، حيث إنهم ظنوا أنهم لما أدركوا الجماعة صاروا بعد انفرادهم عن الإمام بحكم الذين خلف الإمام، لكن لابد من منع المسبوق من يمرون بين يديه إذا قام لقضاء ما فاته.
…
(فتاوى علماء البلد الحرام).
• يستحب الدنو من السترة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم إلى سترة، فليدن منها فإن الشيطان يمرّ بينه وبينها) رواه ابن حبان.
قال البغوي: والعمل على هذا عند أهل العلم استحبوا الدنو من السترة.
وقد ورد الحكمة من ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته) رواه أبو داود.
قال الحافظ: وقد ورد الأمر بالدنو منها وفيه بيان الحكمة في ذلك، وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعاً (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته).
وقال الشوكاني: والحكمة في الأمر بالدنو أن لا يقطع الشيطان عليه صلاته.
• أما المأموم فلا يسن له اتخاذ سترة. لأن الصحابة كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ أحد منهم شيء.
فسترة الإمام سترة لمن خلفه.
وقد بوب البخاري في صحيحه: باب سترة الإمام سترة من خلفه، ثم أورد ثلاث أحاديث وهي:
أ- حديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ (أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) متفق عليه
ب- عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأُمَرَاءُ) متفق عليه.
ج- وعن أَبِي جُحَيْفَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ - وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ - الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ) متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: أورد فيه (أي البخاري) ثلاثة أحاديث، الثاني والثالث منها مطابقان للترجمة لكونه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه أن يتخذوا سترة غير سترته، وأما الأول وهو حديث بن عباس ففي الاستدلال به نظر، لأنه ليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى سترة، وقد بوب عليه البيهقي: باب من صلى إلى غير سترة، وقد تقدم في كتاب العلم في الكلام على هذا الحديث في باب متى يصح سماع الصغير قول الشافعي أن المراد بقول بن عباس إلى غير جدار أي: إلى غير سترة، وذكرنا تأييد ذلك من رواية البزار.
وقال ابن عبد البر: حديث بن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد (إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه) فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد، فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه لحديث بان عباس هذا قال وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء. (نقله عنه في الفتح).
قال ابن قدامة: فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه، نص عليه أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم، فلا يسن للمأموم أن يتخذ سترة، لأن الصحابة كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ أحد منهم شيء.
وجاء في "الموسوعة الفقهية"(24/ 177): " يسن للمصلي إذا كان فذاً (منفرداً)، أو إماماً أن يتخذ أمامه سترة تمنع المرور بين يديه، وتمكنه من الخشوع في أفعال الصلاة؛ وذلك لما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا صلى أحدكم فليصل إلى
سترة، وليدن منها، ولا يدع أحدا يمر بين يديه)، ولقوله صلى الله عليه وسلم (ليستتر أحدكم في صلاته ولو بسهم)
أما المأموم فلا يستحب له اتخاذ السترة اتفاقا; لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه، أو لأن الإمام سترة له " انتهى.
(قائمةً كمُؤخِرة الرحْل).
أي: أن قدر السترة يكون كمؤخرة الرحل.
لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (سُئِلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ اَلْمُصَلِّي. فَقَالَ: مِثْلُ مُؤْخِرَةِ اَلرَّحْلِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
(مِثْلُ مُؤْخِرَةِ اَلرَّحْلِ) هي عمود الخشب الذي يكون خلف الراكب يستند إليه.
فهذا الحديث دليل على أن الأفضل أن يكون مقدار السترة طولاً مِثْلُ مُؤْخِرَةِ اَلرَّحْلِ.
قال النووي رحمه الله: وَفِي الْحَدِيث النَّدْب إِلَى السُّتْرَة بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي، وَبَيَان أَنَّ أَقَلّ السُّتْرَة مُؤْخِرَة الرَّحْل، وَهِيَ قَدْر عَظْم الذِّرَاع، هُوَ نَحْو ثُلُثَيْ ذِرَاع، وَيَحْصُل بِأَيِّ شَيْء أَقَامَهُ بَيْن يَدَيْهِ هَكَذَا. (شرح مسلم).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: الأفضل أن تكون السترة كمؤخرة الرحل، يعني أن تكون شيئاً قائماً بنحو ثلثي ذراع؛ أي نصف متر. (نور على الدرب).
• قوله صلى الله عليه وسلم (مثل مؤخرة الرحل) هذا على سبيل التقريب والأفضلية، فيجوز أطول منها وأقصر.
(فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يستتر بالجدار) رواه مسلم.
(وثبت أنه صلى الله عليه وسلم استتر بالمقام).
وعن ابن أبي أوفى (أنه طاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين) رواه مسلم.
(وثبت أنه صلى الله عليه وسلم استتر بالعنزة) رواه البخاري.
وكل هذه الأشياء أطول بكثير من مؤخرة الرحل.
• هل قوله صلى الله عليه وسلم (مثل مؤخرة الرحل) هذا على سبيل الأفضلية، فيجوز أقل من ذلك.
قال ابن قدامة: فأما قدرها في الغلظ - الدقة - فلا حد له نعلمه، فيجوز أن تكون دقيقة كالسهم والحربة وغليظة كالحائط، ويدل لذلك:
o أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى حربة.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّى إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأُمَرَاءُ) متفق عليه.
o وثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى عَنَزَة.
عن أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلَالاً أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَاكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئاً تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بِلَالاً أَخَذَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا، صَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ مِنْ بَيْنِ يَدَىِ الْعَنَزَة) متفق عليه.
o أمر بالصلاة إلى السهم.
كما في حديث سبرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ وَلَوْ بِسَهْمٍ).
وكل ذلك أدق بكثير من مؤخرة الرحل، ولم يرد في الشرع ما يمنع أدق من هذه المذكورات.
• لكن السترة العريضة أولى، وأبعد عن التشويش، وأجمع لقلب المصلي، إذا تيسرت له.
قال الإمام أحمد رحمه الله: وما كان أعرض فهو أعجب إلي.
قال ابن قدامة: وذلك لأن قوله (ولو بسهم) يدل على أن غيره أولى منه.
(فإنْ لم يجد شاخصاً فإلى خطٍ).
أي: إن لم يجد المصلي شاخصاً يصلي إليه، فليصلِ إلى خط.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَخُطَّ خَطًّا، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
وهذا الحديث وقع خلاف في صحته وضعفه على قولين:
فبعض العلماء ضعفه ومنهم:
سفيان بن عيينة فقد، قال: لم نجد شيئاً نشد به هذا الحديث.
وابن الصلاح، والنووي، وابن عبد الهادي، والعراقي، وابن حزم، والبغوي، والدار قطني، والطحاوي، وأحمد شاكر، والألباني.
وسبب ضعفه أمور:
أن إسماعيل قد اضطرب في اسم شيخه أبي عمرو بن محمد بن حريث وفي كنيته.
جهالة حال أبي عمرو بن محمد وجهالة جده حريث.
وذهب بعض العلماء إلى تصحيحه منهم: ابن خزيمة، وابن حبان، ونص ابن عبد البر على أن الإمام أحمد وعلي بن المديني صححاه، والحاكم، وابن المنذر، والبيهقي، والسخاوي، والحافظ ابن حجر كما في البلوغ.
والأقرب أنه لا يصح.
•
ولذلك اختلف العلماء: هل يخط المصلي خطاً إذا لم يجد سترة على قولين:
القول الأول: أنه لا يخط خطاً.
لأن الحديث ضعيف.
القول الثاني: أنه يخط.
ورجحه النووي، وقال: المختار استحباب الخط، لأنه وإن لم يثبت الحديث ففيه تحصيل حريم المصلي.
•
صفة الخط:
فقيل: يجعل مثل الهلال. وقيل: يمد طولاً إلى جهة القبلة. وقيل: يمده يميناً وشمالاً.
والأمر في هذا واسع.
فائدة: قال الشيخ ابن عثيمين: أن الخط يكفي عن العصا، وهذا إذا كانت الأرض يؤثر فيها الخط كالرملية والحصائية.
(ويحرمُ المرورُ بين يدي المصلي).
أي: يحرم أن يمر الإنسان من أمام المصلي.
لحديث أَبِي جُهَيْمِ بْنِ اَلْحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَوْ يَعْلَمُ اَلْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ اَلْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(ماذا عليه) أي من الإثم والعقوبة. (لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ) يعني أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر.
قال النووي: وَمَعْنَى الْحَدِيث النَّهْي الْأَكِيد وَالْوَعِيد الشَّدِيد فِي ذَلِكَ.
وقال الشوكاني: الحديث يدل على أن المرور بين يدي المصلي من الكبائر الموجبة للنار، وظاهره عدم الفرق بين صلاة الفريضة والنافلة.
• متى يحرم ذلك؟
إذا مرّ بين يدي المصلي، فالتحريم مقيد فيما إذا مر بين يديه (يعني في المنطقة التي بين سجوده ووقوفه)، وهنا لا فرق بين أن يكون له سترة أو لا يكون له سترة.
•
ما الحكم إن مرّ في المنطقة التي من بعد موضع سجوده؟
إن مرّ في المنطقة التي من بعد موضع سجوده، فهذه لها حالان:
الأولى: أن يكون المصلي يتخذ سترة، فهنا يجوز المرور من خلف السترة.
أ- لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن فليخط خطا ثم لا يضره من مر بين يديه) رواه أحمد.
ب- وعن طلحة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك) رواه مسلم.
الثانية: أن لا يتخذ سترة، فهنا ليس له إلا موضع سجوده، وهذا الأقرب من أقوال أهل العلم، ويجوز لمن أراد أن يجتاز أن يمر فيما يلي موضع سجوده، وذلك لأن النهي الوارد في الحديث إنما هو في المرور بين يدي المصلي، وما يلي موضع سجوده ليس بين يدي المصلي.
• قوله صلى الله عليه وسلم (بَيْنَ يَدَيِ اَلْمُصَلِّي
…
) اختلف العلماء في مقدر ذلك:
فقيل: المراد من قدميه إلى منتهى موضع سجوده.
وقيل: إلى ثلاثة أذرع.
وقيل: إذا بعد عرفاً، بحيث لا يمكن دفعه إلا بالتقدم.
والأقرب الأول، لأن هذا هو الذي يحتاجه المصلي.
وهذا إذا لم يتخذ المصلي سترة، فإن اتخذ سترة فإنه يمر وراءها ولا حرج.
• قوله (لَوْ يَعْلَمُ اَلْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ اَلْمُصَلِّي
…
) ظاهره يشمل بين يدي الإمام والمنفرد والمأموم، لكن دلت السنة على أن المأموم مستثنى.
أ-لحديث ابْنِ عَبَّاس. قَال (أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى بِالنَّاسِ بِمِنًى فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَىَّ أَحَد) متفق عليه.
ب-لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
• قوله (لو يعلم المار
…
) نستفيد: أن غير المار (الجالس أو الواقف) لا يضر.
ويدل لذلك حديث عائشة قالت (كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم
…
).
• يجوز أن يجعل إنساناً سترة له لحديث عائشة السابق.
قال ابن قدامة: فَإِنْ اسْتَتَرَ بِإِنْسَانٍ فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ مِنْ السُّتْرَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا يُصَلِّي، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَوَلَّاهُ ظَهْرَهُ، وَقَالَ بِثَوْبِهِ هَكَذَا، وَبَسَطَ يَدَيْهِ هَكَذَا.
وَقَالَ: صَلِّ، وَلَا تُعَجِّلْ.
وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَلِّنِي ظَهْرَكَ.
رَوَاهُمَا النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ.
• وأما إذا كان مستقبل وجهه فيكره له الصلاة إليه، ويستحب له اتخاذ سترة أخرى بعيدة عنه.
قال ابن قدامة: يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلًا وَجْهَ إنْسَانٍ; لِأَنَّ عُمَرَ أَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي حِذَاءَ وَسَطِ السَّرِيرِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلَّ انْسِلَالًا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ شِبْهُ السُّجُودِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ. (المغني).
وفي لفظ عند أحمد (رُبَّمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَأَنَا عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَتَكُونُ لِي الْحَاجَةُ فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ السَّرِيرِ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ بِوَجْهِي).
قال ابن رجب: وهذا يدل على أنها كانت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يستقبله أحد بوجهه وهو يصلي، وكان ذلك ليلاً، ولم يكن في البيوت مصابيح، كما صرحت به عائشة في حديثها الآخر، فدل على كراهة استقبال المصلي وجه إنسان.
وروى ابن أبي شيبة بسند حسن عَنْ نَافِعٍ قَالَ (كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلاً إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، قَالَ لِي: وَلِّنِي ظَهْرَك).
وقال ابن بطال رحمه الله: ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرجل يستر الرجل إذا صلى، إلا أن أكثرهم كره أن يستقبله بوجهه.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّة وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ الاِسْتِتَارِ بِالآْدَمِيِّ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيل.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ إِلَى وَجْهِ الإْنْسَانِ فَتُكْرَهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ
•
اختلف العلماء: هل يحرم المرور بين يدي المصلي في الحرم أم لا على قولين:
القول الأول: أنه حرام حتى في المسجد الحرام.
وهذا مذهب الشافعية.
أ- لعموم حديث أبي جهيم، وليس هناك دليل يخص مكة أو المسجد الحرام.
وقد ثبت في حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى ركعتي الطواف جعل المقام بينه وبين البيت).
ومن تراجم البخاري في صحيحه: باب السترة بمكة وغيرها، ثم أورد تحتها حديث أبي جحيفة قال (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً وَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ).
قال ابن حجر:
…
فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث وأن لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة وقد قدمنا وجه الدلالة منه وهذا هو المعروف عند الشافعية وأن لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة.
القول الثاني: أن الحرم مستثنى.
أ-لحديث المطلب بن أبي وداعة بلفظ (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم - أي الناس - سترة) رواه أبو داود وهو ضعيف، ضعفه ابن حجر ونقل تضعيفه عن البخاري.
ب- وللمشقة الشديدة من الزحام.
قال ابن قدامة: ولا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة، وروي ذلك عن ابن الزبير وعطاء ومجاهد.
قال الأثرم: قيل لأحمد: الرجل يصلي بمكة، ولا يستتر بشيء؟ فقال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ثم ليس بينه وبين الطُّوَّاف سترة. قال أحمد: لأن مكة ليست كغيرها، كأنّ مكة مخصوصة ..
وقال ابن أبي عمار: رأيت ابن الزبير جاء يصلي، والطُّوَّاف بينه وبين القبلة، تمر المرأة بين يديه، فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها. رواه حنبل في كتاب "المناسك".
وقال المعتمر: قلت لطاووس: الرجل يصلي - يعني بمكة - فيمر بين يديه الرجل والمرأة؟ فإذا هو يرى أن لهذا البلد حالا ليس لغيره من البلدان، وذلك لأن الناس يكثرون بمكة لأجل قضاء نسكهم، ويزدحمون فيها، فلو مَنَع المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس.
والأول أصح.
(وتبطل بمرور كلبٍ أسود بهيم فقط).
أي: أن الصلاة تبطل بمرور كلب أسود بهيم.
أسود: دون الأحمر، والأبيض، والأزرق، أو أي لون غير الأسود.
بهيم: أي: خالص لا يخالطه سواده لون آخر.
• قوله (فقط) ولماذا فقَّط المسألة؟ فقَّطَها لأمرين:
أولاً: ليخرج الكلب الأحمر والأبيض وما أشبه ذلك، وقد سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر ـ: ما بالُ الكلبِ الأسود، من الكلبِ الأحمر، من الكلبِ الأصفر؟ قال: الكلبُ الأسودُ شيطان).
ثانياً: ليخرج المرأة والحمار.
وهذا هو المشهور من المذهب؛ أن الصَّلاة لا تبطل إلا بمرور الكلب الأسود البهيم فقط، فلا تبطل بمرور غيره. (الشرح الممتع)
والدليل على أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة:
حديث أبي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّى فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ». قُلْتُ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا بَالُ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ مِنَ الْكَلْبِ الأَحْمَرِ مِنَ الْكَلْبِ الأَصْفَرِ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ) رواه مسلم.
وهذا قول أحمد وإسحاق.
وحجة هذا القول: أن الكلب لم يجيء في الترخيص فيه شيء يعارض الأحاديث المذكورة وهي حديث أبي ذر وأبي هريرة.
وأما المرأة فقد ورد عن عائشة أنها قالت (شبهتمونا بالكلاب والحمير).
وقالت (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني).
وأما الحمار فقد ورد فيه حديث ابن عباس قَالَ (أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ. مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ، فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ. وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) متفق عليه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يقطع الصلاة هذه الأشياء الثلاثة: المرأة البالغ، والحمار، والكلب الأسود.
واختار هذا القول ابن تيمية وابن القيم، وابن المنذر، والشوكاني، والألباني.
أ- لحديث أبي ذَرٍّ -السابق- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّى فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ) رواه مسلم.
ب- ولحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ). رواه مسلم
قال ابن المنذر: وأما حجة من قال يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، فظاهر خبر عبد الله بن الصامت عن أبي ذر
…
وهو خبر صحيح لا علة له، فالقول بظاهره يجب، وليس مما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التسليم له وحدّك أن يحمل على قياس أو نظر.
وقال الشوكاني: المراد بقطع الصلاة إبطالها، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة منهم: أبو هريرة، وأنس، وابن عباس، في رواية عنه
…
وممن قال به من التابعين يقطع الثلاثة المذكورة: الحسن البصري، وأبو الأحوص صاحب ابن مسعود، ومن الأئمة: أحمد بن حنبل فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري.
وذهب بعضهم: إلى أنه لا يقطع الصلاة شيء.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال النووي: وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف، لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ولا من غيرهم.
أ-لحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يقطع الصلاة شيء) رواه أبو داود وهو ضعيف.
ب- لحديث الفضيل بن عباس قال (زار النبي صلى الله عليه وسلم عباساً في بادية لنا، ولنا كلبة وحمار يرعى، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر، وهما بين يديه، فلم يؤخرا ولم يزجرا) رواه أبو داود، وهو ضعيف.
ج- ولحديث عائشة -وقد تقدم- قالت (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني). رواه مسلم
د- ولحديث ابْنِ عَبَّاس -وقد تقدم- قَال (أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى بِالنَّاسِ بِمِنًى إلى
غَيرِ جِدار، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَىِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَىَّ أَحَد). متفق عليه
وأجب هؤلاء (وهم الجمهور) عن الأحاديث التي فيها يقطع الصلاة كحديث أبي ذر وأبي هريرة بأجوبة:
أ- قالوا إن المراد بالقطع نقص الصلاة.
قال النووي: وتأول هؤلاء حديث القطع على أن المراد به ينقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها. (شرح مسلم).
ب- أنه منسوخ.
قال النووي: واما الجواب عن الأحاديث الصحيحة التي احتجوا بها فمن وجهين:
أصحهما وأحسنهما ما أجاب به الشافعي والخطابي والمحققون من الفقهاء والمحدثين: أن المراد بالقطع القطع عن الخشوع والذكر للشغل بها والالتفات إليها، لا أنها تفسد الصلاة، فهذا الجواب هو الذى نعتمده، وأما ما يدعيه أصحابنا وغيرهم من النسخ فليس بمقبول، إذ لا دليل عليه، ولا يلزم من كون حديث ابن عباس في حجة الوداع وهى في آخر الأمر أن يكون ناسخاً، إذ يمكن كون أحاديث القطع بعده، وقد علم وتقرر في الأصول، أن مثل هذا لا يكون ناسخاً مع أنه لو احتمل النسخ لكان الجمع بين الأحاديث مقدماً عليه، إذ ليس فيه رد شيء منها، وهذه أيضاً قاعدة معروفة. (المجموع).
والراجح أنه يقطع الصلاة هذه الأشياء الثلاثة المذكورة بالحديث.
قال ابن القيم: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُتْرَةٌ فَإِنّهُ صَحّ عَنْهُ أَنّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ " الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ ". وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبّاسٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ مُغَفّلٍ. وَمُعَارِضُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قِسْمَانِ صَحِيحٌ غَيْرُ صَرِيحٍ وَصَرِيحٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِهَا لِمُعَارِضٍ هَذَا شَأْنُهُ.
•
وأما الجواب عن أدلة الجمهور:
أما حديث أبي سعيد (لا يقطع الصلاة شيء) فحديث ضعيف فلا حجة فيه.
ضعفه ابن حزم في المحلي، وقال النووي: هو ضعيف، وضعفه ابن قدامة في المغني، وابن حجر.
ولو صح فهو عام مخصوص بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قطع المرأة والحمار والكلب الأسود، فتخص هذه الثلاثة من عموم هذا الحديث.
وأما حديث الفضيل ابن عباس (زار النبي صلى الله عليه وسلم عباساً
…
) فحديث ضعيف، فقد ضعفه ابن حزم في المحلى، ثم لم يبين لون هذه الكليبة، فقد يكون لونها ليس أسود، ولا يقطع الصلاة من الكلاب إلا الأسود.
وأما حديث عائشة، فهذا ليس بمرور، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا مرّ، وفرق بين المرور والاضطجاع.
قال ابن القيم: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة نائمة في قبلته، وكأن ذلك ليس كالمار، فإن الرجل محرّم عليه المرور بين يدي المصلي ولا يكره له أن يكون لابثاً بين يديه، وهكذا المرأة يقطع مرورها الصلاة دون لبثها.
وأما حديث ابن عباس (قَال (أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ
…
) فهو غير صريح في المسألة، فلا حجة فيه، إذ ليس فيه إلا أن الحمار مرّ بين يدي بعض الصف، وهذا لا يؤثر، إذ سترة الإمام سترة لمن خلفه.
• هل مرور المرأة من أمام المرأة يقطع الصلاة كالرجل؟
نعم، يدخل في المرور، مرور المرأة بين يدي المرأة، فإنه يقطع الصلاة، لأنه لا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام إلا ما دلّ الدليل على تخصيصه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: المرأة تقطع صلاة المرأة كما تقطع صلاة الرجل. (لقاء الباب المفتوح).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله: الصلاة تنقطع ولو كانت المصلية امرأة والمارة امرأة؛ لأن الخطاب لجميع الأمة.
…
نقلاً من موقع الإسلام سؤال وجواب).
فائدة: قال ابن قدامة: وَلَا فَرْقَ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَلِأَنَّ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ يَتَسَاوَى
فِيهَا الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ فِي غَيْرِ هَذَا، فَكَذَلِكَ هَذَا.
•
المراد بالمرأة التي تقطع الصلاة البالغة لأمرين:
الأول: لحديث ابن عباس فيه التقييد ( .. المرأة الحائض .. ).
والثاني: ولأن غير البالغة لا يصدق عليها أنها امرأة.
•
المراد بالحمار الذي يقطع الصلاة؟
قيل: يشمل جميع الحمير الأهلي والوحشي.
لظاهر الحديث (يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ .. ) فيشمل جميع الحمير.
وقيل: المراد الحمار الأهلي.
قالوا: لأن اسم الحمار إذا أطلق ينصرف إلى المعهود المألوف في الاستعمال وهو الأهلي.
والأول أرجح.
•
المراد بالكلب الذي يقطع الصلاة الأسود:
جاء في حديث أبي ذر تقييده بالأسود، وجاء في حديث أبي هريرة مطلق غير مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، فلا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود، بدليل حديث أبي ذر السابق (
…
قُلْتُ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا بَالُ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ مِنَ الْكَلْبِ الأَحْمَرِ مِنَ الْكَلْبِ الأَصْفَرِ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ) رواه مسلم.
(وله التعوذُ عند آية وعيدٍ، والسؤال عند آية رحمة).
أي: يسن للمصلي إذا مر بآية وعيد أن يتعوذ، والسؤال عند آية رحمة.
أ- لحديث حُذَيْفَةَ قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّى بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ». فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى». فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِه) رواه مسلم.
ب- وعنه عَنْ حُذَيْفَةَ (َنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ». وَفِى سُجُودِهِ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى». وَمَا أَتَى عَلَى آيَةِ رَحْمَةٍ إِلاَّ وَقَفَ وَسَأَلَ وَمَا أَتَى عَلَى آيَةِ عَذَابٍ إِلاَّ وَقَفَ وَتَعَوَّذَ) رواه أبو داود.
ج-وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ (قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ قَالَ ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِآلِ عِمْرَانَ
…
) رواه أبو داود.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك في الفرض والنفل.
قالوا: وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه سنة في النفل دون الفرض.
ورجح هذا القول الشيخ الألباني.
قال الألباني: هذا إنما ورد في قيام الليل كما في حديث حذيفة، فمقتضى الإتباع الصحيح الوقوف عند الوارد وعدم التوسع فيه بالقياس والرأي، فإنه لو كان ذلك مشروعاً في الفرائض أيضاً لفعله صلى الله عليه وسلم، ولو فعله لنقل، بل لكان نقله أولى من نقل ذلك في النوافل كما لا يخفى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: أما في النفل، ولا سيما في صلاة الليل، فإنه يسن أن يتعوذ عند آية الوعيد، ويسأل عند آية الرحمة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن ذلك أحضر للقلب، وأبلغ في التدبر.
وصلاة الليل يسن فيها التطويل، وكثرة القراءة والركوع والسجود، وما أشبه ذلك.
وأما في صلاة الفرض، فليس بسنة، وإن كان جائزاً.
فإن قال قائل: ما دليلك على هذا التفريق، وأنت تقول: إن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض .. ؟
فالجواب: الدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في كل يوم وليلة ثلاث صلوات، كلها فيها جهر بالقراءة، ويقرأ آيات فيها وعيد، وآيات فيها رحمة، ولم ينقل الصحابة الذين نقلوا صفة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه كان يفعل ذلك في الفرض، ولو كان سنة لفعله، ولو فعله لنقل؛ فلما لم ينقل علمنا أنه لم يفعله، ولما يفعله علمنا أنه ليس بسنة.
وهذا القول هو الراجح.
باب سجود السهو
سجود السهو: سجدتان يأتي بهما المصلي لجبر الخلل في صلاته سهواً بزيادة أو نقصان أو شك.
• ومشروعية سجود السهو من محاسن الشريعة الإسلامية، فإن النسيان لا يسلم منه أحد، ولابد من وقوعه في هذه العبادة العظيمة، وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه جبر للنقصان الذي حصل في الصلاة.
(يشرع لزيادة، ونقص، وشك).
أي: أن سجود السهو يشرع (وجوباً أو استحباباً) لأحد الأسباب الثلاثة:
زيادة.
أو نقص.
أو شك.
فالزيادة: مثل أن يزيد الإنسان ركوعاً أو سجوداً، أو قياماً أو قعوداً.
والنقص: مثل أن ينقص الإنسان ركناً، أو ينقص واجباً من واجبات الصلاة.
والشك: أن يتردد كم صلى: ثلاثاً أم أربعاً، مثلاً.
• فلا يشرع سجود السهو في صلاة الجنازة، ولا في حديث النفس.
قال البهوتي: يشرع [يعني: السجود] للسهو بوجود شيء من أسبابه، وهي زيادة، ونقص، وشك
…
سوى صلاة جنازة
…
، وسوى حديث نفس، لعدم إمكان الاحتراز منه، وهو معفو عنه. (كشاف القناع).
• صلاة الجنازة ليس فيها سجود للسهو فلو أنه نسي مثلاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة أو نسي تكبيرة من التكبيرات ونحو ذلك، فلا نقول بأنه يسجد للسهو، لأن صلاة الجنازة صلاة مبنية على التخفيف ليس فيها ركوع ولا سجود، هي شفاعة للميت فقط، فلا يشرع فيها سجود للسهو.
(وهو واجب).
أي: حكم سجود السهو واجب عند وجود سببه، من زيادة، أو نقص، أو شك.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (وإذا نسيت فذكروني).
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى، ثلاثاً أم أربعاً؟ (فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم) رواه مسلم.
ج-ولقوله صلى الله عليه وسلم (إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبَسَ عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس) رواه البخاري ومسلم.
(لا في عمدٍ).
أي: لا يشرع سجود السهو في العمد.
أ- لأن ترك الركن أو الواجب عمداً مبطل للصلاة.
ب- ولقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (إذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ) فَعَلَّقَ السُّجُودَ عَلَى السَّهْوِ.
ج- وَلِأَنَّهُ يُشْرَعُ جُبْرَانًا وَالْعَامِدُ لَا يُعْذَرُ فَلَا يَنْجَبِرُ خَلَلُ صَلَاتِهِ بِسُجُودِهِ، بِخِلَافِ السَّاهِي وَلِذَلِكَ أُضِيفَ السُّجُودُ إلَى السَّهْو.
(في الفرضِ والنافلةِ).
أي: أن سجود السهو يشرع في صلاة الفرض، وفي صلاة النافلة. وهذا قول أكثر أهل العلم.
أ-لعمومات الأدلة كقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا سها أحدكم فليسجد سجدتين) وهذا يشمل ما إذا سها في الفرض أو سها في النفل.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا زاد الرجل أو نقص في صلاته فليسجد سجدتين) وهذا يشمل ما إذا كان في صلاة الفرض أو كان في صلاة النفل.
ج- وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَشُرِعَ لَهَا السُّجُودُ كَالْفَرِيضَة.
د-ولقاعدة: ما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب السهو في الفرض والتطوع، وسجد ابن عباس رضي الله عنهما سجدتين بعد وتره. قال الحافظ في الفتح عن أثر ابن عباس، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. اهـ.
ووجه الاستدلال بفعل ابن عباس أن الوتر غير واجب وسجد ابن عباس فيه للسهو، مما يدل على أن سجود السهو يكون في الفرض والنفل.
وقال الشيخ ابن عثيمين: سجود السهو سجدتان، ويكون في الفرض والنفل إذا وجد سببه.
(فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً، أو قعوداً، أو ركوعاً، أو سجوداً عمداً بطلت)
أي: متى زاد المصلي في صلاته عمداً، فزاد فيها ركعة، أو ركوعاً، أو سجوداً في غير محله، بطلت الصلاة بهذه الزيادة، مع حصول الإثم عليه.
(وسهواً يسجدُ له).
أي: وإن زاد ذلك سهواً فإنه يسجد للسهو.
(وإنْ ذكرَ وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال وسجد للسهو بعد السلام).
إذا زاد المصلي قياماً أو ركوعاً سهواً، فله حالتان:
الأولى: أن يذكر في أثناء قيامه.
فهنا يجب عليه أن يجلس في الحال، فيتشهد إن لم يكن تشهد ويسجد للسهو بعد السلام.
مثال: رجل قام إلى خامسة في العشاء، فتذكر ذلك وهو في القيام أو هو راكع؛ فإنه يرجع ويجلس فوراً، لأن هذه زيادة.
(فيتشهد إن لم يكن تشهد) أي: أنه إذا علم بالزيادة فجلس فإنه يقرأ التشهُّدَ، إلا أن يكون قد تشهَّد قبل أن يقوم للزيادة، وهل يمكن أن يزيد بعد أن يتشهَّد؟
الجواب: نعم يمكن، وذلك بأن يتشهَّد في الرابعة، ثم ينسى ويظنُّ أنها الثانية، ثم يقوم للثالثة في ظَنِّه، ثم يذكر بعد القيام بأن هذه هي الخامسة وأن التشهد الذي قرأه هو التشهُّد الأخير. فقول المؤلِّف:«يتشهَّد إن لم يكن تشهَّد» له معنًى صحيح. (الشرح الممتع)
الحالة الثانية: إن علم بالزيادة بعد سلامه؛ فإنه يسجد للسهو بعد السلام.
مثال: رجل لما سلم من الصلاة ذكر أنه صلى خمساً، فهنا يسجد للسهو، ويكون بعد السلام.
لحديث ابن مسعود قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فقلنا: يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، قال: إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون، ثم سجد سجدتين للسهو).
وفي رواية: (بعد السلام والكلام).
(وإن ترك شَيْئًا مِنْ اَلْمَذْكُورَاتِ: أَتَى بِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ).
أي: لو أن المصلي ترك ركناً من أركان الصلاة فإنه يأتي به ويسجد للسهو.
أحوال من ترك ركناً من أركان أثناء الصلاة:
الحالة الأولى: إن تذكره قبل أن يصل إلى موضعه من الركعة التي تليها فإنه يرجع.
الحالة الثانية: وإن تذكره بعد أن وصل إلى موضعه من الركعة التي تليها فإنه لا يرجع وتقوم التي تليها مقام التي قبلها.
مثال: رجل قام إلى الرابعة في الظهر، ثم ذكر أنه نسي السجدة الثانية من الركعة الثالثة بعد أن شرع في القراءة، فهنا يقال له: ارجع واجلس بين السجدتين واسجد ثم أكمل، وذلك لأن ما بعد الركن المتروك يقع في غير محله لاشتراط الترتيب بين الأركان.
فإن وصل إلى محله من الركعة الثانية؛ فإنه لا يرجع، لأن رجوعه ليس له فائدة، لأنه إذا رجع فسيرجع على نفس المحل، فتكون الركعة الثانية هي الأولى، وتكون له ركعة ملفقة من الأولى ومن الثانية.
(وإن علِم بعد السلام فكترك ركعة كاملة).
أي: إن عَلِمَ بالرُّكن المتروك بعد أن سَلَّمَ فكتركه رَكعة كاملة، أي: فكأنه سَلَّمَ عن نقص رَكعة، وعلى هذا؛ فيأتي برَكعة كاملة، ثم يتشهَّدُ ويسجد للسَّهو ويُسلِّمُ، إما بعده أو قبله.
مثال ذلك: رَجُلٌ صَلَّى، ولما فَرَغَ من الصَّلاة ذَكَرَ أنه لم يسجد في الرَّكعة الأخيرة إلا سجدة واحدة، فيأتي بركعةٍ كاملةٍ.
ووجه ذلك: أنه لما سَلَّمَ امتنع بناءُ الصَّلاة بعضُها على بعضٍ فتبطل الرَّكعة كلُّها، ويأتي بركعة كاملة، ولأن تسليمه بعد التشهُّد يشبه ما إذا شَرَعَ في قراءة الرَّكعة التي تليها، وهو إذا شَرَعَ بقراءة الرَّكعة التي تليها وَجَبَ عليه إلغاء الرَّكعة الأُولى، وأن يأتي برَكعة كاملة.
وقد اختار هذا القول الشيخ ابن باز رحمه الله، فإنه سئل عن إمام نسي السجدة الأخيرة من صلاة العصر، فقام وصلى ركعة كاملة وتشهد وسلم ثم سجد للسهو، فقال:(هذا هو المشروع، إذا نسي الإمام سجدة وسلم ثم ذكر أو نبه، يقوم ويأتي بركعة ثم يكمل ثم يسلم ثم يسجد سجود السهو بعد السلام وهو أفضل، وهكذا المنفرد حكمه حكمه. وإن سجد للسهو قبل السلام فلا بأس ولكن بعده أفضل).
وذهب بعض العلماء إلى التفصيل:
وهو أنه إذا ترك ركناً من أركان الصلاة ناسياً وتذكره بعد السلام فهذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون المتروك في غير الركعة الأخيرة.
فهنا حكمه: كترك ركعة، فيأتي بركعة.
الأمر الثاني: أن يكون في الركعة الأخيرة.
فهنا لا نقول يأتي بركعة وإنما نقول يأتي به وبما بعده ما لم يطل الفصل.
مثال ذلك: إنسان نسي الركوع ثم سلّم ثم تذكر فنقول: ارجع وأتي بالركوع وما بعده، لكي يحصل الترتيب ولأن ما صار بعده هذا في غير موضعه ويسجد للسهو بعد السلام.
وهذا اختيار الشيخ ابن عثيمين.
• هذا مقيد بما لم يطل الفصل في الأمرين، لكن إذا طال الفصل يستأنف الصلاة من أولها.
مثال: شخص نسي السجدة الثانية من إحدى الركعات، ولم يعلم بذلك إلا بعد أن تفرق الناس، وخرجوا من المسجد، وتحدثوا خارج المسجد بعد مضي وقت طويل، وذكر بعضهم لبعض أنهم نسوا سجدة من الصلاة، فتأكد لهم ذلك وأخبروا الإمام، فهنا يعيد الصلاة كلها، ويخبر جماعة المسجد في وقت لاحق ليعيدوا صلاتهم.
(وإن سلّم قبل إتمامها عمداً بطلت، وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد).
أي: من سلم قبل تمام الصلاة، فله أحوال:
أولاً: أن يسلم عامداً فصلاته باطلة.
ثانياً: أن يسلم ناسياً، فإن ذكر قريباً، فإنه يأتي بما تركه ثم يسجد للسهو بعد السلام.
ثالثاً: أن يسلم ناسياً، ويتذكر بعد فاصل طويل، فهنا يعيد الصلاة كاملة.
والدليل على أنه يأتي بما ترك ويسجد للسهو بعد السلام:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (صَلَّى اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتِي اَلْعَشِيِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ اَلْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِي اَلْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ اَلنَّاسِ، فَقَالُوا: أَقُصِرَتْ. الصَّلَاةُ، وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَا اَلْيَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَنَسِيتَ أَمْ قُصِرَتْ? فَقَالَ: " لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ " فَقَالَ: بَلَى، قَدْ نَسِيتُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ، فَكَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
فهذا الحديث يدل على أن من سلم قبل إتمام صلاته ناسياً، فإنه يجب أن يأتي بما ترك ويسجد للسهو بعد السلام.
• قوله (ثم ذكر قريباً أتمها) فإن ذكر بعد مدة طويلة فإنه يجب أن يعيد الصلاة كاملة.
وهذا يرجع للعرف.
مثال الفصل القصير: أن يكون طول الفصل كطول الفصل في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه قام واتكأ وتراجع مع الناس، وخرج سرعان الناس، فما كان مثل هذا كثلاث دقائق أو أربع دقائق، فهذا لا يمنع من بناء بعضها على بعض.
مثال طول الفصل: كساعة أو ساعتين، أو خرجوا من المسجد، فإن هذا يعتبر فاصلاً طويلاً، فهنا يجب عليهم إعادة الصلاة من أولها. (الشيخ ابن عثيمين).
• يشترط شرط آخر: أن لا يحدث، لأن الحدث ينافيها، واستمرار الطهارة شرط، وقد فات.
• قوله (ثم سجد) أي: للسهو ويكون بعد السلام.
لحديث ذي اليدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من ركعتين، قام وجاء بالركعتين ثم سلم ثم سجد للسهو ثم سلم.
والسهو الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث سهو عن زيادة، ووجه الزيادة: زيادة السلام.
قال بعض العلماء: ومن الحكمة أن يكون السجود للزيادة بعد السلام، حتى لا تجتمع زيادتان في الصلاة.
• إذا سلم الإمام من صلاته قبل إتمامها ناسياً، فهل يتابعه المأموم؟
إذا تيقن المأموم أن الإمام قد سها وأن الصلاة لم تتم، فإنه يبقى في محل الجلوس، ولا يتكلم ولا ينصرف، كما لو زاد الإمام ونبهوه ولم يرجع، فإنهم لا يتابعونه في الزيادة.
ثم هم مخيّرون: بين أن يجلسوا وينتظرون حتى يسلم بهم، أو يسلمون قبله، والانتظار أحسن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
فإن قال قائل: لماذا الصحابة تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا معه؟
فالجواب: أن الصحابة التبس عليهم الأمر فخشوا أن يكون قد جاء تغيير في الحكم، فلذا سلموا معه وخرج من خرج، لأن الزمان زمان وحي ونسخ، وأما الآن فقد انتهى الأمر فلم يبق إلا السهو.
(فإن طال الفصل، أو تكلم لغير مصلحتها بطلتْ ككلامهِ في مصلحتِها).
ذكر متى تبطل الصلاة إذا سلم الإمام ناسياً قبل تمام الصلاة:
أولاً: أن يطول الفصل.
قال في الروض: فإن طال الفصل عرفًا بطلت، لتعذر البناء.
وجاء في حاشية الروض: لأنها صلاة واحدة فلم يجز بناء بعضها على بعض مع طول الفصل، لفوات الموالاة بين أركانها، وطول الفصل يؤخذ من العرف، حيث لم يرد تحديده بنص، وذلك قاعدة في كل شيء لم يأت في الشرع تحديده، يرجع فيه إلى العرف.
ثانياً: أن يتكلم لغير مصلحتها.
كقوله: يا غلام؛ اسقني، أو يا فلان أين وضعت الكتاب، أو أغلق المكيف.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الصلاة لا تبطل في هذه الحالة.
وهذا اختيار الشيخ السعدي.
لأن هذا المتكلم لا يعتقد أنه في صلاة.
وقد قال تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُم).
(ولمصلحتِها إن كان يسيراً لم تبطل).
أي: إذا كان الكلام يسيراً لمصلحة الصلاة لا تبطل.
• وفُهم من هذا أن الكلام أنه لو تكلم كثيراً لمصلحة الصلاة فإنها تبطل.
فيكون أقسام الكلام فيما إذا تكلم بعد سلامه ناسياً على النحو التالي:
أولاً: أن يتكلم لغير مصلحة الصلاة، فهنا صلاته تبطل بكل حال. مثال:
أن يقول بعد أن يسلم ناسياً: يا فلان، أغلق المكيف.
ثانياً: أن يتكلم لمصلحة الصلاة بكلام يسير، كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: أصدق ذو اليدين، فهذا لا تبطل صلاته، لأنه يسير لمصلحة الصلاة.
ثالثاً: أن يكون كثيراً لمصلحة الصلاة، فهنا تبطل.
لكن الصحيح أنها لا تبطل مطلقاً، وهذا اختيار الشيخ السعدي.
لأن هذا المتكلم لا يعتقد أنه في صلاة.
وقد قال تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُم).
فائدة:
اختلف الفقهاء فيمن تكلم في صلاته بكلام أجنبي ناسياً أنه في صلاة هل تبطل أم لا؟ إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: تبطل صلاته وعليه الإعادة.
وبه قال الحنفية والحنابلة في المذهب.
أ- لحديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم (إن في الصلاة شغلاً).
ب- ولحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال (كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النهي شامل لعموم كلام الآدميين في الصلاة بما في ذلك كلام الناسي؛ لعدم ورود التفريق بين ذلك.
ج- حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم.
وجه الدلالة: دل الحديث على أن الكلام بغير التسبيح والذكر وقراءة القرآن يبطل الصلاة مطلقاً، سواء كان ذاكراً أو ناسياً.
القول الثاني: لا تبطل صلاته.
وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة في رواية.
أ- لعموم قوله تعالى (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
ب- ولحديث ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.
فالآية والحديث يقتضيان رفع الخطأ والنسيان عن هذه الأمة، والمراد حكمهما.
ج- ولحديث ذي اليدين السابق.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم ناسياً معتقداً أنه قد فرغ من صلاته ثم لما ذكر بنى على صلاته وسجد للسهو، فلو كان إذا وقع عن سهو أبطل الصلاة لوجب عليه أن يستأنف صلاته.
القول الثالث: إن كان لمصلحة الصلاة لم تبطل، وإن كان لغير مصلحتها بطلت.
وبه قال الحنابلة في رواية.
دليلهم على أن الكلام إن كان لإصلاح الصلاة لا يبطلها:
استدلوا بحديث ذي اليدين السابق.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم هو وأصحابه لإصلاح الصلاة وبنوا صلاتهم على ذلك ولم يستأنفوا.
ودليلهم على أن الكلام لغير مصلحة الصلاة يبطلها:
استدلوا لذلك بعموم الأحاديث السابقة الدالة على تحريم كلام الآدميين في الصلاة، ومنها:
أ- حديث معاوية السابق وفيه (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس).
ب- حديث ابن مسعود السابق (إن الله قد يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله عز وجل قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة).
الراجح: بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشتها تبين لي - والعلم عند الله تعالى -: أن الكلام سهوا لا يبطل الصلاة، وهو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني.
…
(بحث في مجلة البحوث الإسلامية).
(وقهقهة ككلام).
القهقهة: الضحك المصحوب بالصوت.
القهقهة في الصلاة مبطلة للصلاة.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة.
وقال ابن قدامة: إن ضحك فبان منه حرفان فسدت صلاته، وكذلك إن قهقه وإن لم يبن منه حرفان، قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه مخالفاً؛ أي: في القهقهة ولو لم يبن منه حرفان.
وقال ابن هبيرة: أجمعوا على أن القهقهة في الصلاة تبطلها.
والدليل على أن القهقهة تبطل الصلاة:
أ-الإجماع كما تقدم.
ب-ما روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (القهقهة تنقض الصلاة ولا تنقض الوضوء) رواه الدارقطني في سننه والصحيح وقفه.
ج-أنها كالكلام بل أشد.
د-أن القهقهة فيها أصوات عالية تنافي حال الصلاة وتنافي الخشوع الواجب، وفيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما ينافي مقصودها، فأبطلت الصلاة لذلك.
• وأما التبسم فلا يبطل الصلاة.
روي هذا عن جابر بن عبد الله وعطاء ابن أبي رباح، ومجاهد، والنخعي، وقتادة، والحسن البصري، والأوزاعي.
وبه قال الأئمة الأربعة.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم غير ابن سيرين على أن التبسم في الصلاة لا يفسدها.
وقال ابن قدامة: وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها - أي لا يفسد الصلاة -.
وقال النووي: قال أكثر العلماء: لا بأس بالتبسم.
واستدلوا:
أ- ما رواه عبد الرزاق عن الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال: لا يقطع الصلاة التبسم.
ب- أنه لا يفسد الصلاة لخفته، ولأنه عمل يسير.
(وإنْ نفخَ أو انتحب من غير خشية الله، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت).
النفخ: مثل أن يقول: أف.
النحب: رفع الصوت بالبكاء.
فمن نفخ أو انتحب - ليس من خشية الله - فبان حرفان فإن صلاته تبطل.
أ- لأن النفخ إذا انتظم حرفين أفسد الصلاة؛ لأنه كلام، والكلام مبطل للصلاة، لعموم النهي عنه في الصلاة، وسواء أفهم الكلام أو لم يفهم؛ لأن الكلام يقع على المفهم وغيره.
ب- ما روي عن ابن عباس أنه قال: من نفخ في الصلاة فقد تكلم.
ج-وبما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: النفخ في الصلاة كلام.
واعترض على الاستدلال المروي عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنه بما قاله ابن المنذر بأنه لا يثبت عن ابن عباس وأبي هريرة أن النفخ بمنزلة الكلام.
…
(بحث مجلة البحوث الإسلامية).
وذهب بعض العلماء: إلى أن النفخ في الصلاة لا يبطلها.
أ- لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث إلى أن قال: ثم نفخ في سجوده فقال: أف أف) رواه مسلم.
وجه الدلالة: حيث جاء لفظ أف في الحديث، فدل على جواز ذلك وأنه لا يبطل الصلاة.
ب- ولحديث المغيرة بن شعبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في صلاة الكسوف فجعل ينفخ، فلما انصرف قال: إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي) رواه أحمد.
واعترض على الاستدلال بالحديثين بما يلي:
أنها واقعة حال، لا عموم لها، فيجوز كونها قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو فعله خوفاً من الله أو من النار، فإن ذلك لا يبطل كالتأوه والأنين.
وأجيب عن هذا الاعتراض بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: الجوابان ضعيفان. أما الأول فإن صلاة الكسوف كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم، وإبراهيم كان من مارية القبطية، ومارية أهداها المقوقس بعد أن أرسل إليه المغيرة، وذلك بعد صلح الحديبية، فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك، ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا باتفاق المسلمين.
وهذا القول هو الراجح.
•
الانتحاب: وهو رفع الصوت بالبكاء، فهذا له أحوال:
أولاً: إذا غلبت هذه الأمور على المصلي.
فإنها لا تبطل صلاته في قول جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتأوه فالصحيح عند جمهور العلماء أنه لا يبطل وهو منصوص أحمد وغيره).
والدليل على أنها لا تبطل الصلاة:
أنها إذا غلبت تكون غير داخلة في وسع الإنسان إذ لا يمكنه دفعها، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
ثانياً: إن كانت لم تغلب على المصلي لكن كانت لخشية الله.
فقد اختلف فيها العلماء على قولين:
الأول: أنها لا تبطل الصلاة.
وهو قول أبي حنيفة ومالك، وأحمد في الصحيح من المذهب.
أ- لقول الله تعالى (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) حيث مدح الله الباكين.
ب- وعن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز، من البكاء) وفي رواية عند أبي داود: كأزيز الرحى).
وجه الدلالة من الحديث: يدل الحديث على أن البكاء من خشية الله لا يبطل الصلاة.
ج- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له: الصلاة، قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء، فقال: مروه فليصل، فعاودته، فقال: مروه فليصل، إنكن صواحب يوسف).
فالحديث يدل على جواز البكاء في الصلاة، ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صمم على استخلاف أبي بكر بعد أن أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء دل ذلك على الجواز.
د- قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ).
دل هذا الأثر على جواز البكاء في الصلاة.
و- دلت الأدلة المتقدمة على جواز البكاء والأنين والتأوه بمعناه.
القول الثاني: أن الصلاة تبطل إن بان منه حرفان.
وهو قول الشافعية في الأصح ورواية عند الحنابلة.
قالوا: إنه من جنس كلام الآدميين فيبطل الصلاة سواء كان للدنيا أو للآخرة.
والراجح الأول.
ثالثاً: إذا فعل البكاء والأنين والتأوه مختاراً، ولم يكن لخشية الله.
فهذا قد اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنها تبطل الصلاة.
وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، ومالك في رواية والشافعي في الأصح وأحمد في رواية هي المذهب.
أ- لعموم النهي عن الكلام، ولم يرد في الأنين والتأوه ما يخصهما ويخرجهما من العموم.
ب- ولأن البكاء والأنين والتأوه إذا كان من غير خشية لله يكون إظهاراً للجزع والتأسف فكان من كلام الناس فيقطع الصلاة.
القول الثاني: أنها لا تبطل الصلاة.
وهو قول أبي يوسف، ومالك في رواية عنه، وأحمد في رواية عنه، وقد رجح شيخ الإسلام هذا القول.
أ-أنه ليس من جنس الكلام ولا يكاد يبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل.
ب- ولأنه لا يخلو مريض أو ضعيف من ذلك في الصلاة.
وهذا القول هو الراجح.
• وكذلك إذا تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت صلاته.
أ- لعموم النهي عن الكلام في الصلاة، والنحنحة إن بأن منها حرفان فهي كلام فتبطل الصلاة.
ب- أنه ليس من جنس أذكار الصلاة فأشبه القهقهة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن النحنحة لا تبطل الصلاة مطلقاً.
وهو قول أبي يوسف وأحد قولي مالك، وأحمد في رواية عنه، والشافعية في وجه.
أ- لحديث علي رضي الله عنه قال (كانت لي ساعة في السحر أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان في صلاته تنحنح فكان ذلك إذني وإن لم يكن في صلاته أذن لي) رواه أبو داود.
فالحديث دل على أن التنحنح في الصلاة غير مفسد.
واعترض على هذا الدليل: بأن الحديث ضعيف. قال النووي - بعدما أورد الحديث -: وهو حديث ضعيف لضعف راويه، واضطراب إسناده، ومتنه ضعفه البيهقي وغيره.
وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأن الحديث صححه ابن خزيمة، وابن السكن، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني ما يدل على أن الحديث ثابت.
ب- أنها لا تبطل الصلاة؛ لأنها ليست كلاماً والحاجة تدعوا إليها.
…
(مجلة البحوث الاسلامية).
وهذا الراجح.
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: النحنحة
…
الأقوال فيها ثلاثة:
أحدها: أنها لا تبطل بحال، وهو قول أبي يوسف، وإحدى الروايتين عن مالك؛ بل ظاهر مذهبه.
والثاني: تبطل بكل حال، وهو قول الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد ومالك.
والثالث: إن فعله لعذر لم تبطل، وإلا بطلت، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وغيرهما، وقالوا: إن فعله لتحسين الصوت
وإصلاحه لم تبطل، قالوا: لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيراً، فرخص فيه للحاجة.
ومن أبطلها قال: إنه يتضمن حرفين، وليس من جنس أذكار الصلاة، فأشبه القهقهة.
والقول الأول أصح. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم التكلم في الصلاة وقال (إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين) وأمثال ذلك من الألفاظ، التي تتناول الكلام. والنحنحة لا تدخل في مسمى الكلام أصلاً، فإنها لا تدل بنفسها، ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى، ولا يسمى فاعلها متكلماً. (مجموع الفتاوى).
(ومن تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهَا سَهْوًا، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَنِ التَّشَهُدِ الأَوْلِ وَسَجَدَ قبل السلام).
هذا يتعلق بترك الواجبات.
فمن ترك واجباً من واجبات الصلاة نسياناً فإنه يسجد للسهو، ويكون قبل السلام لأنه عن نقص.
عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ اَلْأُولَيَيْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ اَلنَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى اَلصَّلَاةَ، وَانْتَظَرَ اَلنَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ. وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ) متفق عليه.
وَفِي رِوَايَةٍ لمُسْلِمٍ (يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ وَسَجَدَ اَلنَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا نَسِىَ مِنَ الْجُلُوسِ).
ففي هذا الحديث ترك النبي صلى الله عليه وسلم التشهد الاول (وهو واجب) نسياناً فلم يرجع له، وجبره بسجود سهو قبل السلام.
ويقاس على ترك التشهد ترك بقية الواجبات (كمن ترك سبحان ربي العظيم في الركوع نسياناً، أو سبحان ربي الأعلى في السجود نسياناً).
مثال: رجل صلى ونسي: سبحان ربي العظيم، فإنه يسقط، ويأتي بسجود سهو قبل السلام.
• يكون سجود السهو لمن ترك التشهد الأول ناسياً قبل السلام، لحديث عبد الله بن بحينة السابق.
وهكذا في جميع ترك واجبات الصلاة يكون السجود قبل السلام. (وستأتي المسألة متى يكون سجود السهو في الصلاة إن شاء الله).
المصلي إذا ترك التشهد الأول، فإنه لا يخلو من أحوال:
أ- إن ترك التشهد الأول، وذكره بعد شروعه بالقراءة، فهنا يحرم عليه الرجوع [ويسجد للسهو].
ب- إن ترك التشهد الأول وذكره بعد قيامه وقبل شروعه بالقراءة، فهنا يكره رجوعه [ويسجد للسهو قبل السلام].
لأنه انتقل إلى الركن الذي يليه.
ج- أما إذا ذكره قبل أن ينهض، أي قبل أن يفارق فخذاه ساقيه، فإنه يجلس ويتشهد وليس عليه شيء.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يحرم الرجوع إذا استتم قائماً، سواء شرع في القراءة أم لم يشرع
لأنه إذا استتم قائماً فإنه يصدق عليه أنه انتقل من ركن إلى ركن، فلا يرجع.
• إذا قام الإمام عن التشهد الأول، فإنه يجب على المأموم متابعته وإن لم يكن المأموم ناسياً.
• تقدم أن المصلي إذا سها وقام إلى الثالثة فإنه لا يرجع، لكن لو تعمد ورجع بعد تلبسه بالركن:
قيل: تبطل صلاته، وهذا مذهب الشافعي.
وقيل: لا تبطل صلاته، وهذا مذهب الجمهور.
(ومن شك في عدد الركعات أخذ بالأقل).
أي: ومن شك في عدد الركعات، هل صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فيجعلها ثلاثاً، أو هل صلى ثلاثاً أم اثنتين؟ فيجعلها اثنتين.
وذهب بعض العلماء إلى التفصيل، وهو أن الشك ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن لا يترجح عنده شيء، فهنا يعمل بالأقل ويسجد للسهو قبل السلام.
مثال: رجل صلى وشك؛ هل هذه الركعة الثالثة أم الرابعة؟ ولم يترجح عنده شيء، فيجعلها هنا ثلاثاً ويأتي برابعة ويسجد للسهو قبل السلام.
لحديث أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثْلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا? فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْساً شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى تَمَامً كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قال النووي: من شك ولم يترجح له أحد الطرفين، بنى على الأقل بالإجماع.
القسم الثاني: إذا شك المصلي في صلاته، ولم يدر كم صلى، ثلاثاً أم أربعاً وغلب على ظنه أحدهما، فإنه يعمل به ويسجد للسهو بعد السلام.
لحديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: (صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَحَدَثَ فِي اَلصَّلَاةِ شَيْءٌ? قَالَ: " وَمَا ذَلِكَ? " قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا، قَالَ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ اَلْقِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: " إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي اَلصَّلَاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ اَلصَّوَابَ، فلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: - فَلْيُتِمَّ، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ -.
وَلِمُسْلِمٍ: (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ سَجْدَتَيْ اَلسَّهْوِ بَعْدَ اَلسَّلَامِ وَالْكَلَامِ).
• ما الحكم إذا شك في صلاته فعمل باليقين أو بما ترجح عنده حسب التفصيل المذكور ثم تبين له أن ما فعله مطابق للواقع وأنه لا زيادة في صلاته ولا نقص، هل يسقط للسهو أو يسقط؟
قيل: يسقط عنه سجود السهو.
لزوال موجب السجود وهو الشك.
وقيل: لا يسقط عنه.
أ- ليراغم به الشيطان لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإن كان صلى إتماماً كانتا ترغيماً للشيطان).
ب- ولأنه أدى جزءً من صلاته شاكاً فيه حين أدائه.
وهذا هو الراجح.
مثال ذلك: شخص يصلي فشك في الركعة أهي الثانية أم الثالثة؟ ولم يترجح عنده أحد الأمرين فجعلها الثانية وأتم عليها صلاته ثم تبين
له أنها هي الثانية في الواقع.
فلا سجود عليه على القول الأول.
وعليه السجود قبل السلام على القول الثاني.
(ولا سجودَ على مأمومٍ إلا تبعاً لإمامهِ).
أي: أن المأموم لا يلزمه سجود السهو إلا تبعاً لإمامه.
فالواجب على المأموم أن يتبع إمامه في الصلاة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه
…
) رواه البخاري.
سواء ابتدأها معه، أو كان مسبوقاً.
فإذا ابتدأ المأموم الصلاة مع الإمام وسها الإمام، وجب على المأموم متابعته في سجود السهو، للحديث المتقدم، وفيه (
…
وإذا سجد فاسجدوا
…
)، سواء سجد الإمام للسهو قبل السلام أو بعده، لزيادة أو نقصان أو شك.
مثال ذلك: سهى الإمام فترك قول (سبحان ربي العظيم) في الركوع، ولا عِلْم للمأموم بما ترك الإمام، لكون التسبيح سراً، والمأموم لم يترك شيئاً من الأركان والواجبات، ولم يفته شيء من الصلاة، فلما أراد الإمام أن يسلم، سجد قبل السلام، لتركه واجب التسبيح، فعلى المأموم أن يتبع إمامه في هذا السجود وجوباً.
وهذا أمر مجمع عليه:
أن المأموم الذي أدرك الركعة الأولى من الصلاة مع الإمام وسوف يسلم معه من الصلاة، أجمعوا على أنه يجب عليه أن يتابع الإمام في سجود السهو، سواء سجد الإمام قبل التسليم من الصلاة أم بعده، وسواء سها الإمام بمفرده أو سها معه المأموم.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه .. وإذا سجد فاسجدوا) فإن عمومه يشمل سجود السهو، فإذا سجد الإمام وجب على المأموم أن يتابعه في السجود.
قال ابن قدامة: وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ، فَعَلَى الْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ فِي السُّجُودِ سَوَاءٌ سَهَا مَعَهُ، أَوْ انْفَرَدَ الْإِمَامُ بِالسَّهْوِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِك.
وَذَكَرَ إِسْحَاقُ أَنَّهُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ، سَوَاءٌ كَانَ السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ، أَوْ بَعْدَهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا).
…
(المغني).
ثانياً: فإن فات المأموم شيء من الصلاة، بأن دخل الصلاة مسبوقاً:
فهنا يجب على المأموم متابعته في سجود السهو، إن كان قبل السلام.
مثال ذلك: قام الإمام عن التشهد الأول ناسياً، فإنه يلزمه السجود قبل السلام، والمأموم لحق بالإمام في الركعة الثانية، أو الثالثة، فيلزمه السجود تبعاً لإمامه، لأن الإمام لم تنقطع صلاته بعد، فإذا سلم الإمام، أتم المأموم ما فاته من الصلاة وسلم.
فإن سها الإمام بما يوجب السجود بعد السلام، فهل يلزم المسبوق متابعته في سجود السهو؟
الصحيح أنه إذا سجد الإمام بعد السلام، فلا يلزم المأموم متابعته:
أ-لتعذر ذلك؛ بسبب انقطاع المتابعة بسلام الإمام.
ب- لأن المأموم لو تابع الإمام في السلام عمداً بطلت صلاته.
فإذا أتم المأموم قضاء ما فاته، سجد للسهو بعد السلام إذا كان السهو فيما أدركه مع الإمام، وأما إذا كان السهو فيما مضى من صلاة الإمام قبل أن يدخل معه المأموم، لم يجب عليه السجود في هذه الحال.
- ما الحكم إن سها المأموم مسبوقاً، والإمام لم يسهو، فهل عليه سجود؟ مثال ذلك: دخل المأموم مع الإمام في الركعة الثانية
، وفي الجلسة بين السجدتين نسي أن يقول (رب اغفر لي) وسلم الإمام؟
حكمه: أنه يلزمه أن يتم صلاته ويسجد للسهو قبل السلام.
أ-لجبر النقص الحاصل في صلاته بترك واجب.
ب- ولأنه انفصل عن إمامه، فلا مخالفة في سجوده حينئذٍ.
جاء في رسالة سجود السهو لابن عثيمين:
هذه الحالات كلها فيما إذا كان السهو من الإمام، وأما سهو المأموم نفسه فله أحوال أيضاً:
إذا سها المأموم في صلاته، ولم يكن مسبوقاً، أي أدرك جميع الركعات مع إمامه، كما لو نسي أن يقول: سبحان ربي العظيم في الركوع، فإنه لا سجود عليه؛ لأن الإمام يتحمله عنه، لكن لو فرض أن المأموم سها سهواً تبطل معه إحدى الركعات كما لو ترك قراءة الفاتحة نسياناً، فهنا لابد أن يقوم إذا سلم الإمام ويأتي بالركعة التي بطلت من أجل السهو، ثم يتشهد ويسلم ويسجد بعد السلام.
إذا سها المأموم في صلاته، وكان مسبوقاً، فإنه يسجد للسهو، سواء كان سهوه في حال كونه مع الإمام، أو بعد القيام لقضاء ما فاته؛ لأنه إذا سجد لم يحصل منه مخالفة لإمامه حيث إن الإمام قد انتهى من صلاته.
(وسجود السهوِ لِما يُبطِلُ عمدُه واجب).
أي: أن سجود السهو واجب لكل شيء يبطل الصلاة عمده.
مثال ذلك: لو تركت قول: «رَبِّ اغفرْ لي» بين السَّجدتين وَجَبَ عليك سجود السَّهو، لأنك لو تعمَّدت تَرْكَهُ لبطلت صلاتُكَ.
مثال آخر: لو تَرَكَ التشهُّدَ الأول نسياناً يجب عليه السُّجود فقط، ولا يجب عليه الإِتيان به؛ لأنه واجب يسقط بالسَّهو.
مثال ثالث: لو تَرَكَ الاستفتاح لا يجب عليه سجود السَّهو، لأنه لو تعمَّد تَرْكه لم تبطل صلاته.
(ومحلُّه قبل السلام إلا من سلّم قبل إتمامها أو شك فبنى على غالب ظنه).
أي: أن محل سجود السهو قبل السلام، لأنه من تمام الصلاة وجبرها، فكان قبل سلامها إلا في مسألتين فإنه يسجد بعد السلام.
الأولى: إذا سلم قبل إتمام الصلاة.
لحديث ذي اليدين وقد تقدم.
الثانية: إذا شك وبنى على غالب ظنه، فإنه يسجد بعد السلام.
لحديث ابن مسعود - وقد تقدم - قال: قال صلى الله عليه وسلم (وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْن).
وبقي مسألة ثالثة يسجد فيها بعد السلام: وهي ما إذا كان عن زيادة.
لأن الزيادة زيادة في الصلاة، وسجود السهو زيادة أيضاً، فلا تجتمع زيادتان.
لحديث ابن مسعود. قال (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ «مَا شَأْنُكُمْ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ «لَا». قَالُوا فَإِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَانْفَتَلَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ». وَزَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي حَدِيثِهِ «فَإِذَا نَسِىَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ).
قال الشيخ ابن عثيمين: ولا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام، هنا ضرورة أنه لم يعلم إلا بعد السلام؛ لأننا نقول: لو كان الحكم يختلف عما فعل لقال لهم عليه السلام: إذا علمتم بالزيادة قبل أن تسلموا فاسجدوا لها قبل السلام، فلما أقر الأمر على ما كان عليه علم أن سجود السهود للزيادة يكون بعد السلام.
وقد ذهب بعض العلماء: إلى أن السجود للسهو محله قبل السلام.
وبهذا قال: مكحول، والزهري، وابن المسيب، وهذا مذهب الشافعي.
أ-لحديث عبد الله بن بحينة السابق، الذي فيه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد الأول وسجد للسهو قبل السلام).
ب-ولحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى
…
فليطرح الشك وليبنِ على ما استيقن، ثم
يسجد سجدتين قبل أن يسلم).
ج-وقالوا: إن سجود السهو إتمام للصلاة، وجبر للنقص الحاصل بها، فكان قبل السلام لا بعده.
وذهب بعضهم: إلى أن سجود السهو كله بعد السلام.
وبهذا قال: الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والثوري، وهذا مذهب أبي حنيفة.
أ-واستدلوا بحديث ذي اليدين، حيث سجد النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فكل سهو مثله يكون سجوده بعد السلام من الصلاة.
ب-ولحديث ابن مسعود في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب
…
فليتم ثم يسلم ثم يسجد).
ج-ولحديث ثوبان. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) رواه أبو داود، وضعفه البيهقي والنووي وابن تيمية.
وذهب بعضهم: إلى أنه كله قبل السلام إلا إذا سلم قبل تمام الصلاة.
وهذا المشهور من مذهب الحنابلة.
لحديث ذي اليدين، حيث سلم النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قبل إتمامها، فأتمها وسجد للسهو بعد السلام.
قالوا: فيقتصر السجود بعد السلام على هذه الصورة وهي السلام قبل تمام الصلاة، ويبقى ما عداها من الصور على الأصل، وهو السجود قبل السلام.
وذهب بعضهم: إلى التفريق، فما كان عن نقص قبل السلام، وما كان عن زيادة فبعد السلام.
وهذا مذهب مالك.
قال ابن عبد البر: وبه يصح استعمال الخبرين جميعاً، وقال: واستعمال الأخبار على وجهها أولى من ادعاء النسخ.
أدلتهم على سجود السهو من زيادة يكون بعد السلام:
أ-حديث الباب في قصة ذي اليدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين، فلما ذكره ذو اليدين أتم صلاته ثم سلم ثم سجد للسهو ثم سلم.
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم زاد في الصلاة حيث سلم قبل تمامها، والسلام قبل تمام الصلاة من الزيادة فيها.
ب- حديث ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أنه نص صريح في أن من زاد في صلاته سهواً، فإنه يسجد له بعد السلام.
وأدلتهم على أن سجود السهو من نقص يكون قبل السلام:
أ- حديث عبد الله بن بحيْنة (لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التشهد الأول نسياناً سجد للسهو قبل السلام).
وجه الدلالة: أنه نص صحيح صريح في أن من نقص في صلاته فإنه يسجد للسهو قبل السلام.
• والمشهور من المذهب أن محل الخلاف في سجود السهو: ها هو قبل السلام أو بعده على سبيل الاستحباب والأفضلية، فيجوز السجود بعد السلام إذا كان محله قبل السلام وعكسه.
(وإنْ نسيَهُ وسلم سجدَ إنْ قرُبَ زمنه).
أي: وإن نسي سجود السهو الذي قبل السلام وسلم سجد إن قرب زمنه.
مثاله: رَجُلٌ نسيَ التشهُّد الأول؛ فيجب عليه سجود السَّهو، ومحلُّه قبل السَّلام، لكن نسيَ وسَلَّمَ، فإن ذَكَرَ في زمن قريب سَجَدَ، وإنْ طال الفصلُ سَقَطَ. مثل: لو لم يتذكَّر إلا بعد مدَّة طويلة؛ ولهذا قال: «سَجَدَ إن قَرُب زمنُه» فإن خرج من المسجد فإنه لا يرجع إلى المسجد فيسقط عنه.
…
(الشرح الممتع).
قال الإمام المرداوي: اشترط المصنف - ابن قدامة - لقضاء السجود شرطين:
أحدهما: أن يكون في المسجد.
والثاني: أن لا يطول الفصل. وهو المذهب. نص عليه.
وعن الإمام أحمد: يسجد مع قِصَر الفصْل، ولو خرج من المسجد.
وعنه أيضاً: يسجد ولو طال الفصل أو تكلّم أو خرج من المسجد وهو اختيار شيخ الإسلام كما في الاختيارات الفقهية. (الإنصاف)
وذهب بعض العلماء إلى أنه يقضي سجود السهو ولو طال الفصل.
واختاره ابن تيمية.
أ- قالوا: لأن سجود السهو جبران للصلاة فيؤتى به، ولو بعد طول الزمان، كجبران الحج.
ب- القياس على الصلاة المنسية، والصلاة المنسية تقضى ولو طال الزمن.
ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد كما في حديث ذي اليدين بعد السلام والكلام، وخروج السرعان من المسجد ودخوله صلى الله عليه وسلم منزله، ولاريب أنه أمر السرعان بما يعملون، فإما أن يكونوا عادوا وإما أن يكونوا أتموا لأنفسهم لما علموا السنة، وعلى التقديرين: فقد أتموا بعد العمل الكثير، والخروج من المسجد، وإما أن يقال: إنهم أمروا باستئناف الصلاة فهذا لم ينقله أحد، ولو أمر به لنقل، ولا ذنب لهم فيما فعلوا فلا بد من هذا السجود، أو من إعادة الصلاة.
(ومن سها مراراً كفاه سجدتان).
كأن يترك قول (سُبحان رَبِّيَ العظيم) في الرُّكوع، ويترك التشهُّدَ الأول، ويترك قول (سبحان رَبِّيَ الأعلى) في السُّجود.
فهذه ثلاثة أسباب يُوجب كلُّ واحد منها سجود السَّهو فيكفي سجدتان.
لأن الواجب هنا من جنس واحد، فدخل بعضُه في بعضٍ، كما لو أحدث ببول، وغائط، وريح، وأكل لحم إبل، فإنه يكفيه وُضوء واحد.
قال ابن قدامة: إذَا سَهَا سَهْوَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ جِنْسٍ، كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِلْجَمِيعِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ السَّهْوُ مِنْ جِنْسَيْنِ، فَكَذَلِكَ.
حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَوْلًا لِأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
لقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ) وَهَذَا يَتَنَاوَلُ السَّهْوَ فِي مَوْضِعَيْنِ.
ولِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَهَا فَسَلَّمَ، وَتَكَلَّمَ بَعْدَ صَلَاتِهِ فَسَجَدَ لَهُمَا سُجُودًا وَاحِدًا.
وَلِأَنَّ السُّجُودَ أُخِّرَ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، لِيَجْمَعَ السَّهْوَ كُلَّهُ وَإِلَّا فَعَلَهُ عَقِيبَ سَبَبِهِ.
وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِلْجَبْرِ فَجَبَرَ نَقْصَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَثُرَ، بِدَلِيلِ السَّهْوِ مَرَّاتٍ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا انْجَبَرَتْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى جَابِرٍ آخَرَ فَنَقُولُ: سَهْوَانِ، فَأَجْزَأَ عَنْهُمَا سُجُودٌ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا:
فَإِنَّ مَعْنَى الْجِنْسَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ، وَالْآخَرُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ مَحِلَّيْهِمَا مُخْتَلِفَانِ، وَكَذَلِكَ سَبَبَاهُمَا وَأَحْكَامُهُمَا.
فَعَلَى هَذَا إذَا اجْتَمَعَا، سَجَدَ لَهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ وَآكَدُ، وَلِأَنَّ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ قَدْ وَجَبَ لِوُجُوبِ سَبَبِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ مَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَهْوٌ آخَرُ، وَإِذَا سَجَدَ لَهُ، سَقَطَ الثَّانِي؛ لِإِغْنَاءِ الْأَوَّلِ عَنْهُ، وَقِيَامِهِ مَقَامَه.
…
(المغني).
(وسجود السهو كسجود الصلاة).
أي: حكمهما حكم سجود الصلاة، فيقال فيهما ما يقال في سجود الصلاة، نحو (سبحان ربي الأعلى) والدعاء.
ويقال بينهما ما يقال بين سجدتي الصلاة، نحو (رب اغفر لي).
قال النووي: سُجُودُ السَّهْوِ سَجْدَتَانِ بَيْنَهُمَا جَلْسَةٌ، وَيُسَنُّ فِي هَيْئَتِهَا الافْتِرَاشُ، وَيَتَوَرَّكُ بَعْدَهُمَا إلَى أَنْ يُسَلِّمَ، وَصِفَةُ السَّجْدَتَيْنِ فِي الْهَيْئَةِ وَالذِّكْرِ صِفَةُ سَجَدَاتِ الصَّلاةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَم.
…
(المجموع).
وجاء في (الشرح الكبير) ويقول في سجود السهو ما يقول في سجود صلب الصلاة، قياساً عليه.
وجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) يقول الساجد في سجود السهو والتلاوة مثل ما يقول في سجوده في صلاته (سبحان ربي الأعلى)
والواجب في ذلك مرة واحدة، وأدنى الكمال ثلاث مرات، ويستحب الدعاء في السجود بما يسر الله من الأدعية الشرعية المهمة. انتهى.
وذكر بعض العلماء أنه يستحب أن يقال فيهما: " سُبْحَانَ مَنْ لا يَنَامُ وَلا يَسْهُو ".
قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص) لم أجد له أصلاً. انتهى.
فوائد:
فائدة 1: لا تشهد بعد سجود السهو.
لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولو فعله لبيّنه أصحابه ونقلوه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: صلوا كما رأيتموني أصلي.
قال ابن قدامة: وقال ابن سيرين، وابن المنذر (عن سجدتي السهو): فيهما تسليم بغير تشهد.
قال ابن المنذر: التسليم فيهما ثابت من غير وجهٍ، وفي ثبوت التشهد نظر.
…
(المغني).
ومن فوائد حديث ذي اليدين قال النووي: ومنها: إثبات سجود السهو، وأنه سجدتان، وأنه يكبر لكل واحدة منهما، وأنهما على هيئة سجود الصلاة لأنه أطلق السجود فلو خالف المعتاد لبينه، وأنه يسلم من سجود السهو، وأنه لا تشهد له، وأن سجود السهو في الزيادة يكون بعد السلام. (شرح مسلم).
فائدة 2: من سها في سجود السهو لم يلزمه شيء، وصحت صلاته.
قال في (الشرح الكبير) في الأمور التي لا يسجد لها: " ولا يشرع سجود السهو في صلاة الجنازة؛ لأنها لا سجود في صلبها ففي جبرها أولى، ولا سجود تلاوة؛ لأنه لو شرع كان الجبر زائداً على الأصل، ولا في سجود السهو، نصّ عليه أحمد، ولأنه إجماع حكاه إسحاق؛ لأنه يفضي إلى التسلسل. ولو سها بعد سجود السهو لم يسجد لذلك والله أعلم.
باب صلاة التطوع
صلاة التطوع: هي كل عبادة ليست واجبة.
والتطوع له فوائد:
أولاً: جبر ما يكون في المفروضة من نقص.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة الصلاة، قال: يقول ربنا عز وجل لملائكته - وهو أعلم - انظروا في صلاة عبدي، أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة، كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً، قال: انظروا، هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه) رواه أبو داود.
• هذا التكميل يشمل كل نقص في الفريضة، سواء كان نقصا في عددها أو شروطها أو واجباتها أو أركانها، أو غير ذلك.
قَالَ الْعِرَاقِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَهُ مِنَ السُّنَنِ وَالْهَيْئَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِيهَا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ فِي التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَ أَيْضًا مِنْ فُرُوضِهَا وَشُرُوطِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَا تَرَكَ مِنَ الْفَرَائِضِ رَأْسًا فَلَمْ يُصَلِّهِ فَيُعَوِّضُ عَنْهُ مِنَ التَّطَوُّعِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى يَقْبَلُ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ الصَّحِيحَةِ عِوَضًا عَنِ الصَّلَوَاتِ المفروضة.
وقال ابن الْعَرَبِيِّ: " يُحْتَمَلُ أَنْ يُكَمِّل لَهُ مَا نَقَصَ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادِهَا بِفَضْلِ التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَلُ مَا نَقَصَهُ مِنَ الْخُشُوعِ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ (ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ) وَلَيْسَ فِي الزَّكَاةِ إِلَّا فَرْضٌ أَوْ فَضْلٌ، فَكَمَا يُكَمِّلُ فَرْضَ الزَّكَاةِ بِفَضْلِهَا كَذَلِكَ الصَّلَاةُ، وَفَضْلُ اللَّهِ أَوْسَعُ وَوَعْدُهُ أَنْفَذُ وَعَزْمُهُ أَعَم.
وقال ابن رجب رحمه الله" اختلف الناس في معنى تكميل الفرائض من النوافل يوم القيامة:
فقالت طائفة: معنى ذلك أن من سها في صلاته عن شيء من فرائضها أو مندوباتها كمل ذلك من نوافله يوم القيامة، وأما من ترك شيئا
من فرائضها أو سننها عمداً، فإنه لا يكمل له من النوافل؛ لأن نية النفل لا تنوب عن نية الفرض.
وقالت طائفة: بل الحديث على ظاهره في ترك الفرائض والسنن عمداً وغير عمد.
وحمله آخرون على العامد وغيره، وهو الأظهر - إن شاء الله تعالى. (فتح الباري لابن رجب).
ثانياً: من أسباب محبة الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى:
…
لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.
ثالثاً: من أسباب دخول الجنة.
عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ (قَالَ لِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَلْ. فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي اَلْجَنَّةِ. فَقَالَ: أَوَغَيْرَ ذَلِكَ?، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ اَلسُّجُودِ) رَوَاهُ مُسْلِم.
وجاء في رواية: (عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة) رواه مسلم.
المراد بالسجود هنا صلاة التطوع، لأن السجود بغير صلاة أو لغير سبب غير مرغّب فيه على انفراده، وعبر عن الصلاة هنا بالسجود، لأن السجود من أركانها، وقد يعبّر عن الشيء بما هو من أركانها كما قال تعالى (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي: صلوا مع المصلين.
قال النووي: فيه الحث على كثرة السجود والترغيب به، والمراد به السجود في الصلاة.
رابعاً: الحصول على الأجر المترتب عليها.
خامساً: ترويض النفس على الطاعة، وتهيئتها للفرائض.
سادساً: شغل الوقت بأفضل الطاعات.
سابعاً: الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم
-.
•
والتطوع ينقسم إلى قسمين:
أولاً: تطوع مطلق، وهو الذي لم يأتِ به الشارع بحد.
مثال: صدقة التطوع، لك أن تتبرع في سبيل الله بما شئت، ولك أن تتطوع بالصلاة في الليل والنهار مثنى مثنى.
ثانياً: التطوع المقيد، وهو ما حد له حد في الشرع، مثال: سنة الفجر.
•
وقد اختلف العلماء في أفضل التطوعات على أقوال:
القول الأول: الجهاد في سبيل الله.
وهذا المذهب.
قال أحمد: لا أعلم شيئاً بعد الفرائض أفضل من الجهاد.
قال ابن تيمية: الجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن صلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دل عليه الكتاب والسنة.
للأدلة الكثيرة في فضل الجهاد:
كقوله صلى الله عليه وسلم (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها).
وغيره من الأحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم:(مثل المجاهد في سبيل الله، كالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر).
القول الثاني: العلم وتعليمه.
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك.
لنفعه المتعدي.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم). رواه الترمذي
القول الثالث: أن أفضل ما تطوع به الصلاة.
وهذا مذهب الشافعي.
لحديث ربيعة السابق.
قال ابن تيمية في رده على الرافضي بعد أن ذكر تفصيل أحمد للجهاد، والشافعي للصلاة، وأبي حنيفة ومالك للعلم: والتحقيق أنه لا بد لكل من الآخرين، وقد يكون كل واحد أفضل في حالٍ، كفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، بحسب المصلحة والحاجة.
وقال: وأفضل الجهاد والعمل الصالح ما كان أطوع للرب، وأنفع للعبد، فإذا كان يَضُرُّه ويمنعه مما هو أنفع منه لم يكن ذلك صالحاً.
وقال: ولكن خير الأعمال ما كان لله أطوع، ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين، وقد يكون أشدهما، فليس كل شديد فاضلاً، ولا كل يسير مفضولاً، بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد، فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة لا لمجرد تعذيب النفس، كالجهاد الذي قال فيه تعالى} كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَر).
وقال الشيخ ابن عثيمين: والصحيح أنه يختلف باختلاف الفاعل، وباختلاف الزمن، فقد نقول لشخص: الأفضل في حقك الجهاد، والآخر: الأفضل في حقك العلم، فإذا كان شجاعاً قوياً نشيطاً، وليس بذاك الذكي فالأفضل له الجهاد، لأنه أليق به. وإذا كان ذكياً حافظاً قوي الحجة، فالأفضل له العلم، وهذا باعتبار الفاعل.
وأما باعتبار الزمن فإننا إذا كنا في زمن تفشى فيه الجهل والبدع، وكثر من يفتي بلا علم، فالعلم أفضل من الجهاد، وإن كنا في زمن كثر فيه العلماء، واحتاجت الثغور إلى مرابطين يدافعون عن البلاد الإسلامية، فهنا الأفضل الجهاد. فإن لم يكن مرجح، لا لهذا ولا لهذا، فالأفضل العلم.
(آكدُها كسوف، ثم استسقاء، ثم تراويح، ثم وتر).
أي: أن آكد صلاة التطوع صلاة الكسوف.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها. وخرج وأمر منادياً ينادي (الصلاة جامعة).
ثم استسقاء، ثم تراويح: لأنها تسن لها الجماعة، ثم وتر.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الوتر آكد من التراويح.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به وداوم عليه، ولأن العلماء اختلفوا في وجوبه.
• قوله (آكدها كسوف) دليل على أن صلاة الكسوف سنة.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
وقد قال النووي: سنة مؤكدة بالإجماع.
لكن ذهب بعض العلماء إلى وجوبها، قال الشيخ الألباني: دعوى الاتفاق منقوضة، فقد قال أبو عوانة في صحيحه في [بيان وجوب صلاة الكسوف] ثم ساق بعض الأحاديث الصحيحة في الأمر بها كقوله: (فصلوا
…
).
قال ابن حجر: فالجمهور على أنها سنة مؤكدة، وصرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها.
قال الشيخ الألباني: وهو الأرجح دليلاً، وقال: إن القول بالسنية فقط فيه إهدار للأوامر الكثيرة التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة دون أي صارف لها عن دلالتها الأصلية ألا وهو الوجوب.
قال ابن القيم: إن القول بالوجوب قول قوي.
وهذا الصحيح أنها واجبة، لكن على الكفاية.
• قوله (وتر) دليل على أن الوتر سنة مؤكدة.
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومواظبته عليه حضراً وسفراً وحث الناس عليه.
لقول صلى الله عليه وسلم (أوتروا قبل أن تصبحوا).
وقال أبو هريرة (أوصاني خليلي بثلاث: وأن أوتر قبل أن أرقد
…
).
وذهب بعض العلماء: إلى وجوبه وهو مذهب الحنفية.
أ- لحديث أَبِي أَيُّوبَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ) رَوَاهُ اَلْأَرْبَعَةُ إِلَّا اَلتِّرْمِذِيَّ.
ب- وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَد لَيِّنٍ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِم.
وجمهور العلماء على أنه ليس بواجب واستدلوا:
أ- بحديث طلحة بن عبيد الله قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد
…
وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها: قال: لا، إلا أن تطوع) متفق عليه.
قال النووي: فيه أَنَّ صَلاة الْوِتْر لَيْسَتْ بِوَاجِبَة.
وقال الحافظ في "الفتح" فيه: أَنَّهُ لا يَجِب شَيْء مِنْ الصَّلَوَات فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة غَيْر الْخَمْس، خِلافًا لِمَنْ أَوْجَبَ الْوِتْر أَوْ رَكْعَتَيْ الْفَجْر " انتهى.
وقال الباجي في المنتقى شرح موطأ مالك: وهذا نص في أنه لا يجب من الصلوات غير الصلوات الخمس، لا وتر ولا غيره.
ب- وبحديث بعث معاذ إلى اليمن، وفيه: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة
…
).
قال الشوكاني: وهذا من أحسن ما يستدل به، لأن بعث معاذ كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بيسير.
ج- وَلحديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ (لَيْسَ اَلْوِتْرُ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ اَلْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنْ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَه.
د- ولحديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره) متفق عليه.
وهذا دليل على أن الوتر ليس بواجب، إذ لو كان واجباً لم يصله على الراحلة.
قال النووي: وأما الأحاديث التي احتجوا بها فمحمولة على الاستحباب والندب المتأكد، ولا بد من هذا التأويل للجمع بينها وبين الأحاديث التي استدللنا بها.
وهذا القول هو الصحيح.
تعريف الوتر:
الوتر اسم للواحدة المنفصلة مما قبلها وللخمس والسبع والتسع المتصلة، كالمغرب اسم للثلاث المتصلة، فإن انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالإحدى عشرة كان الوتر اسما للركعة المفصولة وحدها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ تُوتِرُ لَهُ مَا صَلَّى) فاتفق فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، وصدَّق بعضُه بعضاً. (إعلام الموقعين).
(ووقتُه من صلاة العشاء إلى الفجر).
أي: أن وقت الوتر من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن ما بين العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر.
أ- عَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمُرِ اَلنَّعَمِ " قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ? قَالَ: " اَلْوِتْرُ، مَا بَيْنَ صَلَاةِ اَلْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ اَلْفَجْرِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
ب-قال صلى الله عليه وسلم (أوتروا قبل أن تصبحوا) رواه مسلم.
ج-وقال صلى الله عليه وسلم (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة، فأوترت له ما قد صلى) رواه مسلم.
قال الشيخ ابن عثيمين: فدل على أن الوتر ينتهي وقته بطلوع الفجر، ولأنه صلاة تختم به صلاة الليل فلا تكون بعد انتهائه.
د- وقال صلى الله عليه وسلم (بَادِرُوا الصُّبْحَ بِالْوِتْر) رواه مسلم.
هـ- وقال صلى الله عليه وسلم (الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْل) رواه مسلم.
و-وقال صلى الله عليه وسلم (إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالْوِتْرُ، فَأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْر) رواه الترمذي.
ز- عن عمرو بن العاص أنه خطب الناس يوم جمعة فقال: إن أبا بصرة حدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر
…
) إسناده صحيح. وقال عنه ابن رجب: إسناده جيد.
ك- عن ابن عمر كان يقول: (من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وتراً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر) رواه أبو داود.
قال النووي: قوْله صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا خَشِيَ أَحَدكُمْ الصُّبْح صَلَّى رَكْعَة تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى).
وَفِي الْحَدِيث الْآخَر (أَوْتِرُوا قَبْل الصُّبْح).
هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ السُّنَّة جَعْل الْوِتْر آخِر صَلَاة اللَّيْل، وَعَلَى أَنَّ وَقْته يَخْرُج بِطُلُوعِ الْفَجْر، وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقِيلَ: يَمْتَدّ بَعْد الْفَجْر حَتَّى يُصَلِّي الْفَرْض.
…
(شرح مسلم).
• اختلف العلماء: لو جمعت العشاء مع المغرب، متى يصلي الوتر على قولين:
القول الأول: يصليه بعد العشاء ولو جمعت جمع تقديم.
وهذا مذهب الحنابلة والشافعية ورجحه ابن حزم.
وقيل: لا يدخل إلا بعد وقت العشاء.
والراجح الأول.
• أما قبل صلاة العشاء فلا يصح الوتر على القول الراجح.
(وأقلهُ ركعةٌ).
أي: أقل الوتر ركعة واحدة، لأنه يحصل بها الوتر.
أ- لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (الوتر ركعة من آخر الليل) رواه مسلم.
ب- وعنه (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق عليه.
• قوله (الوتر ركعة) هذا إذا كانت مفصولة، فأما إذا اتصلت بغيرها كما لو أوتر بخمس أو سبع أو تسع فالجميع وتر كما ثبت بالأحاديث الصحيحة.
• قوله (أقله ركعة) دليل على أنه لا يكره أن يوتر بركعة.
وهذا مذهب الجمهور.
أ- لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا خفت الصبح فأوتِر بركعة) رواه مسلم.
ب- لحديث أبي أيوب قال: قال صلى الله عليه وسلم (الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ..... ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل) رواه أبو داود.
ج- وعَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ) رواه مسلم.
قال النووي: قَوْلها (وَيُوتِر مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ) دَلِيل عَلَى أَنَّ أَقَلّ الْوِتْر رَكْعَة، وَأَنَّ الرَّكْعَة الْفَرْدَة صَلَاة صَحِيحَة، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَصِحّ الْإِيتَار بِوَاحِدَةٍ وَلَا تَكُون الرَّكْعَة الْوَاحِدَة صَلَاة قَطُّ، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة تَرُدّ عَلَيْهِ. (شرح مسلم).
واستدل من قال بالكراهة:
بحديث أبي سعيد رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها)
لكن في الاحتجاج بهذا الحديث نظر، لأنه حديث ضعيف.
قال ابن حزم رحمه الله: لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَهْيٌ عَنْ الْبُتَيْرَاء.
• ما الجواب عن حديث عائشة (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس).
وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة:
فقيل: فعل ذلك بياناً لجواز الصلاة بعد الوتر.
ورجح هذا النووي، وقال: الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما صلى الله عليه وسلم بعد الوتر جالساً لبيان جواز الصلاة بعد الوتر، وبيان جواز النفل جالساً، ولم يواظب على ذلك، بل فعله مرة أو مرتين أو مرات قليلة،
…
ثم قال: وإنما تأولنا حديث الركعتين جالساً، لأن الروايات المشهورة في الصحيحين وغيرهما عن عائشة، مع روايات خلائق من الصحابة في الصحيحين، مصرحة بأن آخر صلاته صلى الله عليه وسلم في الليل كان وتراً
…
فكيف يظن به صلى الله عليه وسلم مع هذه الأحاديث وأشباهها أنه يداوم على ركعتين بعد الوتر ويجعلهما آخر صلاة الليل.
وذهب بعض العلماء إلى العمل بالحديث، وجعلوا الأمر في قوله:(اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً) مختصاً بمن أوتر آخر الليل.
وأنكر مالك هاتين الركعتين.
وقال ابن القيم: إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة، وتكميل الوتر، فإن الوتر عبادة مستقلة، ولا سيما إن قيل بوجوبه، فتجري الركعتان بعده مجرى سنة المغرب، فإنها وتر النهار، والركعتان بعدها تكميل لها، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل.
(وأكثره: إحدى عشرة ركعة).
أي: أكثر الوتر إحدى عشرة ركعة.
لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (مَا كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) متفق عليه.
(مثنى مثنى).
أي: يصليها اثنتين اثنتين.
أ- لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (صلاة الليل مثنى مثنى) متفق عليه.
ب- ولحديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة) رواه مسلم.
(ويوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها، وبتسعٍ يجلس عقب الثامنة ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ويسلم).
أي: يجوز الوتر بواحدة، وبثلاث، وبخمس، وبسبع، وبتسع.
• الإيتار بثلاث.
إن أوتر بثلاث فله صفتان كلتاهما مشروعة:
الأولى: أن يسرد الثلاث بتشهد واحد.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسلّم في ركعتي الوتر "، وفي لفظ " كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن) رواه النسائي والبيهقي.
قال النووي في المجموع: رواه النسائي بإسناد حسن، والبيهقي بإسناد صحيح. اهـ.
ثانية: أن يسلّم من ركعتين ثم يوتر بواحدة.
لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك)
رواه ابن حبان.
قال ابن حجر في الفتح: إسناده قوي. اهـ.
قال الشيخ الألباني: أما صلاة الثلاث بقعود بين كل ركعتين بدون تسليم، فلم نجده ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل الجواز، لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الإيتار بثلاث، وعلل ذلك بقوله (ولا تشبهوا بصلاة المغرب) رواه الدار قطني
فحينئذ لا بد لمن صلى الوتر ثلاثاً الخروج عن هذه المشابهة، وذلك يكون بوجهين:
الأول: التسليم بين الشفع والوتر، وهو الأقوى والأفضل.
الثاني: أن لا يقعد بين الشفع والوتر.
• الإيتار بخمس.
صفتها: أن يسردها سرداً لا يجلس إلا في آخرها.
لحديث عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ فِي آخِرِهَا) رواه مسلم.
• الإيتار بسبع.
صفتها: أيضاً يسردها سرداً لا يجلس إلا في آخرها.
لحديث عائشة قالت (
…
فَلَمَّا أَسَنَّ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ اللَّحْمَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الأَوَّلِ) رواه مسلم.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس وبسبع ولا يفصل بينهن بسلام ولا كلام) رواه أحمد النسائي.
قال النووي: سنده جيد.
• الإيتار بتسع.
صفتها: أن يسردها سرداً، لكن يتشهد بعد الثامنة ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويسلم.
لحديث عائشة قالت (
…
كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلاَّ فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّى التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) رواه مسلم.
• الإيتار بإحدى عشرة ركعة.
صفتها: يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة.
(وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين، يقرأ في الأولى (سبح) وفي الثانية (الكافرون) وفي الثالثة (الإخلاص).
أي: أدنى الكمال في الوتر أن يصلي ركعتين ويسلم، ثم يأتي بواحدة ويسلم.
وتقدم الصفة الثانية.
ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة (سبح) وفي الثانية بعد الفاتحة (الكافرون) وفي الثالثة بعد الفاتحة (الإخلاص).
لحديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِـ "سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى"، و: "قُلْ يَا أَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ"، و: "قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. وَزَاد (وَلَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ).
ففي هذا الحديث: أن السنة أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة [الأعلى] وفي الثانية [الكافرون] وفي الثالثة [قل هو الله أحد].
واستحب الإمام مالك والشافعي، قراءة المعوذتين بعد الإخلاص.
لحديث عائشة عند أبي داود وفيه (كُلَّ سُورَةٍ فِي رَكْعَةٍ، وَفِي اَلْأَخِيرَةِ: "قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ"، وَالْمُعَوِّذَتَيْن).
لكنه ضعيف، ففيه انقطاع، فإن جريج لم يسمع من عائشة. [قاله أحمد وجماعة].
والراوي خصيف بن عبد الرحمن سيء الحفظ.
ولذا قال العقيلي: أما المعوذتين فلا تصح.
• ويسن أن يقول بعد الوتر: سبحان الملك القدوس ثلاثاً، ويرفع صوته بالثالثة.
لحديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، كَانَ يَقْرَأُ فِي الأُولَى بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِذَا فَرَغَ، قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ) رواه النسائي.
وروى الدارقطني زيادة بعدها وهي (رب الملائكة والروح) وإسنادها ضعيف.
قال النووي: يستحب أن يقول بعد الوتر ثلاث مرات: سبحان الملك القدوس.
…
(المجموع).
وقال ابن قدامة: يستحب أن يقول بعد وتره: سبحان الملك القدوس. ثلاثا، ويمد صوته بها في الثالثة.
(ويقنت فيها بعد الركوع).
أي: ويقنت (فيها) أي: في الثالثة بعد الركوع.
والمراد بقنوت الوتر: هو الدعاء الذي يدعو به المصلي في آخر ركعة من صلاة الليل (الوتر).
وقد اختلف العلماء في دعاء القنوت في الوتر (المقصود الدعاء عقب الركوع أو قبله في صلاة الوتر) على أقوال:
القول الأول: أن القنوت في الوتر مسنون في جميع السنة.
وهذا قول الشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة
أ- لحديث أبيّ بن كعب (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع) رواه النسائي.
ب- ولحديث علي (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) رواه أبو داود.
وجه الاستدلال: أن استعمال لفظ (كان) يدل على مداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ج- ولحديث الحسن الآتي إن شاء الله (عَلَّمَنِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ اَلْوِتْرِ).
وجه الدلالة: أن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الحسن هذا الدعاء ليقوله في الوتر، دليل على استحبابه في جميع العام.
د-قال ابن قدامة: لأنه وتر، فيشرع فيه القنوت.
القول الثاني: أنه لا يشرع مطلقاً.
وهذا المشهور عن المالكية، وهو رواية عن ابن عمر.
قالوا: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر، وإذا لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام فهذا دليل على أنه لا يستحب مطلقاً.
القول الثالث: أنه يستحب القنوت في الوتر في النصف الأخير من رمضان خاصة
القول الرابع: أنه سنة يفعل أحياناً ويترك أحياناً.
قال الشيخ الألباني: وإنما قلنا أحياناً لأن الصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان يفعله دائماً نقلوه جميعاً.
قال الشيخ العلوان عن قول من قال بالاستحباب مطلقاً طول السنة قال: وفي هذا نظر من وجهين:
الوجه الأول: أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في هذا الباب قاله أحمد وغيره، واستحباب المواظبة على أمر لم يثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه نظر.
وقد جاءت أحاديث كثيرة تصف وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في شيء منها أنه قنت في الوتر، ولاسيما أن هذه الأحاديث من رواية الملازمين له كعائشة رضي الله عنها. فلو كان يقنت كل السنة أو معظمها أو علم أحداً هذا لنقل ذلك إلينا.
الوجه الثاني: أن عمدة القائلين باستحباب القنوت في السنة كلها هو حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت) رواه أحمد وأهل السنن من طريق أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن به.
ورواه أحمد من طريق يونس بن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء بمثله. و إسناده جيد، إلاّ أن زيادة (قنوت الوتر) شاذة.
فقد رواه أحمد في مسنده عن يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني بريد بن أبي مريم بلفظ (كان يعلمنا هذا الدعاء، اللهم اهدني فيمن هديت
…
) وهذا هو المحفوظ لأن شعبة أوثق من كل من رواه عن بريد فتقدم روايته على غيره ومَن قَبل تفرّد الثقة عن أقرانه الذين هم أوثق منه بدون قيود ولا ضوابط فقد غلط، ومن أدّعى قبول زيادة الثقة إذا لم تخالف روايته ما رواه الآخرون فقد أخطأ. فأئمة الحديث العالمون بعلله وغوامضه لا يقبلون الزيادة مطلقاً كقول الأصوليين وأكثر الفقهاء، ولا يردونها بدون قيد ولا ضابط، بل يحكمون على كل زيادة بما يقتضيه المقام وهذا الصواب في هذه المسألة، وبيان وجهه له مكان آخر، فالمقصود هنا ترجيح رواية شعبة على روايتي أبي إسحاق ويونس.
وبعد تحرير هذا وقفت على كلام لابن خزيمة رحمه الله يؤيد ما ذهبت إليه، قال:
(وهذا الخبر رواه شعبة بن الحجاج عن بريد بن أبي مريم في قصة الدعاء، ولم يذكر القنوت ولا الوتر. قال: وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق، وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو دلسه عنه. اللهم إلاّ أن يكون كما يدعي بعض علمائنا أن كل ما رواه يونس عن من روى عنه أبوه أبو إسحاق هو مما سمعه يونس مع أبيه ممن روى عنه. ولو ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالقنوت في الوتر أو قنت في الوتر لم يجز عندي مخالفة خبر النبي صلى الله عليه وسلم ولست أعلمه ثابتاً.
وقد تقدم قول الإمام أحمد (لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء).
ولكن ثبت القنوت عن الصحابة رضي الله عنهم على خلاف بينهم، هل يقنت في السنة كلها أم لا، والحق فيه أنه مستحب في بعض الأحيان، والأولى أن يكون الترك أكثر من الفعل، وما يفعله بعض الأئمة من المثابرة عليه فغلط مخالف للسنة. (قاله الشيخ العلوان)
• قوله (بعد الركوع) ويجوز قبل الركوع.
قال ابن تيمية: وَأَمَّا الْقُنُوتُ: فَالنَّاسُ فِيهِ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ: مِنْهُمْ مَنْ لا يَرَى الْقُنُوتَ إلا قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لا يَرَاهُ إلا بَعْدَهُ. وَأَمَّا فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَيُجَوِّزُونَ كِلا الأَمْرَيْنِ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهِمَا. وَإِنْ اخْتَارُوا الْقُنُوتَ بَعْدَهُ; لأَنَّهُ أَكْثَرُ وَأَقْيَسُ اهـ.
• ويرفع يديه وقد صح عن عمر رضي الله عنه كما أخرجه البيهقي وصححه.
(ويقول ما ورد).
عَنْ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما; قَالَ (عَلَّمَنِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ اَلْوِتْرِ: " اَللَّهُمَّ اِهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا يَزِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ.
وَزَادَ اَلطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: (وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ).
زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي آخِرِهِ: (وَصَلَّى اَللَّهُ عَلَى اَلنَّبِيِّ).
وهذا الحديث حديث صحيح، لكن لفظة (قُنُوتِ اَلْوِتْرِ) شاذة لا تصح.
(قنوت الوتر) أي: صلاة الوتر التي يصليها الإنسان لوحده.
(اللهم اهدني) أي: دلني على الحق ووفقني لسلوكه.
(فيمن هديت) هذا من باب التوسل بنعم الله على من هداه أن ينعم علي أنا أيضاً بالهداية.
(وعافني فيمن عافيت) أي: من الأمراض القلبية والجسدية.
(وتولني) أي: كن ولياً لنا، والمراد أريد الولاية الخاصة التي مقتضاها التأييد والنصر.
(وبارك لي) البركة هي الخير الكثير.
(فيما أعطيت) أي: من المال والولد والعلم وكل شيء
(وقني شر ما قضيت) الله يقضي بالخير والشر، ففي الشر اللهم قني شر الذي قضيته، والله يقضي بالشر لحكمة بالغة حميدة.
(إنك تقضي) أي: إن الله يقضي على كل أحد، لأن له الحكم التام الشامل.
(ولا يقضى عليك) فلا يقضي عليه أحد.
(إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت) هذا كالتعليل لما سبق من قولنا {وتولنا فيمن توليت} فإذا تولى الله سبحانه الإنسان فإنه لا يذل، وإذا عادى الله الإنسان فإنه لا يعز.
(ويمسح وجهه بيديه).
أي: يسن بعد رفع يديه في الدعاء أن يمسح وجهه بهما.
لورود بعض الأحاديث.
أ- عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قال (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ فِي اَلدُّعَاءِ، لَمْ يَرُدَّهُمَا، حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.
ب- وعن ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَسْتُرُوا الْجُدُرَ مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ، سَلُوا اللَّهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ، وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا، فَإِذَا فَرَغْتُمْ، فَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُم) رواه أبو داود.
وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة لكن يقوي بعضها بعضاً.
وقد صحح بعض أئمة العلم في الحديث بعضها، وبعضهم حسنها، مثل الحافظ ابن حجر والسيوطي والأمير الصنعاني وغيرهم.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع مسح الوجه باليدين بعد الدعاء.
وهذا القول هو الصحيح.
لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه في مواضع كثيرة ولم ينقل أنه مسح وجهه بعد الدعاء.
قال ابن تيمية: وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء: فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان، لا تقوم بهما حُجة.
وقال العز بن عبد السلام: ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل. (فتاوى العز بن عبد السلام).
وقال النَّوويُّ في "المجموع:
…
لا يَمسَحُ؛ وهذا هو الصَّحيحُ صحَّحه البيهقيُّ والرافعيُّ وآخَرون من المحقِّقين
…
والحاصِلُ لأصحابِنَا ثلاثةُ أوْجُه: (الصحيح) يُسْتَحَبُّ رَفْعُ يديْهِ دونَ مَسْحِ الوَجْه.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين: مسح الوجه باليدين بعد الدعاء الأقرب أنه غير مشروع؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنها لا تقوم بها الحجة، وإذا لم نتأكد أو يغلب على ظننا أن هذا الشيء مشروع فإن الأولى تركه؛ لأن الشرع لا يثبت بمجرد الظن إلا إذا كان الظن غالباً.
فالذي أرى في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء أنه ليس بسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف دعا في خطبة الجمعة بالاستسقاء ورفع يديه، ولم يرد أنه مسح بهما وجهه، وكذلك في عدة أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا ورفع يديه ولم يثبت أنه مسح وجهه " انتهى.
وقال الألباني بعد ما ضعَّف حديثَيِ المسْحِ، وبيَّن أنَّهما لا يتقوَّيان بِمَجموع طُرُقِهما؛ لشِدَّة الضَّعف الذي في الطُّرق: "ومِمَّا يؤيِّدُ عدمَ مشروعيَّتِه: أنَّ رفْعَ اليدَيْنِ في الدُّعاء قد جاء فيه أحاديثَ كثيرة صحيحةٍ وليس في شيءٍ مِنْهَا مسحُهُما بالوَجْهِ، فذلِكَ يدلُّ -إن شاءَ
اللهِ- على نَكارَتِه، وعدَمِ مشروعيَّتِه.
(والأفضل أن يكونَ وتره آخرَ الليل إلا أن يخاف عدم القيام).
أي: أن الأفضل أن يكون الوتر آخر الليل.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) رواه مسلم.
ب- وعن عائشة قَالَتْ (مِنْ كُلِّ اَللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى اَلسَّحَرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ج- وعن جَابِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اَللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اَللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اَللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فهذا الحديث يدل على أن الوتر يجوز أول الليل، ويجوز آخر الليل، وأما الأفضل فله حالتان:
الأولى: أن من يخشى أن لا يقوم من آخر الليل فالأفضل له أن يوتر أوله.
الثانية: من طمع أن يقوم آخر الليل، فالأفضل أن يجعله آخر الليل.
قال النووي: أنه يجوز الوتر من أول الليل، ويجوز وسطه، ويجوز في آخره، فالليل كله وقت للوتر.
لكن الأفضل آخر الليل لمن طمع أن يقوم لأنه آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: وهذا هو الصواب، ويُحمل باقي الأحاديث المطلقة على هذا التفضيل الصحيح الصريح، فمن ذلك حديث:(أوصاني خليلي أن لا أنام إلا على وتر). وهو محمول على من لا يثق بالاستيقاظ.
• الوتر لمن طمع أن يقوم آخر الليل أفضل لأمور:
أولاً: لأن صلاة آخر الليل مشهودة، تشهدها الملائكة.
ثانياً: أن الصلاة في آخر الليل هي وقت النزول الإلهي وإجابة الدعاء
ثالثاً: ولأن الوتر آخر الليل هو التهجد الذي ذكره الله تعالى في كتابه الكريم كما قال تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)، قال ابن كثير: التهجد: ما كان بعد نوم.
وقال تعالى (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) وناشئة الليل: قيام الليل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ناشئة الليل عند أكثر العلماء، هو إذا قام الرجل بعد نوم، وليس هو أول الليل، وهذا هو الصواب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يفعل.
• الصحابة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يوتروا قبل النوم؟
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة كما في الصحيحين، وسيأتي الحديث إن شاء الله.
وأبي الدرداء كما عند مسلم، وسيأتي الحديث إن شاء الله.
وأبي ذر كما عند النسائي.
فائدة 1: حديث طَلْق بْنِ عَلِي رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ) رَوَاهُ أبو داود.
حديث حسن، حسنه الترمذي والحافظ ابن حجر.
وهذا الحديث فيه أن الوتر لا يتكرر، وأن من أوتر فإنه لا يعيد وتره مرة أخرى، ولا ينقض وتره.
وإلى ذلك ذهب أكثر العلماء.
وقالوا: أن من أوتر وأراد الصلاة بعد ذلك لا ينقض وتره ويصلي شفعاً شفعاً.
وذهب بعض العلماء: إلى نقض الوتر.
وقالوا: يضيف إليها أخرى ويصلي ما بدا له، ثم يوتر في آخره.
واستدلوا بما جاء عن ابن عمر (أنه كان إذا سئل عن الوتر، قال: أما أنا فلوا أوترت قبل أن أنام، ثم أردت أن أصلي الليل، شفعت
بواحدة ما ينقض وتري، ثم صليت مثنى مثنى، فإذا قضيت صلاتي أوترت بواحدة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نجعل آخر صلاة الليل الوتر) رواه أحمد.
والأول هو الصحيح، ويدل عليه:
أ- حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد وتره ركعتين.
ب- وبحديث أم سلمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركع ركعتين بعد الوتر). رواه الترمذي
• من أراد أن يصلي مع الإمام حتى تنتهي صلاته، تحصيلاً لفضيلة قوله صلى الله عليه وسلم:(من قام مع الإمام حتى ينصرف، فكأنما قام ليلة) وأراد أن يحصل على فضيلة الوتر آخر الليل، فإنه إذا سلم الإمام قام وأتى بركعة تشفع له صلاته مع الإمام.
فائدة 2: حكم من نام عن وتره أو نسيه:
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: يصليه بعد طلوع الفجر، وقبل صلاة الصبح.
لحديث أبي سعيد. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَامَ عَنْ اَلْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ) رَوَاه أبو داود.
وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول الإمام مالك.
القول الثاني: يقضيه شفعاً نهاراً.
لحديث عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غليه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) رواه مسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل إحدى عشرة ركعة.
القول الثالث: يقضيه نهاراً وتراً.
وبه قال طاووس، ومجاهد، والشعبي.
لحديث أبي سعيد السابق.
ولأن القضاء يحكي الأداء.
القول الرابع: يقضيه إذا تركه نوماً أو نسياناً إذا استيقظ أو إذا ذكر في أي وقت كان، ليلاً أو نهاراً.
وهذا قول الشافعية، والحنابلة.
أ- لظاهر حديث أبي سعيد السابق (مَنْ نَامَ عَنْ اَلْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ).
ب- ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فهذا عام يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب.
وهذا مذهب ابن حزم. وهو الراجح.
•
حكم من ترك الوتر عمداً:
في حديث أبي سعيد السابق تقييد القضاء فيمن نام عن وتره أو نسيه، فمفهومه أن المتعمد لا يقضيه، وهذا هو الحق، ورجحه ابن حزم.
وقد روى ابن خزيمة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أدركه الصبح ولم يوتر، فلا وتر له).
وأصل الحديث في صحيح مسلم بدون هذا الفظ، وهو محمول على التعمد دون النوم والنسيان في أصح أقوال العلماء.
(ويُكرهُ قُنوتُه في غير الوتر).
أي: يكره القنوت في أي صلاة من الصلوات إلا الوتر.
وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم.
عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقِ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ! إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلَيَّ
، أَفَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي اَلْفَجْرِ? قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، إِلَّا أَبَا دَاوُدَ.
قوله (أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ) أي: إن القنوت في الفجر بدعة، والمراد الدوام عليه من غير سبب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا الخلفاء الراشدون.
والنبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على حيٍّ من أحياء العرب ثم تركه، كما سيأتي إن شاء الله.
وذهب بعض العلماء: إلى استحباب القنوت في صلاة الصبح.
وهو مذهب الشافعي.
لحديث أنس. قال (ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا) رواه أحمد وهو حديث لا يصح.
والراجح أنه لا يشرع القنوت في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة كما سيأتي إن شاء الله.
(إلا أنْ تنزلَ بالمسلمين نازلة فَيقنُتُ الإمام في الفرائض).
أي: أن يشرع القنوت إذا نزل بالمسلمين نازلة.
أ- لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ اَلرُّكُوعِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ اَلْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ب- وَعَنْهُ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَقْنُتُ إِلَّا إِذَا دَعَا لِقَوْمٍ، أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ) صَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ.
ج- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ (قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَه). رواه أبو داود، وصححه ابن القيم
د- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقِ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ! إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلَيَّ، أَفَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي اَلْفَجْرِ? قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، إِلَّا أَبَا دَاوُدَ.
فهذه الأحاديث تدل على مشروعية الدعاء والقنوت في الفرائض إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
وهذا مذهب أحمد وجماعة.
لهذه الأحاديث، فهي واضحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لنازلة ثم تركه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يشرع دائماً وخاصة في الفجر.
هذا مذهب الشافعي.
لحديث (أما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا).
• اختلف العلماء القائلون بمشروعية القنوت في النوازل فيمن يشرع له القنوت عند النوازل على قولين:
القول الأول: أن القنوت للنازلة إنما يشرع للإمام الأعظم دون غيره من آحاد الناس.
وهذا قول الحنفية والمشهور عند الحنابلة.
وهو المذهب.
أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت لم يقنت أحد سواه من مساجد المدينة.
ب- والنبي صلى الله عليه وسلم قنت بأصحابه عند حدوث النازلة ولم يأمرهم بالقنوت في حال الانفراد.
القول الثاني: أن القنوت للنازلة مشروع لكل مصل.
وهذا مذهب الشافعية، وهو اختيار ابن تيمية.
أ- لحديث مالك بن الحويرث في قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أن القنوت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة للنازلة، فيشرع لآحاد الناس اقتداء به في ذلك.
ب- أن ذلك إنما استحب لحادث يخاف ضرره، فلم يختص به الإمام، كما لم يختص بصلاة الاستسقاء والزلازل.
وهذا القول هو الراجح.
•
في أي الصلوات يكون القنوت؟
يقنت في جميع الصلوات، لأن ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
القنوت في جميع الصلوات:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة) رواه أبو داود.
القنوت في الظهر والعشاء والفجر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لأقربن بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار) متفق عليه.
القنوت في صلاة المغرب والفجر:
عن البراء رضي الله عنه قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة المغرب والفجر) رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان القنوت في المغرب والفجر) رواه البخاري.
القنوت في الفجر:
عن أنس رضي الله عنه قال: (
…
فذكر حديث القراء الذين قتلوا، ثم قال: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهراً في صلاة الغداة) رواه البخاري
وعن ابن عمر (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأخيرة من الفجر) رواه البخاري.
هذا وقد اضطربت أقوال العلماء في تعيين الصلاة التي يقنت فيها:
فمنهم من قال: إنه منسوخ.
ومنهم من قال: إلا في المغرب والفجر.
وذهب آخرون: إلى أنه منسوخ إلا الفجر فقط.
والصواب أنه مشروع في الصلوات كلها.
قال النووي: الصَّحِيح فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهَا إنْ نَزَلَتْ (يعني النازلة) قَنَتَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَات. (المجموع).
وقال ابن تيمية: يُشْرَعُ أَنْ يَقْنُتَ عِنْدَ النَّوَازِلِ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَدْعُو عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْفَجْرِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَات.
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في النوازل، يدعو على المعتدين من الكفار ويدعو للمستضعفين من المسلمين بالخلاص والنجاة من كيد الكافرين وأسرهم، ثم ترك ذلك ولم يخص بالقنوت فرضا دون فرض" انتهى
وقال الشيخ ابن باز: قنوت النوازل سنة مؤكدة في جميع الصلوات، وهو الدعاء على الظالم بأن يخزيه الله ويذله ويهزم جمعه ويشتت شمله، وينصر المسلمين عليه.
وقال الشيخ ابن عثيمين: القنوت في النوازل مشروع في جميع الصلوات كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس خاصاً بصلاة الفجر والمغرب، وليس خاصاً بليلة أو يوم معين من الأسبوع، بل هو عام في كل أيام الأسبوع. (نور على الدرب).
• استثنى بعض العلماء صلاة الجمعة، فقالوا: لا يشرع القنوت فيها، وهذا اختيار ابن تيمية.
واستدلوا بأن الأحاديث الواردة في القنوت لم تذكر صلاة الجمعة ضمن الصلوات التي قنت فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فيقتصر على الوارد.
وأيضاً يستغنى بالدعاء في الخطبة عن القنوت في الصلاة لتحصيل المقصود في موضع يشرع فيه الدعاء.
فعن طاوس ومكحول والنخعي أنه بدعة.
وأنكره عطاء والحسن وقتادة.
وعن الإمام مالك رحمه الله أنه سأل ابن شهاب عن القنوت يوم الجمعة فقال: محدث. (الاستذكار).
وعنه أيضا قال: كان الناس في زمن بني أمية يقنتون في الجمعة، وما ذلك بصواب. (الاستذكار).
وقال المرداوي: " وَعَنْهُ - يعني الإمام أحمد - يَقْنُتُ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ خَلَا الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ اخْتَارَهُ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ [ابن تيمية]، وَقِيلَ: يَقْنُتُ فِي الْجُمُعَةِ أَيْضًا اخْتَارَهُ الْقَاضِي" انتهى باختصار.
وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في القنوت في الجمعة، فكرهت طائفة القنوت في الجمعة، وممن كان لا يقنت في صلاة الجمعة: علي بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير، وبه قال عطاء، والزهري، وقتادة، ومالك، وسفيان الثوري، والشافعي، وإسحاق، وقال أحمد: بنو أمية كانت تقنت.
وروي عن محمد بن علي، قال: القنوت في الفجر، والجمعة، والعيدين، وكل صلاة يجهر فيها بالقراءة. قال ابن المنذر: بالقول الأول أقول. (الأوسط).
• متى يكون القنوت؟
يشرع في آخر ركعة من الصلاة بعد الركوع وقبله.
وأكثر الأحاديث وأقواها على أنه بعده.
أحاديث قنوته بعد الركوع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لأقربن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده).
وعن محمد بن سيرين قال: (سئل أنس: أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قال: نعم. فقيل: أقنت قبل الركوع أو بعد الركوع؟ قال: بعد الركوع بيسير). رواه البخاري
قوله: (بعد الركوع بيسير):
قيل: أي قنت أياماً يسيره بعد الركوع، وهي شهر كما في الروايات.
وقيل: أي قنت بعد الركوع يسيراً، وقبل الركوع كثيراً.
أحاديث قنوته قبل الركوع:
عن أنس رضي الله عنه وقد سئل عن القنوت بعد الركوع أو عند فراغه من القراءة؟ قال: (بل عند الفراغ من القراءة). رواه البخاري
• يشرع القنوت مدة النازلة إن كانت ذات وقت.
قال الشيخ ابن عثيمين: قنوت النوازل ليس هو قنوت الوتر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وهو (اللهم اهدنا فيمن هديت)، فإن هذا لا يشرع في قنوت النوازل لأن الوارد عن النبي عليه السلام في قنوت النوازل: أن يكون دعاؤه في نفس النازلة التي قنت من أجلها.
…
(فتاوى نور على الدرب).
• لا يستحب التطويل في دعاء قنوت النازلة.
أما حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أفضل الصلاة طول القنوت) رواه مسلم.
قال النووي: المراد بالقنوت هنا طول القيام باتفاق العلماء فيما علمت. أ. هـ
فليس المراد من الحديث بالقنوت: الدعاء بعد الرفع من الركوع، وإنما المراد به طول القيام.
• يجهر الإمام سواء كانت الصلاة جهرية أو سرية، ويؤمن المأموم، وترفع الأيدي فيه، ولا يمسح بها الوجه.
فالجهر، فظاهر من الأدلة السابقة، إذ لو لم يكن يجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء لما عرف بما ذا كان يدعو، ثم إن الغاية من الجهر إسماع المؤمنين وتأمينهم على دعائه صلى الله عليه وسلم ولا يتحصل ذلك إلا بالجهر.
لذلك قال الحافظ ابن حجر: وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أن السجود مظنة الإجابة
…
أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين، ومن ثم اتفقوا على أن يجهر به.
• يسن أن يدعو بالنازلة بما يناسب الحال، ولا ينبغي أن يطيل.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم نج الوليد بن الوليد، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر).
(والتراويح عشرون ركعة).
أي: ومن التطوعات صلاة التراويح، وهي سنة مؤكدة.
أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
(إِيمَانًا) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه. (وَاحْتِسَابًا) أي طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه. (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، لكن أكثر العلماء على أن المراد الصغائر [وسبقت المسألة].
قال النووي: وَالْمُرَاد بِقِيَامِ رَمَضَان صَلَاة التَّرَاوِيح، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَابهَا.
ب- عن عائشة قالت: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في شهر رمضان ومعه ناس، ثم صلى الثانية فاجتمع الناس أكثر من الأولى، فلما كانت الثالثة أو الرابعة امتلأ المسجد حتى غض بأهله، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس ينادونه فقال: أما إنه لم يخفَ علي أمركم، ولكن خشيت أن تكتب عليكم).
زاد البخاري (فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك).
قال النووي: هي سنة بالاتفاق.
وفي الحديث (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتبت له قيام ليلة).
• سميت بالتراويح:
قال ابن حجر: سميت الصلاة في جماعة في ليالي رمضان التراويح، لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين.
• وأول من جمع الناس عليها عمر.
فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ، إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ. ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ).
(أوزاع) بسكون الواو، أي: جماعة متفرقون.
قوله (فجمعهم على أبي بن كعب) أي جعله لهم إماماً، وكأنه اختاره عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) وقال عمر:(أقرؤنا أبي).
• يشرع للنساء حضورها.
وقد روى سعيد بن منصور من طريق عروة (أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء).
• قوله (عشرون) أي: ركعة.
وهذا قول الحنفية، وهو قول بعض المالكية، ومذهب الشافعية، والحنابلة.
أ- لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة غير الوتر) رواه ابن أبي شيبة.
قال البيهقي: ضعيف.
وقال الحافظ في الفتح: إسناده ضعيف.
ب- ما جاء عن السائب بن يزيد قال (كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب بعشرين ركعة) رواه البيهقي.
وذهب بعض العلماء: إلى أن عدد ركعات صلاة التراويح ست وثلاثون ركعة.
واستدلوا بأن هذا هو عمل أهل المدينة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن عدد ركعات صلاة التراويح مع الوتر إحدى عشرة ركعة.
أ- لحديث عائشة قالت (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه مسلم.
ب- وجاء عند مالك في الموطأ عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال (أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة).
وهذا القول هو الراجح.
ولكن هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم لا يدل على وجوب هذا العدد، فتجوز الزيادة، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: له أن يصلي عشرين ركعة، كما هو مشهور من مذهب أحمد والشافعي، وله أن يصلي ستاً وثلاثين، كما هو مذهب مالك، وله أن يصلي إحدى عشرة ركعة، وثلاث عشرة ركعة.
ثم استمر المسلمون، بعد ذلك يصلون صلاة التراويح كما صلاها الرسول، وكانوا يصلونها كيفما اتفق لهم، فهذا يصلي بجمع، وذاك يصلي بمفرده، حتى جمعهم عمر بن الخطاب على إمام واحد يصلي بهم التراويح، وكان ذلك أول اجتماع الناس على قارئ واحد في رمضان.
ومن الأدلة الواضحة على أن صلاة الليل ومنها صلاة التراويح غير مقيدة بعدد:
حديث ابن عمر (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلَّى).
ونظرة إلى أقوال العلماء في المذاهب المعتبرة تبين لك أن الأمر في هذا واسع، وأنه لا حرج في الزيادة على إحدى عشرة ركعة:
قال السرخسي وهو من أئمة المذهب الحنفي: فإنها عشرون ركعة سوى الوتر عندنا. (المبسوط)(2/ 145).
وقال ابن قدامة: والمختار عند أبي عبد الله (يعني الإمام أحمد) رحمه الله، فيها عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال مالك: ستة وثلاثون.
وقال النووي: صلاة التراويح سنة بإجماع العلماء، ومذهبنا أنها عشرون ركعة بعشر تسليمات وتجوز منفرداً وجماعة. "المجموع"(4/ 31)
فهذه مذاهب الأئمة الأربعة في عدد ركعات صلاة التراويح وكلهم قالوا بالزيادة على إحدى عشرة ركعة، ولعل من الأسباب التي جعلتهم يقولون بالزيادة على إحدى عشرة ركعة:
أولاً: أنهم رأوا أن حديث عائشة رضي الله عنها لا يقتضي التحديد بهذا العدد.
ثانياً: وردت الزيادة عن كثير من السلف.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة وكان يطيلها جداً حتى كان يستوعب بها عامة الليل، بل في إحدى الليالي التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح بأصحابه لم ينصرف من الصلاة إلا قبيل طلوع الفجر حتى خشي الصحابة أن يفوتهم السحور، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحبون الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستطيلونها، فرأى العلماء أن الإمام إذا أطال الصلاة إلى هذا الحد شق ذلك على المأمومين وربما أدى ذلك إلى تنفيرهم فرأوا أن الإمام يخفف من القراءة ويزيد من عدد الركعات.
والحاصل: أن من صلى إحدى عشرة ركعة على الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أحسن وأصاب السنة، ومن خفف القراءة وزاد عدد الركعات فقد أحسن، ولا إنكار على من فعل أحد الأمرين. (الإسلام سؤال وجواب).
(تُفعل في جماعة).
أي: تصلى التراويح جماعة.
فصلاة التراويح في المسجد جماعة أفضل من صلاتها في البيت.
أ- لحديث عَائِشَة رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ، فَكَثُرَ
النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ:(قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) وَذَلِكَ فِي رَمَضَان) متفق عليه.
فهذا يدل على أن صلاة التراويح في جماعة مشروعة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنه تركها خشية أن تفرض على الأمة، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم زال هذا المحذور، لاستقرار الشريعة.
ب- وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ -يعني في صلاة التراويح- حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَة) رواه الترمذي.
ج- وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ قَالَ (خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْب) رواه البخاري.
قَوْله: (أَمْثَل) أي أفضل.
قال الحافظ: " قَالَ اِبْن التِّين وَغَيْره اِسْتَنْبَطَ عُمَر ذَلِكَ مِنْ تَقْرِير النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَنْ صَلَّى مَعَهُ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، وَإِنْ كَانَ كَرِهَ ذَلِكَ لَهُمْ فَإِنَّمَا كَرِهَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَصَلَ الأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَجَحَ عِنْد عُمَر ذَلِكَ لِمَا فِي الاخْتِلاف مِنْ اِفْتِرَاق الْكَلِمَة، وَلأَنَّ الاجْتِمَاعَ عَلَى وَاحِدٍ أَنْشَطُ لِكَثِيرِ مِنْ الْمُصَلِّينَ، وَإِلَى قَوْل عُمَر جَنَحَ الْجُمْهُور. (فتح الباري).
وقال النووي: صَلاةُ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ
…
وَتَجُوزُ مُنْفَرِدًا وَجَمَاعَةً، وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ أَفْضَلُ. الثَّانِي: الانْفِرَادُ أَفْضَل.
…
(المجموع).
وقال الشيخ ابن عثيمين: وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من سن الجماعة في صلاة التراويح في المسجد، ثم تركها خوفا من أن تفرض على أمته
…
ثم ذكر الحديثين السابقين، ثم قال:
ولا ينبغي للرجل أن يتخلف عن صلاة التروايح لينال ثوابها وأجرها، ولا ينصرف حتى ينتهي الإمام منها ومن الوتر، ليحصل له أجر قيام الليل كله.
…
(مجالس شهر رمضان).
وقال الألباني: وتشرع الجماعة في قيام رمضان، بل هي أفضل من الانفراد، لإقامة النبي صلى الله عليه وسلم لها بنفسه، وبيانه لفضلها بقوله.
وإنما لم يقم بهم عليه السلام بقية الشهر خشية أن تفرض عليهم صلاة الليل في رمضان، فيعجزوا عنها كما جاء في حديث عائشة في "الصحيحين" وغيرهما. وقد زالت هذه الخشية بوفاته صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الله الشريعة، وبذلك زال المعلول، وهو ترك الجماعة في قيام رمضان، وبقي الحكم السابق، وهو مشروعية الجماعة، ولذلك أحياها عمر رضي الله عنه كما في "صحيح البخاري. (قيام الليل)
وجاء في (الموسوعة الفقهية) وَقَدْ وَاظَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى صَلاةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً، وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه هُوَ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى إمَامٍ وَاحِد.
قال النووي: وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَفْضَل صَلَاتهَا مُنْفَرِدًا فِي بَيْته أَمْ فِي جَمَاعَة فِي الْمَسْجِد؟
فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور أَصْحَابه وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَبَعْض الْمَالِكِيَّة وَغَيْرهمْ: الْأَفْضَل صَلَاتهَا جَمَاعَة كَمَا فَعَلَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَالصَّحَابَة رضي الله عنهم وَاسْتَمَرَّ عَمَل الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّعَائِر الظَّاهِرَة فَأَشْبَهَ صَلَاة الْعِيد. وَقَالَ مَالِك وَأَبُو يُوسُف وَبَعْض الشَّافِعِيَّة وَغَيْرهمْ: الْأَفْضَل فُرَادَى فِي الْبَيْت لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْته إِلَّا الْمَكْتُوبَة). (شرح مسلم)
(مع الوتر بعد العشاء في رمضان).
مفهومه أنها لا تشرع في غير رمضان، بل هي من البدع.
لكن لو صلى الإنسان جماعة في غير رمضان في بيته أحياناً جاز، إذا لم يتخذ ذلك سنة راتبة، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد صلى صلى الله عليه وسلم مع حذيفة.
عن حُذَيفَةَ بنِ اليمانِ رضي الله عنهما، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيلَةٍ فَافْتَتَحَ البقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المئَةِ، ثُمَّ مَضَى. فَقُلْتُ:
يُصَلِّي بِهَا في ركعَة فَمَضَى، فقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقرَأُ مُتَرَسِّلاً: إِذَا مَرَّ بآية فِيهَا تَسبيحٌ سَبَّحَ، وَإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ:((سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ)) فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحواً مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ:((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ)) ثُمَّ قَامَ طَويلاً قَريباً مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ:((سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى)) فَكَانَ سُجُودُهُ قَريباً مِنْ قِيَامِهِ. رواه مسلم.
وصلى مع ابن مسعود.
عن ابن مسعود رضي الله عنه، قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لَيلَةً، فَأَطَالَ القِيامَ حَتَّى هَمَمْتُ بأمْرِ سُوءٍ! قيل: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أنْ أجْلِسَ وَأَدَعَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وصلى مرة بابن عباس.
عن ابن عباس. قَالَ (بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ،
…
ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ) متفق عليه.
وصلى مع أنس.
عن أنس (أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ «قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ». قَالَ أَنَسٌ فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَف) متفق عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: صلاة التطوع في جماعة نوعان:
أحدهما: ما تسن له الجماعة الراتبة كالكسوف، والاستسقاء، وقيام رمضان، فهذا يفعل في الجماعة دائماً كما مضت به السنة.
الثاني: ما لا تسن له الجماعة الراتبة كقيام الليل، والسنن الرواتب، وصلاة الضحى، وتحية المسجد ونحو ذلك. فهذا إذا فعل جماعة أحيانا جاز، وأما الجماعة الراتبة في ذلك فغير مشروعة بل بدعة مكروهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لم يكونوا يعتادون الاجتماع للرواتب على ما دون هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تطوع في ذلك في جماعة قليلة أحياناً، فإنه كان يقوم الليل وحده، لكن لما بات ابن عباس عنده صلى معه، وليلة أخرى صلى معه حذيفة، وليلة أخرى صلى معه ابن مسعود، وكذلك صلى عند عتبان بن مالك الأنصاري في مكان يتخذه مصلى صلى معه، وكذلك صلى بأنس وأمه واليتيم. وعامة تطوعاته إنما كان يصليها منفرداً.
…
وقال الشيخ ابن عثيمين: والحاصل: أنه لا بأس أن يصلي الجماعة بعض النوافل جماعة، ولكن لا تكون هذه سنة راتبة كلما صلوا السنة صلوها جماعة؛ لأن هذا غير مشروع.
(ثُمَّ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ: رَكعَتَانِ قَبْلَ الظّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ العِشَاءِ، وركعتان قبل الفجرِ وهما آكدُهَا).
أي: بعد التراويح السنن الرواتب.
والسنن الرواتب: هي التي تُصلى قبل الفريضة أو بعدها.
وعددها: عشر.
لحديث ابن عُمَرَ، رضي الله عنهما. قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ) متفق عليه.
وفي لفظ (فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ فَصَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ).
وذهب بعض العلماء: إلى أن السنن الراتبة 12 ركعة (بزيادة ركعتين قبل الظهر فتكون أربعاً).
وهذا قول الحنفية، واختاره ابن تيمية.
أ- لحديث أُم حَبِيبَةَ. قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّى لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلاَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلاَّ بُنِىَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ). قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ فَمَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ. رواه مسلم.
وللترمذي نحوه وزاد (أَرْبَعًا قَبْلَ اَلظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ اَلْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ اَلْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ اَلْفَجْرِ).
ب-ولحديث عائشة. قالت (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ اَلظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ اَلْغَدَاةِ) رواه البخاري.
وهذا هو الصحيح.
• قوله (
…
رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ .... ) وفي حديث عائشة (كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ اَلظُّهْرِ).
قال الحافظ: وهو محمول على أن كلّ واحد منهما وصف ما رأى، قال: ويحتمل أن يكون نسي ابن عمر ركعتين من الأربع. قال الحافظ رحمه الله: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يُحْمَل على حالين، فكان تارة يصلي ثنتين، وتارة يصلي أربعًا.
وقيل: هو محمول على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين، وفي بيته يصلي أربعًا، ويحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين، ثم يخرج إلى المسجد، فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد، دون ما في بيته، واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوّي الأول ما رواه أحمد، وأبو داود من حديث عائشة (كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا، ثم يخرج) قال أبو جعفر الطحاوي: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها.
• قوله (ورَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ) دليل على أن راتبة الظهر البعدية ركعتان.
وذهب بعض العلماء إلى أنها أربع ركعات.
لحديث أم حبيبة. قالت: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ اَلظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اَللَّهُ عَلَى اَلنَّارِ) رواه أبوداود، لكنه حديث ضعيف.
وعلى فرض صحته: فتكون هاتين الركعتين غير مؤكدتين.
• ورد الحديث في فضل السنن الرواتب، وأن من حافظ عليها بني له بيت في الجنة، وأن ذلك من أسباب دخول الجنة.
كما في حديث أم حَبِيبَة السابق (مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِىَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ).
قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.
• اختلف العلماء: هل هذا الأجر لمن فعلها بصفة دائمة، أم كل يوم له أجره؟
لفظ حديث أم حبيبة (مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ) أي: أن من صلى الرواتب الاثنتي عشرة ركعة - ولو يوماً واحداً من عمره - بنى الله له بيتاً في الجنة، وأن من حافظ عليها لأيام كثيرة كان له من البيوت في الجنة بعدد تلك الأيام التي حافظ عليها.
والأخذ بظاهر هذا اللفظ هو ما يبدو من قول عائشة رضي الله عنها (من صلى أول النهار ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة) رواه ابن أبي شيبة في (المصنف).
وكذلك هو ما يظهر من قول أبي هريرة رضي الله عنه قال (ما من عبد مسلم يصلي في يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً إلا بني له بيت في الجنة) رواه أحمد.
وهو أيضاً ما يبدو من تبويب الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه (1/ 537) على هذا الحديث بقوله:
(باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السنة ما له فيه من الفضل).
وبوب عليه ابن حبان في " صحيحه "(6/ 204) بقوله:
(ذكر بناء الله جل وعلا بيتاً في الجنة لمن صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة سوى الفريضة).
فكل هذه النقول جاءت بصيغة المطلق (في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة)، وهذا يدل على أن المحافظة على هذه الرواتب في يوم واحد فقط كاف لبناء بيت في الجنة.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل من صلاها وداوم عليها في اليوم الذي يصلى فيه يبنى له هذا البيت في الجنة، أم أنه لو صلى مثلا
ثلاثة أيام يبنى له ثلاثة بيوت، أم ماذا؟
فأجاب رحمه الله:
" مَن صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بنى الله له بيتاً في الجنة على الجميع، فإذا حافظ عليها، صار كلَّ يوم يمضي يُبنَى له بيت في الجنة " انتهى باختصار.
وقال أيضاً رحمه الله: وظاهر الحديث أنه لا تشترط المحافظة على هذه الركعات، وأن الإنسان إذا صلاها يوماً واحداً: بنى الله له بيتاً في الجنة.
وجاء حديث أم حبية بلفظ آخر (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ)
وهذا اللفظ يدل على اشتراط المحافظة على هذه الرواتب الاثنتي عشرة ركعة في كل يوم كي يثاب صاحبها عليها ببناء بيت واحد في الجنة.
بل وأصرح منه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْ السُّنَّةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ).
رواه الترمذي وقال: حديث غريب من هذا الوجه، ومغيرة بن زياد قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. وصحح الحديث الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي ".
وهو ظاهر ما يذهب إليه ابن أبي شيبة في (المصنف)(2/ 108) حيث بوب عليه بقوله:
(في ثواب من ثابر على اثني عشرة ركعة من التطوع).
والنسائي في " السنن الكبرى " حيث يقول:
(باب ثواب من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة، وذكر اختلاف ألفاظ الناقلين في ذلك). والله أعلم.
•
…
وقت السنة الراتبة:
قال ابن قدامة: كل سنة قبل الصلاة فوقتها من دخول وقتها إلى فعل الصلاة، وكل سنة بعدها فوقتها من فعل الصلاة إلى خروج وقتها.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) السنن الرواتب مقترنة بالفرائض، فمنها ما يصلى قبل الفريضة، مثل سنة الفجر وسنة الظهر القبلية، ومنها ما يصلى بعد الفريضة مثل سنة الظهر البعدية، وسنة المغرب والعشاء، والوتر وقيام رمضان.
وما كان من هذه السنن قبل الفريضة، فوقتها: يبدأ من دخول وقت الفريضة، وينتهي بإقامة الصلاة إذا كانت تؤدى في جماعة; لأنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، أما إذا كان المرء يؤدي الصلاة منفرداً فوقت السنة يستمر حتى يشرع في الفريضة.
أما السنن البعدية: مثل سنة الظهر البعدية والمغرب والعشاء، فوقت كل منها من بعد الانتهاء من الفريضة إلى خروج وقت المكتوبة ودخول وقت الأخرى.
• ما الحكم إذا فاتته سنة الظهر القبلية، فهل بعد الفريضة يبدأ بالبعدية أولاً أو الفائتة؟
قال الشيخ ابن عثيمين: إذا كان للصلاة سنتان قبلها وبعدها، وفاتته الأولى، فإنه يبدأ أولاً بالبعدية، ثم ما فاتته.
مثال: دخل والإمام يصلي الظهر - وهو لم يصلّ راتبة الظهر - فإذا انتهت الصلاة يصلي أولاً الركعتين اللتين بعد الصلاة ثم يقضي الأربع التي قبلها.
• هل هذه السنن الرواتب تفعل في السفر أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين؟
والراجح أنها لا تفعل في السفر.
أ- فعن عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ قَالَ فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ رَحْلَهُ وَجَلَسَ وَجَلَسْنَا مَعَهُ فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ حَيْثُ صَلَّى فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَالَ مَا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ قُلْتُ يُسَبِّحُونَ (أي يصلون تطوعاً) قَالَ لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا (أي مصلياً بعد الفريضة) لأَتْمَمْتُ صَلاتِي يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ
اللَّهُ وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة) رواه مسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: (وهذا من فقهه رضي الله عنه فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها لكان الإتمام أولى به.
وقال ابن حجر: ومراد ابن عمر بقوله (لو كنت مسبحاً لأتممت) يعني أنه لو كان مخيراً بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليهم.
…
(مسبحاً) المسبح هنا المتنفل.
أي: فإذا قصرت الفريضة تخفيفاً على المكلف، فترك التنفل بالرواتب من باب أولى.
ب- وكذلك يدل على مشروعية ترك السنن الرواتب:
ما صح عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ (أي في مزدلفة) كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) رواه البخاري.
ج- وما ثبت عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى بَطْنِ الْوَادِي خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئاً) رواه مسلم.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها تفعل في السفر.
وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية.
أ-لعموم الأحاديث التي تحث عليها.
كحديث ابن عمر قال (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات
…
).
وحديث أم حبيبة. قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من صلى لله ثنتي عشرة ركعة
…
).
وجه الدلالة: أن الترغيب في هذه النوافل مطلق، فيشمل الحضر والسفر.
ب- القياس على النوافل المطلقة، فكما استحب للمسافر صلاتها، فإنه يستحب له صلاة الرواتب، بجامع الترغيب الوارد في كل منهما.
والراجح الأول، وهو أنها لا تفعل في السفر.
قال الشيخ ابن عثيمين: الذي تبين لنا من السنة أن الذي يسقط في السفر ثلاثة أشياء فقط والباقي باق على ما هو عليه، والثلاث هي: سنة الظهر الراتبة، وراتبة المغرب، وراتبة العشاء، ثلاثة، والباقي افعله كما تشاء، حتى الظهر لو شئت أن تصلي تطوعاً بدون راتبة فلا بأس، إذاً: سنة الضحى مشروعة، التهجد في الليل مشروع، الوتر مشروع، سنة الفجر مشروعة، تحية المسجد مشروعة، كل النوافل باقية على أصلها إلا ثلاث، هي: راتبة الظهر، وراتبة المغرب، وراتبة العشاء، هذا الذي دلت عليه السنة.
• لكن يستثنى مما سبق: راتبة الفجر فإنها تؤدى في حال السفر كما تؤدى في حال الحضر.
قال ابن القيم: وكان من هديه في سفره الاقتصار على الفرض ولم يحفظ عنه أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر فإنه لم يكن ليدعهما حضراً ولا سفراً.
وقال رحمه الله: وكان تعاهده ومحافظته على سنة الفجر أشد من جميع النوافل ولذلك لم يكن يدعها هي والوتر سفراً وحضراً وكان في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى سنة راتبة غيرهما) زاد المعاد.
ثبت عن أبي قتادة رضي الله عن أنه قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر له فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم وملت معه فقال: انظر فقلت هذا راكب هذان راكبان هؤلاء ثلاثة حتى صرنا سبعة فقال احفظوا علينا صلاتنا يعني صلاة الفجر فضرب على آذانهم فما أيقظهم إلا حر الشمس فقاموا
فساروا هنية ثم نزلوا فتوضئوا وأذن بلال فصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر وركبوا فقال بعضهم لبعض قد فرطنا في صلاتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها) رواه مسلم.
وعن عائشة قالت (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح) متفق عليه.
• وبقية التطوعات كلها تفعل في السفر، الوتر، وقيام الليل، وصلاة الضحى والنفل المطلق.
قال النووي: اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر. ويدل لذلك:
أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ لا أَدَعُهُنَّ فِي سَفَرٍ وَلا حَضَرٍ رَكْعَتَيِ الضُّحَى وَصَوْمِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ وَأَنْ لا أَنَامَ إِلا عَلَى وِتر) رواه أبو داود.
ب- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلاةَ اللَّيْلِ إِلا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِه) رواه البخاري.
وفي رواية (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَة). متفق عليه
ج- وعن أُمَّ هَانِئ. قالت (ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ قَالَتْ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ فَقُلْتُ أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلا قَدْ أَجَرْتُهُ فُلانَ ابْنَ هُبَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ وَذَاكَ ضُحًى) متفق عليه.
(وهما آكدهما).
أي: سنة الفجر آكد هذه السنن وأفضلها.
وهذه السنة تختص بخصائص عن بقية السنن:
أولاً: هي آكد السنن.
ولذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعها لا حضراً ولا سفراً.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نام عن صلاة الفجر في السفر مع أصحابه قضى سنة الفجر.
بخلاف بقية الرواتب فإنها لا تفعل في السفر.
وعَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها قَالَتْ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) رواه مسلم.
وفي رواية (لَهُمَا أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا)
وعنها قالت: (لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) متفق عليه.
قال النووي: فِيهِ دَلِيل عَلَى عِظَم فَضْلهمَا، وَأَنَّهُمَا سُنَّة لَيْسَتَا وَاجِبَتَيْنِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ - رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى - وُجُوبهمَا. وَالصَّوَاب: عَدَم الْوُجُوب، لِقَوْلِهَا: عَلَى شَيْء مِنْ النَّوَافِل مَعَ قَوْله صلى الله عليه وسلم: (خَمْس صَلَوَات) قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ) وَقَدْ يُسْتَدَلّ بِهِ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدنَا فِي تَرْجِيح سُنَّة الصُّبْح عَلَى الْوِتْر، لَكِنْ لَا دَلَالَة فِيهِ: لِأَنَّ الْوِتْر كَانَ وَاجِبًا عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَلَا يَتَنَاوَلهُ هَذَا الْحَدِيث
ثانياً: يسن تخفيفها.
أ-لحديث عَائِشَةَ قالت (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَيُخَفِّفُ حَتَّى إِنِّي أَقُولُ هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ). متفق عليه
ب- وعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّى إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) متفق عليه.
قال النووي: وَقَدْ بَالَغَ قَوْم فَقَالُوا: لَا قِرَاءَة فِيهِمَا أَصْلًا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْقَاضِي، وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم بَعْد هَذَا أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأ فِيهِمَا بَعْد الْفَاتِحَة بِـ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). وَفِي رِوَايَة (قُولُوا آمَنَا بِاَللَّهِ) وَ (قُلْ يَا أَهْل الْكِتَاب تَعَالَوْا). وَثَبَتَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة: لَا صَلَاة إِلَّا بِقِرَاءَةٍ، وَلَا صَلَاة إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآن وَلَا تُجْزِئ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأ
فِيهَا بِالْقُرْآن. (شرح مسلم).
ثالثاً: لها قراءة خاصة.
في الركعة الأولى: الكافرون، وفي الثانية: الإخلاص -أو في الأولى (قولوا آمنا بالله) التي في البقرة، و (قل يا أهل الكتاب تعالوا).
أ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) رواه مسلم.
ب- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) وَالَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) رواه مسلم.
رابعاً: يسن الاضطجاع بعدهما.
عن عائشة قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن) رواه البخاري.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة (أي في الاضطجاع بعد سنة الفجر) على أقوال:
القول الأول: أنه مستحب.
قال العراقي: فممن كان يفعل ذلك أو يقول به من الصحابة: أبو موسى الأشعري، ورافع بن خديج، وأنس، وأبو هريرة، وممن أفتى به من التابعين: ابن سيرين، وعروة، وبقية الفقهاء السبعة، وممن قال باستحباب ذلك من الأئمة: الشافعي وأصحابه.
أ- لحديث عائشة السابق (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن).
ب- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ اَلرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ اَلصُّبْحِ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ اَلْأَيْمَنِ) رَوَاه أَبُو دَاوُد.
وقد ضعف هذا الحديث: البيهقي، وابن العربي، وابن تيمية فيما نقله عنه ابن القيم، فقد قال: هذا حديث باطل، ليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه.
القول الثاني: أنه واجب مفترض لا بد منه.
وهو قول ابن حزم.
قال ابن القيم: وأما ابن حزم ومن تابعه، فإنهم يوجبون هذه الضجعة، ويبطل ابن حزم صلاة من لم يضطجعها.
لحديث أبي هريرة السابق (إذا صلى أحدكم
…
) وسبق أنه ضعيف.
القول الثالث: أن ذلك مكروه وبدعة.
قال النووي: قال القاضي عياض: وذهب مالك وجمهور العلماء وجماعة من الصحابة إلى أنه بدعة.
القول الرابع: أنه خلاف الأولى.
القول الخامس: التفرقة بين من يقوم بالليل فيستحب له ذلك، وبين غيره فلا يشرع له.
واختاره ابن العربي، ورجحه ابن تيمية.
والراجح أنها سنة مطلقاً.
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
• ما الدليل على أنها غير واجبة؟
الدليل على أنها غير واجبة: حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى سنة الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع) رواه البخاري.
قال ابن حجر: وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب.
•
الحكمة من تخفيف سنة الفجر:
فقيل: ليبادر إلى صلاة الفجر في أول الوقت، وبه جزم القرطبي.
وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما يصنع في صلاة الليل ليدخل الفرض أو ما يشابهه بنشاط واستعداد تام.
•
ما الحكمة من هذا الاضطجاع؟
اختلف العلماء في الحكمة من هذا الاضطجاع:
فقيل: الراحة والنشاط لصلاة الفرض، وعلى هذا القول فلا يستحب إلا للمتهجد.
وقيل: أن فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح.
وقيل: البعد عن الرياء.
• هل الاضطجاع بعد سنة الفجر أم بعد الوتر؟
الاضطجاع بعد سنة الفجر كما في حديث عائشة.
وما جاء في أنه بعد الوتر فهو شاذ.
• السنة أن يفعل الاضطجاع في البيت دون المسجد.
وهذا محكي عن ابن عمر.
ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله في المسجد.
وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد. أخرجه ابن أبي شيبة.
• هل قال أحد من السلف بوجوب راتبة الفجر؟
قال ابن حجر: وهو منقول عن الحسن البصري.
لقول عائشة رضي الله عنها (
…
ولم يكن يدعهما أبداً) رواه البخاري. أي سفراً وحضراً.
وذهب الجمهور إلى أنهما غير واجبتين، لقول عائشة (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل
…
).
وقال النووي: فِيهِ دَلِيل عَلَى عِظَم فَضْلهمَا، وَأَنَّهُمَا سُنَّة لَيْسَتَا وَاجِبَتَيْنِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ - رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى - وُجُوبهمَا. وَالصَّوَاب: عَدَم الْوُجُوب:
لِقَوْلِهَا (عَلَى شَيْء مِنْ النَّوَافِل .... ).
مَعَ قَوْله صلى الله عليه وسلم (خَمْس صَلَوَات) قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ). (شرح مسلم).
• قول عائشة (
…
فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع).
قال الشوكاني: وفي تحديثه صلى الله عليه وسلم لعائشة بعد ركعتي الفجر دليل على جواز الكلام بعدهما، وإليه ذهب الجمهور، وقد رُوي عن ابن مسعود أنه كرهه، وروى ذلك الطبراني عنه، وممن كرهه من التابعين سعيد بن جبير، وعطاء، وحكيَ عن سعيد بن المسيب.
•
أيهما أفضل راتبة الفجر أم الوتر؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: الوتر.
أ-لمحافظة النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (الوتر حق).
القول الثاني: أن ركعتي الفجر أفضل.
أ-لقول عائشة (لم يدعهما أبداً).
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).
قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يصلي سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد.
فائدة: نقسم صلاة النوافل باعتبار مشروعية التخفيف وعدمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نوافل يسن فيها التخفيف، ومن ذلك
ركعتا الفجر.
وقد تقدم الدليل.
تحية المسجد، إذا كان الإمام يخطب.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء سُليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له عليه الصلاة السلام:(يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا) رواه مسلم.
استفتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ).
وثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ركعتا الطواف.
فإن المشروع فيهما قراءة خفيفة، نحو من قراءته في سنة الفجر والمغرب.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "واعلم أن المشروع في هاتين الركعتين: التخفيف، وأن يقرأ فيهما (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وأنه ليس قبلهما دعاء، وليس بعدهما دعاء.
القسم الثاني: نوافل يسن فيها التطويل.
كصلاة الكسوف، وقيام الليل.
فقد ثبت عنه عليه السلام أنه كان يطيل القراءة في صلاة الكسوف.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال (خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَة
…
) متفق عليه.
قال الشيخ المباركفوري: في الحديث دليل على مشروعية تطويل القيام بقراءة سورة طويلة في صلاة الكسوف، وهو مستحب عند الجميع.
وأما صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، فقد وصفتها عائشة رضي الله عنها في كلمتين اثنتين " الطول والحُسن.
عن عائشة قالت (مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا .. ) رواه مسلم.
قال النووي رحمه الله: وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَعَ الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بَعْده - فِي تَطْوِيل الْقِرَاءَة وَالْقِيَام - دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَغَيْره مِمَّنْ قَالَ: تَطْوِيل الْقِيَام أَفْضَل مِنْ تَكْثِير الرُّكُوع وَالسُّجُود.
القسم الثالث: نوافل لم يرد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم تخفيف ولا تطويل.
فهذا النوع من النوافل وقع فيه خلاف بين أهل العلم: هل الأفضل أن يطيل الإنسان فيها القيام، أو الأفضل أن يكثر من الركوع والسجود؟
فذهب الحنابلة رحمهم الله إلى: أن كثرة السجود والركوع أفضل من طول القيام.
أ- لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
ب- وقوله صلى الله عليه وسلم (عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة).
ج- ولأن السجود في نفسه أفضل وآكد، بدليل أنه يجب في الفرض والنفل ولا يباح بحال إلا لله تعالى، والقيام يسقط في النفل، ويباح
في غير الصلاة، للوالدين والعالم وسيد القوم، والاستكثار مما هو آكد وأفضل أولى. (كشاف القناع).
وذهب الشافعية رحمهم الله إلى: أن طول القيام أفضل من كثرة السجود والركوع.
قال النووي رحمه الله: تطويل القيام عندنا أفضل من تطويل السجود والركوع وغيرهما، وأفضل من تكثير الركعات.
وذهب بعض العلماء إلى: التفريق بين الصلاة في الليل والصلاة في النهار.
قال الشوكاني: وقال إسحاق بن راهويه: أما في النهار، فتكثير الركوع والسجود أفضل، وأما في الليل فتطويل القيام، إلا أن يكون للرجل جزء بالليل يأتي عليه، فتكثير الركوع والسجود أفضل، لأنه يقرأ جزأه، ويربح كثرة الركوع والسجود.
قال ابن عدي: إنما قال إسحاق هذا؛ لأنهم وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل بطول القيام، ولم يوصف من تطويله بالنهار ما وصف من تطويله بالليل. (نيل الأوطار).
• ومن السنن: سنة المغرب القبلية.
عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (صَلُّوا قَبْلَ اَلْمَغْرِبِ، صَلُّوا قَبْلَ اَلْمَغْرِبِ " ثُمَّ قَالَ فِي اَلثَّالِثَةِ: " لِمَنْ شَاءَ " كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا اَلنَّاسُ سُنَّةً) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
وعَنْ أَنَسٍ. قال (كُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ اَلشَّمْسِ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَرَانَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَانا) رواه مسلم.
• وهذه ليست من السنن الرواتب.
أ-لقوله (كراهية أن يتخذها الناس سنة).
ب-ولأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها.
(وفعلها في البيت أفضل).
أي: أن الأفضل في فعل النوافل (سوى ما تشرع له الجماعة) أن يكون في البيت، ويدل لذلك:
أ-عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَال (صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإنَّ أفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ المَرْءِ في بَيْتِهِ إِلاَّ المَكْتُوبَة) متفقٌ عَلَيْه.
ب-وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَال (اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ولا تتخذوها قبوراً) متفق عليه.
(مِنْ صَلَاتِكُمْ) النافلة.
قال القرطبي: (من) للتبعيض، والمراد النوافل بدليل حديث جابر (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته).
وقال النووي: مَعْنَاهُ: صَلُّوا فِيهَا وَلَا تَجْعَلُوهَا كَالْقُبُورِ مَهْجُورَة مِنْ الصَّلَاة، وَالْمُرَاد لَهُ صَلَاة النَّافِلَة، أَيْ: صَلُّوا النَّوَافِل فِي بُيُوتكُمْ، وَجَمِيع أَحَادِيث الْبَاب تَقْتَضِيه، وَلَا يَجُوزُ حَمْله عَلَى الْفَرِيضَة.
ج- وعن جابر رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَضَى أحَدُكُمْ صَلَاتَهُ في مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيباً مِنْ صَلَاتِهِ؛ فَإنَّ اللهَ جَاعِلٌ في بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْراً) رواه مسلم.
ه- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَطَوُّعِهِ فَقَالَتْ (كَانَ يُصَلِّى فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّى بِالنَّاسِ ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ يُصَلِّى بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ وَيُصَلِّى بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ .... ) رواه مسلم.
قال النووي: فيه اِسْتِحْبَاب النَّوَافِل الرَّاتِبَة فِي الْبَيْت، كَمَا يُسْتَحَبّ فِيهِ غَيْرهَا، وَلَا خِلَاف فِي هَذَا عِنْدنَا، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُور، وَسَوَاء عِنْدنَا وَعِنْدهمْ رَاتِبَة فَرَائِض النَّهَار وَاللَّيْل.
وقَالَ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف: الِاخْتِيَار فِعْلهَا فِي الْمَسْجِد كُلّهَا.
وَقَالَ مَالِك وَالثَّوْرِيُّ: الْأَفْضَل فِعْل نَوَافِل النَّهَار الرَّاتِبَة فِي الْمَسْجِد، وَرَاتِبَة اللَّيْل فِي الْبَيْت.
وَدَلِيلنَا هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَفِيهَا التَّصْرِيح بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي سُنَّة الصُّبْح وَالْجُمْعَة فِي بَيْته وَهُمَا صَلَاتَا نَهَار مَعَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:(أَفْضَل الصَّلَاة صَلَاةُ الْمَرْء فِي بَيْته إِلَّا الْمَكْتُوبَة) وَهَذَا عَامّ صَحِيح صَرِيح لَا مُعَارِض لَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْعُدُول عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم).
• يستثنى من النوافل: ما يشرع فيه التجمع، فهذه الأفضل في المسجد، كالاستسقاء، والكسوف، والعيدين.
• قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا في بيوتكم).
قال ابن حجر: ظاهره أنه يشمل جميع النوافل؛ لأن المراد بالمكتوبة: المفروضة، لكنه محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا ما لا يخص المسجد كركعتي التحية، كذا قال بعض أئمتنا.
• الحكمة في أن صلاة النافلة في البيت أفضل:
قال النووي مبيناً الحكمة: وَإِنَّمَا حَثَّ عَلَى النَّافِلَة فِي الْبَيْت لِكَوْنِهِ أَخْفَى وَأَبْعَدَ مِنْ الرِّيَاء، وَأَصْوَنُ مِنْ الْمُحْبِطَات، وَلِيَتَبَرَّك الْبَيْت بِذَلِكَ وَتَنْزِل فِيهِ الرَّحْمَة وَالْمَلَائِكَة وَيَنْفِر مِنْهُ الشَّيْطَان، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى:(فَإِنَّ اللَّه جَاعِل فِي بَيْته مِنْ صَلَاته خَيْرًا).
وقال ابن قدامة: وَالتَّطَوُّعُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ أَقْرَبُ إلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ السِّرِّ، وَفِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَانِيَةٌ وَالسِّرُّ أَفْضَلُ.
• وهذا الحكم حتى لو كان الإنسان في مكة أو المدينة، فإن الأفضل أن يصلي التطوع في بيته.
(ويُسن الفصلُ بين الفرض وسُنتهِ بقيامٍ أو كلام).
أي: يسن إذا صلى الفريضة أن لا يصلها بنافلة، بل يفصل بينهما بقيام أو كلام.
لحديث السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ (إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ، حَتَّى تُكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ: أَنْ لَا نُوصِلَ صَلَاةً بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(أَنْ لَا نُوصِلَ صَلَاةً بِصَلَاةٍ) أي: صلاة الفرض بالنفل. (حَتَّى نَتَكَلَّمَ) إما بالأذكار الشرعية، أو بمخاطبة من بجانبه. (أَوْ تَخْرُجَ) أي: تنتقل من محل الجمعة إلى محل آخر من المسجد.
فالحديث دليل مشروعية الفصل بين صلاة الجمعة ونافلتها، إما بكلام أو تحول.
وهذا الحكم ليس خاصاً بالجمعة، بل في جميع الصلوات، والأفضل الخروج إلى البيت، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة).
•
الحكمة من هذا الأمر:
أولاً: هو تمييز الفريضة عن النافلة.
فعن نافع أن ابن عمر رأى رجلاً يصلي ركعتين في مقامه، فدفعه وقال:(أتصلي الجمعة أربعاً؟).
قال ابن تيمية: وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض وغير الفرض، كما يميز بين العبادة وغير العبادة، وأيضاً فإن كثيراً من أهل البدع كالرافضة وغيرهم لا ينوون الجمعة بل ينوون الظهر، ويظهرون أنهم سلموا وما سلموا، فيصلون ظهراً، ويظن الظان أنهم يصلون السنة، فإذا فعل التمييز بين الفرض والنفل كان هذا منع لهذه البدعة.
ولهذا نظائر في الشريعة:
o كالنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين.
o والنهي عن صلاة الوتر ثلاث ركعات بتشهدين.
ثانياً: تكثير موضع العبادة.
وذكر هذه العلة الشوكاني، ونسبها للبخاري، والبغوي، لبعض العمومات القرآنية:
كقوله تعالى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِين).
وقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا).
وقد ورد أحاديث في ذلك لكنها لا تصح.
قال العلماء: أكمل التحول أن يصلي الإنسان النوافل في بيته.
قال النووي في شرحه الحديث: فِيهِ دَلِيل لِمَا قَالَهُ أَصْحَابنَا أَنَّ النَّافِلَة الرَّاتِبَة وَغَيْرهَا يُسْتَحَبّ أَنْ يَتَحَوَّل لَهَا عَنْ مَوْضِع الْفَرِيضَة إِلَى مَوْضِع آخَر، وَأَفْضَله التَّحَوُّل إِلَى بَيْته، وَإِلَّا فَمَوْضِع آخَر مِنْ الْمَسْجِد أَوْ غَيْره:
لِيَكْثُر مَوَاضِع سُجُوده، وَلِتَنْفَصِل صُورَة النَّافِلَة عَنْ صُورَة الْفَرِيضَة.
وَقَوْله: (حَتَّى نَتَكَلَّم) دَلِيل عَلَى أَنَّ الْفَصْل بَيْنهمَا يَحْصُل بِالْكَلَامِ أَيْضًا، وَلَكِنْ بِالِانْتِقَالِ أَفْضَل لِمَا ذَكَرْنَاهُ. (شرح مسلم).
• وصل النافلة بالنافلة لا بأس، وهذا الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وغيره.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يشرع الفصل حتى بين النوافل من أجل تكثير مواضع العبادة.
• ما حكم تطوع الإمام في موضع المكتوبة بعد صلاته؟
يكره تطوُّع الإِمام في موضع المكتوبة، أي: في المكان الذي صلَّى فيه المكتوبةَ.
ودليل ذلك ما يلي:
أولاً: ما رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (لا يُصَلِّ الإِمامُ في مُقَامِهِ الذي صَلَّى فيه المكتوبةَ، حتى يَتَنَحَّى عنه) ولكنه ضعيف لانقطاعه.
ثانياً: ربما إذا تطوَّعَ في موضع المكتوبة يَظنُّ مَن شاهدَه أنَّه تذكَّرَ نقصاً في صلاته؛ فيلبس على المأمومين. فلهذا يُقال له: لا تتطوّع في موضع المكتوبة، ولا سيَّما إذا باشر الفريضة، بمعنى أنَّه تطوَّع عقب الفريضة فوراً.
…
(الشرح الممتع).
• نستفيد من فعل معاوية واستدلاله بالحديث: أن الأفضل للإنسان إذا ذكر حكماً أن يذكر دليله، وفي ذلك عدة فوائد:
أولاً: أن في ذلك طمأنينة للسائل.
ثانياً: ربط الناس بالكتاب والسنة.
ثالثاً: لئلا يتهم المفتي أن هذا الكلام من اجتهاده.
رابعاً: ولأن ذلك أوقع بالنفس.
خامساً: وليكون مع السائل حجة.
(ومن فاتَه شيءٌ منها سنّ له قضاؤه).
أي: من فاته شيء من هذه الرواتب، فإنه يسن له قضاؤه.
أ-لعموم حديث أنس في قوله صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها).
وجه الدلالة: أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم (صلاة) نكرة فهي تقيد العموم، فيشمل هذا اللفظ السنَن الرَّواتب فهي داخلة في عموم هذا الحديث الآمِر بالقضاء، فإنَّ السنَن الرَّواتب لها وقت محدَّد، فلا تسقُط بفوات هذا الوقت إلى غير بدَل كالفرائض.
ب-ولحديث أبي قتادة وفيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح، فلم يستيقظ إلا والشمس في ظهره، فأذّن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم
…
) رواه مسلم.
ج- ولحديث أم سلمة رضي الله عنها (لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعد العصر، أرسلتْ إليه الجارية، الحديث قالت (فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ فَقُلْتُ قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ، قَالَ: فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: يَا بِنْتَ أَبِى أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث قضى سنة الفجر، وسنة الظهر، فتقاس بقية السنن الراتبة عليهما في جواز القضاء.
وهذا هو مذهب الشافعية والمشهور عند الحنابلة، خلافا للحنفية والمالكية.
قال النووي: الصحيح عندنا استحباب قضاء النوافل الراتبة، وبه قال محمد، والمزني، وأحمد في رواية عنه، وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف في أشهر الرواية عنهما لا يقضي، دليلنا هذه الأحاديث الصحيحة. (المجموع).
وقال المرداوي: قوله (ومن فاته شيء من هذه السنن سن له قضاؤها): هذا المذهب والمشهور عند الأصحاب، ونصره المجد في شرحه، واختاره الشيخ تقي الدين - يعني ابن تيمية -.
…
(الإنصاف).
وقال ابن تيمية: إذَا فَاتَتْ السُّنَّةُ الرَّاتِبَةُ مِثْلُ سُنَّةِ الظُّهْرِ. فَهَلْ تُقْضَى بَعْدَ الْعَصْرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْضَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَالثَّانِي: تُقْضَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين: قضاء السنة الراتبة سنة إذا فاتت، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس صلى سنة الفجر أولاً، ثم صلى بعدها الفجر " انتهى.
وهذا القول هو الراجح، لكن يشترط أن تكون النافلة فاتت لعذر.
قال الشيخ ابن عثيمين: مَن فاته شيء من هذه الرواتب، فإنه يُسنُّ له قضاؤه، بشرط: أن يكون الفوات لعذر.
وذهب بعض العلماء: إلى أن راتبة الفجر، وركعتي الظهر هي التي تقضى فقط.
وهو قول عند الحنابلة.
واستدلوا بالأحاديث السابقة الدالة على قضاء سنة الفجر، وسنة الظهر، غير أنهم تمسكوا بظاهر النصوص ولم يقيسوا بقية السنن عليها.
وذهب بعضهم: إلى أن راتبة الفجر تقضى فقط.
وهذا قول الحنفية والمالكية.
قال ابن عبد البر: ولا قضاء على من ترك شيئاً من النوافل أو نسيه إلا أن ركعتي الفجر من أحب قضاهما بعد طلوع الفجر.
القول الرابع: أنها لا تقضى.
وهو قول للمالكية.
…
(بحث في موقع الألوكة).
والراجح - كما تقدم - استحباب القضاء لمن فاتته لعذر.
• لكن إلى أي مدى يشرع قضاء الرواتب؟
جاء حكاية الخلاف في " الموسوعة الفقهية الكويتية "(34/ 38) على النحو التالي:
الأول: أنها تقضى أبداً.
الثاني: تقضى صلاة النهار ما لم تغرب شمسه، وفائت الليل ما لم يطلع فجره فيقضي ركعتي الفجر ما دام النهار باقياً.
الثالث: يقضي كل تابع ما لم يصل فريضة مستقبلة، فيقضي سنة الصبح ما لم يصل الظهر.
الرابع: الاعتبار بدخول وقت المستقبلة، لا بفعلها.
وقال النووي رحمه الله: وَالصَّحِيحُ اسْتِحْبَابُ قَضَاءِ الْجَمِيعِ أَبَداً.
…
(المجموع).
فائدة 1: قال النووي: قال أصحابنا: النوافل قسمان:
(أحدهما) غير مؤقت وإنما يفعل لعارض كالكسوف والاستسقاء وتحية المسجد، فهذا إذا فات لا يقضى.
(الثاني) مؤقت كالعيد والضحى والرواتب مع الفرائض كسنة الظهر وغيرها، فهذه فيها ثلاثة أقوال: الصحيح منها أنها يستحب قضاؤها، قال القاضي أبو الطيب وغيره: هذا القول هو المنصوص في الجديد.
والثاني: لا تقضى وهو نصه في القديم، وبه قال أبو حنيفة.
والثالث: ما استقلّ كالعيد والضحى قُضي، وما لا يستقل كالرواتب مع الفرائض فلا يقضى. (المجموع).
• هل تقضى السنن الرواتب في وقت النهي؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال.
والراجح: أنها تقضى في الأوقات المنهي عنها.
وهو مذهب الشَّافعي، ورواية عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحم الله الجميع.
استدلَّ أصحاب هذا القول بالمنقول والمعقول.
وستأتي المسألة بأدلتها إن شاء الله.
فائدة 2: ما ورد من أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفل بعد العصر صحيح ثابت:
عن عَائِشَة رضي الله عنها قالت (مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ عِنْدِي قَط) متفق عليه.
وفي رواية لهما (صَلَاتَانِ مَا تَرَكَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي قَطُّ، سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْر). متفق عليه
وفي رواية للبخاري عنها رضي الله عنها قَالَتْ: (وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ، مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى ثَقُلَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلَاتِهِ قَاعِدًا - تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ - وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا، وَلَا يُصَلِّيهِمَا فِي المَسْجِدِ، مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُم).
وهذا كله محمول على أنه كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ فقد فاتته الركعتان بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى صلاة أثبتها.
روى البخاري ومسلم: عن أُمّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهَا - يعني الركعتين بعد العصر - ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى العَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الجَارِيَةَ، فَقُلْتُ: قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ: تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ، وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا؟ فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ، فَفَعَلَتِ الجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَان).
وروى مسلم: عن أبي سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَتْ:(كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا).
وعلى ذلك: فإنه يشرع لكل أحد قضاء راتبة الظهر ونحوها بعد العصر، إذا فاتت لعذر، وأما الاستدامة على صلاة الركعتين في هذا الوقت: فهي من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر: تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الرِّوَايَات مَنْ أَجَازَ التَّنَفُّل بَعْدَ الْعَصْر مُطْلَقًا، مَا لَمْ يَقْصِد الصَّلَاة عِنْدَ غُرُوب الشَّمْس، وَأَجَابَ عَنْهُ مَنْ أَطْلَقَ الْكَرَاهَة: بِأَنَّ فِعْلَهُ هَذَا يَدُلّ عَلَى جَوَاز اِسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ مِنْ الرَّوَاتِب مِنْ غَيْر كَرَاهَة، وَأَمَّا مُوَاظَبَته صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ:
رِوَايَة ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَة أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم (كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْر وَيَنْهَى عَنْهَا، وَيُوَاصِل وَيَنْهَى عَنْ الْوِصَال). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَرِوَايَة أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَة فِي نَحْو هَذِهِ الْقِصَّة وَفِي آخِرِه (وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاة أَثْبَتَهَا) رَوَاهُ مُسْلِم.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الَّذِي اِخْتَصَّ بِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُدَاوَمَة عَلَى ذَلِكَ لَا أَصْلُ الْقَضَاء. (فتح الباري).
(وصلاةُ الليلِ أفضلُ من صلاة النهار).
أي: أن التطوع بالصلاة في الليل أفضل من التطوع بالنهار.
قال في الإنصاف: بلا نزاع.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَفْضَلُ اَلصَّلَاةِ بَعْدَ اَلْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اَللَّيْلِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
قال النووي: فِيهِ دَلِيل لِمَا اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَيْهِ أَنَّ تَطَوُّعَ اللَّيْل أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ، وَفِيهِ حُجَّةُ لِأَبِي إِسْحَاق الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابنَا
وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ صَلَاة اللَّيْل أَفْضَل مِنْ السُّنَن الرَّاتِبَة، وَقَالَ أَكْثَر أَصْحَابنَا: الرَّوَاتِب أَفْضَل، لِأَنَّهَا تُشْبِه الْفَرَائِضَ، وَالْأَوَّل أَقْوَى وَأَوْفَقُ لِلْحَدِيثِ. وَاَللَّه أَعْلَم. (شرح مسلم).
قال أحمد: ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من قيام الليل.
•
الحكمة من ذلك:
قال ابن رجب: وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار:
لأنها أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص، ولأن صلاة الليل أشق على النفوس، فإن الليل محل النوم والراحة من التعب بالنهار، فترك النوم مع ميل النفس إليه، مجاهدة عظيمة.
ولأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر، فإنه تنقطع الشواغل بالليل، ويحضر القلب، ويتواطأ هو واللسان على الفهم. (لطائف المعارف).
فائدة: صلاة التطوع تنقسم إلى قسمين:
مقيد - مطلق.
أما المقيد فهو أفضل في الوقت أو الحال الذي قيد به.
فصلاة تحية المسجد في النهار أفضل من التطوع المطلق في الليل، لأنها مقيدة.
وكذا صلاة تحية المسجد في الليل أفضل من التطوع المطلق في النهار، وهكذا.
وأما المطلق فهنا صلاة الليل أفضل من صلاة النهار.
(وأفضلُها ثُلُثُ الليل بعد نصفهِ).
أي: أفضل وقت وصلاة الليل، في الثلث بعد النصف.
لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد. وَأَحَبَّ الصَّلاةِ إلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُد. كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ. وَيَنَامُ سُدُسَهُ. وَكَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوم) متفق عليه.
ومعنى الحديث: أن أفضل صلاة الليل صلاة نبي الله داود عليه السلام؛ حيث كان: أولاً ينام نصف الليل، فمَن أراد أن يطبق ذلك اليوم فليحسب من بعد صلاة العشاء إلى الفجر، فينام نصف ذلك الوقت، ثم كان عليه السلام يقوم بعد ذلك للصلاة، فيصلي ثلث الليل، ثم ينام سدسه إلى الفجر.
والحكمة في ذلك: لئلا تصيب النفس السآمة، وليقوم لصلاة الفجر وما يتلوها من أذكار الصباح نشيطاً غير كسلان، وليبدأ عمله اليومي كذلك، فيستطيع أن يقوم بتأدية ما عليه من الحقوق تجاه أهله وولده والناس وتجاه عمله الذي يزاوله، فلا يذهب إلى العمل والنوم يغالبه، إلى غير ذلك من الفوائد والمصالح.
قال الحافظ: قَالَ الْمُهَلَّب: كَانَ دَاوُدَ عليه السلام يُجِمّ نَفْسه بِنَوْمٍ أَوَّل اللَّيْل، ثُمَّ يَقُوم فِي الْوَقْت الَّذِي يُنَادِي اللَّه فِيهِ: هَلْ مِنْ سَائِل فَأُعْطِيَهُ سُؤْله، ثُمَّ يَسْتَدِرْك بِالنَّوْمِ مَا يَسْتَرِيح بِهِ مِنْ نَصَب الْقِيَام فِي بَقِيَّة اللَّيْل. وَإِنَّمَا صَارَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَة أَحَبّ مِنْ أَجْل الْأَخْذ بِالرِّفْقِ لِلنَّفْسِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا السَّآمَة، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّه لَا يَمَلّ حَتَّى تَمَلُّوا " وَاَللَّه أَحَبَّ أَنْ يُدِيم فَضْله وَيُوَالِي إِحْسَانه، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَرْفَق لِأَنَّ النَّوْم بَعْد الْقِيَام يُرِيح الْبَدَن وَيُذْهِب ضَرَر السَّهَر وَدُبُول الْجِسْم بِخِلَافِ السَّهَر إِلَى الصَّبَاح، وَفِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَة أَيْضًا اِسْتِقْبَال صَلَاة الصُّبْح وَأَذْكَار النَّهَار بِنَشَاطٍ وَإِقْبَال، وَأَنَّهُ أَقْرَب إِلَى عَدَم الرِّيَاء لِأَنَّ مَنْ نَامَ السُّدُس الْأَخِير أَصْبَحَ ظَاهِر اللَّوْن سَلِيم الْقُوَى فَهُوَ أَقْرَب إِلَى أَنْ يُخْفِي عَمَله الْمَاضِي عَلَى مَنْ يَرَاهُ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ اِبْن دَقِيق الْعِيد " انتهى
وقال ابن القيم رحمه الله: وهَذَا صَرِيح فِي أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ أَحَبّ إِلَى اللَّه لِأَجْلِ هَذَا الْوَصْف، وَهُوَ مَا يَتَخَلَّل الصِّيَام وَالْقِيَام مِنْ الرَّاحَة الَّتِي تجمّ بِهَا نَفْسه، وَيَسْتَعِين بِهَا عَلَى الْقِيَام بِالْحُقُوق.
وقال ابن عثيمين رحمه الله: التهجد في الليل من أفضل العبادات وهو أفضل الصلوات بعد الفرائض، فصلاة الليل أفضل من صلاة
النهار ولاسيما في الثلث الأخير منه، وأفضل تجزئة لليل صلاة داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك أحياناً بل الأغلب عليه ذلك، وعلى هذا فنقول: أفضل صلاة الليل ما كان بعد النصف إلى أن يبقى سدس الليل. (نور على الدرب).
ويدل لذلك:
حديث عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ (مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلاَّ نَائِمًا) تَعْنِى النَّبِي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
قال العيني رحمه الله: يعني ما أتى عليه السحر عندي إلا وهو نائم، فعلى هذا كانت صلاته بالليل وفعله فيه إلى السحر، ويقال: هذا النوم هو النوم الذي كان داود عليه الصلاة والسلام ينام، وهو أنه كان ينام أول الليلة، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي فيه الله عز وجل: هل من سائل؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح به من نصب القيام في الليل، وهذا هو النوم عند السحر على ما بوب له البخاري.
…
(عمدة القاري).
(ويسن قيام الليل).
أي: أن قيام الليل سنة، وهو عبادة جليلة، وقد جاءت الفضائل العظيمة بفضله.
أولاً: أن الله تبارك وتعالى مدح أهله.
قال تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قال ابن كثير: تتجافي جنوبهم عن المضاجع: يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة.
يدعون ربهم خوفاً وطمعاً: أي خوفاً من وبال عقابهِ وطمعاً في جزيل ثوابهِ.
ومما رزقناهم ينفقون: فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية.
ثانياً: أنه من صفات المتقين.
قال تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ. كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون).
قال الحسن البصري في الآية: لا ينامون من الليل إلا أقله، كابدوا قيام الليل.
ثالثاً: من صفات عباد الرحمن.
قال تعالى (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا
…
أولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).
رابعاً: وفرّق تعالى بين من قام الليل ومن لم يقمه، ممتدحاً صاحب القيام.
قال تعالى (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
كيف يستوي من تحمل مشقة السهر، ومؤنة الوقوف، وآثر على المنام لذة القيام، طمعاً ورجاء بوعد الله
…
كيف يستوي هو ومن ضيع ليله نائماً هائماً، لم ينشطهُ وعد ولم يخوّفه وعيد.
خامساً: قيام الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة.
لحديث أبي هريرة (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).
سادساً: من أسباب دخول الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم (أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام). رواه الترمذي
سابعاً: من أسباب رحمة الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء
…
). رواه أبو داود
ثامناً: أنه شرف.
عن سهل قال: (جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل). رواه الطبراني
تاسعاً: يوصف بالنعم.
قال صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل).
قال الحافظ: فمقتضاه أن من كان يصلي من الليل، يوصف بكونه نعم الرجل.
عاشراً: قيام الليل سبب للنجاة من الفتن.
فالصلاة عموماً، وصلاة الليل خصوصاً سبب من أسباب النجاة من الفتن.
فقد جاء في صحيح البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال (سبحان الله، ماذا أُنزل الليلة من الفتن؟! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات؟! كي يصلين فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة).
ففي هذا الحديث دليل وتنبيه على أثر الصلاة بالليل في الوقاية من الفتن، لأنها من علامة الإخلاص، والإخلاص هو الذي ينجي العبد من الفتن.
الحادي عشر: بقيام الليل يدرك المصلي وقت النزول الإلهي.
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له) متفق عليه
الثاني عشر: أنه من مظان الإجابة.
عن جابر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه وذلك كل ليلة) متفق عليه.
قالت عائشة (يا عبد الله! لا تدع قيام الليل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى وهو قاعد). متفق عليه
وجاء في موطأ الإمام مالك عن ابن عمر قال (كان عمر يصلي في الليل حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله وقرأ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى).
وقال أبو عثمان النهْدي: تضيفت أبا هريرة سبعة أيام [أي نزلت عليه ضيفاً] فكان هو وزوجه وخادمه يقتسمون الليل أثلاثاً، الزوجة ثلثاً وخادمه ثلثاً وأبو هريرة ثلثاً.
كان سليمان التيمي عنده زوجتان وكانوا يقتسمون الليل أثلاثاً.
والحسن بن صالح كان يقتسم الليل هو وأخوه وأمه أثلاثاً، فماتت أمه، فاقتسم الليل هو وأخوه علي، فمات أخوه فقام الليل بنفسه.
هذا الحسن بن صالح كان عنده جارية، فباعها فأيقظتهم في الليل فقالوا: أسفرنا [يعني طلع الفجر] فقالت: لا، ألا تتهجدوا، قالوا: لا نقوم إلا إلى صلاة الفجر، فجاءت إلى الحسن تبكي وتقول: ردني! لقد بعتني لأناس لا يصلون إلا الفريضة، فردّها.
كان محمد بن واسع إذا جنّ عليه الليل يقوم ويتهجد، يقول أهله: كان حاله كحال من قتل أهل الدنيا جميعاً.
الإمام أبو سليمان الداراني كان يقول: والله لولا قيام الليل ما أحببت الدنيا، ووالله إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيه طرباً بذكر الله فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه من النعيم إنهم لفي نعيم عظيم.
رأى بعضهم حوراء في نومه فقال لها: زوجيني نفسكِ قالت: اخطُبني إلى ربي وأمهِرني، قال: ما مهرُكِ؟ قالت: طول التهجد.
نام أبو سليمان الداراني فأيقظته حوراء وقالت: يا أبا سليمان، تنام وأنا أُربَى لك في الخدور من خمسمائة عام؟
كانت امرأة حبيب بن محمد الزاهد توقظه بالليل وتقول: ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قُدّامنا ونحن قد بقينا، وكانت تقول:
يا راقدَ الليلِ كم ترقدُ
…
قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخذ من الليلِ وأوقاتهِ
…
ورْداً إذا مأا هجعَ الرُّقدُ
من نامَ حتى ينقضي ليلهُ
…
لم يبلغ المنزلَ أو يجهدُ
قل لأولي الألبابِ أهلِ التقى
…
قَنطرةُ العَرْضِ لكم موعدُ
قال أبو الدرداء: صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور.
وقال أحمد بن حرب: عجبت لمن يعلم أن الجنة تزين فوقَه، والنار تضرم تحته، كيف ينام بينهما.
وكان شداد بن أوس إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت النوم، فيقوم فيصلي حتى يصبح.
وحين سألت ابنة الربيع بن خثيم أباها: يا أبتاه الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال: يا بنية إن أباكِ يخاف السيئات.
ويروى أن طاووساً جاء في السحر يطلب رجلاً، فقالوا: هو نائم، قال: ما كنت أرى أن أحداً ينام في السحر.
• اذكر بعض الأسباب التي تعين على قيام الليل؟
أولها: ترك الذنوب والمعاصي.
فإن الذنوب والمعاصي حاجب بين العبد وبين ربه.
قال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم وقد كثرت خطيئتك.
وذكر عن الحسن أن قال: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.
وقال سفيان الثوري: حرمت قيام الليل بذنب أحدثته منذ خمسة أشهر.
وحينما اشتكى شاب إلى الحسن عدم قدرته على القيام بالليل قال له الحسن: قيدتك خطاياك.
وقال بشر بن الحارث: لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سداً.
وقيل لابن مسعود: ما نستطيع قيام الليل، فقال: أقعدتكم ذنوبكم.
وثانيها: من الأسباب التي تعين على قيام الليل قلة الأكل.
لأن الشّبَع مذموم، فهو يكسل عن العبادة، فعلى العبد أن لا يكثر الأكل والشرب حتى لا يغلبه النوم ويثقل عليه القيام.
ولذلك قيل: لا تأكل كثيراً، فتشرب كثيراً، فتنام كثيراً، فتتحسر كثيراً؟
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع في الآخرة).
قال عمر: إياكم والبطنة، فإنها ثقل في الحياة ونتن في الممات.
وقال لقمان لابنه: يا بني! إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وقال أبو سليمان الداراني: من شبع دخل عليه ست آفات: فقْد حلاوة المناجاة، وتعذر عليه حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلْق، لأنه إذا شبع ظن الخلق كلهم شباعاً، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات.
وقال محمد بن واسع: من قلّ طُعْمه فهِم وأفْهم وصفَى ورقّ.
وقال عمرو بن قيس: إياكم والبطنة، فإنها تقسي القلب.
وقال الحسن البصري: كانت بلية أبيكم آدم أكلة، وهي بليتكم إلى يوم القيامة.
وقد قيل: إذا أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل.
وقال إبراهيم بن أدهم: من ضبط بطنه ضبط دينه.
(وافتتاحُه بركعتين خفيفتين).
أي: يسن افتتاح قيام الليل بركعتين خفيفتين.
لثبوت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله.
أ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْن) رواه مسلم.
ب- وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّىَ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْن) رواه مسلم.
ج- وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ (لأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَةَ فَصَلَّى. رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
…
) رواه مسلم.
قال النووي: ولهذا يستحب أن تفتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
وقال صاحب عون المعبود: هذا الحديث يدل على مشروعية افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما.
(ونيّتُهُ عند النوم).
أي: يسن أن ينوي القيام قبل نومه، ليكتب له الأجر، ويعينه الله.
أ- عن عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَة) رواه أبو داود.
ب- وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ، وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبّه) رواه ابن ماجه.
جاء في (الموسوعة الفقهية)" قَال الْفُقَهَاءُ: يُسَنُّ نِيَّةُ قِيَامِ اللَّيْل عِنْدَ النَّوْمِ لِيَفُوزَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ مِنَ اللَّيْل فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً مِنْ رَبِّهِ عز وجل " انتهى.
وقال ابن القيم: من كان له ورد يصليه من الليل فنام ومن نيته أن يقوم إليه فغلب عينه نوم: كتب له أجر ورده، وكان نومه عليه صدقة.
(وصلاة ليلٍ ونهارٍ مثنى مثنى).
أي: اثنتين اثنتين، فلا يصلي أربعاً جميعاً.
أما صلاة الليل:
فلحديث اِبْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ اَللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ اَلصُّبْحِ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(مثنى مثنى) أي اثنتين اثنتين يسلم من كل ركعتين.
قال ابن حجر: قوله: (مثنى مثنى) أي اثنين اثنين، ..... وأما إعادة "مثنى" فللمبالغة في التأكيد، وقد فسّره ابن عمر راوي الحديث، فعند مسلم من طريق عقبة بن حُريث، قال: قلت لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تسلّم من
كلّ ركعتين، وفيه ردّ على من زعم من الحنفيّة أن معنى مثنى أن يتشهد بين كلّ ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسّره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلاً: إنها مثنى. (الفتح).
• هل يتعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل؟
استدل بحديث ابن عمر السابق من قال: يتعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل.
وأجاب الجمهور:
أ-أن ذلك لبيان الأفضل، لما صح من فعله صلى الله عليه وسلم بخلافه.
ب-أو أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها، لما فيه من الراحة غالباً وقضاء ما يعرض من أمر مهم.
• قوله (ونهار) أي: أن المشروع في صلاة النهار أيضاً أن يسلم من كل ركعتين كصلاة الليل.
لحديث ابْنَ عُمَرَ. قال: قال صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، مَثْنَى مَثْنَى) رواه أبو داود.
والحديث كما تقدم في الصحيحين دون لفظة (والنهار) وقد اختلف العلماء في صحتها:
بعض العلماء صححها: كالبخاري، وابن خزيمة، وابن حبان، والألباني.
وضعفها بعضهم: كالإمام أحمد، والدار قطني، والحاكم، وابن معين، والطحاوي، وابن تيمية، وهذا الراجح.
لأنه انفرد به: [علي البارقي عن ابن عمر]، وقد روى الحديث عن ابن عمر أكثر من عشرة، ومنهم الحفاظ، كنافع، وسالم، وعبد الله بن دينار، ولم يذكروها.
ولأنه لا تتناسب مع الحديث، لأن الحديث يقول (فإذا خشي أحدكم الصبح
…
).
قال في "الفتح": ما حاصله: قد أعلّ أكثر أئمة الحديث هذه الزيادة بأن الحفّاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه، وحكم النسائيّ على راويها بأنه أخطأ فيها،
• وقد اختلف العلماء: هل صلاة النهار كصلاة الليل تكون ركعتين ركعتين أم لا على قولين:
القول الأول: الأفضل أن تكون أربعاً.
وهذا مذهب إسحاق، وأبي حنيفة.
لمفهوم الحديث.
ولفعل ابن عمر أنه كان يصلي أربعاً.
القول الثاني: أن صلاة النهار كالليل مثنى مثنى.
وهذا مذهب الحنابلة.
لزيادة (والنهار).
ولأنه أبعد عن السهو.
وهذا الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وحديث ابن عمر بوَّب عليه ابن خزيمة - في صحيحه (2/ 214) - بقوله " باب التسليم في كل ركعتين من صلاة التطوع صلاة الليل والنهار جميعاً، وأعقبه بباب " باب ذكر الأخبار المنصوصة والدالة على خلاف قول من زعم أن تطوع النهار أربعاً لا مثنى " - وساق أدلة كثيرة على أن تطوع النهار ركعتين ركعتين.
وقال النووي: الأفضل أن يسلم من كل ركعتين، وسواء نوافل الليل والنهار، يستحب أن يسلم من كل ركعتين، فلو جمع ركعات بتسليمة، أو تطوع بركعة واحدة، جاز عندنا. (شرح مسلم).
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله بعد ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فواحدة، وبهذا قال كثير من أهل العلم.
واختلفوا في صلاة النهار:
فقالت طائفة: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.
روي هذا القول عن الحسن، وسعيد بن جبير.
وممن قال: إن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى: مالك بن أنس، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل.
واحتج أحمد بأحاديث، منها: حديث ابن عمر في تطوّع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد الظهر، وركعتان، وركعتان، وحديث العيد ركعتان، والاستسقاء ركعتان، و (إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين، قبل أن يجلس).
وذهبت طائفة: إلى أن صلاة الليل مثنى مثنى، ويصلي بالنهار أربعًا.
ثبت عن ابن عمر أنه كان يفعل ذلك.
عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي بالليل مثنى مثنى، ويصلي بالنهار أربعًا أربعًا، ثم يسلّم.
وقال الأوزاعيّ: صلاة الليل مثنى مثنى، وصلاة النهار إن شاء أربعا قبل أن يسلّم.
والراجح استحباب صلاة الليل مثنى مثنى لحديث ابن عمر وغيره، وأما صلاة النهار، فإن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا.
قال ابن قدامة: الْأَفْضَلُ فِي تَطَوُّعِ النَّهَارِ: أَنْ يَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى.
لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ السَّهْوِ، وَأَشْبَهُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَتَطَوُّعَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي تَطَوُّعَاتِهِ رَكْعَتَانِ.
وَذَهَبَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَى أَنَّ تَطَوُّعَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى لِذَلِكَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ تَطَوَّعَ فِي النَّهَارِ بِأَرْبَعٍ فَلَا بَأْسَ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ: صَلَاةُ النَّهَارِ أَخْتَارُ أَرْبَعًا، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَازَ.
وَيُشْبِهُهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا تَسْلِيمَ فِيهِنَّ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَلِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) أَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ رُبَاعِيَّةٌ.
(وَإِنْ تَطَوَّعَ فِي النَّهَارِ بِأَرْبَعٍ كَالظُّهْرِ فَلَا بَأْسَ).
أي: وإن صلى صلاة تطوع في النهار لا في الليل بأربع ركعات بتشهدين فلا بأس.
قال ابن قدامة: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ تَطَوَّعَ فِي النَّهَارِ بِأَرْبَعٍ فَلَا بَأْسَ، فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَكَانَ إِسْحَاقُ يَقُولُ: صَلَاةُ النَّهَارِ أَخْتَارُ أَرْبَعًا، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَازَ.
وَيُشْبِهُهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا تَسْلِيمَ فِيهِنَّ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَلِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) أَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ رُبَاعِيَّةٌ.
فائدة: حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ)، ولفظ ابن ماجة (لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ وَقَالَ إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفْتَحُ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ).
هذا الحديث ضعيف.
قال النووي: ضعفه يحيى القطان، وأبو داود، والحفاظ، ومداره على عبيدة بن معتب، وهو ضعيف بالاتفاق، سيء الحفظ
وقال الشيخ الألباني رحمه الله فيه: حديث حسن دون قوله: ليس فيهن تسليم.
وقد جاء عن علي رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ) رواه الترمذي وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله.
واختلف أهل العلم رحمهم الله في معنى هذا الحديث:
فقال بعضهم المراد بقوله (يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ) بأن يسلم عن يمينه وعن شماله.
وقال آخرون: المراد بـ " التسليم .. " الجلوس للتشهد في الركعة الثانية.
قال المباكفوري رحمه الله: قال الترمذي: اختار إسحاق بن راهوية أن لا يفصل في الأربع قبل العصر، واحتج بهذا الحديث، وقال معنى قوله: " يفصل بينهن بالتسليم يعني التشهد.
وقال البغوي: المراد بالتسليم التشهد دون السلام. أي وسمي تسليماً على من ذكر لاشتماله عليه.
قال الطيبي: ويؤيده حديث عبد الله بن مسعود: " كنا إذا صلينا قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل، وكان ذلك في التشهد- انتهى.
وقيل: المراد به تسليم التحلل من الصلاة، حمله على هذا من اختار أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.
(وأجرُ صلاة قاعدٍ على نصف أجر صلاة قائم).
أي: تصح صلاة النافلة قاعداً - ولو مع القدرة على القيام - وتكون على النصف من أجر صلاة القائم.
أ- لحديث عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا فَقَالَ (إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهْوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ،
…
) متفق عليه.
ب- وعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ) رواه مسلم.
ج- وعن عائِشَة (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ) رواه مسلم.
د - وعنها. قَالَتْ (لَمَّا بَدَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَقُلَ كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ جَالِسًا) رواه مسلم.
وعنها. قالت (وَكَانَ يُصَلِّى لَيْلاً طَوِيلاً قَائِمًا وَلَيْلاً طَوِيلاً قَاعِدًا وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) رواه مسلم.
قال النووي: قوْلهَا (وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا رَكَعَ قَاعِدًا) فِيهِ: جَوَاز النَّفْل قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَة عَلَى الْقِيَام، وَهُوَ إِجْمَاع الْعُلَمَاء.
وقال العيني وهو يذكر فوائد حديث عائشة رضي الله عنها: ومنها: جواز صلاة النافلة قاعداً مع القدرة على القيام وهو مجمع عليه.
قال ابن قدامة: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، وَأَنَّهُ فِي الْقِيَامِ أَفْضَلُ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِم) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظِ مُسْلِم (صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاة).
وَقَالَتْ عَائِشَة (إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ).
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ حَفْصَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَخْرَجَهُنَّ مُسْلِمٌ.
وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ طُولُ الْقِيَامِ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتُرِكَ أَكْثَرُهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ، كَمَا سَامَحَ فِي فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ، وَسَامَحَ فِي نِيَّةِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مِنْ النَّهَارِ. (المغني).
وقال البهوتي في (كشاف القناع) وسومح في التطوع ترك القيام، ترغيباً في تكثيره.
• وهذا الحكم إذا صلى قاعداً لغير عذر، أما إذا كان لعذر فله الأجر كاملاً.
قال النووي: مَعْنَاهُ أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ فِيهَا نِصْفُ ثَوَابِ الْقَائِمِ فَيَتَضَمَّنُ صِحَّتَهَا وَنُقْصَانَ أَجْرِهَا وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى صَلَاةِ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فَهَذَا لَهُ نِصْفُ ثَوَابِ الْقَائِم، وَأَمَّا إِذَا صَلَّى النَّفْلَ قَاعِدًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ فَلَا يَنْقُصُ ثَوَابُهُ بَلْ يَكُونُ كَثَوَابِهِ قَائِمًا.
وقال ابن تيمية: لكن إذا كان عادته أن يصلي قائماً، وإنما قعد لعجزه، فإن الله يعطيه أجر القائم، لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم.
• تقدم أن الفريضة لا يجوز أن تصلى قاعداً إلا من عذر.
فائدة: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ جَالِسًا حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا حَتَّى إِذَا بَقِىَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلَاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهُنَّ ثُمَّ رَكَعَ) رواه مسلم.
قال النووي: فِيهِ جَوَاز الرَّكْعَة الْوَاحِدَة بَعْضهَا مِنْ قِيَام وَبَعْضهَا مِنْ قُعُود، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَعَامَّة الْعُلَمَاء، وَسَوَاء قَامَ ثُمَّ قَعَدَ، أَوْ قَعَدَ ثُمَّ قَامَ، وَمَنَعَهُ بَعْض السَّلَف، وَهُوَ غَلَط. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَة فِي آخَرِينَ كَرَاهَة الْقُعُود بَعْد الْقِيَام، وَلَوْ نَوَى الْقِيَام ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَجْلِس جَازَ عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَجَوَّزَهُ مِنْ الْمَالِكِيَّة اِبْن الْقَاسِم وَمَنَعَهُ أَشْهَب.
(وكثرةُ الركوع والسجود أفضل من طول القيام).
أي: أن كثرة الركوع والسجود في صلاة الليل أفضل من طول القيام.
وهذا المذهب، وقول بعض الحنفية.
أ- لحديث رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ (قَالَ لِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَلْ. فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافقَتَكَ فِي اَلْجَنَّةِ. فَقَالَ: أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ?، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ اَلسُّجُودِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ب-ولحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم.
وذهب بعض العلماء: إلى أن طول القيام أفضل من كثرة السجود.
وهذا قول جمهور الحنفية، والمالكية في قول، والشافعية.
أ- لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال (إنْ كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلِّي حتى ترم قدماه - أو ساقاه - فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام، بدليل تورم قدميه الكريمتين، وهذا دليل على أفضلية القيام.
ب- وعَنْ جَابِرٍ قَالَ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ قَالَ «طُولُ الْقُنُوتِ) رواه مسلم.
والمراد بالقنوت هنا: طول القيام باتفاق العلماء. (نووي).
وذهب بعضهم: أنهما سواء.
وهذا اختيار ابن تيمية.
أ- لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن صلاته كانت معتدلة، فإذا أطال القيام أطال الركوع والسجود بحسب ذلك حتى يتقاربا، كما ثبت ذلك في جملة من الأحاديث.
كحديث حذيفة قال (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّى بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ». فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى». فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ) رواه مسلم.
وحديث عائشة قالت (خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى
…
) متفق عليه.
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث: أن الاعتدال والمقاربة بين أركان الصلاة قيامها وسجودها دليل على استوائهما في الفضل، وأن الأكمل هو التقارب في الطول بين القيام والسجود.
ب - أن ذكر القيام - وهو قراءة القرآن - أفضل من ذكر السجود، - وهو التسبيح - ونفس السجود أفضل من نفس القيام فاستويا.
قال ابن تيمية: وقد تنازع الناس، هل الأفضل طول القيام؟ أم كثرة الركوع والسجود؟ أو كلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال: أصحها أن كليهما سواء، فإن القيام اختص بالقراءة، وهي أفضل من الذكر والدعاء، والسجود نفسه أفضل من القيام، فينبغي أنه إذا طوَّل القيام أن يطيل الركوع والسجود، وهذا هو طول القنوت الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت، فإن القنوت هو إدامة العبادة، سواء كان في حال القيام، أو الركوع أو السجود، كما قال تعالى:(أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً)، فسمَّاه قانتاً في حال سجوده، كما سمَّاه قانتاً في حال قيامه.
وقال رحمه الله:
وقد تنازع العلماء: أيما أفضل: إطالة القيام؟ أم تكثير الركوع والسجود؟ أم هما سواء؟ على ثلاثة أقوال: وهي ثلاث روايات عن أحمد، وقد ثبت عنه في الصحيح " أي الصلاة أفضل؟ قال:(طول القنوت) "، وثبت عنه أنه قال:(إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة; وحط عنك بها خطيئة) رواه مسلم، وقال لربيعة بن كعب:(أعنِّي على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم، ومعلوم أن السجود في نفسه أفضل من القيام، ولكن ذكر القيام أفضل، وهو القراءة، وتحقيق الأمر: أن الأفضل في الصلاة أن تكون معتدلة،
فإذا أطال القيام، يطيل الركوع والسجود، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل، كما رواه حذيفة وغيره، وهكذا كانت صلاته الفريضة، وصلاة الكسوف، وغيرهما: كانت صلاته معتدلة، فإن فضَّل مفضِّل إطالة القيام والركوع والسجود مع تقليل الركعات، وتخفيف القيام والركوع والسجود مع تكثير الركعات: فهذان متقاربان، وقد يكون هذا أفضل في حال، كما أنه لما صلى الضحى يوم الفتح صلَّى ثماني ركعات يخففهن، ولم يقتصر على ركعتين طويلتين، وكما فعل الصحابة في قيام رمضان لما شق على المأمومين إطالة القيام.
• وقال ابن القيم: وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي الْقِيَامِ وَالسّجُود أَيّهُمَا أَفْضَلُ؟
فَرَجّحَتْ طَائِفَةٌ الْقِيَامَ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنّ ذِكْرَهُ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ فَكَانَ رُكْنُهُ أَفْضَلَ الْأَرْكَانِ.
وَالثّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى (وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ).
الثّالِثُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الصّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ السّجُودُ أَفْضَلُ.
وَاحْتَجّتْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ.
وَبِحَدِيثِ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ حَدّثَنِي بِحَدِيثٍ عَسَى اللّهُ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ؟ فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالسّجُودِ، فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلّهِ سَجْدَةً إلّا رَفَعَ اللّهُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً قَالَ مَعْدَانُ ثُمّ لَقِيتُ أَبَا الدّرْدَاءِ فَسَأَلْته فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيّ وَقَدْ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنّةِ (أَعِنّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السّجُودِ).
وَأَوّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةُ (اقْرَأْ) عَلَى الْأَصَحّ وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ).
وَبِأَنّ السّجُودَ لِلّهِ يَقَعُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ كُلّهَا عُلْوِيّهَا وَسُفْلِيّهَا.
وَبِأَنّ السّاجِدَ أَذَلّ مَا يَكُونُ لِرَبّهِ وَأَخْضَعُ لَهُ وَذَلِكَ أَشْرَفُ حَالَاتِ الْعَبْدِ فَلِهَذَا كَانَ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ مِنْ رَبّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَبِأَنّ السّجُودَ هُوَ سِرّ الْعُبُودِيّةِ فَإِنّ الْعُبُودِيّةَ هِيَ الذّلّ وَالْخُضُوعُ يُقَالُ طَرِيقٌ مُعَبّدٌ أَيْ ذَلّلَتْهُ الْأَقْدَامُ وَوَطّأَتْهُ وَأَذَلّ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ وَأَخْضَعُ إذَا كَانَ سَاجِدًا.
وَقَالَ شَيْخُنَا: الصّوَابُ أَنّهُمَا سَوَاءٌ وَالْقِيَامُ أَفْضَلُ بِذِكْرِهِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ وَالسّجُودُ أَفْضَلُ بِهَيْئَتِهِ فَهَيْئَةُ السّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ هَيْئَةِ الْقِيَامِ وَذِكْرُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ السّجُودِ وَهَكَذَا كَانَ هَدْيَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنّهُ كَانَ إذَا أَطَالَ الْقِيَامَ أَطَالَ الرّكُوعَ وَالسّجُودَ كَمَا فَعَلَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَفِي صَلَاةِ اللّيْلِ وَكَانَ إذَا خَفّفَ الْقِيَامَ خَفّفَ الرّكُوعَ وَالسّجُودَ وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ فِي الْفَرْضِ كَمَا قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: كَانَ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ وَاعْتِدَالُهُ قَرِيبًا مِنْ السّوَاءِ وَاَللّه أَعْلَمُ.
…
(زاد المعاد).
(وتسن صلاةُ الضحى).
أي: ومن التطوعات صلاة الضحى، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في فضلها:
أ- عن أبي ذر أيضاً رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَال (يُصْبحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى منْ أَحَدِكُمْ صَدَقةٌ: فَكُلُّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحمِيدةٍ صَدَقَة، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأمْرٌ بِالمعرُوفِ صَدَقةٌ، ونَهيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقةٌ، وَيُجزِئُ مِنْ ذلِكَ رَكْعَتَانِ يَركَعُهُما مِنَ الضُّحَى) رواه مسلم.
((السُّلامَى)) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم: المفصل.
قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم (وَيَجْزِي مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعهُمَا مِنْ الضُّحَى) ضَبَطْنَاهُ (وَيَحْزِي) بِفَتْحِ أَوَّله وَضَمّه، فَالضَّمّ مِنْ الْإِجْزَاء وَالْفَتْح مِنْ جَزَيَ يَجْزِي، أَيْ: كَفَى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: لَا تَجْزِي نَفْس، وَفِي الْحَدِيث (لَا يَجْزِي عَنْ أَحَد بَعْدك). وَفِيهِ دَلِيل عَلَى عِظَم فَضْل الضُّحَى وَكَبِير مَوْقِعهَا، وَأَنَّهَا تَصِحُّ رَكْعَتَيْنِ
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان فإن الصلاة عمل لجميع أعضاء الجسد فإذا
صلى فقد قام كل عضو بوظيفته والله أعلم.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: والحديثان يدلان على عظم فضل الضحى وأكبر موقعها وتأكد مشروعيتها، وأن ركعتيها تجزيان عن ثلاثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة، ويدلان أيضاً على مشروعية الاستكثار من التسبيح والتحميد والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفن النخامة وتنحية ما يؤذي المار عن الطريق، وسائر أنواع الطاعات ليسقط بفعل ذلك ما على الإنسان من الصدقات اللازمة في كل يوم.
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: معنى الحديث على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة لأنه إذا أصبح العضو سليما فينبغي أن يشكر ويكون شكره بالصدقة فالتسبيح والتحميد وما ذكره يجري مجرى الصدقة عن الشاكر وقوله ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى لأن الضحى من الصباح وإنما قامت الركعتان مقام ذلك لأن جميع الأعضاء تتحرك فيها بالقيام والقعود فيكون ذلك شكرها.
ب- وعن عَائِشَةَ. قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي اَلضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اَللَّهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ج- وعن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُد) متفق عليه
د- وعن أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ (أَوْصَانِي حَبِيبِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَبِأَنْ لَا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ) رواه مسلم.
قال القرطبي رحمه الله: وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهما: تدل على فضيلة الضحى، وكثرة ثوابه وتأكده، ولذلك حافظا [عليه]، ولم يتركاه. (المفهم).
د- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ عز وجل أَنَّهُ قَالَ (ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، أَكْفِكَ آخِرَهُ) رواه الترمذي.
قال المباركفوري رحمه الله: (مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ) قِيلَ الْمُرَادُ صَلَاةُ الضُّحَى، وَقِيلَ صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ، وَقِيلَ سُنَّةُ الصُّبْحِ وَفَرْضُهُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ فَرْضِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ، قُلْت: حَمَلَ الْمُؤَلِّفُ وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى وَلِذَلِكَ أَدْخَلَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ صَلَاةِ الضُّحَى.
هـ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب، وهي صلاة الأوابين) رواه ابن خزيمة.
لهذه الأحاديث ذهب جمهور العلماء إلى استحباب صلاة الضحى.
قال النووي: جمهور العلماء على استحباب صلاة الضحى.
وممن كان يصليها من الصحابة: أبو سعيد الخدري، وعائشة، وأبو ذر، وأم سلمة، وغيرهم.
ورجح هذا القول النووي، والشوكاني، والصنعاني.
وذهب بعض العلماء: إلى الأفضل عدم المداومة على صلاة الضحى، بل فعلها أحياناً وتركها أحياناً أخرى.
أ- لحديث أبي سعيد قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها) رواه الترمذي، وفيه ضعف.
ب- ولحديث عائشة قالت (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ. وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا) متفق عليه. (وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها لا تشرع إلا لسبب، كقدوم من سفر.
ورجح هذا القول ابن القيم.
أ- قالوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا لسبب واتفق وقوعها وقت الضحى.
فحديث أم هانئ في صلاته يوم الفتح كان لسبب الفتح، وأن سنة الفتح أن تصلى عنده ثمان ركعات، وكان الأمراء يسمونها صلاة الضحى.
قالوا: وقول أم هانئ (وذلك ضحى) تريد أن فعله لهذه الصلاة كان ضحى، لا أن الضحى اسم لتلك الصلاة.
ب- واستدلوا بحديث عائشة الآتي (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أن يقدم من مغيبه).
وذهب بعضهم: إلى أنها تشرع لمن ليس له ورد بالليل.
وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله.
قال رحمه الله: ومن هذا الباب (صلاة الضحى) فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم عليها باتفاق أهل العلم بسنته، بل ثبت في حديث صحيح لا معارض له، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وقت الضحى لسبب عارض، لا لأجل الوقت، مثل أن ينام من الليل
…
).
والراجح الاستحباب مطلقاً.
وأما الجواب عن حديث أم هانئ، وأن تلك الصلاة صلاة الفتح.
فقد قال النووي: إنه فاسد، والأحاديث الكثيرة التي وردت في استحبابها ترد هذا القول.
وقال رحمه الله: والصواب صحة الاستدلال به، فقد ثبت عن أم هانئ:(أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين) رواه أبو داود.
• الجمع بين أحاديث عائشة المتعارضة:
أ- عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ (قُلْتُ لِعَائِشَةَ هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى الضُّحَى قَالَتْ لَا إِلاَّ أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ) رواه مسلم.
ب- وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ. وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا) متفق عليه.
ج- وعنها قالت (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي اَلضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اَللَّهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
بعض العلماء رجح أحاديث الإثبات، للقاعدة: المثبت مقدم على النافي.
ورجحه ابن عبد البر.
وبعضهم جمع: أن أحاديث النفي نافية للمداومة، وأما الإثبات فالمراد فعلها أحياناً.
ورجحه البيهقي، وإنما كان يتركها أحياناً خشية أن تفرض على الأمة.
قال ابن حجر: وذهب آخرون إلى الجمع بينهما، قال البيهقيّ: عندي أن المراد بقولها (ما رأيته يسبّحها) أي يُداوم عليها، وقولها (وإني لأسبّحها) أي أداوم عليها، قال: وفي بقية الحديث إشارة إلى ذلك، حيث قالت (وإن كان لَيَدَعُ العملَ، وهو يحبّ أن يعمله خشية أن يعمل به الناس، فيفرضَ عليهم). (الفتح).
وقال النووي: وأما قول عائشة (ما كان يصليها إلا أن يجيء من مغيبه) معناه ما رأيته، كما قالت في الرواية الثانية (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى إلا في نادر الأوقات) فإنه قد يكون في ذلك مسافراً، وقد يكون حاضراً ولكنه في المسجد أو في موضع آخر، وإذا كان عند نسائه فإنما كان لها يوم من تسعة، فيصح قولها: ما رأيته يصليها، وقد علمت بخبره أو خبر غيره أنه صلاها.
(وأقلها ركعتان).
أي: أقل صلاة الضحى ركعتان.
وهذا لا خلاف به.
أ- لحديث أبي هريرة (أوصاني خليلي
…
وركعتي الضحى
…
).
ب- ولحديث أبي ذر (يصبح على كل سلامى
…
ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى).
جاء في (الموسوعة الفقهية) لا خلاف بين الفقهاء القائلين: باستحباب صلاة الضحى في أن أقلها ركعتان.
فقد روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) فأقل صلاة الضحى ركعتان لهذا الخبر. (انتهى).
قال الشيخ ابن عثيمين: لأن الرَّكعتين أقلُّ ما يُشرع في الصَّلوات غير الوِتر، فلا يُسَنُّ للإنسان أن يتطوَّع برَكعة، ولا يُشرع له ذلك إلا في
الوِتر، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للرَّجُل الذي دخل وهو يخطب يوم الجُمُعة (قُمْ فصَلِّ رَكعتين، وتَجَوَّزْ فيهما)، ولو كان يُشرع شيءٌ أقلُّ من ركعتين؛ لأمره به مِن أجل أنْ يستمع للخُطبة، ولهذا أمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يتجوَّز في الرَّكعتين.
ودليلُ ذلك أيضاً: حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ (صيامُ ثلاثة أيام مِن كُلِّ شهر، وركعتي الضُّحى، وأنْ أوتِرَ قبل أن أنام).
والصَّحيحُ: أنَّ التطوُّع بركعة لا يصحُّ، وإنْ كان بعضُ أهل العلم قال: إنه يصحُّ أنْ يتطوَّعَ بركعة، لكنه قولٌ ضعيف كما سبق.
(وأكثرُها ثمان).
أي: أكثر صلاة الضحى ثمان ركعات.
لحديث أُمّ هَانِئ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي بَيْتِهَا عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْه) متفق عليه.
وذهب بعض العلماء: إلى أن أكثرها [12] ركعة.
لحديث أَنَس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَلَّى اَلضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اَللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي اَلْجَنَّةِ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ.
جاء في (الموسوعة الفقهية) وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِهَا:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ صَلَاةِ الضُّحَى ثَمَانٍ.
لِمَا رَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَل بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفُّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.
ويَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الْوَجْهِ الْمَرْجُوحِ - وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - أَنَّ أَكْثَرَ صَلَاةِ الضُّحَى اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً.
لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا مِنْ ذَهَبٍ فِي الْجَنَّةِ). انتهى.
وذهب بعضهم: إلى أنه لا حد لأكثرها.
وبه قال ابن جرير الطبري.
أ- لحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
…
إن صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين
…
) رواه البزار وحسنه الألباني
ولقول عائشة - وقد تقدم - (كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله).
وهذا القول هو الراجح.
قال السيوطي: لم يرد حديث بانحصار صلاة الضحى في عدد مخصوص، فلا مستند لقول الفقهاء: أن أكثرها ثنتي عشرة ركعة.
وقال الشيخ ابن عثيمين: والصَّحيح: أنه لا حَدَّ لأكثرها؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله) أخرجه مسلم.
ولم تُقَيِّد، ولو صَلَّى مِن ارتفاع الشَّمس قيدَ رُمْحٍ إلى قبيل الزوَّال أربعين ركعة مثلاً؛ لكان هذا كلّه داخلاً في صلاة الضُّحى.
ويُجاب عن حديث أُمِّ هانئ بجوابين:
الجواب الأول: أن كثيراً من أهل العلم قال: إن هذه الصَّلاة ليست صلاة ضُحى، وإنما هي صلاة فتح، واستحبَّ للقائد إذا فتح بلداً أن يُصَلِّي فيه ثمان ركعات شكراً لله عز وجل على فتح البلد؛ لأن من نعمة الله عليه أن فتح عليه البلد، وهذه النِّعمة تقتضي الخشوع والذُّل لله والقيام بطاعته، ولهذا لا نعلم أن أحداً فتح بلداً أعظم من مَكَّة، ولا نعلم فاتحاً أعظم من محمَّد صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أنَّ الاقتصار على الثَّمان لا يستلزم أنْ لا يزيد عليها؛ لأنَّ هذه قضيةُ عَين، أرأيت لو لم يُصَلِّ إلا ركعتين، هل نقول: لا تزيد على ركعتين؟.
الجواب: لا؛ لأنَّ قضيةَ العين وما وقع مصادفة فإنه لا يُعَدُّ تشريعاً. وهذه قاعدةٌ مفيدةٌ جداً، ولهذا لا يستحبُّ للإنسان إذا دفع مِن (عرفة) وأتى الشِّعبَ الذي حول مزدلفة؛ أنْ ينزلَ فيبول ويتوضأ وضوءاً خفيفاً، كما فَعَلَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما دَفَعَ مِن (عَرفة)
في الحَجِّ؛ ووصل إلى الشِّعبِ نَزَلَ فَبَالَ وتوضَّأ وضوءاً خفيفاً لأن هذا وقع مصادفة، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم احتاج أن يبولَ فنزل فبال وتوضَّأ؛ لأجل أن يكون فعلُه للمناسك على طهارة.
• لو صلى أكثر من ركعتين، فكيف يصليها؟
يسلم من كل ركعتين، وبهذا قال النووي، والحافظ ابن حجر، والشوكاني.
لحديث أم هانئ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين) رواه أبو داود.
ويستدل أيضاً بحديث (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) على قول من صححها.
(ووقتُها من خروجِ وقت النهي إلى قبيْل الزوال).
أي: وقت صلاة الضحى من خروج وقت النهي: لأن وقت النهي من طلوع الشمس إلى أن ترتفع قيد رمح.
إلى قبيل الزوال: أي إلى قبيل الزوال بزمن قليل، لأن ما قبيل الزوال وقت نهي.
(وفعلُها في آخر الوقت أفضل).
أي: أن الأفضل في صلاة الضحى أن تفعل في آخر وقتها.
لحديث زيْدِ بْنِ أَرْقَمَ; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (صَلَاةُ اَلْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ اَلْفِصَالُ) رواه مسلم.
والفصال هي أولاد الإبل، ومعنى ترمض تشتد عليها الرمضاء وهي حرارة الشمس.
قال النووي: قوله (تَرْمَضُ اَلْفِصَالُ) هُوَ بِفَتْحِ التَّاء وَالْمِيم يُقَال: رَمِضَ يَرْمَض كَعَلِمَ يَعْلَم، وَالرَّمْضَاء: الرَّمَل الَّذِي اِشْتَدَّتْ حَرَارَته بِالشَّمْسِ، أَيْ حِين يَحْتَرِق أَخْفَاف الْفِصَال وَهِيَ الصِّغَار مِنْ أَوْلَاد الْإِبِل - جَمْع فَصِيل - مِنْ شِدَّة حَرّ الرَّمَل. وَالْأَوَّاب: الْمُطِيع، وَقِيلَ: الرَّاجِع إِلَى الطَّاعَة. وَفِيهِ: فَضِيلَة الصَّلَاة هَذَا الْوَقْت. قَالَ أَصْحَابنَا: هُوَ أَفْضَل وَقْت صَلَاة الضُّحَى، وَإِنْ كَانَتْ تَجُوز مِنْ طُلُوع الشَّمْس إِلَى الزَّوَال. (شرح مسلم).
فوائد:
فائدة 1: روى أحمد وأبو داود عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ الْغَطَفَانِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (قَالَ اللهُ عز وجل: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَه).
وأخرجه الترمذي من حديث أبي الدرداء، وأبي ذر رضي الله عنهما بلفظ (ابْنَ آدَمَ، ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ) وحسنه الذهبي في "السير".
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الصلاة:
فذهب بعضهم إلى أن المراد بها صلاة الضحى.
منهم: أبوداود، والترمذي، والعراقي، وابن رجب الحنبلي، وغيرهم.
وذهب البعض الآخر إلى أن المراد بها صلاة الصبح وسنتها.
ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
قال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها. (زاد المعاد).
فائدة 2: قال الشيخ ابن عثيمين:
…
القسم الثاني: لا يصح تداخل العبادات فيه، وذلك فيما إذا كانت العبادتان مقصودتين، فهنا لا يمكن أن تُدخَل نيتان في فعل واحد.
مثّل لذلك الشيخ ابن عثيمين فقال: إنسان فاتته سنة الفجر حتى طلعت الشمس، وجاء وقت صلاة الضحى، فهنا لا تجزئ سنة الفجر عن صلاة الضحى، ولا الضحى عن سنة الفجر، ولا الجمع بينهما أيضاً؛ لأن سنة الفجر مستقلة وسنة الضحى مستقلة، فلا تجزئ إحداهما عن الأخرى.
وهكذا أيضاً سنة الطواف مع سنة الفجر، مثلا: لو انتهى الإنسان من طوافه بعد أذان الفجر وقبل الإقامة، فنوى بالركعتين سنة الطواف
وراتبة الفجر فإنها لا تغني إحداهما عن الأخرى؛ لأن سنة الطواف سنة مقصودة بذاتها، وسنة الفجر سنة مقصودة بذاتها.
…
(لقاءات الباب المفتوح).
وقال في موضع آخر: وبعض السنن يكون المقصود منها تحصيل الصلاة فقط، فمثلاً: سنة الوضوء المقصود بها أن تصلي ركعتين بعد الوضوء؛ سواء سنة الوضوء أو ركعتي الضحى أو راتبة الظهر أو راتبة الفجر أو السنة التي تكون بين الأذان والإقامة؛ لأن بين كل أذانين صلاة، وكذلك تحية المسجد يجوز إذا دخلتَ المسجد أن تصلي بنية الراتبة وتغني عن تحية المسجد.
فائدة 3: وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن صلاة الإشراق وصلاة الضحى فأجاب: سنة الإشراق هي سنة الضحى، لكن إن أديتها مبكراً من حين أشرقت الشمس وارتفعت قيد رمح فهي صلاة الإشراق، وإن كان في آخر الوقت أو في وسط الوقت فإنها صلاة الضحى، لكنها هي صلاة الضحى؛ لأن أهل العلم رحمهم الله يقولون: إن وقت صلاة الضحى من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى قبيل الزوال.
…
(لقاء الباب المفتوح).
فائدة 4: قال النووي: وَأَمَّا مَا صَحَّ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ فِي الضُّحَى: هِيَ بِدْعَة. فَمَحْمُول عَلَى أَنَّ صَلَاتهَا فِي الْمَسْجِد وَالتَّظَاهُر بِهَا، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِدْعَة لَا أَنَّ أَصْلهَا فِي الْبُيُوت وَنَحْوهَا مَذْمُوم، أَوْ يُقَال: قَوْله: بِدْعَة. أَيْ الْمُوَاظَبَة عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَاظِب عَلَيْهَا خَشْيَة أَنْ تُفْرَض، وَهَذَا فِي حَقّه صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ ثَبَتَ اِسْتِحْبَاب الْمُحَافَظَة فِي حَقّنَا بِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاء وَأَبِي ذَرّ، أَوْ يُقَال: إِنَّ اِبْن عُمَر لَمْ يَبْلُغهُ فِعْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الضُّحَى وَأَمْره بِهَا. وَكَيْف كَانَ فَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَاب الضُّحَى، وَإِنَّمَا نُقِلَ التَّوَقُّف فِيهَا عَنْ اِبْن مَسْعُود وَابْن عُمَر، وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم).
(وتسن تحية المسجد).
أي: يسن لداخل المسجد ألا يجلس حتى يصلي ركعتين تحية للمسجد.
وقد تقدمت مباحثها.
(وسُنة الوضوء).
أي: ويسن أن يصلي عقب الوضوء، في أي وقت من ليل أو نهار.
أ- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة) رواه مسلم.
ب- وعن عُثْمَانَ بْن عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه) متفق عليه.
قال ابن حجر: فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء.
• والمشروع أن تؤدى عقب الوضوء مباشرة
قال النووي: يستحب ركعتان عقب الوضوء للأحاديث الصحيحة فيها.
…
(المجموع).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ الْوُضُوءِ وَلَوْ كَانَ وَقْتَ النَّهْيِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة.
• وتجزئ هذه الصلاة عن تحية المسجد لمن دخل المسجد، لأنها يتحقق بها المقصود، وكذا يجوز أداؤها في أوقات النهي كغيرها من ذوات الأسباب.
فائدة: ومن الصلوات المسنونة: صلاة ركعتين عند الرجوع من السفر.
وقد ثبتت هذه السنة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله.
عن كعب بن مالك. قال (كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاس) متفق عليه.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي وَأَعْيَى ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلِي وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ فَجِئْتُ الْمَسْجِدَ فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ: الآنَ حِينَ قَدِمْتَ». قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ: فَدَعْ جَمَلَكَ وَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ فَدَخَلْتُ
فَصَلَّيْتُ ثُمَّ رَجَعْت) متفق عليه.
وقد بوب النووي في شرحه لصحيح مسلم لذلك فقال: باب استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه .. ثم ساق حديث كعب بن مالك في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس فيه.
ثم قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث اِسْتِحْبَاب رَكْعَتَيْنِ لِلْقَادِمِ مِنْ سَفَره فِي الْمَسْجِد أَوَّل قُدُومه، وَهَذِهِ الصَّلَاة مَقْصُودَة لِلْقُدُومِ مِنْ السَّفَر، لَا أَنَّهَا تَحِيَّة الْمَسْجِد، وَالْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة صَرِيحَة فِيمَا ذَكَرْته.
ومثل ذلك فعل أبو داود رحمه الله في سننه فقال: باب في الصلاة عند القدوم من السفر. ثم ذكر حديث كعب المذكور في صحيح مسلم.
قال في عون المعبود شرح سنن أبي داود بعد أن ذكر هذا الحديث وحديثاً آخر في معناه: وفي الحديثين دلالة على أن المسافر إذا قدم من السفر فالمسنون له أن يبتدئ بالمسجد ويصلي ركعتين. انتهى.
وقال ابن القيم في صدد ذكره الحكم والفوائد التي اشتملت عليها قصة الثلاثة الذين خلفوا: ومنها أن السنة للقادم من السفر أن يدخل البلد على وضوء وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس للمسلمين عليه ثم ينصرف إلى أهله.
وقال الشيخ ابن عثيمين: وهذه السنة قد غفل عنها كثير من الناس إما جهلاً بذلك وإما تهاوناً ولكن ينبغي للإنسان أن يحيي هذه السنة وإذا وصل إلى البلد فليكن أول ما يبدأ به أن يدخل إلى المسجد ويصلي ركعتين ثم بعد ذلك يذهب إلى أهله والله الموفق.
• إذا دخل المسافر بلده والناس يصلون فدخل معهم في الصلاة أجزأته الفريضة عن ركعتي القدوم لدخولها في الفريضة كتحية المسجد مع الراتبة أو الفريضة فيحدث التداخل سواء مع الفريضة أو النافلة، وينبغي للإنسان ألا يغفل عن النية في باب التداخل.
(ويسن سجود التلاوة).
أي: أن سجود التلاوة عند وجود سببه سنة.
• وسجود التلاوة سجدة واحدة يسجدها المسلم إذا قرأ آية من آيات السجدة، وهي معروفة في المصحف.
وقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُجُودَ التِّلاوَةِ يَحْصُلُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَة. (الموسوعة الفقهية).
أ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ) رواه البخاري.
ب- وعن ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ بَعْضُنَا مَوْضِعًا لِمَكَانِ جَبْهَتِهِ) متفق عليه.
قال النووي: فيه إثبات سجود التلاوة، وقد أجمع العلماء عليه.
وقد ذهب بعض العلماء: إلى وجوبه.
وهذا مذهب الحنفية، وهو اختيار ابن تيمية.
أ-لقوله تعالى (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُون) فذمهم الله على ترك السجود.
ب-ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مرّ ابن آدم بالسجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويلي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) رواه مسلم.
فقوله (أمر ابن آدم) والأمر للوجوب.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه غير واجب.
أ- لحديث زَيْد بْنِ ثَابِت قَالَ (قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَالنَّجْمِ) فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا) متفق عليه.
ولو كان واجباً لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به.
ب- ولحديث رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ (أن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ
أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه رواه البخاري.
وَزَادَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ.
ووجه الدلالة منه من وجهين:
الأول: قوله (ومن لم يسجد فلا إثم عليه).
والثاني: أن هذا كان بحضرة الجمع الكثير من الصحابة ولم ينكر ذلك عليه أحد.
قال الحافظ ابن حجر: قوله (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) قال: ظاهرة في عدم الوجوب.
قوله (ولم يسجد عمر) قال الحافظ: فيه توكيد لبيان جواز ترك السجود بغير ضرورة.
وقال النووي: وهذا الفعل والقول من عمر رضي الله عنه في هذا الموطن والمجمع العظيم دليل ظاهر في إجماعهم على أنه ليس بواجب.
وقال الشوكاني: تصريحه - يعني عمر - بعدم الفرضية، وبعدم الإثم على التارك، في مثل هذا الجمع من دون صدور إنكار يدل على إجماع الصحابة على ذلك.
وهذا القول هو الصحيح.
وأما الجواب عن الآية (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُون).
قال ابن قدامة: فَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهُ ذَمَّهُمْ لِتَرْكِ السُّجُودِ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ فَضْلَهُ، وَلَا مَشْرُوعِيَّتَهُ.
وقال البهوتي: وَإِنَّمَا ذُمَّ مَنْ تَرَكَهُ بِقَوْلِهِ (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ) تَكْذِيبًا وَاسْتِكْبَارًا كَإِبْلِيسَ وَالْكُفَّارِ وَلِهَذَا قَالَ (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
• لمَ لمْ يسجد النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث زيد بن ثابت؟
قيل: تركه لبيان الجواز.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعي.
وقيل: يحتمل أنه ترك السجود فيها لأن زيداً هو القارئ ولم يسجد، ولو سجد لسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر هذا الجواب أبو داود والترمذي، وذكره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية.
(وهو صلاة).
أي: حكمه حكم الصلاة، فتشترط له الطهارة واستقبال القبلة.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلسُّجُودِ مَا يُشْتَرَطُ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ؛ مِنْ الطَّهَارَتَيْنِ مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه فِي الْحَائِضِ تَسْمَعُ السَّجْدَةَ، تُومِئُ بِرَأْسِهَا.
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.
…
(المغني).
وقال القرطبي: ولا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة من طهارة حدث ونجس، ونية، واستقبال قبلة، ووقت. إلا ما ذكر البخاري عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير طهارة. وذكره ابن المنذر عن الشعبي.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الله صلاة بغير طهور)، قالوا: فيدخل في عمومه السجود.
ب- القياس على سجود السهو بعد السلام، فكما اشترطت الطهارة له، فكذلك تشترط الطهارة لسجود التلاوة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشترط له ما يشترط للصلاة.
وهذا اختيار بعض المحققين، كابن جرير، وابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني.
أ-لحديث ابن عباس السابق (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس).
وجه الدلالة من وجهين:
الأول: سجود المشركين، وهم على ما هم عليه من الحدث، وأُقرُّوا على ذلك، وسمى الصحابة فعلهم هذا سجوداً.
والثاني: أنه يبعد أن يكون جميع من حضر من المسلمين كانوا عند قراءة الآية على وضوء، لأنهم لم يتأهبوا لذلك، فيكون سجودهم مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك دليلاً على عدم اشتراط الطهارة لسجود التلاوة.
قال الشوكاني: ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئاً، وقد كان يسجد معه صلى الله عليه وسلم من حضر تلاوته، ولم ينقل أنه أمر أحداً منهم بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعاً متوضئين. وأيضاً قد كان يسجد معه المشركون كما تقدم، وهم أنجاس لا يصح وضوؤهم.
ب- ما جاء عن ابن عمر (أنه كان يسجد للتلاوة على غير وضوء) رواه ابن أبي شيبة والبخاري تعليقاً.
وهذا القول هو الصحيح.
• هل إذا مر بآية سجدة وتجاوزها ونسي أن يسجد؟ هل يرجع ويسجد أم لا؟
إن ذكر مع قرب الفصل سجد، وإن تجاوزها وطال الفصل فإنه لا يسجد، لأن القاعدة عند أهل العلم: أن السنة إذا فات محلها فإنها تسقط، لأنها عُلّقت بسبب فزال. (الشيخ ابن عثيمين).
(ويُسن لِلْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِع دون السامع).
أي: أن سجود التلاوة سنة في حق القارئ والمستمع.
القارئ: هو من يقرأ القرآن.
والمستمع: هو الذي ينصت للقراءة.
دليل القارئ:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد إذا مرّ بآية سجدة.
ودليل المستمع:
لأن الصحابة كانوا يسجدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما في حديث ابن عمر السابق (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ بَعْضُنَا مَوْضِعًا لِمَكَانِ جَبْهَتِه).
دون السامع:
وهذا قول المالكية، والحنابلة.
وهو الذي يسمع الشيء دون أن ينصت إليه.
قال ابن قدامة: وَيُسَنُّ السُّجُودُ لِلتَّالِي وَالْمُسْتَمِعِ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
فَأَمَّا السَّامِعُ غَيْرُ الْقَاصِدِ لِلسَّمَاعِ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَرَوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِمْرَانَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
أ- عن عثمان: إنما السجدة على من استمعها. رواه البخاري تعليقاً.
ب- وعن ابن عباس قال: إنما السجدة على من جلس لها. رواه ابن أبي شيبة.
ج- وَلِأَنَّ السَّامِعَ لَا يُشَارِكُ التَّالِيَ فِي الْأَجْرِ، فَلَمْ يُشَارِكْهُ فِي السُّجُودِ كَغَيْرِه. (كشاف القناع).
(وإنْ لم يسجدْ القارئ لم يسجد).
أي: وإن لم يسجد القارئ لم يسجد المستمع.
لأن زيد بن ثابت - كما تقدم - قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم فلم يسجد فيها.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يسن له السجود ولو لم يسجد القارئ.
قال النووي:
…
وسواء سجد القارئ أم لم يسجد يسن للمستمع أن يسجد، هذا هو الصحيح وبه قطع الجمهور.
فائدة: وللمستمع الرفع من السجود قبل القارئ في غير الصلاة.
قال في الإنصاف: وهو الصواب.
(وهو أربع عشرةَ سجدة).
أي: أن آيات السجود التي في القرآن أربع عشرة سجدة.
اختلف العلماء في عدد السجدات:
مذهب الحنابلة: 15 سجدة.
مذهب الشافعية: 14 سجدة، لم يحسبوا سجدة (ص).
مذهب مالك: 11 سجدة، أسقطوا سجدات المفصل.
مذهب أبو حنيفة: 14 سجدة، أسقطوا السجدة الثانية من الحج.
فائدة: اتفق العلماء على مشروعية السجود في عشرة مواضع، وهي متوالية، إلا ثانية الحج و (ص).
ويدل على السجود في المفصل:
أ- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي: (إِذَا اَلسَّمَاءُ اِنْشَقَّتْ) و: (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ب- سجود النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم كما تقدم في حديث زيد بن ثابت.
وذهب مالك: إلى أنه لا سجود في المفصل.
لحديث ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة) رواه أبو داود.
والجواب عن هذا الحديث من وجهين:
أولاً: أنه حديث ضعيف لمخالف للأحاديث الصحيحة.
ولذلك ضعفه البيهقي، وعبد الحق، والنووي، وابن حجر، وغيرهم.
ثانياً: على فرض ثبوته، فإن حديث أبي هريرة مقدم عليه، لأنه مثبت، وحديث ابن عباس نافٍ، والمثبت مقدم على النافي.
قال ابن قدامة: وَأَبُو هُرَيْرَةَ إنَّمَا أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ.
ثُمَّ إنَّ تَرْكَ السُّجُودِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالسُّجُودَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ أَبُو دَاوُد إسْنَادُهُ وَاهٍ.
ثُمَّ لَا دَلَالَةَ فِيهِ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُجُودُ غَيْرِ الْمُفَصَّلِ إحْدَى عَشْرَةَ فَيَكُونَ مَعَ سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ.
• اتفق العلماء على أن السجدة الأولى في الحج من مواضع السجود، كما نقله النووي، وابن حجر.
واختلفوا في السجدة الثانية.
فذهب الحنفية إلى أنها لا يسجد بها.
قالوا: إن آخر الحج، السجود فيها سجود الصلاة، لاقترانه بالركوع، بخلاف الأولى، فإن السجود فيها مجرد عن ذكر الركوع.
والصحيح أنه يسجد فيها.
لورود الأحاديث في ذلك، لكنها لا تصح.
أ- كحديث عُقْبَة بْن عَامِر (قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا، فَلَا يَقْرَأْهُمَا) رواه أبو داود. (ضعيف).
ب- وحديث عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ
سَجْدَتَان) رواه أبو داود.
…
(ضعيف).
إلا أن عمل الصحابة على السجود فيها قد يستأنس به على مشروعيتها، ولا سيما لا يعرف لهم مخالف.
قال النووي: فممن أثبتها: عمر بن الخطاب، وعلي، وابن عمر، وأبو الدرداء، وأبو موسى، وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود.
قال ابن المنذر: قال أبو إسحاق -يعني السبيعي التابعي الكبير- أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين.
ذهب الشافعية: إلى أنه لا يسجد في سجدة (ص).
لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وقال: سجد هنا داود توبة، ونحن نسجدها شكراً) رواه النسائي.
والصحيح أنها موضع سجود.
أ- لحديث أبي سعيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (ص) وهو على المنبر، فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي توبة نبي، ولكن قد رأيتكم تشزنتم، فنزل وسجد وسجدوا) رواه أبو داود.
…
(التشزن): التأهب والتهيؤ.
فسجوده صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأولى وترك الخطبة لأجلها يدل على أنها سجدة تلاوة.
ب- ولحديث اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (ص) لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ اَلسُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
قوله (ليست من عزائم السجود) أي: ليست من السجدات المؤكدات التي ورد في السجود فيها أمر أو تحضيض أو حث كغيرها من سجدات القرآن، وإنما وردت بصيغة الإخبار عن داود عليه السلام أنه سجدها، وسجدها نبينا صلى الله عليه وسلم اقتداء به.
(ويكبر إذا سجد وإذا رفع).
هذا بيان لصفة سجود التلاوة، وأنه يكبر إذا سجد، ويكبر إذا رفع.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة وهي: حكم التكبير لسجود التلاوة خارج الصلاة والرفع منه؟ على أقوال:
القول الأول: يسن التكبير في الهوي والرفع منه.
وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
أ-لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا اَلْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ، كَبَّرَ، وَسَجَدَ، وَسَجَدْنَا مَعَهُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (ضعيف).
(فإذا مر بالسجدة كبّر) فإن فيه التكبير للهوي.
ب-ولأنه سجود منفرد، فشرع التكبير في ابتدائه والرفع منه، كسجود السهو بعد السلام.
ج-وقياساً على سجدات الصلاة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر في كل خفض ورفع.
القول الثاني: يكبر في الخفض دون الرفع.
وذهب إليه جماعة من العلماء ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
لحديث ابن عمر السابق (فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ، كَبَّرَ، وَسَجَدَ).
القول الثالث: لا يشرع التكبير مطلقاً.
لعدم الدليل على إثبات التكبير لسجود التلاوة خارج الصلاة، والسنن لا تثبت إلا بدليل صحيح.
وهذا اختيار ابن تيمية.
وهذا هو الصحيح.
• أما السجود إذا كان داخل الصلاة، فإنه يكبر لها إذا سجد، لأنه له حكم سجود الصلاة، وقد جاء في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر كلما خفض ورفع.
• ما رأيك فيما يفعله بعض الناس داخل الصلاة من أنه يكبر إذا سجد ولا يكبر إذا رفع؟
هذا وهْم منه، وليس الفعل مبنياً على أصل صحيح. (الشيخ ابن عثيمين).
(ويجلس ويسلم).
أي: إذا فرغ من سجود التلاوة سلم له.
والراجح أنه لا يسن التسليم له لعدم ثبوت ذلك.
(ويقول فيه كما في سجود الصلاة).
أي: أنه يقول في سجود التلاوة كما يقول في سجود الصلاة: سبحان ربي الأعلى.
وقد جاءت أدعية أخرى اختلف العلماء في صحتها:
منها: جاء في حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل: سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين) رواه أبو داود.
ومنها: ما جاء عن ابن عباس قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل، فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم، كأني أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول: اللهم احطط بها عني وزراً، واكتب لي بها أجراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة). رواه الترمذي
(ويكرهُ للإمام قراءةُ سجدةٍ في صلاة سرٍ وسجوده فيها).
وهذا مذهب الحنابلة.
لأن في ذلك إيهاماً للمأمومين.
…
(المغني).
ولِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَسْجُدَ لَهَا أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ لَهَا كَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ وَإِنْ سَجَدَ لَهَا أَوْجَبَ الْإِبْهَامَ وَالتَّخْلِيطَ عَلَى الْمَأْمُومِ فَكَانَ تَرْكُ السَّبَبِ الْمُفْضِي إلَى ذَلِكَ أَوْلى.
…
(كشاف القناع).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز.
وهذا مذهب الشافعية.
لحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الظهر، ثم قام فركع، فرأيت أنه قرأ: تنزيل السجدة). رواه أبو داود وهو ضعيف
• أما في الصلاة الجهرية فهو مشروع.
أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ (الم تَنْزِيلُ) السَّجْدَةَ، وَ (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ). متفق عليه
ب- وعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فَسَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ قَالَ سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ) متفق عليه.
(ويستحب سجود الشكر).
أي: سجود الشكر عند وجود سببه مستحب.
أ- لحديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ خَرَّ سَاجِداً لِلَّهِ) رَوَاه أبو داود.
ب- وعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: (سَجَدَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَطَالَ اَلسُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ آتَانِي، فَبَشَّرَنِي، فَسَجَدْت لِلَّهِ شُكْراً) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ
ج- وَعَنْ اَلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى اَلْيَمَنِ - فَذَكَرَ اَلْحَدِيثَ - قَالَ: فَكَتَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلْكِتَابَ خَرَّ سَاجِدًا) رَوَاهُ اَلْبَيْهَقِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي اَلْبُخَارِيِّ.
د-ونقل فعله عن كثير من السلف:
فقد روي عن أبي بكر أنه سجد لما جاءه خبر فتح اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب. رواه عبد الرزاق
وروي أن أمير المؤمنين عمر، سجد لما جاءه خبر بعض الفتوحات في عهده.
وسجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حين وجد ذا الثدية مع قتلى الخوارج بعد وقعت النهروان بينه وبينهم، لأنه عرف أنه على الحق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الخوارج أنهم شرّ الناس، وأن سيماهم أن منهم رجلاً ليس له ذراع، وعلى رأس عضده مثل ملحة الثدي.
• وثبت أن كعب بن مالك سجد لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه.
وذهب بعض العلماء: إلى كراهته.
لحديث أنس قال (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي
…
فمطرنا
…
).
قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد لتجدد نعمة المطر أولاً، ولا لدفع نقمته آخراً.
والراجح أنه مستحب وهو قول الجمهور.
والجواب عن دليل من قال بالكراهة: أن ترك السجود في بعض المواضع، لا يدل على أن سجود الشكر غير مستحب.
(عند تجدد النعَم، واندفاع النقَم).
أي: أن سجود الشكر يشرع عند تجدد النعم، واندفاع النقم.
وقد ذكر كثير من العلماء: أنه لا يستحب السجود للنعم المستمرة، كنعمة الإسلام، ونعمة العافية، ونعمة الحياة، ونعمة الغنى عن الناس.
لأن نعم الله دائمة لا تنقطع، فلو سجد لذلك لاستغرق عمره في السجود.
قال النووي رحمه الله في "المجموع"(3/ 564): قال الشافعي والأصحاب: سجود الشكر سنة عند تجدد نعمة ظاهرة واندفاع نقمة ظاهرة، سواء خصته النعمة والنقمة أو عمت المسلمين. قال أصحابنا: وكذا إذا رأى مبتلى ببلية في بدنه أو بغيرها أو بمعصية يستحب أن يسجد شكرا لله تعالى، ولا يشرع السجود لاستمرار النعم; لأنها لا تنقطع " انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين"(2/ 296): فإن النعم نوعان: مستمرة، ومتجددة، فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات، والمتجددة شرع لها سجود الشكر; شكرا لله عليها، وخضوعا له وذلا، في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها، وذلك من أكبر أدوائها; فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الأشرين; فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين.
•
اختلف العلماء: هل يشترط لسجود الشكر الطهارة أم لا على قولين؟
القول الأول: لا يشترط له الطهارة.
وهذا قول ابن جرير، وابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني.
أ-لعدم الدليل.
ب-أن ظاهر حديث أبي بكرة وغيره من الأحاديث التي روي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها سجود الشكر، تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتطهر لهذا السجود.
قال ابن القيم: وكانوا يسجدون عقبه، ولم يؤمروا بوضوء، ولم يخبروا أنه لا يفعل إلا بوضوء، ومعلوم أن هذه الأمور تدهم العبد وهو على غير طهارة، فلو تركها لفاتت مصلحتها.
ج-لو كانت الطهارة وغيرها من شروط الصلاة واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.
د-أن سجود الشكر يأتي فجأة، وقد يكون من يريد السجود على غير طهارة، وفي تأخير السجود بعد وجود سببه حتى يتوضأ، زوال لسرّ المعنى الذي شرع السجود لأجله.
القول الثاني: يشترط له الطهارة.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
قالوا: أن السجود المجرد صلاة، لأنه سجود يقصد به التقرب إلى الله، فشرط له الوضوء.
والراجح الأول.
• ليس لسجود الشكر تكبير لا في أوله ولا في آخره، لعد ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه.
•
ماذا يقال في سجود الشكر؟
ليس له ذكر معين، بل يستحب أن يأتي بذكر يناسب المقام.
قال الشوكاني: ينبغي أن يستكثر من شكر الله عز وجل، لأن السجود سجود شكر.
• لا يجوز السجود للشكر في الصلاة.
لأن سبب السجود في هذه الحالة ليس من الصلاة، وليس له تعلق بها، بخلاف سجود التلاوة.
• لا يوجد هناك صلاة تسمى صلاة شكر.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: لا أعلم أنه ورد شيء في صلاة الشكر، وإنما الوارد في سجود الشكر.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لا أعلم في السنة صلاة تسمى: صلاة الشكر، ولكن فيها سجوداً يسمى: سجود الشكر.
(وَأَوْقَاتُ النَّهْي خَمْسَةٌ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ الثَّانِي إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وِمِنْ طُلُوعِهَا حَتَّى تَرْتَفِعَ قَيْدَ رُمْح، وَعِنْدَ قِيَامِهَا حَتَّى تَزُولَ، وَمِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَإِذَا شَرَعَتْ فِيهِ حَتَّى يَتِم).
هذه أوقات النهي التي لا يجوز أن يتطوع الإنسان فيها بالصلاة.
وهي ثلاثة بالاختصار وخمسة بالبسط وهي:
أولاً: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ومن طلوعها إلى ارتفاعها.
الثاني: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، ومن غروبها إلى أن يتم.
الثالث: إذا قامت الشمس في وسط السماء.
وقد دلت الأحاديث الآتية عليها.
وحديث عقبة - الآتي إن شاء الله - دل على الأوقات القصيرة (من طلوع الشمس إلى ارتفاعها. ومن غروب الشمس إلى أن يتم. وإذا قامت الشمس في وسط السماء).
أ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَا صَلَاةَ بَعْدَ اَلصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ اَلْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ اَلشَّمْسُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَفْظُ مُسْلِم (لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمس).
ب- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَانَ أَحَبَّهُمْ إِلَيَّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْس) متفق عليه.
ج-وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْس) متفق عليه.
د- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بِقَرْنَيْ شَيْطَان) متفق عليه
هـ- وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِر (ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّي فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ اَلشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ اَلظَّهِيرَةِ حَتَّى تَزُولَ اَلشَّمْسُ، وَحِينَ تَتَضَيَّفُ اَلشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ) رواه مسلم.
(وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ اَلظَّهِيرَةِ) المراد به: قيام الشمس وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابته: وقفت، والشمس إذا بلغت وسْط السماء أبطأت حركة الظل إلى أن تزول، فيتخيل الناظر المتأمل أنها وقفت وهي سائرة، وهذا الوقت قصير جداً
ففي هذه الأحاديث النهي عن صلاة التطوع في هذه الأوقات، وهذا قول جماهير العلماء.
وقال بعض العلماء بالجواز.
قال الحافظ: وبه قال داود وغيره من أهل الظاهر، وبذلك جزم ابن حزم. قالوا: أن أحاديث النهي منسوخة.
والراجح قول الجمهور.
• قوله (لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ
…
) فيه أن وقت النهي بالنسبة للعصر متعلق بفعل الصلاة، لا بدخول الوقت.
قال ابن قدامة: وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، فَمَنْ لَمْ يُصَلِّ أُبِيحَ لَهُ التَّنَفُّلُ، وَإِنْ صَلَّى غَيْرُهُ.
وَمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَفُّلُ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ سِوَاهُ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ.
وأما الفجر فقد اختلف العلماء:
القول الأول: أن النهي يبدأ بطلوع الفجر.
وهذا مذهب الحنفية والحنابلة.
لحديثَ عَنْ اِبْنِ عُمَرَ. أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا صَلَاةَ بَعْدَ اَلْفَجْرِ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ) أَخْرَجَهُ اَلْخَمْسَةُ، إِلَّا النَّسَائِيُّ.
وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اَلرَّزَّاقِ (لَا صَلَاةَ بَعْدَ طُلُوعِ اَلْفَجْرِ إِلَّا رَكْعَتَيْ اَلْفَجْرِ).
القول الثاني: أن النهي يبدأ بعد صلاة الفجر.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
أ-لقوله في الحديث السابق في صحيح مسلم (وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمس) حيث فيه تعليق الحكم بنفس الصلاة.
ب-وعن عمر بن عبَسَةَ السلمي أنه قال: (قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر فصلّ ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح).
فهذا نص في أنه يصلي في آخر الليل إلى أن يصلي الفجر.
وهذا القول هو الصحيح لكن بين الأذان والإقامة لا يشرع سوى ركعتي الفجر.
• قال الشيخ ابن عثيمين: ولكن القول الصحيح: أن النهي يتعلَّقُ بصلاةِ الفجرِ نفسِهَا، وأما ما بين الأذان والإقامة، فليس وقت، لكن لا يُشرع فيه سوى ركعتي الفجر
…
فإذا كان هذا هو القول الصَّحيح؛ فما الجواب عن الحديث الذي استدلَّ به المؤلف؟
الجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أنَّ الحديث ضعيف.
الثاني: على تقدير أنَّ الحديث صحيحٌ؛ يُحمل قولُه: " لا صلاةَ بعدَ طُلوع الفجرِ " على نفي المشروعية، أي: لا يُشرع للإنسانِ أنْ يتطوَّعَ بنافلةٍ بعد طُلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، وهذا حقٌّ؛ فإنه لا ينبغي للإنسان بعد طُلوعِ الفجر أنْ يتطوَّع بغير ركعتي الفجر، فلو دخلت المسجدَ وصلَّيتَ ركعتي الفجر، ولم يَحِنْ وقتُ الصَّلاة وقلتَ: سأتطوَّعُ؟ قلنا لك: لا تفعل؛ لأنَّ هذا غيرُ مشروع، لكن لو فعلتَ لم تأثم، وإنما قلنا: غيرُ مشروع؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان يُصلِّي ركعتين خفيفتين بعد طُلوعِ الفجرِ. وهي سُنَّةُ الفجرِ فقط، يعني: بل حتى تطويل الرَّكعتين ليس بمشروع. (الشرح الممتع).
• الحكمة من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات:
قال ابن القيم:
…
وكان من حكمة ذلك أنها وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سداً للذريعة المشاركة الظاهرة.
وقال ابن تيمية: الشيطانُ يقارن الشمس، وحينئذٍ يسجد لها الكفَّار، فالمصلِّي حينئذٍ يتشبه بهم في جِنس الصلاة، فالسُّجُودُ وإنْ لم يكونوا يعبدون معبودَهم، ولا يقصدون مقصودهم، لكن يشبههم في الصُّورة، فنهَى عن الصلاة في هذين الوقتين سدًّا للذريعة؛ حتى ينقطِع التشبُّهُ بالكفَّار، ولا يتشبه بهم المسلِم في شِرْكهم. (مجموع الفتاوى).
وأما النهي عند قيامها واستوائها في وسط السماء حتى تزول فلأنه وقت تُسجَّر فيه النار كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي الإمساك عن
الصلاة في هذه الأوقات.
أ- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بِقَرْنَيْ شَيْطَانٍ) رواه مسلم.
ب- وعن عمرو بن عبسة قال: (قلت: يا نبي الله أخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ قَالَ: صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ
…
) رواه مسلم.
(حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ) أي: يقوم مقابله في جهة الشمال، ليس مائلاً إلى المغرب ولا إلى المشرق (تُسجر) أي: يوقد عليها إيقاداً بليغاً.
قوله (فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ).
قال النووي: قيل المراد بقرني الشيطان: حزبه وأتباعه، وقيل: غلبة أتباعه وانتشار فساده، وقيل: القرنان ناحيتا الرأس وأنه على ظاهره، وقال: وهذا الأقوى، ومعناه: أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، وحينئذٍ يكون له ولشيعته تسلط ظاهر.
• فإن قيل: إذاً ما الحكمة من النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر ما دام النهي عن الطلوع والغروب؟
قال ابن تيمية: الأصل في النهي أنَّه عندَ الطلوع والغروب
…
لكن نُهِي عن الصلاة بعدَ الصلاتين سدًّا للذريعة؛ فإنَّ المتطوع قد يصلِّي بعدهما حتى يُصلِّي وقتَ الطلوع والغروب.
…
(مجموع الفتاوى).
• اختلف العلماء: هل هناك وقت نهي قبل الزوال يوم الجمعة أم لا على قولين:
القول الأول: أن وقت الزوال وقت نهي إلا يوم الجمعة فتجوز الصلاة فيه.
وهذا مذهب الشافعي، ورجحه ابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن باز.
أ-لحديث أبي قتادة. عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة) رواه أبو داود، وهو حديث ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم، وفيه انقطاع.
ب-ولحديث أبي هريرة - الذي ذكره المصنف (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة) رواه الشافعي، وهو حديث ضعيف لا يصح.
ج-ولحديث سَلْمَان الْفَارِسِي قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى)
وجه الدلالة: فقوله (ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ
…
) يدل على استمرار الصلاة إلى الزوال.
قال ابن القيم: فَنَدَبَهُ إلَى الصّلَاةِ مَا كُتِبَ لَهُ وَلَمْ يَمْنَعْهُ عَنْهَا إلّا فِي وَقْتِ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السّلَفِ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رضي الله عنه وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: خُرُوجُ الْإِمَامِ يَمْنَعُ الصّلَاةَ وَخُطْبَتُهُ تَمْنَعُ الْكَلَامَ، فَجَعَلُوا الْمَانِعَ مِنْ الصّلَاةِ خُرُوجَ الْإِمَامِ لَا انْتِصَافَ النّهَارِ. (زاد المعاد).
د- وَأَيْضًا: فَإِنّ النّاسَ يَكُونُونَ فِي الْمَسْجِدِ تَحْتَ السّقُوفِ وَلَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ الزّوَالِ وَالرّجُلُ يَكُونُ مُتَشَاغِلًا بِالصّلَاةِ لَا يَدْرِي بِوَقْتِ الزّوَالِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ وَيَتَخَطّى رِقَابَ النّاسِ وَيَنْظُرَ إلَى الشّمْسِ وَيَرْجِعُ وَلَا يُشْرَعُ لَهُ ذَلِكَ.
هـ- بعض العلماء استدل بأن الأحاديث الواردة في الباب والتي فيها استثناء يوم الجمعة وإن كان فيها مقال، لكن باجتماعها يقوي بعضها بعضاً كما قال البيهقي ومن بعده الحافظ ابن حجر والشيخ ابن باز.
قال الحافظ ابن حجر في حديث أبي قتادة السابق: وفي إسناده انقطاع، وقد ذكر له البيهقي شواهد ضعيفة، إذا ضمت قوي الخبر.
القول الثاني: أن وقت الزوال وقت نهي مطلقاً يوم الجمعة كغيره.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد، وعزاه ابن حجر للجمهور.
أ-لحديث عُقْبَة بْن عَامِر السابق قال (ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّي فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ اَلشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ اَلظَّهِيرَةِ حَتَّى تَزُولَ اَلشَّمْسُ
…
).
ب- وَلحديث عمرو بن عَبَسة قال (قلت يا رسول الله! أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ قَالَ: صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّىَ الْعَصْرَ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ) رواه مسلم.
وجه الدلالة من الحديثين: أن وقت الزوال معدود في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، ولم يفرق بين يوم وآخر.
وهذا القول هو الصحيح.
(وَيَجُوْزُ قَضَاءُ الفَرَائِضِ فِيْهَا).
ذكر هنا ما يستثنى من تحريم الصلاة في أوقات النهي.
أي: ويجوز قضاء الفرائض - لمن فاتته فريضة - في أوقات النهي.
كأن ينسى الإنسان صلاة فريضة ويتذكرها وقت النهي، فإنه يجب أن يصليها.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) متفق عليه.
ب-ولأن الفرائض من أوجب الواجبات، وهي دين فوجب أداؤه على الفور من حين أن يعلم به.
قال ابن عبد البر: وقال مالك، والثوري، والشافعي، والأوزاعي - وهو قول عامة العلماء - من أهل الحديث والفقه من نام عن صلاة أو نسيها أو فاتته بوجه من وجوه الفوت ثم ذكرها عند طلوع الشمس واستوائها أو غروبها أو بعد الصبح أو العصر - صلاها أبداً متى ذكرها.
وقال ابن قدامة: وجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ الْفَائِتَةِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا.
رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِر.
أ- لقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ب- وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ (إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (المغني).
• واختلف العلماء: هل تقضى السنن الرواتب في وقت النهي أم لا على أقوال.
والراجح من أقوال العلماء: أنَّ السُّنن الرواتب تقضى في الأوقات المنهي عنها.
وهو مذهب الشَّافعي، ورواية عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحم الله الجميع.
أ- لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم (مَن نسِي صلاةً فليصلِّها إذا ذكَرَها، لا كفَّارة لها إلاَّ ذلك) وفي رواية (مَن نسِي صلاة، أو نام عنْها فكفَّارتُها أن يصلِّيها إذا ذكَرَها) متفق عليه.
وجه الدّلالة: أنَّ هذا أمر بقضاء الفائتة إذا ذكرت، وهو عامّ يشمل وقت النَّهي، وغيره، ويؤيِّد هذا العموم قضاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لسنَّة العصْر، وإقراره لِمَن صلَّى بعد الصبح.
ب-ولحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: (إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَان) متفق عليه.
وجه الدلالة: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قضى سنَّة الظهر بعد العصر، وهو وقت نَهي، وهو نصٌّ صريح في محلِّ النِّزاع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "
…
وهو قضاء النَّافلة في وقْت النَّهي، مع إمكان قضائها في غير ذلك الوقت.
ج- ولحديث قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ (رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُصَلِّي بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَصَلاةَ الصُّبْحِ مَرَّتَيْنِ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، فَصَلَّيْتُهُمَا. قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. رواه ابن ماجه
وجه الدلالة: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ قيسًا على قضائه راتبةَ الصبح في وقت النَّهي، فدلَّ على أنَّ الرَّواتب تقضى في وقت النَّهي.
قال ابن قدامة: وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز.
د-أنَّ ذوات الأسْباب إنَّما دعا إليْها داع، ولم تفعل لأجل الوقت، بخلاف التطوُّع المطلق الذي لا سبب له، وحينئذٍ فمفسدة النَّهي إنَّما تنشأ ممَّا لا سبب له دون ما له السَّبب، ولهذا قال في حديث ابن عمر (لا تتحرَّوا بصلاتِكم طلوع الشَّمس ولا غروبها).
هـ-أنَّ النَّهي كان لسدِّ ذريعة الشِّرْك، وذوات الأسباب فيها مصلحة راجحة، والفاعل يفعلها لأجل السَّبب، لا يفعلها مطلقًا فتمتنع المشابهة.
القول الثاني: أنَّ السنن الرَّواتب لا تقضى في الأوقات المنهيِّ عنها.
وهو قول الحنفية، والمالكية، مذهب الحنابلة.
واستدلوا بالأحاديث العامة التي سبقت في النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح.
القول الثالث: التَّفريق بين وقْت النَّهي الَّذي بعد العصر، وبين غيره من أوقات النهي، فتقضى الفائتة بعد العصر، ولا تقضى في غيره من أوقات النَّهي.
وهو اختيار الموفق ابن قدامة من الحنابلة حيث يقول رحمه الله بعد كلامه عن قضاء سنَّة الفجر، والخلاف فيها: إذا كان الأمر هكذا كان تأخيرُها إلى وقْت الضحى أحسنَ لنخرج من الخلاف، ولا نخالف عموم الحديث، وإن فعلها فهو جائز؛ لأنَّ الخبر لا يقصر عن الدلالة على الجواز
…
وأمَّا قضاء السنن بعد العصر فالصَّحيح جوازه.
أ-أنَّ قضاء النافلة بعد العصر قد ثبت في الأحاديث كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها حيث قضى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر.
ب-أنَّ النَّهي عن الصَّلاة بعد العصر أخفُّ من غيره من الأوقات الأخرى؛ لما روي في خلافه من الرخصة، ولاختلاف الصَّحابة رضي الله عنهم فيه فلا يلحق بغيره.
والراجح القول الأول.
(وفِعْلُ رَكْعَتَي طَوَافٍ).
أي: ومما يجوز فعله في أوقات النهي ركعتي الطواف.
لحديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ) رواه الترمذي.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من ولي الحرم ألا يمنع أحدا من الطواف والصلاة به أية ساعة من ليل أو نهار، فدل ذلك على جواز الطواف والصلاة في جميع الأوقات، ولو كانت أوقات نهي.
وعليه: فلو أن شخصاً طاف بعد الفجر أو بعد العصر، فلا حرج عليه أن يصلي سنة الطواف بعد طوافه.
ب- آثار عن الصحابة أنهم كانوا يطوفون بعد الصبح والعصر، وكانوا يصلون بعد فراغهم من الطواف، فدل ذلك على عدم كراهتها.
قال ابن قدامة: (وَيَرْكَعُ لِلطَّوَافِ) يَعْنِي فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَمِمَّنْ طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَفَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَفَعَلَهُ عُرْوَةُ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ.
وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ.
أ- وَلَنَا، مَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ) رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
ب- وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ.
ج- وَلِأَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ تَابِعَةٌ لَهُ، فَإِذَا أُبِيحَ الْمَتْبُوعُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ التَّبَعُ، وَحَدِيثُهُمْ مَخْصُوصٌ بِالْفَوَائِتِ، وَحَدِيثُنَا لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى. (المغني).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يكره أداؤهما بعد الصبح والعصر، ولا يجوز فعلهما في غيرهما من الأوقات الخمسة وهي (وقت الطلوع، والغروب، وعند قيام قائم الظهيرة)، فإن صلاها لم تنعقد صلاته.
وإلى هذا ذهب: أحمد في رواية، والأحناف في قول.
أ- لحديث عقية - وقد تقدم - (ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلى فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب).
وجه الدلالة: أن هذه الأوقات الثلاثة النهي عن الصلاة فيها أشد وآكد، ولذا فإنه ينهى عن الصلاة على الجنائز فيها، بخلاف الوقتين الآخرين، وهما: بعد الصبح وبعد العصر، فدل ذلك على عدم جواز صلاة ركعتي الطواف فيهما.
ب- واستدلوا بأحاديث النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس
ووجه استدلالهم منها:
قالوا: إن النهي عن الصلاة في تلك الأوقات، دليل على كراهية الصلاة فيها، إلا أنه قد دلت الأدلة على جواز أداء غير النوافل المطلقة فيها، كصلاة الجنازة، وقضاء الراتبة، بخلاف الأوقات الثلاثة الأخرى، فدل ذلك على كراهة صلاة ركعتي الطواف في الأوقات الثلاثة، وجوازها في الوقتين الآخرين.
ج-قالوا: يمكن بهذا القول الجمع بين كثير من الآثار المتعارضة عن الصحابة في ذلك، وذلك بأن تحمل الآثار الدالة على الجواز بأن الطواف والصلاة كانا بعد الفجر أو بعد العصر، وتحمل الآثار الدالة على الطواف دون الصلاة أو على الامتناع عنهما، أن ذلك كان وقت الطلوع أو الغروب.
والراجح الجواز مطلقاً.
(وَإِعَادَة جَمَاعَةٍ)
أي: ومما يجوز في وقت النهي إعادة الجماعة.
بحيث إذا أتى مسجد جماعة ووجدهم يصلون وقد صلى، يستحب له أن يصلي معهم ولو كان وقت نهي.
لحديث يَزِيدَ بْن الأَسْوَد (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، فَلَمَّا صَلَّى إِذَا رَجُلَانِ لَمْ يُصَلِّيَا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَدَعَا بِهِمَا فَجِئَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَة) رواه أبو داود.
(تَرْعَدُ) أي ترتجف وترتعد. (فَرَائِصُهُمَا) الفرائص جمع فريضة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف، تهتز عند الفزع والخوف. (فِي رِحَالِنَا) الرحل هو المنزل الذي ينزله الإنسان. (فَلَا تَفْعَلَا) أي: لا تفعلا في الجلوس خلف الصفوف، هذا التفسير هو ظاهر الحديث، وقيل: لا تفعلا: أي الصلاة في الرحال.
فالحديث دليل على أن من صلى في جماعة أو منفرداً، ثم دخل مسجد ووجدهم يصلون، فإنه يسن له أن يدخل معهم ويصلي، ويدل لذلك:
ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر حين أخبره عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، قال له (صلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتك الصلاة معهم فصلّ ولا تقل إني صليت فلا أصلي) رواه مسلم.
والأمر في الحديث للاستحباب.
وذهب بعض العلماء: إلى أن من صلى في بيته وحده ثم دخل المسجد فأقيمت تلك الصلاة يصليها معهم، ولا يخرج حتى يصلي، وأما من صلى جماعة فلا يعيد ورجح هذا القول ابن عبد البر.
والراجح القول الأول، وأنه يعيد سواء صلى وحده أو مع الجماعة عملاً بظاهر النص.
لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فإنه صلى الله عليه وسلم ما استفصل.
• فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) رواه أحمد؟
قال الشوكاني: قال في الاستذكار: اتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية على أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه، ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضاً، وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أمره بذلك، فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين، لأن الأولى فريضة، والثانية نافلة، فلا إعادة حينئذٍ.
• ظاهر قوله: (
…
فصليا معه
…
) أنه يشمل جميع الصلوات الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء لعموم الحديث.
لكن استثنى بعض العلماء صلاة المغرب، وقالوا: لا تعاد.
وهذا مذهب المالكية والحنابلة.
قالوا: لأن في إعادتها تصير شفعاً، وهي إنما شرعت لتوتر عدد ركعاتها اليوم والليلة.
لكن هذا القول ضعيف.
والصحيح أن المغرب تعاد كغيرها من الصلوات.
وهذا المذهب عند الشافعية.
لعموم حديث الباب، فإنه لم يفرق بين صلاة وصلاة.
وذهب بعض العلماء إلى أن الفجر والعصر لا تعاد.
وهذا مذهب الحنفية.
قالوا: لأن المعادة نافلة، والتنفل لا يجوز بعد الصبح والعصر، إذ هو وقت نهي لا يتنفل فيه، لذا لا تعادان.
وهذا قول ضعيف.
والصحيح الأخذ بعموم الحديث أن جميع الصلوات تعاد.
إذاً المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: تعاد جميع الصلوات.
القول الثاني: تعاد كل الصلوات إلا المغرب.
القول الثالث: تعاد جميع الصلوات ما عدا العصر والصبح.
• الحكمة من الإعادة: لأجل يدرك فضيلة الجماعة، ولئلا يكون قعوده والناس يصلون ذريعة لإساءة الظن به.
• لا يسن أن يقصد مسجداً للإعادة، لأن ذلك ليس من عادة السلف، ولو كان هذا من أمور الخير لكان أولى الناس فعلاً له الصحابة.
قال في حاشية الروض: وأما قصد الإعادة فمنهي عنه، إذ لو كان مشروعاً لأمكن أن تصلى الصلاة الواحدة مرات.
•
ومما يستثنى ايضاً من أوقات النهي:
صلاة الجنازة، تفعل في أوقات النهي الطويلة (يعني إذا لم يكن عند الطلوع وعند الغروب).
قال ابن قدامة: أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَمِيلَ لِلْغُرُوبِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهَا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَلَا يَجُوزُ. (المغني).
(وَيَحْرُمُ تَطَوُّعٌ بِغَيْرِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الأَوْقَاتِ الخَمْسَةِ حَتَّى مَا لَهُ سَبَبٌ).
أي: يحرم التطوع بغير ما تقدم (قضاء فريضة - إعادة جماعة - ركعتي الطواف) حتى ماله سبب، لا يجوز.
والذي له سبب: كتحية المسجد، سنة الوضوء - صلاة الكسوف.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
عدم جواز التطوع مطلقاً في أوقات النهي، من غير تفريق بين التطوع المطلق، وبين ماله سبب.
أ-لعموم الأدلة (لا صلاة بعد الصبح
…
).
ب-وحديث عقبة بن عامر (ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّي فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ اَلشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ
…
).
ففي هذه الأحاديث النهي عام عن جميع الصلوات، فتدخل ذوات الأسباب في هذا العموم.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز في أوقات النهي فعل ماله سبب، كتحية المسجد.
وهذا مذهب الشافعي، ورجحه كثير من المحققين كابن تيمية، وابن القيم، والشيخ ابن عثيمين، وابن باز.
أ- لحديث أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن الحديث دليل على جواز قضاء الصلاة المنسية أو الفائتة في أي وقت من الأوقات، ومنه يعلم أن المراد بالصلاة المنهي عن أدائها في أوقات النهي إنما هي التطوع المطلق دون ماله سبب كما في الصلاة المقضية.
ب-حديث أبي قتادة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) متفق عليه
وجه الدلالة: أن الأمر بصلاة تحية المسجد عام فيشمل جميع الأوقات بما فيها أوقات النهي، ومنه يستفاد أن ذوات الأسباب غير داخلة في عموم النهي عن الصلاة في أوقات النهي.
ج- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ (يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلَامِ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ، أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّي) متفق عليه.
فدل على أنه يصلي ركعتي الوضوء في أي وقت، ولم ينكر عليه.
د- عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) رواه مسلم.
وجه الاستدلال: أن النهي جاء عن تحري الصلاة، والتحري هو التعمد وقصد الصلاة في هذا الوقت، وهذا لا يكون إلا في التطوع المطلق، وأما ماله سبب فلم يتحره المصلي بل فعله لأجل سببه، وهذا اللفظ المقيد في هذا الحديث يفسر سائر الألفاظ، ولو كان النهي عن النوعين لم يكن لتخصيص التحري فائدة، وكان الحكم قد علق بوصف عديم التأثير. (مجموع الفتاوى: 23/ 211)
هـ-أن أحاديث النهي عامة، وأحاديث ذوات السبب خاصة، والخاص مقدم على العام.
و-أن الصلوات ذات السبب مقرونة بسبب فيبعد أن يقع فيها الاشتباه في مشابهة المشركين، لأن النهي عن الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لئلا يتشبه المصلي المسلم بالمشركين، فإذا كانت الصلاة لها سبب معلوم، كانت المشابهة بعيدة.
ك-استدلوا بالإجماع على جواز الصلاة على الجنازة بعد العصر وبعد الصبح إذا لم يكن عند الطلوع وعند الغروب (وقد نقل الإجماع: الشافعي، وابن المنذر، والنووي، وابن قدامة).
وهذا القول هو الصحيح.
• هل تصلى صلاة الاستخارة في وقت النهي؟
اختلف العلماء في صلاة الاستخارة هل تعتبر من ذوات الأسباب أم لا؟
والصواب في هذا: أن الاستخارة إذا كانت لأمر يفوت بحيث لا يمكن من تأجيل الصلاة فإنها تصلى في وقت النهي، كما لو عرض له السفر بعد صلاة العصر، وأما إن كانت لأمر لا يفوت بحيث يمكن تأجيل الصلاة إلى ما بعد انتهاء وقت النهي فإنها لا تصلى في وقت النهي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى"(5/ 345):
وتقضى السنن الراتبة، ويفعل ما له سبب في أوقات النهي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار جماعة من أصحابنا وغيرهم، ويصلي صلاة الاستخارة وقت النهي في أمر يفوت بالتأخير إلى وقت الإباحة
ويستحب أن يصلي ركعتين عقب الوضوء ولو كان وقت النهي، وقاله الشافعية " انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يصلي الإنسان صلاة الاستخارة في وقت النهي؟
فأجاب: صلاة الاستخارة إن كانت لأمر مستعجل لا يتأخر حتى يزول النهي فإنها تفعل، وإن كانت لسبب يمكن أن يتأخر فإنه يجب أن تؤخر. (فتاوى ابن عثيمين).
فائدة 1: قال ابن قدامة: فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّطَوُّعِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُمْنَعُ فِيهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ).
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ بَعْدَ الصُّبْحِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، إلَّا بِمَكَّةَ يَقُولُ: قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَلَنَا عُمُومُ النَّهْيِ، وَأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ الصَّلَاةَ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ مَكَّةُ وَغَيْرُهَا، كَالْحَيْضِ، وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، فَيَخْتَصُّ بِهِمَا، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ ضَعِيفٌ، يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ.
فائدة 2: جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: نعم، يجوز سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة، على الصحيح من قولي العلماء؛ لأنه ليس له حكم الصلاة، ولو فرضنا أن له حكم الصلاة جاز فعله في وقت النهي؛ لأنه من ذوات الأسباب، كصلاة الكسوف وركعتي الطواف لمن طاف في وقت النهي.
فائدة 3: عن سعيد بن المسيب (أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثر فيها الركوع والسجود فنهاه فقال: يا أبا محمد، يعذبني الله على الصلاة، قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة) رواه الدارقطني.
باب صلاة الجماعة
- باب الإمامة
باب صلاة الجماعة
(وهي أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة).
أي: أن صلاة الجماعة أفضل وأعظم أجراً من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة.
أ- عن بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (صَلَاةُ اَلْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ اَلْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ب- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا). متفق عليه
(صلاة الفذ) أي: صلاة المنفرد الذي لم يصل مع الجماعة. (درجة) جزء، بمعنى واحد.
• وقد اختلف العلماء في الجمع بين روايتي (سبع وعشرين) ورواية (خمس وعشرين):
قيل: رواية الخمس وعشرين تُقَدّم لكثرة رواتها.
وقيل: رواية السبع والعشرين تقدم، لأن فيها زيادة من عدلٍ حافظ.
وقيل: إن ذكر القليل لا ينافي ذكر الكثير.
وقيل: إنه أخبر بالخمس وعشرين، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل بالسبع وعشرين، وهذا أرجحها.
وقيل: السبع وعشرين مختصة بالجهرية، والخمس وعشرين مختصة بالسرية.
وقيل: السبع وعشرين مختصة بالفجر والعشاء والخمس وعشرين بغيرها.
وقيل: بإدراكها كلها أو بعضها.
وقيل: الفرق بحال المصلي، كأن يكون أعلم أو أخشع.
…
(فتح الباري).
وقال النووي: وَالْجَمْع بَيْنهَا مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه:
أَحَدهَا: أَنَّهُ لَا مُنَافَاة بَيْنهَا فَذِكْر الْقَلِيل لَا يَنْفِي الْكَثِير، وَمَفْهُوم الْعَدَد بَاطِل عِنْد جُمْهُور الْأُصُولِيِّينَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُون أَخْبَرَ أَوَّلًا بِالْقَلِيلِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِزِيَادَةِ الْفَضْل فَأَخْبَرَ بِهَا.
الثَّالِث: أَنَّهُ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ أَحْوَال الْمُصَلِّينَ وَالصَّلَاة، فَيَكُون لِبَعْضِهِمْ خَمْس وَعِشْرُونَ وَلِبَعْضِهِمْ سَبْع وَعِشْرُونَ، بِحَسَبِ كَمَالِ الصَّلَاة وَمُحَافَظَته عَلَى هَيْئَاتِهَا وَخُشُوعهَا، وَكَثْرَة جَمَاعَتهَا وَفَضْلهمْ، وَشَرَف الْبُقْعَة وَنَحْو ذَلِكَ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَجْوِبَة الْمُعْتَمَدَة.
• قوله (صلاة الجماعة) اختلف في المراد بالجماعة:
فقيل: المراد مطلق الجماعة في أي مكان.
لأن الجماعة وصفٌ علّقَ عليه الحكم، فيؤخذ به.
وقيل: بل المراد جماعة المسجد لا جماعة البيوت.
أ-للحديث الآتي إن شاء الله (لقد هممت أن آمر
…
).
ب-ولحديث الأعمى وسيأتي.
ج-ولحديث (
…
وذلك أنه إذا توضأ ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه
…
).
وهذا القول هو الصحيح، وأنه لابد من فعلها في المسجد ورجحه ابن القيم، والسعدي.
• اختلف العلماء في حكم من صلى في بيته منفرداً لعذر، هل يكتب له الأجر كاملاً أم لا؟
القول الأول: أن أجره تام.
لأن المعذور يكتب له ثواب عمله كله.
لحديث أبي موسى قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) رواه البخاري.
قال الشيخ ابن عثيمين:
…
إذا كان حريصاً على الجماعة ومن عادته أن يصلي مع الجماعة، ولكن تخلف لعذر فيرجى أن يكتب له أجر الجماعة كاملة قياساً على المريض والمسافر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً).
القول الثاني: أن المعذور له أجر، ولكن ليس كأجر من صلى في جماعة.
لعدم الدليل على ذلك.
والراجح: الله أعلم.
فائدة: وأما من لم تكن عادته الصلاة في الجماعة فمرض فصلى وحده فهذا لا يكتب له مثل صلاة الصحيح، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن رجب.
• هل المرأة إذا صلت في المسجد لها أجر 27 كالرجل؟
جاء في حديث أَبَي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا
…
) متفق عليه.
فقوله (صلاة الرجل
…
) فيه أن فضل صلاة الجماعة في المسجد خاص بالرجال، لأنهم هم المأمورون بالخروج إليها، إلا صلاة العيد، فتضاعف للنساء أيضاً، لأنهن مأمورات بالخروج إليها.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي خرجه البخاري (صلاة الرجل في الجماعة تضعف) وهو يدل على أن صلاة المرأة لا تضعف فِي الجماعة؛ فإن صلاتها فِي بيتها خير لها وأفضل.
ونحوه ما قاله الحافظ ابن حجر في شرح حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم:(رجل معلق قلبه في المساجد)، فذهب الحافظ إلى أن هذا خاص بالرجل، لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: التضعيف الحاصل في صلاة الجماعة يختص بالرجال؛ لأنهم هم المدعوون إليها على سبيل الوجوب، ولهذا كان لفظ الحديث (صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه، خمساً وعشرين ضعفاً).
وعلى هذا؛ فإن المرأة لا تنال هذا الأجر، بل إن العلماء اختلفوا في مشروعية صلاة الجماعة للنساء منفردات عن الرجال في المصليات التي في البيوت، أو التي في المدارس، فمنهم من قال: إنه تسن لهن الجماعة. ومنهم من قال: إنه تباح لهن الجماعة. ومنهم من قال: إنه تكره لهن الجماعة.
(وهي فرض عين).
أي: أن حكم صلاة الجماعة فرض عين.
وهذا هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم في حكم صلاة الجماعة.
وهذا وهو مذهب الحنابلة.
ورجحه ابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان.
أ- لقوله تعالى (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَك).
وجه الدلالة: أن الله أمر بإقامة صلاة الجماعة وهم في حالة الحرب والخوف، ولو كانت الجماعة سنة كما يقول بعضهم لكان أولى الأعذار بسقوطها عند الخوف، وإذا وجبت في حال الخوف، ففي حال الأمن من باب أولى.
ب- وَلحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ اَلنَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ اَلصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُم) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن دقيق العيد: فمن قال بأنها واجبة على الأعيان، قد يحتج بهذا الحديث، فإنه إن قيل بأنها فرض كفاية فقد كان هذا الفرض قائماً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وإن قيل: إنها سنة، فلا يقتل تارك السنن، فيتعين أن تكون فرضاً على الأعيان.
ج- ولحديث أبي هريرة. قال (أَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى اَلْمَسْجِدِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: "هَلْ تَسْمَعُ اَلنِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ? " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَأَجِبْ) رَوَاهُ مُسْلِم.
قال ابن قدامة: وإذا لم يرخص للأعمى الذي لم يجد قائداً، فغيره من باب أولى.
د- ولحديث اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ سَمِعَ اَلنِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ). رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَه
(رجح بعض العلماء وقفه).
هـ- وعن ابن مسعود قال (من سرّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى لهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم
…
ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف). رواه مسلم
فهذا الصحابي يحكي إجماع الصحابة على أن ترك صلاة الجماعة في المسجد من علامات النفاق.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها سنة.
وهو مذهب المالكية.
لحديث ابن عمر السابق (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة).
وجه الدلالة: لأن الحديث فيه المفاضلة بين أجر صلاة الجماعة وصلاة المنفرد، فدل على أن صلاة المنفرد صحيحة ويثاب عليها.
وذهب بعضهم إلى أنها فرض كفاية.
واستدلوا بأدلة القائلين بالوجوب العيني، وصرفها من فرض العين إلى فرض الكفاية حديث ابن عمر (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة). فإنه يفيد صحة صلاة المنفرد، فيبقى الوجوب المستفاد منها وجوباً كفائياً.
والراجح القول الأول، أنها فرض عين، وأن من صلى في بيته من غير عذر فصلاته صحيحة مع الإثم.
• أجاب القائلون بعدم الوجوب العيني عن حديث (لقد هممت أن آمر
…
) بأجوبة:
قيل: أن الخبر ورد مورد التهديد والزجر، وحقيقته غير واردة.
وهذا ضعيف.
وقيل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم همّ ولم يفعل، ولو كانت فرض عين لما تركهم.
وتعقب ذلك ابن دقيق العيد بقوله: وهذا ضعيف، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه.
وقيل: المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأساً لا مجرد الجماعة.
وهو ضعيف، فقد جاء في رواية مسلم (لا يشهدون الصلاة) أي لا يحضرون.
وعند ابن ماجه: (لينتهين أقوام عن تركهم الجماعات أو لأحرقنّ بيوتهم).
وقيل: أن الحديث ورد في حق المنافقين.
وهذا ضعيف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعاقب المنافقين على نفاقهم، وكان صلى الله عليه وسلم معرضاً عنهم وعن عقوبتهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
لكن الحافظ ابن حجر رجح هذا القول، وقال: والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين، لقوله في الحديث:(ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر) ولقوله صلى الله عليه وسلم (لو يعلم أحدهم
…
) لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في رواية (لا يشهدون العشاء الجميع) أي الجماعة، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة:(لا يشهدون الجماعة) وأصرح من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود: (ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة) فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته وإنما يصلي في المسجد رياء وسمعة.
فائدة:
لماذا النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق بيوت هؤلاء المتخلفين؟
قيل: لوجود النساء والذرية.
وقد جاء في مسند أحمد (لولا ما فيها من النساء والذرية). وهي زيادة ضعيفة.
وقيل: لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
وهذا القول هو الصحيح.
• اختلف القائلون بوجوب الجماعة، هل تصلى جماعة في أي مكان أم لا بد من المسجد؟ على قولين:
القول الأول: أن أداءها في المسجد سنة، فيجوز فعلها في غير المسجد
وهذا المذهب عند الحنابلة.
قال ابن قدامة: ويجوز فعلها في البيت والصحراء.
أ- لحديث جابر مرفوعاً (أعطيت خمساً لم يعطهن
…
ذكر منها: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته
الصلاة فليصل) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن الأرض كلها موضع للصلاة، وأن كل مكان أديت فيه صلاة الجماعة كان مجزئاً.
ب- ولحديث عَائِشَةَ. قَالَتْ (صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَهْوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا
…
) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن صلى خلفه على ترك الجماعة في المسجد دليل على عدم وجوب الجماعة في المسجد.
ج- ولحديث يَزِيدَ بْن الأَسْوَد (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، فَلَمَّا صَلَّى إِذَا رَجُلَانِ لَمْ يُصَلِّيَا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَدَعَا بِهِمَا فَجِئَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَة) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن إقراره صلى الله عليه وسلم لهما على الصلاة في رحالهما، واعتباره أنها فرضهما، دليل على أن الصلاة في المسجد سنة مستحبة.
القول الثاني: لا يجوز فعلها إلا في المسجد.
لحديث أبي هريرة السابق (
…
لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ اَلنَّاسَ .. ).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم همّ بتحريق المتخلفين ولم يستفصل هل كانوا يصلون في بيوتهم جماعة أم لا.
ورجح هذا القول ابن القيم.
قال رحمه الله: والذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر، والله أعلم بالصواب.
وقال الشيخ السعدي: والصواب وجوب فعلها في المسجد، لأن المسجد شعارها، ولأنه صلى الله عليه وسلم همّ بتحريق المتخلفين عنها ولم يستفصل، هل كانوا يصلون في بيوتهم جماعة أم لا، ولأنه لو جاز في غير المسجد لغير حاجة، لتمكن المتخلف عنها والتارك لها من الترك، وهذا محذور عظيم.
فائدة:
حديث (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) حديث ضعيف.
(على من سمِعَ النداء).
أي: من يسمع النداء فعليه الإجابة.
لحديث أبي هريرة. قال (أَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى اَلْمَسْجِدِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: "هَلْ تَسْمَعُ اَلنِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ? " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَأَجِبْ) رَوَاهُ مُسْلِم.
فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعمى (هل تسمع النداء) دليل على أن من سمع النداء فعليه الإجابة إذا كان منزله بعيداً، وأنه إذا لم يسمع النداء فله رخصة أن يصلي في بيته، والمعول عليه في سماع النداء بدون مكبر الصوت، لأمرين:
الأول: أن مكبر الصوت لا ينضبط، فقد يكون قوياً فيرسل لمسافات بعيدة جداً.
ثانياً: أنه لو علق الأمر بمكبر الصوت، لحصل للناس مشقة، لأن مكبر الصوت ينادي من مسافة بعيدة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في سؤال عن جماعة خرجوا إلى ضواحي المدينة للنزهة، وسمعوا الأذان من أطراف المدينة، فهل تلزمهم الصلاة في المسجد، أو يصلون في مكانهم.
قال: الظاهر أن هؤلاء لا تلزمهم صلاة الجماعة في المسجد إذا كانوا إنما يسمعون صوت المؤذن بواسطة مكبر الصوت، وأنه لولا المكبر ما سمعوا، لأن هذا السماع غير معتاد ولا ضابط له.
فائدة:
إشكال:
أشكل حديث عبد الله بن أم مكتوم في (صلاة الجماعة) على كثيرين، وقد تعددت الأقوال في فهمه وتنوعت الآراء في توجيهه، ونحن
نذكر الحديث وما وقفنا عليه من تلك الأقوال والآراء.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ. فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّىَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِب). رواه مسلم
وعَنْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ (أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ لِي رُخْصَةٌ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ: (هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ (لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً) رواه أبو داود.
وفي رواية عند أحمد (قال ابن أم مكتوم: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ نَخْلًا وَشَجَرًا وَلَا أَقْدِرُ عَلَى قَائِدٍ كُلَّ سَاعَةٍ أَيَسَعُنِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ (أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ (فَأْتِهَا) رواه أحمد.
فهذه الروايات جمعت أعذاراً كثيرة لابن أم مكتوم ولم تكن مانعة من إيجاب صلاة الجماعة عليه، وهذه الأعذار هي:
فقد البصر، عدم وجود قائد يقوده للمسجد أو وجود غير ملائم، بُعد الدار عن المسجد، وجود حوائل بينه وبين المسجد كالشجر والنخيل، وجود الهوام والسباع.
ووجود هذه الأعذار مع ظاهر الأمر بصلاة الجماعة في المسجد جعلت بعض أهل العلم لا يرى ما يدل عليه الحديث من وجوب حضور ذاك الصحابي جماعة المسجد؛ لأن الشريعة جاءت بحفظ النفوس، ولم تجوِّز إلقاء النفس في التهلكة، حتى قال بعض العلماء إن الحديث لم يقل بظاهره أحد.
قال ابن رجب: وقد أشار الجوزجاني إلى أن حديث ابن أم مكتوم لم يقل أحد بظاهره.
يعني: أن أحداً لم يوجب حضور المسجد على من كان حاله كحال ابن أم مكتوم.
ويمكن حصر الموقف من هذا الحديث بما يأتي:
قال بعض العلماء: إن الحديث يدل على وجوب حضور ذاك الصحابي مع تلك الأعذار جماعة المسجد، لكنه منسوخ بحديث آخر يرفع الوجوب عمن هو أقل منه عذراً.
وهو حديث عتبان بن مالك (حديث الباب).
قال ابن رجب: ومن الناس من أشار إلى نسخ حديث ابن أم مكتوم بحديث عتبان؛ فإن الأعذار التي ذكرها ابن أم مكتوم يكفي بعضها في سقوط حضور المسجد.
وقال آخرون: إن ابن أم مكتوم كان طلبه الحصول على أجر الجماعة في المسجد إذا صلَّى في بيته، لكونه معذوراً بتلك الأعذار، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا أجر إلا بالحضور.
قال الخَطَّابيُّ: وأكثر أصحاب الشَّافعيِّ على أنَّ الجماعة فرضٌ على الكِفاية، لا على الأعيان، وتأوّلوا حديث ابن أُمِّ مَكْتُوم على أنَّه لا رخصة لك إن طلبت فضيلة الجماعة، وأنك لا تحرز أجرها مع التخلف عنها بحال.
وقال فريق ثالث: إن الأمر بحضور الصلاة في المسجد بقوله (أَجِبْ) لا يُحمل على الوجوب بل على الاستحباب.
قال ابن القيم: قال المسقطون لوجوبها: هذا أمر استحباب لا أمر إيجاب.
هذه مجمل الموقف من حديث ابن أم مكتوم، والذي يظهر لنا أن كل ما سبق لا ينهض لرد ظاهر الحديث من إيجاب الجماعة على ابن أم مكتوم رضي الله عنه، ومن كان مثل حاله، وأنه ليس في ذلك إلقاء للنفس في التهلكة، وكل أوامر الشرع لا يُكلَّف بها إلا المستطيع على أدائها، والمشقة لا تُسقط الواجبات، بل الذي يسقطها وجود الضرر.
والقول بالنسخ بعيدٌ لأسباب منها:
أولاً: أنه لا يُعرف المتقدم من المتأخر من الحديثين، وهذا شرط للقول بالنسخ.
ثانياً: وجود الفرق بين حال الصحابيين رضي الله عنهما، فقد كان ابن أم مكتوم قد وُلد أعمى، ومثل هذا يكيِّف نفسه على الحياة ويستطيع ما لا يستطيعه من عمي في كبره، وقد لحظ هذا بعض العلماء ولذا فرَّقوا بين ابن أم مكتوم وبين عتبان رضي الله عنه والذي عمي في كبره
ثالثاً: أن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أراد الرخصة للصلاة في البيت، وعتبان رضي الله عنه أراد أن يتخذ مسجداً في داره ليصلي فيه هو وأهل بيته ومن قرب منهم، فهو قد انتقل من مسجد إلى مسجد، وابن أم مكتوم أرد الانتقال إلى بيته، فافترقا، وهذا أحسن ما جُمع به بين الحديثين.
قال ابن رجب الحنبلي: ويحتمل أن يكون عتبان جعل موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من بيته مسجداً يؤذن فيه، ويقيم، ويصلِّي بجماعة أهل داره ومن قرُب منه، فتكون صلاته حينئذ في مسجد: إما مسجد جماعة، أو مسجد بيت يجمع فيه، وأما ابن أم مكتوم فإنه استأذن في صلاته في بيته منفرداً، فلم يأذن له، وهذا أقرب ما جمع به بين الحديثين. " فتح الباري " لابن رجب (2/ 391، 392)
رابعاً: ليس في حديث عتبان رضي الله عنه أنه كان يسمع النداء، بخلاف ابن أم مكتوم.
وتأويل (لا رخصة لك) على معنى " إن طلبت فضيلة الجماعة " لا يظهر صوابه؛ لأنه لا يقال " لا رخصة في ترك فضيلة "، بل الرخصة تكون في ترك واجب.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله مبوِّباً على حديث ابن أم مكتوم:
باب أمر العميان بشهود صلاة الجماعة وإن كانت منازلهم نائية عن المسجد لا يطاوعهم قائدوهم بإتيانهم إياهم المساجد، والدليل على أن شهود الجماعة فريضة لا فضيلة إذ غير جائز أن يقال لا رخصة للمرء في ترك الفضيلة. " صحيح ابن خزيمة "(2/ 368)
وحمل قوله صلى الله عليه وسلم (أَجِب) على الاستحباب خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الأوامر الوجوب.
والقول بالوجوب لمثل حال ابن أم مكتوم هو القول الصواب ما لم يكن الضرر متحققاً بيقين أو غلبة ظن، وهو القول الراجح، وهو قول أكابر أئمة الحديث.
قال ابن المنذر رحمه الله: ذكر إيجاب حضور الجماعة على العميان وإن بعُدت منازلهم عن المسجد، ويدل ذلك على أن شهود الجماعة فرض لا ندب. " الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف "(4/ 132).
وقال رحمه الله أيضاً -: فدلَّت الأخبار التي ذكرناها على وجوب فرض الجماعة على مَن لا عذر له، فمما دل عليه قوله لابن أم مكتوم وهو ضرير (لا أجد لك رخصة) فإذا كان الأعمى كذلك لا رخصة له: فالبصير أولى بأن لا تكون له رخصة.
" الأوسط "(4/ 134).
(على الرجال).
فلا تجب على النساء.
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (إلى رجال) فهذا دليل على أن صلاة الجماعة واجبة على الرجال دون النساء، وهذا بالإجماع.
لكن اختلفوا في حكمها للمرأة:
فقيل: سنة.
وبه قال الشافعية، والحنابلة.
لحديث أم ورقة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (انطلقوا إلى الشهيدة فزوروها، وأمر أن يؤذن لها وتقام وتؤم أهل دارها في الفرائض) رواه أبو داود.
وقيل: مكروهة.
وهو قول الحنفية.
قالوا: لأن المرأة ليست من أهل الاجتماع، ولأن هذا غير معهود في أمهات المؤمنين.
والصحيح أنها مباحة.
• وقوله (على الرجال) فلا تجب على الصبيان.
(الأحرار).
أي: فلا تجب الجماعة على العبد.
لأنه مشغول بسيده.
قال المرداوي في الإنصاف: والصحيح من المذهب أنها لا تجب عليهم
…
أي العبد.
وذهب بعض العلماء: إلى وجوبها عليه.
لعموم الأدلة. واختاره السعدي.
(للصلوات الخمس).
أي: أن الجماعة واجبة للصلوات الخمس.
(ولو مقضية).
أي: أن الجماعة تجب للصلاة المفروضة ولو كانت مقضية.
والمقضية: ما فعلت بعد وقتها.
أ- لعموم الأدلة.
ب- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر هو وأصحابه في سفر كما في حديث أبي قتادة، أمر بلالاً فأذن ثم صلى سنة الفجر ثم صلى الفجر كما يصليها عادة جماعة، وجهر بالقراءة.
وعلى هذا فإذا نام قوم في السفر، ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس، فإنهم يفعلون كما يفعلون في العادة تماماً.
• فلا تجب الجماعة للنوافل، لكنها من حيث مسنونية الجماعة لها وعدم مسنونيتها قسمان:
القسم الأول: ما تسن له الجماعة، وهي صلاة الكسوف، والاستسقاء، والعيد.
القسم الثاني: ما يفعل على الانفراد فهذا لا تسن له الجماعة، كالراتبة مع الفرائض، والنوافل المطلقة وهي ما يتطوع به في الليل والنهار.
لكن لا بأس أن يفعلها في جماعة أحياناً، لكن بشرط ألا يتخذ ذلك عادة.
لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مع ابن عباس، وابن مسعود، وحذيفة، وذلك في قيام الليل.
(حضراً وسفراً).
أي: أن صلاة الجماعة واجبة حتى في السفر، وهذا هو المذهب.
لقوله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة
…
) فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كان فيهم في الجهاد أن يقيم لهم الصلاة جماعة، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقاتل إلا في سفر.
ولعموم الأدلة الدالة على وجوب الجماعة، فإنها لم تفرق بين الحضر والسفر.
وذهب بعض العلماء إلى عدم وجوبها في السفر.
لحديث يَزِيدَ بْن الأَسْوَد (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، فَلَمَّا صَلَّى إِذَا رَجُلَانِ لَمْ يُصَلِّيَا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَدَعَا بِهِمَا فَجِئَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَة) رواه أبو داود.
فأقرهما صلى الله عليه وسلم على ترك الجماعة في السفر.
(وأقلها إمامٌ ومأموم).
أي: أن أقل عدد تحصل به الجماعة اثنان، إمام ومأموم.
أ- لحديث ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ اَلْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ اَلْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ب- وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) رواه البخاري.
وبوب عليه البخاري: باب اثنان فما فوقهما جماعة
قال الحافظ ابن حجر: وَاسْتُدِلَّ بِهِ (يعني حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَاعَة إِمَام وَمَأْمُوم، وهو أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُون الْمَأْمُوم رَجُلًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ اِمْرَأَةً. انتهى كلام الحافظ.
ج-وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ رَجُلا يُصَلِّي وَحْدَهُ فَقَالَ (أَلا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا، فَيُصَلِّيَ مَعَه) رواه أبو داود.
قال في (عون المعبود): ليحصل له ثواب الجماعة، فيكون كأنه أعطاه صدقة.
د- وأمّ صلى الله عليه وسلم ابن عباس مرّة. وأمّ حذيفة مرّة. وابن مسعود مرّة، في صلاة الليل.
قال الشوكاني رحمه الله: وأما انعقاد الجماعة باثنين، فليس في ذلك خلاف، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس: أنه صلى في الليل مع النبي صلى الله عليه وسلم وحده وقعد عن يساره فأداره إلى يمينه.
قال ابن قدامة: تنعقد الجماعة باثنين فصاعداً لا نعلم فيه خلافاً.
وأمّ صلى الله عليه وسلم ابن عباس مرّة. وأمّ حذيفة مرّة. وابن مسعود مرّة.
جاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على أن صلاة الجماعة تنعقد باثنين: إمام ومأموم. وذلك في غير الجمعة والعيدين.
لحديث أبي موسى مرفوعاً (اثنان فما فوقهما جماعة).
ويشترط جمهور الفقهاء لانعقاد الجماعة في الفروض أن يكون الإمام والمأموم كلاهما بالغين ولو كان المأموم امرأة.
فائدة:
روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الاثنان فما فوقهما جماعة) ولكنه ضعيف.
(وَتُسْتَحَبُّ صَلَاةُ أَهْلِ الثَّغْرِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ)
أهل الثغر: هم الذين يقيمون على الحدود حماية للبلاد من العدو.
فهؤلاء يستحب لهم الصلاة في مسجد واحد.
لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة.
قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه، فإنه إذا جاءهم خبر عن عدوهم، سمعه جميعهم، وإن جاءهم عين للكفار، رأى كثرتهم.
(وَالأَفْضَلُ لِغَيْرِهِمْ فِي المَسْجِدِ الَّذِي لَا تُقَامُ فِيْهِ الجَمَاعةُ إِلاَّ بِحُضُورِهِ).
أي: الأفضل لغير أهل الثغر أن يصلي في المسجد الذي تقام فيه الجماعة إذا حضر.
لأنه يحصل بذلك ثواب عمارة المسجد، وتحصيل الجماعة لمن يصلي فيه.
(ثم ما كان أكثر جماعة).
أي: فلو قدر أن هناك مسجدين، أحدهما أكثر جماعة من الآخر، فالأفضل أن يذهب إلى الأكثر جماعة.
لحديث عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ اَلرَّجُلِ مَعَ اَلرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ اَلرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ اَلرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ عز وجل رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
(وأبعد أولى من أقرب).
أي: إذا استويا المسجدان فيما سبق، وكان أحدهما أبعد عن مكان الرجل، فالأبعد أولى.
لحديث أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى) متفق عليه.
وقد اختلف العلماء أيهما أفضل الصلاة في مسجد الحي أم الصلاة في غيره على أقوال:
القول الأول: أن الصلاة في المسجد الذي تكثر فيه الجماعة أفضل، وأبعدهما أولى من أقربهما؛ إلا إذا كان المسجد الذي بجواره تختل فيه الجماعة؛ ففعلها في مسجد الجوار أفضل.
وهو مذهب الشافعية، والمالكية، والحنابلة.
أ-لحديث أبي موسى السابق.
ب- ولحديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كانوا أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل رواه أبو داود.
ج-من المعقول: حتى تكثر خطاه في طلب الثواب فتكثر حسناته.
قال الإمام الشيرازي رحمه الله: وفي المساجد التي يكثر الناس فيها أفضل
…
فإن كان في جواره مسجد تختل فيه الجماعة ففعلها في مسجد الجوار أفضل من فعلها في المسجد الذي يكثر فيه الناس؛ لأنه إذا صلى في مسجد الجوار حصلت الجماعة في موضعين.
وقال ابن قدامة رحمه الله: وإن كان في جواره أو في غير جواره مسجد لا تنعقد الجماعة فيه إلا بحضوره ففعلها فيه أولى؛ لأنه يعمره بإقامة الجماعة فيه، ويحصلها لمن يصلي فيه، وإن كانت تقام فيه وكان في قصده غيره كسر قلب إمامه أو جماعته؛ فجبر قلوبهم أولى.
وقال الإمام النووي رحمه الله: فلو كان بجواره مسجد قليل الجمع، وبالبعد منه مسجد أكثر جمعاً؛ فالمسجد البعيد أولى إلا في حالتين:
أحدهما: أن تتعطل جماعة القريب؛ لعدوله عنه لكونه إماماً، أو يحضر الناس بحضوره، فحينئذ يكون القريب أفضل.
الثاني: أن يكون إمام البعيد مبتدعاً كالمعتزلي وغيره، أو فاسقاً، أو لا يعتقد وجوب بعض الأركان فالقريب أفضل.
القول الثاني: أن صلاة المرء في مسجد حيه أفضل من غيره من المساجد حتى ولو كان غيره أكثر جمعاً.
وهذا مذهب الحنفية، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
أ-أنه الأقرب له جواراً فكان أحق بصلاته.
ب-أنه سبب لعمارته.
ج-أنه تأليف للإمام وأهل الحي، ويندفع به ما قد يكون في قلب الإمام إذا لم تصل معه.
د-أن ترك المرء للصلاة في مسجد حيه سبب في اتهامه بعدم حضور الصلاة في جماعة.
هـ- أن ترك المرء للصلاة في مسجد حيه فيه إثارة للناس على الإمام، حيث يكثر السؤال عن سبب عدم الصلاة خلفه، مما يؤدي إلى وقوع الناس في فتنة.
وأما الجواب عن الحديث فيقال: أنه في مسجد ليس هناك أقرب منه، فإنه كلما بعد المسجد، وكلفت نفسك أن تذهب إليه مع بعده؛ كان هذا بلا شك أفضل مما لو كان قريباً.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فالحاصل أن الأفضل أن تصلي في مسجد الحي الذي أنت فيه سواء كان أكثر جماعة أو أقل لما يترتب على ذلك من المصالح، ثم يليه الأكثر جماعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام (ما كان أكثر فهو أحب إلى الله) ثم يليه الأبعد، ثم يليه العتيق؛ لأن تفضيل المكان بتقدم الطاعة فيه يحتاج إلى دليل بيِّن، وليس هناك دليل بيّنٌ على هذه المسألة.
(ويَحرمُ أن يَؤمَّ في مسجدٍ قبل إمامه الراتب).
أي: يحرم على الإنسان أن يكون إماماً في مسجد له إمام راتب.
أ- لحديث أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَؤُمُّ اَلْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اَللَّهِ
…
وَلَا يَؤُمَّنَّ اَلرَّجُلُ اَلرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. التكرمة: الفراش مما يبسط لصاحب المنزل ويخص به.
وإمام المسجد سلطان في مسجده.
ب- ولأننا لو قلنا أن الأقرأ أولى حتى ولو كان للمسجد إمام راتب، لحصل بذلك فوضى، وكان لهذا المسجد في كل صلاة إمام
جاء كشاف القناع: وَيَحْرُمُ أَنْ يَؤُمَّ فِي مَسْجِدٍ قَبْلَ إمَامِهِ الرَّاتِبِ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
(لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ) وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّنْفِيرِ عَنْهُ وَتَبْطُلُ فَائِدَةُ اخْتِصَاصِهِ بِالتَّقَدُّم.
(إلا بأذنهِ أو عذرهِ).
أي: لا تجوز الإمامة في مسجد له إمام راتب إلا في حالتين:
الأولى: أن يأذن بذلك.
الثانية: أن يتأخر عن الحضور لعذر، كمرض ونحوه يعلمه المأمومون، صلوا بلا إذنه.
كصلاة أبي بكر بالناس حين غاب النبي صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.
(ومن صلى ثم أقيمَ فرضٌ سُنَّ أن يعيدها إلا المغرب).
أي: من صلى فرضه في منزله، أو في مسجد آخر، ثم دخل مسجداً وأهله يصلون فإنه يسن أن يعيد الصلاة التي صلاها معهم مرة ثانية، وتكون الثانية نافلة في حقه.
أ- لحديث أَبِى ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَرَبَ فَخِذِي «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا» . قال قَالَ مَا تَأْمُرُ قَالَ (صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اذْهَبْ لِحَاجَتِكَ فَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَأَنْتَ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلِّ، وَلَا تَقُلْ إِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فَلَا أُصَلِّي) رواه مسلم.
ب- ولحديث يَزِيدَ بْن الأَسْوَد (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، فَلَمَّا صَلَّى إِذَا رَجُلَانِ لَمْ يُصَلِّيَا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَدَعَا بِهِمَا فَجِئَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَة) رواه أبو داود.
(تَرْعَدُ) أي ترتجف وترتعد. (فَرَائِصُهُمَا) الفرائص جمع فريضة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف، تهتز عند الفزع والخوف. (فِي رِحَالِنَا) الرحل هو المنزل الذي ينزله الإنسان. (فَلَا تَفْعَلَا) أي: لا تفعلا في الجلوس خلف الصفوف، هذا التفسير هو ظاهر الحديث، وقيل: لا تفعلا: أي الصلاة في الرحال.
فالحديث دليل على أن من صلى في جماعة أو منفرداً، ثم دخل مسجد ووجدهم يصلون، فإنه يسن له أن يدخل معهم ويصلي، وذهب بعض العلماء: إلى أن من صلى في بيته وحده ثم دخل المسجد فأقيمت تلك الصلاة يصليها معهم، ولا يخرج حتى يصلي، وأما من صلى جماعة فلا يعيد ورجح هذا القول ابن عبد البر.
والراجح القول الأول، وأنه يعيد سواء صلى وحده أو مع الجماعة عملاً بظاهر النص.
لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فإنه صلى الله عليه وسلم ما استفصل.
• فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) رواه أحمد؟
قال الشوكاني: قال في الاستذكار: اتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية على أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه، ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضاً، وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أمره بذلك، فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين، لأن الأولى فريضة، والثانية نافلة، فلا إعادة حينئذٍ.
• حديث يزيد السابق عام يشمل حتى وقت النهي، فله أن يعيد حتى الصبح والعصر.
وذهب بعض العلماء إلى أن الفجر والعصر لا تعاد.
وهذا مذهب الحنفية.
قالوا: لأن المعادة نافلة، والتنفل لا يجوز بعد الصبح والعصر، إذ هو وقت نهي لا يتنفل فيه، لذا لا تعادان.
وهذا قول ضعيف.
والصحيح الأخذ بعموم الحديث أن جميع الصلوات تعاد حتى في وقت النهي.
• قوله (إلا المغرب) أي: يستثنى صلاة المغرب، فلا تعاد.
وهذا مذهب المالكية والحنابلة.
قالوا: لأن في إعادتها تصير شفعاً، وهي إنما شرعت لتوتر عدد ركعاتها اليوم والليلة.
لكن هذا القول ضعيف.
والصحيح أن المغرب تعاد كغيرها من الصلوات.
وهذا المذهب عند الشافعية.
لعموم حديث يزيد السابق، فإنه لم يفرق بين صلاة وصلاة.
قال ابن قدامة لما ذكر حديث أبي ذر ويزيد: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِعُمُومِهَا تَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ صَرِيحٌ فِي إعَادَةِ الْفَجْرِ، وَالْعَصْرُ مِثْلُهَا، وَالْأَحَادِيثُ بِإِطْلَاقِهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ صَلَّى وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعة.
تنبيه:
ذهب بعض العلماء: إلى أنه يسن أن يعيد المغرب لكن إذا سلم الإمام أتى بركعة رابعة، وذلك لأن المغرب وتر النهار، والوتر لا يسن تكراره، فيشفعها بركعة رابعة، لئلا تكون وتراً.
قال الشيخ ابن عثيمين: يعيدها ولا يشفعها، وهو الصحيح.
• إذاً المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: تعاد جميع الصلوات. (وهذا الراجح).
القول الثاني: تعاد كل الصلوات إلا المغرب.
القول الثالث: تعاد جميع الصلوات ما عدا العصر والصبح.
• الحكمة من الإعادة: لأجل يدرك فضيلة الجماعة، ولئلا يكون قعوده والناس يصلون ذريعة لإساءة الظن به.
• لا يسن أن يقصد مسجداً للإعادة، لأن ذلك ليس من عادة السلف، ولو كان هذا من أمور الخير لكان أولى الناس فعلاً له الصحابة.
قال في حاشية الروض: وأما قصد الإعادة فمنهي عنه، إذ لو كان مشروعاً لأمكن أن تصلى الصلاة الواحدة مرات.
• إذا أدركَ بعضَ المُعادةِ، فهل لا بُدَّ مِن إتمامِها، أو له أنْ يُسلِّمَ مع الإمام؟
الجواب: نقول: إذا سَلَّمَ مع الإمامِ؛ وقد صَلَّى ركعتين؛ فلا بأس؛ لأنَّها نافلةٌ لا يلزمه إتمامُها، وإن أتمَّ فهو أفضلُ؛ لعمومِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم:(ما أدركتُم فصَلُّوا وما فاتكم فأتِمُّوا).
…
(الشرح الممتع).
(وتعاد الجماعة في غير الثلاثة مساجد).
يعني: لو صَلَّى الإمامُ الراتبُ في الجماعة، ثم أتتْ جماعةٌ أُخرى لتُصلِّي في نفسِ المسجدِ، فإنه يستحب لهم أن يصلوا جماعة.
قال ابن قدامة: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا صَلَّى إمَامُ الْحَيِّ، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، اُسْتُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَة.
قال الترمذي: لا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه جماعة، وبه يقول أحمد وإسحاق.
أ-لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده، فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فصلى معه رجلاً). رواه أبو داود وأحمد وابن خزيمة والحاكم في المستدرك، وقال بعد: وهذا الحديث أصل في إقامة الجماعة في المساجد مرتين.
وبوب عليه أبو داود: [باب في الجمع في المسجد مرتين].
وبوب عليه الدارمي: [باب صلاة الجماعة في مسجد قد صلي فيه مرة].
وبوب عليه الحاكم: [إقامة الجماعة في المساجد مرتين].
وبوب عليه ابن حبان: [ذكر الإباحة لمن صلى في مسجد جماعة أن يصلي فيه مرة أخرى جماعة].
قال المباركفوري: إذا ثبت من الحديث حصول ثواب الجماعة بمفترض ومتنفل، فحصول ثوابها بمفترضين بالأولى.
وقال صاحب عون المعبود: والحديث يدل على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلي فيه مرة.
ب- لحديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ اَلرَّجُلِ مَعَ اَلرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ اَلرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ اَلرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ عز وجل رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وهذا نص صريح بأن صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده، ولو قلنا لا تقام الجماعة للزم أن نجعل المفضول فاضلاً وهذا خلاف النص.
وذهب بعض العلماء: إلى المنع من ذلك، واختيار الصلاة فرادى عن الصلاة في جماعة في مسجد قد صلي فيه مرة.
وهذا مذهب كل من: سفيان الثوري، عبد الله بن المبارك، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، والليث بن سعد الأوزاعي، والزهري، وعثمان البتي، وربيعة، والنعمان بن ثابت أبي حنيفة، ويعقوب بن إبراهيم أبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني، والقاسم، ويحي بن سعيد، وسالم بن عبد الله، وأبي قلابة، وعبد الرزاق الصنعاني، وابن عون، وأيوب السختياني، والحسن البصري، وعلقمة، والأسود بن يزيد، والنخعي، وعبد الله بن مسعود.
قال الترمذي في المنع: وهذا قول سفيان، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، فهؤلاء يختارون الصلاة فرادى عن الصلاة في جماعة في مسجد قد صُلِّي فيه مرة.
وقال الإمام الشافعي: وإذا كان للمسجد إمام راتب، ففاتت رجلاً أو رجالاً فيه الصلاة، صلوا فرادى وأحب أن يصلوا فيه جماعة، فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه.
أ- لحديث أبي بكرة رضي الله عنه (وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجد الناس قد صلوا، فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم). رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وأخرجه ابن عدي في الكامل، وحسنه الألباني في تمام المنة.
ب- وأخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن إبراهيم (أن علقمة والأسود أقبلا مع ابن مسعود إلى المسجد، فاستقبلهم الناس قد صلوا، فرجع بهما إلى البيت، فجعل أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله ثم صلى بهما).
ج- وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، بسندهما إلى الحسن البصري، قال:(كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا المسجد وقد صُلي فيه، صلوا فرادى).
فلو كانت الجماعة الثانية في المسجد جائزة مطلقاً لما جمع ابن مسعود في البيت مع كون الفريضة في المسجد أفضل، وكما صلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرادى مع استطاعتهم على التجميع.
د- وقالوا: إن الجماعة الثانية تؤدي إلى تفريق الجماعة الأولى المشروعة، لأن الناس إذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة يستعجلون فتكثر الجماعة، وإذا علموا أنها لا تفوتهم يتأخرون فتقل الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه.
فائدة: تكرار الجماعة في المسجد لها أحوال:
أولاً: أن تكرر الجماعة في المسجد المطروق في ممر الناس أو سوقهم، فلا يكره تكرار الجماعة حينئذٍ، لأن المسجد الذي بهذه الحالة لا تنتظم له جماعة لكثرة رواده، ولا يحصل المحذور وهو التسلط على حق الإمام الراتب فيه.
قال النووي في المجموع: إذا لم يكن للمسجد إمام راتب، فلا كراهة في الجماعة الثانية والثالثة وأكثر بالإجماع.
ثانياً: أن يكون إعادة الجماعة أمراً دائماً، بأن يكون في المسجد جماعتان دائماً، فهذا لا شك أنه مكروه، لأنه لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
• قوله (في غير الثلاثة مساجد) أي: يستثنى من إعادة الجماعة المساجد الثلاثة، وهي مسجد مكة، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، فيكره إعادة الجماعة فيهما.
لِئَلَّا يَتَوَانَى النَّاسُ فِي حُضُورِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرَّاتِبِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ إذَا أَمْكَنَهُمْ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى. (كشاف القناع).
والصحيح: أن المسجد الحرام والمسجد النبوي كغيرهما في حكم إعادة الجماعة، فلا تكره إعادة الجماعة فيهما، بل تستحب لعموم
الأدلة، ولأننا لو أخذنا بالتعليل الذي ذكروه، لانطبق على المسجدين وغيرهما.
وعلى هذا فإذا دخلت المسجد الحرام وقد فاتتك الصلاة مع الإمام الراتب أنت وصاحبك، فصليا جماعة ولا حرج.
قال ابن قدامة: وَظَاهِرُ خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ تَحْصُلُ فِيهَا، كَحُصُولِهَا فِي غَيْرِهَا.
(وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة).
هذا لفظ حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم في صحيحه.
أي: إذا أقيمت الصلاة فلا يجوز للإنسان أن يبدأ بنافلة، لا فرق بين سنة الفجر ولا غيرها.
أ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةُ) رواه مسلم.
وقال الإمام الترمذي رحمه الله: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إذا أقيمت الصلاة أن لا يصلي الرجل إلا المكتوبة وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
ب- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ يُصَلِّى وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَكَلَّمَهُ بِشَيْءٍ لَا نَدْرِى مَا هُوَ فَلَمَّا انْصَرَفْنَا أَحَطْنَا نَقُولُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: قَالَ لِي: يُوشِكُ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ أَرْبَعاً) رواه مسلم
وفي رواية البخاري (وَقَالَ لَه رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ أَرْبَعًا الصُّبْحَ أَرْبَعًا) بهمزة ممدودة في أوله، ويجوز قصرها، وهو استفهام إنكار، وأعاده تأكيداً للإنكار.
الحكمة من عدم صلاة النافلة عند إقامة الصلاة:
قال النووي: الحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام، وإذا اشتغل بنافلة فاته الإحرام مع الإمام، وفاته بعض مكملات الفريضة فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها، قال القاضي: وفيه حكمة أخرى وهو النهي عن الاختلاف على الأئمة.
وقال الشيخ ابن عثيمين: والحكمةُ مِن النَّهي هو: أن لا يتشاغلَ الإنسانُ بنافلةٍ يقيمُها وحدَه إلى جَنْبِ فريضةٍ تقيمُها الجماعةُ؛ لأنه يكون حينئذٍ مخالفاً للنَّاسِ مِن وجهين:
الوجه الأول: أنَّهُ في نافلةٍ، والنَّاسُ في فريضةٍ.
الوجه الثاني: أَنَّهُ يُصلِّي وحدَه، والنَّاسُ يصلُّون جماعةً.
وقد تقدم الكلام عن هذه المسألة.
فائدة:
اعلم أنه لا فرق في منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة بين الراتبة أو غيرها، كما أنه لا فرق بين ركعتي الفجر أو غيرهما.
وأما ما ورد من زيادة (
…
فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الصبح) فهي كما قال ابن القيم: زيادة كاسمها لا أصل لها.
وقال البيهقي: وهذه الزيادة لا أصل لها.
(ومن كبّر قبل سلامِ إمامهِ لحِق الجماعة).
أي: إذا كبر المأموم قبل سلام إمامهِ التسليمة الأولى، فإنه يكون قد أدرك الجماعة.
وهذا المذهب، وهو مذهب الحنفية.
أ- لحديث عائشة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (منْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَوْ مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ فَقَدْ أَدْرَكَهَا) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق إدراك الصلاة بإدراك سجدة، وهذا يدل على أن الجماعة تدرك بأقل من ركعة.
ب- أنه أدرك جزءاً من صلاة الإمام أشبه ما لو أدرك ركعة.
ج- أنه أدرك جزءاً من صلاة الإمام فأحرم معه لزمه أن ينوي الصفة التي هو عليها، وهو كونه مأموماً فينبغي أن يدرك فضل الجماعة.
وذهب بعض العلماء: أن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة مع الإمام.
وهذا قول المالكية، واختار هذا القول ابن تيمية.
أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاة) متفق عليه.
وهذا نص.
ب- أن قدر التكبيرة لم يعلق به الشارع شيئاً من الأحكام لا في الوقت ولا في الجمعة ولا الجماعة ولا غيرها، فهو وصف ملغي في نظر الشارع فلا يجوز اعتباره، وإنما علق الشارع الأحكام بإدراك ركعة.
فقد علق الإدراك بها في الوقت:
كما في حديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَدْرَكَ مِنْ اَلصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلِ أَنْ تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ اَلصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ اَلْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ اَلشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ اَلْعَصْرَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وفي الجمعة:
كما في حديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فقد أدرك الصلاة) رواه ابن ماجه.
فكذلك الجماعة.
ج - أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، كما أفتى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفريق بين الجمعة والجماعة غير صحيح.
وهذا القول هو الصحيح.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (من أدرك سجدة
…
) فالمراد بالسجدة هنا الركعة.
وكذلك - على القول الراجح - أن الوقت يدرك بإدراك ركعة قبل خروج الوقت.
أ-لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ السابق (مَنْ أَدْرَكَ مِنْ اَلصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلِ أَنْ تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ اَلصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ اَلْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ اَلشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ اَلْعَصْرَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ب-ومما يدل على ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) متفق عليه.
ومفهوم الحديث أن من أدرك أقل من ركعة ثم طلعت عليه الشمس أو غربت أنه لا يكون مدركاً للوقت.
وهذا قول الشافعي واختار ذلك ابن تيمية.
(ومن أدرك الركوع غير شاكً أدرك الركعة).
أي: أن الركعة تدرك بالركوع.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال ابن جب: من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة، وإن فاته معه القيام وقراءة الفاتحة، وهذا قول جمهور العلماء، وقد حكاه إسحاق بن راهويه وغيره إجماعاً من العلماء.
أ- لحديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّهُ اِنْتَهَى إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى اَلصَّفِّ، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَادَكَ اَللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِيهِ (فَرَكَعَ دُونَ اَلصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى إِلَى اَلصَّفِّ).
وجه الدلالة: أن أبا بكرة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع دون الصف، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها، فدل على أن من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة.
ب- ولحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك ركعةً فقد أدرك الصلاة" رواه أبو داود. وفي لفظ له (من أدرك الركوع أدرك الركعة).
وصحح الحديث الألباني وقال رحمه الله: ومما يقوي الحديث جريان عمل جماعة من الصحابة عليه:
أولاً: ابن مسعود، فقد قال: من لم يُدرك الإمام راكعاً لم يُدرك تلك الركعة
…
وسنده صحيح.
ثانياً: عبد الله بن عمر، فقد قال: إذا جئت والإمام راكع، فوضعت يديك على ركبتيك قبل أن يرفع فقد أدركت. وإسناده صحيح.
ثالثاً: زيد بن ثابت، كان يقول: من أدرك الركعة قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك الركعة ". وإسناده جيد.
قال ابن رجب: وأكثر العلماء على أنه لا يكون مدركا للركعة إلا إذا كبر وركع قبل أن يرفع إمامه، ولم يشترط أكثرهم أن يدرك الطمأنينة مع الإمام قبل رفعه، ولأصحابنا وجه باشتراط ذلك.
وقال صاحب عون المعبود: ذهب الْجُمْهُور مِنْ الْأَئِمَّة إِلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَام رَاكِعًا دَخَلَ مَعَهُ وَاعْتَدَّ بِتِلْكَ الرَّكْعَة، وَإِنْ لَمْ يُدْرِك شَيْئًا مِنْ الْقِرَاءَة، وَذَهَبَ جَمَاعَة إِلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَام رَاكِعًا لَمْ تُحْسَب لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَة وَهُوَ قَوْل أَبِي هُرَيْرَة وَحَكَاهُ الْبُخَارِيّ فِي الْقِرَاءَة خَلْف الْإِمَام عَنْ كُلّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوب الْقِرَاءَة خَلْف الْإِمَام وَاخْتَارَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ وَالضُّبَعِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّة وَقَوَّاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدِّين السُّبْكِيّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَرَجَّحَهُ الْمَقْبِلِي.
تنبيه: الحد المجزئ في إدراك الركوع مع الإمام: يكون بإدراك المأموم قدر الإجزاء من الركوع قبل رفع الإمام.
فإذا دخل المسجد والإمام راكع ركع معه، ويكون مدركاً للركعة إذا اجتمع مع الإمام في الركوع، ولو لم يطمئن إلا بعد رفع الإمام.
قال أبو داود: " سمعت أحمد سئل عمن أدرك الإمام راكعاً، فكبر ثم ركع فرفع الإمام؟ قال: إذا أمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام فقد أدرك. (انظر: "مسائل الإمام أحمد لأبي داود).
ثم يطمئن في الركوع ويرفع منه ويتابع إمامه.
جاء في الموسوعة الفقهية: اتّفق الفقهاء على أنّ من أدرك الإمام في الرّكوع فقد أدرك الرّكعة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«من أدرك الرّكوع فقد أدرك الرّكعة» ولأنّه لم يفته من الأركان إلاّ القيام، وهو يأتي به مع تكبيرة الإحرام، ثمّ يدرك مع الإمام بقيّة الرّكعة، وهذا إذا أدرك في طمأنينةٍ الرّكوع أو انتهى إلى قدر الإجزاء من الرّكوع قبل أن يزول الإمام عن قدر الإجزاء.
وفي المجموع للنووي: قال الشافعي والأصحاب: إذا أدرك مسبوق الإمام راكعا وكبر وهو قائم ثم ركع فإن وصل المأموم إلى حد الركوع المجزئ وهو أن تبلغ راحتاه ركبتيه قبل أن يرفع الإمام عن حد الركوع المجزئ فقد أدرك الركعة وحسبت.
قال الشيخ ابن باز: إذا أدرك المأموم الإمام راكعا أجزأته الركعة ولو لم يسبح المأموم إلا بعد رفع الإمام.
فائدة: وإذا أدركه حال الركوع أجزأته تكبيرة واحدة، وهي تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع.
روي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر وسعيد وعطاء والحسن وإبراهيم النخعي، وبه قال الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد).
قال أبو داود: قلت لأحمد: أُدرك الإمام راكعاً؟ قال: يجزيك تكبيرة. (مسائل الإمام أحمد).
وذلك لأن حال الركوع يضيق عن الجمع بين تكبيرتين في الغالب، ولأنه اجتمع عبادتان من جنس واحد في محل واحد، ونية الركوع لا تنافي نية افتتاح الصلاة، فأجزأ الركن وهي تكبيرة الإحرام عن الواجب وهي تكبيرة الركوع، كطواف الإفاضة يغني عن طواف الوداع إذا جعله آخر شيء.
فإن أمكن أن يأتي بتكبيرتين: الأولى للإحرام، والثانية للركوع فهذا أولى، قال أبو داود:" قلت لأحمد: يكبر مرتين أحب إليك؟ قال: فإن كبر مرتين فليس فيه اختلاف " انتهى.
قال النووي: إذا أدرك الإمام راكعاً كبر للإحرام قائماً ثم يكبر للركوع ويهوي إليه، فإن وقع بعض تكبيرة الإحرام في غير القيام لم تنعقد صلاته فرضاً بلا خلاف، ولا تنعقد نفلاً أيضا على الصحيح. (المجموع).
وقال الشيخ ابن عثيمين: ولكن هنا أمْرٌ يجبُ أن يُتفَطَّنُ له، وهو أنَّه لا بُدَّ أنْ يكبِّرَ للإحرامِ قائماً منتصباً قبل أنْ يهويَ؛ لأنَّه لو هَوى في حالِ التكبيرِ لكان قد أتى بتكبيرةِ الإحرامِ غير قائمٍ، وتكبيرةُ الإحرامِ لا بُدَّ أن يكونَ فيها قائماً.
(وسُنَّ دخول المأموم مع إمامه كيف أدركه)
أي: يسن للمأموم أن يدخل مع إمامه على حسب حاله، سواء كان قائماً أو راكعاً أو ساجداً.
أ-وقد تقدم حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلَا تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) متفق عليه.
ففي هذا الحديث: أنه ينبغي الدخول مع الإمام ولو لم يدرك إلا قليلاً من الصلاة.
قال الحافظ: استُدِل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حال وجد عليها.
ب- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا وَلا تَعُدُّوهَا شَيْئًا، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاة) رواه أبو داود.
ج-وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الصَّلاةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإِمَام). رواه الترمذي
وقد نقل ابن حزم رحمه الله الإجماع على ذلك، فقال: واتفقوا أن من جاء والإمام قد مضى من صلاته شيء قلّ أو كثر ولم يبق إلا السلام فإنه مأمور بالدخول معه وموافقته على تلك الحال التي يجده عليها ما لم يجزم بإدراك الجماعة في مسجد آخر.
وقال ابن قدامة: ويستحب لمن أدرك الإمام في حال متابعته فيه، وإن لم يعتد له به
…
وذكر بعض الأحاديث المتقدمة ثم قال: والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: إذا جاء الرجل والإمام ساجد فليسجد، ولا تجزئه تلك الركعة. وقال بعضهم: لعله أن لا يرفع رأسه من السجدة حتى يغفر له.
•
حالات من دخل والإمام يصلي:
أ- إذا دخل ووجد الإمام يقرأ الفاتحة، فإنه يدخل معه ويسكت.
ب-إن أدركه قائماً، أو راكعاً، اعتد بتلك الركعة.
ج-إن أدركه قاعداً أو ساجداً، لم يعتد به.
وجاء في الحديث (إذا جئت ونحن سجود فلا تعتدها شيئاً) رواه ابن خزيمة.
د-إذا جاء والإمام قائماً، فإنه يدخل معه، ويستفتح، ويتعوذ، ويقرأ.
وإذا كان الإمام يقرأ الفاتحة، فإنه يسكت حتى ينتهي الإمام.
و-إذا جاء والإمام راكع، فإنه يكتفي بتكبيرة الإحرام، ثم يركع، وإن كبر للركوع فحسن.
• ما يفعله بعض الناس إذا جاء والإمام ساجد ينتظر حتى يقوم، هذا خطأ منتشر، وما يدري الإنسان ربما تكون هذه السجدة سبباً لمغفرة الذنوب.
(ويسن أن يتابع المأموم إمامه بدون مسابقة ولا موافقة ولا تأخير).
أي: أن السنة في المأموم أن يتابع إمامه.
والمتابعة: أن يشرع الإنسان في أفعال الصلاة بعد إمامه مباشرة.
وهذه هي السنة.
أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (
…
وإذا ركع فاركعوا
…
) أي: بعد ركوعه.
ولفظ أبي داود (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين).
فمثلاً: إذا رَكَعَ تركع؛ وإنْ لم تكملْ القراءةَ المستحبَّةَ، ولو بقيَ عليك آيةٌ، لكونها توجب التخلُّفَ فلا تكملها، وفي السُّجودِ إذا رفعَ مِن السجودِ تابعْ الإِمامَ، فكونك تتابعُه أفضلُ من كونك تبقى ساجداً تدعو الله؛ لأنَّ صلاتَك ارتبطت بالإِمامِ، وأنت الآن مأمورٌ بمتابعةِ إمامِك.
• قوله (بدون مسابقة).
أي: يحرم على المأموم أن يسبق إمامه بركوع أو سجود أو رفع.
والمسابقة حرام بالاتفاق.
قال ابن قدامة: ولا يجوز أن يسبق إمامه.
وقال ابن تيمية: أما مسابقة الإمام فحرام باتفاق الأئمة لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه ولا يرفع قبله ولا يسجد قبله.
أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟) متفق عليه.
قوله: (رأس حمار): قيل: يقع على الحقيقة. وقيل: يحتمل أمر معنوي كالبلادة، ورجحه ابن دقيق العيد، وقال: ومما يرجح هذا المجاز بأن التحويل بالصورة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام.
وقال ابن رجب: وفيه: دليل صريح عَلَى تحريم تعمد رفع المأموم رأسه قَبْلَ الإمام فِي ركوعه وسجوده؛ فإنه توعد عَلِيهِ بالمسخ، وَهُوَ من أشد العقوبات.
ب- وعنْ أَنَسٍ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ (أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي إِمَامُكُمْ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالاِنْصِرَافِ فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي - ثُمَّ قَالَ - وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) رواه مسلم.
وقد اختلف العلماء في حكم صلاة من سبق إمامه، وهذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يسبقه بتكبيرة الإحرام.
فهذا لا تنعقد صلاته.
قال الشافعي: من أحرم قبل الإمام فصلاته باطلة.
وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحنفية، والمالكيّة، والشافعيَّة، الحنابلة.
قال النووي: فَيُكَبِّر تَكْبِيرَة الْإِحْرَام بَعْد فَرَاغ الْإِمَام مِنْهَا، فَإِنْ شَرَعَ فِيهَا قَبْل فَرَاغ الْإِمَام مِنْهَا لَمْ تَنْعَقِد صَلَاته.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا).
وجه الدلالة: أنَّ قوله (إنما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به) دلّ على أنَّ الائتمامَ لا يتحقَّق إذا لم يُكبِّرِ الإمامُ، أو إذا لم ينتهِ من التكبير؛ لِأَنَّهُ نَوَى الاقْتِداء بمَن لم يَصِرْ إمامًا بل بمَن سيصيرُ إمامًا إذا فرَغ مِن التَّكبِير.
ب-ولقوله (فإذا كبَّر فكبِّروا) فيه أمرُ المأموم بأن يكونَ تكبيرُه عقبَ تكبيرِ الإمام.
ج- ولأنَّ معنى الاقتداءِ، وهو البناء، لا يُتصوَّر هاهنا؛ لأنَّ البناءَ على العدمِ مُحال.
القسم الثاني: أن يسبق الإمام إلى ركن من الأركان كالركوع والسجود عمداً عالماً بالحكم.
فهذه اختلف العلماء في صحة الصلاة على قولين:
القول الأول: أنها باطلة.
قال ببطلانها أحمد في رواية عنه، وأهل الظاهر، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
أ- لحديث (أما يخشى الذي يرفع
…
) فلو كانت له صلاة لرجى له الثواب ولم يخف عليه العقاب أن يحول الله رأسه رأس حمار.
ب- علل ابن تيمية: أن هذا زاد في الصلاة عمداً فتبطل، كما لو فعل قبله ركوعاً أو سجوداً عمداً فإن الصلاة تبطل بلا ريب.
القول الثاني: تصح صلاته مع الإثم.
وهذا قول الجمهور.
قال ابن رجب: وَهُوَ قَوْلِ أكثر الفقهاء.
وقال ابن حجر: الجمهور على أنّ فاعله يأثم وتجزئ صلاته.
علل النووي ذلك بقوله: بأنها مخالفة يسيرة فلا تبطل الصلاة بها.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار عند شرح الحديث المذكور: وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد عليه بالمسخ، وهو أشد العقوبات وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئه صلاته.
والراجح الأول.
القسم الثالث: أن يسبق إمامه ساهياً أو جاهلاً.
فصلاته صحيحة.
لكن هل يجب عليه أن يرجع ليأتي به بعده أم يستحب؟
قولان: أصحهما أنه يجب أن يرجع ليأتي به بعد الإمام.
وهذا مذهب المالكية، والحنابلة.
لأنه فعله في غير محله، لأن ما قبل فعل الإمام ليس وقتاً لفعل المأموم، فصار بمنزلة من صلى قبل الوقت، أو بمنزلة من كبر قبل تكبير الإمام. (ابن تيمية).
…
(أحكام الإمام والائتمام).
الثالثة: الموافقة (المقارنة).
وهذه تنقسم إلى قسمين:
أولاً: أن يوافقه في تكبيرة الإحرام.
جمهور العلماء على أن من وافق الإمام في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته.
وذهب الحنفية إلى انعقاد صلاته، والصحيح الأول.
الثاني: أن يوافقه في غير تكبيرة الإحرام، كأن يركع مع إمامه أو يسجد معه.
وهذه مكروهة.
وهذا قول أكثر العلماء.
وقد جاء عند أبي داود - كما تقدم - زيادة في حديث (فإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع. . .) (فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ»، وَكَذَا قَالَ فِي الرُّكُوعِ «وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ» وَقَالَ فِي السُّجُودِ «وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ» .
قال العراقي: وَفَائِدَةُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد نَفْيُ احْتِمَالِ إرَادَةِ الْمُقَارَنَةِ
وقال ابن حجر رحمه الله " زَادَ أَبُو دَاوُدَ (وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ) وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ تَنْفِي احْتِمَالَ إِرَادَةِ الْمُقَارَنَةِ مِنْ قَوْلِهِ (إِذَا كبر فكبروا. . . .).
لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ هَذِهِ صَرِيحَةٌ فِي انْتِفَاء التَّقَدُّمِ وَالْمُقَارَنَةِ وَاللَّهُ أَعْلَم. (الفتح).
وفي (عمدة القاري) ورِوَايَة أبي دَاوُد تصرح بِانْتِفَاء التَّقَدُّم والمقارنة.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: والمستحب أن يكون شروع المأموم في أفعال الصلاة؛ من الرفع والوضع، بعد فراغ الإمام منه، ويكره فعله معه في قول أكثر أهل العلم.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الموافقةُ في الأفعالِ وهي مكروهةٌ، وقيل: إنها خِلافُ السُّنَّةِ، ولكن الأقربُ الكراهةُ.
مثال الموافقة: لما قالَ الإِمامُ: «الله أكبر» للرُّكوعِ، وشَرَعَ في الهوي هويتَ أنت والإِمامُ سواء، فهذا مكروهٌ؛ لأنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام قال:«إذا رَكع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركعَ» وفي السُّجودِ لما كبَّرَ للسجودِ سجدتَ، ووصلتَ إلى الأرضِ أنت وهو سواء، فهذا مكروهٌ؛ لأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، فقال:«لا تسجدوا حتى يسجدَ» قال البراءُ بن عَازب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه» لم يَحْنِ أحدٌ منَّا ظهرَهُ حتى يقعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجداً، ثم نَقَعُ سجوداً بعدَه. (الشرح الممتع).
قال ابن الملقن في شرح حديث الباب: هذا الحديث دال بمنطوقه على عدم المسابقة، وبمفهومه على جواز المقارنة، ولا شك فيه لكن يكره، ويفوت به فضيلة الجماعة.
الرابعة: التخلف.
وهو ينقسم إلى قسمين:
1 -
تخلف بعذر.
2 -
تخلف بغير عذر.
أ- إذا كان بعذر:
فإنه يأتي بما تخلف به ويتابع الإمام، إلا أن يصل الإمام إلى المكان الذي هو فيه فإنه لا يأتي به ويبقى مع الإمام وتصبح له ركعة ملفقة من ركعتي إمامه (الركعة التي تخلف فيها - الركعة التي وصل إليها الإمام وهو في مكانه).
ب- التخلف لغير عذر:
اختلف العلماء على قولين:
قيل: لا تبطل صلاته.
وقيل: تبطل.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به).
ومعناه: أنَّ الائتمامَ يَقتضي متابعةَ المأمومِ لإمامِه؛ فلا يجوزُ له المقارنةُ والمسابقةُ والمخالفةُ. ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
قال الشيخ ابن عثيمين: النوع الثاني: التخلُّف لغيرِ عُذرٍ.
إما أن يكون تخلُّفاً في الرُّكنِ، أو تخلُّفاً برُكنٍ.
فالتخلُّفُ في الرُّكنِ معناه: أن تتأخَّر عن المتابعةِ، لكن تدركُ الإِمامُ في الرُّكنِ الذي انتقل إليه، مثل: أن يركعَ الإِمامُ وقد بقيَ عليك آيةٌ أو آيتان مِن السُّورةِ، وبقيتَ قائماً تكملُ ما بقي عليك، لكنك ركعتَ وأدركتَ الإِمامَ في الرُّكوعِ، فالرَّكعةُ هنا صحيحةٌ، لكن الفعلَ مخالفٌ للسُّنَّةِ؛ لأنَّ المشروعَ أن تَشْرَعَ في الرُّكوعِ من حين أن يصلَ إمامك إلى الرُّكوعِ، ولا تتخلَّف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا رَكَعَ فاركعوا).
والتخلُّفُ بالرُّكنِ معناه: أنَّ الإِمامَ يسبقك برُكنٍ، أي: أن يركَعَ ويرفعَ قبل أن تركعَ. فالفقهاءُ رحمهم الله يقولون: إذا تخلَّفتَ بالرُّكوعِ فصلاتُك باطلةٌ كما لو سبقته به، وإنْ تخلَّفتَ بالسُّجودِ فصلاتُك على ما قال الفقهاءُ صحيحةٌ؛ لأنه تَخلُّفٌ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ.
ولكن القولَ الراجحَ أنَّه إذا تخلَّفَ عنه برُكنٍ لغيرِ عُذرٍ فصلاتُه باطلةٌ، سواءٌ كان الرُّكنُ ركوعاً أم غير ركوع. وعلى هذا؛ لو أنَّ الإِمامَ رَفَعَ مِن السجدةِ الأولى، وكان هذا المأمومُ يدعو اللهَ في السُّجودِ فبقيَ يدعو اللهَ حتى سجدَ الإِمامُ السجدةَ الثانيةَ فصلاتُه باطلةٌ؛ لأنه تخلُّفٌ بركنٍ، وإذا سبقه الإِمامُ بركنٍ فأين المتابعة؟
فائدة: الموافقةُ في الأقوالِ لا تضرُّ إلا في تكبيرةِ الإِحرامِ والسلامِ.
أما في تكبيرةِ الإِحرامِ؛ فإنك لو كَبَّرتَ قبلَ أن يُتمَّ الإِمامُ تكبيرةَ الإِحرام لم تنعقدْ صلاتُك أصلاً؛ لأنه لا بُدَّ أن تأتيَ بتكبيرةِ الإِحرامِ بعد انتهاءِ الإِمامِ منها نهائياً.
وأما الموافقةُ بالسَّلام، فقال العلماءُ: إنه يُكره أن تسلِّمَ مع إمامِك التسليمةَ الأُولى والثانية، وأما إذا سلَّمت التسليمةَ الأولى بعدَ التسليمة الأولى، والتسليمةَ الثانية بعد التسليمةِ الثانية، فإنَّ هذا لا بأس به، لكن الأفضل أن لا تسلِّمَ إلا بعد التسليمتين.
وأما بقيةُ الأقوالِ: فلا يؤثِّرُ أن توافق الإِمامَ، أو تتقدَّم عليه، أو تتأخَّرَ عنه، فلو فُرِضَ أنك تسمعُ الإِمامَ يتشهَّدُ، وسبقتَه أنت بالتشهُّدِ، فهذا لا يضرُّ لأن السَّبْقَ بالأقوالِ ما عدا التَّحريمةِ والتسَّليمِ ليس بمؤثرٍ ولا يضرُّ، وكذلك أيضاً لو سبقتَه بالفاتحة فقرأت (ولا الضالين) وهو يقرأ (إياك نعبد وإياك نستعين) في صلاةِ الظُّهرِ مثلاً، لأنه يُشرعُ للإِمامِ في صلاةِ الظُّهر والعصرِ أن يُسمِعَ النَّاسَ الآيةَ أحياناً كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلُ. (ابن عثيمين).
(ويسن للإمام التخفيف مع الإتمام).
أي: يسن للإمام إذا صلى بالناس أن يخفف بهم مع الإتمام.
أ- عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: (قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَباً مِنْ يَوْمِئِذٍ فَقَالَ (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ) متفق عليه.
ب- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ) متفق عليه.
ج- وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ (أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوِ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ، أَوْ فَاتِنٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ - فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْس وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَة) متفق عليه.
وقد اختلف العلماء في حكم التخفيف هل هو واجب أم مستحب على قولين:
القول الأول: أنه واجب.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (فليخفف) وهذا أمر وهو يقتضي الوجوب.
ب-ولحديث أبي مسعود (
…
فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً منه يومئذٍ
…
).
ج- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً غضب غضباً شديداً لما أطال معاذ بأصحابه بالصلاة، وقال: أتريد أن تكون فتاناً يا معاذ. أي منفر عن الدين وصاد عنه، كما في حديث جابر السابق.
القول الثاني: أنه مستحب.
وهذا مذهب الشافعي.
والراجح الأول، وأن التطويل الزائد على السنة حرام.
• والتخفيف المطلوب من الإمام ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: تخفيف لازم.
وهو أن لا يتجاوز الإنسان ما جاءت به السنة. (وهذا غالب فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ودليله حديث أبي هريرة السابق (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف).
القسم الثاني: تخفيف عارض.
وهو أن يكون هناك سبب يقتضي الإيجاز عما جاءت به السنة، أي أنه يخفف أكثر مما جاءت به السنة.
عن أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنِّي لأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّه) متفق عليه.
قال ابن رجب: قوله (
…
أريد أن أطول فيها) فالمعنى: أَنَّهُ يريد إتمامها وإكمالها عَلَى الوجه المعتاد، وليس المراد: الإطالة الَّتِيْ نهى عَنْهَا الأئمة.
• المراد بالتخفيف أن يكون بحيث لا يخل بسننها ومقاصدها، فيلزم الإمام التخفيف مع الإتمام.
أ- لحديث أَنَسٍ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُوجِزُ الصَّلَاةَ وَيُكْمِلُهَا).
ب- ولحديثه الآخر (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات).
ج- وعنه قال (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم.
د - وعنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُوجِز في الصلاة ويُتِم) رواه مسلم.
قال ابن رجب:
…
فأما إكمال الصلاة وإتمام أركانها، فليس بتطويل منهي عَنْهُ.
وقال ابن حجر في قوله (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُوجِزُ الصَّلَاةَ وَيُكْمِلُهَا) المراد بالإيجاز مع الإكمال، والإتيان بأقل ما يمكن من الأركان والأبعاض.
أمثلة: إذا قرأ الإمام في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين فليس مطولاً، لأنه موافق السنة.
وكذلك إذا قرأ في صلاة الصبح من يوم الجمعة (السجدة) و (الإنسان) فإنه لا يعتبر مطولاً، لأنه موافق للسنة.
• اختلف العلماء في ضابط التخفيف المأمور به على أقوال:
قيل: أن لا يزيد عن أدنى الكمال (وهو ثلاث تسبيحات).
وقيل: أن يراعي أضعفهم، ورجحه ابن حزم، وابن حجر.
لقوله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: (
…
أنت إمامهم، واقتدِ بأضعفهم) رواه أبو داود.
قال ابن حجر: وأولى ما أخِذَ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم).
وهذا هو الصحيح، لكن عليه أن يراعي أن لا يصل التخفيف إلى حد الإخلال بالصلاة، أو أن يسرع سرعة زائدة.
• يجوز للإنسان إذا صلى لوحده أن يطول، لأنه لا يشق على أحد، لكن بشرط أن لا يخرج الوقت.
• ما الحكم لو كان الجماعة محصورين وآثروا التطويل؟
لا بأس أن يطوّل لهم، لانتفاء العلة التي من أجلها أمر بالتخفيف.
قال العراقي: هذا الحكم، وهو الأمر بالتخفيف مذكور مع علته، وهو كون المأمومين فيهم السقيم والضعيف والكبير، فإن انتفت هذه العلة، فلم يكن في المأمومين أحد من هؤلاء، وكانوا محصورين، ورضُوا بالتطويل طوّل.
فائدة 1: قوله صلى الله عليه وسلم (أفتان يا معاذ)
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (أَفَتَّان أَنْتَ يَا مُعَاذ) أَيْ مُنَفِّر عَنْ الدِّين وَصَادّ عَنْهُ. فَفِيهِ الْإِنْكَار عَلَى مَنْ اِرْتَكَبَ مَا يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا غَيْر مُحَرَّم. (شرح مسلم).
وقال ابن رجب: قال الخطابي، والفتنة عَلَى وجوه، ومعناها هاهنا: صرف النَّاس عَن الدين، وحملهم عَلَى الضلال. قَالَ تعالى (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ) أي: مضلين.
وتفسيره الفتنة - هاهنا - بالإضلال بعيد، والأظهر: أن المراد بالفتنة هاهنا: الشغل عَن الصلاة؛ فإن من طول عَلَى من شق عَلِيهِ التطويل فِي صلاته، فإنه يشغله عَن الخشوع فِي صلاته، ويلهيه عَنْهَا، كما أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى أعلام الخميصة الَّتِيْ كَانَتْ عَلِيهِ فِي الصلاة نزعها، وَقَالَ (كادت تفتنني).
وأمر عَائِشَة أن تميط قرامها الَّذِي فِيهِ تصاوير، وَقَالَ (لا يزال تصاويره تعرض لِي فِي صلاتي).
ومنه: تخفيفه (الصلاة لما سَمِعَ بكاء الصبي مخافة أن تفتتن أمه).
ومنه: قَوْلِ أَبِي طلحة، لما نظر إلى الطائر فِي صلاته وَهُوَ يصلي فِي حائطه حَتَّى اشتغل بِهِ عَن صلاته: لَقَدْ أصابني فِي مالي هَذَا فتنة.
وقد سبق ذكر ذَلِكَ كله، سوى حَدِيْث بكاء الصبي؛ فإنه سيأتي قريباً - إن شاء الله تعالى.
وسبق حَدِيْث آخر فِي الصلاة عَلَى الخمرة فِي هَذَا المعنى.
والفتنة فِي هذه المواضع كلها، هُوَ: الاشتغال عَن الصلاة، والالتهاء عَنْهَا. (الفتح لابن رجب).
فائدة 2: جواز التأخر عن صلاة الجماعة إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير، وجواز الغضب لما يُنكر من أمور الدين، والغضب في الموعظة، وأن المأموم إذا اشتكى إمامه لا يعتبر غيبة له فهي مستثناة.
(وتطويلُ الركعةِ الأولى أكثر من الثانية).
أي: ويسن للمصلي أن يطوّل الركعة الأولى أكثر من الثانية.
وقد تقدمت المسألة.
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَاناً
…
) متفق عليه.
قال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُطِيلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِيَلْحَقَهُ الْقَاصِدُ لِلصَّلَاةِ.
وقال النووي: وَقَوْله (وَكَانَ يُطَوِّل الرَّكْعَة الْأُولَى وَيَقْصُر الثَّانِيَة) هَذَا مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْعَمَل بِظَاهِرِهِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَشْهَرهمَا عِنْدهمْ لَا يُطَوِّل، وَالْحَدِيث مُتَأَوِّل عَلَى أَنَّهُ طُول بِدُعَاءِ الِافْتِتَاح وَالتَّعَوُّذ، أَوْ لِسَمَاعِ دُخُول دَاخِل فِي الصَّلَاة وَنَحْوه لَا فِي الْقِرَاءَة، وَالثَّانِي أَنَّهُ يُسْتَحَبّ تَطْوِيل الْقِرَاءَة فِي الْأُولَى قَصْدًا هَذَا وَهُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار الْمُوَافِق لِظَاهِرِ السُّنَّة، وَمَنْ قَالَ بِقِرَاءَةِ السُّورَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا أَخَفّ مِنْهَا فِي الْأُولَيَيْنِ. (شرح مسلم).
وقال رحمه الله في المجموع بعد أن ذكر الخلاف في المسألة: والصحيح استحباب تطويل الأولى كما قاله القاضي أبو الطيب ونقله وقد وافقه غيره، وممن قال به الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي وحسبك به معتمداً في هذا. (المجموع).
• والحكمة في مشروعية تطويل الركعة الأولى عن الثانية:
قيل: إن المصلي يكون في أول الصلاة نشيطاً مقبلاً على صلاته.
وقيل: حتى يدرك الناس الركعة الثانية.
قال في (عون المعبود) وَادَّعَى اِبْن حِبَّان أَنَّ الْأُولَى إِنَّمَا طَالَتْ عَلَى الثَّانِيَة بِالزِّيَادَةِ فِي التَّرْتِيل فِيهَا مَعَ اِسْتِوَاء الْمَقْرُوء فِيهِمَا. وَقَدْ رَوَى مُسْلِم مِنْ حَدِيث حَفْصَة أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَتِّل السُّورَة حَتَّى تَكُون أَطْوَل مِنْ أَطْوَل مِنْهَا. ذَكَرَهُ الْحَافِظ.
(ويستحبُّ انتظارُ داخلٍ ما لم يشق على مأموم).
أي: يستحب للإمام أن ينتظر الداخل معه في الصلاة بشرط أن لا يشق على مأموم.
• وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
فقيل: مكروه.
وقيل: مستحب.
وقيل: مستحب مالم يشق على المأمومين، واختاره الشيخ ابن عثيمين.
قال الإمام الخطابي في المعالم: فيه (أي: حديث إني لأدخل في الصلاة فأسمع بكاء الصبي
…
) دليل على أن الإمام وهو راكع إذا أحس برجل يريد الصلاة معه، كان له أن ينتظره راكعاً ليدرك فضيلة الركعة في جماعة، لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة النساء في بعض أمور الدنيا، كان له أن يزيد فيها لعبادة الله تعالى، بل هو أحق بذلك وأولى.
وقال في فيض القدير: وفيه أن الإمام إذا أحس بداخل وهو في ركوعه أو تشهده الأخير، له انتظار لحوقه راكعاً ليدرك الركعة، أو قاعدا ليدرك الجماعة.
وقال الإمام الشوكاني: وقد حكى استحباب ذلك (انتظار الداخل ليدرك الجماعة) ابن المنذر عن الشعبي، والنخعي ونقل الاستحباب أبو الطيب الطبري عن الشافعي في الجديد.
وذهب أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي إلى كراهة الانتظار، واستحسنه ابن المنذر، وشدد في ذلك بعضهم وقال: أخاف أن يكون شركاً وهو قول محمد بن الحسن.
وقال أحمد، وإسحاق فيما حكاه عنهما ابن بطال إن كان الانتظار لا يضر بالمأمومين، جاز، وإن كان مما يضر، ففيه الخلاف. (نيل الأوطار).
وقال ابن قدامة: إذا أحس بداخل، وهو في الركوع، يريد الصلاة معه:
أ-وكانت الجماعة كثيرة، كره انتظاره؛ لأنه يبعد أن يكون فيهم من لا يشق عليه.
ب- وإن كانت الجماعة يسيرة، وكان انتظاره يشق عليهم، كره أيضاً؛ لأن الذين معه أعظم حرمة من الداخل، فلا يشق عليهم لنفعه.
ج- وإن لم يشق لكونه يسيراً، فقد قال أحمد: ينتظره ما لم يشق على من خلفه.
وهذا مذهب أبي مجلز، والشعبي، والنخعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وإسحاق، وأبي ثور.
وقال الأوزاعي، والشافعي، وأبو حنيفة: لا ينتظره؛ لأن انتظاره تشريك في العبادة، فلا يشرع، كالرياء.
ولنا، أنه انتظار ينفع ولا يشق، فشرع، كتطويل الركعة وتخفيف الصلاة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم.
وأطال السجود حين ركب الحسن على ظهره، وقال (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله).
وقال (إني لأسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة فأخففها كراهة أن أشق على أمه).
وقال (من أم الناس فليخفف فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة).
وشرع الانتظار في صلاة الخوف لتدركه الطائفة الثانية، ولأن منتظر الصلاة في صلاة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر الجماعة، فقال جابر (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء أحياناً، وأحياناً إذا رآهم قد اجتمعوا عجل، وإذا رآهم قد أبطئوا أخر) وبهذا كله يبطل ما ذكروه من التشريك.
…
(المغني).
(وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كُرهَ منعُها).
أي: إذا طلبت المرأة الإذن والسماح من ولي أمرها بالخروج للمسجد للصلاة فإنه يكره منعها.
لحديث عَبْدَ اللَّهِ بْن عُمَر قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا).
قَالَ فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ؛ وَقَالَ أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُ وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ.
وفي لفظ لمسلم (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ).
فقوله صلى الله عليه وسلم (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) نهي الرجل أن يمنع امرأته إذا استأذنته بالخروج للمسجد.
• وقد اختَلف أهلُ العِلمِ في إذنِ الزوجِ لزوجتِه إذا استأذنتْه للخروجِ إلى المسجِد على قولين:
القول الأوَّل: يُستحبُّ للزوجِ أن يأذنَ لزوجتِه إذا استأذنتْه في الخروجِ إلى المسجدِ للصلاةِ إذا أُمِنتِ الفتنةُ، فإنْ منَعَها لم يحرُمْ عليه منعُها. (يكره منعها).
وهو مذهبُ المالكية، والشافعية، والحنابلة، وحُكي أنَّه قولُ عامَّة العلماء.
قال النووي: هَذَا وَشَبَهه مِنْ أَحَادِيث الْبَاب ظَاهِر فِي أَنَّهَا لَا تُمْنَع الْمَسْجِد لَكِنْ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْعُلَمَاء
…
وَهَذَا النَّهْي عَنْ مَنْعهنَّ مِنْ الْخُرُوج مَحْمُول عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه إِذَا كَانَتْ الْمَرْأَة ذَات زَوْج أَوْ سَيِّد وَوُجِدَتْ الشُّرُوط الْمَذْكُورَة.
لحديث الباب (لا تَمْنعوا إماءَ اللهِ مساجِدَ الله).
والنهيَ للتَّنزيه. وذلك لِمَا يلي:
أولًا: لو كان إذنُ الزَّوجِ واجبًا لانْتفَى معنى الاستئذانِ؛ لأنَّ ذلك إنَّما يتحقَّق إذا كان المستأذنُ مخيَّرًا في الإجابةِ أو الردّ.
ثانيًا: أنَّ حقَّ الزوجِ في ملازمةِ المسكنِ واجبٌ؛ فلا تتركه للفضيلة.
ثالثًا: لو كان المنعُ حرامًا لكان من حقِّ الزوجةِ أن تخرُجَ إلى المسجدِ دون إذنِ زَوجِها، شاءَ أو أبَى.
القول الثَّاني: يجبُ على الزوجِ أنْ يأذنَ لزوجتِه إذا استأذنتْه إلى المسجدِ للصلاةِ، إذا أُمِنت الفتنة، ويحرم منعها.
وهو قولُ ابنِ عبد البر، وابنِ حزم، والشوكاني، والشِّنقيطيّ، وابنِ باز، وابنِ عُثَيمين.
لحديث ابن عمر السابق حينما قال بلال (واللهِ لنمنعهنّ) قال: فأقْبَلَ عليه عبدُ اللهِ فسَبَّه سبًّا سيِّئًا ما سمعتُه سبَّ مِثلَه قطُّ، وقال:
أُخبِرُكُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتقول: واللهِ لنمنعهن.
فهذا الفِعلُ مِن ابنِ عُمرَ يدلُّ على تحريمِ المنع.
ولحديث (لا تَمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ الله).
قالوا: انَّ النَّهي في الحديثِ للتحريم.
قال الشيخ ابن عثيمين: وقال بعضُ العلماءِ: إنَّ هذا الحديث نهيٌ، والأصلُ في النَّهيِ التحريمُ، وعلى هذا؛ فيحرمُ على الوَليِ أنْ يمنعَ المرأةَ إذا أرادت الذِّهابَ إلى المسجدِ لتصلِّي مع المسلمين، وهذا القول هو الصَّحيحُ.
ويدلُّ لهذا: أنَّ ابنَ عُمرَ رضي الله عنه لما قال له ابنُه بلالٌ حينما حَدَّثَ بهذا الحديث: واللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، أقبلَ إليه عبدُ الله فسبَّهُ سبًّا شديداً ما سبَّهُ مثلَه قطُّ، وقال له: أقولُ لك: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماءَ اللهِ» وتقول: «والله لَنَمْنَعُهُنَّ» فَهَجَرَهُ. لأنَّ هذا مضادَّةٌ لكلامِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وهذا أمرٌ عظيمٌ، وتعظيمُ كلامِ اللهِ ورسولِهِ عند السَّلفِ لا يماثُله تعظيمُ أحدٍ مِن الخَلَفِ. (الشرح الممتع)
والراجح كراهة منعها كما هو قول الجمهور.
•
شروط خروج المرأة للمسجد.
الأول: الأمن من الفتنة عليهن أو بهن.
الثاني: عدم التزين والتطيب.
أ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ) رواه مسلم.
ب- وعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيباً) متفق عليه.
ج- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ). رواه أبو داود
…
(تفلات) غير متطيبات.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَتَفِلَاتٌ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ: تَارِكَاتٌ الطِّيبِ.
قال الشنقيطي: وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُتَطَيِّبَةَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسْجِدِ; لِأَنَّهَا تُحَرِّكُ شَهْوَةَ الرِّجَالِ بِرِيحِ طِيبِهَا، فَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَلْحَقُوا بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَصَوْتِ الْخَلْخَالِ وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ، وَالِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِجَامِعِ أَنَّ الْجَمِيعَ سَبَبُ الْفِتْنَةِ بِتَحْرِيكِ شَهْوَةِ الرِّجَالِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويلحق بالطيب ما في معناه؛ لأن سبب المنع منه ما فيه من تحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة، وكذا الاختلاط بالرجال، وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر.
وجاء في حاشية الروض: وإنما أمرن بذلك لئلا يحركن الرجال بطيبهن، ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات لداعي الشهوة، كحسن الملبس، والتحلي ونحو ذلك، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إلى ميل الرجال، وتشوفهم إليها، فنهيت عن ذلك، سدا للذريعة، وحماية عن المفسدة.
الثالث: إذن الزوج.
لحديث ابن عمر السابق (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ).
وفي رواية (لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ).
الرابع: أن الخروج خاص بالعجوز دون الشابة.
لِأَنَّ الشَّابّةَ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الشَّابَّةَ إِذَا خَرَجَتْ مُسْتَتِرَةً غَيْرَ مُتَطَيِّبَةٍ، وَلَا مُتَلَبِّسَةٍ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ أَنَّ لَهَا الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
الخامس: اشترط بعضهم أن تخرج ليلاً لا نهاراً.
لحديث ابن عمر - السابق - (لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ) حيث فيه التقييد بالليل.
وذهب بعض العلماء إلى أن هذا ليس بشرط.
لأن أكثر روايات حديث ابن عمر الْإِطْلَاقُ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ.
قال الشنقيطي: الْأَظْهَرُ عِنْدِي تَقْدِيمُ رِوَايَاتِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُضُورِ النِّسَاءِ الصَّلَاةَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ اللَّيْلِ، كَحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا الدَّالِّ عَلَى حُضُورِهِنَّ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ، وَهِيَ صَلَاةُ نَهَارٍ لَا لَيْلٍ، وَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ صَلَاةِ اللَّيْلِ، بِسَبَبِ كَوْنِهِنَّ يَرْجِعْنَ لِبُيُوتِهِنَّ، لَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنَ النَّهَارِ قَطْعًا، لَا مِنَ اللَّيْلِ، وَكَوْنُهُ مِنَ النَّهَارِ مَانِعٌ مِنَ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ.
• اعْلَمْ أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ شُرُوطٌ يَرْجِعُ جَمِيعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ وَقْتَ خُرُوجِهَا لِلْمَسْجِدِ لَيْسَتْ مُتَلَبِّسَةً بِمَا يَدْعُو إِلَى الْفِتْنَةِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَسَادِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) مَا نَصُّهُ: هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ الْمَسْجِدَ، وَلَكِنْ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ أَلَّا تَكُونَ مُتَطَيِّبَةً، وَلَا مُتَزَيِّنَةً، وَلَا ذَاتَ خَلَاخِلَ يُسْمَعُ صَوْتُهَا، وَلَا ثِيَابٍ فَاخِرَةٍ، وَلَا مُخْتَلِطَةً بِالرِّجَالِ، وَلَا شَابَّةً وَنَحْوَهَا، مِمَّنْ يُفْتَنُ بِهَا، وَأَلَّا يَكُونَ فِي الطَّرِيقِ مَا يُخَافُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ وَنَحْوُهَا.
(وبيتُها خيرٌ لها).
أي: صلاة المرأة في بيتها خير وأفضل من ذهابها للمسجد.
أ- عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُن) رواه أبو داود.
ب- وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم (خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنّ).
ج- وعن عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا) رواه أبو داود.
د- في صلاة المرأة في بيتها الأمن من الفتنة، فيكون أفضل، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج.
قال الشنقيطي: وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، أَمَّا النِّسَاءُ فَصَلَاتُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ.
وجاء في حديث آخر (
…
وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك) رواه أحمد.
جاء في (الموسوعة الفقهية) اتفق الفقهاء على أن صلاة الرجل في المسجد جماعة أفضل من صلاته منفرداً في البيت، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة) وفي رواية: (بسبع وعشرين درجة). متفق عليه
أما في حق النساء فإن صلاتهن في البيت أفضل؛ لحديث أم سلمة مرفوعاً: (خير مساجد النساء قعر بيوتهن). رواه أحمد.
جاء في حاشية الروض المربع: أجمع العلماء أن صلاة المرأة في بيتها، أفضل من صلاتها في المسجد، فإن النساء أعظم حبائل الشيطان، وأوثق مصائده، فإذا خرجن نصبهن شبكة، يصيد بها الرجال، فيغريهم ليوقعهم في الزنا، فعدم خروجهن حسما لمادة إغوائه وإفساده، وفي الصحيحين من حديث عائشة، لو رأى ما رأينا لمنعهن من المسجد، كما منعت بنو إسرائيل.
فائدة: الحكمة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم للنساء بحضور صلاة العيد، مع أن صلاة المرأة في بيتها أفضل.
قال ابن تيمية: مَا كَانَ يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا أَقَلُّهُنَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ (صَلَاةُ إحْدَاكُنَّ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصِلَاتُهَا فِي حُجْرَتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا وَصِلَاتُهَا فِي دَارِهَا أَفْضَلُ
مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا وَصِلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا مَعِي -أَوْ قَالَ- خَلْفِي). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
فَقَدْ أَخْبَرَ الْمُؤْمِنَاتِ: أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنْ شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ إلَّا "الْعِيدُ" فَإِنَّهُ أَمَرَهُنَّ بِالْخُرُوجِ فِيهِ وَلَعَلَّهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَسْبَابِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فَقُبِلَ بِخِلَافِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ خِلَافَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَهَا فِي بَيْتِهَا الظُّهْرُ هُوَ جُمْعَتُهَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ خُرُوجٌ إلَى الصَّحْرَاءِ لِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْحَجِّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعِيدُ الْأَكْبَرُ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ موقفة لِلْحَجِيجِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابِيَّاتِ إذَا عَلِمْنَ أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَمْ يَتَّفِقْ أَكْثَرُهُنَّ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُ الْقُرُونِ عَلَى الْمَفْضُولِ مِنْ الْأَعْمَال.
باب الإمامة
المراد بالإمامة هنا إمامة الصلاة.
(يَؤُمُّ اَلْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اَللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي اَلْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي اَلسُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي اَلْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا -وَفِي رِوَايَةٍ: سِنًّا).
هذا لفظ حديث رواه مسلم في صحيحه:
لفظه: عن أبي مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم (يَؤُمُّ اَلْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اَللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي اَلْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي اَلسُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي اَلْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا -وَفِي رِوَايَةٍ: سِنًّا- وَلَا يَؤُمَّنَّ اَلرَّجُلُ اَلرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
فهذا الحديث فيه من أولى الناس بالإمامة.
وهذه المراتب التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عند التنازع، كأن يحضر جماعة ليصلوا، أو يتنازع عدة أشخاص في إمامة مسجد، فإنه بهذه المرجحات.
• فالحديث دليل على أن أولى الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله.
واختلف بالمراد بالأقرأ على قولين:
القول الأول: أنه الأكثر حفظاً.
أ- لحديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ (لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ - مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ - قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِى حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآناً) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أن سالم تقدم على هؤلاء الصحابة بكونه أكثرهم قرآناً، فيكون هذا الحديث مبيناً لما أجمل في حديث أبي مسعود (يَؤُمُّ اَلْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اَللَّهِ).
ب- ولحديث عمرو بن سلمة قال: قال صلى الله عليه وسلم (
…
فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ، أَوْ سَبْعِ سِنِينَ). رواه البخاري
وهذا إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه.
القول الثاني: الأحسن قراءة.
قالوا: لأن هذا هو الموافق للغة.
والصحيح الأول.
•
اختلف العلماء: أيهم يقدم الأقرأ أم الأفقه على قولين:
القول الأول: يقدم الأقرأ على الأفقه.
قال النووي: وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، وبعض أصحابنا.
أ-لحديث أبي مسعود السابق (يَؤُمُّ اَلْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اَللَّهِ).
ب-وعن ابن عمر قال: (لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا العصبة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآناً). رواه البخاري وكان منهم عمر، وأبو سلمة.
القول الثاني: يقدم الأفقه على الأقرأ.
قال النووي: وقال مالك والشافعي الأفقه مقدم على الأقرأ.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (مروا أبا بكر فليصلّ بالناس) متفق عليه.
قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي وفيه من هو أقرأ منه، كأبي بن كعب بقوله صلى الله عليه وسلم:(أقرؤكم أبي) فدل على تقديم الأفقه.
ب- وقالوا: لأن الذي يحتاج إليه من القراء مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه.
وأجابوا عن حديث: (يؤم القوم أقرؤهم
…
):
قالوا: بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه، لأن الصحابة كانوا لا يتعلمون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل.
والراجح الأول.
قال النووي: في قوله (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) دليل على تقديم الأقرأ مطلقاً.
قال ابن قدامة: فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ كَانَ أَقْرَؤُهُمْ أَفْقَهَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ تَعَلَّمُوا مَعَهُ أَحْكَامَهُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا لَا نُجَاوِزُ عَشْرَ آيَاتٍ حَتَّى نَعْرِفَ أَمْرَهَا، وَنَهْيَهَا، وَأَحْكَامَهَا.
قُلْنَا: اللَّفْظُ عَامُّ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِعُمُومِهِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَا يُخَصُّ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ، عَلَى أَنَّ فِي الْحَدِيثِ مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (فَإِنْ اسْتَوَوْا فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ) فَفَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْقَارِئَ لِزِيَادَةِ عِلْمٍ لَمَا نَقَلَهُمْ عِنْدَ التَّسَاوِي فِيهِ إلَى الْأَعْلَمِ بِالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالْفِقْهِ عَلَى قَدْرِ الْقِرَاءَةِ لَلَزِمَ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْقِرَاءَةِ التَّسَاوِي فِيه.
…
(المغني).
• فإن كانوا في القراءة سواء، فالأفقه.
لقوله (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) والمراد في أحكام الصلاة.
• فإن كانوا في الفقه سواء فأقدمهم هجرة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ كَانُوا فِي اَلسُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَة).
ومعناه: أن من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً يقدّم على من هاجر بعده.
قال النووي: قال أصحابنا: يدخل فيه طائفتان:
إحداهما: الذين يهاجرون اليوم من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة عندنا وعند جماهير العلماء.
الطائفة الثانية: أولاد المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا استوى اثنان في الفقه والقراءة، وأحدهما من أولاد من تقدمت هجرته، والآخر
من أولاد من تأخرت هجرته، قدم الأول.
وقال ابن قدامة: وَمَعْنَى تُقَدَّمُ الْهِجْرَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ هِجْرَةً مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْهِجْرَةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ فَيُقَدَّمُ السَّابِقُ إلَيْهَا لِسَبْقِهِ إلَى الطَّاعَةِ.
فإن تساووا فالأقدم إسلاماً.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ كَانُوا فِي اَلْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا).
أي يقدم من تقدم إسلامه على من تأخر.
فإن استويا فالأكبر سناً.
فابن الثلاثين يقدم على ابن العشرين أو ابن خمس وعشرين.
ولقوله صلى الله عليه وسلم (وليؤمكم أكبركم).
فإن قيل: كيف قدم الأكبر سناً هنا؟
لأنهم كانوا متساوين في باقي الخصال، لأنهم هاجروا جميعاً، وأسلموا جميعاً، وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولازموه عشرين ليلة، فاستووا في الأخذ عنه، ولم يبق ما تقدم به إلا السن، وقد جاء عند أبي داود:(وكنا متقاربين).
كما في حديث مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ قَالَ (أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لا أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ رواه البخاري).
فلما تساووا في القراءة والعلم والهجرة أمرهم بتقديم الأكبر سناً.
قال النووي: والمختار تقديم الهجرة ثم السن، لحديث أبى مسعود، وأما حديث مالك بن الحويرث فإنما كان خطاباً له ولرفقته، وكانوا في النسب والهجرة والإسلام متساوين، وظاهر الحديث في الصحيحين أنهم كانوا في الفقه والقراءة سواء، فإنهم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا عنده عشرين ليلة، فصحبوه صحبة واحدة واشتركوا في المدة والسماع والرؤية، فالظاهر تساويهم في جميع الخصال إلا السن فلهذا قدمه وهذه قضية غير محتملة لما ذكرته أو هو متعين فلا يترك حديث ابي مسعود الصريح المسوق لبيان الترجيح بهذا والله أعلم.
…
(المجموع).
وقال ابن قدامة: وَالصَّحِيحُ، الْأَخْذُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَقْدِيمِ السَّابِقِ بِالْهِجْرَةِ، ثُمَّ الْأَسَنِّ؛ لِتَصْرِيحِهِ بِالدَّلَالَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَسَنِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمَا هِجْرَةٌ وَلَا تَفَاضُلُهُمَا فِي شَرَفٍ، وَيُرَجَّحُ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ كَالتَّرْجِيحِ بِتَقْدِيمِ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ (فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا) وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَشْرَفُ مِنْ الْهِجْرَةِ، فَإِذَا قُدِّمَ بِتَقَدُّمِهَا فَتَقَدُّمُهُ أَوْلى. (المغني).
(ثم من قَرَعَ).
أي: إذا استوى في هذه المراتب كلها رجلان، فإننا في هذه الحالة نستعمل القرعة.
لِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، فمن خرجت له القرعة قدم فهو الأحق. (المغني)
والدليل على القرعة: حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا) متفق عليه.
قال النووي: معناه أنهم لو علموا فضيلة الأذان، وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقاً يحصلونه، لضيق الوقت، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحداً لاقترعوا في تحصيله.
• والقرعة مشروعة عند التساوي وعدم معرفة المستحق.
والأدلة على مشروعيتها والعمل بها كثيرة جداً.
قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس، وزكريا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: أقرع النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع وهي في القرآن في موضعين.
قال تعالى (وَمَا كُنتَ لَدَيهِم إِذ يُلقُونَ أَقلَامَهُم أَيُّهُم يَكفُلُ مَريَمَ).
وقال تعالى (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدحَضِينَ).
أي فقارع أهل السفينة فكان من المغلوبين.
وعن عائشة. قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه) رواه البخاري.
وللحديث السابق (لو يعلم من في النداء .... لا ستهموا عليه).
وحديث النعمان بن بشير. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا
…
).
وحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَوْ تَعْلَمُونَ - أَوْ يَعْلَمُونَ - مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةً).
قال ابن القيم: والشارع جعل القرعة معينة في كل موضع تتساوى فيه الحقوق، ولا يمكن التعيين بها، إذ لولاها للزم أحد باطلين: إما الترجيح بمجرد الاختيار والشهوة وهو باطل في تصرفات الشارع، وإما بالتعطيل ووقف الأعيان، وفي ذلك تعطيل الحقوق وتضرر المكلفين بما لا تأتي به الشريعة الكاملة بل ولا السياسة العادلة.
(وساكن البيت وإمام المسجد أحقُّ إلا من ذي سلطان).
أي: أن ساكن البيت أحق من الضيف وإن كان الضيف أقرأ.
وإمام المسجد أحق من غيره حتى وإن وجِد من هو أقرأ.
أ- لحديث أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَؤُمُّ اَلْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اَللَّهِ
…
وَلَا يَؤُمَّنَّ اَلرَّجُلُ اَلرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. التكرمة: الفراش مما يبسط لصاحب المنزل ويخص به.
وعند أبي داود (أو في بيته).
وإمام المسجد سلطان في مسجده.
قال النووي: مَعْنَاهُ: أَنَّ صَاحِب الْبَيْت وَالْمَجْلِس وَإِمَام الْمَسْجِد أَحَقّ مِنْ غَيْره، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْر أَفْقَه وَأَقْرَأ وَأَوْرَع وَأَفْضَل مِنْهُ" انتهى.
وقال ابن قدامة: وإمام المسجد الراتب أولى من غيره؛ لأنه في معنى صاحب البيت والسلطان.
ب- ولأننا لو قلنا أن الأقرأ أولى حتى ولو كان للمسجد إمام راتب، لحصل بذلك فوضى، وكان لهذا المسجد في كل صلاة إمام
• وصاحب البيت أولى من غيره.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانه)
قال النووي: مَعْنَاهُ: مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: أَنَّ صَاحِب الْبَيْت وَالْمَجْلِس وَإِمَام الْمَسْجِد أَحَقّ مِنْ غَيْره، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْر أَفْقَه وَأَقْرَأ وَأَوْرَع وَأَفْضَل مِنْهُ، وَصَاحِب الْمَكَان أَحَقّ فَإِنْ شَاءَ تَقَدَّمَ، وَإِنْ شَاءَ قَدَّمَ مَنْ يُرِيدهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي يُقَدِّمهُ مَفْضُولًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْحَاضِرِينَ؛ لِأَنَّهُ سُلْطَانه فَيَتَصَرَّف فِيهِ كَيْف شَاءَ. فَقَالَ أَصْحَابنَا: فَإِنْ حَضَرَ السُّلْطَان أَوْ نَائِبه قُدِّمَ عَلَى صَاحِب الْبَيْت وَإِمَام الْمَسْجِد وَغَيْرهمَا؛ لِأَنَّ وِلَايَته وَسَلْطَنَته عَامَّة. قَالُوا: وَيُسْتَحَبّ لِصَاحِبِ الْبَيْت أَنْ يَأْذَن لِمَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ.
ب- وعن مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ. قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلا يَؤُمَّهُمْ، وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُم). رواه الترمذي
قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ مِنْ الزَّائِرِ.
وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِذَا أَذِنَ لَهُ فَلا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ.
وقَالَ إِسْحَقُ بِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَشَدَّدَ فِي أَنْ لا يُصَلِّيَ أَحَدٌ بِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ، قَالَ وَكَذَلِكَ فِي
الْمَسْجِدِ لا يُصَلِّي بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا زَارَهُمْ، يَقُولُ: لِيُصَلِّ بِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ). (جامع الترمذي).
• فإن أذن صاحب البيت للزائر أن يؤم فلا بأس.
قال الشوكاني رحمه الله في شرح حديث مالك بن الحويرث: وأكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود رضي الله عنه: (إلا بإذنه).
…
(نيل الأوطار).
ويدل أيضاً على جواز إمامة الزائر لصاحب المنزل:
ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ مِنْ بَيْتِكَ؟ قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْن).
• من يقدّم مالك البيت أو المستأجر؟
المستأجر أَولى، لأنَّ المستأجرَ مالكُ المنفعةِ، فهو أحقُّ بانتفاعِهِ في هذا البيت. (الشرح الممتع).
• وقد سئل الشيخ ابن عثيمين: دخل مجموعة من الناس إلى المسجد قبل إقام الصلاة، فصلوا قبل الإقامة، فما حكم صلاتهم؟
فأجاب رحمه الله: لا يجوز للإنسان أن يقيم الجماعة في مسجد له إمام راتب إلا بإذن الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقال: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) فسلطان المسجد هو إمامه.
(إلا من ذي سُلطان).
أي: أن ذا السلطان مقدمٌ على إمام المسجد.
والسلطان المراد به الإمام الأعظم.
لعموم ولايته.
وكل ذي سلطان أولى من جميع نوابه، لأنه صلى الله عليه وسلم أم عتبان بن مالك وأنسًا في بيوتهما، ولأن له ولاية عامة فإذا حضر قدم على جميع الحاضرين، سواء كان غيره أقرأ أو أفقه أو لا، فإن لم يتقدم الوالي قدم من شاء ممن يصلح للإمامة، وإن كان غيره أصلح منه، لأن الحق فيها له فاختص بالتقدم والتقديم.
…
(حاشية الروض).
(ولا تصح إمامة فاسق).
الفاسق هو: من أتى كبيرة، أو داوم على صغيرة.
أي: فلا تصح الصلاة خلف إمام فاسق.
وهذا مذهب أحمد.
أ- لحَدِيثِ جَابِرٍ. قال: قال صلى الله عليه وسلم (وَلَا تَؤُمَّنَّ اِمْرَأَةٌ رَجُلًا، وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا) وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ.
ب- وعللوا: بأن الإمامة تتضمن حمل القراءة ولا يؤمن تركه لها، ولا يؤمن ترك بعض شرائطها كالطهارة وليس ثَم أمارة يستدل بها.
وذهب بعض العلماء: إلى صحة إمامة الفاسق.
وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، واختاره الشيخ ابن باز.
أ- لحديث أَبِى ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا». قَالَ قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ «صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر شرعي، يعتبر من الفسق، ومع ذلك فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف من أخرها، فهو دليل على أن هذه الصلاة صحيحة؛ لأنها لو كانت غير صحيحة لما كتبت لهم، ولا حتى نافلة.
ب- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم). رواه البخاري
فالرسول صلى الله عليه وسلم أذن بالصلاة خلف أمراء الجوْر، فدل على جواز الصلاة خلف الفاسق.
ج- أن الصحابة ومنهم ابن عمر كانوا يصلون خلف الحجاج، وابن عمر من أشد الناس تحرياً لاتباع السنة، والحجاج من الفساق.
والحسن والحسين وغيرهما من الصحابة كانوا يصلون مع مروان.
د- وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه وَهْوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ وَنَزَلَ بِكَ مَا تَرَى وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ فَقَالَ الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاؤُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُم) رواه البخاري.
(إِمَامُ فِتْنَةٍ) أي: رئيس فتنة، واختلف في المشار إليه، ورجح الحافظ ابن حجر أنه عبد الرحمن بن عديس البلوي أحد رؤوس المصريين الذين حاصروا عثمان. (وَنَتَحَرَّجُ) وفي رواية ابن المبارك (وإنا لنتحرج من الصلاة معه) والتحرج التأثم، أي: نخاف الوقوع في الإثم. (فَقَالَ الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ) ظاهره أنه رخص له في الصلاة معهم، كأنه يقول: لا يضرك كونه مفتوناً، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه، واترك ما افتتن به، وهو المطابق لسياق الباب.
وهذا القول هو الصحيح.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: الأئمة متفقون على كراهة الصلاة خلف الفاسق لكن اختلفوا في صحتها فقيل: لا تصح، كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما، وقيل: بل تصح كقول أبي حنيفة والشافعي والرواية الأخرى عنهما، ولم يتنازعوا أنه لا ينبغي توليته.
…
(مجموع الفتاوى).
وقال النووي: وصَلاةُ ابْنِ عُمَرَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ ثَابِتَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرُهُ فِي الصَّحِيحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الصَّلاةِ وَرَاءَ الْفُسَّاقِ وَالأَئِمَّةِ الْجَائِرِينَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: الصَّلاةُ وَرَاءَ الْفَاسِقِ صَحِيحَةٌ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، لَكِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَكَذَا تُكْرَهُ وَرَاءَ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لا يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ، وَتَصِحُّ، فَإِنْ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لا تَصِحُّ الصَّلاةُ وَرَاءَهُ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ، فَإِنْ فَعَلَهَا صَحَّت.
…
(المجموع).
فائدة: الصلاة خلف المبتدع:
جاء في الموسوعة الفقهية: وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ مَعَ الْكَرَاهَةِ مَا لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ، فَإِنْ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَال لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ: صَلُّوا خَلْفَ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ.
وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُصَلِّي مَعَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ زَمَنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ، فَقِيل لَهُ: أَتُصَلِّي مَعَ هَؤُلَاءِ وَمَعَ هَؤُلَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُل بَعْضًا؟ فَقَال: مَنْ قَال حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَال: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَجَبْتُهُ. وَمَنْ قَال: حَيَّ عَلَى قَتْل أَخِيكَ الْمُسْلِمِ وَأَخْذِ مَالِهِ قُلْتُ: لَا.
وَلأِنَّ الْمُبْتَدِعَ الْمَذْكُورَ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، فَصَحَّ الاِئْتِمَامُ بِهِ كَغَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي يُعْلِنُ بِدْعَتَهُ وَيَدْعُو إِلَيْهَا أَعَادَ صَلَاتَهُ نَدْبًا، وَأَمَّا مَنْ صَلَّى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ يَسْتَتِرُ بِبِدْعَتِهِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إِلاَّ أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ، أَوْ يَخَافَ سَوْطَهُ أَوْ سَيْفَهُ.
قال شيخ الإسلام كما في " مجموع الفتاوى "(23/ 355):
وأما الصلاة خلف المبتدع فهذه المسألة فيها نزاع وتفصيل، فإذا لم تجد إماماً غيره كالجمعة التي لا تقام إلا بمكان واحد، وكالعيدين، وكصلوات الحج خلف إمام الموسم، فهذه تفعل خلف كل بر وفاجر باتفاق أهل السنة والجماعة، وإنما تدع مثل هذه الصلوات خلف الأئمة أهل البدع كالرافضة ونحوهم ممن لا يرى الجمعة والجماعة، إذا لم يكن في القرية إلا مسجد واحد فصلاته في الجماعة خلف الفاجر خير من صلاته في بيته منفرداً؛ لئلا يفضي إلى ترك الجماعة مطلقاً، وأما إذا أمكنه أن يصلي خلف غير المبتدع فهو أحسن وأفضل بلا ريب، لكن إن صلى خلفه ففي صلاته نزاع بين العلماء، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة تصح صلاته. وأما مالك وأحمد ففي مذهبهما نزاع وتفصيل.
وهذا إنما هو في البدعة التي يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة مثل بدع الرافضة والجهمية ونحوهم، فأما مسائل الدين التي يتنازع فيها كثير من الناس في هذه البلاد مثل " مسألة الحرف والصوت " ونحوها فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعاً، وكلاهما جاهل متأول، فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولى من العكس، فأما إذا ظهرت السنة وعلمت فخالفها واحد فهذا هو الذي فيه النزاع والله أعلم " انتهى.
وسئلت اللجنة الدائمة (7/ 364) السؤال التالي: هل تجوز الصلاة خلف الإمام المبتدع؟
فأجابت: من وجد إماما غير مبتدع فليصل وراءه دون المبتدع، ومن لم يجد سوى المبتدع نصحه عسى أن يتخلى عن بدعته، فإن لم يقبل وكانت بدعته شركية كمن يستغيث بالأموات أو يدعوهم من دون الله أو يذبح لهم فلا يصلى وراءه، لأنه كافر، وصلاته باطلة، ولا يصح أن يجعل إماماً، وإن كانت بدعته غير مكفرة كالتلفظ بالنية، صحت صلاته وصلاة من خلفه.
(ولا امرأة للرجال).
أي: ولا تصح إمامة المرأة للرجال.
فإمامة المرأة للرجال لا تجوز مطلقاً لا في الفرض ولا في النفل.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) رواه مسلم.
دل الحديث على أن موقفهن في الصلاة التأخير عن الرجال والإمام لا يكون إلا متقدماً، فإمامتها للرجال إذن لا تجوز.
ب- لحديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري.
دل الحديث على نفي الفلاح لمن ولى أمره امرأة والإمامة نوع من الولاية العظمى.
ج- قوله صلى الله عليه وسلم (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهل للب الرجل
…
).
دل الحديث على وصف المرأة بنقصان الدين والعقل، والإمامة موضع رفعة، فلا تصح إمامة من كان بهذا الوصف. [أحكام الإمامة والائتمام].
(ولا صبيٍ لبالغٍ).
أي: ولا تصح إمامة صبي لبالغ.
والصبي: من دون البلوغ.
وبهذا قال المالكية، والحنابلة، وهو مذهب ابن حزم.
أ-لحديث علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقدموا صبيانكم) أخرجه الديلمي في الفردوس وهو حديث لا يصح.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه) ومن المعلوم أن صلاة الصبي نفل، وصلاة المأمومين فرض، وهذا اختلاف عليه.
ج-ولقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ
…
).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، فلا تصح الصلاة خلف من رفع عنه القلم كالمجنون.
د - وعن ابن عباس قال (لا يَؤم غلام حتى يحتلم) رواه البيهقي، قال الحافظ: إسناده ضعيف.
هـ- أن الإمامة حال كمال، والصبي ليس من أهل الكمال فلا يؤم الرجال.
جاء في (الموسوعة الفقهية) جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإْمَامَةِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَنْ يَكُونَ الإِمَامُ بَالِغًا، فَلَا تَصِحُّ إِمَامَةُ مُمَيِّزٍ لِبَالِغٍ فِي فَرْضٍ عِنْدَهُمْ؛ لأِنّها حَال كَمَالٍ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلأِنَّ الإِمَامَ ضَامِنٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْل الضَّمَانِ، وَلأِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الإْخْلَال بِالْقِرَاءَةِ حَال السِّرِّ.
وذهب بعض العلماء: إلى صحة إمامته.
وهذا مذهب الشافعي.
أ- لحديث عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ أَبِي: (جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا. قَالَ: "فَإِذَا حَضَرَتْ اَلصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا"، قَالَ: فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، فَقَدَّمُونِي، وَأَنَا اِبْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.
ولو كانت إمامته غير جائزة لنزل الوحي بذلك.
قال ابن حجر: في الحديث حجة للشافعية في إمامة الصبي المميز في الفريضة، وهي خلافية مشهورة، ولم ينصف من قال إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم، ولم يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير على ما لا يجوز، كما استدل أبو سعيد وجابر لجواز العزل بكونهم فعلوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان منهياً عنه لنهى عنه في القرآن.
وقال النووي: واحتج أصحابنا:
أ-بحديث عمرو بن سلمة.
ب- وبقوله صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. رواه مسلم.
ج-ولأن من جازت إمامته في النفل جازت في الفرض كالبالغ.
والجواب عن حديث (رفع القلم) أن المراد رفع التكليف والإيجاب، لا نفي صحة الصلاة.
…
(المجموع).
وهذا القول هو الراجح.
قال ابن حجر: إِلَى صِحَّة إِمَامَة الصَّبِيّ ذَهَبَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق، وَكَرِهَهَا مَالِك وَالثَّوْرَيْ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد رِوَايَتَانِ، وَالْمَشْهُور عَنْهُمَا الْإِجْزَاء فِي النَّوَافِل دُونَ الْفَرَائض. (الفتح).
جاء في الموسوعة الفقهية: أَمَّا فِي غَيْرِ الْفَرْضِ كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ أَوِ التَّرَاوِيحِ: فَتَصِحُّ إِمَامَةُ الْمُمَيِّزِ لِلْبَالِغِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) لأِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
•
جماهير العلماء على جواز إمامة الصبي في النفل.
أولاً: لأن ما ثبت في الفرض يثبت في النفل والعكس إلا بدليل.
ثانياً: أن النفل يدخلها التخفيف.
• أَمَّا إِمَامَةُ الْمُمَيِّزِ لِمِثْلِهِ فَجَائِزَةٌ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاء.
(ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو قيام إلا إمام الحي المرجو زوال علته).
أي: لا تصح الصلاة خلف العاجز عن الركوع أو السجود أو القيام.
والعاجز عن ركن من أركان الصلاة، فإن هذا الركن ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون الركن غير القيام، كعاجز عن الركوع والسجود.
فهذا اختلف العلماء في صحة إمامته على قولين:
فقيل: لا تصح إمامته.
وهذا قول الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
واستدلوا بتعليلات:
أ- منها أن صلاة العاجز عن الركوع والسجود ناقصة، وصلاة من خلفه كاملة، ولا يصح بناء الكامل على الناقص.
ب- وعللوا عدم الصحة أيضاً بأن العاجز أخل بركن لا يسقط في النافلة فلا يجوز الائتمام به للقادر قياساً على ائتمام القاري بالأمي إذ لا تصح.
قال ابن قدامة: ولا يجوز لتارك ركن من الأفعال إمامة أحد كالمضطجع والعاجز عن الركوع والسجود.
وبهذا قال أبو حنيفة ومالك.
وقيل: تصح خلفه.
وهذا قول الشافعي.
واختاره السعدي.
القسم الثاني: أن يكون الركن العاجز عنه هو القيام.
فهنا اختلف العلماء في صحة إمامته:
القول الأول: لا تصح إمامته.
وهذا قول مالك.
أ-عن الشعبي قال صلى الله عليه وسلم (لا يؤمنّ أحد بعدي جالساً) رواه البيهقي.
ب- قالوا بأنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بهم قاعداً، لأنه لا يصح التقدم بين يديه لنهي الله عن ذلك، ولأن الأئمة شفعاء، ولا يكون أحداً شافعاً له.
القول الثاني: تصح إمامته بالقادرين عليه.
وهذا قول الشافعي.
أ- لحديث عَائِشَةَ، قَالَتْ:(أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْر) متفق عليه.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً) متفق عليه.
ج- عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال (سَقَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِنَا قَاعِداً فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُوداً فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَإِذَا صَلَّى قَاعِداً فَصَلُّوا قُعُوداً أَجْمَعُون) متفق عليه.
د- ولعموم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) رواه مسلم.
هـ- وللقاعدة: من صحت صلاته صحت إمامته.
القول الثالث: تصح بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون إمام الحي أي الإمام الراتب في المسجد.
الشرط الثاني: أن يرجى زوال مرضه.
والراجح القول الثاني، وهو الصحة مطلقاً.
والجواب عن أدلة أصحاب القول الأول:
أما أثر الشعبي (لا يؤمنّ أحد بعدي جالساً) لا يصح، لأمرين:
أولاً: لأنه مرسل.
ثانياً: لأنه من رواية جابر الجعفي لا يحتج به.
وأما قولهم (إنما صلى بهم قاعداً، لأنه لا يصح التقدم بين يديه لنهي الله عن ذلك .. ) فهذا متعقب بصلاته صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف، وهو ثابت بلا خلاف.
وصح أيضاً أنه صلى خلف أبي بكر. وأن المراد بمنع التقدم بين يديه في غير الإمامة.
الخلاصة: الأقوال 3:
لا يصح مطلقاً.
يصح مطلقاً.
يصح بشرطين.
والصحيح: أنها تصح مطلقاً.
فائدة: والأفضل أن لا يتقدمهم من يعجز عن القيام، خروجاً من خلاف من يقول ببطلانها.
قال النووي: قال الشافعي والأصحاب: يستحب للإمام إذا لم يستطع القيام استخلاف من يصلي بالجماعة قائماً، كما استخلف النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن فيه خروجاً من خلاف من منع الاقتداء بالقاعد; لأن القائم أكمل وأقرب إلى إكمال هيئات الصلاة (المجموع).
وقال ابن قدامة: المستحب للإمام إذا مرض، وعجز عن القيام، أن يستخلف; لأن الناس اختلفوا في صحة إمامته، فيخرج من الخلاف، ولأن صلاة القائم أكمل، فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة. (المغني).
•
اختلف العلماء إذا صلى الإمام جالساً، فكيف يصلي من خلفه على أقوال:
القول الأول: أنهم يصلون وراءه قياماً.
وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
أ-لحديث عائشة السابق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعداً، وصلى أبو بكر والناس خلفه قياماً.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم: (صلّ قائماً
…
) فالقيام ركن على القادر عليه، وهؤلاء قادرون على القيام، فيكون القيام في حقهم ركن.
ج-قالوا: إن حديث عائشة السابق في مرض موته، ناسخ لحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم: أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به
…
وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً). متفق عليه، فإن حديث عائشة في مرض موته صلى الله عليه وسلم: فهو ناسخ.
القول الثاني: أنهم يصلون وراءه جلوساً ولو كانوا قادرين على القيام.
وهذا مذهب الظاهرية، والأوزاعي، وإسحاق.
لقوله صلى الله عليه وسلم (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
القول الثالث: إذا ابتدأ الإمام الصلاة قاعداً صلى من خلفه قعوداً، إذا ابتدأ الإمام الصلاة قائما ثم طرأ عليه ما جعله عاجزاً عن القيام، أكمل من خلفه الصلاة قياماً. وهذا قول أحمد.
قال الحافظ: وقد قال بقول أحمد جماعة من محدثي الشافعية، كابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان.
والأدلة على الحالة الأولى: (إذا ابتدأ الإمام الصلاة قاعداً صلى من خلفه قعوداً).
أ- عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوساً) متفق عليه
ب-وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ فَصَلَّى صَلَاةً مِنْ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُون) متفق عليه
ففي هذا الحديث صلى النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً وصلى من خلفه قعوداً، وكان صلى الله عليه وسلم قد ابتدأ الصلاة قاعداً.
والدليل على الحالة الثانية: (إذا ابتدأ الإمام الصلاة قائما ثم طرأ عليه ما جعله عاجزاً عن القيام، أكمل من خلفه الصلاة قياماً).
عن عَائِشَةَ، قَالَتْ:(أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْر) متفق عليه.
ففي هذا أن أبا بكر ابتدأ بهم الصلاة قائماً، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم من حيث انتهى أبو بكر، فصلى قاعداً والصحابة صلوا خلفه قياماً، فدل على أن الإمام إذا ابتدأ الصلاة قائماً ثم عجز عن القيام بعد ذلك صلى من خلفه قياماً.
(ولا تصح خلف محدِثٍ يعلمُ ذلك).
الصلاة خلف الإمام المحدث لها أحوال:
أولاً: لا تصح صلاة المأموم إذا كان يعلم أن إمامَه على جنابة، أو على غير وضوء.
قال النووي: أجمعت الأمة على تحريم الصلاة خلف المحدث لمن علم حدثه،
…
فإن صلى خلف المحدث بجنابة أو بول وغيره، والمأموم عالم بحدث الإمام أثم بذلك، وصلاته باطلة بالإجماع.
…
(المجموع).
ثانياً: اتفق العلماء على أنه إذا ابتدأ الإمام صلاته على وضوء، ثم انتقض وضوءه أثناء الصلاة، فإن صلاته تفسد فيخرج منها، وتظل صلاة المأمومين صحيحة عند الجمهور، فيستخلف من يصلي بهم، أو يتمون لأنفسهم منفردين.
قال النووي: فإن علم في أثناء الصلاة حدث الإمام لزمه مفارقته وأتم صلاته منفردا بانيا على ما صلى معه، فإن استمر على المتابعة لحظة أو لم ينو المفارقة بطلت صلاته بالاتفاق; لأنه صلى بعض صلاته خلف محدث مع علمه بحدثه. (المجموع).
ثالثاً: اختلفوا في حكم الإمام إذا كان ناسياً أنه على غير طهارة والمأمومون لا يعلمون، وصلى بهم، ثم تذكر بعد الانتهاء من الصلاة أنه على غير طهارة على قولين:
القول الأول: أن صلاة المأمومين صحيحة، ولا إعادة عليهم. (يعيد هو فقط).
وهذا مذهب الجمهور. (المالكية، والشافعية، والحنابلة).
قال النووي: وإن لم يعلم حتى سلم منها أجزأته، سواء كان الإمام عالما بحدث نفسه أم لا; لأنه لا تفريط من المأموم في الحالين هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. (المجموع).
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة خلف أئمة الجور (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) رواه البخاري.
ب- أن عمر صلى بالناس وهو جنب فأعاد ولم يأمرهم أن يعيدوا
ج-ولأن الحدث مما يخفى، ولا سبيل للمأموم إلى معرفة حدث الإمام فكان معذوراً في الاقتداء به، لأنه لم يكلف علم ما غاب عنه من أمره، وإذا صح اقتداؤه صحت صلاته فلا يعيدها.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ مُحْدِثًا، أَوْ جُنُبًا، غَيْرَ عَالِمٍ بِحَدَثِهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ هُوَ وَلَا الْمَأْمُومُونَ، حَتَّى فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ بَاطِلَةٌ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم.
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
لإجماع الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
أ- رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُرُفِ، فَأَهْرَقَ الْمَاءَ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلَامًا، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا.
ب- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْمُصْطَلِقِ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَارْتَفَعَ النَّهَارُ فَإِذَا هُوَ بِأَثَرِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، كَبِرْتُ وَاَللَّهِ، فَأَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا.
ج- وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِالْقَوْمِ فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ آمُرُهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُعِيدَ، وَلَا آمُرُهُمْ أَنْ يُعِيدُوا.
د- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الْغَدَاةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا. رَوَاهُ كُلَّهُ الْأَثْرَمُ.
وَهَذَا فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا. (المغني).
القول الثاني: تجب على المأمومين الإعادة.
وهذا مذهب الحنفية.
أ- روي عن سعيد بن المسيب قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بأصحابه وهو جنب فأعاد بهم) رواه البيهقي وهو ضعيف.
ب- ولأن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المأموم، فإذا فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة المأموم، وإذا صلحت صلاته صلحت صلاة
المأموم.
والراجح قول الجمهور.
رابعاً: إن كان الإمام عالماً بحدثه، فهل تبطل صلاة المأمومين.
الراجح أن صلاة المأمومين مع جهلهم بحاله صحيحة بكل حال حتى وإن كان الإمام عالماً.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الإمام إذا تعمد الصلاة محدثاً فسدت صلاة الجميع.
قالوا: لأن الإمام الذي يصلي محدثاً متعمداً أخل بشرط الصلاة مع القدرة عليه أشبه المتلاعب، كما أن أفعاله ليست صلاة في حقيقة الأمر ولا في اعتقاده، لأنه يعلم بطلان صلاته، فلذا لا تصح الصلاة خلفه كالكافر فيعيد من صلى خلفه.
والجواب عن هذا:
بأن معرفة كون الإمام محدثاً متعمداً مما يخفى غالباً، إذ لا يمكن معرفة ذلك من حال الإمام، وإذا لم يمكن معرفة حدثه فإنه لم يوجد من المأموم تقصير، فيصح ائتمامه وصلاته، ولا يلزمه إعادة صلاته لأنه معذور، بخلاف من صلى وراء كافر فهو منسوب إلى التقصير.
فالخلاصة: أن الإمام إذا صلى محدثاً ولم يعلم المأمومون بحدثه إلا بعد الفراغ من الصلاة أنه لا إعادة عليهم مطلقاً سواء كان الإمام دخل عالماً بحدثه أو لا، لأنهم لم يكلفوا علم ما غاب عنهم.
(ولا أمي).
أي: لا تصح إمامة الأمي.
والأمي هنا المراد به: الذي لا يقيم الفاتحة.
فهذا لا تصح إمامته.
وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
فهذا الحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة، ومن أخل بقراءتها لا يعتبر قارئاً لها قراءة تامة.
ب- ولأن القارئ أقوى حالاً من الأمي، لأنه يصلي مع عدم ركنها للضرورة، ولا ضرورة بحق المقتدي.
وذهب بعض العلماء: إلى صحة إمامته.
وبه قال عطاء، وقتادة، وابن المنذر.
وعللوا: أنه عجز عن ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام. (أحكام الإمام والائتمام).
والراجح قول الجمهور.
• إمامة الأمي بمثله.
فاختلف العلماء في هذه المسألة إلى قولين:
والراجح: صحة إمامته بمثله، عند مالك، والشافعي، وأحمد.
قال المرداوي في الإنصاف: الصَّحِيحُ من الْمَذْهَبِ صِحَّةُ إمَامَةِ الْأُمِّيِّ بمثله، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.
(وتصح إمامة العبد).
أي: يجوز أن يكون العبد إماماً بالأحرار.
أ- لحديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ (لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ - مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ - قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أن إمامة سالم مولى أبي حذيفة بالمهاجرين الأولين دليل على جواز إمامته.
قال ابن حجر: ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقديم سالم عليهم، وكان سالم المذكور مولى امرأة من الأنصار
فأعتقته، وكانت إمامته بهم قبل أن يعتق.
ب- وعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالسمع والطاعة للخليفة وإن كان عبداً حبشياً، فإذا كان هذا في الإمامة العظمى فمن باب أولى أن يكون في الصغرى، فيجوز الائتمام به بلا كراهة.
ج- أن عائشة كان يؤمها عبدها ذكوان قبل أن يعتق، أخرجه البخاري تعليقاً، وأخرجه البيهقي.
قال ابن حجر: وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور.
وقال النووي في المجموع: لا تكره إمامة العبد للعبيد والأحرار، ولكن الحر أولى. هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال أبو مجلز التابعي: تكره إمامته مطلقاً، وهي رواية عن أبي حنيفة، وقال الضحاك: تكره إمامته للأحرار ولا تكره للعبيد. (المجموع).
وقال بعض العلماء: تكره مطلقاً.
وبه قال الحنفية.
أ- عللوا ذلك: قلة رغبة الناس في الاقتداء بهؤلاء فيؤدي إلى تقليل الجماعة المطلوب تكثيرها تكثيراً للأجر.
ب-ولأن العبد لا يتفرغ للعلم.
والراجح الأول.
• وأما في الجمعة:
فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز أن يكون العبد إماماً فيها.
وهذا قول المالكية، والحنابلة.
قال ابن قدامة في المغني بعد ذكره من لا تجب الجمعة عليهم كالعبد والمرأة والمسافر ونحوهم: ولا تنعقد الجمعة بأحد من هؤلاء ولا يصح أن يكون إماماً فيها، وقال أبو حنيفة والشافعي يجوز أن يكون العبد والمسافر إماماً فيها، ووافقهم مالك في المسافر إلى أن قال: ولنا أنهم من غير أهل الفرض فلا تنعقد الجمعة بهم، ولم يجز أن يؤموا فيها كالنساء والصبيان، ولأن الجمعة إنما تنعقد بهم تبعاً لمن انعقدت به، فلو انعقدت بهم أو كانوا أئمة صار التبع متبوعاً.
…
(المغني).
وقيل: يجوز.
وهذا قول الحنفية، والشافعية.
للحديث السابق (
…
وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ).
(والأعمى).
أي: وتصح إمامة الأعمى من غير كراهة.
لحديث أَنَسٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اِسْتَخْلَفَ اِبْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، يَؤُمُّ اَلنَّاسَ، وَهُوَ أَعْمَى) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.
وذهب بعض العلماء: إلى أن البصير أولى من الأعمى.
وبه قال الحنفية واختاره ابن قدامة، واستدلوا:
أ-بأن ابن عباس قال (كيف أؤمهم وهم يعدلوني إلى القبلة حين عمي) رواه عبد الرزاق.
وهذا فعل صحابي يدل على أن البصير أولى من الأعمى.
وعللوا ذلك بتعليلين:
الأول: أن الأعمى قد لا يمكنه أن يصون ثيابه عن النجاسات بخلاف البصير فإنه يتجنب النجاسات.
الثاني: أن البصير يستقبل القبلة باجتهاده، بخلاف الأعمى فإنه بتقليد غيره.
والصحيح أن الأعمى كالبصير سواء.
أ-لحديث أنس السابق.
ب-وأيضاً ثبت ما يعارض فعل ابن عباس من فعله، فعن سعيد بن جبير قال (أمنا ابن عباس وهو أعمى) رواه ابن أبي شيبة.
ج- ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم) ولفعل ابن أم مكتوم. (أحكام الإمامة والائتمام).
وهذا هو الصحيح.
(والمتيمم بالمتوضئين).
أي: يصح إمامة المتيمم بالمتوضئ.
لحديث عمرو بن العاص قال (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو، أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول (ولا تقتلوا أنفسكم) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) رواه أبو داود.
قال ابن قدامة: يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْمُتَوَضِّئِ، بِالْمُتَيَمِّمِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ مُتَيَمِّمًا، وَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْهُ.
وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ أَصْحَابَهُ مُتَيَمِّمًا، وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرُوهُ.
وَلِأَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ طَهَارَةً صَحِيحَةً، فَأَشْبَهَ الْمُتَوَضِّئَ.
(وتكرهُ إمَامَةُ اللحان).
اللحان كثير اللحن الذي لا يغير المعنى في غير الفاتحة.
فإمامة اللحان مكروهة.
قال النووي: إذا لحن في القراءة كرهت إمامته مطلقاً.
وقال ابن قدامة: يكره إمامة اللحان، لأنه نقص يذهب ببعض الثواب.
(وأنْ يَؤُمَّ أجنبيةً فأكثرَ لا رجلَ معهُنّ).
أي: يكره أن يصلي الرجل بامرأة أجنبية عنه.
والأجنبية: من ليست من محارمه.
والصحيح أن ذلك حرام.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يخلونَّ رجل بامرأةٍ إلا ومعها ذو محرَم) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ) رواه أحمد.
وهذه الأحاديث عامة، تدل على تحريم خلوة الرجل بالمرأة في أي حال ولو كان ذلك من أجل الصلاة.
وقد نص على تحريم ذلك أهل العلم.
قال النووي: قال أصحابنا: إذا أمَّ الرجل بامرأته أو محرم له، وخلا بها جاز بلا كراهة; لأنه يباح له الخلوة بها في غير الصلاة، وإن أمَّ بأجنبية وخلا بها حرم ذلك عليه وعليها، للأحاديث الصحيحة التي سأذكرها إن شاء الله تعالى
…
ثم ذكر نحو الأحاديث المتقدمة. (المجموع).
وجاء في (الموسوعة الفقهية) وقد اتفق الفقهاء على أن الخلوة بالأجنبية محرمة. وقالوا: لا يخلون رجل بامرأة ليست منه بمحرم، ولا زوجة، بل أجنبية; لأن الشيطان يوسوس لهما في الخلوة بفعل ما لا يحل، قال صلى الله عليه وسلم (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان). وقالوا: إن أمَّ بأجنبية وخلا بها، حرم ذلك عليه وعليها.
• وقوله (لا رجل معهن) فلو كان معهن رجل فلا يكره.
وهذه المسألة لها أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون النساء في المسجد مع الرجال، فهذا جائز.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ، مِنْ الْغَلَسِ) متفق عليه.
وغيره من الأحاديث الكثيرة.
الحالة الثانية: أن يؤم النساء ومعهن أحد محارمه أو رجل آخر فهذا جائز.
لحديث أنس-وفيه- (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين) متفق عليه
الحالة الثالثة: أن يؤم امرأة واحدة أجنبية منه، فهذا لا يجوز.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم). متفق عليه
الحالة الرابعة: أن يؤم نساء أجانب عنه ولا رجل معهن غيره ولا أحد محارمه.
فهذه الحالة اختلف العلماء على قولين:
قيل: يكره.
وقيل: يجوز.
والراجح أنه يكره.
(أو قوماً أكثرُهُم يكرههُ بحقٍ).
أي: يكره أن يؤم قوماً أكثرهم يكرهه بحق.
وتكون الكراهة: إذا كرهوه لمعنى مذموماً شرعاً كظالم، وكمن تغلب على إمامة الصلاة وهو لا يستحقها أو يعاشر أهل الفسوق أو ينقص هيئات الصلاة ولا يكملها.
وقد جاء في ذلك أحاديث:
أ- عن أبي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ) رواه الترمذي.
ب- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ صَلَاةٌ: مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا هُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَرَجُلٌ يَأْتِي الصَّلَاةَ دِبَارًا - وَالدِّبَارُ: أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ أَنْ يَفُوتَهُ الْوَقْتُ - وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
ج- وعن ابن عباس. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أمّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متضارمان) رواه ابن ماجه.
قال ابن تيمية: إنْ كَانُوا يَكْرَهُونَ هَذَا الإِمَامَ لأَمْرٍ فِي دِينِهِ: مِثْلَ كَذِبِهِ أَوْ ظُلْمِهِ، أَوْ جَهْلِهِ، أَوْ بِدْعَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيُحِبُّونَ الآخَرَ لأَنَّهُ أَصْلَحُ فِي دِينِهِ مِنْهُ. مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَصْدَقَ وَأَعْلَمَ وَأَدْيَنَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِمْ هَذَا الإِمَامُ الَّذِي يُحِبُّونَهُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ الإِمَامِ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(ثَلاثَةٌ لا تُجَاوِزُ صَلاتُهُمْ آذَانَهُمْ: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَرَجُلٌ لا يَأْتِي الصَّلاةَ إلا دِبَارًا، وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّراً).
وقال أيضاً: إِذَا كَانَ بَيْنَ الإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مُعَادَاةٌ مِنْ جِنْسِ مُعَادَاةِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ أَوْ الْمَذَاهِبِ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ بِالصَّلاةِ جَمَاعَةً; لأَنَّهَا لا تَتِمُّ إلا بِالائْتِلافِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:(لا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ) اهـ
قال الشوكاني: وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضاً فينتهض للاستدلال بها على تحريم أن يكون الرجل إماماً لقوم يكرهونه، ويدل على التحريم نفي قبول الصلاة وأنها لا تجاوز آذان المصلين ولعن الفاعل لذلك، وقد ذهب إلى التحريم قوم وإلى الكراهة آخرون.
قال ابن قدامة: وَإِنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَسُنَّةٍ فَكَرِهَهُ الْقَوْمُ لِذَلِكَ، لَمْ تُكْرَهْ إمَامَتُهُ.
وجاء في الإنصاف للمرداوي: لو كانوا يكرهونه بغير حق كما لو كرهوه لدين أو سنة لم تكره إمامته على الصحيح من المذهب وعليه
جماهير الأصحاب.
قال الشيخ ابن عثيمين: وأفادنا قوله: «بِحَقٍّ» أنَّهم لو كرهوه بغير حَقٍّ، مثل: لو كرهوه لأنَّه يَحْرِصُ على اتِّباعِ السُّنَّةِ في الصَّلاةِ فيقرأ بهم السُّورَ المسنونةَ، ويُصلِّي بهم صلاةً متأنيةً، فإن إمامتَه فيهم لا تُكره؛ لأنَّهم كرهوه بغيرِ حَقٍّ فلا عِبرةَ بكراهتهم. لكن؛ ظاهرُ الحديثِ الكراهةُ مطلقاً، وهذا أصحُّ؛ لأنَّ الغَرَضَ مِن صلاةِ الجماعةِ هو الائتلافُ والاجتماعُ وإذا كان هذا هو الغَرضُ؛ فمِنَ المعلومِ أنَّه لا ائتلافَ ولا اجتماعَ إلى شخصٍ مكروهٍ عندَهم، وينبغي له إذا كانوا يكرهونَه بغير حَقٍّ أنْ يَعِظَهُم ويُذكِّرَهم ويتألَّفَهم؛ ويُصلِّيَ بهم حسب ما جاءَ في السُّنَّةِ، وإذا عَلِمَ اللهُ مِن نِيَّتِهِ صِدْقَ نِيَّةِ التأليفِ بينهم يَسَّرَ اللهُ له ذلك.
• لا بد أن تكون الكراهة من أكثرهم.
جاء في الإنصاف: مفهوم قوله (أكثرهم له كارهون) أنه لو كرهه النصف لا يكره أن يؤمهم، وهو صحيح وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب وهو ظاهر كلام كثير منهم، وقيل يكره أيضاً.
وقال النووي: قال الشافعي وأصحابنا يكره أن يؤم قوماً وأكثرهم له كارهون، ولا يكره إذا كرهه الأقل، وكذا إذا كرهه نصفهم لا يكره.
(وتصِح إمامةُ ولدِ الزنا).
وإنما نص بعض العلماء على هذه المسألة، لأن بعض العلماء قال بكراهة إمامته.
وعللوا ذلك بثلاث تعليلات:
التعليل الأول: أن ولد الزنا الغالب من حاله الجهل لفقد من يؤدبه ويعلمه.
التعليل الثاني: أن الناس لا يرغبون في الصلاة خلفه، فتؤدي إمامته إلى تقليل الجماعة.
التعليل الثالث: أن الإمامة منصب فضيلة فكره تقديمه كالعبد.
والراجح أنه لا تكره إمامته.
وبهذا قال الحسن، والنخعي، والزهري، وأحمد.
لعموم الأدلة (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
جاء في (الموسوعة الفقهية) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَا:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى كَرَاهَتِهَا وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُكْرَهُ إِمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَا إِذَا سَلِمَ دِينُهُ.
قَال عَطَاءٌ: لَهُ أَنْ يَؤُمَّ إِذَا كَانَ مَرْضِيًّا.
وَبِهِ قَال سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَإِسْحَاقُ.
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ) رواه مسلم.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها (لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ وِزْرِ أَبَوَيْهِ شَيْء) رواه البيهقي، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وَقَال تَعَالَى:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). انتهى.
وقال ابن حجر: وَإِلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا، وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ أَنْ يُتَّخَذَ إِمَامًا رَاتِبًا، وَعِلَّتُهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ يصير مُعَرَّضًا لِكَلَامِ النَّاسِ فَيَأْثَمُونَ بِسَبَبِهِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْغَالِبِ مَنْ يَفْقَهُهُ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْجَهْلُ. انتهى.
(ومنْ يُؤدي الصلاةَ بمن يقضيها وعكسُه).
أي: وتصح إمامة من يؤدي الصلاة بمن يقضيها.
الأداء: ما فُعل في وقته أولاً.
والقضاء: ما فعل بعد وقته.
لاتحاد الصلاتين جنساً وعدداً.
فإذا دخل رجل والناس يصلون الظهر - مثلاً - ثم ذكر أن عليه صلاة الظهر بالأمس، فله أن يدخل معهم وينوي الظهر أمس، فهو يقضي الصلاة، وقد ائتم بمن يؤديها.
فهذا يصح، لأن قاضٍ صلى خلف مؤدٍ، فالصلاة واحدة، لكن اختلف الوقت.
وعكس ذلك: أن يؤم من يقضي بمن يؤديها، فيكون الإمام هو الذي يقضي، والمأموم هو الذي يؤدي.
كرجل ذكر أن عليه فائتة ظهر أمس، فقال لآخر: أصلي ظهر أمس وصلِ معي ظهرك اليوم.
فهذا يصح.
أ- لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت.
ب- ولأن اختلاف النية لا يضر.
وذهب بعض العلماء: إلى أن ذلك لا يصح.
وهو قول الحنفية والمالكية.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف على الإمام، وكون المأموم يؤدي الصلاة والإمام يقضيها أو العكس اختلاف بينهما فلا يجوز.
(ومتنفل خلف مفترض).
أي: ويصح أن يصلي المتنفل خلف مفترض، وهذا قول عامة أهل العلم.
قال ابن قدامة: وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ وَرَاءَ الْمُفْتَرِضِ.
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا، فَيُصَلِّيَ مَعَه، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي إعَادَةِ الْجَمَاعَةِ.
…
(المغني).
وقال عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة: فأما صلاة المتنفل خلف المفترض فلا نعلم في صحتها خلافاً.
أ- لحديث يَزِيدَ بْن الأَسْوَد (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، فَلَمَّا صَلَّى إِذَا رَجُلَانِ لَمْ يُصَلِّيَا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَدَعَا بِهِمَا فَجِئَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَة) رواه أبو داود.
ب- ولحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده، فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فصلى معه رجلاً) رواه أبو داود.
ج- ولحديث أَبِى ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَرَبَ فَخِذِي «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ في قَوْمٍ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا» . قَالَ: قَالَ مَا تَأْمُرُ قَالَ (صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اذْهَبْ لِحَاجَتِكَ فَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَأَنْتَ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلِّ، وَلَا تَقُلْ إِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فَلَا أُصَلِّي) رواه مسلم.
(لا مُفترِضٍ بمتنفلٍ).
أي: لا تصح إمامة متنفل (من يصلي نفلاً) بمفترض (بمن يصلي فرضاً) أي فلا يجوز أن يكون الإمام متنفلاً والمأموم مفترضاً.
فلا يصح أن يصلي العشاء - مثلاً - مع إمام يصلي التراويح.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاختلاف على الإمام، وكون المأموم مفترض، والإمام متنفل، اختلاف بينهما فلا يجوز.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز ذلك.
وبه قال طاووس، وعطاء، والأوزاعي.
وهو مذهب الشافعي، واختاره ابن قدامة، وابن تيمية.
أ- لحديث جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ، قَالَ (كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَه) متفق عليه.
وقد جاء في رواية عند الدار قطني (هي له نافلة، ولهم فريضة).
فإن معاذاً كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة.
قال النووي: في هذا الحديث: جواز صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن معاذاً كان يصلِّي الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُسقط فرضَه ثم يصلِّي مرة ثانية بقومه هي له تطوع ولهم فريضة، وقد جاء هكذا مصرَّحاً به في غير "مسلم"، وهذا جائز عند الشافعي رحمه الله تعالى وآخرين.
…
(شرح مسلم).
ب-ولأنه ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بعض أنواع صلاة الخوف، أنه كان يصلي بطائفة صلاة تامة ويسلم بهم، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم). رواه النسائي.
وهنا تكون الصلاة الأولى للرسول صلى الله عليه وسلم فرضاً، والثانية نفلاً.
ج-ولحديث عمرو بن سلِمة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه (وليؤمكم أكثركم قرآناً، قال: فكنت أؤمهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أن الحديث يدل على جواز إمامة الصبي بالبالغين، ومن المعلوم أن الصبي غير مكلف فتكون صلاته نفلاً، فدل على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل.
د- أنهما صلاتان اتفقا في الأفعال فجاز اقتداء المفترض بالمتنفل قياساً على جواز اقتداء المتنفل بالمفترض.
وعليه: لو أن رجلاً يريد أن يصلي السنة ركعتين، فجاء آخر وقال: أصلي معك الفجر، فصلى الإمام السنة، وصلى المأموم الفجر، فإن هذا يصح.
قال السعدي: والصحيح أنه يجوز ائتمام المفترض خلف المتنفل لقصة معاذ، وذلك صريح في المسألة، وكذلك قصة عمرو بن سلِمَة الجَرمي أنه كان إماماً لقومه وهو صبي، دليل على صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، ودليل أيضاً على صحة إمامة الصبي في الفرض والنفل.
• وأجاب هؤلاء عن حديث (فلا تختلفوا عليه): أن المقصود لا تختلفوا عليه في الأفعال الظاهرة لا النيات.
قال السعدي: وأما تعليل المانعين بأن المأموم إذا نوى صلاته فرض والإمام نواها نفلاً، أن ذلك اختلاف يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا) فليس الأمر كما ذكروا لوجهين:
أحدهما: أن مراده صلى الله عليه وسلم بالاختلاف المذكور مخالفةٌ بالأفعال، كمسابقة الإمام، أو التخلف عنه، وليس مراده بذلك مخالفته النية، وبقية الحديث يوضحه جداً، فإنه قال فيه بعد قوله (فلا تختلفوا علي، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا
…
) وهذا ظاهر.
الوجه الثاني: أنهم أجازوا النفل خلف الفرض، وهذا مخالفة في النية، فدل على أن هذا المعنى غير معتبر.
وهذا القول هو الراجح.
• فائدة: أجاب أصحاب القول الأول عن حديث معاذ بأجوبة ضعيفة:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك.
والجواب على هذا من وجهين:
أولاً: إن كان قد علم فهو المطلوب.
ثانياً: وإن لم يعلم فإن الله تعالى قد علم فأقره، ولو كان هذا أمراً لا يرضاه الله لم يقره على فعله. (الشرح الممتع).
ب- أن معاذاً كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم بنية النافلة.
والجواب عن هذا:
أن هذا جواب ضعيف، لأن رواية (هي له تطوع ولهم مكتوبة) تنفي هذا الاحتمال.
وأيضاً هو مخالف لصريح رواية الصحيحين (أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة).
وأيضاً لا يظن بمعاذ أنه يترك الفرض مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل ويصليه مع قومه.
وأيضاً لا يجوز لمعاذ ولا لغيره أن يشتغل بالنفل وقد أقيمت المكتوبة للنهي عن ذلك.
قال النووي: وكل هذه التأويلات دعاوى لا أصل لها، فلا يُترك ظاهر الحديث بها.
وقال ابن رجب: ولم يظهر عنه (يعني حديث معاذ) جواب قوي، فالأقوى جواز اقتداء المفترض بالمتنفل.
(ولا من يصلي الظهرَ بمن يصلي العصر أو غيرِها).
أي: ولا يصح ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها من الصلوات الرباعية.
مثال: رجل جاء إلى المسجد فوجدهم يصلون العصر وهو لم يصل الظهر، فلا يجوز أن يصلي الظهر خلف هذا الإمام الذي يصلي العصر.
وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية.
لحديث (
…
فلا تختلفوا عليه).
وجه الدلالة: أن صلاة المفترض خلف من يصلي فرضاً آخر هو اختلاف عليه، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز اقتداء المفترض بمفترض يصلي فرضاً غير فرضه.
وهذا مذهب الشافعية، واختاره ابن تيمية.
قال النووي: تصح صلاة فريضة خلف فريضة أخرى توافقها في العدد كطهر خلف عصر، وتصح فريضة خلف فريضة أقصر منها، وكل هذا جائز بلا خلاف عندنا.
واستدل هؤلاء بالأدلة التي استدل بها القائلون بجواز إمامة المتنفل بالمفترض، كما في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالطائفة الثانية في صلاة الخوف، وإمامة معاذ بقومه بعد صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وجه الدلالة: أنه إذا جازت إمامة من يصلي النفل بمن يصلي الفرض، فجواز إمامة من يصلي الفرض بمن يصلي فرضاً آخر من باب أولى.
وهذا القول هو الراجح.
فصل
(يقف المأمومونَ خلف الإمام).
أي: إذا كان مع الإمام أكثر من واحد فالسنة وقوفهم خلفه.
أ- لحديث أَنَسٍ قَالَ (صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ب- ولحديث جابر. قال (ثمَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّي
…
ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْنَا جَمِيعًا فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَه) رواه مسلم.
فائدة:
ذهب بعض السلف إلى أنه إذا كان مع الإمام اثنين فإن الإمام يقف بينهما.
وهو قول ابن مسعود.
عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ (أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ أَصَلَّى مَنْ خَلْفَكُمْ قَالَا نَعَمْ. فَقَامَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ رَكَعْنَا فَوَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ جَعَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
والصحيح - كما تقدم - يكون موقفهما خلف الإمام.
والجواب عن فعل ابن مسعود:
قيل: أن هذا الحديث منسوخ.
فخبر ابن مسعود بمكة، لأن فيه التطبيق وقد نسخ بالمدينة، وحديث جابر وجبار بالمدينة، لأن جابر إنما شهد المشاهد بعد بدر وحديث أنس بن مالك فإنه كان بالمدينة، وغاية ما فيه خفاية الناسخ على عبد الله، وليس ببعيد، إذ لم يكن دأبه صلى الله عليه وسلم إلا إمامة الجمع الكثير إلا في الندرة كهذه القصة وحديث أنس وهو في داخل بيت امرأة فلم يطلع عبد الله على خلاف ما علمه.
وقيل: محمول على ضيق المكان، كما قاله إبراهيم النخعي وابن سيرين. (انظر أحكام الإمامة والائتمام).
(وإذا كان المأمومُ واحداً وقفَ عن يمين الإمام).
أي: السنة إذا كان المأموم واحداً أن يقف عن يمين الإمام.
أ- عن اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ب- ولحديث جابر السابق (ثمَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّي. . . ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِه. . .) رواه مسلم.
ج- ولحديث أنس (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا) رواه مسلم.
قال ابن قدامة: وإذا كان المأموم واحداً ذكراً، فالسنة أن يقف عن يمين الإمام رجلاً كان أو غلاماً.
وقال النووي: وأما الواحد فيقف عن يمين الإمام عند العلماء كافة.
• قول من يقول: إذا صلى مع الإمام واحد، فإنه يشرع له أن يتأخر المأموم قليلاً ليكون الإمام متقدم، قول ضعيف.
بل الصواب أنه يقف عن جنبه مساوياً من غير تقدم ولا تأخر.
ففي حديث ابن عباس في رواية (
…
فقمت إلى جنبه) وهذا ظاهر في المساواة.
وهو الذي مشى عليه البخاري فقال باب: يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواءً إذا كانا اثنين.
وفي حديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في مرض موته (فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر، إلى جنبه).
قال الألباني: إن الرجل إذا ائتم بالرجل وقف عن يمين الإمام، والظاهر أنه يقف محاذياً له لا يتقدم ولا يتأخر، لأنه لو كان وقع شيء من ذلك لنقله الراوي، لا سيما وأن الاقتداء به من أفراد الصحابة قد تكرر.
• من فوائد حديث ابن عباس:
أ- أنه لو وقف المأموم الواحد عن يسار الإمام، فإنه يشرع أن يجعله عن يمينه.
ب-السنة إذا أراد الإمام أن يحرك من وقف عن يساره أن يحركه من ورائه، وليس من الأمام.
(فإن وقف عن يساره لم يصح).
أي: إن وقف المأموم الواحد عن يسار الإمام - مع خلو يمينه - لم يصح.
لحديث ابن عباس السابق (فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ).
قالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس من يساره إلى يمينه، فدل على أن اليسار غير موقف للمأموم الواحد، فإذا وقف فيه بطلت صلاته.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه تصح صلاته.
وهذا مذهب جماهير العلماء، ورجحه الشيخ السعدي.
لحديث ابن عباس وجابر السابقين.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهما باستئناف الصلاة، ولو لم يكن موقفاً لأمرهما الرسول صلى الله عليه وسلم باستئناف الصلاة.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم ردّ جابر وجبار وابن عباس، لا يدل على عدم الصحة، بدليل ردّ جابر وجبار إلى ورائه، مع صحة صلاتهما عن جانبه.
وهذا القول هو الصحيح.
قال السعدي: والصحيح أن وقوف المأموم عن يمين الإمام سنة مؤكدة، لا واجب تبطل الصلاة، فتصح الصلاة عن يسار الإمام مع خلو يمينه، لأن النهي إنما ورد عن الفذية، وأما يمينه فإنه يدل على الأفضلية لا على الوجوب، لأنه لم ينه عنه، والفعل يدل على السنية.
فائدة: صلاة المأموم عن يسار الإمام لا تخلو من حالتين:
الحال الأولى: أن يقف المأموم عن يسار الإمام مع خلو يمين الإمام من مأموم آخر، ففي هذه الحال صلاة المأموم لا تصح - عند الحنابلة-.
الحال الثاني: أن يقف المأموم عن يسار الإمام مع وجود مأموم آخر على يمين الإمام، ففي هذه الحال صلاة المأموم الذي عن يسار الإمام صحيحة.
قال ابن قدامة: وأما إذا وقف عن يسار الإمام، فإن كان عن يمين الإمام أحد، صحت صلاته; لأن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، فلما فرغوا قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل رواه أبو داود، ولأن وسط الصف موقف للإمام في حق النساء والعراة، وإن لم يكن عن يمينه أحد فصلاة من وقف عن يساره فاسدة، سواء كان واحدا أو جماعة. (المغني).
والقول الثاني في المسألة: أن صلاة المأموم صحيحة في كلا الحالتين السابقتين.
قال ابن قدامة رحمه الله: " وأكثر أهل العلم يرون للمأموم الواحد أن يقف عن يمين الإمام، وأنه إن وقف عن يساره، خالف السنة. (المغني).
(وكذا قُدّامَه أو خلف الصف).
أي: ولا تصح أن يصف المأموم قدام الإمام، وكذا لا يصح أن يصلي خلف الصف لوحده.
المسألة الأولى: أن يصلي قدام الإمام.
اختلف العلماء في صحة صلاة المأموم أمام الإمام على أقوال:
القول الأول: لا تصح الصلاة أمام الإمام.
وهذا قول الحنفية، والحنابلة.
أ- لقوله تعالى (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
وجه الدلالة: أن المأموم إذا تقدم على الإمام فهو غير مؤتم به، لأنه يحتاج حينئذ إلى الالتفات وراءه حتى يتمكن من متابعة الإمام والاقتداء به.
ب- وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الِاقْتِدَاءِ إلَى الِالْتِفَاتِ إلَى وَرَائِهِ.
ج- وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا هُوَ فِي مَعْنى المنقول فلم يَصِح. (المغني).
القول الثاني: تصح مع الكراهة.
وهذا مذهب مالك.
ودليلهم: أن مخالفة الرتبة لا تفسد الصلاة كما لو صلى عن يسار الإمام.
القول الثالث: تصح مع العذر دون غيره.
وهذا اختيار ابن تيمية.
لأن ترك التقدم على الإمام غايته أن يكون واجباً من واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات تسقط بالعذر.
وأما دليل عدم صحتها بدون عذر هي نفس أدلة القول الأول.
وهذا الراجح.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هل تجزئ الصلاة قدام الإمام أو خلفه في المسجد وبينهما حائل أم لا؟
فأجاب: أما صلاة المأموم قدَّام الإمام: ففيها ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: أنها تصح مطلقاً، وإن قيل: إنها تكره.
وهذا القول هو المشهور من مذهب مالك، والقول القديم للشافعي.
والثاني: أنها لا تصح مطلقاً.
كمذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في المشهور من مذهبهما.
والثالث: أنها تصح مع العذر دون غيره، مثل ما إذا كان زحمة فلم يمكنه أن يصلي الجمعة أو الجنازة إلا قدام الإمام، فتكون صلاته قدام الإمام خيراً له من تركه للصلاة.
وهذا قول طائفة من العلماء، وهو قولٌ في مذهب أحمد وغيره.
وهو أعدل الأقوال وأرجحها؛ وذلك لأن ترك التقدم على الإمام غايته أن يكون واجبا من واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات كلها تسقط بالعذر
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يجوز تقدم المأموم على الإمام؟
فأجاب: الصحيح أن تقدم الإمام واجب، وأنه لا يجوز أن يتقدم المأموم على إمامه، لأن معنى كلمة "إمام" أن يكون إماماً، يعني يكون قدوة، ويكون مكانه قدام المأمومين، فلا يجوز أن يصلي المأموم قدام إمامه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قدام الصحابة رضي الله عنهم، وعلى هذا فالذين يصلون قدام الإمام ليس لهم صلاة، ويجب عليهم أن يعيدوا صلاتهم إلا أن بعض أهل العلم استثنى من ذلك ما دعت الضرورة إليه مثل أن يكون المسجد ضيقاً، وما حواليه لا يسع الناس فيصلي الناس عن اليمين واليسار والأمام والخلف لأجل الضرورة. (مجموع فتاوى ابن عثيمين).
المسألة الثانية: صلاة المنفرد خلف الصف.
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: لا تصح.
وهذا مذهب الإمام أحمد.
وبه قال إبراهيم النخعي، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق بن راهوية، وابن المنذر، وابن خزيمة.
أ-لحديث وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَد (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ اَلصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ اَلصَّلَاةَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد
وهذا حديث صحيح، صححه أحمد، والدارمي، والترمذي، وابن معين، وأبو حاتم، والبغوي وابن المنذر.
ب- ولحديث علي بن شيبان. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ اَلصَّفِّ) رواه أبو داود.
القول الثاني: تصح صلاته بعذر أو بغير عذر.
وهذا مذهب جماهير العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية.
أ-لحديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّهُ اِنْتَهَى إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى اَلصَّفِّ، فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَادَكَ اَللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ). رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ
وجه الدلالة: أن أبا بكرة أتى بجزء من الصلاة خلف الصف ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، مما يدل على صحة صلاته.
ب- ولحديث أنس (أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ «قُومُوا فَأُصَلِّىَ لَكُمْ». قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جوّز صلاة المرأة منفردة خلف الصف، فيقاس عليها الرجل.
ج- ولحديث ابن عباس (
…
فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ. فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ).
وجه الدلالة: أن ابن عباس صار خلف النبي صلى الله عليه وسلم في حال الإدارة، وذلك كحال المنفرد خلف الصف، ولم يأمره بالإعادة، فدل على صحة صلاة المنفرد خلف الصف.
والراجح القول الأول وأنها لا تصح.
•
ما الحكم لو وجد الصفوف مكتملة؟
الراجح أنه إذا جاء ووجد الصفوف مكتملة، فإنه يجوز أن يصلي وحده.
ويدل على صحتها في حالة العذر:
أ- قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا).
وجه الدلالة من الآيتين: أن من لم يجد فرجة في الصف، ولم يجد من يصف معه، فوقف وحده، فإنه معذور قد أتى بما في وسعه، فتصح صلاته لعدم التكليف بما ليس في الوسع والقدرة.
ب-أن واجبات الصلاة تسقط بالعجز.
ورجحه ابن تيمية، وقال: ونظير ذلك أن لا يجد الرجل موقفاً إلا خلف الصف، فهذا فيه نزاع، بين المبطلين لصلاة المنفرد، والأظهر صحة صلاته في هذا الموضع، لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز.
وقال ابن القيم: إن الرجل إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه، وتعذر عليه الدخول في الصف، ووقف فذاً صحت صلاته للحاجة، وهذا هو القياس المحض، فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها.
واختاره الشيخ السعدي، وقال: وهذا القول هو الموافق لأصول الشريعة وقواعدها.
واختاره الشيخ الألباني، وقال: إذا لم يستطع الرجل أن ينضم إلى الصف فصلى وحده، الأرجح الصحة، والأمر محمول على من لم يستطع القيام بواجب الانضمام.
واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وبهذا تبين أن القول الراجح وجوب المصافة، وأن من صلى وحده خلف الصف فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها؛ لتركه واجب المصافة، ولكن هذا الواجب كغيره من الواجبات يسقط بفوات محله، أو بالعجز عنه عجزاً شرعياً، أو عجزاً حسياً لقوله تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فيجب أن يكون في الصف حيث وجد مكاناً فيه، فإن لم يجد مكاناً سقط عنه هذا الواجب، وكذلك إن لم يكن له مكان شرعاً فإنه يسقط عنه الواجب.
•
ما هو الانفراد المبطل للصَّلاة؟
الانفرادُ المبطلُ للصَّلاةِ أنْ يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ ولم يدخل مع المسبوقِ أحدٌ، فإنْ دَخَلَ معه أحدٌ قبل أن يرفعَ الإِمامُ رأسَه مِن الرُّكوعِ، أو انفتح مكانٌ في الصَّفِّ فدخلَ فيه قبل أن يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ، فإنَّه في هذه الحالِ يزول عن الفرديَّة. (الشرح الممتع)
•
هل يشرع أن يسحب أحداً من الصف؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يشرع أن يجذب من الصف من يقوم معه.
وهو قول للشافعي، وصححه ابن قدامة.
أ-لحديث وَابِصَةَ (
…
أَلَا دَخَلْتَ مَعَهُمْ أَوْ اِجْتَرَرْتَ رَجُلاً؟) وهو حديث ضعيف.
ب- ولحديث مقاتل بن حيان. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن جاء فلم يجد أحداً فليختلج إليه رجلاً من الصف فليقم معه فما أعظم أجر المختلج) وهو حديث ضعيف لا يصح.
القول الثاني: أنه لا يشرع.
وبه قال أبو حنيفة ومالك، واختاره ابن تيمية، وذلك لأمور:
أولاً: أن الحديث ضعيف لا يصح.
ثانياً: ظلم للرجل المجذوب.
ثالثاً: قطع الصف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قطع صفاً قطعه الله).
رابعاً: التشويش على الصف.
وهذا القول هو الصحيح.
•
هل يشرع أن يقف عن يمين الإمام؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز أن يقف عن يمين الإمام.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، حين وجد في نفسه خفة، خرج وصلى بالناس إماماً وأبو بكر يمينه، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام، وأبو بكر يصلي بصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا ينبغي، لأمور:
أولاً: أنه يؤدي إلى تخطي الرقاب، وخاصة إذا كثرت الصفوف.
ثانياً: أن في ذلك خلاف للسنة في انفراد الإمام وحده، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
(والمرأة تقف بالخلف).
أي: أن وقوف المرأة مع الرجال يكون خلفهم.
فالمرأة إذا صلت مع الرجال فإن موقفها يكون خلفهم، سواء كانت لوحدها أو معها نساء، وسواء كانت مع رجل من محارمها أو لا، فموقفها خلف الرجال.
أ- لحديث أنس السابق (
…
وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا) متفق عليه.
ب- وعنه قال (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا) رواه مسلم.
ج- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خَيْرُ صُفُوفِ اَلرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ اَلنِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا) رَوَاهُ مُسْلِم.
قال ابن رشد: ولا خلاف في أن المرأة الواحدة تصلي خلف الإمام وأنها إذا كانت مع الرجل صلى الرجل إلى جانب الإمام والمرأة خلفه.
• وأما إذا وقفت في صف الرجال فتصح صلاتها وصلاة الرجل.
وعند الحنفية تفسد صلاة الرجل دون المرأة.
قال ابن لقيم: وهو عجيب، وفي توجيهه تعسف، حيث قال قائلهم: قال ابن مسعود: أخروهن من حيث أخرهن الله، والأمر للوجوب، فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل، لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها، قال: وحكاية هذا تغني عن جوابه.
• لو صلت المرأة مع جماعة النساء، فالصحيح أنها كالرجال مع جماعة الرجال، يعني لا يصح أن تقف خلف صف النساء منفردة، بل يجب عليها أن تكون في الصف، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.
• اختلف العلماء: هل صفوف النساء أفضلها آخرها مطلقاً سواء صلين مع الرجال أو لوحدهن، أو المراد إذا صلين مع الرجال على قولين:
القول الأول: أنهم إذا صلين منفردات عن الرجال فخير صفوفهن أولها.
وهذا اختاره النووي، والصنعاني.
وقالوا: أن المراد بالحديث إذا صلين مع الرجال.
قال النووي: وأما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال، وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها، وشرها آخرها.
القول الثاني: إن خير صفوف النساء آخرها مطلقاً، سواء صلين منفردات أو مع الرجال.
لعموم الحديث.
• لماذا فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال؟
إنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم، وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم.
فائدة:
قال النووي: إذا صلى الرجل وبجنبه امرأة لم تبطل صلاته ولا صلاتها سواء كان إماماً أو مأموماً، هذا مذهبنا وبه قال مالك والأكثرون.
(ويسن توسيط الإمام).
أي: أن السنة أن يقف الإمام مقابل وسط الصف، فيبدأ الصف من وراء الإمام مباشرة، ثم يتم الصف يميناً ويساراً، ولا بأس أن يكون اليمين أكثر من اليسار قليلاً.
روى أبو داود عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَسِّطُوا الإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ).
قال المناوي في فيض القدير: " أي: اجعلوه وسط الصف لينال كل أحد عن يمينه وشماله حظه من نحو سماع وقرب" انتهى.
غير أن هذا الحديث ضعيف، ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.
وقد وردت أحاديث أخرى صحيحة ظاهرها يدل على ما دل عليه هذا الحديث الضعيف من أن الإمام يقف مقابل وسط الصف.
روى البخاري ومسلم عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ مِنْ بَيْتِكَ؟ قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْن).
وروى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ. قَالَ أَنَسٌ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ.
وروى مسلم عن جابر أنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقُمْتُ عَنْ يَسَارِه، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْنَا جَمِيعًا فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ.
فظاهر قوله: (وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ) وقوله: (وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ) وقوله: (حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ) أنهم كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، أي كان النبي صلى الله عليه وسلم مقابل وسط الصف.
قال الشوكاني في (السيل الجرار): والاثنان فصاعداً خلفه في سَمْته. وأما اعتبار أن يكونا في سَمْته فهو معنى كونهما خلفه، وأنهما لو وقفا في جانبٍ خارجٍ عن سَمْته لم يكونا خلفه " انتهى.
وقال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ فِي مُقَابَلَةِ وَسَطِ الصَّفِّ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَسِّطُوا الإِمَامَ، وَسُدُّوا الْخَلَل).
وقال النووي: وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّفِّ الأَوَّلِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ; وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ يَمِينِ الإِمَامِ، وَسَدِّ الْفُرَجِ فِي الصُّفُوفِ، وَإِتْمَامِ الصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيه ثُمَّ الَّذِي يَلِيه إلَى آخِرِهَا، وَلا يشْرَعُ فِي صَفٍّ حَتَّى يَتِمَّ مَا قَبْلَهُ، وَعَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الاعْتِدَالُ فِي الصُّفُوفِ. فَإِذَا وَقَفُوا فِي الصَّفِّ لا يَتَقَدَّمُ بَعْضُهُمْ بِصَدْرِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَلا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَسِّطُوا الإِمَامَ ويكتنفوه مِنْ جَانِبَيْهِ " انتهى.
وجاء في " الموسوعة الفقهية: وَمِنْ أَدَبِ الصَّفِّ أَنْ تُسَدَّ الْفُرَجُ وَالْخَلَلُ، وَأَنْ لا يشْرَعَ فِي صَفٍّ حَتَّى يَتِمَّ الأَوَّلُ، وَأَنْ يُفْسَحَ لِمَنْ يُرِيدُ دُخُولَ الصَّفِّ إذَا كَانَتْ هُنَاكَ سِعَةٌ، وَيَقِفُ الإِمَامُ وَسَطَ الصَّفِّ وَالْمُصَلُّونَ خَلْفَه.
(وإمامة النساء تقفُ في صفهِنّ).
أي: إذا صلى النساء جماعة فإن إمامتَهن تقف في وسطهن.
أ- عن عائشة (أنها أمّت نساء في الفريضة في المغرب وقامت وسطهن).
ب- وعن أم الحسن بن أبي الحسن (أن أم سلمة كانت تؤمهن في رمضان وتقف معهن في الصف) رواه ابن أبي شيبة.
قال ابن قدامة: كذلك سنّ لإمامة النساء القيام وسطهن في كل حال، لأنهن عورات.
وقال رحمه الله: فَإِنَّهَا إذَا صَلَّتْ بِهِنَّ قَامَتْ فِي وَسَطِهِنَّ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ مَنْ رَأَى لَهَا أَنْ تَؤُمَّهُنَّ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّسَتُّرُ وَكَوْنُهَا فِي وَسَطِ الصَّفِّ أَسْتَرُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَسْتَتِرُ بِهِنَّ مِنْ جَانِبَيْهَا، فَاسْتُحِبَّ لَهَا ذَلِكَ كَالْعُرْيَانِ
وقال النووي: السنة أن تقف إمامة النساء وسطهن، لما روي أن عائشة وأم سلمة أمّتا نساءً فقامتا وسطهنّ. (المجموع)
(وكذلك إمام الرجال العراة يقومُ وسَطهُم).
أي: وكذلك لو وجد قوم عراة، فإن إمامهم يقف وسطهم.
قال النووي: فإن لم يكن فيهم مكتسٍ وأرادوا الجماعة، استحب أن يقف الإمام وسطهم ويكون المأمون صفا واحداً حتى لا ينظر بعضهم إلى عورة بعض، فإن لم يمكن إلا صفان صلوا وغضوا الأبصار.
(وإذا اجتمع رجال وصبيان ونساء، قُدّم الرجالُ، ثم الصبيان، ثم النساء).
أي: إذا اجتمع مع الإمام هذه الأصناف المذكورة، فالمشروع أن يكون خلفه الرجال، ثم يليهم الصبيان، ثم يليهم النساء.
أ-لحديث أبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَفَّ الرِّجَالَ وَصَفَّ خَلْفَهُمُ الْغِلْمَانَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ فَذَكَرَ صَلَاتَهُ
…
) رواه أبوداود، ولكنه حديث ضعيف.
• وأما إذا جاء الصبي وسبق إلى الصف الأول فإنه لا يؤخر على القول الراجح.
ورجحه الشيخ ابن باز وابن عثيمين.
قال ابن عثيمين: يرى بعض العلماء أن الأولى بالصبيان أن يصفوا وراء الرجال، ولكن هذا القول فيه نظر، والأصح أنهم إذا تقدموا لا يجوز تأخيرهم، فإذا سبقوا إلى الصف الأول أو إلى الصف الثاني فلا يقيمهم من جاء بعدهم، لأنهم سبقوا إلى حق لم يسبق إليه غيرهم فلم يجز تأخيرهم لعموم الأحاديث في ذلك، لأن في تأخيرهم تنفيراً لهم من الصلاة، ومن المسابقة إليها فلا يليق ذلك.
وقال رحمه الله: وهذا الذي ذكرنا في تقديم الرِّجالِ، ثم الصبيان، ثم النساء، إنَّما هو في ابتداءِ الأمرِ، أما إذا سَبَقَ المفضولُ إلى المكان الفاضلِ؛ بأنْ جاءَ الصَّبيُّ مبكِّراً وتقدَّمَ وصار في الصَّفِّ الأولِ، فإن القولَ الرَّاجحَ الذي اختاره بعضُ أهلِ العِلم ـ ومنهم جَدُّ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية، وهو مَجْدُ الدِّين عبد السلام ـ أنه لا يُقامُ المفضولُ مِن مكانِه.
أ- وذلك لقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (مَن سَبَقَ إلى ما لم يَسبقْهُ إليه مسلمٌ فهو له) وهذا العمومُ يشمَلُ كلَّ شيءٍ اجتمع استحقاقُ النَّاسِ فيه، فإنَّ مَن سَبَقَ إليه يكون أحقَّ به.
ب- ولأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال (لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مجلِسِه ثم يَجلسُ فيه).
ج- ولأنَّ هذا عدوان عليه.
د- ولأنَّ فيه مفسدةَ تنفيرِ هؤلاء الصبيان بالنسبة للمسجد.
هـ- وكذلك مِن مفاسده أنَّ هذا الصَّبيَّ إذا أخرجه شخصٌ بعينه فإنه لا يزال يَذكرُه بسوءٍ، وكلَّما تذكَّره بسوءٍ حَقَدَ عليه، لأنَّ الصَّغيرَ عادةً لا يَنسى ما فُعِلَ به. (الشرح للممتع).
(ومن لم يقفْ معهُ إلا كافر، أو امرأة، أو مُحدثٍ يعلمُه، أو صبيٍ في فرض ففذٌ).
هذه مسائل يحكم فيه للمصلي بأنه منفرد، وأن المصافة وجودها كعدمها.
(من لم يقف معه إلا كافر).
أي: من لم يقف معه في الصف إلا كافر، فحكمه حكم الفذ.
لأنه ليس من أهل الوقوف معه، ولأن وجود الكافر كعدمه.
قال في الإنصاف: أما إذا لم يقف معه إلا كافر فإنه يكون فذاً بلا خلاف أعلمه.
• لكن لو جهل أن من صافه كافر (لا يعلم بكفره) فصلاته صحيحة.
(أو امرأة).
أي: ومن لم يقف معه في الصف إلا امرأة، فحكمه حكم الفذ.
أ- لأنها لا تؤمه فلا تكون معه صفاً.
ب-ولأنها من غير أهل الوقوف معه فوجودها كعدمها.
وقيل: لا يكون فذاً.
وهو قول المالكية، والشافعية.
لأنه وقف معه مفترض صلاته صحيحة، فأشبه الرجل، وليس بشرط ممن تصح إمامته، بدليل القارئ مع الأمي، والفاسق مع العدل.
…
(أحكام الإمامة والائتمام).
والراجح الأول.
(أو مُحدثٍ يعلمُه).
أي: ومن لم يقف معه إلا محدث يعلم حدثه، فهو فذ.
لأن وجوده وعدمه سواء.
ومفهوم قوله (يعلمه) أنه إن لم يعلمه صحت مصافته، ولا يكون فذاً.
قال ابن عثيمن:
…
لكن لو عَلِمَ أن صاحبَه مُحدثٌ فهو فَذٌّ؛ لأنه يعتقدُ أنَّه صَلَّى مع شخصٍ لا تصِحُّ صلاتُه.
فإنْ جَهِلَ هو وصاحبُه حتى انقضتِ الصَّلاةُ، فصلاةُ الواقفِ مع المحدثِ صحيحةٌ؛ لأنَّه لم يعلمْ واحدٌ منهما بالحَدَثِ. (الشرح الممتع)
(أو صبيٍ في فرض ففذٌ).
أي: ومن لم يقف معه إلا صبي في صلاة الفرض فحكمه حكم الفذ.
والمراد بالصبي هنا: من لم يبلغ.
لأن الصبي لا تصح مصافته في الفرض.
وهذا المذهب.
أ-قالوا: لأن الصبي لا تصح إمامته فلا تصح مصافته.
ب- وقالوا: يخشى أن لا يكون متطهراً فيصير البالغ فذاً.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه تصح مصافته.
وهذا مذهب المالكية، والحنفية، والشافعية واختاره من الحنابلة ابن عقيل وصوبه البعلي وقال ابن مفلح وهو أظهر.
أ-لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ
…
فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ).
وجه الدلالة: أن اليتيم - وهو الذي مات أبوه ولم يبلغ - صف مع أنس خلف النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة: أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل يفرق، ولا دليل.
ب- ولحديث عمرو بن سلِمة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه (فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ، أَوْ سَبْعِ سِنِينَ).
وجه الدلالة: أن الحديث دل على جواز إمامة الصبي، فإذا جازت إمامته جازت مصافته من باب أولى.
ج- علل ابن قدامة بقوله: أن الصبي بمنزلة المتنفل، والمتنفل يصح أن يصاف المفترض كذا ها هنا.
وهذا القول هو الصحيح.
• وأما مصافة الصبي في النفل فصحيحة عند جماهير العلماء.
لقول أنس (
…
وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ).
• أما الجواب عن تعليل أصحاب القول الأول في قولهم: إن الصبي لا تصح إمامته، فهذا غير صحيح، لأن السنة وردت بخلافه، وأن الصبي تصح إمامته كما تقدم.
(ومن وجدَ فرجةً دخلها).
أي: وجوباً إن لم يكن معه أحد يصف معه.
فصل
(يصحّ اقتداءُ المأمومِ بالإمامِ في المسجد، وإن لم يرَه ولا مَن وراءه إذا سمع التكبير).
هذا في حكم اقتداء المأموم بالإمام إذا كان المأموم داخل المسجد:
إذا اقتدى المأموم بالإمام وهو في المسجد صح الاقتداء به ولو كان بينهما حائل.
كأن صلى الإمام في المصابيح وصلى المأموم في ساحة المسجد أو في سطح المسجد، لكن إذا كانت الصفوف متصلة فالصلاة صحيحة ولا كراهة في ذلك، وإذا كانت الصفوف غير متصلة فالصلاة صحيحة مع الكراهة لأنه خالف السنة، لأن السنة هو إتمام الصف الأول فالأول مع التراص.
كما روى جابر بن سمُرَة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقلنا يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها، قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف) رواه مسلم.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر). رواه أبو داود
(وكذا خارجَه إن رأى الإمام أو المأمومين).
أي: ويصح اقتداء المأموم بالإمام إذا كان خارج المسجد بشرط أن يرى الإمام أو المأمومين.
وهذه المسألة وهي اقتداء المأموم بالإمام إذا كان المأموم خارج المسجد: لها حالتان:
الأولى: إذا كانت الصفوف متصلة خارج المسجد مع داخله فلا خلاف بين أهل العلم في صحة صلاة من كان خارج المسجد.
قال ابن تيمية: وأما صلاة المأموم خلف الإمام خارج المسجد أو في المسجد وبينهما حائل، فإن كانت الصفوف متصلة جاز باتفاق الأئمة.
الثانية: إذا كانت الصفوف غير متصلة، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أنه يشترط أن يرى الإمام أو بعض المأمومين ولو في بعض الصلاة وأمكن الاقتداء ولا يمنع الفاصل من طريق أو نهر.
القول الثاني: أنه يكفي سماع صوت الإمام أو من وراءه أو رؤية الإمام أو من وراءه ولا يمنع ذلك الفاصل من طريق أو نهر.
وبه قال مالك، واختار هذا القول ابن قدامة، والسعدي.
وعللوا ذلك بتعليلين:
التعليل الأول: أن المأموم إن أمكنه الاقتداء بالإمام فيصح اقتداؤه به من غير مشاهدة كالأعمى.
التعليل الثاني: أن المشاهدة تراد للعلم بحال الإمام، والعلم يحصل بسماع التكبير فجرى مجرى الرؤية.
قال السعدي: الصحيح أن المأموم إذا أمكنه الاقتداء بإمامه بالرؤية أو سماع الصوت أنه يصح اقتداؤه به، سواء كان في المسجد أو خارج المسجد، وسواء حال بينهما نهر أو طريق أم لا، لأنه لا دليل على المنع ولا على التفريق، وإن قدّرنا أن الطريق لا تصح فيه الصلاة فلا يضر حيلولته بينه وبين إمامه إذا كان الموضع الذي يصلي الإمام لا مانع منه، والذي يصلي فيه المأموم كذلك.
القول الثالث: أنه يشترط أن يرى الإمام أو من وراءه في بعضها وأمكن الاقتداء ولا يكون هناك فاصل من نهر.
وهذا القول هو المشهور عند الحنابلة.
واستدلوا بحديث عائشة قالت (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ لَيْلَةَ الثَّانِيَةِ، فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْل) متفق عليه.
وجه الاستدلال: أن بعض الصحابة كانوا في المسجد فاقتدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يرونه إلا في حال القيام، فدل على أنه لا يشترط أن يرى الإمام في جميع الصلاة بل يكفي في بعضها.
وعللوا: بأن الطريق والنهر ليسا محلاً للصلاة فأشبه ما يمنع الاتصال. (أحكام الإمامة والإئتمام).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع:
قوله - أي صاحب الزاد - (وكذا خارجه إن رأى الإِمام أو المأمومين) أي: وكذا يصحُّ اقتداءُ المأمومِ بالإِمامِ إذا كان خارجَ المسجدِ بشرطِ أنْ يَرى الإِمامَ أو المأمومين.
وظاهرُ كلام المؤلِّفِ رحمه الله: أنَّه لا يُشترط اتِّصالُ الصُّفوفِ، فلو فُرِضَ أنَّ شخصاً جاراً للمسجد، ويرى الإِمامَ أو المأمومين مِن شُبَّاكه، وصَلَّى في بيتِه، ومعه أحدٌ يزيل فَذِّيَّتَه فإنه يَصِحُّ اقتداؤه بهذا الإِمامِ؛ لأنه يسمعُ التكبيرَ ويرى الإِمامَ أو المأمومين.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا بُدَّ أن يرى الإِمامَ أو المأمومين في جميع الصَّلاةِ؛ لئلا يفوته الاقتداءُ، والمذهبُ يكفي أنْ يراهم ولو في بعضِ الصَّلاةِ.
•
إذاً، إذا كان خارجَ المسجدِ فيُشترطُ لذلك شرطان:
الشرطُ الأول: سماعُ التكبيرِ.
الشرطُ الثاني: رؤيةُ الإِمامِ أو المأمومين، إما في كُلِّ الصَّلاةِ على ظاهرِ كلامِ المؤلِّفِ، أو في بعضِ الصَّلاةِ على المذهبِ.
وظاهرُ كلامِهِ: أنَّه لا يُشترط اتِّصال الصُّفوفِ فيما إذا كان المأمومُ خارجَ المسجدِ وهو المذهب.
والقول الثاني: وهو الذي مشى عليه صاحبُ «المقنع» : أنَّه لا بُدَّ مِن اتِّصالِ الصُّفوفِ، وأنَّه لا يَصِحُّ اقتداءُ مَن كان خارجَ المسجدِ إلا إذا كانت الصُّفوفُ متَّصلةً؛ لأنَّ الواجبَ في الجماعةِ أن تكون مجتمعةً في الأفعالِ ـ وهي متابعة المأمومِ للإِمام والمكان. وإلا لقلنا: يَصِحُّ أن يكون إمامٌ ومأمومٌ واحد في المسجد، ومأمومان في حجرة بينها وبين المسجد مسافة، ومأمومان آخران في حجرة بينه وبين المسجدِ مسافة، ومأمومان آخران بينهما وبين المسجد مسافة في حجرة ثالثة، ولا شَكَّ أنَّ هذا توزيعٌ للجماعةِ، ولا سيَّما على قولِ مَن يقول: إنَّه يجب أن تُصلَّى الجماعةُ في المساجد.
فالصَّوابُ في هذه المسألة: أنَّه لا بُدَّ في اقتداءِ مَن كان خارجَ المسجدِ مِن اتِّصالِ الصُّفوفِ، فإنْ لم تكن متَّصِلة فإنَّ الصَّلاة لا تَصِحُّ.
مثال ذلك: يوجد حولَ الحَرَمِ عَماراتٌ، فيها شُقق يُصلِّي فيها الناسُ، وهم يَرَون الإِمامَ أو المأمومين، إما في الصَّلاةِ كلِّها؛ أو في بعضِها، فعلى كلامِ المؤلِّفِ تكون الصَّلاةُ صحيحةً، ونقول لهم: إذا سمعتم الإِقامة فلكم أنْ تبقوا في مكانِكم وتصلُّوا مع الإِمام ولا تأتوا إلى المسجدِ الحرام.
وعلى القول الثاني: لا تَصِحُّ الصَّلاةُ؛ لأنَّ الصفوفَ غيرُ متَّصلةٍ. وهذا القولُ هو الصَّحيحُ، وبه يندفع ما أفتى به بعضُ المعاصرين مِن أنَّه يجوز الاقتداءُ بالإِمامِ خلفَ المذياع.
(وتصح خلفَ إمامٍ عالٍ عنهم ويُكرهُ إذا كان العلو ذراعاً فأكثر).
أي: تصح صلاة يكون فيها الإمام أعلى من المأمومين، ويكره أن يكون علوه أكثر من ذراع.
لحديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم) رواه أبو داود.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يكره علو الإمام على المأمومين إلا لحاجة.
وبه قال الشافعي.
لحديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم) رواه أبو داود.
ويجوز للتعليم.
لحديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَامَ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ. ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاتِهِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلاتِي -وَفِي لَفْظٍ- صَلَّى عَلَيْهَا. ثُمَّ كَبَّرَ عَلَيْهَا. ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا، فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى) متفق عليه.
وذهب بعضهم: إلى أنه يكره مطلقاً.
واستدلوا بحديث حذيفة السابق.
وعللوا ذلك بأن المأموم يحتاج أن يقتدي بإمامه، فينظر ركوعه وسجوده، فإذا كان أعلى منه احتاج أن يرفع بصره إليه ليشاهده، وذلك منهي عنه في الصلاة.
قال ابن قدامة: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُومِينَ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَعْلِيمَهُمْ الصَّلَاةَ أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ: سَأَلَنِي أَحْمَدُ عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ.
فَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنْ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْتَارُ لِلْإِمَامِ الَّذِي يُعَلِّمُ مَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الشَّيْءِ الْمُرْتَفِعِ، فَيَرَاهُ مَنْ خَلْفَهُ، فَيَقْتَدُونَ بِهِ.
لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، قَال (لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَيْهِ -يَعْنِي الْمِنْبَرَ- فَكَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَنَا، ثم ذكر حديث (إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ، فَلَا يَقُومَنَّ فِي مَكَان أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ).
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا تَقَدَّمَ يَؤُمُّ بِقَوْمٍ عَلَى مَكَان، فَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ، فَنَهَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ لِلْإِمَامِ: اسْتَوِ مَعَ أَصْحَابِك.
وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِإِمَامِهِ، فَيَنْظُرَ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ، فَإِذَا كَانَ أَعْلَى مِنْهُ احْتَاجَ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلَيْهِ لِيُشَاهِدَهُ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى الدَّرَجَةِ السُّفْلَى، لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى عَمَلٍ كَبِيرٍ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ، فَيَكُونَ ارْتِفَاعًا يَسِيرًا، فَلَا بَأْسَ بِهِ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا وَنَهَى عَنْهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ لَهُ وَنَهْيُهُ لِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ مِثْلُهُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنَّ سُجُودَهُ وَجُلُوسَهُ إنَّمَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ. (المغني).
(وَتَطَوُّعُهُ مَوْضِعَ المَكْتُوبَةِ إِلاَّ مِنْ حَاجَة).
أي: ويكره تطوع الإمام في الموضع الذي صلى فيه المكتوبة.
وهذا قول الحنفية، والحنابلة.
أ- لما رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (لا يُصَلِّ الإِمامُ في مُقَامِهِ الذي صَلَّى فيه المكتوبةَ، حتى يَتَنَحَّى عنه) ولكنه ضعيف لانقطاعه.
ووجه الدلالة: هذا الحديث نص في المسألة بأن الإمام لا يتنفل في مكانه.
ب- ولأن في تحويله من مكانه إعلاماً لمن أتى المسجد أنه صلى فلا ينتظره، ويطلب جماعة أخرى.
ج- ولأنه إذا تنفّل مكانه ظن الداخل أنه في الفرض.
د- ربما إذا تطوَّعَ في موضع المكتوبة يَظنُّ مَن شاهدَه أنَّه تذكَّرَ نقصاً في صلاته؛ فيلبس على المأمومين. فلهذا يُقال له: لا تتطوّع في موضع المكتوبة، ولا سيَّما إذا باشر الفريضة، بمعنى أنَّه تطوَّع عقب الفريضة فوراً.
…
وقوله (إلا من حاجة) مثال الحاجة هنا: أن يريدَ الإِمامُ أن يتطوَّعَ لكن وَجَدَ الصُّفوفَ كلَّها تامَّةً ليس فيها مكان ولا يتيسَّر أن يصلِّي في بيتِه أو في مكانٍ آخر، فحينئذٍ يكون محتاجاً إلى أن يتطوَّع في موضع المكتوبة.
(وَإِطَالَةِ قُعُودِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ)
أي: يُكره للإِمام أنْ يُطيلَ قعودَه بعد السَّلام مستقبلَ القِبْلة، بل يخفِّف، ويجلسَ بقَدْرِ ما يقول: «أستغفرُ الله ـ ثلاث مرات ـ اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ ومنك السَّلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرام) ثم ينصرفُ: هذه هي السُّنَّة.
عن عائشة قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: استغفر الله ثلاثاً، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) رواه مسلم.
(فَإِنْ كَانَ ثَمَّ نِسَاءٌ لَبِثَ قَلِيلاً لِيَنْصَرِفْنَ).
أي: فإن كان في المسجد نساء لبث قليلاً مستقبل القبلة لكي ينصرفن قبل الرجال.
عنْ أُمِّ سَلَمَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ) قَالَ نَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ. رواه البخاري
فائدة: قولها (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ
…
) وفي لفظ (كَانَ يُسَلِّمُ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فيه دليل على أنه إذا سلم الإمام جاز للمأموم الانصراف سواء التفت الإمام إلى المأمومين أو بقي مكانه، أو قام من موضعه، والأولى للمأموم أن يبقى حتى يلتفت الإمام ويستقبل المأمومين، لاحتمال أن يكون الإمام جالساً ليسجد سجدتي السهو بعد التسليم من الصلاة، والأفضل من هذا: أن يكون قيامه بعد قيام الإمام.
ويدل على جواز الانصراف بمجرد السلام:
حديث أُمِّ سَلَمَة السابق. قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ
…
).
وأما ما رواه مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ:(أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي إِمَامُكُمْ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي).
فالمراد بالانصراف هنا: السلام.
قال النووي رحمه الله: " قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ) فِيهِ تَحْرِيم هَذِهِ الْأُمُور وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَالْمُرَاد بِالِانْصِرَافِ: السَّلَام " انتهى.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في "الأم"(1/ 151): " وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وأن يؤخر ذلك حتى ينصرف بعد انصراف الإمام، أو معه أحب إلي له " انتهى.
وقال ابن قدامة: ويستحب للمأمومين أن لا يثبوا قبل الإمام، لئلا يذكر سهواً فيسجد.
(وَيُكْرَهُ وُقُوفُهُمْ بَيْنَ السَّوَارِي إِذَا قَطَعْنَ الصُّفُوف).
أي: يكره وقوف المأمومين بين السواري (وهي الأعمدة) إذا كان ذلك يؤدي إلى قطع الصفوف.
وقد ورد النهي عن الصف بين سواري المسجد (وهي الأعمدة)؛ لأنها تقطع الصفوف.
أ-فقد روى ابن ماجة عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا).
ب- وروى الترمذي عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ قَالَ: صَلَّيْنَا خَلْفَ أَمِيرٍ مِنْ الْأُمَرَاءِ، فَاضْطَرَّنَا النَّاسُ فَصَلَّيْنَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: (كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قدامة: ولا يكره للإمام أن يقف بين السواري، ويكره للمأمومين؛ لأنها تقطع صفوفهم.
وقال ابن مفلح: وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ الْوُقُوفُ بَيْنَ السَّوَارِي، قَالَ أَحْمَدُ: لِأَنَّهَا تَقْطَعُ الصَّفّ.
إلا إذا كانت هناك حاجة للصف بين السواري، لكثرة المصلين، وضيق المسجد، فلا كراهة حينئذ.
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
"يكره الوقوف بين السواري إذا قطعن الصفوف، إلا في حالة ضيق المسجد وكثرة المصلين" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين: الصف بين السواري جائز إذا ضاق المسجد، حكاه بعض العلماء إجماعاً، وأما عند السعة ففيه خلاف، والصحيح: أنه منهي عنه؛ لأنه يؤدي إلى انقطاع الصف، لا سيما مع عرض السارية" انتهى.
• والعلة من النهي:
قيل: لأنها تقطع الصفوف.
وقيل: لأنها موضع النعال.
وقال القرطبي: روي في سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين.
والأول أولى.
• قوله (ويكره وقوفهم
…
) أما الإمام والمنفرد فيجوز.
ودليل ذلك حديث ابن عمر أنه سأل بلالاً رضي الله عنه أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فقال (بين العمودين المقدمين) أي: بين ساريتين.
قال الشوكاني: وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة بين ساريتين.
وقال البهوتي: ولا يكره للإمام أن يقف بين السواري لأنه ليس ثمَّ صف يُقطع.
• اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ تَقْطَعْ الْأُسْطُوَانَةُ الصَّفَّ، فَلَا كَرَاهَةَ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلك.
قال البيهقي: فإن كان منفرداً أو لم يجاوزوا ما بين الساريتين لم يكره -إن شاء الله تعالى لما روينا في الحديث الثابت عن بن عمر قال سألت بلالاً أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في الكعبة فقال بين العمودين المقدمين.
وقال ابن قدامة: فإن كان الصف صغيراً قدر ما بين الساريتين لم يكره لأنَّه لا ينقطع بها.
وجاء في شرح طرح التثريب: " فَأَمَّا مَنْ صَلَّى بَيْنَهَا مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ وَكَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْوَاقِفُ بَيْنَهَا أَوْ الْمَأْمُومِينَ وَلَمْ يَكْثُرُوا بِحَيْثُ تَحُولُ الْأُسْطُوَانَةُ بَيْنَهُمْ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَهُ" اهـ
وقال البهوتي في "الروض": " فإن كان الصف صغيراً قدر ما بين الساريتين فلا بأس.
قال الإمام الألباني رحمه الله: " لو كان هناك جماعة محدود عددهم ووقفوا بين الساريتين بحيث أنه لا يغلب على الظن أن الصف سيتصل إلى ما بعد الساريتين يميناً ويساراً فلا مانع، لأنَّ العلَّة واضحة وهي أن لا يتعرَّض الصف للتقطُّع.
فصل
هذا الفصل خاص بالأعذار التي تسقط الجمعة والجماعة.
(وَيُعْذَرُ بِتَرْكِ جُمُعَةِ وَجَمَاعَةٍ مَرِيضٌ).
أي: أن من كان مريضاً فإنه يجوز له التخلف عن صلاة الجماعة في المسجد.
قال في الإنصاف: بلا نزاع.
وقال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً بين أهل العلم أن للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض.
أ-لقول الله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم).
ب-ولقوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).
ج-ولقوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَج).
د-ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.
هـ- وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم (لما مَرِضَ تخلَّف عن الجماعةِ) مع أن بيته كان إلى جَنْبِ المسجد.
و- وقولُ ابن مسعود (لقد رَأيتُنا وما يتخلَّفُ عن الصَّلاةِ إلا منافقٌ قد عُلِمَ نفاقُهُ أو مريض) رواه مسلم.
ز- وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ. قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ. لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
المقصود بالمرض الذي يشق معه الحضور، بخلاف المرض الخفيف كصداع في الرأس يسير ونحوه.
وكذا لو خاف زيادته، أو تأخر البرء.
(وَمُدَافِع أَحَدَ الأَخْبَثَيْنِ).
أي: ومن الأعذار من يدافع البول أو الغائط أو أحدهما.
لأن ذلك يمنعه من إكمال الصلاة وخشوعها.
قال ابن قدامة: إذَا كَانَ حَاقِنًا كُرِهَتْ لَهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، سَوَاءٌ خَافَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَمْ يَخَفْ.
عن عائشة. قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا صلاةَ بحضرة طعام، وهو يدافعه الأخبثان) رواه مسلم.
(وَمَنْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ).
أي: ومن الأعذار حضور طعام يشتهيه.
لحديث عائشة السابق.
وقد تقدمت المسألة وما يتعلق بها.
(وَخَائِف مِنْ ضَيَاع مَالِهِ).
أي: ومن الأعذار التي تسقط الجماعة، أن يكون خائفاً على ماله من لصٍ أن يسرقه.
(أَوْ فَوَاتِهِ)
أي: كمن له ضالة أو آبق قد دُلّ عليه بمكان، وخاف إن لم يمض إليه سريعاً أن ينتقل إلى غيره.
(أَوْ ضَرَرٍ فِيهِ).
كإنسان وضع الخبز بالتنور، فأقيمت الصلاة، فإن ذهب يصلي احترق الخبز، فله أن يدع صلاة الجماعة.
(أَوْ مَوْتِ قَرِيبِهِ)
كأن يخاف موت قريبه في غيبته عنه.
(أَوْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ضَرَرٍ).
أي: خاف على نفسه من سبُع ككلب عقور ونحوه، أو من سلطان يأخذه ظلماً.
قال ابن قدامة: وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا الْخَائِفُ.
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (الْعُذْرُ خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ).
وَالْخَوْفُ، ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ خَوْفٌ عَلَى النَّفْسِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْمَالِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْأَهْلِ.
فَالْأَوَّلُ، أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سُلْطَانًا، يَأْخُذُهُ أَوْ عَدُوًّا، أَوْ لِصًّا، أَوْ سَبُعًا، أَوْ دَابَّةً، أَوْ سَيْلًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يُؤْذِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ.
(أَوْ مُلَازَمَةِ غَرِيمٍ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ).
كأن يكون له غريم يطالبه ويلازمه، وليس عنده مال.
قال ابن قدامة: أَنْ يَخَافَ غَرِيمًا لَهُ يُلَازِمُهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ يُوفِيهِ، فَإِنْ حَبَسَهُ بِدَيْنٍ هُوَ مُعْسِرٌ بِهِ ظُلْمٌ لَهُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَهُ، لِأَنَّهُ يَجِبُ إيفَاؤُهُ.
(أَوْ مِنْ فَوَاتِ رُفْقَةٍ).
وهذا عُذْرٌ لوجهين:
الوجه الأول: أنه يفوت مقصده من الرفقة إذا انتظر الصَّلاةَ مع الجماعةِ أو الجُمعةِ.
الوجه الثاني: أنه ينشغلُ قلبُه كثيراً، إذا سَمِعَ رفقته يتهيَّأون للسير وهو يُصلِّي فإنه يقلَقُ كثيراً، فإذا خِفْتَ فواتَ الرُّفقةِ فإنك معذورٌ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة، ولا فَرْقَ بين أن يكون السَّفرُ سفرَ طاعةٍ أو سفراً مباحاً، وسفر الطاعة كالسفر لعُمرةٍ أو حَجٍّ أو طلب عِلمٍ، والمباح كالسَّفر للتجارة ونحوها.
…
(الشرح الممتع).
(أَوْ غَلَبَةِ نُعَاسٍ).
أي: ومن الأعذار في ترك الجماعة غلبة النوم.
أ - عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، أنَّ معاذَ بنَ جبل رضي الله عنه، كان يُصلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومَه فيُصلِّي بهم الصَّلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوَّز رجلٌ فصلَّى صلاةً خفيفة، فبلَغَ ذلك معاذًا، فقال: إنَّه منافقٌ، فبَلغ ذلك الرجُلَ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إنَّا قومٌ نعمل بأيدينا، ونَسقي بنواضِحنا، وإنَّ معاذًا صلَّى بنا البارحةَ، فقرأ البقرةَ، فتجوَّزتُ، فزعَم أنِّي منافِقٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذُ، أَفتَّانٌ أنت- ثلاثًا! اقرأ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، ونحوها) متفق عليه.
ب - وَجْهُ الدَّلالَة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عذَرَ الرجلَ الذي قطع صلاتَه مع معاذ، ولم يُنكِرْ عليه؛ وذلك لأنَّ معاذًا كان يُطيلُ صلاة العِشاء، وهم في حاجةٍ إلى النومِ والراحةِ للعمل صباحاً.
ت - ب- عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (إذا نَعَسَ أحدُكم وهو يُصلِّي فلْيرقُدْ، حتى يذهبَ عنه النومُ، فإنَّ أحدَكم إذا صلَّى وهو ناعِسٌ، لا يَدري لعلَّه يَستغفِرُ فيسُبَّ نفسَه) رواه مسلم.
ث - ج- أنَّه إنِ انتظرَ صلاةَ الجماعةِ وقد غَلَبه النعاسُ والنومُ، فقدْ يُباغِتُه النومُ، فتفوته صلاةُ الجماعةِ، والصَّلاةُ في وقتِها.
(أَوْ أَذًى بِمَطَرٍ، أَوْ وَحَلٍ).
كأن يكون المطر كثيراً يتأذى منه.
والوحل: الطين الرقيق.
قال ابن قدامة: وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِهِمَا بِالْمَطَرِ الَّذِي يَبُلُّ الثِّيَابَ، وَالْوَحْلِ الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ فِي نَفْسِهِ وَثِيَابِهِ
أ- عن نَافِع قَالَ (أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ ثُمَّ قَالَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ، أَوِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَر) رواه البخاري.
ب- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إِذَا قُلْتَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ - قَالَ - فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ فَقَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ) رواه البخاري.
ج- عن عِتْبَان بْن مَالِك (أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي فَإِذَا كَانَتِ الأَمْطَارُ سَالَ
الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ بِهِمْ وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّيَ فِي بَيْتِي فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) متفق عليه.
قوله (فإذا كانتِ الأمطاُر سال الوادي الذي بيني وبينَهم، لم أَسْتَطَعْ أن آتي مسجدَهم لأُصَلِّيَ لهم) فيه أنَّ المطر عُذْرٌ في التخلُّف عن الجماعة.
(وَبِرِيْحٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ).
أي: ومن الأعذار في ترك الجماعة: وجود الريح، ويشترط فيها:
أن تكون باردة: لأن الريح الساخنة ليس فيها أذى ولا مشقة.
وأن تكون شديدة: لأن الريح الخفيفة لا مشقة فيها ولا أذى.
وأن تكون في ليلة مظلمة: وهذا الشرط ليس عليه دليل.
عَنْ نَافِعٍ (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَالَ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ. ثُمَّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) رواه البخاري.
وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ أَوْ اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ) رواه ابن ماجه.
قال ابن قدامة: وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْبَارِدَة.
(ويكره حضور المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً).
أ- ابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ -فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ-:(مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -يَعْنِي الثُّومَ- فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) متفق عليه.
ب- وعن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يُرِيدُ الثُّومَ - فَلَا يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا. قُلْتُ: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ يَعْنِي إِلاَّ نِيئَهُ) متفق عليه.
ج- وعنه. أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَكَلَ ثُومًا، أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ قَالَ - فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ فَقَالَ قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي).
د- وعن أنس. أن نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال فِي الثُّومِ (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبْنَا، أَوْ لَا يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا) رواه البخاري.
ه- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا وَلَا يُؤْذِيَنَّا بِرِيحِ الثُّوم) رواه مسلم.
و- وعَنْ جَابِرٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ. فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ فَأَكَلْنَا مِنْهَا فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإِنْسُ) رواه مسلم.
ز- وعن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: (إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لا أَرَاهُمَا إِلا خَبِيثَتَيْنِ: هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنْ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا). رواه مسلم
• ففي هذه الأحاديث النهي عن إتيان المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً.
•
وهل هذا النهي للتحريم أو للكراهة؟
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن هذا النهي للكراهة التنزيهية صوناً للمسجد عما يستقذر ودرءاً لإيذاء المصلين وكذلك الملائكة، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن النهي للتحريم.
وهذا هو القول الراجح.
ويدل عليه ما راه مسلم في صحيحه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها من الرجل في المسجد أمر به
فأخرج إلى البقيع).
هذا فضلاً عن ظاهر نهيه صلى الله عليه وسلم إذ الأصل فيه المنع والتحريم، وممن أفتى بذلك من المعاصرين الشيخ ابن باز رحمه الله.
وعلى ذلك فلا يجوز لمن أكلهما أو أحدهما أو ما شابههما مما له رائحة مؤذية وكريهة أن يدخل المساجد.
قال الشيخ ابن باز: من يأكل الثوم أو البصل أو الكراث لا يجوز له الذهاب إلى المسجد؛ لأنه يؤذي الناس بذلك والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته)، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج من تعاطى هذه الأمور عن المسجد، وقال (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، فلا يجوز للمسلم أن يتعاطى الكراث أو الثوم أو البصل أن يصلي مع المسلمين لأنه يؤذيهم بذلك.
• ذهب بعض العلماء إلى أن النهي خاص بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم (مسجدنا) لكن الصحيح أنه عام في كل مسجد.
ويؤيده رواية أحمد (فلا يقربن المساجد).
قال النووي: قوله (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَة يَعْنِي الثَّوْم فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسَاجِد) هَذَا تَصْرِيح يَنْهَى مَنْ أَكَلَ الثَّوْم وَنَحْوه عَنْ دُخُول كُلّ مَسْجِد، وَهَذَا مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء: أَنَّ النَّهْي خَاصّ فِي مَسْجِد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْض رِوَايَات مُسْلِم: (فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدنَا) وَحُجَّة الْجُمْهُور: (فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسَاجِد).
وقال ابن دقيق العيد: قوله (مسجدنا) تعلق به بعضهم في أن هذا النهي مخصوص بمسجد الرسول، وربما يتأكد ذلك بأنه كان مهبط الملك بالوحي والصحيح المشهور خلاف ذلك، وأنه عام لما جاء في بعض الروايات مساجدنا) ويكون مسجدنا للجنس أو لضرب المثال، فإن هذا النهي معلل: إما بتأذي الآدميين أو بتأذي الملائكة الحاضرين، وذلك يوجد في المساجد كلها.
• قوله لبعض أصحابه (كل فإني أناجي من لا تناجي) المراد الملائكة.
وقد جاء عند ابن خزيمة وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أستحي من ملائكة الله وليس بمحرم).
وفي رواية (فإني لست كأحد منكم، إني أخاف أن أوذي صاحبي).
• أن العلة في النهي عن إتيان المسجد لمن أكل من هذه الأشياء، الرائحة الكريهة التي تصدر عنها، فإن فيها إيذاء للمصلين والملائكة تتأذى مما يتأذى منه المصلون، كما في الرواية الأخرى.
كما في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ -وَقَالَ مَرَّةً مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ- فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ).
قال ال
نووي:
قَالَ الْعُلَمَاء: وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى مَنْع آكِل الثَّوْم وَنَحْوه مِنْ دُخُول الْمَسْجِد - وَإِنْ كَانَ خَالِيًا - لِأَنَّهُ مَحَلّ الْمَلَائِكَة، وَلِعُمُومِ الْأَحَادِيث.
• قَوْله صلى الله عليه وسلم (أَيّهَا النَّاس إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيم مَا أَحَلَّ اللَّه لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَة أَكْرَهُ رِيحهَا).
قال النووي: فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الثَّوْم لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَهُوَ إِجْمَاع مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي الثَّوْم هَلْ كَانَ حَرَامًا عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ أَمْ كَانَ يَتْرُكهُ تَنَزُّهًا. وَظَاهِر هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ يَقُول: الْمُرَاد لَيْسَ لِي أَنْ أُحَرِّم عَلَى أُمَّتِي مَا أَحَلَّ اللَّه لَهَا. (نووي).
لقوله صلى الله عليه وسلم (من أكل ثوماً أو بصلاً
…
).
ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (
…
وليس بمحرم
…
).
ولقوله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه (كل فإني أناجي من لا تناجي).
• قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَة الْخَبِيثَة) سَمَّاهَا خَبِيثَة لِقُبْحِ رَائِحَتهَا. قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْخَبِيث فِي كَلَام الْعَرَب الْمَكْرُوه مِنْ قَوْل أَوْ فِعْل أَوْ مَال أَوْ طَعَام أَوْ شَرَاب أَوْ شَخْص.
• يلحق بهذه الأشياء كل ذي رائحة كريهة تتأذى منها الملائكة أو المصلون.
قال الشيخ ابن باز: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مسجدنا وليصل في بيته) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الملائكة لتتأذى مما يتأذى منه بنو الإنسان) وكل ما له رائحة كريهة حكمه كحكم الثوم والبصل، كشارب الدخان ومن له رائحة كريهة في إبطه أو غيرهما مما يؤذي جليسه. فإنه يكره له أن يصلي مع الجماعة. وينهى عن ذلك حتى يستعمل ما يزيل هذه الرائحة ويجب عليه أن يفعل ذلك مع الاستطاعة حتى يؤدي ما أوجب الله عليه من الصلاة في الجماعة، أما التدخين فهو محرم مطلقاً ويجب عليه تركه في جميع الأوقات لما فيه من المضار الكثيرة في الدين والبدن والمال.
• قال ابن حجر: وقع في حديث حذيفة عند بن خزيمة (من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثاً) وبوب عليه توقيت النهى عن إتيان الجماعة لآكل الثوم وفيه نظر، لاحتمال أن يكون قوله (ثلاثاً) يتعلق بالقول أي قال ذلك (ثلاثاً) بل هذا هو الظاهر لأن علة المنع وجود الرائحة وهي لا تستمر هذه المدة.
• أن من أكل البصل أو الثوم لا يحضر الجماعة، دفعاً لأذيته.
فالفرق بينه وبين المريض الذي لا يستطيع أن يحضر، أن المريض معذور ويكتب له أجر الجماعة إذا كان من عادته أن يصلي مع الجماعة، وأما آكل البصل والثوم فلا يكتب له أجر الجماعة، لأنه لا يحضر للجماعة دفعاً لأذيته.
• قال الحافظ: حكم رحبة المسجد وما قرب منها حكمه، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج من وجدت منه إلى البقيع كما ثبت في مسلم عن عمر رضي الله عنه.
عن عمر قال (
…
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلاَّ خَبِيثَتَيْنِ هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخاً).
• قوله (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبْنَا، أَوْ لَا يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا).
قال النووي: فِيهِ: نَهْي مَنْ أَكَلَ الثَّوْم وَنَحْوه عَنْ حُضُور مَجْمَع الْمُصَلِّينَ، وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْر مَسْجِد، وَيُؤْخَذ مِنْهُ النَّهْي عَنْ سَائِر مَجَامِع الْعِبَادَات وَنَحْوهَا كَمَا سَبَقَ.
وقال القرطبي: يدل على أن مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها؛ كمجالس العلم والولائم وما أشبهها، لا يقربها مَن أكل الثوم وما في معناه؛ مما له رائحة كريهة تؤذي الناس، ولذلك جمع بين الثوم والبصل والكراث في حديث جابر.
(ويسن الحرص على الصف الأول).
أي: يسن للمصلي أن يحرص على الحضور للمسجد مبكراً لينال أجر الصف الأول.
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في فضل الأول.
أ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً) متفق عليه.
ب- وعنه. عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ تَعْلَمُونَ - أَوْ يَعْلَمُونَ - مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةً) رواه مسلم.
ج-وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا). رواه مسلم
د- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ:(تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّه) رواه مسلم.
• وقد اختلف العلماء في المراد بالصف الأول الممدوح على أقوال:
قال النووي: وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّفّ الْأَوَّل الْمَمْدُوح الَّذِي قَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيث بِفَضْلِهِ وَالْحَثّ عَلَيْهِ هُوَ الصَّفّ الَّذِي يَلِي الْإِمَام سَوَاء جَاءَ صَاحِبه مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، وَسَوَاء تَخَلَّلَهُ مَقْصُورَة وَنَحْوهَا أَمْ لَا هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي يَقْتَضِيه ظَوَاهِر الْأَحَادِيث وَصَرَّحَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ.
وَقَالَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء الصَّفّ الْأَوَّل هُوَ الْمُتَّصِل مِنْ طَرَف الْمَسْجِد إِلَى طَرَفه لَا يَتَخَلَّلهُ مَقْصُورَة وَنَحْوهَا، فَإِنْ تَخَلَّلَ الَّذِي يَلِي الْإِمَام شَيْء فَلَيْسَ بِأَوَّلَ، بَلْ الْأَوَّل مَا لَا يَتَخَلَّلهُ شَيْء، وَإِنْ تَأَخَّرَ.
وَقِيلَ: الصَّفّ الْأَوَّل عِبَارَة عَنْ مَجِيء الْإِنْسَان إِلَى الْمَسْجِد أَوَّلًا وَإِنْ صَلَّى فِي صَفٍّ مُتَأَخِّر، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ غَلَط صَرِيح، وَإِنَّمَا أَذْكُرهُ وَمِثْله لِأُنَبِّه عَلَى بُطْلَانه لِئَلَّا يَغْتَرّ بِهِ. (نووي).
فائدة 1: قوله (ولا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ).
أي: لا يزال قوم يعتادون التأخر عن الصف الأول، أو عن الصفوف الأولى حتى يعاقبهم الله تعالى فيؤخرهم.
قيل معناه: يؤخرهم عن رحمته أو جنته، أو عظيم فضله، أو عن رفع المنزلة، أو عن العلم.
ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني.
قال الشيخ ابن عثيمين في معنى الحديث:
رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتأخرون في المسجد يعني: لا يتقدمون إلى الصفوف الأولى فقال: (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله).
وعلى هذا فيخشى على الإنسان إذا عود نفسه التأخر في العبادة أن يبتلى بأن يؤخره الله عز وجل في جميع مواطن الخير.
وذهب بعض العلماء إلى أن المقصود بهذا جماعة من المنافقين، والصحيح أن الحديث عام وليس خاصاً بالمنافقين.
قال الشوكاني: قيل: إن هذا في المنافقين. والظاهر أنه عام لهم ولغيرهم، وفيه الحث على الكون في الصف الأول، والتنفير عن التأخر عنه. اهـ
والحاصل أن الحديث فيه الترغيب في صلاة الرجل في الصف الأول أو الصفوف الأولى، وذم اعتياده الصلاة في الصفوف المتأخرة.
فائدة 2: ورد في تفضيل ميمنة الصف على ميسرته أحاديث؛ منها
أ-حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) أخرجه أبوداود وغيره؛ وهو حديث شاذٌ بهذا اللفظ، أخطأ فيه معاوية بن هشام. قال ابن حجر: إسناده حسن.
ب- حديث ابن عباس مرفوعاً بمثل اللفظ السابق أخرجه ابن عدي في الكامل؛ وهو ضعيفٌ جداً.
ج-حديث أبي برزة الأسلمي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن استطعتَ أن تكون خلفَ الإمام وإلا فعن يمينه) وقال: هكذا كان أبوبكر وعمر خلف النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه الطبراني والبيهقي بسند ضعيف جداً.
وهذه الأحاديث كلها صريحةٌ في دلالتها؛ لكنها لا تصح.
وقد جاء حديث في صحيح مسلم البراء بن عازب قال) كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه يُقبِل علينا بوجهه؛ قال: فسمعته يقول: ربِّ قني عذابك يوم تبعث عبادك).
• فهذا الحديث يحتمل:
أن يكون دليلاً على تفضيل ميمنة المسجد؛ وقد بوب عليه بذلك النسائي وغيره.
ويحتمل أن يكون البراء رضي الله عنه وغيره إنما استحبوا الصلاة في الميمنة رغبةً في إقبال النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه عليهم بعد السلام من الصلاة ويؤيد هذا الاحتمال أنه جاء في رواية البيهقي للحديث (ليُقْبِل علينا بوجهه) وبوب على ذلك البيهقي بقوله: بابٌ؛ الإمام ينحرف بعد السلام.
وللفائدة:
فقد نص الشافعية، والحنابلة على تفضيل ميمنة الصف ولو كانت متأخرة على ميسرته وإن كانت متقدمة؛ ورواه ابن أبي شيبة عن عبدالله بن عمرو، وابن عباس، وإبراهيم النخعي، وبوب على ذلك النسائي وابن حبان وغيرهما.
وأنكر التفضيل الإمام مالك "رحمه الله" كما قال الحافظ ابن رجب.
وذهب بعض العلماء إلى الدنو من الإمام أفضل.
قال الشيخ ابن عثيمين: والخلاصة: أن اليمين أفضل إذا كانا متساويين أو متقاربين، وأما مع بعد اليمين فاليسار أفضل، لأنه أقرب إلى الإمام.
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة
دروس فقهية
باب صلاة المريض - باب القصر - باب الجمع
باب صلاة الخوف - باب صلاة الجمعة
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
الموقع/ رياض المتقين
www.almotaqeen.net
باب صلاة المريض
(تَلْزَمُ المَرِيضَ الصَّلَاةُ قَائِماً).
أي: يجب على المريض أن يصلي الصلاة قائماً ولو مستنداً إذا كان مستطيعاً.
والمراد بالصلاة هنا المفروضة.
لقوله تعالى (وقوموا لله قانتين).
ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمران (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فصل جالساً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري.
• قوله (ولو مستنداً) أي: لو قدِر المريض على القيام متكئاً على عصا، أو مستنداً على جدار من غير مشقة لزمه ذلك، ويقدمه
على القعود.
قال ابن قدامة: وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، بِأَنْ يَتَّكِئَ عَلَى عَصًى، أَوْ يَسْتَنِدَ إلَى حَائِطٍ، أَوْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ، لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَدَرَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِداً)
أي: فإن كان لا يستطيع القيام لمرضه فإنه يصلي قاعداً.
لقوله صلى الله عليه وسلم (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فصل جالساً. . . .).
أي إذا لم يستطع أن يصلي قائماً ولو كهيئة الراكع، أو كان معتمداً على عصا أو عمود أو جدار فإنه يصلي جالساً.
قال ابن قدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا.
أ- وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.
ب- وَرَوَى أَنَسٌ قَال (سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ، فَخُدِشَ أَوْ جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى قَاعِدًا، وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قُعُودًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وقال النووي: أجمعت الأمة على أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعداً ولا إعادة عليه.
قال أصحابنا: ولا ينقص ثوابه عن ثوابه في حال القيام، لأنه معذور.
وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً).
• وكذلك إذا يلحقه بالقيام مشقة شديدة، كأن يتألم ألماً شديداً.
• فضابط العذر الذي يسقط القيام، ويجيز صلاة الفريضة قاعداً:
أن يعجز عن القيام.
أن يزيد به المرض.
أن يتأخر به الشفاء.
أن يشق عليه مشقة شديدة تذهب الخشوع، فإن كانت المشقة أقل من ذلك لم يجز له القعود.
قال ابن قدامة: وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ، إلَّا أَنَّهُ يَخْشَى زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِهِ، أَوْ تَبَاطُؤَ بُرْئِهِ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا.
وَنَحْوَ هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى جَالِسًا لَمَّا جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لَكِنْ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ سَقَطَ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ تَسْقُطُ عَنْ غَيْرِهِ. (المغني).
وقال النووي: قال أصحابنا: ولا يشترط في العجز أن لا يتأتّى القيام، ولا يكفي أدنى مشقة، بل المعتبر المشقة الظاهرة، فإذا خاف مشقة شديدة أو زيادة مرض أو نحو ذلك أو خاف راكب السفينة الغرق أو دوران الرأس صلى قاعداً ولا إعادة. (المجموع).
وقال ابن تيمية: وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا عَجَزَ عَنْ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا كَالْقِيَامِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ أَوْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْه.
(متربعاً).
أي: يكون حال قعوده متربعاً.
وهذا مروي عن ابن عمر وأنس بن مالك.
وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد.
قال ابن حجر: اُخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ، فَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ التَّرَبُّع.
أ- لحديث عائشة قالت (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي متربعاً) رواه النسائي.
ب- ولأن التربع أكثر راحة وخشوعاً.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز التربع والافتراش.
لأنه لم يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أ- فقد وصفت عائشة رضي الله عنها كيفية صلاته جالساً ولم تذكر كيفية قعوده فدل ذلك على السعة في الأمر.
وقد قال الشافعي رحمه الله: يجوز على أيّ صفة شاء المصلي.
وقال ابن المنذر: ليس في صفة جلوس المصلي قاعداً سنة تتبع وإذا كان كذلك كان للمريض أن يصلي فيكون جلوسه كما سهل ذلك عليه، إن شاء صلى متربعاً وإن شاء محتبياً وإن شاء جلس كجلوسه بين السجدتين كل ذلك قد روي عن المتقدمين.
• قولها (يصلي متربعاً) تريد بهذا الجلوس الذي هو مكان القيام وكذلك في حال الركوع على القول الصحيح.
أما الجلوس بين السجدتين على الجلسة المعروفة بالصلاة، وهي الافتراش.
• (متربعاً) التربع هو أن يجلس قابضاً ساقيه مخالفاً بين قدميه، جاعلاً ساقيه إحداهما فوق الأخرى، يكون القدم اليمنى في مقبض فخذه اليسرى، والقدم اليسرى في مقبض فخذه اليمنى.
•
حكم من قدر على القيام وعجز عن الركوع والسجود:
لم يسقط عنه القيام.
قال ابن قدامة: ومن قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود: لم يسقط عنه القيام، ويصلي قائماً فيومئ بالركوع، ثم يجلس فيومئ بالسجود، وبهذا قال الشافعي. . .
أ-لقول الله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
ب- وقول النبي صلى الله عليه وسلم (صل قائماً).
ج- ولأن القيام ركن لمن قدر عليه، فلزمه الإتيان به كالقراءة، والعجز عن غيره لا يقتضي سقوطه كما لو عجز عن القراءة. (المغني)
فالقاعدة في واجبات الصلاة: أن ما استطاع المصلي فعله، وجب عليه فعله، وما عجز عن فعله سقط عنه.
فمن كان عاجزاً عن القيام جاز له الجلوس على الكرسي أثناء القيام، ويأتي بالركوع والسجود على هيئتهما، فإن استطاع القيام وشقَّ عليه الركوع والسجود: فيصلي قائماً ثم يجلس على الكرسي عند الركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه.
(فإن عجزَ فعلى جنبه).
أي: إذا لم يستطع الجلوس فإنه يصلي على جنبه (شقه).
لقوله صلى الله عليه وسلم (. . . فإن لم تستطع فصل جالساً، فإن لم تستطع فعلى جنب).
• يختار الجنب الأسهل له.
• فإن تساويا فالجنب الأيمن أفضل.
• ويومئ برأسه إلى الصدر، يومئ قليلاً في الركوع، ويومئ أكثر في السجود، ليتميز أحدهما عن الآخر.
-
ما الحكم إذا لم يستطع المريض أن يصلي على جنب؟
إذا لم يستطع أن يصلي على جنبه، فإنه يصلي مستلقياً يومئ برأسه (يكون وجه المصلي إلى السماء ورجلاه إلى القبلة).
ويستدل لذلك بأمور:
أ-لعموم قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم).
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.
ج- ورواية في هذا الحديث وفيها (
…
فإن لم تستطع فمستلقٍ) وعزاها كثير للنسائي لكن بعض العلماء نفى وجودها عند النسائي.
د- أن هذه الصفة وردت في حديث علي وفيه (فإن لم يستطع صلى مستلقياً ورجلاه إلى القبلة) رواه الدارقطني وهو ضعيف.
(ويُومئُ راكعاً وساجداً ويخفضه عن الركوع).
أي: المريض المصلي جالساً يومئ في حال الركوع والسجود، ويكون في السجود أخفض.
فمن صلى جالساً في الفريضة لعجزه عن القيام، فإنه إن قدر على الركوع والسجود لزمه أن يأتي بهما ولا يومي برأسه ما دام قادراً على الركوع والسجود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
وعن عائشة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (
…
وإذا قرأ جالساً ركع جالساً
…
).
فدل على أن الجالس يركع ويسجد عند القدرة عليهما، ويأتي بالركوع على حسب طاقته ولو بأن يحني ظهره قليلاً.
جاء في المهذب من كتب الشافعية: .. ويحني ظهره في الركوع على قدر طاقته
…
انتهى.
وإن عجز عن الركوع، فإنه يأتي بالسجود على قدر طاقته ولو بوضع يديه دون جبهته.
قال الشيخ ابن عثيمين: فيمن عجز عن وضع جبهته على الأرض في السجود لجروح فيها: .. فيلزمه أن يضع كفيه على الأرض ثم يدني جبهته إلى الأرض بقدر ما يستطيع. انتهى.
وهذه النقول تدل على أن المصلي يأتي بما يستطيع من الركوع والسجود ولا يكتفي بالإيماء بالرأس عند قدرته، فإن عجز عن الركوع والسجود بالصفة المذكورة آنفاً أومأ برأسه، والمنصوص عليه في كتب الفقهاء هو أن الإيماء يكون بالرأس.
فيومئ برأسه للركوع والسجود ويجعل إيماءه للسجود أخفض من إيمائه للركوع.
- الصحيح أنه لا يصح أن يصلي مستلقياً على ظهره مع قدرته على الصلاة على جنب، واختاره ابن قدامة.
قال ابن قدامة: ولنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْب) وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا.
وَلِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ إذَا كَانَ عَلَى جَنْبِهِ، وَلَا يَسْتَقْبِلُهَا إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ السَّمَاءَ، وَلِذَلِكَ يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عَلَى جَنْبِهِ قَصْدَ التَّوْجِيهِ إلَى الْقِبْلَةِ.
ثم قال:
…
وَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ (فَعَلَى جَنْب).
وَلِأَنَّهُ نَقَلَهُ إلَى الِاسْتِلْقَاءِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبِه. (المغني)
(فإنْ عَجزَ أوْمأ بعينهِ).
أي: إذا صار المريض لا يستطيع أن يومئَ بالرأس، فإنه يومئ بالعين.
وإلى هذا القول: ذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
فالمريض إذا عجز عن الإيماء برأسه فإنه يومئ بعينه.
فيكبر ويقرأ فإذا أراد أن يركع غمّض عينه قليلاً، فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فتح طرفه، فإذا سجد أغمض أكثر.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن الإنسان مكلف بما يستطيعه، والمريض العاجز عن الإيماء برأسه، قادر على الإيماء بطرفه، فيلزمه أن يأتي من الصلاة بما يستطيع.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا عجز عن الإيماء سقطت عنه الصلاة لعجزه عنها.
وهذا قول أبي حنيفة واختيار ابن تيمية.
أ- أن الإيماء بالطرف ليس بصلاة حقيقة.
ب- أن العاجز عن الإيماء برأسه هو في الحقيقة عاجز عن أفعال الصلاة بالكلية، فتسقط عنه حينئذ.
قال ابن تيمية: وهذا القول أصح في الدليل، لأن الإيماء بالعين ليس من أعمال الصلاة، ولا يتميز فيه الركوع من السجود ولا القيام من القعود، بل هو نوع من العبث الذي لم يشرعه الله تعالى، وأما الإيماء بالرأس فهو خفضه، وهذا بعض ما أمر الله به المصلي.
وقال: متى عجز المريض عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإيماء بطرْفهِ.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه تسقط عنه الأفعال لعجزه عنها دون الأقوال لقدرته عليها.
وعلى هذا القول: ينوي بقلبه فيكبر، ويقرأ ويفعل الركوع، ثم ينوي بقلبه الركوع فيقول: سبحان ربي العظيم
…
وهكذا.
لأن الأقوال قادر عليها، وقد قال تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
تنبيه: قال الشيخ ابن عثيمين: وأما قول العامة: إنه يومئ بالإصبع فهذا لا أصل له في السنة، ولم يقل به أحد من أهل العلم فيما أعلم.
(ومن قَدَرَ فيها على قيامٍ أو جلوس فإنه ينتقل إليه ويُتِم).
أي: إن قدر المريض في أثناء الصلاة على القيام انتقل إليه.
وهذا مذهب الجمهور.
أ- لقوله تعالى (وقوموا لله قانتين).
ب- ولحديث عمران (صل قائماً
…
).
ج- ولأن المبيح العجز وقد زال، وما صلاه قبلُ كان لعذر موجوداً فيه، وما بقي يجب أن يأتي بالواجب فيه.
قال ابن قدامة: وَمَتَى قَدَرَ الْمَرِيضُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، عَلَى مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ، مِنْ قِيَامٍ، أَوْ قُعُودٍ، أَوْ رُكُوعٍ، أَوْ سُجُودٍ، أَوْ إيمَاءٍ، انْتَقَلَ إلَيْهِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ قَادِرًا، فَعَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، أَتَمَّ صَلَاتَهُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ كَانَ صَحِيحًا، فَيَبْنِي عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ.
(وإن قدِرَ على قيامٍ وقعودٍ دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً، وبسجودٍ قاعداً).
أي: إنْ قَدِرَ المريضُ على القيامِ، لكن لا يستطيع الركوعَ، إما لمرضٍ في ظهرِه، وإما لوجعٍ في رأسِه، وإما لعمليةٍ في عينه، أو لغير ذلك، ففي هذه الحال نقول له: صَلِّ قائماً وأومئ بالرُّكوعِ قائماً.
والدليلُ قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
وكذلك إذا كان يستطيعُ أنْ يجلسَ؛ لكن لا يستطيع أن يسجدَ نقول: اجلسْ وأومئْ بالسُّجودِ.
لقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وهذا يحتاجُ الإِنسانُ إليه في الطائرةِ إذا كان السفرُ طويلاً وحان وقتُ الصَّلاةِ، وليس في الطائرةِ مكان مخصَّصٌ للصَّلاةِ، فإنه يصلِّي في مكانِه قائماً؛ بدون اعتماد إذا صارت الطائرةُ مستويةً، وليس فيها اهتزازٌ وإلا فيتمسَّكُ بالكرسي الذي أمامَه، لكن يومئ بالرُّكوعِ قَدْرَ ما يمكن.
قال ابن قدامة: وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَعَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِيَامُ، وَيُصَلِّي قَائِمًا، فَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُومِئُ بِالسُّجُودِ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ الْقِيَامُ.
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ، فَسَقَطَ فِيهَا الْقِيَامُ كَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
أ- وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
ب- وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (صَلِّ قَائِمًا).
ج- وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَالْقِرَاءَةِ، وَالْعَجْزُ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَهُ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ.
(ولا تصح صلاتُه الفريضة قاعداً في السفينةِ وهو قادر على القيام).
أي: لا تصح صلاة الفرض في السفينة من قاعد وهو قادر على القيام.
قال في الإنصاف: بلا نزاع، ولو كانت سائرة.
أ-لحديث ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما. قال (النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة في السَّفينة؟ فقال: صَلِّ فيها قائمًا إلَّا أن تخافَ الغرق) رواه الدارقطني.
قال الشوكاني: فيه أن الواجب على من يصلي في السفينة القيام، ولا يجوز له القعود إلا عند خشية الغرق. ويؤيد ذلك الأحاديث المتقدمة الدالة على وجوب القيام في مطلق صلاة الفريضة فلا يصار إلى جواز القعود في السفينة ولا غيرها إلا بدليل خاص.
ب- ولأنه قادر على ركن الصلاة، فلم يجز تركه، كما لو لم يكن بسفينة.
فائدة: تصح الصلاة في السفينة.
قال النووي: تَصِحّ كَالسَّفِينَةِ، فَإِنَّهَا يَصِحّ فِيهَا الْفَرِيضَة بِالْإِجْمَاعِ.
وقال الصنعاني: كالسفينة فإن الصلاة تصح فيها إجماعاً.
(ويصح الفرضُ على الراحلةِ خشية التأذي).
أي: يصح أن يصلي الفرض على الراحلة (من دابة أو سيارة) خشية التأذي من مطر أو وحل أو نحوها.
فصلاة الفريضة لا تجوز على الراحلة في الأصل، لكن قد يعرض لها من الأحوال ما يجوزها.
قال النووي: ولو حضرت الصلاة المكتوبة، وخاف لو نزل ليصليها على الأرض إلى القبلة انقطاعاً عن رفقته أو خاف على نفسه أو ماله لم يجز ترك الصلاة وإخراجها عن وقتها، بل يصليها على الدابة لحرمة الوقت، وتجب الإعادة لأنه عذر نادر. ا. هـ.
وقال في شرح مسلم: وفيه دليل على أن المكتوبة لا تجوز إلى غير القبلة، ولا على الدابة وهذا مجمع عليه؛ إلا في شدة الخوف. ا. هـ.
قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن يصلي الفريضة على الدابة من غير عذر، ولأن أداء الفرائض على الدابة مع القدرة على النزول لا يجوز، ولأن شرط الفريضة المكتوبة أن يكون المصلي مستقبل القبلة مستقراً في جميعها، فلا تصح من الراكب المخل بقيام أو استقبال " انتهى من "الموسوعة الفقهية" (27/ 231)
وقد روى أحمد والترمذي عن يعلى بن مرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منه، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن وأذن، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فصلى بهم يومئ إيماءً، يجعل السجود أخفض من الركوع).
تنبيه: يعيد الصلاة عند المالكية والشافعية، ولا يعيدها عند الحنابلة وهو الراجح.
فائدة: 1
اختلف العلماء في المريض، إن ذهب للمسجد صلى قاعداً، وإن صلى في بيته صلى قائماً، فأيهما أفضل؟
قيل: يخيّر بينهما.
ومال إليه ابن قدامة.
وقيل: يصلي في بيته قائماً.
لأن القيام ركن لا تصح الصلاة إلا به مع القدرة عليه، وهذا قادر عليه.
وقيل: بل يذهب للمسجد، وإن استطاع القيام صلى قائماً وإلا صلى جالساً.
أ-لأن الإنسان مأمور بحضور الجماعة، وصلاته جالساً لا بأس بها لأنه معذور.
ب-ولقول ابن مسعود (ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين).
وهذا القول هو الصحيح.
واختاره الشيخ السعدي حيث قال: إنه يحضر الجماعة ويصلي جالساً، لأن مصالح حضور الجماعة لا يوازيها شيء من المصالح، وأيضاً إذا وصل محل الجماعة وصار عاجزاً عن القيام لم يكن واجباً عليه، وكان جلوسه في حقه بمنزلة القيام في حق القادر، فقد حصّل مصالح الجماعة ولم تفته مصلحة القيام.
فائدة: 2
سجود المريض على وسادة.
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَرِيضٍ - صَلَّى عَلَى وِسَادَةٍ، فَرَمَى بِهَا - وَقَالَ: " صَلِّ عَلَى اَلْأَرْضِ إِنْ اِسْتَطَعْتَ، وَإِلَّا فَأَوْمِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ) رَوَاهُ اَلْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ وَلَكِنْ صَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ.
والحديث رواه البيهقي من طريق أبي بكر الحنفي، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر قال.
الحديث أعله أبو حاتم بالوقف من قول جابر.
لكن ذكر الحافظ أن هناك متابعاً من رواية عبد الوهاب بن عطاء عن الثوري، عند البيهقي.
والحديث له طريق أخرى عند أبي يعلى ضعيفة جداً.
وله شاهد من حديث ابن عمر عند الطبراني في الكبير، قال الألباني: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
فالحديث صحيح.
والحديث يدل على أن المريض العاجز عن السجود على الأرض أنه يسجد في الهواء، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، ولا حاجة أن يضع شيئاً يسجد عليه من وسادة أو غيرها كمركاة.
قال الصنعاني: وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَتَّخِذُ الْمَرِيضُ مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ حَيْثُ تَعَذَّرَ سُجُودُهُ عَلَى الأَرْضِ، وَقَدْ أَرْشَدَهُ إلَى أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ فَإِنَّهُ يُومِئُ مِنْ قُعُود لَهُمَا جَاعِلا الإِيمَاءَ بِالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ.
قال الشيخ محمد بن عثيمين فيمن لا يستطيع الصلاة قائماً أن يصلي جالساً، قال: وليس في السنة وضع وسادة أو شيئاً للسجود عليه، بل هو للكراهة أقرب، لأنه من التنطع والتشدد في دين الله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(هلك المتنطعون).
وقال الشيخ ابن باز: .... إذا شق عليه السجود يسجد في الهواء يخفضه عن الركوع، هذا هو السنة لمن عجز عن السجود، ولا حاجة إلى وسائد ولا كرسي ولا شيء يسجد عليه.
فائدة: 3
لا ينقص أجر المريض المصلي على جنبه أو مستلقياً على أجر الصحيح المصلي قائماً.
لحديث أبي مُوسَى. قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) رواه البخاري.
باب القصر
والمراد بقصر الصلاة: قصر الصلوات الرباعية (الظهر والعصر والعشاء) إلى ركعتين.
(وهو أفضل من الإتمام لمن سافر).
أي: أن قصر الصلاة في السفر أفضل من الإتمام.
وقد ثبتت مشروعية القصر بالكتاب والسنة والإجماع:
أ-قال تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا).
وظاهر الآية أن القصر مقيد بحال الخوف، إلا أن السنة بينت المراد من الآية، وهو أن القصر مشروع في الأمن والخوف في حال السفر.
ففي صحيح مسلم عن يعلى بن أمية قال: (قلت لعمر (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد أمن الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته). رواه مسلم
ب- عن ابن عمر قال (صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك) رواه البخاري.
ج- وفي لفظ مسلم عن ابن عمر قال (صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ
عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
ج- وعنه قَالَ (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَعُمَرُ بَعْدَ أَبِى بَكْرٍ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بَعْدُ أَرْبَعًا. فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا وَإِذَا صَلاَّهَا وَحْدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) رواه مسلم.
د- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِى السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِى الْخَوْفِ رَكْعَةً). رواه مسلم
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتم في سفره قط.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما في السفر فقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من ثلاثين سفرة، وكان يصلي ركعتين في أسفاره، ولم ينقل عنه أحد من أهل العلم أنه صلى في السفر أربعاً قط، حتى في حجة الوداع، وهي آخر أسفاره كان يصلي بالمسلمين بمنى ركعتين ركعتين، وهذا من العلم العام المستفيض المتواتر الذي اتفق على نقله جميع أصحابه، ومن أخذ العلم عنهم.
وقال ابن القيم رحمه الله: وكان يَقصُر الرُّبَاعية، فيصليها ركعتين مِن حين يخرُج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبُت عنه أنه أتمَّ الرُّباعية في سفره البتة.
وأجمع أهل العلم على مشروعية القصر في السفر الطويل.
• وبعد اتفاقهم على مشروعيته، اختلف العلماء في حكم القصر هل هو واجب أم لا على أقوال:
القول الأول: أنه واجب.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ونصره ابن حزم، واختاره الصنعاني.
أ-لقول عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَوَّلُ مَا فُرِضَتِ اَلصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ اَلسَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ اَلْحَضَرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْبُخَارِيِّ (ثُمَّ هَاجَرَ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ اَلسَّفَرِ عَلَى اَلْأَوَّلِ).
فهذا يدل على أن صلاة السفر مفروضة ركعتين.
قال الصنعاني: في هذا الحديث دليل على وجوب القصر في السفر، لأن فرضت بمعنى وجبت.
وقال الشوكاني: وهو دليل ناهض على الوجوب، لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين، لم يجز الزيادة عليها، كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر.
ب- ولحديث يعلى ابن أمية السابق، وفيه (صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته) فقوله (فاقبلوا) هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
ج- ولحديث ابن عمر السابق (صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ
…
).
وجه الدلالة: مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الصلاة في السفر، فلم ينقل عنه أنه أتم في سفره، فمداومته دليل على الوجوب.
د-ولقول ابن عَبَّاسٍ السابق (فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِى السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ).
قال الشوكاني: فهذا الصحابي الجليل، قد حكى عن الله عز وجل أنه فرض صلاة السفر ركعتين، وهو أتقى وأخشى من أن يحكي أن الله فرض ذلك بلا برهان.
القول الثاني: أن القصر سنة مؤكدة غير واجب.
وهذا قول الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد.
أ- لقوله تعالى (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا).
وجه الدلالة: قالوا: إن نفي الجناح يفيد أنه رخصة.
ب- ولحديث يَعْلَى بْن أُمَيَّة السابق قَالَ قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ فَقَالَ عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» .
قال ابن قدامة: وهذا يدل على أنه رخصة وليس بعزيمة، وأتم عثمان في آخر حياته وصلى معه الصحابة، ولم ينكر.
ج- عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قال (صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ فَلَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ) رواه مسلم.
قال النووي: ولو كان القصر واجباً لما وافقوه على تركه.
وقال ابن عبد البر: ومما يدل على ما اخترناه إتمام من أتم من الصحابة، ولم ينكر ذلك عليه.
القول الثالث: أن قصر الرباعية سنة مؤكدة وأن الإتمام مكروه.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال رحمه الله: إن القصر سنة، والإتمام مكروه، لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم الدائم.
وقال ابن تيمية: المسلمون نقلوا بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ في السفر إلا ركعتين، ولم ينقل عنه أحد أنه صلى أربعاً قط.
وهذا القول هو الراجح.
(للصلاة الرباعية).
أي: الصلوات التي تقصر هي الصلوات الرباعية: الظهر، والعصر، والعشاء.
وقد نقل الإجماع في ذلك ابن حزم في المحلى، وابن قدامة في المغني نقلاً عن ابن المنذر.
فالمغرب لا تقصر لأنها وتر النهار، فلو قصرت منها ركعة لم يبق منها وتراً، ولو قصرت ركعتان فإنه إجحاف بها بذهاب أكثرها، وأما الصبح فتبقى على ما هي عليه، لأن قصرها إلى واحدة إجحاف بها.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا فُرِضَتِ اَلصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ اَلسَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ اَلْحَضَرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْبُخَارِيِّ (ثُمَّ هَاجَرَ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ اَلسَّفَرِ عَلَى اَلْأَوَّلِ).
زَادَ أَحْمَدُ (إِلَّا اَلْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وِتْرُ اَلنَّهَارِ، وَإِلَّا اَلصُّبْحَ، فَإِنَّهَا تَطُولُ فِيهَا اَلْقِرَاءَة).
(وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ اَلْحَضَرِ) وفي رواية مسلم (وزيد في صلاة الحضر) أي: بعد الهجرة إلى المدينة، لمَا عند البخاري في صحيحه في (كتاب الهجرة) عن عائشة قالت (فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففُرضتْ أربعاً).
(في سفر مباح).
أي: أن قصر الصلاة في السفر يشترط أن يكون السفر مباحاً، فإن كان معصية فلا يجوز له أن يقصر.
وهذا مذهب الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد.
لأن الترخيص شرع للإعانة على تحصيل المقصد المباح توصلاً للمصلحة، فلو شرع هنا لشرع إعانة على المحرّم تحصيلاً للمفسدة، والشرع منزه عن هذا. (المغني).
قال السعدي: فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز القصر في سفر المعصية.
وهذا مذهب أبي حنيفة، واختاره ابن تيمية.
قال النووي: وذهب الحنفية، والثوري، والأوزاعي، والمزني من أصحاب الشافعي إلى جواز القصر في سفر المعصية وغيره.
قالوا: لأن فرض السفر ركعتان، ولأنه داخل تحت النصوص المطلقة.
• قوله (في سفر) فيه دليل أن المعتبر في قصر الصلاة هو السفر سواء وجدت المشقة أم لا.
وقد عَلَّق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الحكم (وهو قصر الصلاة) على السفر، قال الله تعالى:(وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً).
وقال صلى الله عليه وسلم (صَلاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ) رواه النسائي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلاةِ). رواه النسائي.
ويدل على ذلك أيضاً: أنه لا يجوز للمقيم (غير المسافر) أن يقصر الصلاة ولو كان عليه مشقة في إتمامها، مما يدل على أن الحكم إنما علق على السفر لا على المشقة.
(إذا فارق عامرَ قريتهِ).
أي: أن المسافر لا يقصر إلا إذا فارق وخرج من بنيان بلده.
والمراد بالمفارقة هنا المفارقة البدنية، أي: يتجاوز البيوت ولو بمقدار ذراع.
وهذا مذهب جماهير العلماء: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المريد للسفر أن يقصر إذا خرج من جميع القرية التي يخرج منها.
وقال الحافظ: وهذا مذهب جمهور أهل العلم، أن المسافر إذا أراد سفراً تقصر في مثله الصلاة لا يقصر حتى يفارق جميع البيوت.
أ- لقوله تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْض)، ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج، وقبل مفارقته لا يكون ضارباً فيها.
ب-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقصر إذا ارتحل كما في حديث أَنَس رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ فَرَاسِخَ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) رَوَاهُ مُسْلِم.
ج-وفي حديث أنس قال (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، وبذي الحليفة ركعتين). متفق عليه
د- عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا خرج حاجاً، أو معتمراً قصر الصلاة بذي الحليفة. رواه مالك.
د-ومن المعقول: فإنه لا يطلق على الشخص مسافراً إلا إذا باشر السفر وفعله، ولا يكون ذلك إلا بخروجه من بلده.
قال الشيخ ابن عثيمين: المسافر لا يعد مسافراً إلا إذا فارق العمران، لكن ليس المراد المفارقة بالرؤية، بل المفارقة بالبدن حتى لو كان بينه وبين البلد ذراعاً واحداً، فله أن يترخص برخص السفر.
فائدة:
قال النووي: وقال مجاهد لا يقصر المسافر نهاراً حتى يدخل الليل، قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً وافقه، وعن عطاء أنه قال إذا جاوز حيطان داره فله القصر، فهذان المذهبان فاسدان:
فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة حين خرج من المدينة، ومذهب عطاء وموافقيه منابذ لاسم السفر. (المجموع شرح المهذب).
• قال ابن قدامة: وإِنْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ، وَصَارَ بَيْنَ حِيطَانِ بَسَاتِينِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ.
لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْبُيُوتَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ حَوْلَ الْبَلَدِ خَرَابٌ قَدْ تَهَدَّمَ وَصَارَ فَضَاءً، أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهِ كَذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتْ حِيطَانُهُ قَائِمَةً فَكَذَلِكَ.
…
(المغني).
فائدة:
ما الحكم في رجل دخل عليه وقت صلاة الظهر وسافر فهل له القصر؟
إذا دخل عليه وقت الصلاة وخرج من البلد فإنه يصلي صلاة مسافر.
وهو قول الجمهور كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد.
لأن الحكم للمكان لا للزمان.
وقيل: ليس له القصر.
لأنها وجبت عليه في الحضر فلزمه إتمامها وهذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد.
وهذا القول فيه ضعف، وينتقض بما لو دخل عليه الوقت في السفر ولم يصل حتى رجع إلى بلده فإنه يصلي صلاة مقيم عند الحنابلة وغيرهم، فبان أن الحكم للمكان لا للزمان، فحيثما صلى اعتبر مكانه، فإن صلى في السفر فإنه يصلي صلاة مسافر وإن صلى في الحضر صلى صلاة مقيم.
قال الشيخ ابن عثيمين: إذا سافر الإنسان بعد دخول الوقت وصلى في مسيره، فإنه يقصر صلاته كما أنه لو دخل عليه الوقت وهو في السفر ثم وصل بلده فإنه يتم الصلاة؛ لأن العبرة بفعل الصلاة لا بوقتها، فمتى فعل الصلاة في السفر قصرها، ومتى فعلها في الحضر أتم.
(وكانت مسافةُ سفره أربعة بُرُد، وهي مسيرة يومين قاصدين).
هذا بيان مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة.
ذهب جمهور العلماء إلى أن المسافة التي تقصر فيها الصلاة ويفطر فيها الصائم ثمانية وأربعون ميلاً.
قال ابن قدامة: مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (يعني الإمام أحمد) أَنَّ الْقَصْرَ لا يَجُوزُ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَالْفَرْسَخُ: ثَلاثَةُ أَمْيَالٍ، فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلا. وَقَدْ قَدَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مِنْ عُسْفَانَ إلَى مَكَّةَ، وَمِنْ الطَّائِفِ إلَى مَكَّةَ، وَمِنْ جُدَّةَ إلَى مَكَّةَ.
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَسَافَةُ الْقَصْرِ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ.
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِي. (المغني).
وتقدير ذلك بالكيلو متر نحو (80) كيلو متر تقريباً.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة: السفر الذي يشرع فيه الترخيص برخص السفر هو ما اعتبر سفراً عرفاً، ومقداره على سبيل التقريب مسافة ثمانين كيلو متراً، فمن سافر لقطع هذه المسافة فأكثر فله أن يترخص برخص السفر من المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، والجمع والقصر، والفطر في رمضان " انتهى
وهذا - كما تقدم - مذهب الأكثر.
فهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ- لحديث اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَقْصُرُوا اَلصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ; مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، كَذَا أَخْرَجَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ.
ب- واستدلوا بالآثار المروية عن بعض الصحابة في تحديد السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وأنه ما كان على مسافة أربعة برد.
فعن عطاء (أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق.) رواه البخاري تعليقاً والبيهقي.
قال النووي: بإسناد صحيح.
وعنه قال (قلت لابن عباس: أأقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، قلت: أأقصر إلى منى؟ قال: لا، قلت: أأقصر إلى الطائف وإلى عسفان؟ قال: نعم، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً وعقده بيده) رواه البيهقي، وابن أبي شيبة، قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح.
وذهب بعض العلماء: إلى أن أقل مدة تقصر فيها الصلاة هي ثلاثة أيام.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
أ- لحديث ابن عمر. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليهن إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها) متفق عليه.
ب- ولحديث علي قال (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر) وهذا يقتضي أن كل مسافر له ذلك، ولأن الثلاثة متفق عليها وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق.
وذهب بعضهم: إلى أنه لا حد للسفر بالمسافة، فكل ما عد سفراً فهو سفر.
واختار هذا ابن تيمية، وابن قدامة في المغني.
أ-لقوله تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْض) فالله علق مشروعية قصر الصلاة على مطلق الضرب في الأرض، فيصدق ذلك على كل مسافر،
قصيراً كان سفره أو طويلاً، وحيث لا دليل يدل على تقييد هذا المطلق فيجب العمل به على إطلاقه.
ب- أن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه.
قال ابن قدامة بعد ذكره الأقوال: ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف، وإذا لم تثبت أقوالهم، امتنع الحصر إلى التقدير الذي ذكروه، لوجهين:
الأول: أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي رويناها، ولظاهر القرآن، فإن ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض.
الثاني: أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد سيما ولا أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه.
قال ابن تيمية: الفرق بين السفر الطويل والقصر، لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الأحكام التي علقها الله بالسفر مطلقة.
والأحوط قول الجمهور.
• سئل الشيخ ابن عثيمين: مجموعة من المدرسين يترددون لقرى بعيدة تقريباً فوق (100 كم) ويترخصون برخص السفر، يجمعون بين الظهر والعصر مع أنهم يصلون إلى ديارهم تقريباً الساعة الواحدة والنصف، ويقولون: عندهم فتوى منكم أنتم، فهل يجوز لهم أن يترخصوا برخص السفر؟ وإذا كان لا يجوز فهل يجوز لهم أن يجمعوا بين الظهر والعصر من غير قصر أم لا؟
الجواب: العلماء رحمهم الله اختلفوا في السفر المبيح للرخص، فمنهم: من يحده بالمسافة ويقول: المسافة (83 كم) فإذا جاوزها الإنسان ولو بنصف ذراع حلت له الرخص.
وبناءً على هذا القول: يكون هؤلاء ممن يكون لهم الرخص؛ لأنك قلت: (100 كم) أو أكثر.
هؤلاء يقولون: له القصر وله الفطر وله الجمع ولو قطع هذه المسافة، أعني:(83 كم) بنصف ساعة أو أقل، على هذا القول يكون لهؤلاء أن يقصروا إذا صادفتهم الصلاة وهم في غير بلدهم، ويجوز لهم أن يجمعوا.
وأما على القول الثاني الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أقرب إلى الصواب فيقول: العبرة بما يسميه الناس سفراً، وهؤلاء القوم الذين يذهبون صباحاً ويرجعون مساءً قبل المساء لا يعدون مسافرين فلا يقصرون.
…
(فتاوى لقاء الباب المفتوح).
• ما حكم القصر للمكي بعرفة ومزدلفة ومنى؟
اختلف العلماء في هذا المسألة على قولين:
القول الأول: أنه ليس لأهل مكة القصر بعرفة ومزدلفة وبمنى.
وهذا قول الشافعية، والحنابلة.
قالوا: إن المسوغ للجمع والقصر هو السفر، والخروج إلى هذه الأماكن لا يعد سفراً بالنسبة للمكي لعدم المسافة.
القول الثاني: أن لأهل مكة القصر في هذه الأماكن كسائر الحجاج.
وهذا مذهب المالكية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
أ-لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر بمنى، وجمع وقصر بعرفة ومزدلفة، وصلى معه جميع المسلمين من أهل مكة وغيرهم، ولم يأمر أهل مكة بالإتمام، ولا بتأخير العصر في عرفة، أو تقديم المغرب في المزدلفة.
ب- قالوا: ولو أن أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعاً، وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وفي أيام منى، لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة.
قال ابن تيمية: إنما قصروا لأجل سفرهم لا لأجل النسك، ولهذا لم يكونوا يقصرون بمكة وإن كانوا محرمين.
والأحوط الأول.
• ما الجواب عن حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفْر)؟
الجواب من وجهين:
الأول: أنه ضعيف، رواه أبو داود وغيره، قال ابن حجر: وهذا ضعيف، لأن الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
والثاني: أنه على التسليم بصحته، فإنما قاله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في جوف مكة، والحال أن أهل مكة مقيمون حقيقة.
(وإذا ذكر صلاة حضرٍ في سفر، أو عكسها، أو ائتمَّ بمقيمٍ، أو نوى إقامة أكثر من أربعةِ أيامٍ لزمَه أن يُتم).
هذه مسائل يتم فيها المسافر الصلاة.
(وإذا ذكر صلاة حضرٍ في سفر).
مثال: رجل مسافر، وفي أثناء السفر تذكر أنه صلى الظهر في بلده من غير وضوء، فإنه يجب أن يعيدها أربعاً.
قال ابن قدامة: بالإجماع حكاه الإمام أحمد، وابن المنذر.
لأن الصلاة تعين عليه فعلها أربعاً، فلم يجز له النقصان من عددها.
(أو عكسها: ذكر صلاة سفر في حضر).
مثال: رجل مسافر، وصلى الظهر ركعتين، فلما وصل إلى بلده، ذكر أنه صلاها بغير وضوء.
فالمشهور من المذهب أنه يجب أن يعيدها أربعاً، وهو قول الشافعي.
أ- قالوا: لأن القصر رخصة من رخص السفر، يبطل بزواله.
ب-ولأنها وجبت عليه في الحضر.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يصليها ركعتين.
وهو قول الحنفية، والمالكية.
قالوا: لأن القضاء يحكي الأداء.
وهذا هو الصحيح، والأول أحوط.
(أو ائتمَّ بمقيمٍ).
أي: إذا صلى المسافر خلف المقيم فإنه يلزمه الإتمام.
قال ابن قدامة: المسافر متى ائتم بمقيم وجب عليه الإتمام، سواء أدرك جميع الصلاة أو ركعة، أو أقل.
أ- لما روي عن ابن عباس: (أنه قيل له: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة). رواه أحمد، وأصله في مسلم بلفظ: (كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلِّ مع الإمام، فقال: ركعتين، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
ب- وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين.
ج- لأن: هذه صلاة مردودة من أربع إلى ركعتين فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة.
د- لأنه اجتمع ما يقتضي القصر والتمام فغلب التمام كما لو أحرم بها في السفر ثم أقام.
وهذا اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
فقال رحمه الله: الواجب على المسافر إذا صلى خلف مقيم أن يتم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ولأن الصحابة كانوا يصلون خلف أمير المؤمنين عثمان في الحج في مني، فكان يصلي بهم أربعاً فيصلون معه أربعاً.
وهذا واضح إذا ما دخل المسافر مع الإمام من أول الصلاة، لكن لو أدرك معه الركعتين الأخيرتين فهل يسلم؛ لأنه صلى ركعتين وفرضه ركعتان أو يأتي بما بقي؟ نقول: يأتي بما بقي، فيتم أربعاً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)؛ ولأن المأموم في هذه الحال ارتبطت صلاته بالإمام فلزم أن يتابعه حتى فيما فاته. (الشيخ ابن عثيمين).
وذهب بعض العلماء: إلى أن المسافر يتم الصلاة خلف المقيم إذا أدرك من صلاته ركعة فأكثر، ويقصر إذا أدرك معه أقل من ركعة.
وهو قول الحسن البصري، والنخعي، والزهري، وقتادة، وقول للأوزاعي، وهو مذهب مالك.
عن الزهري وقتادة في مسافر يدرك من صلاة المقيمين ركعة، قالا: يصلي بصلاتهم، فإن أدركهم جلوساً صلى ركعتين. رواه عبد الرزاق
وقال الحسن في مسافر أدرك ركعة من صلاة المقيمين في الظهر قال: يزيد إليها ثلاثاً، وإن أدركهم جلوساً صلى ركعتين. رواه عبد الرزاق
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك).
دلَّ هذا الحديث على أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، أي: حكمها ووقتها وفضلها، فدلَّ ذلك على أن من أدرك أقل من ركعة لم يدرك شيئاً من ذلك، وأن الركعة حد أدنى لإدراك تلك الفضائل.
ب-ولأن من أدرك من الجمعة ركعة أتمها جمعة، ومن أدرك أقل من ذلك لا يلزمه فرضها.
ج-أن المسافر إذا لم يدرك ركعة من الصلاة كاملة فهو في حكم من لم يدرك شيئاً منها، وإذا لم يدرك شيئاً من صلاة المقيم صلى ركعتين بإجماع.
وذهب بعضهم: إلى أن المسافر يقصر الصلاة سواء خلف مقيم أو غيره.
وهو قول إسحاق، والشعبي، وطاووس، وهو مذهب الظاهرية.
لحديث عائشة (أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ اَلصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ اَلسَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ اَلْحَضَرِ
…
).
فدل هذا الحديث على أن صلاة السفر هي الأصل فبمجرد السفر يثبت حكمها ما دام مسافراً فلا يتغير حكمها بالائتمام.
فائدة: 1
إذا اقتدى مسافر بمقيم ثم أفسد المسافر صلاته. (كأن ينتقض وضوءه أثناء الصلاة).
فقيل: يعيدها قصراً.
وقيل: يجب إعادتها تامة.
لأنها وجبت عليه أربعاً.
وهذا مذهب الأكثر.
فائدة: 2
إذا اقتدى مسافر بمقيم، وفي أثناء الصلاة ذكر أنه لم يتوضأ؟
فإذا أراد أن يعيدها فإنه يعيدها قصراً.
في الأولى يتم: لأن صلاته انعقدت ثم فسدت. (يعني وجبت الصلاة في ذمته تامة).
وفي الثانية يقصر: لأن صلاته لم تنعقد أصلاً. (لأنه دخل على غير وضوء).
فائدة: 3
إذا صلى المسافر خلف إمام مقيم: فعليه أن يُتم صلاته معه، إذا اتفقت الصلاتان، ولا يجوز له أن يقتصر على صلاة ركعتين.
أما إذا اختلفت الصلاتان. (كمن يصلي العشاء خلف من يصلي المغرب).
فالمأموم مخير بين أن يقتصر على صلاة ركعتين، وبين أن يتم صلاته أربعاً بعد سلام الإمام.
وقد سئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: عن رجل مسافر دخل المسجد، ووجد جماعة يصلون المغرب، وهو قد صلَّى المغرب، فصلَّى معهم بنية العشاء، ولما قام الإمام للركعة الثالثة: جلس، وتشهد، وسلم، فما حكم ذلك؟.
فأجاب:
"إذا دخل رجل مسافر قد صلَّى المغرب، فوجدهم يصلون المغرب، فدخل معهم بنية صلاة العشاء: فمِن العلماء من قال: " لا يصح دخوله؛ لاختلاف الصلاتين نية، وعملاً "، ومنهم من قال: " يصح ذلك "، فإذا قام الإمام للثالثة: أكمل الداخل التشهد، وسلَّم
من ركعتين، وهذا هو الصحيح، وله أن يقوم معه في الثالثة، ويتم العشاء أربعاً.
فائدة: 4
دلت السنة النبوية على جواز صلاة المقيم خلف المسافر، وعلى أن المقيم يتم صلاته ولا يقصرها إذا قصر إمامه المسافر.
وورد ذلك في حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه ضعف ولكنه متفق على فقهه عند المذاهب الأربعة وغيرهم.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال (غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْبَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْر) رواه أبو داود.
وروى مالك في " الموطأ " عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (كَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ! أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْر).
قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن المقيم إذا ائتم بالمسافر، وسلم المسافر من ركعتين، أن على المقيم إتمام الصلاة، وقد روي عن عمران بن حصين قال:(شهدت الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعا، فإنا سفر) رواه أبو داود.
ولأن الصلاة واجبة عليه أربعاً، فلم يكن له ترك شيء من ركعاتها كما لو لم يأتم بمسافر.
فائدة: 5
إذا شك المسافر في إمامه هل هو مسافر أو مقيم؟ فلا يخلو الأمر من حالين:
الحال الأولى: أن تكون هناك قرينة تدل على أن الإمام على سفر، مثل المساجد التي على طرق السفر، أو في المطارات، أو هيئة الإمام وما معه من متاع يدل على أنه على سفر، ففي هذه الحال للمسافر أن يقصر بناءً على تلك القرينة.
الحال الثانية: إذا لم تكن هناك قرينة دالة على أن الإمام مسافر، ففي هذه الحال يتم المسافر صلاته خلف ذلك الإمام.
جاء في (الموسوعة الفقهية) وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ مَعَ مَنْ يَظُنُّهُ مُقِيمًا، أَوْ شَكَّ فِيهِ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ وَإِنْ قَصَرَ إمَامُهُ؛ اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ لِدَلِيلٍ، فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ وَيَتْبَعَ إمَامَهُ، فَيَقْصُرَ بِقَصْرِهِ وَيُتِمَّ بِإِتْمَامِهِ " انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما الحكم عندما آتي إلى المسجد وأجد الإمام في التشهد الأخير، ودخلت معه فسلم، فلا أدري هل أتم رباعية أم قصر؟
فأجاب رحمه الله: في هذه الحال ينظر إلى ظاهر الحال، لأن ما ذكرت يحصل في بعض المساجد، يمر بها الإنسان في الطريق ويجد أناساً يصلون، أو في المطار يجد أناساً يصلون، فيشك هل هم مقيمون أم مسافرون، ينظر إلى ظاهر الحال، إذا كان ظاهر هذا الرجل أنه مسافر لكون حقيبته أمامه، وكونه لابس ملابس السفر، فيعتبر مسافراً، وإذا لم يترجح عندك شيء فأتم؛ لأن الأصل الإتمام.
(أو نوى إقامة أكثر من أربعةِ أيامٍ لزمَه أن يُتم).
أي: إذا نوى المسافر إقامة في موضع معين أكثر من أربعة أيام فإنه يتم.
فلو أقام في مكة أو في الرياض خمسة أيام أو ستة أو أكثر لزمه الإتمام.
(وهذه مسألة خلافية طويلة كبيرة).
وهذا مذهب جماهير العلماء.
وبه قال المالكية، والشافعية، والحنابلة، ورجحه الشيخ ابن باز رحمه الله.
أ-لحديث أنس، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في يوم الثامن ثم خرج إلى منى.
قالوا: فيجوز لمن كانت إقامته كإقامة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقصر الصلاة.
قالوا: وإقامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح في عام حجة الوداع معلومة البداية والنهاية.
وقالوا: إن هناك فرقاً كبيراً بين إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح وبتبوك، وبين إقامته بمكة عام حجة الوداع، ويظهر الفرق من وجهين:
أولاً: إن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وفي إقامة تبوك إقامة طارئة، وغير مقصودة من قبل، بل اقتضتها مصالح الجهاد ومتطلبات الفتح، فهي إقامة غير معلومة البداية، وغير محددة النهاية، لأن هذا السفر من أجل الجهاد ومنازلة الأعداء والكر والفر، لا من أجل المكث والإقامة، ومن المعلوم أن من كانت هذه حاله، فإنه لا يدري ما سيواجهه من أوضاع، لذا فإنه لا يصح أن يقال قد بيت الإقامة، أو أنه قد حدد موعد الرحيل، حتى تكون النهاية معلومة إذ لو فعله لنقل إلينا، وعدم نقله دليل على عدم فعله.
ثانياً: إن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام حجة الوداع تختلف عن إقامته صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وفي عام تبوك لما علم من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بعدد الأيام التي يحتاجها من أراد الرحلة من المدينة إلى مكة، لأنه صلى الله عليه وسلم قد طرقه قبل الهجرة وبعدها، كما أنه طريق قريش إلى رحلة الصيف، ثم إنه كان طريقاً آمناً عام حجة الوداع، كما أن اليوم الذي يبدأ به الحج معلوم لما عرف من أن مشروعية الحج كانت في السنة التاسعة فمشروعيته سابقة على حجة الوداع.
لهذه الأسباب كلها فإن إقامته صلى الله عليه وسلم بالأبطح قبل الحج إقامة مقصودة، وهي معلومة البداية والنهاية.
ب-واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم (يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً) رواه مسلم.
قال ابن حجر: يستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها من حكم المسافر.
وذهب بعض العلماء: إلى أن مدة الإقامة خمسة عشر يوماً، فإذا نوى إقامة خمسة عشر يوماً فأكثر امتنع عليه الترخص، وإن نوى دون ذلك ترخص.
وهذا مذهب الحنفية.
لما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا (إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوماً، أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها) رواه الطحاوي.
ويرد عليهم: أنه لا حجة في أقوال الصحابة في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح، وهذه منها.
وأيضاً فقد ثبت عن ابن عباس وابن عمر خلاف ما حكي عنهم.
وذهب بعضهم: أن مرجع ذلك إلى العرف، فإنه يقصر ولو طالت المدة ما لم يجمع الإقامة.
ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
قال رحمه الله: للمسافر القصر والفطر ما لم يجمع على الإقامة والاستيطان، والتمييز بين المقيم والمسافر نية أيام معلومة يقيمها ليس هو أمراً معلوماً لا بشرع ولا عرف.
والأحوط مذهب الجمهور.
(وإن أقامَ لقضاءِ حاجةٍ بلا نيةِ إقامةٍ قَصَرَ أبداً).
أي: أن المسافر إذا أقام مدة ولا يعرف متى ينقضي عمله، فإنه يقصر ولو طالت المدة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الْإِقَامَةَ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً، فَلَهُ الْقَصْرُ، وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ، مِثْلُ أَنْ يُقِيمَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا، أَوْ لِجِهَادِ عَدُوٍّ، أَوْ حَبَسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ مَرَضٌ، وَسَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ انْقِضَاءُ الْحَاجَةِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، أَوْ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ أَنْ يَحْتَمِلَ انْقِضَاؤُهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ مَا لَمْ يُجْمِعْ إقَامَةً، وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ سِنُونَ. (المغني).
وقال ابن تيمية: وَأَمَّا إنْ قَالَ غَدًا أُسَافِرُ أَوْ بَعْدَ غَدٍ أُسَافِرُ وَلَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال ابن القيم: وَالْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ مُتّفِقُونَ عَلَى أَنّهُ إذَا أَقَامَ لِحَاجَةٍ يَنْتَظِرُ قَضَاءَهَا يَقُولُ الْيَوْمَ أَخْرُجُ غَدًا أَخْرُجُ فَإِنّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا إلّا الشّافِعِيّ
فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فَإِنّهُ يَقْصُرُ عِنْدَهُ إلَى سَبْعَةَ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا يَقْصُرُ بَعْدَهَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي " إشْرَافِهِ " أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُقْصِرَ مَا لَمْ يُجْمِعْ إقَامَةً وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ سُنُونَ. (زاد المعاد).
أ- عَنْ اِبْنِ عَبَّاس قَالَ (أَقَامَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ - وَفِي لَفْظٍ: - بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.
ب- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ (أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ) رواه أبو داود.
ج-ولأن ذلك لا يعد لبثاً.
د- وقد ثبت عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ:(أَرْتَجَ عَلَيْنَا الثَّلْجُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي غَزَاةٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) رواه البيهقي. ومعنى أَرْتَجَ: دام وأطبق.
وصحح إسناده النووي في " خلاصة الأحكام " فقال " رواه البيهقي بإسناد صحيح على شرط الصحيحين "،
وصححه ابن الملقن في " البدر المنير "، والحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير ".
وقد استدل بهذا الأثر وما ورد بمعناه عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أن المسافر يقصر مهما طالت مدة إقامته ما دام لم ينو الإقامة في ذلك البلد واتخاذه وطناً.
وعليه نقول: أنه يصح لمن سافر وهو لا ينوي الإقامة أصلاً، ثم اقتضت أحواله أن يقيم إقامة غير محدودة النهاية، أن له الفطر ما أقام أبداً، كما هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك، وعام الفتح، فإنها تعتبر إقامة طارئة، وغير مقصودة من قبل، بل اقتضتها مصالح الجهاد، ومتطلبات الفتح، فهي إقامة غير معلومة البداية وغير محددة النهاية، ولأن هذا السفر من أجل الجهاد ومنازلة الأعداء والكر والفر (فلا تعارض بينها وبين ما ورد في حجة الوداع، فإنها إقامة مقصودة قاطعة للسفر).
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: من أقام في سفره أكثر من أربعة أيام ولم يجمع النية على الإقامة، بل عزم على أنه متى قضيت حاجته رجع؛ كمن يقيم بمكان الجهاد للعدو، أو حبسه سلطان أو مرض مثلاً، وفي نيته أنه إذا انتهى من جهاده بنصر أو صلح أو تخلص مما حبسه من مرض أو قوة عدو أو سلطان أو وجود آبق أو بيع بضاعة أو نحو ذلك فإنه يعتبر مسافراً، وله قصر الصلاة الرباعية، ولو طالت المدة؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يوما يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يوما لجهاد النصارى، وهو يصلي بأصحابه صلاة قصر، لكونه لم يجمع نية الإقامة بل كان على نية السفر إذا قضيت حاجته.
فائدة: 1
أتمّ الصلاة في السفر: عائشة، وعثمان.
أما عائشة، فقد روى البيهقي عن عروة عن عائشة (أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا ابن أختي، إنه لا يشق عليّ) وسنده صحيح.
قال الحافظ: وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل.
أما عثمان، فقد أتم في آخر خلافته ست سنوات.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَعُمَرُ بَعْدَ أَبِى بَكْرٍ وَعُثْمَانُ صَدْراً مِنْ خِلَافَتِهِ ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بَعْدُ أَرْبَعاً. فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعاً وَإِذَا صَلاَّهَا وَحْدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْن) رواه مسلم.
فائدة: 2
اختلف العلماء في سبب إتمام عثمان:
فقيل: أن الأعراب قد حجوا في تلك السنة، فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر.
ورد هذا: بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا حديثي عهد بالإسلام، والعهد بالصلاة قريب، ومع هذا فلم يُرَبِّع بهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنه كان إماماً للناس، والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته.
ورد هذا: بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك ولم يربّع.
وقيل: إنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى، واتخاذها داراً للخلافة.
وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى، فإن عثمانَ رضي الله عنه من المهاجرين الأولين، وقد مَنع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإِقامة بمكة بعد نسكهم، ورخَّص لهم فيها ثلاثة أيام فقط، فلم يكن عُثمانُ لِيقيم بها، وقد منع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك، وإنما رخَص فيها ثلاثاً وذلك لأنهم تركوها للّه، وما تُرِكَ للّه، فإنه لا يُعاد فيه، ولا يُسترجع.
وقيل: إنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا أقام في موضع، وتزوج فيه، أو كان له به زوجة، أتم، ورجح هذا ابن القيم.
لورود حديث في ذلك عند أحمد (من تأهل ببلدة، فإنه يصلي صلاة مقيم).
ورجح هذا ابن القيم وقال: وهذا أحسن ما اعتُذِر به عن عثمان.
ورد هذا الحافظ ابن حجر، فقال: فهذا الحديث لا يصح، لأنه منقطع، وفي رواته من لا يحتج به، ويرده قول عروة: إن عائشة تأولت ما تأول عثمان.
والراجح ما قاله الشنقيطي في أضواء البيان، حيث قال: الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن أحسن ما يعتذر به عن عثمان وعائشة في الإتمام في السفر، أنهما فهما من بعض النصوص أن القصر في السفر رخصة، كما ثبت في صحيح مسلم، أنه صدقة تصدق الله بها، وأنه لا بأس بالإتمام لمن لا يشق عليه ذلك كالصوم في السفر.
فائدة: 3
من قصد السفر إلى إحدى المدن، ثم بدا له أثناء الطريق الرجوع إلى بلده، فله حالان:
الأولى:
أن تكون المسافة من المكان الذي نوى فيه الرجوع إلى بلده تساوي مسافة القصر فأكثر، ففي هذه الحال يترخص برخص السفر في طريق رجوعه حتى يدخل مدينته.
الثانية:
أن تكون المسافة من المكان الذي نوى فيه الرجوع إلى بلده لا تساوي مسافة القصر، ففي هذه الحال لا يترخص برخص السفر في طريق رجوعه؛ لأنه في حال رجوعه يعدُّ قد أنشأ سفراً جديداً، فلا يقصر إلا إن كانت المسافة تساوي مسافة القصر، وهي (80) كم.
قال ابن قدامة: فَلَوْ خَرَجَ يَقْصِدُ سَفَرًا بَعِيدًا، فَقَصَرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ، كَانَ مَا صَلَّاهُ مَاضِيًا صَحِيحًا، وَلَا يَقْصُرُ فِي رُجُوعِهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ الرُّجُوعِ مُبِيحَةً بِنَفْسِهَا،
نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا.
…
(المغني).
باب الجمع
الجمع: هو ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى، والصلاتين التي يصح جمعهما: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
(يجوز الجمع بين الظهرين، وبين العشاءين في وقت إحداهُما في سفر قصر).
أي: يجوز في السفر بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
والجمع ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قسم متفق عليه بين العلماء، وهو الجمع بعرفة ومزدلفة.
قال ابن عبد البر: وقد أجمع المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة.
عن جابرٍ رضي الله عنه في صِفة حَجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم (ثم أذَّن، ثمَّ أقام فصلَّى الظُّهرَ، ثمَّ أقام فصلَّى العصرَ، ولم يُصلِّ بينهما شيئًا
…
حتى أتى المزدلفةَ، فصلَّى بها المغربَ والعِشاءَ بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يُسبِّحْ بينهما شيئاً) رواه مسلم.
القسم الثاني: مختلف فيه، وهو الجمع للسفر.
وقد اختلف العلماء فيه:
القول الأول: لا يجوز الجمع مطلقاً في غير عرفات ومزدلفة.
وهذا قول أبي حنيفة.
قال الحافظ: وقال قوم لا يجوز الجمع مطلقاً إلا بعرفة ومزدلفة، وهو قول الحسن، والنخعي، وأبي حنيفة وصاحبيه.
أ-لقوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) أي لها وقت معين له ابتداء فلا يجوز التقدم عليه، وانتهاء فلا يجوز التأخر عنه.
ب-ولقوله تعالى (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات) أي في أوقاتها.
وحملوا الروايات التي فيها الجمع في السفر على الجمع الصوري، وهو أنه أخر المغرب مثلاً إلى آخر وقتها، وعجل العشاء في أول وقتها.
القول الثاني: جواز الجمع تقديماً وتأخيراً.
وهذا قول الجمهور.
قال في المغني: وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال الخطابي: وقال كثير من أهل العلم: يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما، إن شاء قدم العصر، وإن شاء أخر الظهر على ظاهر الأخبار المروية في هذا الباب، وهذا قول ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وسالم بن عبد الله، وطاوس، ومجاهد.
وبه قال الفقهاء: الشافعي، وإسحاق، وقال أحمد بن حنبل: وإن فعل لم يكن به بأس.
وقال البغوي: فذهب كثير من أهل العلم إلى جوازه.
وقال في نيل الأوطار: ذهب إلى جوازه كثير من الصحابة والتابعين.
وقال البيهقي: الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة ما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
فهو قول الشافعي وأحمد.
أ-لحديث أَنَس قال (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اِرْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ اَلشَّمْسُ أَخَّرَ اَلظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ اَلْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتْ اَلشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى اَلظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وهذا الحديث بهذا السياق (صلى الظهر ثم ركب) يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع بين الصلاتين في وقت الأولى جمع تقديم، وإنما في وقت الثانية.
ب- وعنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِّي اَلظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ج- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ) رواه البخاري.
د- وعن ابن عمر قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْر) متفق عليه.
هـ-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في عرفة ومزدلفة.
و-وعن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته) رواه مسلم.
القول الثالث: أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم.
وهذا مذهب مالك، واختاره ابن حزم.
لحديث أنس السابق.
وأما جمع التقديم فلم يصح فيه حديث.
فحديث أنس السابق فيه (صلى الظهر ثم ركب).
والقول الراجح مذهب الجمهور، وهو جواز الجمع تقديماً وتأخيراً.
وأما الجواب عن أدلة أصحاب القول الأول. (أن المقصود الجمع الصوري).
قال ابن قدامة: فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْأَخْبَارِ أَنْ يُصَلِّيَ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَالْأُخْرَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا.
قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْخَبَرُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُهُمَا فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلِقَوْلِ أَنَسٌ: أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِين يَغِيبَ الشَّفَقُ.
فَيَبْطُلُ التَّأْوِيلُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ، فَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ أَشَدِّ ضِيقًا، وَأَعْظَمِ حَرَجًا مِنْ الْإِتْيَانِ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَوْسَعُ مِنْ مُرَاعَاةِ طَرَفَيْ الْوَقْتَيْنِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ وَقْتِ الْأُولَى إلَّا قَدْرُ فِعْلِهَا. (المغني).
وقال الخطابي: بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة.
وقال في الفتح مؤيداً لما قاله الخطابي: وأيضاً فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين، وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع.
وأما الجواب عن أصحاب القول الثالث: (لم يصح حديث في جمع التقديم):
فالجواب: أنه صح التقديم في عرفات كما في صحيح مسلم، وصح أيضاً في الحضر كما في حديث ابن عباس السابق (جمع بين
…
من غير خوف ولا مطر) وإذا صح جمع التقديم في الحضر ففي السفر من باب أولى.
• تنبيه:
ذهب بعض العلماء: إلى أن الجمع خاص بمن جدّ به السير.
لحديث ابن عمر السابق (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السير).
وذهب الأكثر إلى جوازه للجادّ بالسير والمقيم.
لحديث مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِّي اَلظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) رَوَاهُ مُسْلِم
وتستفاد دلالته على جمع النازل من أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث في تبوك عشرين ليلة.
وقد رواه مالك ومن طريقه مسلم ولفظه (
…
حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا).
وهذا يدل على أنه جمع وهو نازل غير سائر.
قال ابن قدامة: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ، وَأَقْوَى الْحُجَجِ، فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ وَهُوَ نَازِلٌ غَيْرُ سَائِرٍ، مَاكِثٌ فِي خِبَائِهِ، يَخْرُجُ فَيُصَلِّي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إلَى خِبَائِهِ.
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ: فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا.
وَالْأَخْذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ (مُتَعَيَّنٌ)؛ لِثُبُوتِهِ وَكَوْنِهِ صَرِيحًا فِي الْحُكْمِ، وَلَا مُعَارِضَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِحَالَةِ السَّيْرِ، كَالْقَصْرِ وَالْمَسْحِ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ التَّأْخِيرُ، لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالِاحْتِيَاطِ، وَخُرُوجٌ مِنْ خِلَافِ الْقَائِلِينَ بِالْجَمْعِ، وَعَمَلٌ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا. (المغني).
قال الشيخ ابن عثيمين: الأفضل للمسافر النازل أن لا يجمع، وإن جمع فلا بأس، وفي حق السائر مستحب.
• قوله (بين الظهرين، وبين العشاءين) فلا يجمع إلا بين الظهرين، أو العشاءين.
وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء.
قال ابن عبد البر: أجمع المسلمون على أنه ليس لمسافر، ولا مريض، ولا في حال المطر، يجمع بين الصبح والظهر، ولا بين العصر والمغرب، ولا بين العشاء والصبح، وإنما الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء.
وقال النووي: ولا يجوز جمع الصبح إلى غيرها، ولا المغرب إلى العصر بالإجماع.
• قوله (بين الظهرين: الظهر والعصر) يدل على أن الجمعة لا تجمع مع العصر.
وهذا مذهب الحنابلة.
أ- لعدم ورود الدليل على ذلك، والأصل في العبادات المنع.
ب- لا قياس في العبادات، فلا تقاس الجمعة على الظهر.
ج- الجمعة صلاة مستقلة، وتفترق عن الظهر بأحكام كثيرة.
د- وقوع المطر الذي فيه مشقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أنه جمع فيه بين العصر والجمعة، كما في قصة الأعرابي الذي قام - والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر - وطلب الدعاء بالمطر فنزل وتوالى حتى الجمعة القادمة.
قال الشيخ ابن عثيمين: لا يجوز جمع العصر إلى الجمعة في الحال التي يجوز فيها الجمع بين الظهر والعصر.
فلو مر المسافر ببلد وصلى معهم الجمعة لم يجز أن يجمع العصر إليها.
ولو نزل مطر يبيح الجمع - وقلنا بجواز الجمع بين الظهر والعصر للمطر - لم يجز جمع العصر إلى الجمعة. ولو حضر المريض الذي يباح له الجمع إلى صلاة الجمعة فصلاها لم يجز أن يجمع إليها صلاة العصر.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز الجمع بين الجمعة والعصر.
أ- لأن معنى الجمع بين الصلاتين هو وضع إحداهما في وقت الأخرى، وهذا حاصل بالجمعة، ووقت الجمعة لم يتغير وإنما قدمنا العصر، ولا فرق بين عصر السبت والخميس وبين عصر الجمعة في جواز نقل صلاة العصر إلى وقت الصلاة التي قبلها.
ب- خفف الله عن المسافر فلم يوجب عليه صلاة الجمعة، وجعل السفر أحد الأعذار المسقطة لوجوبها عليه، ومع ذلك تصح منه إذا حضرها، تيسيراً من الله ورحمة، فكيف يشدد عليه بمنعه من جمع صلاة العصر معها.
ج- اتحاد الوقت بين صلاتي الظهر والجمعة على الصحيح من أقوال أهل العلم، والمعول في الجمع على الوقت.
د- إذا وجدت علة الجمع وجد الحكم معها، والشارع لا يفرّق بين المتماثلات، كما أنه لا يجمع بين المختلفات، فما الفرق بين جمع الجمعة مع العصر وجمع الظهر مع العصر إذا استويا في المشقة أو كانت المشقة في يوم الجمعة أشد. والله أعلم.
(ولمريضٍ يلحقُه بتركهِ مشقةٍ).
أي: ومن أسباب الجمع إذا كان الإنسان مريضاً يلحقه بترك الجمع مشقة وضَعف.
وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة وهي التي ينزل منها الدم في غير أيام عادتها، رخص لها أن تجمع بين الصلاتين.
عن حَمْنةَ بِنتِ جَحشٍ رضي الله عنها (أنَّها استفتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الاستحاضةِ، فقال لها: فإن قَويتِ على أنْ تُؤخِّري الظُّهرَ، وتُعجِّلي العَصرَ، فتَغتسلينَ وتَجمعينَ بين الصَّلاتينِ، فافعلي) رواه أبو داود.
والاستحاضة نوع مرض.
واحتج الإمام أحمد على جواز الجمع بين الصلاتين للمريض بأن المرض أشد من السفر، واحتجم بعد الغروب ثم تعشى ثم جمع بين صلاتي المغرب والعشاء. (كشاف القناع).
قال ابن قدامة: وَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْمَرَضِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ أَخْبَارَ التَّوْقِيتِ ثَابِتَةٌ، فَلَا تُتْرَكُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ.
وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ (جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ) وَفِي رِوَايَةٍ (مِنْ
غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَر) رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ لِمَرَضٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا عِنْدِي رُخْصَةٌ لِلْمَرِيضِ وَالْمُرْضِعِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ، وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، لَمَّا كَانَتَا مُسْتَحَاضَتَيْنِ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ وَتَعْجِيلِ الْعَصْرِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، فَأَبَاحَ لَهُمَا الْجَمْعَ لِأَجْلِ الِاسْتِحَاضَةِ.
وَأَخْبَارُ الْمَوَاقِيتِ مَخْصُوصَةٌ بِالصُّوَرِ الَّتِي أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فِيهَا، فَيُخَصُّ مِنْهَا مَحَلُّ النِّزَاعِ بِمَا ذَكَرْنَا. (المغني).
قال ابن تيمية: والقصر سببه السفر خاصة، لا يجوز في غير السفر. وأما الجمع فسببه الحاجة والعذر، فإذا احتاج إليه جمع في السفر القصير والطويل، وكذلك الجمع للمطر ونحوه، وللمرض ونحوه، ولغير ذلك من الأسباب؛ فإن المقصود به رفع الحرج عن الأمة.
(وبين العشاءين لمطرٍ يَبُلّ الثياب ووَحَلٍ).
أي: ومن الأعذار التي تبيح الجمع وجود المطر الذي يبل الثياب، ووجود الوحل.
قال ابن قدامة: وَالْمَطَرُ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ هُوَ مَا يَبُلُّ الثِّيَابَ، وَتَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ بِالْخُرُوجِ فِيهِ، وَأَمَّا الطَّلُّ وَالْمَطَرُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَبُلُّ الثِّيَابَ، فَلَا يُبِيحُ، وَالثَّلْجُ كَالْمَطَرِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ الْبَرَد.
ثم قال ابن قدامة: وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَفَعَلَهُ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَلَنَا، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَ: إنَّ مِنْ السُّنَّةِ إذَا كَانَ يَوْمٌ مَطِيرٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ نَافِعٌ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَجْمَعُ إذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: رَأَيْتُ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ؛ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَيُصَلِّيَهُمَا مَعَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ،، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَا يُنْكِرُونَهُ.
وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا.
…
(المغني).
وقد روى مسلم في صحيحه: عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ، قَالَ قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ كَيْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ)، وفي رواية (فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفر).
قال الشيخ ابن باز: فدل ذلك على أنه قد استقر عند الصحابة أن الخوف والمطر عذر في الجمع كالسفر.
جاء في (الموسوعة الفقهية) ذهب جمهور الفقهاء من لمالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز الجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر المبلل للثياب والثلج والبرد.
لما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً)، وزاد مسلم:(من غير خوف ولا سفر)، قال كل من الإمام مالك والشافعي رحمهما الله: أرى ذلك بعذر المطر، ولأنه ثبت أن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كانا يجمعان بسبب المطر. (الموسوعة).
• هل يشمل هذا العذر لمن يصلي منفرداً أو كان معذوراً عن حضور الجماعة؟
قيل: نعم.
هذا المذهب.
فيجوز الجمع مع هذه الأعذار حتى لمن يصلي في بيته، أو في مسجد طريقه تحت ساباط.
قال البهوتي: فيباح الجمع مع هذه الأعذار (حتى لمن يصلي في بيته، أو) يصلي (في مسجد طريقه تحت ساباط، ولمقيم في المسجد ونحوه)، كمن بينه وبين المسجد خطوات يسيرة، (ولو لم ينله إلا يسير)؛ لأن الرخصة العامة يستوي فيها وجود المشقة وعدمها
كالسفر.
…
(كشاف القناع).
وجاء في (الموسوعة الفقهية) والأرجح عند الحنابلة: أن الرخصة عامة، فلا فرق بين من يصلي جماعة في مسجد، وبين غيره ممن يصلي في غير مسجد أو منفرداً; لأنه قد روي:(أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المطر وليس بين حجرته والمسجد شيء)، ولأن العذر إذا وجد استوى فيه وجود المشقة وغيره " انتهى.
قال ابن قدامة: لِأَنَّ الْعُذْرَ إذَا وُجِدَ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِهَا، كَالسَّفَرِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ إذَا وُجِدَتْ أَثْبَتَتْ الْحُكْمَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَة.
…
(المغني).
وقيل: لا يجوز.
لِأَنَّ الْجَمْعَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ، دُونَ مَنْ لَا تَلْحَقُهُ؛ كَالرُّخْصَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، يَخْتَصُّ بِمَنْ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ، دُونَ مِنْ لَا تَلْحَقُهُ، كَمَنْ فِي الْجَامِعِ وَالْقَرِيبِ مِنْهُ. (المغني).
قال النووي: ثم هذه الرخصة لمن يصلي جماعة في مسجد يأتيه من بُعدٍ ويتأذى بالمطر في إتيانه، فأما من يصلي في بيته منفردًا أو في جماعة
…
فلا يجوز الجمع على الأصح.
وهذا الراجح، أنه لا يجوز.
• قوله (وبين العشاءين لمطرٍ
…
) دليل على أنه لا يجوز الجمع بين الظهرين من أجل المطر.
وهذا المذهب.
قال ابن قدامة: فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ.
قَالَ: الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْمَطَرِ؟ قَالَ: لَا، مَا سَمِعْت.
وَهَذَا (اخْتِيَارُ) أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ حَامِدٍ، وَقَوْلُ مَالِك.
وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ الظُّلْمَةِ وَالْمَضَرَّةِ، وَلَا الْقِيَاسُ عَلَى السَّفَرِ؛ لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ لِأَجْلِ السَّيْرِ وَفَوَاتِ الرُّفْقَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا.
…
(المغني).
وذهب بعض العلماء: إلى جواز الجمع بين الظهرين لهذا السبب.
وهذا قول الشافعية، واختاره ابن تيمية.
أ-لحديث ابن عباس السابق (جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِى غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ).
وجه الدلالة من وجهين:
الأول: أنه إذا ثبت الجمع منه صلى الله عليه وسلم في المدينة، لسبب غير الخوف والمطر، فالجمع لهذه الأمور أولى، لأنه إذا جمع ليرفع الحرج من غير خوف ولا مطر، فالحرج الحاصل بالمطر أولى أن يرفع، والجمع له أولى من الجمع لغيره.
الثاني: أن في نفي ابن عباس للخوف والمطر دليلاً على أن هذه الأسباب مما استقر عندهم جواز الجمع لها.
ب- وقالوا: إن المعنى الشرعي للجمع هو الترفق ودفع المشقة، يوجد في صلاة الليل والنهار.
وهذا القول هو الراجح.
-الخلاصة: يشترط لجمع التقديم في المطر ما يلي:
أ- أن يكون المطر كثيراً.
بحيث يبُلُّ الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه.
ومثلُ المطر عند الحنابلة والمالكية: الثلجُ، والبرَدُ، والطينُ الملوِّث، والريح الشديدة؛ لأنها كلها في معنى واحد من حيث المشقة والمضرَّة.
ب- استدامة المطر ونحوه.
وذلك في أول الصلاتين المجموعتين، وعند السلام من الأولى، ومتى زال العذر في أحد هذه الأوقات الثلاثة لم يجز الجمع عند الحنابلة والمالكية والشافعية، فإن زال أثناء الصلاة الأولى ثم عاد أو انقطع بعد الإحرام بالثانية، صح الجمع ولم يؤثِّر انقطاعه لوجود العذر في هذه الأوقات الثلاثة، المرتبطة بالنية غالباً.
ج- أداء الصلاة جماعة في المسجد.
وقد تقدم هذا، حيث اشترط بعض الفقهاء أن تقام الصلاة في المسجد جماعة، وقال آخرون منهم الحنابلة في أحد قوليهم: يجوز الجمع للمنفرد لوجود العذر، وذلك كالسفر، حيث يجوز للمسافر المنفرد الجمع بين الصلاتين.
د-أن يكون الجمع تقديماً:
لا يجوز عند الحنابلة جمع الصلاتين تأخيراً لأجل المطر؛ لأنه ربما انقطع المطر فيكون قد أخَّر الصلاة الأولى عن وقتها بغير عذر، وهذا قول المالكية والشافعية أيضاً، وذكروا أن فائدة الجمع هو تحصيل فضل الجماعة.
فائدة:
كون الجو غائماً من غير نزول للمطر لا يعتبر عذراً شرعياً يبيح الجمع لأجل المطر، ومن أجاز الجمع من الفقهاء لأجل المطر - وهم الحنابلة، والشافعية - إنما أجازوه بشروط، منها: وجود المطر عند افتتاح الأولى، فإذا لم يوجد فلا جمع.
ومنهم من يشترط وجوده أيضاً عند افتتاح الثانية.
• قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في مجموع فتاواه: وهنا سؤالان:
الأول: إذا كانت السماء غائمة ولم يكن مطر ولا وحل، ولكن المطر متوقع فهل يجوز الجمع؟
الجواب: أنه لا يجوز الجمع في هذه الحال؛ لأن المتوقع غير واقع، وكم من حال يتوقع الناس فيها المطر لكثافة السحاب ثم يتفرق ولا يمطر.
الثاني: إذا كان مطر ولكن شكنا هل هو مطر يبيح الجمع أو لا؟
والجواب: أنه لا يجوز الجمع في هذه الحال؛ لأن الأصل وجوب فعل الصلاة في وقتها فلا يعدل عن الأصل إلا بيقين العذر؟
فائدة: الجمع في المطر يكون جمع تقديم.
قال ابن تيمية: الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم في وقت المغرب.
وقال ابن قدامة: فَأَمَّا الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ فَإِنَّمَا يَجْمَعُ فِي وَقْتِ الْأُولَى، لِأَنَّ السَّلَفَ إنَّمَا كَانُوا يَجْمَعُونَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ يُفْضِي إلَى لُزُومِ الْمَشَقَّةِ، وَالْخُرُوجِ فِي الظُّلْمَةِ، أَوْ طُولِ الِانْتِظَارِ فِي الْمَسْجِدِ إلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ لِلْمَغْرِبِ، فَإِذَا حَبَسَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، كَانَ أَشَقَّ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، وَرُبَّمَا يَزُولُ الْعُذْرُ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الْأُولَى، فَيَبْطُلُ الْجَمْعُ وَيَمْتَنِعُ، وَإِنْ اخْتَارُوا تَأْخِيرَ الْجَمْعِ، جَازَ.
(والأفضلُ فِعلُ الأرفق به من تأخير وتقديم).
أي: الأفضل لمن يباح له الجمع فعل الأرفق به من تأخير وتقديم.
أ-لقوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر).
ب-والجمع إنما شرع رفقاً بالمكلف، فما كان هو أرفق فهو أفضل.
فائدة: ما الحكم إذا تساوى الأمران عند الإنسان أي تساوى عنده جمع التقديم والتأخير فأيهما أفضل؟
الأفضل هنا التأخير، لأن التأخير غاية ما فيه تأخير الأولى عن وقتها، والصلاة بعد وقتها جائزة مجزئة.
أما التقديم ففيه صلاة الثانية قبل دخول وقتها، والصلاة قبل دخول الوقت لا تصح ولو جهلاً.
(فإنْ جمعَ في وقت الأولى اشتُرطَ نيةُ الجمع عند إحرامِهَا).
أي: من شروط الجمع: أن ينوي عند افتتاح الأولى.
مثال: دخل في الصلاة الأولى وهو لا ينوي الجمع، ثم في أثناء الصلاة بدا له أن يجمع.
مثال آخر: إنسان صلى الأولى، وبعدما سلم نوى الجمع. اختلف العلماء، هل يصح أم لا؟
القول الأول: لا يصح الجمع.
وهذا مذهب المالكية، والحنابلة فلا بد من نية الجمع.
أ-لحديث عمر. قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).
وجه الدلالة: أن الصلاة الثانية تفعل في وقت الأولى جمعاً، وقد تفعل سهواً فلا بد من نية تميزها.
القول الثاني: لا يشترط للجمع نية.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ورجحه النووي وابن حجر.
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جمع بأصحابه لم يعلمهم بأنه سيجمع قبل الدخول، بل لم يكونوا يعلمون أنه سيجمع حتى قضى الصلاة الأولى.
قال ابن تيمية: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلي بأصحابه جمعاً وقصراً لم يكن يأمر أحداً منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين من غير جمع، ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلي العصر بعدها، ثم صلى بهم العصر، ولم يكونوا نووا الجمع، وهذا جمع تقديم.
فهذا القول هو الراجح أنه لا يشترط نية الجمع عند إحرام الأولى، والذي يشترط هو وجود سبب الجمع عند الجمع.
(ولا يُفرِّقَ بينَهما إلا بقدْرِ إقامةٍ ووضوءٍ خفيف).
هذا الشرط الثاني من شروط الجمع: وهو الموالاة: بأن لا يفرق بين الصلاة تفريقاً كثيراً.
واختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يشترط الموالاة بين الصلاتين في جمع التقديم.
وهذا قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.
قالوا: بأن الجمع يصيّر الصلاتين المجموعتين كالصلاة الواحدة، فلا يجوز التفريق بينهما، كما لا يجوز التفريق بين ركعات الصلاة الواحدة.
القول الثاني: لا يشترط.
واختاره ابن تيمية.
فيجوز مثلاً أن يصلي الظهر، ثم يتوضأ ويستريح، ثم يصلي العصر.
قالوا: لأن الجمع هو من باب ضم الصلاة إلى الأخرى في الوقت لا في الفعل، فإذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً.
والأحوط القول الأول.
(ويرتّب بينهما).
بأن يبدأ بالأولى ثم الثانية.
أ-لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ب-ولأن الشرع جاء بترتيب الأوقات والصلوات، فوجب أن تكون كل صلاة في المحل الذي رتبها الشارع فيه.
(وإنْ جمعَ في وقت الثانيةِ: اشتُرطَ نية الجمع في وقت الأولى).
أي: يشترط لمن أراد أن يجمع تأخير: أن ينوي الجمع في وقت الأولى.
لأنه متى أخرها عن وقتها بلا نية صارت قضاءً لا جمعاً.
(واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية).
هذا الشرط الثاني من شروط جمع التأخير: وهو استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية منهما.
لأن المُجوّز للجمع العذر، فإذا لم يستمر وجب أن لا يُجوّز لزوال المقتضي، كالمريض يبرأ، والمسافر يقدَم.
مثال: رجل مسافر نوى جمع التأخير، ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج وقت الأولى.
لا يجوز له أن يجمع الأولى إلى الثانية، لأن العذر انقطع وزال، فيجب أن يصليها في وقتها.
فائدة: 1
أن الصلاة في الجمع تصلى بأذان واحد وإقامتين. [وسبقت المسألة]
فائدة: 2
رجل مسافر نوى جمع التأخير، ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج وقت الأولى.
لا يجوز له أن يجمع الأولى إلى الثانية، لأن العذر انقطع وزال، فيجب أن يصليها في وقتها.
فائدة: 3
عن ابن عباس قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا سفر، قال سعيد بن جبير: (قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته).
وفي رواية: (ولا مطر) اختلف العلماء، ما سبب الجمع في هذا؟
قيل: جمع بعذر المطر.
قال النووي: وهذا ضعيف بالرواية الأخرى: (من غير خوف ولا مطر).
وقيل: إنه كان في غيم، فصلى الظهر ثم انكشف الغيم وبان وقت العصر دخل فصلاها.
قال النووي: وهذا أيضاً باطل، لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر، لا احتمال فيه في المغرب والعشاء.
ومنهم من تأوله: على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه، فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلاها، فصارت صلاته صورة جمع.
قال النووي: وهذا أيضاً ضعيف أو باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي ضعفه استحسنه القرطبي، ورجحه قبله إمام الحرمين، وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوي، وقواه ابن سيد الناس.
ورجحه الحافظ ابن حجر.
وقيل: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار.
وهذا قول أحمد بن حنبل، واختاره الخطابي، وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث.
باب صلاة الخوف
الخوف ضد الأمن، والمراد بهذا الباب: كيفيتها، والأصل في مشروعيتها قوله تعالى (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
…
) الآية، وأول غزوة صلاها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي غزوة عُسفان وكانت قبل خيبر.
ومشروعية صلاة الخوف تخفيف من الله تعالى على عباده ورحمة بهم، وتحصيل لمصلحتي الصلاة في وقتها جماعة، وأخذ الحذر من العدو، وهذا يدل على أهمية صلاة الجماعة، وكمال دين الإسلام بأخذ الحذر وتفويت الفرصة على الأعداء.
(وتجوز صلاة الخوف على كل صفة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم
-).
هذه قاعدة في كل عبادة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم على صفات متعددة، وهذا قول أصحاب الحديث كأحمد وغيره.
فمن صفات صلاة الخوف:
ما جاء في حديث صالح بن خوات:
عن صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، (عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ اَلرِّقَاعِ صَلَاةَ اَلْخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَلَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ اَلْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ اِنْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ اَلْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ اَلطَّائِفَةُ اَلْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمْ اَلرَّكْعَةَ اَلَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وهذه الصفة تكون إذا كان العدو في غير اتجاه القبلة.
وهذا الحديث اختاره الإمام أحمد رحمه الله لأنه أشبه بكتاب الله وأحوط بجند الله وأسلم للصلاة من الأفعال، وهذه صلاته صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع.
صفة هذه الصلاة: يقسم الإمام الجند طائفتين، طائفة تصلي معه، وأخرى تحرس المسلمين عن هجوم العدو، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة، ثم إذا قام إلى الركعة الثانية أتموا لأنفسهم (والإمام قائم) ثم يذهبون ويقفون أمام العدو، وتأتي الطائفة التي كانت تحرس وتدخل مع الإمام في الركعة الثانية، فيصلي بهم الركعة التي بقيت له، ثم يجلس للتشهد قبل أن يسلم الإمام تقوم الطائفة الثانية وتكمل الركعة التي بقيت لها وتدرك الإمام في التشهد فيسلم بهم.
هذه هي الصفة الموافقة لظاهر القرآن، لقوله تعالى:
(وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا).
(وإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ) أي: في حال مواجهتهم الكفار في القتال. (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي: أردت أن تصلي بهم إماماً.
(فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) أي: يصلون، وطائفة قائمة بإزاء العدو، كما يدل عليه سياق الآيات. (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي: وليحملوها في الصلاة. (فَإِذَا سَجَدُوا) أي: أكملوا صلاتهم، وعبر بالسجود عن الصلاة، لأنه ركن فيها، بل هو أعظم أركانها، وبه تنتهي الركعة. (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ) أي: من خلفكم تجاه العدو. (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا) أي: تدخل معك في الصلاة أولاً، لكونهم أمام العدو. (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) أي: ما بقي من صلاتك، وهو ركعة بعد انصراف الطائفة الأولى، وهذا دليل على أن الإمام يبقى (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) أي: وليأخذوا تيقظهم واحترازهم مع أسلحتهم، لما عسى أن يحدث من العدو.
من شرط تطبيق هذه الصفة: أن تكون الطائفة التي في وِجَاه العدو قادرة على حفظ الطائفة التي تصلي.
خالفت هذه الصفة صلاة الأمن من أوجه:
أ-انفراد الطائفة الأولى عن الإمام قبل سلامه، لكنه لعذر.
ب-الطائفة الثانية قضت ما فاتها قبل سلام الإمام.
ج- تطويل القيام في الركعة الثانية عن الأولى.
د- تطويل التشهد.
قال بعض العلماء: ولو فعل هذه الصفة والعدو اتجاه القبلة لجاز، ولكن الصحيح أنها لا تجوز، ولذلك لأن الناس يرتكبون فيها ما لا يجوز بلا ضرورة.
ومنها ما جاء في حديث جابر:
عَنْ جَابِرٍ قَالَ (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ اَلْخَوْفِ، فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ: صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اَلْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ اَلرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ اِنْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ اَلَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ اَلصَّفُّ اَلْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ اَلْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى اَلسُّجُودَ، قَامَ اَلصَّفُّ اَلَّذِي يَلِيهِ
…
) فَذَكَرَ اَلْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ: (ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ اَلصَّفُّ اَلْأَوَّلُ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ اَلصَّفُّ اَلثَّانِي، ثُمَّ تَأَخَّرَ اَلصَّفُّ اَلْأَوَّلِ وَتَقَدَّمَ اَلصَّفُّ اَلثَّانِي
…
) فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَفِي آخِرِهِ: (ثُمَّ سَلَّمَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
فهذه الصفة التي في هذا الحديث إذا كان العدو في جهة القبلة، وصفتها:
أن يصف القائد الجيش صفين فيصلي بهم جميعاً يكبر ويركع ويرفع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف الأول وبقي الصف الثاني واقفاً يحرس، فإذا قام الإمام والصف الأول من السجود سجد الصف الثاني، فإذا قاموا من السجود تقدموا في مكان الصف الأول
وتأخر الصف الأول إلى مكانهم فيركع الإمام بهم جميعاً ويرفع بهم ثم يسجد هو والصف الذي يليه، فإذا جلسوا للتشهد سجد الصف المتأخر ثم سلم بهم جميعاً.
• يشترط للصلاة على هذا الوجه أن لا يخافوا كميناً يأتي من خلف المسلمين، وأن لا يخفى بعض الكفار على المسلمين فإن خافوا كميناً، أو خفي بعضهم عن المسلمين صلى على غير هذا الوجه كما لو كانوا في غير جهة القبلة.
ومنها: ما جاء في حديث ابن عمر:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَة) متفق عليه.
ومنها: أن يصلي بكل طائفة صلاة.
عَنْ جَابِرٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِآخَرِينَ أَيْضًا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ) رواه النسائي.
وقد رواه مسلم لكن لم يذكر السلام بعد الركعتين الأوليين، فظن بعض الفقهاء - ومنهم ابن قدامة - أن هذه صفة خامسة.
لكن الصحيح أن رواية مسلم المراد صلى بالطائفة الأولى ركعتين، ثم سلم كما جاء في رواية النسائي ورواية أبي داود.
فائدة: 1
قال بعض العلماء: إن صلاة الخوف خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم
-.
وهو قول أبو يوسف والمزني، لقوله تعالى (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) حيث وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب جمهور العلماء: إلى أن حكمها باق بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قدامة: جمهور الفقهاء متفقون على أن حكمها باقٍ بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أن ما ثبت في حقه صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته ما لم يقم دليل على اختصاصه، ولا يكفي تخصيصه بالخطاب لتخصيصه بالحكم، إذ أن أحكاماً كثيرة خص فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب، والحكم عام له ولأمته، كما في قوله تعالى:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)، وكما ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم صلوها بعد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الكيفية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها عليها.
وقال القرطبي في قوله (وإذا كنت فيهم
…
) وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، وهذا قول كافة العلماء. (التفسير).
وقال القرطبي في المفهم: وذهب أبو يوسف إلى أنه لا تغيير في الصلاة لأجل الخوف اليوم، وإنما كان التغيير المروي في ذلك، والذي دل عليه القرآن، خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، مستدلاًّ بخصوصية خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة)، قال: فإذا لم يكن فيهم لم تكن صلاة الخوف. وهذا لا حجة فيه لثلاثة أوجه:
أحدها: أنا قد أمرنا باتباعه، والتأسِّي به، فيلزم اتباعه مطلقًا؛ حتى يدلّ دليل واضح على الخصوص، ولا يصلح ما ذكره دليلاً على ذلك، ولو كان مثل ذلك دليلاً على الخصوصية؛ للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ يلزم أن تكون الشريعة قاصرةً على من خوطب بها. لكن قد تقرر بدليل إجماعي؛ أن حُكْمَه على الواحد حُكمه على الجماعة.
وثانيها: أنه قد قال صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وثالثها: أن الصحابة رضي الله عنهم اطَّرحوا توهُّم الخصوص في هذه الصلاة، وعَدَّوهُ إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، فلا يُلتفت إلى قول من ادعى الخصوصية.
وهذا القول هو الراجح.
فائدة: 2
الحكمة من صلاة الخوف:
أولاً: تخفيف الله على عباده ورحمته بهم.
ثانياً: تحصيل مصلحة الصلاة في وقتها.
ثالثاً: أخذ الحذر والحيطة من العدو.
فائدة: 3
جمهور العلماء إن أول ما صليت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع.
واختلفوا متى كانت:
فقال كثير من أهل السير وابن عبد البر وغيرهما: إنها كانت بعد بني النضير والخندق في جمادى الأولى سنة أربع.
وقال البخاري: بعد خيبر في السنة السابعة، ورجحه الإمام ابن القيم والحافظ.
فائدة: 4
النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الخوف في غزوة الخندق.
فقيل: نسياناً، وقيل: لتعذر الطهارة، وقيل: لأنه كان مشغولاً بالقتال.
والصحيح أنه أخّرها عمداً، لأنه كانت قبل نزول صلاة الخوف، وإلى هذا ذهب الجمهور، كما قال ابن رشد، وبه جزم ابن القيم، والحافظ ابن حجر.
•
فائدة: اختلف العلماء في حكم تأخير الصلاة عن وقتها في شدة الحرب على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز أن يؤخرها بل يصلي في وقتها.
وهذا قول الجمهور.
قال النووي: وَأَمَّا تَأْخِير النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَلَاة الْعَصْر حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس فَكَانَ قَبْل نُزُول صَلَاة الْخَوْف. قَالَ الْعُلَمَاء: يَحْتَمِل أَنَّهُ أَخَّرَهَا نِسْيَانًا لَا عَمْدًا وَكَانَ السَّبَب فِي النِّسْيَان الِاشْتِغَال بِأَمْرِ الْعَدُوّ، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَخَّرَهَا عَمْدًا لِلِاشْتِغَالِ بِالْعَدُوِّ، وَكَانَ هَذَا عُذْرًا فِي تَأْخِير الصَّلَاة قَبْل نُزُول صَلَاة الْخَوْف، وَأَمَّا الْيَوْم فَلَا يَحُوز تَأْخِير الصَّلَاة عَنْ وَقْتهَا بِسَبَبِ الْعَدُوّ وَالْقِتَال، بَلْ يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف عَلَى حَسْب الْحَال.
وقال ابن قدامة: إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ؛ رِجَالًا وَرُكْبَانًا، إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَهُمْ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ، يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَيَتَقَدَّمُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ، وَيَضْرِبُونَ وَيَطْعَنُونَ، وَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ، وَلَا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِه، وهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْم.
القول الثاني: يجوز تأخيرها عن وقتها.
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: الخوف له حالات متنوعة، وإذا اضطر إلى أن يؤخر الصلاة عن وقتها: فالصواب أنه لا حرج في ذلك؛ لفعله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وقد فعله الصحابة في قتال الفرس، كما ذكر أنس رضي الله عنه أنهم في بعض الأيام التي لاقوا فيها العدو الفرس عند فتح تستر، فتحوها عند طلوع الفجر في وقت صلاة الفجر، وشغل الناس عن الصلاة؛ لأن بعضهم صار على السور، وبعضهم على الأبواب، وبعضهم نزلوا في البلد، فاشتد القتال والحصار، فلم يتمكنوا من صلاة الفجر، فأخروها حتى صلوها ضحى، قال أنس رضي الله عنه: فما أحب أن أعطى بها كذا وكذا، يعني لأنا أخرناها لأمر شرعي، وحاجة شديدة وضرورة، فلا حرج في هذا على الصحيح. (فتاوى نور على الدرب).
وقال الشيخ ابن عثيمين: إذا كان الإنسان لا يتمكن من الصلاة بوجه من الوجوه لا بقلبه ولا بجوارحه لشدة الخوف، فالصحيح أنه يجوز له تأخير الصلاة في هذه الحال، لأنه لو صلى فإنه لا يدري ما يقول وما يفعل، ولأنه يدافع الموت، وقد ورد ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث أنس رضي الله عنه في فتح تستر، فإنهم أخّروا الصلاة عن وقتها إلى الضحى حتى فتح الله.
وعليه يُحمل تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عن وقتها يوم الخندق حينما شُغل عن صلاة العصر إلى أن غربت الشمس كما في حديث جابر، وغزوة الخندق كانت في السنة الخامسة، وغزوة ذات الرقاع كانت في السنة الرابعة على المشهور، وقد صلى فيها صلاة الخوف فتبين أنه أخرها في الخندق لشدة الخوف. (انتهى).
فائدة: 5
يشترط في إقامة صلاة الخوف أن يكون القتال مباحاً.
فائدة: 6
صلاة الخوف جائزة في الحضر
كما هي جائزة في السفر إذا احتيج إلى ذلك بنزول العدو قريباً من البلد، وخوف هجوم العدو على المسلمين.
وهذا المذهب وبه قال الأوزاعي، والشافعي.
وحكي عن مالك أنها لا تجوز في الحضر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها في الحضر.
قال ابن قدامة: ولنا قول الله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) الآية وهذا عام في كل حال وترك النبي صلى الله عليه وسلم فعلها في الحضر إنما كان لغناه عن فعلها في الحضر، وقولهم إنما دلت الآية على ركعتين قلنا وقد يكون في الحضر ركعتان الصبح والجمعة والمغرب ثلاث ويجوز فعلها في الخوف في السفر ولأنها حالة خوف فجازت فيها صلاة الخوف كالسفر.
فائدة: 7
إذا اشتد الخوف صلوا رجالاً وركباناً،
إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون بالركوع والسجود.
أي: وإذا اشتد الخوف وتواصل الطعن والضرب والكر والفر ولم يمكن تفريق القوم.
(صلوا رجالاً) أي: ماشين على أرجلهم (وركباناً) أي: على الخيل والإبل وسائر المركوبات.
أي: فيسقط الاستقبال في هذه الحالة.
كما قال تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً).
قال السعدي: (رِجَالاً) أي: على أرجلكم، (أَوْ رُكْبَاناً) على الخيل والإبل وسائر المركوبات، وفي هذه الحال لا يلزمه الاستقبال (يعني: استقبال القبلة)، فهذه صلاة المعذور بالخوف " انتهى.
وقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَاناً).
قال الحافظ (وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ):
أَيْ: إِنْ كَانَ اَلْعَدُوّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اَلْخَوْفَ إِذَا اِشْتَدَّ وَالْعَدْوّ إِذَا كَثُرَ فَخِيفَ مِنْ اَلانْقِسَامِ لِذَلِكَ جَازَتْ اَلصَّلاةُ حِينَئِذٍ بِحَسَبَ اَلإِمْكَان، وَجَازَ تَرْكُ مُرَاعَاة مَا لا يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْ اَلأَرْكَانِ، فَيَنْتَقِلُ عَنْ اَلْقِيَامِ إِلَى اَلرُّكُوعِ، وَعَنْ اَلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِلَى اَلإِيمَاءِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَبِهَذَا قَالَ اَلْجُمْهُور " انتهى.
وروى اَلطَّبَرِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ (إِذَا اِخْتَلَطُوا - يَعْنِي فِي اَلْقِتَالِ - فَإِنَّمَا هُوَ اَلذِّكْرُ وَإِشَارَة اَلرَّأْس).
وروى البخاري عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما
…
ذكر صفة صلاة الخوف، ثم قال:(فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا) قَالَ نَافِعٌ: لا أُرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ " فَإِنْ كَانَ خَوْف أَشَدّ مِنْ ذَلِكَ " هَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ أَوْ مَوْقُوفٌ عَلَى اِبْن عُمَر، وَالرَّاجِح رَفْعه " انتهى.
وقال في المنتقى شرح الموطأ (فَإِنْ كَانَ خَوْفًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ) يَعْنِي: خَوْفًا لا يُمْكِنُ مَعَهُ الْمُقَامُ فِي مَوْضِعٍ، وَلا إقَامَةَ صَفٍّ، صَلَّوْا رِجَالا؛ قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يُمْكِنُ فِيهِ الاسْتِقْرَارُ وَإِقَامَةُ الصَّفِّ لَكِنْ يَخَافُ مِنْ ظُهُورِ الْعَدُوِّ
بِالاشْتِغَالِ بِالصَّلاةِ
…
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْخَوْفِ: فَهَذَا أَنْ لا يُمْكِنَ مَعَهُ اسْتِقْرَارٌ، وَلا إقَامَةُ صَفٍّ، مِثْلُ الْمُنْهَزِمِ (الهارب من العدو) الْمَطْلُوبِ فَهَذَا يُصَلِّي كَيْفَ أَمْكَنَهُ، رَاجِلا أَوْ رَاكِبًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) " انتهى باختصار
• وهذا على قول من يقول لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، وهو قول أكثر العلماء، ونسبه ابن كثير للجمهور للآية السابقة، وقال آخرون: يجوز تأخيرها عن وقتها إذا اشتد الخوف، ولم يمكن المصلي أن يتدبر ما يقول، واستدلوا بتأخير الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة في غزوة الخندق، والجمهور يستدلون بأن صلاة الخوف لم تكن مشروعة في غزوة الخندق، لما تقدم أنها شرعت في غزوة عسفان، وهي بعد الخندق.
قوله (يومئون بالركوع والسجود) أي: يومئون بالركوع والسجود، إيماء على قدر طاقتهم، لأنهم لو تمموا الركوع والسجود كانوا هدفاً لأسلحة العدو، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم، ولا يلزمهم السجود على ظهر المركوب.
فائدة: 8
عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ (فَرَضَ اللَّه عز وجل الصَّلَاة عَلَى لِسَان نَبِيّكُمْ
صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَر أَرْبَعًا وَفِي السَّفَر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة) رواه مسلم
في هذه الحديث صفة أخرى من صفات صلاة الخوف، وهي الاقتصار على ركعة واحدة لكل طائفة.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف.
قال الحافظ: وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف يقول الثوري وإسحاق ومن تبعهما، وقال به أبو هريرة، وأبو موسى الأشعري، وغير واحد من التابعين.
قال النووي في شرح حديث (وفي الخوف ركعة) هذا الحديث قد عمل بظاهره طائفة من السلف منهم الحسن، والضحاك واسحق بن راهويه.
القول الثاني: لا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف.
وهذا مذهب الجمهور.
وأجابوا عن الحديث: بأن المراد بها ركعة واحدة مع الإمام، وليس فيها نفي الثانية.
قال النووي: وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور: إِنَّ صَلَاة الْخَوْف كَصَلَاةِ الْأَمْن فِي عَدَد الرَّكَعَات، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَضَر وَجَبَ أَرْبَع رَكَعَات، وَإِنْ كَانَتْ فِي السَّفَر وَجَبَ رَكْعَتَانِ. وَلَا يَجُوز الِاقْتِصَار عَلَى رَكْعَة وَاحِدَة فِي حَال مِنْ الْأَحْوَال، وَتَأَوَّلُوا حَدِيث اِبْن عَبَّاس هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد رَكْعَة مَعَ الْإِمَام وَرَكْعَة أُخْرَى يَأْتِي بِهَا مُنْفَرِدًا كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي صَلَاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه فِي الْخَوْف. وَهَذَا التَّأْوِيل لَا بُدّ مِنْهُ لِلْجَمْعِ بَيْن الْأَدِلَّة. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم).
وقال في المجموع: والجواب عن حديث ابن عباس: أن معناه أن المأموم يصلي مع الإمام ركعة ويصلي الركعة الأخرى وحده، وبهذا الجواب أجاب البيهقي وأصحابنا في كتب المذهب وهو متعين للجمع بين الأحاديث الصحيحة.
قال الشوكاني: ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس (ولم يقضوا ركعة)، وكذا قوله في حديث حذيفة (ولم يقضوا).
وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني: (وفي الخوف ركعة).
باب صلاة الجمعة.
مقدمة:
• اختلف في سبب تسمية الجمعة بهذا الاسم:
فقيل: لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم، وقد جاء حديث عند أحمد، ورجحه الحافظ ابن حجر والشوكاني.
وقيل: لاجتماع الناس فيها في المكان الجامع لصلاتهم.
وقيل: لأن الله تعالى جمع فيه آدم مع حواء في الأرض.
وقيل: لما جمع فيه من الخير.
قال الحافظ: بالاتفاق أنه كان يسمى في الجاهلية العَرُوبة.
• ذهب جمهور العلماء إلى أن الجمعة إنما فرضت بالمدينة.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)، لأن هذه السورة مدنية، وأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة بمكة قبل الهجرة.
• والجمعة فرض بالكتاب والسنة والإجماع:
أ-قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون).
ب- ولحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ- (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ اَلْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اَللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ اَلْغَافِلِينَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ج-ولحديث ابن مسعود. أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّى بِالنَّاسِ ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُم) رواه مسلم.
د- ولحديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ) متفق عليه.
هـ- ولحديث طارق بن شهاب. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض) رواه أبو داود.
و- ولحديث حفصة. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (رواح الجمعة واجب على كل محتلم) رواه أبو داود.
قال ابن قدامة: أجمع المسلمون على وجوب صلاة الجمعة.
وحكى الإجماع أيضاً ابن المنذر.
قال ابن العربي: الجمعة فرض بإجماع الأمة.
(تلزمُ كلَّ ذَكَرٍ).
أي: تلزم وتجب الجمعة على كل ذكر، فلا تجب على المرأة.
أ- لحديث طارق بن شهاب السابق (الجمعة حق واجب إلا على أربعة: مجنون، أو امرأة، أو صبي، أو مريض).
قال النووي في "المجموع"(4/ 483): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقال ابن رجب في "فتح الباري"(5/ 327): إسناده صحيح.
وقال ابن كثير في "إرشاد الفقيه"(1/ 190): إسناده جيد، وصححه الألباني.
ب- وقال صلى الله عليه وسلم (وبيوتهن خير لهن). رواه أبو داود.
ج-ولأن المرأة ليست من أهل الاجتماع.
قال ابن قدامة: أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا جُمُعَةَ عَلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَى النِّسَاءِ.
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْحُضُورِ فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ، وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ. (المغني).
(حُرٍّ).
أي: تجب على الحر، فلا تجب على العبد المملوك.
وهذا قول جمهور العلماء.
أ- لحديث طارق بن شهاب السابق.
ب- ولأن العبد محبوس على أعمال سيده.
ج- وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكُ الْمَنْفَعَةِ، مَحْبُوسٌ عَلَى السَّيِّدِ أَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ بِالدَّيْنِ.
د- وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَجَازَ لَهُ الْمُضِيُّ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهَا، كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِذَوِي الْأَعْذَارِ، وَهَذَا مِنْهُمْ. (المغني).
وذهب بعض العلماء: إلى أنها تجب عليه مطلقاً.
وهو قول داود الظاهري، واختاره ابن تيمية.
قالوا لأن حق الله أولى، وهو داخل تحت قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
…
).
وذهب بعضهم: إلى أنها تجب إذا أذن سيده.
وهذا الراجح.
(مكلفٍ).
أي: تلزم الجمعة كل مكلف، والمكلف: هو البالغ العاقل.
فلا تجب على الصغير والمجنون.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ
…
). رواه أبو داود
ب- ولأنهما ليسا أهلاً للتكليف.
(مسلم).
أي: تلزم الجمعة، فلا تلزم الكافر.
ولا تصح منه، ولا تقبل منه.
لقوله تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه).
ولا يلزمه قضاؤها إذا أسلم.
لقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف).
ولحديث: (الإسلام يهدم ما قبله).
ولأن في قضائها مشقة عظيمة.
(مُستوْطنٍ).
أي: مستوطن ببناء، فلا تجب على مسافر.
قال ابن قدامة: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة فصلى الظهر والعصر جمعاً بينهما ولم يصلِّ جمعة، والخلفاء الراشدون كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصلِّ أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم.
وقال ابن عبد البر: وأما قوله: (ليس على مسافر جمعة) فإجماع لا خلاف فيه.
وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر مراراً، ولم ينقل عنه ولو مرة واحدة أنه صلى الجمعة.
وقال ابن المنذر: ومما يحتج به في إسقاط الجمعة عن المسافر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مرّ به في أسفاره جُمَعٌ لا محالة، فلم يبلغنا أنه جَمَّع وهو مسافر، بل قد ثبت عنه أنه صلى الظهر بعرفة وكان يوم الجمعة، فدلّ ذلك من فعله على أن لا جمعة على المسافر؛ لأنه المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد بكتابه، فسقطت الجمعة عن المسافر استدلالاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
• ولكن هل تجزئهم عن الظهر إذا صلوها مع أهل بلد يصلون الجمعة؟
نعم تجزئهم وتصح منهم إذا صلوها مع أهل بلد أو قرية يصلون الجمعة إجماعاً.
قال ابن قدامة: (وإن حضروها أجزأتهم) يعني تجزئهم الجمعة عن الظهر، ولا نعلم في هذا خلافاً.
فائدة: 1
هل يجوز أن يكون المسافر إماماً في الجمعة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
قيل: لا تصح إمامة المسافر في الجمعة.
وهذا قول زفر من الحنفية، ومذهب الحنابلة.
لأن الجمعة لا تجب عليه، وإذا كانت لا تجب عليه لم يجز أن يكون إماماً فيها، كالنساء والصبيان.
وقيل: تصح وتجزئ.
وهذا مذهبُ الحَنَفيّة، والمالكية، والشافعيَّة، واختارَه ابنُ حزم.
ورجحه ابن تيمية، وابنُ عُثيمين.
أ- أنَّه رجل تصحُّ منه الجُمُعة.
ب-أنَّ القولَ بعدمِ صِحَّةِ ذلك لا دَليلَ عليه.
ج- أنَّ المسافرَ مِن أهلِ التَّكليفِ، ولا فَرْقَ بين أنْ يكونَ في الجُمُعةِ إمامًا أو مأموماً.
د- أن الجمعة إنما لا تجب على المسافر تخفيفاً عنه، فإذا حضرها فقد أحسن وسقط عنه الفرض، فتصح إمامته في الجمعة كما تصح إمامة المريض الذي لا يجب عليه ابتداء.
قال ابن قدامة: وَلَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ (ممن لا تجب عليهم الجمعة)، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِيهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ إمَامًا فِيهَا، وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي الْمُسَافِرِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَصِحُّ بِالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ رِجَالٌ تَصِحُّ مِنْهُمْ الْجُمُعَةُ.
وَلَنَا، أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ الْجُمُعَةُ بِهِمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَؤُمُّوا فِيهَا، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ تَبَعًا لِمَنْ انْعَقَدَتْ بِهِ، فَلَوْ انْعَقَدَتْ بِهِمْ أَوْ كَانُوا أَئِمَّةً فِيهَا صَارَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا. (المغني).
فائدة: 2
تقدم أن المسافر لا جمعة عليه، لكن ما حكم الجمعة للمسافر إذا كان نازلاً ببلد تجب الجمعة على أهله وسمع النداء لها، هل تجب عليه أم لا، اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا تجب عليه ولا يلزمه السعي إليها.
وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
لعموم الأدلة التي تدل على سقوط الجمعة عن المسافر.
أ- كحديث (ليس على مسافر جمعة) وكحديث (خمسة لا جمعة عليهم .. المرأة، والمسافر .. ).
ب- فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، فقد ثبت من غير شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مرّ في أسفاره بجمع كثيرة، ولم ينقل إلينا أنه صلى الله عليه وسلم صلى جمعة واحدة وهو مسافر.
ج- ما نقل عن جمع من الصحابة والتابعين في عدم إيجاب الجمعة على المسافر النازل ببلد وإن سمع النداء لها.
د- عن ابن عمر قال: لا جمعة على مسافر.
هـ- وعن أنس: أنه أقام بنيسابور سنة أو سنتين وكان يصلي ركعتين ولا يجمع.
القول الثاني: تجب الجمعة على المسافر النازل ببلد.
وهذا اختيار ابن تيمية.
أ- لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
وجه الدلالة: أن المسافر النازل ببلد تقام فيه الجمعة قد سمع النداء لها فيتناوله الخطاب.
ب- أنه من الثابت أن الصحابة كانوا يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم من الأمصار، وكانوا يشهدون الجمعة ولا يتخلفون عنها، ولو حدث تخلف أحد منهم عن شهودها لنقل إلينا ذلك.
وأجاب الجمهور عن هذه الأدلة:
أما الآية:
بأن وجوب السعي للجمعة إنما هو على من هو مخاطب بها، والمسافر غير مخاطب بها، فلا يشمله الوجوب ولو سمع النداء.
وأما الصحابة الذين يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلون معه:
فهذا لا دلالة فيه على الوجوب، لأن حضورهم للصلاة مع أفضل الخلق من أفضل القربات، وغاية ما يدل عليه ذلك صحة الجمعة من المسافر، أما وجوبها فأمر آخر لا يدل على مجرد الفعل.
(ببِناءٍ).
أي: بوطن مبني.
فإن كانوا من أهل الخيام كالبوادي فلا تلزمهم الجمعة.
لأن البدو الذين كانوا حول المدينة لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الجمعة.
(ليسَ بينَه وبين المسجد أكثر من فرسخ).
أي: فمتى كانت المسافة بين من تلزمه الجمعة وبين مكان إقامتها أكثر من فرسخ، فإنه لا تلزمه الجمعة.
وهذه المسألة وقع فيها خلاف بين العلماء: من كان خارج المدينة أو القرية وليس لديهم جمعة:
فمن الفقهاء من قال: إن سمعوا النداء - نداء الجمعة في المدينة أو القرية - لزمتهم الجمعة وإن لم يسمعوا لم تلزمهم.
وهذا مذهب الشافعية وقول محمد بن الحسن وعليه الفتوى عند الحنفية.
ومنهم من قال: إن كان بينهم وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ أي ثلاثة أميال لم تلزمهم الجمعة، وإن كان فرسخ أو أقل لزمتهم.
وهذا مذهب المالكية والحنابلة.
ومنهم من قال: تجب على من يمكنه أن يذهب إليها ثم يرجع إلى أهله قبل الليل.
حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وأنس وأبي هريرة ومعاوية والحسن ونافع مولى ابن عمر وعكرمة وعطاء والحكم والأوزاعي وأبي ثور وهذا الحكم فيمن كان خارج البلد.
• أما إن كان داخل البلد، فيجب حضور الجمعة ولو كانت بعيداً ما دام داخل البلد.
قال النووي رحمه الله: " قال الشافعي والأصحاب: إذا كان في البلد أربعون فصاعداً من أهل الكمال، وجبت الجمعة على كل من فيه وإن اتسعت خطة البلد فراسخ، وسواء سمع النداء أم لا. وهذا مجمع عليه. (المجموع).
وقال المرداوي: محل الخلاف في التقدير بالفرسخ، أو إمكان سماع النداء، أو سماعه، أو ذهابهم ورجوعهم في يومهم: إنما هو في المقيم بقرية لا يبلغ عددهم ما يشترط في الجمعة، أو فيمن كان مقيماً في الخيام ونحوها، أو فيمن كان مسافراً دون مسافة قصر، فمحل الخلاف في هؤلاء وشبههم. أما من هو في البلد التي تقام فيها الجمعة فإنها تلزمه، ولو كان بينه وبين موضع الجمعة فراسخ، سواء سمع النداء أو لم يسمعه، وسواء كان بنيانه متصلاً أو متفرقاً، إذا شمله اسم واحد. (الإنصاف) وقال الشيخ ابن عثيمين: هذا إذا كان خارج البلد، وأما إذا كان البلد واحداً فإنه يلزمه، ولو كان بينه وبين المسجد فراسخ.
ذكر علماؤنا أن مسيرة الفرسخ ساعة ونصف الساعة في سير الإبل والقدم، لا بسير السيارة؛ فإن كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ
قالوا: فإنها تلزمه بغيره؛ أي: إن أقيمت الجمعة وهو في البلد لزمته وإلا فلا.
والحاصل: أن المقيم في مدينة تجب عليه الجمعة، سواء سمع النداء أو لم يسمع، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.
• لكن حصل خلاف في تحديد مفهوم "المدينة" فيما لو تباعدت وتفرقت بأن صارت أحياء بينها مزارع.
فقال بعض العلماء: لو تفرق، وفرقت بينه المزارع، فيكون كل حي كأنه مدينة مستقلة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعد حكاية هذا القول: " ولكن الصحيح ما دام يشمله اسم واحد فهو بلد واحد، ولو فرض أن هذا البلد اتسع وصار بين أطرافه أميال أو فراسخ فهو وطن واحد تلزم الجمعة من بأقصاه الشرقي، كما تلزم من بأقصاه الغربي، وهكذا الشمال والجنوب؛ لأنه بلد واحد " انتهى من "الشرح الممتع"(5/ 17)
(ومنْ حضَرَها منهم أجزأتْهُ).
(ومن حضرها) أي: الجمعة، حضرها مع الإمام.
(منهم) أي المرأة، أو العبد، أو المريض.
فإنها تجزئه.
لأن إسقاطها عنهم من باب التخفيف عنهم.
(ومن صلىَ الظهرَ ممن عليهِ حضورُ الجمُعةِ قبل صلاةِ الإمام لم تصح).
وهذا قول جماهير العلماء.
لا يجوز أن يصلي - من تجب عليه - الجمعة أن يصلي الظهر قبل فراغ الإمام من صلاة الجمعة، فلو صلاها قبل فراغ الإمام لم تصح ولزمته الجمعة إن تمكن من إدراكها، وإلا أعاد الظهر بعد فراغ الإمام من صلاته، وإن كان آثماً بتركه الجمعة.
لأن الواجب - على غير المعذور - الجمعة، إذْ هي فرض الوقت في حقه، وإذا لم يأتِ بالواجب عليه وهو الجمعة فلا تجزئه الظهر، لأنه صلى ما لم يخاطب به.
ولأن غير المعذور مخاطب بالسعي إلى الجمعة، وإذا كان مخاطباً بالجمعة دلّ على أنه لا يخاطب بالظهر معها بل تسقط عنه ولا يخاطب بها، لأنه لا يخاطب بصلاتين معاً في وقت واحد، فدل هذا على أن فرض الوقت في حقه هو الجمعة فتلزمه.
(وتصح قبل صلاة الإمام ممن لا تجب عليه الجمعة).
أي: وتصح الظهر قبل صلاة الإمام إذا كان ممن لا تجب عليهم الجمعة، كالمرأة، والعبد، والمريض.
مثال ذلك: مريض مرضاً تسقط عنه الجمعة، صلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة، يصح ذلك.
لأنه لا تلزمه الجمعة.
قال ابن قدامة: فَأَمَّا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، كَالْمُسَافِرِ، وَالْعَبْدِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْمَرِيضِ، وَسَائِرِ الْمَعْذُورِينَ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
لأَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ بِالْجُمُعَةِ، فَصَحَّتْ. (المغني).
فائدة:
لو صلى هذا المعذور عن حضور الجمعة الظهر، ثم زال عذره قبل فراغ الإمام من الجمعة وأمكنه تداركها مع الإمام، فهل تلزمه الجمعة أو يكفيه صلاة الظهر التي أداها؟
مثال: عوفي المريض قبل فراغ الإمام من صلاة الجمعة وقد صلى الظهر، أو عتق العبد بعد أن صلى الظهر وأمكنه تدارك الجمعة.
قيل: تلزمه الجمعة إن تمكن من إدراكها مع الإمام، فإن فاتته لم يلزمه إعادة الظهر.
وهذا مذهب المالكية.
قالوا: لأنه لما زال عذره صار من أهل الجمعة فلزمته.
وقيل: لا تلزمه صلاة الجمعة ولا يعيد الظهر.
وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والمذهب عند الحنابلة.
قالوا: لأنه أدى فرضه وهو صلاته الظهر فوقعت مجزئة.
وهذا الراجح. (الإعادة في العبادات للعبيدي).
(ولا يجوز لمن تلزمُه السفرُ في يومها بعد النداء).
أي: يحرم السفر يوم الجمعة بعد النداء لمن تلزمه الجمعة.
وهذا قد اتفق أهل العلم عليه في الجملة.
أ-لقول الله تعالى) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون).
ب- وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهَا، كَاللَّهْوِ، وَالتِّجَارة.
(ويكره قبلَه).
أي: ويكره السفر يوم الجمعة بعد الفجر وقبل النداء.
وذهب بعض العلماء: إلى جوازه من غير كراهة.
وبهذا قال الحنفية، والمالكية.
أ- لما ورد عن عمر (أنه أبصر رجلاً عليه ثياب سفر بعد ما قضى الجمعة، فقال: ما شأنك؟ قال: أردت سفراً فكرهت أن أخرج حتى أصلي، فقال له عمر: إن الجمعة لا تمنعك السفر ما لم يحضر وقتها) أخرجه عبد الرزاق.
ب- وأخرج عبدالرزاق أيضاً بإسناد آخر والبيهقي عن عمر بن الخطاب (أنه أبصر رجلاً عليه أهبة السفر، فقال الرجل: إن اليوم يوم جمعة ولولا ذلك لخرجت، فقال عمر: إن الجمعة لا تحبس مسافراً، فاخرج ما لم يجن الرواح).
ج- ولأن الجمعة لم تجب عليه فلم يحرم السفر كما لو سافر بالليل.
وهذا القول هو الراجح.
لعدم الدليل على التحريم أو الكراهة، ولم يصح في المسألة حديث صحيح مرفوع، كما قال النووي.
وأما حديث (مَنْ سَافَرَ مِنْ دَارِ إقَامَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، لَا يُصْحَبُ فِي سَفَرِهِ، وَلَا يُعَانُ عَلَى حَاجَتِهِ) فهو حديث ضعيف.
فصل
(يُشترطُ لصحتِها شروط).
أي: يشترط لصحة الجمعة لكي تصح شروطاً، إذا فقد واحد منها لم تصح.
(أَحدُها الوقت).
اتفق العلماء على أن آخر وقت الجمعة كالظهر، واختلفوا في بداية وقتها على أقوال:
القول الأول: أن وقتها كالظهر [بعد الزوال].
وهذا مذهب الجمهور.
قال النووي: قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وممن بعدهم، لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس.
أ-لحديث أنس بن مالك (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ) رواه البخاري.
ولحديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ رضي الله عنه قَالَ (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ. وَلَيْسَ
لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِه).
وَفِي لَفْظٍ (كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَتَتَبَّعُ الْفَيْء).
وكل من الحديثين واضح الدلالة.
ج- وعن عائشة. قالت (كَانَ النَّاسُ مَهْنَةَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ لَوِ اغْتَسَلْتُمْ).
وجه الدلالة: أن المقصود بالرواح في الحديث ما بعد الزوال، ودليل ذلك أنهم كان يصيبهم العرق والغبار ونحوهما، وذلك بعد اشتداد الحر في وقت مجيئهم من العوالي، وذلك لا يكون إلا بعد الزوال.
د- آثار عن الصحابة.
ما روي أن أبا بكر كان يصلي إذا زالت الشمس. ذكره ابن حجر وعزاه لابن أبي شيبة وقال: إسناده قوي.
ما روي أن علي بن أبي طالب كان يصلي الجمعة بعد ما تزول الشمس. أخرجه ابن أبي شيبة وقال ابن حجر: إسناده صحيح.
القول الثاني: يجوز قبل الزوال (من ارتفاع الشمس قيد رمح).
وهذا من مفردات المذهب.
أ-لحديث سهل بن سعد: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة). (الغداء: هو طعام أول النهار).
قال الشوكاني: وجه الاستدلال به أن الغداء والقيلولة محلها قبل الزوال، وفي الحديث أنهم كانوا يصلون الجمعة قبلها.
قال ابن قتيبة: لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال.
فكانوا يبدؤون بصلاة الجمعة قبل القيلولة.
ب-وعن جابر قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حتى تزول الشمس، يعني النواضح). رواه مسلم
وجه الدلالة: أن جابراً ذكر أنهم يصلون الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها عند الزوال، فدل على أنهم يصلون قبله.
ج-ولحديث عبد الله بن سيدان قال: (شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته على أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره) رواه الدارقطني.
القول الثالث: أنه يبدأ من الساعة السادسة، قبل الزوال بساعة.
وهذه رواية عن أحمد، اختارها ابن قدامة صاحب المغني، واختارها الشيخ ابن عثيمين.
لحديث أبي هريرة: (من راح في الساعة الأولى
…
إلى أن قال: ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة
…
).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فيكون حضور الإمام على مقتضى الحديث الساعة السادسة.
•
أجاب الجمهور عن أدلة الجواز:
قال النووي: وحمل الجمهور هذه الأحاديث على المبالغة في تعجيلها وأنهم كانوا يؤخرون الغداء والقيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة لأنهم ندبوا إلى التبكير إليها فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فوتها أو فوت التبكير إليها.
فائدة 1:
لكن الأفضل أن تفعل بعد الزوال.
قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا تُصَلَّى إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَيَفْعَلُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهَا فِيهِ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ، وَيُعَجِّلُهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَجِّلُهَا، بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ لَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَيُبَكِّرُونَ إلَيْهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَوْ انْتَظَرَ الْإِبْرَادَ بِهَا لَشَقَّ عَلَى الْحَاضِرِين.
فائدة: 2
وقال ابن قدامة: وَأَمَّا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، لِمَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ التَّوْقِيتَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ، مِنْ نَصٍّ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ خُلَفَائِهِ، أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ كَوْنُ وَقْتِهَا وَقْتَ الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالسَّاعَةِ السَّادِسَةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِأَنَّهَا لَوْ صُلِّيَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَفَاتَتْ أَكْثَرَ الْمُصَلِّينَ، فَإِنَّ الْعَادَةَ اجْتِمَاعُهُمْ لَهَا عِنْدَ الزَّوَالِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيهَا ضُحًى آحَادٌ مِنْ النَّاسِ، وَعَدَدٌ يَسِيرٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَوَجَدَ أَرْبَعَةً قَدْ سَبَقُوهُ، فَقَالَ: رَابِعُ أَرْبَعَةٍ، وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ.
فائدة: 3
قال الشوكاني: واعلم أن الأحاديث الصحيحة قد اشتمل بعضها على التصريح بإيقاع صلاة الجمعة وقت الزوال كحديث سلمة بن الأكوع في الصحيحين قال (كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس) وبعضها فيه التصريح بإيقاعها قبل الزوال كما في حديث جابر عند مسلم وغيره (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلي جمالهم فيريحونها حين تزول الشمس) وبعضها محتمل لإيقاع الصلاة قبل الزوال وحاله كما في حديث سهل بن سعد في الصحيحين قال (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) وكما في حديث أنس عند البخاري وغيره قال (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم نرجع إلى القائلة فنقيل) ومجموع هذه الأحاديث يدل على أن وقت صلاة الجمعة حال الزوال وقبله ولا موجب لتأويل بعضها.
(الثاني: حضورُ أربعينَ من أهلِ وُجوبِها).
أي: ومن شروط صحة الجمعة حضور هذا العدد من أهل وجوبها وهم (كل مسلم ذكر حر مكلف مستوطن ببناء).
وهذا المشهور من مذهب الحنابلة.
أ-لحديث جابر قال: (مضت السنة في كل أربعين فصاعداً جمعة) رواه الدارقطني والبيهقي. ولا يصح.
ب-ولما روي عن كعب بن مالك، وكان قائداً لأبيه بعد كف بصره، يقول (سمعت أبي حينما سمع النداء يوم الجمعة يترحم لأسعد بن زرارة، فقلت: لأسلنه عن ذلك، فسألته فقال: إنه أول من جمع بنا، قلت: كم كنتم يومئذٍ، قال: كنا نحو أربعين). رواه أبو داود وابن ماجه
قال الشوكاني: استدل به من قال إن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين رجلاً، وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد في أحد الروايتين عنه، وبه قال عبيد الله بن عيينة، وعمر بن عبد العزيز، ووجه الاستدلال بالحديث: أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد، والأصل الظهر، فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثابت بدليل، وقد ثبت جوازها بأربعين فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صحيح.
لكن ليس فيه دليل على اشتراط الأربعين، لأنه ثبت كما في حديث جابر، حيث لم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها تنعقد ب 12 رجلاً.
وهذا مذهب المالكية.
لحديث جَابِرٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ اَلشَّامِ، فَانْفَتَلَ اَلنَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وليس فيه دليل.
قال الشوكاني: فيه أنه يدل على صحتها بهذا المقدار، وأما أنها لا تصح إلا بهم فصاعداً لا بما دونهم، فليس في الحديث ما يدل على ذلك.
وذهب بعضهم: إلى أنها تنعقد باثنين.
قال الشوكاني: أما من استدل أنها تصح باثنين، فاستدل بأن العدد واجب بالحديث والإجماع، ورأى أنه لم يثبت دليل على اشتراط عدد مخصوص، وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينها وبين الجماعة، ولم يأت نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا، وهذا القول هو الراجح عندي.
وذهب بعضهم: إلى أنها تنعقد بثلاثة، إمام ومستمعين.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله.
وهو الراجح.
أ-لقوله تعالى (فاسعوا إلى ذكر الله).
وجه الدلالة: أن الخطاب ورد للجمع في قوله (فاسعوا) وأقل الجمع ثلاثة.
ب- ولحديث أبي سعيد. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أن الأمر بالإمامة عام في الصلوات كلها الجمعة والجماعة، واستثناء الجمعة من هذا العموم محتاج إلى دليل.
ج- أن الأصل وجوب الجمعة على الجماعة المقيمين، والثلاثة جماعة فتجب عليهم، حيث لا دليل على إسقاطها عنهم أصلاً.
وهذا القول هو الراجح.
(الثالث: أن يكونوا بقريةٍ مستوطنين).
أي: ومن شروط صحة الجمعة، أن تكون الجمعة في قرية، فنخرج بذلك أهل الخيام وبيوت الشعر ونحوهم، فلا تصح منهم الجمعة.
لأن ذلك لم يقصد للاستيطان غالباً، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر قبائل العرب حول المدينة بإقامة الجمعة، لأنهم ليسوا مستوطنين، بل يتبعون الماء والكلأ.
(ومَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإْمَامِ مِنْهَا رَكْعَةً أَتَمَّهَا جُمُعَةً، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّهَا ظُهْراً).
أي: أن الجمعة تدرك بإدراك ركعة كما تقدم، فمن أدرك ركعة أتمها جمعة، وإن أدرك أقل من ركعة أتمها ظهراً، كما لو جاء والإمام في التشهد، فإنه يصليها ظهراً.
أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاة) متفق عليه.
وهذا عام يشمل الجمعة وغيرها.
ب- ولحديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ اَلْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ) رَوَاهُ النَّسَائِي.
فالحديث صريح في الدلالة على أن من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدركها ومفهومه أن من أدرك أقل من ركعة لم يدركها.
ج- قال ابن عمر: إذا أدركت من الجمعة ركعة فأضف إليها أخرى. رواه ابن أبي شيبة.
د- قال ابن مسعود: إذا أدركت ركعة من الجمعة فأضف إليها أخرى فإن فاتك الركوع فصل أربعاً. رواه ابن أبي شيبة.
قال ابن قدامة: ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم.
فائدة:
ينبغي إذا جاء يوم الجمعة والإمام في التشهد، وأراد أن يصلي ظهراً، ينبغي أن ينظر هل زالت الشمس أم لا؟ لأنه كما تقدم يجوز أداء الجمعة قبل الزوال - في مذهب الحنابلة - فمن فاتته الجمعة يصليها ظهراً، والظهر لا تصح إلا بعد الزوال
• يشترط لمن أدرك مع الإمام يوم الجمعة أقل من ركعة لإتمامها ظهراً، شرطان:
الأول: أن ينوي الظهر.
الثاني: يكون وقت الظهر قد دخل.
(ولا يجوزُ أن يصلَّى في المِصرِ أكثر من جمعة إلا أن تدعو الحاجة إلى ذلك).
أي: لا يجوز أن تقام الجمعة في بلد واحد في موضعين من غير حاجة.
لأنه عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم يقيموها في أكثر من موضع واحد. (الروض المربع).
وفي تعطيل من حول المدينة مساجدهم، واجتماعهم في مسجد واحد أبين بيان بأن الجمعة خلاف سائر الصلوات، وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد، ولم يحفظ عن السلف خلاف ذلك. (حاشية الروض).
قال ابن قدامة: فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَإِنْ حَصَلَ الْغِنَى بِاثْنَتَيْنِ لَمْ تَجُزْ الثَّالِثَةُ، وَكَذَلِكَ مَا زَادَ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا مُخَالِفًا، إلَّا أَنَّ عَطَاءً قِيلَ لَهُ: إنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ لَا يَسَعُهُمْ الْمَسْجِدُ الْأَكْبَرُ.
وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ أَنَّهُمْ جَمَّعُوا أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ، إذْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ بِالتَّحَكُّمِ بِغَيْرِ دَلِيل.
…
(المغني).
أما مع الحاجة فيجوز، وهذا القول الحق الصواب.
وهذا المذهب عند الحنابلة، ورواية عند الشافعية صححها النووي.
قال الخرقي (وَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ كَبِيرًا يَحْتَاجُ إلَى جَوَامِعَ، فَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي جَمِيعِهَا جَائِزَةٌ).
قال ابن قدامة شارحاً: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْبَلَدَ مَتَى كَانَ كَبِيرًا، يَشُقُّ عَلَى أَهْلِهِ الِاجْتِمَاعُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ لِتَبَاعُدِ أَقْطَارِهِ، أَوْ ضِيقِ مَسْجِدِهِ عَنْ أَهْلِهِ، كَبَغْدَادَ وَأَصْبَهَانَ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَمْصَارِ الْكِبَارِ، جَازَتْ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِهَا، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ.
لأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَ لَهَا الِاجْتِمَاعُ وَالْخُطْبَةُ، فَجَازَتْ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ، كَصَلَاةِ الْعِيدِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْعِيدِ إلَى الْمُصَلَّى، وَيَسْتَخْلِفُ عَلَى ضَعَفَةِ النَّاسِ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ، فَيُصَلِّي بِهِمْ.
فَأَمَّا تَرْكُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إقَامَةَ جُمُعَتَيْنِ، فَلِغِنَاهُمْ عَنْ إحْدَاهُمَا، وَلِأَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يَرَوْنَ سَمَاعَ خُطْبَتِهِ، وَشُهُودَ جُمُعَتِهِ، وَإِنْ بَعُدَتْ مَنَازِلُهُمْ، لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَارِعُ الْأَحْكَامِ، وَلَمَّا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ صُلِّيَتْ فِي أَمَاكِنَ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَصَارَ إجْمَاعًا. (المغني).
وقال النووي: والصحيح هو الجواز في موضعين أو أكثر بحسب الحاجة وعسر الاجتماع به. (المجموع).
وقال شيخ الإسلام: إقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في أكثر من موضع يجوز للحاجة، عند أكثر العلماء، لصلاة علي رضي الله عنه بضعفة الناس في المسجد.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز إقامة أكثر من جمعة في البلد الواحد مطلقاً.
وهذا المذهب عند المالكية، وهو المذهب أيضاً عند الشافعية.
فائدة:
إذا أقيمت عدة جُمع في موضع واحد من غير حاجة، فقد اختلف العلماء في الصحيح منها على أقوال:
فقيل: الجمعة الصحيحة هي السابقة مطلقاً سواء كان الإمام فيها أو لا، وعلى الآخرين أن يعيدوا ظهراً أربع ركعات.
وقيل: أن الجمعة الصحيحة ما كان فيها الإمام أو أذن فيها، وإن تأخرت، فإن لم يصل الإمام في إحداها فالجمعة الصحيحة هي السابقة، وعلى الآخرين أن يعيدوا صلاتهم ظهراً أربع ركعات.
وهذا المذهب عند الحنابلة.
وقيل: إن كان في البلد مسجد عتيق يصلى فيه الجمعة، فالجمعة الصحيحة ما صليت فيه دون الجديد وإن صلى فيه السلطان، وإن لم يكن في البد مسجد عتيق يصلى فيه، أو كان فيه ولكنه مهجور لا تقام فيه الجمعة، فالجمعة الصحيحة ما أذن فيها الإمام أو نائبه.
وهذا مذهب المالكية.
…
(الإعادة في العبادات).
(ويُشترطُ تقدّمُ خُطبتان).
أي: يشترط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، فإن لم يتقدمها خطبتان لم تصح، ولو تأخرت الخطبتان بعد الصلاة لم تصح وقد ذهب جماهير العلماء إلى أن الخطبة شرط.
قال في المغني: وجملة ذلك أن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها
…
ولا نعلم فيه مخالفاً إلا الحسن.
أ-لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه).
وقد اختلف السلف في المراد بذكر الله على قولين:
فمنهم قال: الخطبة. ومنهم قال: الصلاة.
ورجح ابن العربي أنها تشمل الجميع.
فعلى القول بأن المراد الخطبة تدل على وجوبها من وجوه:
أولاً: أنه أمر بالسعي إليها، والأصل في الأمر الوجوب.
ثانياً: أن الله أمر بترك البيع عند النداء لها، أي أن البيع يحرم في ذلك الوقت، فتحريمها للبيع دليل على وجوبها.
وعلى القول بأن المراد الصلاة: فإن الخطبة من الصلاة.
ب-ولقوله تعالى (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً) فالله تعالى ذمهم على الانفضاض وترك الخطبة، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعاً.
ج-ولحديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ أَنْبَأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا، فَقَدْ كَذَبَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم، مع قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).
د- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليهما، ولم ينقل أنه ترك خطبة الجمعة.
هـ- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الإنصات لهما، وحذر من الكلام والإمام يخطب، ووجوب الإنصات يدل على وجوبهما.
• وعلى هذا فإن شرطية الخطبة لصحة صلاة الجمعة إنما هي في الجملة وليست بخصوص كل واحد، أي أن صلاة الجمعة من حيث هي يشترط لصحتها الخطبة، فلا تصح بدونها، فإذا وجدت ولم يدركها بعض المصلين، لكنهم أدركوا الصلاة فقط صحت صلاتهم.
• وقوله: (كان يخطب ثم يجلس ثم يقوم يخطب) فيه أنه لا بد من خطبتين.
وقد اختلف العلماء: هل يشترط خطبتين، أم تكفي خطبة واحدة؟ على قولين:
القول الأول: أنه يشترط خطبتان.
وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وبعض المالكية.
أ-لحديث جابر السابق (كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا).
ب- ولحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس) متفق عليه.
وجه الدلالة من الحديثين: أن فيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب للجمعة خطبتين، وقد قال صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ج- أن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين من صلاة الظهر، فكل خطبة مكان ركعة، فالإخلال بإحداهما كالإخلال بإحدى الركعتين.
القول الثاني: أنه لا يشترط خطبتان، بل تجزئ خطبة واحدة.
وبهذا قال الحنفية.
لحديث جابر بن سمرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً خطبة واحدة، فلما أسن جعلها خطبتين يجلس جلسة) لكن هذا الحديث لا يعرف.
والراجح القول الأول.
•
ما الحكم لو أخرت الخطبة عن الصلاة؟
لا يصح.
فالحديث دليل على أن الخطبة مقدمة على الصلاة، وأنها لو أخرت عن الصلاة فإنها لا تصح.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
(مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِمَا: حَمْدُ اللهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، وَقِرَاءةُ آيَةٍ والوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللهِ عز وجل.
أي: من شروط صحة الخطبة هذه الأمور الأربعة وهي: حمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله.
أما حمد الله:
أ- فلحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ، احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ اَلْحَدِيثِ كِتَابُ اَللَّهِ، وَخَيْرَ اَلْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ اَلْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ كَانَتْ خُطْبَةُ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ: - يَحْمَدُ اَللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ -
قال النووي: فيه دليل للشافعي أنه يجب حمد الله في الخطبة، وينبغي لفظه، ولا يقوم غيره مقامه.
ب-ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم) رواه أبو داود.
وأما الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلحديث جابر السابق (كَانَتْ خُطْبَةُ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ: - يَحْمَدُ اَللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ .. ) وإذا وجب ذكر الله تعالى وجب ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم، لما جاء في تفسير قول الله تعالى (ورفعنا لك ذكرك) قال الله: لا أذكر إلا ذكرتَ معي.
وأما قراءة آية:
أ-فلحديث جابر بن سمرة قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس) رواه مسلم.
قال النووي: فيه دليل للشافعي في أنه يشترط للخطبة الوعظ والقرآن.
ب- وَلحديث أُمّ هِشَام بِنْتِ حَارِثَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (مَا أَخَذْتُ: "ق وَالْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ"، إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى اَلْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ اَلنَّاسَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قال النووي: فيه دليل للقراءة في الخطبة.
ج-ولحديث صفوان بن يعلى عن أبيه (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: ونادوا يا مالك) رواه مسلم.
قال النووي: فيه القراءة في الخطبة.
وأما الوصية بتقوى الله:
لأن هذا هو مقصود الخطبة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الخطبة ليس لها أركان، بل تحصل بما يقع عليه اسم الخطبة عرفاً.
وهذا اختيار الشيخ السعدي.
قال رحمه الله: اشتراط الفقهاء الأركان الأربعة في كل من الخطبتين فيه نظر، وإذا أتى في كل خطبة بما يحصل به المقصود من الخطبة الواعظة الملينة للقلوب فقد أتى بالخطبة، ولكن لا شك أن حمد الله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءة شيء من القرآن من مكملات الخطبة، وهي زينة لها.
(ولا يُشترطُ لهما الطهارةُ).
أي: لا يشترط للخطبتين أن يكون الخطيب على طهارة.
أ- لأن الخطبة من باب الذكر، والمحدث لا يمنع من ذكر الله.
ب- ولأن الخطبة ذكر يتقدم الصلاة، فلم يكن من شرطه الطهارة كالأذان.
ج- أن الخطبة ذكر ليس من شرطه استقبال القبلة، فلم يكن من شرطه الطهارة، كالتلبية، والشهادتين.
لكن يستحب ذلك:
أ-لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عقب الخطبة، لا يفصل بينهما بطهارة، فدل على أنه كان متطهراً.
ب- ولأن الطهارة مستحبة للأذان، فالخطبة أولى.
ج- ولأن الخطيب لو لم يكن متطهراً لاحتاج إلى الطهارة بين الصلاة والخطبة، فيفصل بينهما، وربما شق على الحاضرين.
قال ابن قدامة: فَأَمَّا الطَّهَارَةُ الصُّغْرَى فَلَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، فَلَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ فِيهِ شَرْطًا كَالْأَذَانِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي عَقِيبَ الْخُطْبَةِ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ سُنَّةٌ.
وَلِأَنَّنَا اسْتَحْبَبْنَا ذَلِكَ لِلْأَذَانِ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا احْتَاجَ إلَى الطَّهَارَةِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، فَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَرُبَّمَا طَوَّلَ عَلَى الْحَاضِرِينَ.
…
(المغني).
(ولا أن يتولاهُما من يتولَى الصلاة).
أي: لا يشترط أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة، فلو خطب رجل وصلى آخر فإنه يصح.
أ- لأنه لا يُشترَطُ اتصالُ الصَّلاةِ بالخُطبةِ؛ فلمْ يُشترَطْ أن يتولَّاهما واحدٌ، كصَلاتين.
ب-لأنَّه لا يُوجَدُ دليلٌ على الاشتراط.
ج- لأنَّ المقصودَ يحصُل، سواءٌ صلَّى الخطيبُ أو غيره.
قال ابن قدامة: السُّنَّةُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَلَّاهُمَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
وَإِنْ خَطَبَ رَجُلٌ، وَصَلَّى آخَرُ لِعُذْرٍ، جَازَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لِلْعُذْرِ، فَفِي الْخُطْبَةِ مَعَ الصَّلَاةِ أَوْلَى.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، فَقَالَ أَحْمَدُ رحمه الله: لَا يُعْجِبُنِي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
فَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَلَّاهُمَا، وَقَدْ قَالَ:(صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي).
وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ.
وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ.
لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَتَا صَلَاتَيْنِ.
(ومِن سُنَنِهِما: أن يخطب على منبر، أو موضعٍ عالٍ).
أي: من سنن الخطبتين أن يخطب على منبر.
وقد جاءت نصوص كثيرة تدل على ذلك:
أ- عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَامَ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ. ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاتِهِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلاتِي - وَفِي لَفْظٍ - صَلَّى عَلَيْهَا. ثُمَّ كَبَّرَ عَلَيْهَا. ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا، فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى).
قال الحافظ: وفيه استحباب اتخاذ المنبر، لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه.
ب- ولحديث أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ (وَمَا أَخَذْتُ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إِلاَّ عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ) متفق عليه.
قال النووي: فيه استحباب اتخاذ المنبر، وهو سنة مجمع عليها.
ج- ولحديث ابن عمر وأبي هريرة (أنهما سمعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره، لينتهين أقوام عن ودُعهم الجمعات .. ) رواه مسلم.
قال عنه النووي: فيه استحباب اتخاذ المنبر.
د- ولحديث جابر قال: (جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة يخطب
…
). رواه مسلم.
هـ-و عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ، قَالَ (كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ) رواه البخاري.
ولأن الخطبة على المنبر أبلغ في إعلام الحاضرين الذي يتحقق به مقصود الخطبة.
ولأن الإمام إذا كان على منبر شاهده الناس، وإذا شاهدوه كان أبلغ في وعظهم.
(ويُسلمَ على المأمومين إذا خرج، وإذا أقبلَ عليهم).
أي: ويسن أن يسلم قبل صعوده المنبر.
لعموم الأدلة التي تحث على السلام.
• ويسن أيضاً أن يسلم إذا صعد على المنبر أقبل على الناس بوجهه وسلم عليهم.
وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.
أ- لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم) رواه ابن ماجه وفيه ضعف.
ب- ولأنه استقبال بعد استدبار، فيسن له التسليم، كما لو استدبر قوماً ثم عاد فاستقبلهم.
(ثم يجلسَ إلى فراغ الأذان).
أي: ويستحب جلوس الخطيب إلى فراغ الأذان.
وهذا قول أكثر العلماء، بل نقل ابن عقيل إجماع الصحابة على هذا.
أ- عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ (كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رضي الله عنهما فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ).
ب- لحديث ابن عمر قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب، ثم
…
) رواه أبوداود وفيه ضعف.
ج- أن الخطيب بجلوسه بعد الصعود يستريح من تعب الصعود، ويتمكن من الكلام التام.
(ويجلس بين الخُطبتين).
أي: يسن أن يجلس بين الخطبتين.
أ- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ أَنْبَأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا، فَقَدْ كَذَبَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
ب- ولحديث ابن عمر، قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا) متفق عليه.
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الجلسة على قولين:
القول الأول: أنه سنة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال في المغني: ويستحب أن يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم.
لحديث الباب، وهو واضح الدلالة.
القول الثاني: أنها واجبة.
وهو قول الشافعي.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلسها وقد قال (صلوا كما رأيتموني أصلي).
والراجح القول الأول.
• مقدار هذه الجلسة:
قيل: بقدر قراءة سورة الإخلاص.
وبه قال الشافعية.
وقيل: بقدر قراءة ثلاث آيات.
وقيل: بقدر الجلسة بين السجدتين.
والراجح أن التقييد ليس عليه دليل، وأنه لا تقدير لها، وأنها جلسة خفيفة للاستراحة والفصل بين الخطبتين.
•
الحكمة من الجلوس بين الخطبتين:
قيل: للفصل بين الخطبتين.
وقيل: للراحة.
ورجح الحافظ ابن حجر القول الأول.
(ويخطب قائماً).
أي: يسن أن يخطب قائماً.
قال ابن المنذر: وهذا الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار.
وقد اختلف في وجوبه على قولين:
القول الأول: أنه واجب.
وبهذا قال أكثر المالكية.
أ-لحديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السابق (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ أَنْبَأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا، فَقَدْ كَذَبَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
، فإنه يدل على مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على القيام حال الخطبة.
ب-ولحديث جابر السابق (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير. . .).
قال الحافظ في فتح الباري في معرض استدلاله بهذه الأدلة وتوجيهها: وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعاً في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل إلى الجلوس.
القول الثاني: أن القيام سنة.
وبهذا قال الحنفية، والحنابلة، وبعض المالكية.
أ- أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد اقتادوا في المنبر ممَّ عوده؟ فسألوه، فقال:(إني لأعرف مما هو، الحديث. . . أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة - امرأة سماها سهل - مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس. . .). متفق عليه
الشاهد قوله: (أجلس عليهن. . .).
لكن يحتمل أن تكون الإشارة إلى الجلوس أول ما يصعد، وبين الخطبتين.
ب- ولحديث أبي سعيد الخدري قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله
…
). رواه البخاري
وهذا يجاب عنه أنه في غير خطبة الجمعة.
وهذا القول هو الراجح.
(ويعتمدُ على قوسٍ، أو عصا).
أي: ويسن أن يعتمد الخطيب على عصا أو قوس حال خطبته.
وبهذا قال المالكية، والشافعية، والحنابلة.
يقول الإمام مالك: وذلك مما يستحب للأئمة أصحاب المنابر، أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصي يتوكؤون عليها في قيامهم، وهو الذي رَأَيْنا وسَمِعْنا " انتهى.
ويقول الإمام الشافعي: أحب لكل من خطب - أيَّ خطبة كانت - أن يعتمد على شيء.
ويقول البهوتي الحنبلي: ويسن أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا بإحدى يديه.
أ- لحديث اَلْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ رضي الله عنه قَالَ (شَهِدْنَا الْجُمُعَةَ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وهذا الحديث حسنه النووي في المجموع، وضعفه بعض أهل العلم، فقال ابن كثير في " إرشاد الفقيه " (1/ 196): ليس إسناده بالقوي
ب-ولأن اعتماد الخطيب على القوس أو العصا أو نحوهما أعون له، وأمكن لروعه، وأهدأ لجوارحه. (خطبة الجمعة وأحكامها).
وذهب بعض العلماء: إلى الكراهة.
وهذا مذهب الحنفية.
وليس لهم دليل.
والراجح القول الأول.
لكن ذهب بعض العلماء إلى أنه إذا احتاج إلى ذلك لكبر أو مرض فلا باس وإلا فلا يسن.
فكثير من الصحابة نقلوا صفة الجمعة وصفة الخطبة ولم يذكروا أنه كان يعتمد على عصا أو قوس، فهذا يدل والله أعلم أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا لم يكن على صفة الدوام.
وابن القيم يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ القوس أو العصا قبل أن يبنى له المنبر، وأما بعد أن بنيَ له المنبر فلم يحفظ عنه أنه كان يعتمد على شيء.
•
حكم اعتماد الخطيب على السيف:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يشرع.
وبه قال ابن القيم.
لعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
القول الثاني: يشرع ذلك.
وبهذا قال المالكية، والشافعية، والحنابلة.
قالوا: إن الاعتماد على السيف فيه إشارة إلى أن هذا الدين فتح به وقام به.
القول الثالث: يسن الاعتماد على السيف في البلاد التي فتحت عنوة دون البلاد التي فتحت صلحاً.
وبهذا قال الحنفية.
قالوا: إن الخطيب إذا اعتمد على السيف في هذه البلاد فإنه يُري أهلها أنها فتحت بالسيف، وأنهم إذا رجعوا عن الإسلام فذلك باقٍ بأيدي المسلمين.
قال ابن القيم: وكان إذا قام يخطب، أخذ عصاً، فتوكَّأ عليها وهو على المنبر، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب، وكان الخلفاءُ الثلاثةُ بعده يفعلون ذلك، وكان أحياناً يتوكأْ على قوس، ولم يُحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثيرٌ من الجهلة يظن أنه كان يُمْسِكُ السيفَ على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهل قبيح من وجهين:
أحدهما: أن المحفوظَ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس.
الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي، وأمّا السيف، فَلِمَحْقِ أهل الضلال والشرك، ومدينةُ النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فُتِحَت بالقُرآن، ولم تُفتح بالسيف.
(ويَقصُرَ الخُطبة).
أي: يسن للخطيب أن يجعل الخطبة قصيرة.
قال في الإنصاف: بلا نزاع.
أ- لحديث عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِنَّ طُولَ صَلَاةِ اَلرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ) رَوَاهُ مُسْلِم.
…
(مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ) أي: علامة يتحقق فيها فقهه.
ب-حديث عبد الله بن أبي أوفى قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة) رواه النسائي.
ج-وعن جابر بن سمرة قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، وإنما هنّ كلمات يسيرات) رواه أبو داود.
قال الشوكاني بعد ذكر هذه الأحاديث: فيها مشروعية إقصار الخطبة ولا خلاف في ذلك.
• الحكمة من تقصير الخطبة.
قال الصنعاني: وإنما كان قصر الخطبة علامة على فقه الرجل، لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني، وجوامع الألفاظ، فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة، ولذلك كان من تمام هذا الحديث: (فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة
…
وأيضاً في إطالة الخطبة إصابة الملل للناس، والملل من أسباب إذهاب الفائدة من الموعظة.
وقال الشوكاني: وإنما كان إقصار الخطبة علامة فقه الرجل، لأن الفقيه هو المطلع على جوامع الألفاظ، فيتمكّن بذلك من التعبير باللفظ المختصر عن المعاني الكثيرة.
وقال: وإنما كانت صلاته صلى الله عليه وسلم وخطبته كذلك لئلا يمل الناس.
(ويدعو للمسلمين).
أي: ويسن للخطيب أن يدعو للمسلمين.
وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة.
أ- لحديث سَمُرَة بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كُلَّ جُمُعَةٍ) رَوَاهُ اَلْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ لَيِّن، وهو ضعيف
ب- ولحديث عُمارة بن رُوَيبة (أنه رأى بشر بن مروان على المنبر، رافعاً يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة). رواه مسلم، وفي رواية لأحمد:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب إذا دعا يقول هكذا، ورفع السبابة وحدها).
ج- أن الدعاء للمسلمين مسنون في غير خطبة الجمعة، ففيها أولى.
وهذا القول هو الصحيح.
…
(خطبة الجمعة وأحكامها).
•
حكم الدعاء لولي الأمر بعينه:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
فقيل: مستحب.
وبه قال بعض المالكية، وبعض الحنابلة.
قال في المغني: وإن دعا لسلطان المسلمين فحسن.
لأن إمام المسلمين إذا صلح كان فيه صلاح لهم، ففي الدعاء له دعاء لهم.
وقيل: جائز.
وبه قال بعض الشافعية، واختاره النووي.
وقيل: غير مشروع، بل بعضهم قال ببدعته.
وبه قال بعض المالكية، وبعض الشافعية.
فصل
(والجمعة ركعتان).
وهذا بالإجماع.
قالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ (صَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد.
قال الماوردي: لا اختلاف بين العلماء أن صلاة الجمعة ركعتان مفروضتان لا يجوز الزيادة عليهما، ولا النقصان منهما، للخبر المروي، والفعل المحكي، والإجماع العام. انتهى.
وقال النووي: .... فأجمعت الأمة على أن الجمعة ركعتان.
وفي هذا دليل على أن صلاة الجمعة صلاة مستقلة، وليست ظهراً، ولا بدلاً عن الظهر.
وقال البهوتي الحنبلي رحمه الله: وهي - يعني الجمعة - صلاة مستقلة، ليست بدلاً عن الظهر؛ لعدم انعقادها بنية الظهر ممن لا تجب الجمعة عليه كالعبد والمسافر، ولجوازها أي الجمعة قبل الزوال، ولأنه لا يجوز أن تفعل أكثر من ركعتين.
وقال الشيخ ابن عثيمين: الجمعة صلاة مستقلة، وليست ظهراً، ولا بدلاً عن الظهر، ومن زعم أنها ظهر مقصورة، أو بدل عنها فقد أبعد النجعة، بل الجمعة صلاة مستقلة لها شرائطها وصفتها الخاصة بها، ولذلك تصلى ركعتين، ولو في الحضر.
• ولذلك اختلف الفقهاء في حكم صلاة الجمعة مع الإمام بنية الظهر، على قولين:
فقيل: تصح صلاته.
وقيل: أنها صلاة باطلة، ولا تصح لفاعلها جمعة ولا ظهراً، وذلك لأن صلاة الجمعة صلاة مستقلة، ليست بدلاً عن الظهر، فلا بد لها من نية خاصة معينة.
وقد قال عمر (الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى). رواه الإمام أحمد وغيره
وهذا القول هو الصحيح.
(يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ جَهْراً).
أي: يسن أن يجهر بالقراءة في صلاة الجمعة.
وهذا بالإجماع.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ عَقِيبَ الْخُطْبَةِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَسُورَةً، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا.
لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
(فِي الأْولَى بِالجُمُعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْمُنَافِقِينَ).
أي: يُستحبُّ في صلاةِ الجُمُعة قِراءةُ سُورتَي: (الجُمُعة والمنافقون).
لحديث ابَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ) رَوَاهُ مُسْلم.
•
الحكمة من قراءة هذه السور؟
أما سورة الجمعة:
قال النووي: اشتمالها على وجوب الجمعة وغير ذلك من أحكامها، وغير ذلك مما فيها من القواعد والحث على التوكل والذكر وغير ذلك.
وأما سورة المنافقين:
قال النووي: وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيها من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها. (شرح مسلم).
(أو سبح في الأولى، والغاشية في الثانية).
أي: ويُستحَبُّ في صَلاةِ الجُمُعةِ القراءةُ بسُورتَي: سبِّح، والغاشية.
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِى الْجُمُعَةِ بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) وَ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قَالَ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْن) رواه مسلم.
•
الحكمة من قراءتهما:
أما سورة الأعلى:
فلما فيها من تقرير التوحيد وتعظيم الرب وتنزيهه وإثبات كمال قدرته.
وأما سورة الغاشية:
فلما فيها من ذكر يوم القيامة وأحوال أهلها من السعداء والأشقياء، وفيها الحث على التفكر في مخلوقات الله.
• على ماذا يدل قوله (كان يقرأ الجمعة والمنافقين) وقوله (كان يقرأ سبح والغاشية)؟
دليل على أن (كان) لا يراد بها الدوام وإلا لتعارض الحديثان، وإنما المراد أن أكثر قراءته في هذه السور الأربع، تارة هاتين السورتين، وتارة السورتين الأخريين.
(وأقلُّ السنةِ بعد الجمعة ركعتان وأكثرُها أربع).
لأن كل ذلك ورد، سواء صلاهما في البيت أو في المسجد.
جمعاً بين حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا) رواه مسلم.
وعنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما، قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ) متفق عليه.
وفي لفظ (فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ فَصَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ).
قال الإمام أحمد: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين، وإن شاء صلى أربعاً. (المغني).
قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث اِسْتِحْبَاب سُنَّة الْجُمُعَة بَعْدهَا وَالْحَثّ عَلَيْهَا وَأَنَّ أَقَلّهَا رَكْعَتَانِ وَأَكْمَلَهَا أَرْبَع، فَنَبَّهَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:(إِذَا صَلَّى أَحَدكُمْ بَعْد الْجُمُعَة فَلْيُصَلِّ بَعْدهَا أَرْبَعًا (عَلَى الْحَثّ عَلَيْهَا فَأَتَى بِصِيغَةِ الْأَمْر وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا) عَلَى أَنَّهَا سُنَّة لَيْسَتْ وَاجِبَة، وَذَكَرَ الْأَرْبَع لِفَضِيلَتِهَا، وَفَعَلَ الرَّكْعَتَيْنِ فِي أَوْقَات بَيَانًا لِأَنَّ أَقَلّهَا رَكْعَتَانِ. وَمَعْلُوم أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي أَكْثَر الْأَوْقَات أَرْبَعًا لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِهِنَّ وَحَثَّنَا عَلَيْهِنَّ وَهُوَ أَرْغَب فِي الْخَيْر وَأَحْرَص عَلَيْهِ وَأَوْلَى بِهِ. (شرح مسلم)
وذهب بعض العلماء: إلى استحباب أربع ركعات بعد الجمعة.
يروى ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأصحابه، كما في (مصنف ابن أبي شيبة).
وهو اختيار الحنفية، واختيار الإمام الشافعي في "الأم" (7/ 176) حيث قال: أما نحن فنقول: يصلي أربعاً.
واختاره ابن المنذر.
وذهب بعضهم: إلى أنه يصلي ركعتين.
جاء ذلك عن ابن عمر.
وذهب بعضهم: إلى أنه إن صلى في المسجد صلى أربعاً، وإن صلى في بيته صلى ركعتين.
وهذا اختيار ابن تيمية كما نقله عنه تلميذه ابن القيم.
قال ابن القيم: وعلى هذا تدل الأحاديث، وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر (أنه كان إذا صلى في المسجد صلى أربعاً وإذا صلى في بيته صلى ركعتين).
قال الألباني: وهذا التفصيل لا أعرف له أصلاً في السنة.
وذهب بعضهم: إلى استحباب ست ركعات.
وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن جماعة من السلف.
وهو اختيار أبي يوسف والطحاوي من الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها ابن قدامة في "المغني"، واستغربها الحافظ ابن رجب في (القواعد).
…
(الإسلام س ج).
• قوله (بعد الجمعة) دليل على أنه ليس للجمعة سنة قبلية.
فليس لصلاة الجمعة سنة قبلية، إذ لم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد عن الصحابة رضي الله عنهم القول بصلاة راتبة مخصوصة قبل الجمعة، وإنما ورد التنفل المطلق، من غير تخصيص بعدد.
أ- ويدل لذلك حديث ابن عمر السابق (رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ).
وجه الدلالة: أنه لو وقع منه ذلك لضبط كما ضبطت صلاته بعدها، وكما ضبطت صلاته قبل الظهر، فلما لم يذكر لها راتبة إلا بعدها علم أنه لا راتبة لها قبلها.
ب- قال ابن القيم: وَكَانَ إذَا فَرَغَ بِلَالٌ مِنْ الْأَذَانِ أَخَذَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ الْبَتّةَ وَلَمْ يَكُنْ الْأَذَانُ إلّا وَاحِدًا وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْجُمُعَةَ كَالْعِيدِ لَا سُنّةَ لَهَا قَبْلَهَا وَهَذَا أَصَحّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَعَلَيْهِ تَدُلّ السّنّةُ فَإِنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فَإِذَا رَقِيَ الْمِنْبَرَ أَخَذَ بِلَالٌ فِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَكْمَلَهُ أُخِذَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَهَذَا كَانَ رَأْيَ عَيْنٍ فَمَتَى كَانُوا يُصَلّونَ السّنّةَ؟ وَمَنْ ظَنّ أَنّهُمْ كَانُوا إذَا فَرَغَ بِلَالٌ رضي الله عنه مِنْ الْأَذَانِ قَامُوا كُلّهُمْ فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ فَهُوَ أَجْهَلُ النّاسِ بِالسّنّةِ وَهَذَا الّذِي ذَكّرْنَاهُ مِنْ أَنّهُ لَا سُنّةَ قَبْلَهَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشّافِعي. (زاد المعاد)
وذهب بعض العلماء: إلى أن للجمعة سنة قبلية.
أ- لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الجمعة أربعاً) رواه ابن ماجه، وهو ضعيف.
ب- ولحديث عبد الله بن مغفل. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (بين كل أذانين صلاة) متفق عليه.
وجه الدلالة: أنه يدل على مشروعية الصلاة بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة.
ج- قال ابن حجر: وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعاً (ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان). (الفتح).
وجه الدلالة: أن صلاة الجمعة صلاة مفروضة فيكون بين يديها ركعتان
ج- وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجّ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ قَالَ (جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيّ وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ أَصَلّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟ " قَالَ لَا. قَالَ " فَصَلّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوّزْ فِيهِمَا) وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ.
قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيّةَ: وَقَوْلُهُ قَبْلَ أَنْ تَجِيء يَدُلّ عَنْ أَنّ هَاتَيْنِ الرّكْعَتَيْنِ سُنّةُ الْجُمُعَةِ وَلَيْسَتَا تَحِيّةَ الْمَسْجِدِ.
قَالَ شَيْخُنَا حَفِيدُهُ أَبُو الْعَبّاسِ وَهَذَا غَلَطٌ وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ فِي "الصّحِيحَيْنِ" عَنْ جَابِرٍ قَالَ دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ أَصَلّيْتَ قَالَ لَا. قَالَ فَصَلّ رَكْعَتَيْن، وَقَالَ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوّزْ فِيهِمَا فَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَفْرَادُ ابْنِ مَاجَهْ فِي الْغَالِبِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجّاجِ الْحَافِظُ الْمِزّيّ: هَذَا تَصْحِيفٌ مِنْ الرّوَاةِ إنّمَا هُوَ أَصَلّيْتَ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ فَغَلِطَ فِيهِ النّاسِخُ. (زاد المعاد)
د-عن ابن عمر (أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن قوله: (يفعل ذلك) عائد إلى الصلاة قبل الجمعة وبعدها فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الجمعة.
قَال ابن رجب: وظاهر هذا يدل على رفع جميع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قبل الجمعة وبعدها في بيته فإن اسم الإشارة يتناول كل ما قبله مما قرب وبعد صرح به غير واحد من الفقهاء والأصوليين وهذا فيما وضع للإشارة إلى البعيد أظهر مثل لفظة (ذلك) فإن تخصيص القريب بها دون البعيد يخالف وضعها لغة).
(وَيُسَنُّ أَنْ يَغْتَسِلَ).
أي: ويسن لمن أراد أن يحضر لصلاة الجمعة أن يغتسل.
لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) متفق عليه.
ولحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل) متفق عليه.
ولحديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) رواه البخاري.
ولحديث أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من غسل واغتسل وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنى من الإمام ولم يلغو، واستمع، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها) رواه أبو داود.
• قوله (ويسن أن يغتسل) ظاهر هذا أن الغسل للجمعة سنة ليس بواجب، وهذا مذهب جماهير العلماء.
وقد اختلف العلماء في حكم الغسل للجمعة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه واجب.
وهو قول طائفة من السلف، وبه قال أهل الظاهر، وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار. أدلتهم
أ- لحديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ السابق (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ).
ب- ولحديث ابن عمر السابق (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل).
ج- ولحديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَه). متفق عليه
وجه الاستدلال بهذه الأحاديث: أن في بعضها التصريح بلفظ الوجوب، وفي بعضها الأمر به، وفي بعضها أنه حق على كل مسلم، والوجوب يثبت بأقل من هذا.
القول الثاني: أنه مستحب غير واجب.
وهذا مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف.
واستدلوا بعدم الوجوب:
أ- بحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) رواه الخمسة وحسنه الترمذي
فدل على اشتراك الغسل والوضوء في أصل الفضل وعدم تحتيم الغسل.
ب- وبحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من توضأ ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له
…
) رواه مسلم، وهذا أقوى ما استدلوا به.
ج- وعن أَبُي هُرَيْرَةَ قَالَ (بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ فَقَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ. فَقَالَ عُثْمَانُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ ثُمَّ أَقْبَلْتُ. فَقَالَ عُمَرُ وَالْوُضُوءَ أَيْضاً أَلَمْ
تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِل) متفق عليه.
قال النووي: أن الرجل فعله وأقره عمر ومن حضر ذلك الجمع وهم أهل الحل والعقد، ولو كان واجباً لما تركه ولألزموه به.
وقال ابن عبد البر: ومن الدليل على أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل يوم الجمعة ليس بفرض واجب، أن عمر في هذا الحديث لم يأمر عثمان بالانصراف للغسل، ولا انصرف عثمان حين ذكره عمر بذلك، ولو كان الغسل واجباً فرضاً للجمعة ما أجزأت الجمعة إلا به.
قال ابن حجر: وعلى هذا الجواب عوّل أكثر المصنّفين في هذه المسألة: كابن خزيمة، والطّبريّ، والطّحاويّ، وابن حبّان، وابن عبد البرّ وهلمّ جرّاً.
وزاد بعضهم فيه: أنّ من حضر من الصّحابة وافقوهما على ذلك فكان إجماعاً منهم. على أنّ الغسل ليس شرطاً في صحّة الصّلاة، وهو استدلال قويّ. (الفتح).
د- وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْعَوَالِي فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ وَيُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ فَتَخْرُجُ مِنْهُمُ الرِّيحُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا) متفق عليه.
هـ- وبحديث (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيباً).
قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعاطف، فالتقدير الغسل واجب والاستنان والطيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتفاقاً، فدل على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد.
قال ابن حجر: وقد سبق إلى ذلك الطّبريّ والطّحاويّ.
القول الثالث: أن غسل الجمعة واجب على من له عرق أو ريح يتأذى به الناس.
وهذا اختيار ابن تيمية.
لحديث عائشة - السابق - (كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْعَوَالِي فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ وَيُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ فَتَخْرُجُ مِنْهُمُ الرِّيحُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا).
وجه الدلالة: أن الأمر الدال على وجوب الاغتسال للجمعة على كل محتلم إنما هو لمن كان به عرق ونحوه بدليل هذا الحديث.
والراجح قول الجمهور أنه سنة مؤكدة.
•
وأجاب أصحاب القول الأول عن أدلة الجمهور:
أما حديث سمرة فضعيف.
قال الشيخ محمد بن عثيمين: وأما ما روي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل) فهذا الحديث لا يقاوم ما أخرجه الأئمة السبعة وغيرهم، وهو حديث أبي سعيد الذي ذكرناه آنفاً:(غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ثم إن الحديث من حيث السند ضعيف، لأن كثيراً من علماء الحديث يقولون: إنه لم يصح سماع الحسن عن سمرة إلا في حديث العقيقة، وإن كنا رجحنا في المصطلح: أنه متى ثبت سماع الراوي من شيخه، وكان ثقة ليس معروفاً بالتدليس، فإنه يحمل على السماع، على أن الحسن رحمه الله رماه بعض العلماء بالتدليس، ثم إن هذا الحديث من حيث المتن إذا تأملته وجدته ركيكاً ليس كالأسلوب الذي يخرج من مشكاة النبوة:(من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت)(بها) أين مرجع الضمير؟ ففيه شيء من الركاكة أي: الضعف في البلاغة (ومن اغتسل فالغسل أفضل) فيظهر عليه أنه من كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث أبي هريرة (من توضأ يوم الجمعة
…
) فقد ورد بلفظ آخر في الصحيح بلفظ (من اغتسل
…
).
وأما حديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب فأنكر عليه.
فهذا نوقش بأنه يدل على الوجوب، لأنه قطع الخطبة منكراً على عثمان ترك الغسل.
قال الشوكاني: فما أراه إلا حجة على القائل بالاستحباب لا له، لأن إنكار عمر على رأس المنبر في ذلك الجمع على مثل ذلك الصحابي الجليل وتقرير جميع الحاضرين الذين هم جمهور الصحابة لما وقع من ذلك الإنكار، من أعظم الأدلة القاضية بأن الوجوب كان
معلوماً عند الصحابة.
وأيضاً: إنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت، إذ لو فعل لفاتته الجمعة.
•
وأجاب الجمهور عن أصحاب القول الثاني:
أولاً: أما حديث (غسل يوم الجمعة واجب على
…
).
فقد جاء في بعض ألفاظ الحديث زيادة وهي (والسواك، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه) والسواك والطيب غير واجبين بالإجماع، فاقتران الغسل بهما يدل على عدم الوجوب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد.
وقالوا: إن معنى (واجب) أي: وجوب اختيار لا وجوب إلزام، إذ هو محمول على تأكيد السنية كما يقال: حقك أو إكرامك عليّ واجب.
ثانياً: وأما حديث (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل).
فهذا مصروف عن الوجوب إلى الاستحباب بالأدلة الأخرى التي سبقت في أدلة القول الثاني.
فائدة:
قال ابن القيم: الأمر بالاغتسال في يومها، وهو أمر مؤكدٌ جداً، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مس النساء، ووجوب الوضوء من مس الذكر، ووجوب الوضوء من القهقهة في الصلاة، ووجوب الوضوء من الرُّعاف، والحجامة والقيء، ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، ووجوب القراءة على المأموم.
•
اختلف العلماء في وقت الاغتسال؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يشترط الاتصال بين الغسل والرواح.
وإليه ذهب مالك.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اغتسل ثم راح في الساعة الأولى).
القول الثاني: عدم الاشتراط.
لكن لا يجزئ فعله بعد الصلاة، ويستحب تأخيره على الذهاب.
وهذا مذهب الجمهور.
قالوا: لأن الغسل لإزالة الروائح الكريهة، والمقصود عدم تأذي الآخرين.
القول الثالث: أنه لا يشترط تقديم الغسل على صلاة الجمعة، بل لو اغتسل قبل الغروب أجزأ عنه.
وإليه ذهب داود ونصره ابن حزم.
والراجح القول الثاني (مذهب الجمهور).
وادعى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة.
•
الاغتسال للصلاة لا لليوم، ويدل لذلك:
أ- قوله صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل).
ب- عن ابن عمر (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ فَقَالَ إِنِّي شُغِلْتُ الْيَوْمَ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ. قَالَ عُمَرُ وَالْوُضُوءَ أَيْضاً وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ) متفق عليه.
وجه الدلالة: حيث أنكر عمر على عثمان إتيانه الجمعة مقتصراً على الوضوء وتاركاً للغسل، ولو كان وقت الغسل لم يذهب بعد، لم يكن الإنكار في محله، فكان يمكن لعثمان أن يغتسل بعد الجمعة، فدل هذا على أن الغسل لحضور الصلاة وليس لذات اليوم.
ج- ولحديث أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة) متفق عليه.
وجه الدلالة: قوله (من اغتسل ثم راح) فالتعبير بـ (ثم) دليل على الترتيب، فكان الغسل قبل الرواح.
قال النووي رحمه الله: لو اغتسل للجمعة قبل الفجر لم تجزئه على الصحيح من مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء.
وقال الأوزاعي: يجزئه.
ولو اغتسل لها بعد طلوع الفجر أجزأه عندنا وعند الجمهور، حكاه ابن المنذر عن الحسن ومجاهد والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور.
…
(المجموع).
• الغسل خاص بمن أراد المجيء للجمعة، وعليه فلا غسل على امرأة أو صبي أو مسافر لا يحضر.
ويدل لذلك:
لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم الجمعة
…
)
ولقوله صلى الله عليه وسلم (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح
…
) فقوله (ثم راح .. ) دليل أن الغسل قبل الرواح.
فلا يشرع للمرأة وغيرها ممن لا يريد حضور الجمعة.
قال ابن حجر: واستدل من مفهوم الحديث على أنّ الغسل لا يشرع لمن لَم يحضر الجمعة، وقد تقدّم التّصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع، وهذا هو الأصحّ عند الشّافعيّة، وبه قال الجمهور خلافاً لأكثر الحنفيّة.
(وَيَتَنَظَّفَ).
أي: بقص شارب، وتقليم ظفر، ونتف إبط ونحوه، وبقطع روائح كريهة، بسواك وغيره.
(وَيَتَطَيَّبَ).
أي: ويستحب لمن أتى الجمعة أن يتطيب.
قال ابن رجب: وأكثر العلماء على استحباب الطيب للجمعة.
أ- لحديث أَبِي سَعِيدٍ قَالَ. قال صلى الله عليه وسلم (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَسِوَاكٌ وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْه) متفق عليه.
وجاء في رواية لمسلم (و لو من طيب المرأة).
قال الحافظ: و هو ما ظهر لونه و خف ريحه.
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (وَسِوَاك وَيَمَسّ مِنْ الطِّيب) مَعْنَاهُ: وَيُسَنّ السِّوَاك وَمَسُّ الطِّيب، وَقَوْله صلى الله عليه وسلم (مَا قَدَرَ عَلَيْهِ). قَالَ الْقَاضِي: مُحْتَمِل لِتَكْثِيرِهِ وَمُحْتَمِل لِتَأْكِيدِهِ حَتَّى يَفْعَلهُ بِمَا أَمْكَنَهُ وَيُؤَيِّدهُ. قَوْله: (وَلَوْ مِنْ طِيب الْمَرْأَة) وَهُوَ الْمَكْرُوه لِلرِّجَالِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ لَوْنه وَخَفِيَ رِيحه فَأَبَاحَهُ لِلرَّجُلِ هُنَا لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ غَيْره، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى تَأْكِيده، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ب- وعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِي قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى) رواه البخاري.
قال ابن القيم: الْخَاصّةُ الْخَامِسَةُ التّطَيّبُ فِيهِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ التّطَيّبِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَيّامِ الْأُسْبُوع.
(وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ).
أي: ويسن أن يلبس لصلاة الجمعة أحسن ثيابه.
قال ابن قدامة: (وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَيَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ، وَيَتَطَيَّبَ) لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ.
وقال ابن القيم: يُسْتَحَبّ أَنْ يُلْبَسَ فِيهِ أَحْسَنُ الثّيَابِ الّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا.
أ- لحديث ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) متفق عليه.
وجه الدلالة من الحديث: من جهة تقريره صلى الله عليه وسلم لعمر على أصل التجمل للجمعة، وقصر الإنكار على لبس مثل تلك الحلة لكونها كانت
حريراً. (الفتح).
وقال ابن الملقن: فإن سكوته صلى الله عليه وسلم يدل على مشروعية تجمل الإنسان للجمعة والوفود ومجامع المسلمين الذي يقصدونها، لإظهار جمال الإسلام، والإغلاظ على العدو، وكان ذلك عند عمر مقرراً - أعني التجمل - فلذا قاله.
ب- وعن عبد الله بن سلام. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ - أَوْ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدْتُمْ - أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ) رواه أبو داود.
قال في عون المعبود: و الحديث يدل على استحباب لُبس الثياب الحسنة يوم الجمعة، و تخصيصه بملبوس غير ملبوس سائر الأيام.
ج- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ، ثُمَّ صَلَّى مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمُعَتِهِ الَّتِي قَبْلَهَا - قَالَ: وَيَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةِ: وَزِيَادَةٌ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ - وَيَقُولُ: إِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) رواه أبو داود.
د- عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ وَأَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، إِذَا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَبِسُوا أَحْسَنَ ثِيَابِهِمْ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ طِيبٌ مَسُّوا مِنْهُ، ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ. مصنف ابن أبي شيبة.
ه- وعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: اِلْبَسْ أَفْضَلَ ثِيَابِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ مَا تَجِدُ.
و- وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةٍ، قَالَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ مُزَيْنَةَ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اغْتَسَلُوا، وَلَبِسُوا مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِمْ، وَتَطَيَّبُوا.
(وَيُبَكِّرَ إِلَيْهَا).
أي: ويسن التبكير في الذهاب لصلاة الجمعة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَة، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً. وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ. وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً. وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً. فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْمَعُونَ الذِّكْرَ) متفق عليه.
قال الحافظ رحمه الله: " قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَاحَ) زَادَ أَصْحَاب الْمُوَطَّأ عَنْ مَالِك " فِي السَّاعَة الْأُولَى ".
قوله (من راح) الْمُرَاد بِالرَّوَاحِ الذَّهَاب أَوَّل النَّهَار.
ب- ولحديث أَوْس بْن أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ. قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا) رواه أبو داود.
ح- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ الْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) متفق عليه.
قال النووي: وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير أَصْحَابه وَابْن حَبِيب الْمَالِكِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء اِسْتِحْبَاب التَّبْكِير إِلَيْهَا أَوَّل النَّهَار، وَالسَّاعَات عِنْدهمْ مِنْ أَوَّل النَّهَار. (شرح مسلم).
• قوله (
…
في الساعة
…
) اختلف العلماء في تحديد هذه الساعة على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها تبدأ من طلوع الفجر.
والثاني: أنها تبدأ من طلوع الشمس، ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
والثالث: أنها ساعة واحدة بعد الزوال تكون فيها هذه الساعات، وهو مذهب مالك، واختاره بعض الشافعية.
والقول الثالث ضعيف، وقد رد عليه كثيرون:
والصواب هو القول الثاني وأن الساعات تبدأ من طلوع الشمس، وتقسم على حسب الوقت بين طلوع الشمس إلى الأذان الثاني خمسة أجزاء، ويكون كل جزء منها هو المقصود بالـ " الساعة " التي في الحديث.
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: متى تبدأ الساعة الأولى من يوم الجمعة؟
فأجاب: الساعات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم خمس: فقال: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) فقسَّم الزمن من طلوع الشمس إلى مجيء الإمام خمسة أقسام، فقد يكون كل قسم بمقدار الساعة المعروفة، وقد تكون الساعة أقل أو أكثر؛ لأن الوقت يتغير، فالساعات خمس ما بين طلوع الشمس ومجيء الإمام للصلاة، وتبتدئ من طلوع الشمس، وقيل: من طلوع الفجر، والأول أرجح؛ لأن ما قبل طلوع الشمس وقت لصلاة الفجر. (الفتاوى)
• قوله (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ) استدل به بعض العلماء على استحباب الجماع يوم الجمعة.
لكن الصحيح أنه ليس فيه دليلاً على ذلك، لأن المراد بالحديث أي كغسل الجنابة، بدليل أنه جاء في رواية عند عبد الرزاق (فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة) وهذا قول الأكثر.
قال النووي: قوله (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة .. ) مَعْنَاهُ: غُسْلًا كَغُسْلِ الْجَنَابَة فِي الصِّفَات. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي تَفْسِيره، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا فِي كُتُب الْفِقْه: الْمُرَاد غُسْل الْجَنَابَة حَقِيقَة، قَالُوا:
وَيُسْتَحَبّ لَهُ مُوَاقَعَة زَوْجَته لِيَكُونَ أَغَضَّ لِلْبَصَرِ وَأَسْكَنَ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا ضَعِيف أَوْ بَاطِل، وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ.
• أن من جاء بعد خروج الإمام لم يكتب له شيء من أجر التقدم، ولذلك جاء في رواية (وطويت الصحف).
قال ابن القيم: أي صحف الفضل، فأما صحف الفرض فإنها لا تطوى، لأن الفرض يسقط بعد ذلك.
فائدة: 1
قوله (مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ) اختلف في معناها:
فقيل: أن معنى غسل أي غسل رأسه، ومعنى اغتسل أي غسل سائر بدنه.
وقيل معنى غسل أي جامع زوجته فأوجب عليها الغسل فكأنه غسلها واغتسل هو أيضا بسب ذلك.
وقيل المراد تأكيد الغسل.
وقد اختلف في الأولى من هذه التفسيرات فاختار بعضهم المعنى الأول نقل ذلك السيوطي عن النووي.
ففي شرح النسائي للسيوطي: والمختار أن معناه غسل رأسه، ويؤيده رواية أبي داود في هذا الحديث (من غسل رأسه من يوم الجمعة).
وقال الخطابي: اختلف الناس في معناه:
فمنهم من ذهب إلى أنه من الكلام المظاهر الذي يراد به التوكيد ولم تقع المخالفة بين المعنيين لاختلاف اللفظين. وقال ألا تراه يقول في هذا الحديث ومشى ولم يركب ومعناهما واحد.
وإلى هذا ذهب الأثرم صاحب أحمد.
وقال بعضهم: قوله (غسّل) معناه غسل الرأس خاصة، وذلك لأن العرب لهم لِمم وشعور، وفي غسلها مؤونة فأفرد ذكر غسل الرأس من أجل ذلك، وقوله (واغتسل) معناه غسل سائر الجسد.
وإلى هذا ذهب مكحول.
وزعم بعضهم أن قوله (غسّل) معناه أصاب أهله قبل خروجه إلى الجمعة، ليكون أملك لنفسه وأحفظ في طريقه لبصره.
وقال الشيخ اين عثيمين: معناها غسّل بتنظيف الجسم، واغتسل، أي: بالغ في ذلك، أو اغتسل كغسل الجنابة.
فائدة: 2
قوله (ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ).
(بكّر) أي: أتى الصلاة في أول وقتها.
(وَابْتَكَرَ) قيل: أدرك أو الخطبة، ورجح العراقي، وقيل: كرره للتأكيد، وبه جزم ابن العربي.
(مَاشِياً).
أن: يسن أن يذهب إلى الجمعة ماشياً.
أ- للحديث السابق (مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، .... ).
ب- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّى تبارك وتعالى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ قَالَ أَحْسَبُهُ قَالَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِى فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى قَالَ قُلْتُ لَا. قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَ أَوْ قَالَ فِي نَحْرِي فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ قَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِى فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فِي الْكَفَّارَاتِ. وَالْكَفَّارَاتُ الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَالْمَشْيُ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ قَالَ وَالدَّرَجَاتُ إِفْشَاءُ السَّلَامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَام) رواه الترمذي.
قال ابن رجب: والمشي إِلَى الجُمُعات له مزيد فضل، لاسيما إن كان بعد الاغتسال، كما في السنن عن أوس بن أوس، .. وكلما بعد المكان الَّذِي يمشي منه إِلَى المسجد كان المشي منه أفضل لكثرة الخُطا.
والمشيُ إِلَى المسجد أفضل من الركوب كما تقدّم في حديث أوس في الجُمُعة، ولهذا جاء في حديث معاذ ذكرُ المشي عَلَى الأقدام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرجُ إِلَى الصلاة إلا ماشيًا حتى العيد يخرج إِلَى المُصلَّى ماشيًا، فإن الآتي للمسجد زائر الله، والزيارة عَلَى الأقدام أقربُ إِلَى الخضوع والتذلل. (رسائل ابن رجب).
• قوله صلى الله عليه وسلم (ومشى ولم يركب).
قال النووي: حكى الخطابي عن الأثرم أنه للتأكيد، وأنهما بمعنى.
والمختار أنه احتراز من شيئين:
أحدهما: نفي توهم حمل المشي على المضي والذهاب، وإن كان راكباً.
والثاني: نفي الركوب بالكلية; لأنه لو اقتصر على " مشى " لاحتمل أن المراد وجود شيء من المشي ولو في بعض الطريق، فنفى ذلك الاحتمال، وبين أن المراد مشى جميع الطريق، ولم يركب في شيء منها. (شرح المهذب).
• جاء في كشاف القناع:
…
(ماشياً) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ)(إنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، فَإِنْ كَانَ) لَهُ عُذْرٌ (فَلَا بَأْسَ بِرُكُوبِهِ ذَهَابًا وَإِيَابًا) لَكِنْ الْإِيَابُ رَاكِبًا لَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ.
(ويدنو مِنَ الإِمَامِ).
أي: ويسن أن يدنو من الإمام.
للحديث السابق (وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ
…
).
قال النووي: أما قوله صلى الله عليه وسلم (ودنا واستمع) فهما شيئان مختلفان، وقد يستمع ولا يدنو من الخطبة، وقد يدنو ولا يستمع فندب إليهما جميعاً.
وقال المبارك فوري: وفيه أنه لا بد من الأمرين جميعاً، فلو استمع وهو بعيد، أو قرب ولم يستمع، لم يحصل له هذا الأجر.
(وَيَقْرَأَ سُورَةَ الكَهْفِ فِي يَوْمِهَا).
أي: يسن يوم الجمعة قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة.
ورد في فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلتها أحاديث اختلف العلماء في صحتها.
عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) رواه الحاكم.
وهذا الحديث رواه الدارمي موقوفاً على أبي سعيد.
وهذا الحديث مختلف في إسناده.
والصحيح أنه موقوف على أبي سعيد.
لكن هذا الموقوف له حكم الرفع، لأن الصحابي لا يمكن أن يشرع عبادة مستقلة، في وقت خاص من قِبل نفسه.
• وقد استحب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة جمهور العلماء: من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
• جاء عند الدارمي بلفظ (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة
…
) لكنها شاذة.
• هذا الفضل يثبت بقراءة السورة كاملة أما من قرأ بعضها فلا يثبت له هذا الفضل.
• قال ابن تيمية: قراءة سورة الكهف يوم الجمعة فيها آثار ذكرها اهل الحديث والفقه لكن هي مطلقة يوم الجمعة ما سمعت انها مختصة بعد العصر.
(وَيُكْثِرَ الدُّعَاءَ).
رجاء أن يدرك ساعة الإجابة التي في يوم الجمعة.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ (فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّى يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ) متفق عليه.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ)
قوله (فِيهِ سَاعَةٌ) المراد بالساعة: قطعة من الزمن، فليس المراد الساعة المشهورة والمتداولة بين الناس.
وقد اختلف العلماء في تعيين هذه الساعة على أقوال، أقواها قولان:
القول الأول: أنَّها من جلوسِ الإمامِ إلى انقضاءِ الصَّلاة.
لحديث أَبِى بُرْدَةَ بْنِ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ). رواه مسلم
ورجح هذا القول النووي، وابن رجب، والقرطبي.
قال النووي: وَالصَّحِيح بَلْ الصَّوَاب مَا رَوَاهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا مَا بَيْن أَنْ يَجْلِس الْإِمَام إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاة.
وقال ابن رجب: وهذا القول -أعني: أنها بعد زوال الشمس إلى انقضاء الصلاة، أو أنها ما بين أن تقام الصلاة إلى أن يفرغ منها- أشبه بظاهر قولُ النبي صلى الله عليه وسلم (لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ قائمٌ يصلي يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه)، فإنه أن أريد به صلاة الجمعة كانت من حين إقامتها إلى الفراغ منها، وإن أريد به صلاة التطوع كانت من زوال الشمس إلى خروج الإمام؛ فإن هذا وقت صلاة تطوعٍ، وإن أريد بها أعم من ذلك - وهو الأظهر - دخل فيه صلاة التطوع بعد زوال الشمس. (فتح الباري)
وقال القرطبي: وحديث أبي موسى نصٌ في موضع الخلاف، فلا يلتفت إلى غيره. (المفهم)
القول الثاني: أنها بعد العصر.
وهذا قول أكثر السلف.
قال ابن القيم: وهذا قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخلق.
أ- لحديث جَابِر بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ - يُرِيدُ - سَاعَةً، لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل شَيْئًا، إِلاَّ أَتَاهُ اللَّهُ عز وجل، فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْر) رواه أبو داود.
ب- وعنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ (قُلْتُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا، إِلاَّ قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَأَشَارَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ، فَقُلْتُ: صَدَقْتَ، أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ. قُلْتُ: أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ، قُلْتُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ، قَالَ: بَلَى، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ، لَا يَحْبِسُهُ إِلاَّ الصَّلَاةُ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ) رواه ابن ماجه.
ج- وعن أبي سَلمةَ بنِ عَبدِ الرحمنِ (أنَّ ناسًا من الصَّحابةِ اجتمَعوا فتذاكروا ساعةَ الجُمُعة، ثم افترَقوا فلم يختلفوا أنَّها آخِرُ ساعةٍ من يومِ الجُمُعة) أخرجه سعيد بن منصور، وصحح إسناده ابن حجر، والصنعاني.
قال ابن القيم: وأرجح هذه الأقوال: قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجح من الآخر.
الأول: أنها من جلوس الإِمام إلى انقضاء الصلاة.
والثاني: أنها بعد العصر.
وهذا أرجح القولين.
وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإِمام أحمد، وخلق.
وقال الشوكاني: والقول بأنها آخر ساعة من اليوم هو أرجح الأقوال، وإليه ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة.
وقال الحافظ ابن حجر: وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك، وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة، ثم افترقوا، فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ورجَّحه كثير من الأئمة أيضا، كأحمد، وإسحاق، ومن المالكية: الطرطوشي، وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني - شيخ الشافعية في وقته - كان يختاره، ويحكيه عن نص الشافعي. (الفتح).
فائدة:
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي) وبعد صلاة العصر ليس وقتا للصلاة، فهناك احتمالان في معنى قوله (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي):
الأول: أن يكون معناه الجلوس وانتظار الصلاة، ويسمى ذلك شرعاً " صلاة ".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: فَقُلْتُ لَهُ - أي: لعبد الله بن سلام - فَأَخْبِرْنِي بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي)، وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَا يُصَلِّي فِيهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ)؟ قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هُوَ ذَاك) رواه الترمذي.
والثاني: ويحتمل أن يكون معناه الدعاء، والصلاة في اللغة هي "الدعاء".
قال العيني: فهذا دل على أن المراد من الصلاة: الدعاء، ومن القيام: الملازمة، والمواظبة، لا حقيقة القيام. (عمدة القاري)
فيكون معنى (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي) أي: وهو ملازم للدعاء.
(وَيُكْثِرَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-).
أي: ويسن الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة.
أ- عن أوس بن أوس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ مِنْ أفْضَلِ أيَّامِكُمْ يَومَ الجُمُعَةِ، فَأكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ، فَإنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ». قَالَ: قالوا: يَا رسول الله، وَكَيفَ تُعْرَضُ صَلاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟! قَالَ: يقولُ بَلِيتَ. قَالَ: (إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ». رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح.
ب- وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ؛ فَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْراً) رواه البيهقي.
قال ابن القيم: اسْتِحْبَابُ كَثْرَةِ الصّلَاةِ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ وَفِي لَيْلَتِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثِرُوا مِنْ الصّلَاةِ عَلَيّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَيّدُ الْأَنَامِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ سَيّدُ الْأَيّامِ فَلِلصّلَاةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَزِيّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مَعَ حِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنّ كُلّ خَيْرٍ نَالَتْهُ أُمّتُهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنّمَا نَالَتْهُ عَلَى يَدِهِ فَجَمَعَ اللّهُ لِأُمّتِهِ بِهِ بَيْنَ خَيْرَيْ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَأَعْظَمُ كَرَامَةٍ تَحْصُلُ لَهُمْ فَإِنّمَا تَحْصُلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنّ فِيهِ بَعْثَهُمْ إلَى مَنَازِلِهِمْ وَقُصُورِهِمْ فِي الْجَنّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْمَزِيدِ لَهُمْ إذَا دَخَلُوا الْجَنّةَ وَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ فِي الدّنْيَا وَيَوْمٌ فِيهِ يُسْعِفُهُمْ اللّهُ تَعَالَى بِطَلَبَاتِهِمْ
وَحَوَائِجِهِمْ وَلَا يَرُدّ سَائِلَهُمْ وَهَذَا كُلّهُ إنّمَا عَرَفُوهُ وَحَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِهِ وَعَلَى يَدِهِ فَمَنْ شَكَرَهُ وَحَمِدَهُ وَأَدَاءُ الْقَلِيلِ مِنْ حَقّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُكْثِرَ مِنْ الصّلَاةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَيْلَتِهِ.
(ويُكره أن يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ).
أي: يكره لمن أتى المسجد يوم الجمعة أن يتخطى رقاب الناس.
لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه قال (جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ) رواه أبو داود.
ففي هذا الحديث: النهي عن تخطي رقاب الجالسين لصلاة الجمعة.
وبالكراهة قال الجمهور.
ونقله ابن المنذر عن الجمهور.
وقال ابن حجر: والأكثر على أنها كراهة تنزيه، وهو المشهور عند الشافعية، ومذهب الحنابلة.
وقَيَّد مالك والأوزاعي الكراهة بما إذا كان الخطيب على المنبر.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يحرم ذلك.
لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ السابق (اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ) ..
قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، كرهوا أن يتخطى الرجل يوم الجمعة رقاب الناس، وشددوا في ذلك " انتهى.
وهذا ما رجحه جمع من المحققين: كابن المنذر، وابن عبد البر، والنووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين.
قال ابن المنذر معللاً القول بالتحريم: لأن الأذى يحرم قليله وكثيره، وهذا أذى، كما جاء في الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن يراه يتخطى:(اجلس فقد آذيت) "المجموع).
وقال ابن عبد البر: وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتخطي يوم الجمعة: (آذيت) بيان أن التخطي أذى، ولا يحل أذى مسلم بحال، في الجمعة وغير الجمعة.
وقال النووي في (روضة الطالبين) المختار أن تخطي الرقاب حرام، للأحاديث فيه.
وقال الشيخ ابن عثيمين: تخطي الرقاب حرام حال الخطبة وغيرها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل رآه يتخطى رقاب الناس:(اجلس فقد آذيت) ويتأكد ذلك إذا كان في أثناء الخطبة؛ لأن فيه أذيةً للناس، وإشغالاً لهم عن استماع الخطبة، حتى وإن كان التخطي إلى فرجة؛ لأن العلة وهي الأذية موجودة " انتهى.
(إلا أن يكونَ إماماً).
أي: إلا أن يكون من يتخطى الرقاب إماماً فيجوز له ذلك، إذا لم يجد طريقاً إلا ذلك.
قال ابن قدامة: فَأَمَّا الْإِمَامُ إذَا لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ التَّخَطِّي، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. (المغني).
جاء في (الموسوعة الفقهية)
…
فَإِنْ كَانَ الْمُتَخَطِّي هُوَ الإْمَامَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلاَّ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ لِيَصِل إِلَى مَكَانِهِ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ؛ لأِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ.
(إلا إلى فُرجَةٍ).
أي: فيجوز أن يتخطى إلى تلك الفرجة.
قال ابن قدامة: ومن لم يجد موضعاً إلا فرجة، لا يصل إليها بتخطي الرجل والرجلين، فلا بأس، فإن تركوا أول المسجد فارغاً وجلسوا دونه، فلا بأس بتخطيهم؛ لأنهم ضيعوا حق نفوسهم.
…
(الكافي).
وقال النووي: وإن رأى فرجة قدامهم، لا يصلها إلا بالتخطي، قال الأصحاب: لم يكره التخطي; لأن الجالسين وراءها مفرطون بتركها، وسواء وجد غيرها أم لا، وسواء كانت قريبة أم بعيدة.
ثم قال: لكن يستحب إن كان له موضع غيرها أن لا يتخطى، وإن لم يكن موضع، وكانت قريبة بحيث لا يتخطى أكثر من رجلين ونحوهما دخلها، وإن كانت بعيدة ورجا أنهم يتقدمون إليها إذا أقيمت الصلاة يستحب أن يقعد موضعه ولا يتخطى، وإلا فليتخط
…
ثم ذكر عن قتادة أنه قال: يتخطاهم إلى مجلسه، وعن أبي نصر جواز ذلك بإذنهم، قال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك عندي. لأن الأذى يحرم قليله وكثيره.
وقال ابن حجر: وقد استثني من كراهة التخطي ما إذا كان في الصفوف الأول فرجة فأراد الداخل سدها فيغتفر له لتقصيرهم.
(وحَرُمَ أن يقيمَ غيرَهُ فيجلسَ مكانَه).
أي: يحرم أن يقيم غيره من المكان الذي كان جالساً فيه ليجلس هو فيه.
أ- لحديث ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا) متفق عليه.
ب- وعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ لْيُخَالِفْ إِلَى مَقْعَدِهِ فَيَقْعُدَ فِيهِ وَلَكِنْ يَقُولُ افْسَحُوا) رواه مسلم.
ج- وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ اللَّهِ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَكَان فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَبَقَ إلَى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَكَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَمَشَارِعِ الْمِيَاهِ وَالْمَعَادن. (المغني)
قال النووي: في قوله (لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ
…
) هَذَا النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِع مُبَاح فِي الْمَسْجِد وَغَيْره يَوْم الْجُمُعَة أَوْ غَيْره لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرهَا فَهُوَ أَحَقّ بِهِ، وَيَحْرُم عَلَى غَيْره إِقَامَته لِهَذَا الْحَدِيث، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابنَا اِسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا إِذَا أَلِف مِنْ الْمَسْجِد مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ، أَوْ يَقْرَأ قُرْآنًا أَوْ غَيْره مِنْ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة، فَهُوَ أَحَقّ بِهِ، وَإِذَا حَضَرَ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْعُد فِيهِ. وَفِي مَعْنَاهُ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِع مِنْ الشَّوَارِع وَمَقَاعِد الْأَسْوَاق لِمُعَامَلَةِ. (شرح مسلم).
فائدة: 1
جاء في رواية (وَكَانَ اِبْن عُمَر إِذَا قَامَ لَهُ رَجُل عَنْ مَجْلِسه لَمْ يَجْلِس فِيهِ)
قال النووي: فَهَذَا وَرَع مِنْهُ، وَلَيْسَ قُعُوده فِيهِ حَرَامًا إِذَا قَامَ بِرِضَاهُ، لَكِنَّهُ تَوَرَّعَ عَنْهُ لِوَجْهَيْنِ:
أحَدهمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا اِسْتَحَى مِنْهُ إِنْسَان فَقَامَ لَهُ مِنْ مَجْلِسه مِنْ غَيْر طِيب قَلْبه، فَسَدَّ اِبْن عُمَر الْبَاب لِيَسْلَم مِنْ هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِيثَار بِالْقُرْبِ مَكْرُوه أَوْ خِلَاف الْأَوْلَى، فَكَانَ اِبْن عُمَر يَمْتَنِع مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَرْتَكِب أَحَد بِسَبَبِهِ مَكْرُوهًا، أَوْ خِلَاف الْأَوْلَى بِأَنْ يَتَأَخَّر عَنْ مَوْضِعه مِنْ الصَّفّ الْأَوَّل وَيُؤْثِرهُ بِهِ وَشِبْه ذَلِكَ. قَالَ أَصْحَابنَا: وَإِنَّمَا يُحْمَد الْإِيثَار بِحُظُوظِ النُّفُوس وَأُمُور الدُّنْيَا دُون الْقُرْب.
فائدة: 2
المذهب أنه يجوز أن يقيم الصغير، ويجلس مكانه،
ولكن الصحيح أنه لا يجوز أن يقيم الصغير لما يلي:
أولاً: لعموم النهي (لا يقيم الرجل أخاه).
ثانياً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به).
وهذا الصبي سابق فلا يجوز لنا أن نهدر حقه، وأن نظلمه ونقيمه.
ودليل المذهب: قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) وهذا استناد إلى غير مستند؛ لأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) حث أولي الأحلام والنهى أن يتقدموا، ولو قال (لا يلني منكم إلا أولو الأحلام) لكان لنا الحق أن نقيم الصغير. (الشرح الممتع).
(وكُرهَ إيثارُ غيرهِ بمكانهِ).
أي: يكره له أن يجعل ويؤثر آخر مكانه، فلا إيثار في القربات والطاعات، حتى ذكرها بعض العلماء قاعدة (لا إيثار في القرب).
لأن هذا يدل على رغبته عن هذه الطاعة وزهده فيها.
قال ابن القيم: فالشارع لم يجعل الطاعات والقربات محلاً للإيثار، بل محلاً للتنافس والمسابقة.
ومما يدل على هذا: أنه سبحانه أمر بالمسابقة في أعمال البر والتنافس فيها والمبادرة إليها، وهذا ضد الإيثار بها.
قال تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
…
).
وقال تعالى (فاستبقوا الخيرات) وقال تعالى (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لكانت قرعة) والقرعة إنما تكون عند التزاحم والتنافس لا عند الإيثار.
وأيضاً فإن المقصود رغبة العبد في التقرب إلى الله، وابتغاء الوسيلة إليه، والمنافسة في محابه، والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه، وتركه له وعدم المنافسة فيه. (طريق الهجرتين).
وقال النووي: وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْثَر فِي الْقُرَب، وَإِنَّمَا الْإِيثَار الْمَحْمُود مَا كَانَ فِي حُظُوظ النَّفْس دُون الطَّاعَات، قَالُوا: فَيُكْرَه أَنْ يُؤْثِر غَيْره بِمَوْضِعِهِ مِنْ الصَّفّ الْأَوَّل.
قال سلطان العلماء الشيخ عز الدين: "لا إيثار في القربات، لأن الغرض بالعبادات التعظيم والإجلال، فمن آثر به فقد ترك إجلال الله وتعظيمه.
وقال الخطيب البغدادي في (الجامع): "والإيثار بالقرب مكروه.
وقال السيوطي: الإيثار في القرب مكروه وفي غيرها محبوب، قال تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة).
ويدل لذلك:
حديث سَهْل بْن سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ (أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ هُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ قَالَ يَا غُلَامُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ الأَشْيَاخَ فَقَالَ مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ) متفق عليه.
فائدة:
القرب الواجبة: لا يجوز الإيثار بها.
ومثاله: رجل معه ماء يكفي لوضوء رجل واحد فقط، وهو على غير وضوء، وصاحبه الذي معه على غير وضوء ففي هذه الحال لا يجوز أن يؤثر صاحبه بهذا الماء؛ لأنه يكون قد ترك واجباً عليه وهو الطهارة بالماء، فالإيثار في الواجب حرام.
وأما الإيثار المحمود فهو الإيثار في حظوظ الدنيا.
(ومنْ قامَ مِن موضعهِ لعارضٍ لَحِقَه ثم عادَ إليهِ قريباً فهو أحقُّ بهِ).
أي: إذا قام هذا المصلي من موضعه لعارض (كوضوء، أو قضاء حاجة) ثم عاد فهو أحق بهذا المكان.
أ- لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) رواه مسلم.
قال النووي: قالَ أَصْحَابنَا: هَذَا الْحَدِيث فِيمَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِع مِنْ الْمَسْجِد أَوْ غَيْره لِصَلَاةٍ مَثَلًا، ثُمَّ فَارَقَهُ لِيَعُودَ بِأَنْ فَارَقَهُ لِيَتَوَضَّأ أَوْ يَقْضِي شُغْلًا يَسِيرًا ثُمَّ يَعُود لَمْ يَبْطُل اِخْتِصَاصه، بَلْ إِذَا رَجَعَ فَهُوَ أَحَقّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاة، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَعَدَ فِيهِ غَيْره فَلَهُ أَنْ يُقِيمهُ، وَعَلَى الْقَاعِد أَنْ يُفَارِقهُ لِهَذَا الْحَدِيث. هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا، وَأَنَّهُ يَجِب عَلَى مَنْ قَعَدَ فِيهِ مُفَارَقَته إِذَا رَجَعَ الْأَوَّل. قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: هَذَا مُسْتَحَبّ، وَلَا يَجِب، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك، وَالصَّوَاب الْأَوَّل. (شرح مسلم)
ب- وعَنْ وَهْبِ بْنِ حُذَيْفَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ). رواه الترمذي
• قوله (لعارض) أي: ترك هذا المكان لعذر، ثم عاد إليه، فأما إن تركه لغير عذر فيبطل حقه فيه بلا خلاف، ذكره النووي في (المجموع).
• قوله (ثم عادَ إليهِ قريباً) ظاهر هذا أنه لو تأخر طويلاً فليس أحق به، فلغيره أن يجلس فيه.
وقال بعض العلماء: بل هو أحق، ولو عاد بعد مدة طويلة إذا كان العذر باقياً، وهذا القول أصح.
لأن استمرار العذر كابتدائه، فإنه إذا جاز أن يخرج من المسجد، ويُبقي المصلَّى إذا حصل له عذر، فكذلك إذا استمر به العذر، لكن من المعلوم أنه لو أقيمت الصلاة، ولم يزل غائباً فإنه يرفع. (الشرح الممتع).
فائدة: 1
وإذا عاد إلى مكانه فلا بأس بتخطي الرقاب،
لأن هذا مستثنى من النهي.
فائدة: 2
تقدم أن تخطي الرقاب منهي عنه،
لكن إذا كان لعذر فيجوز، ويدخل في ذلك عدة صور:
فمنها: الإمام إذا كان لا يجد طريقاً إلى موضعه إلا بالتخطي.
ومنها: أن يريد الخروج من مكانه لحاجة.
ومنها: إذا كان جالساً في موضع متقدم ثم قام منه لعارض ثم عاد إليه جاز له التخطي.
قال ابن قدامة: إذَا جَلَسَ فِي مَكَان، ثُمَّ بَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ، أَوْ احْتَاجَ إلَى الْوُضُوءِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ.
(قَالَ عُقْبَةُ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلَى حُجَرِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَ: ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ).
وَحُكْمُهُ فِي التَّخَطِّي إلَى مَوْضِعِهِ حُكْمُ مَنْ رَأَى بَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةً.
فائدة: 3
حجر الأمكنة في المسجد.
ذهب بعض العلماء: إلى جوازها.
وذهب بعضهم: إلى تحريمها، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال ابن تيمية: لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَحَجَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ شَيْئًا لَا سَجَّادَةً يَفْرِشُهَا قَبْلَ حُضُورِهِ وَلَا بِسَاطًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لَكِنْ يَرْفَعُهَا وَيُصَلِّي مَكَانَهَا؛ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قال الشيخ ابن عثيمين: تحجير الأماكن في المساجد يرى بعض العلماء أنها جائزة مطلقاً سواءً كان الإنسان في المسجد أو خارج المسجد، وهذا هو المشهور عند الحنابلة في كتب الفقه، أنه يجوز للإنسان أن يتحجر ومتى جاء دخل في مكانه.
ولكن الصحيح أن هذا حرام، وأنه لا يجوز أن يتحجر.
لأنه يمنع غيره مما هو أحق به منه.
ولأن ذلك يؤدي إلى أن يتراخى هو أيضاً في الحضور؛ لأنه إذا اطمأن أن مكانه في الصف الأول تهاون ولم يأت إلا متأخراً؛ ولأنه يترتب عليه -أحياناً- أن يؤذي المصلين بتخطي رقابهم إذا لم يكن للمسجد مدخل من الأمام، هذا الذي نراه في هذه المسألة.
…
(لقاء الباب المفتوح).
وقال رحمه الله: الذي نرى في حجز الأماكن في المسجد الحرام أو في غيره من المساجد أنه إن حجز وهو في نفس المسجد، أو خرج من المسجد لعارض وسيرجع عن قريب، فإنه لا بأس بذلك؛ لكن بشرط: إذا اتصلت الصفوف يقوم إلى مكانه، لئلا يتخطى الرقاب.
وأما ما يفعله بعض الناس أن يحجز أحدهم ويذهب إلى بيته فينام ويأكل ويشرب، أو إلى تجارته فيبيع ويشتري، فهذا حرام ولا يجوز.
هذا هو القول الصحيح في هذه المسألة.
…
(لقاء الباب المفتوح)
(ومن دخلَ والإمامُ يخطبُ لم يجلس حتى يصلي ركعتينِ يُوجِز فيهما).
أي: يسن لمن دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس.
لحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ «يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ
وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا - ثُمَّ قَالَ - إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا) رواه مسلم.
قال النووي: هذه الأحاديث صريحة في الدلالة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين، أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب، له أن يصلي ركعتين تحية المسجد.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع له ذلك.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك.
أ-لحديث عبد الله بن بسر (أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: اجلس فقد آذيت) رواه أبو داود.
ب-وللأمر بالإنصات للإمام.
وأجاب هؤلاء عن حديث (يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا) بأجوبة:
الأول: أنه كان عرياناً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام ليراه الناس ويتصدقوا عليه.
قال النووي: وهذا تأويل باطل يرده صريح قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين) وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ صحيحاً فيخالفه.
الثاني: أن هذا خاص به، ويدل عليه أنه جاء في آخر الحديث:(لا تعودنّ لمثل هذا) عند ابن حبان.
قال الحافظ: وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية.
والراجح القول الأول.
فائدة:
الجواب عن حديث عبد الله بن بسر: (اجلس فقد آذيت)؟ أجيبَ عنه بأجوبة:
الأول: يحتمل أنه ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها.
الثاني: ويحتمل أن يكون قوله له (اجلس) أي بشرطه، وقد عرف قوله للداخل (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فمعنى قوله:(اجلس) أي لا تتخطَ.
الثالث: أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز، فإنها ليست واجبة.
الرابع: ويحتمل أنه صلى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة.
• المستحب في هاتين الركعتين تخفيفهما، لقوله صلى الله عليه وسلم (
…
وليتجوز فيهما).
(ويحرمُ أن يتكلمَ والإمامُ يخطب إلا له أو لمن يُكلمُهُ لمصلحةٍ).
أي: يحرم على المصلي يوم الجمعة أن يتكلم حال الخطبة.
(إلا له) أي: للإمام.
(أو لمن يكلمه) أي: لمن يكلم الإمام أو يكلمه الإمام.
(لمصلحة) قيد للمسألتين جميعاً، وهما من يكلم الإمام أو يكلمه الإمام.
أ- لحديث أبي هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ 0 إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ. يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ) متفق عليه.
قال النووي: ففي الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة، ونبه بهذا على ما سواه، لأنه إذا قال: أنصت، وهو في الأصل أمر بمعروف، وسماه لغواً، فغيره من باب أولى.
ب- ولحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ اَلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَاَلَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ، لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ.
وجه الدلالة من وجهين:
الأول: أنه شبه المتكلم بالحمار، ومعلوم أن ذلك صفة ذم ونقص لا يوصف بها تارك الندب.
الثاني: نفي أن يكون له جمعة، وقد علمنا أنها جمعة، فلما استعار له لفظ نفي الإجزاء وعدم الصحة، دلّ على تأكيد منعه وشدة تحريمه.
• شبه من لم يمسك عن الكلام بالحمار الحامل للإسفار بجامع عدم الانتفاع.
• أما الدليل على جواز الكلام للخطيب أو لمن يكلمه لمصلحة.
أ- عن أنس بن مالك قال: أصابت الناسَ سَنَةٌ (أي: قحط وجدب) على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا فرفع يديه
…
فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى وقام ذلك الأعرابي -أو قال غيره- فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه
…
) رواه البخاري ومسلم
ب- وعن جابر بن عبد الله قال (جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين) متفق عليه.
قال ابن قدامة: وَمَا احْتَجُّوا بِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَلَّمَ الْإِمَامَ، أَوْ كَلَّمَهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ عَنْ سَمَاعِ خُطْبَتِهِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَلْ صَلَّى؟ فَأَجَابَه، وَسَأَلَ عُمَرُ عُثْمَانَ حِينَ دَخَلَ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَأَجَابَهُ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ أَخْبَارِهِمْ عَلَى هَذَا، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَهَا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ فِي حَالِ خُطْبَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِه.
•
اختلف العلماء في حكم كلام الحاضر للخطبة إذا كان لا يسمعها لبعد أو غيره على قولين:
القول الأول: يحرم عليه الكلام.
وهو مذهب المالكية، ومذهب الحنابلة، وبه قال ابن حزم.
واستدلوا بعموم ما تقدم من الأدلة السابقة التي تدل على تحريم الكلام أثناء الخطبة، فقالوا هي عامة تشمل من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها.
القول الثاني: يجوز له الكلام.
وبه قال الحنفية، وهو مذهب الشافعية.
واستدلوا بما استدلوا به في الأمر السابق على جواز الكلام في الخطبة للسامع، فقالوا: إذا كان يجوز مع السماع فمع عدمه من باب أولى.
والراجح الأول، لقوة ما استدلوا به، وخاصة عموم الأدلة، ولأنه يؤدي إلى التشويش، وقد يجر إلى كلام مكروه أو يحرم في المسجد.
• القول الصحيح: أن رد السلام وتشميت العاطس أثناء الخطبة حرام.
لحديث أبي هريرة السابق (إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت).
معنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الأمر بالمعروف أثناء الخطبة لغواً مع أنه أمر مطلوب شرعاً، وفيه فائدة متعدية للآخرين وهي منع التشويش عليهم، فكذلك ردّ السلام وتشميت العاطس، بل هو أولى.
•
اختلف العلماء: في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكره الخطيب في خطبته على قولين:
القول الأول: يجوز سراً.
وهذا مذهب الحنابلة، وهو اختيار ابن تيمية.
أ-لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سراً لا تشغل عن سماع الخطبة، ففي فعله إحرازاً للفضيلتين: الصلاة والاستماع.
ب- ولأن الخطيب إذا قال (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه
…
) فهو يبلغ الحاضرين أمراً، فيجب امتثاله.
القول الثاني: لا تجوز الصلاة عليه.
وبه قال الحنفية.
والراجح الأول.
• نستفيد من قوله في الحديث (
…
والإمام يخطب
…
) أن التحريم حال الخطبة فقط، أما ما قبل الخطبة وما بعدها وما بين الخطبتين جائز.
أ-لما رواه ثعلبة بن مالك القرضي: (أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذن، قال ثعلبة: جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منّا أحد).
قال ابن شهاب: فخروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام.
قال في الغني: وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم.
ب-ولأن النهي عن الكلام إنما هو لأجل الإنصات واستماع الخطبة، فيقتصر على حالة الخطبة.
• معنى قوله صلى الله عليه وسلم (
…
فلا جمعة له)؟
قال الشوكاني: قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة، للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه.
وقال ابن حزم: معناه بطلت وعليه إعادتها في الوقت، لأنه لم يصلها.
والصحيح الأول.
ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو. قال: قال صلى الله عليه وسلم ( .. ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) رواه أبوداود.
فائدة: 1
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ) متفق عليه.
قوله (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) في رواية بن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم (نحن الآخرون ونحن السابقون)، أي: الآخرون زماناً الأولون منزلة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية فهي سابقة لهم في الآخرة، بأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضي بينهم، وأول من يدخل الجنة، وفي حديث حذيفة عند مسلم (نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق).
وقيل: المراد بالسبق هنا احراز فضيلة اليوم السابق بالفضل وهو يوم الجمعة.
وقيل: المراد بالسبق أي إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا سمعنا وعصينا.
والأول أقوى. (فتح الباري)
فائدة: 2
عن أَبِي سَعِيد. قال: قال رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ).
قوله (إِنْ وَجَدَ) متعلق بالطيب أي: إن وجد الطيب مسه، ويحتمل تعلقه بما قبله أيضاً، وفي رواية مسلم (ويمس من الطيب ما يقدر عليه) وفي رواية (ولو من طيب المرأة).
قال عياض: يحتمل قوله (ما يقدر عليه) إرادة التأكيد ليفعل ما أمكنه.
ويحتمل إرادة الكثرة.
والأول أظهر ويؤيده قوله (ولو من طيب المرأة) لأنه يكره استعماله للرجل وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه، فإباحته للرجل لأجل عدم غيره يدل على تأكد الأمر في ذلك ويؤخذ من اقتصاره على المس الأخذ بالتخفيف في ذلك.
فائدة: 3
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - وقد تقدم - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً،
…
فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) متفق عليه.
قال ابن حجر: وزاد في رواية (طووا صحفهم) ولمسلم (فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر).
وكأن ابتداء طي الصحف عند ابتداء خروج الإمام وانتهاءه بجلوسه على المنبر وهو أول سماعهم للذكر، والمراد به ما في الخطبة من المواعظ.
ووقع في حديث ابن عمر صفة الصحف المذكورة أخرجه أبو نعيم في الحلية مرفوعاً بلفظ (إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور) الحديث، وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وادراك الصلاة والذكر والدعاء ونحو ذلك.
ووقع في رواية بن عيينة عن الزهري عند بن ماجة (فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة). (الفتح).
والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة
دروس فقهية
باب صلاة العيد - باب صلاة الكسوف - باب صلاة الاستسقاء
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
الموقع/ رياض المتقين
www.almotaqeen.net
باب صلاة العيد
أي: أحكام صلاة العيدين.
والمراد بالعيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى.
• ولا يوجد للمسلمين عيداً سواهما.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ (قَدِمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلْمَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا. فَقَالَ: "قَدْ أَبْدَلَكُمُ اَللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ اَلْأَضْحَى، وَيَوْمَ اَلْفِطْرِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
• قال القرطبي: سمي العيد عيدًا لعَوْده، وتكرره في كلّ سنة. وقيل: لعوده بالفرح والسرور. وقيل: سمي بذلك على جهة التفاؤل، لأنه يعود على من أدركه.
ونحوه للنوويّ في "شرح مسلم"، وزاد: وقيل: تفاؤلاً بعوده على من أدركه، كما سميت القافلة حين خروجها، تفاؤلاً لقفولها سالمةً، وهو رجوعها، وحقيقتها الراجعة.
…
(شرح مسلم).
• وقد دل على صلاة العيد الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (فصل ربك وانحر).
ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمع العلماء على مشروعية صلاة العيد.
• والعيد من محاسن الإسلام، ليعلم أن الإسلام دين فرح وسرور ومحبة وألفة، بخلاف من تكون أعيادهم بالحزن والبكاء والنياحة ونحو ذلك.
(وهي فرض كفاية).
أي: أن صلاة العيد حكمها فرض كفاية. (إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين).
وهذا المذهب.
أ- لحديث أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ (أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ اَلْعَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ فِي الْعِيدَيْنِ; يَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ اَلْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ اَلْحُيَّضُ اَلْمُصَلَّى) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لكنها لا تلزم جميع أهل البلد - فليست فرض عين على كل أحد - للأدلة التي تفيد أنه لا واجب إلا الصلوات الخمس:
كحديث طَلْحَة بْن عُبَيْدِ اللَّهِ قال (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ «لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ
…
) متفق عليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن سنة تسع لم يذكر له إلا الصلوات الخمس.
ب-ولأن صلاة العيد من أعلام الدين الظاهرة، فكانت فرض كفاية كالجهاد.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها فرض عين.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ورجحه ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني.
أ- لحديث أم عطية السابق قالت (كنا نؤمر بالخروج في العيدين .. ).
وفي لفظ قالت (أَمَرَنَا -تَعْنِى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِين). متفق عليه
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بحضور صلاة العيد وإخراج العواتق وذوات الخدور، بل أمر من لها جلباب أن تُلبس من لا جلباب لها، وإذا ثبت هذا في حق النساء فالرجال من باب أولى.
ب-مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها.
قال الشوكاني: لأنه قد انضم إلى ملازمته صلى الله عليه وسلم لصلاة العيد على جهة الاستمرار وعدم إخلاله بها، والأمر بالخروج إليها، بل ثبت أمره
صلى الله عليه وسلم بالخروج للعواتق والحيض وذوات الخدور، وبالغ في ذلك حتى أمر من لها جلباب أن تلبس من لا جلباب لها
…
ومن مقويات القول بأنها فرض إسقاطها لصلاة الجمعة، والنوافل لا تسقط الفرائض في الغالب.
وذهب بعضهم: إلى أنها سنة مؤكدة.
وبه قال مالك، وأكثر أصحاب الشافعي، وداود، وجماهير العلماء.
وانتصر لهذا القول ابن المنذر في الأوسط.
قال النووي: هِيَ عِنْد الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور أَصْحَابه وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء سُنَّة مُؤَكَّدَة.
أ-لحديث طَلْحَة بْن عُبَيْدِ اللَّهِ قال (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ «لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ
…
) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر السائل أنه لا فرض من الصلوات إلا الخمس.
ب-ولحديث عبادة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة
…
) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن الحديث دل على حصر الفرضية في الصلوات الخمس، فأفاد أن ما زاد عليها ليس بفرض.
ج-ولحديث بعث معاذ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (
…
فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) متفق عليه.
وجه الدلالة: لم يذكر صلاة العيد، ومن المعلوم أن بعث معاذ كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت واجبة لذكرها لمعاذ.
والراجح المذهب أنها فرض كفاية.
قال ابن قدامة: وَلَنَا، عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْأَعْيَانِ أَنَّهَا لَا يُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْأَعْيَانِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ صَلَاةٍ سِوَى الْخَمْسِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ صَلَّى مَعَهُ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى الْأَعْيَانِ لَوَجَبَتْ خُطْبَتُهَا، وَوَجَبَ اسْتِمَاعُهَا كَالْجُمُعَةِ.
وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْجُمْلَةِ، أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، بِقَوْلِهِ (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَمُدَاوَمَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِهَا، وَهَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ.
وَلِأَنَّهَا مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَجِبْ لَمْ يَجِبْ قِتَالُ تَارِكِيهَا، كَسَائِرِ السُّنَنِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْقِتَالَ عُقُوبَةٌ لَا تَتَوَجَّهُ إلَى تَارِكِ مَنْدُوبٍ كَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ. (المغني)
فائدة: يسن خروج النساء لصلاة العيد ويتأكد لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك غير متطيبات، ولا لابسات ثياب زينة أو فتنة لقوله صلى الله عليه وسلم:
(وليخرجن تفلات). رواه أبو داود [تفلات] أي غير متطيبات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أمرهن بالخروج للعيد، لعله - والله أعلم - لأسباب:
أحدها: أنه في السنة مرتين بخلاف الجمعة والجماعة.
الثاني: أنه ليس له بدل خلاف الجمعة والجماعة فإن صلاتها في بيتها الظهر هو جمعتها.
الثالث: أنه خروج إلى الصحراء لذكر الله، فهو شبيه بالحج من بعض الوجوه.
(ووقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى قبَيْل الزوال).
أي: ووقت صلاة العيد من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال.
أ- لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ب- ولأن ما قبل ذلك وقت نهي.
(فإنْ لم يُعلمْ بالعيد إلا بعده صلَّوا من الغد).
أي: إن لم يعلموا بالعيد إلا بعد الزوال، فإنهم يصلونها من الغد في وقت صلاة العيد.
لحديث أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ اَلصَّحَابَةِ، (أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفْطِرُوا، وَإِذَا أَصْبَحُوا يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.
وهذا الحديث صحيح.
قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح، وقال النووي في المجموع: إسناده صحيح، وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح، وقال الدارقطني: هذا إسناد حسن، وقال الخطابي: حديث أبي عميْر صحيح، وصححه ابن المنذر، وابن السكن، وابن حزم.
فهذا الحديث دليل على أن صلاة العيد تصلى من الغد إن لم يتبين العيد إلا بعد الزوال.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
فهو قول الأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر، وهو مذهب الحنابلة، والشافعية، وصوبه الخطابي.
فائدة: 1
كيفية قضاء صلاة العيد. قولان لأهل العلم:
القول الأول: أنها تقضى على هيئتها وصفتها.
القول الثاني: أنها تصلى أربعاً بسلام واحد.
والقول الأول أصح، لأن القضاء يحكي الأداء، فتصلى صلاة العيد على هيئتها وصفتها.
فائدة: 2
أقسام الصلوات من حيث كيفية قضائها:
الصلوات تنقسم في قضائها إلى أقسام:
الأول: ما يقضى على صفته إذا فات وقته من حين زوال العذر الشرعي.
مثل الصلوات الخمس إذا فاتت، فإنك تقضيها بعد زوال العذر، فإن كان العذر نوماً فتقضيها إذا استيقظت، وإن كان نسياناً قضيتها إذا ذكرت.
الثاني: ما لا يقضى إذا فات كالجمعة.
فإن خرج وقتها قبل أن يصليها الناس لم يقضوها وصلوا ظهراً، وإن فاتت الإنسان مع الجماعة فهو لا يقضيها أيضاً، وإنما يصلي بدلها ظهراً، وكذلك الوتر إذا فات الإنسان فإنه يصليه شفعاً.
الثالث: ما لا يقضى إذا فات وقته إلا في وقته من اليوم الثاني، وهو صلاة العيد، فإنها لا تقضى في يومها، وإنما تقضى في وقتها من الغد.
الرابع: ما لا يقضى أصلاً كصلاة الكسوف، فلو لم يعلموا إلا بعد انجلاء الكسوف لم يقضوا، وهكذا نقول: كل صلاة ذات سبب إذا فات سببها لا تقضى، ومثل ذلك سنة الوضوء. (الشرح الممتع).
(وتُسنّ في صحراء).
أي: والسنة أن تصلى صلاة العيد في الصحراء، وينبغي أن تكون قريبة من البلد حتى لا يشق على الناس.
أ- لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ .... ) متفق عليه.
قال العيني: وفيه البروز إلى المصلى والخروج إليه ولا يصلي في المسجد إلا عن ضرورة، وروى ابن زياد عن مالك قال السنة الخروج إلى الجبانة إلا لأهل مكة ففي المسجد.
وقال النووي: هذَا دَلِيل لِمَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ الْخُرُوج لِصَلَاةِ الْعِيد إِلَى الْمُصَلَّى، وَأَنَّهُ أَفْضَل مَنْ فَعَلَهَا فِي الْمَسْجِد، وَعَلَى هَذَا عَمَل النَّاس فِي مُعْظَم الْأَمْصَار، وَأَمَّا أَهْل مَكَّة فَلَا يُصَلُّونَهَا إِلَّا فِي الْمَسْجِد مِنْ الزَّمَن الْأَوَّل. (شرح مسلم).
قال الحافظ ابن حجر: واستدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع فضل مسجده.
ب- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُحْمَلُ وَتُنْصَبُ بِالْمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا) رواه البخاري.
ج- لِأَنَّهُ أَوْقَعُ لِهَيْبَةِ الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرُ لِشَعَائِرِ الدِّينِ وَلَا مَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ، لِعَدَمِ تَكَرُّرِهَا بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا فِي مُعْظَمِ الْأَمْصَارِ.
…
(كشاف القناع).
• أن هذا الحكم حتى في المدينة، فإنه يشرع لأهل المدينة الخروج إلى المصلى.
قال الموفق: ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ويدع مسجده، وكذلك الخلفاء بعده، ولا يترك النبي صلى الله عليه وسلم الأفضل مع قربه، ويتكلف فعل الناقص مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل، ولأننا قد أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، والمنهي عنه هو الكامل، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر، ولأن هذا إجماع المسلمين، فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى، فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المصلى مع شرف مسجده، وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع شرفه.
استثنى جمهور العلماء مكة المكرمة، فقالوا: تصلى في المسجد الحرام.
فائدة: 1
يستثنى مكة، فصلاة العيد تكون بالحرم،
وهذا مذهب جماهير العلماء.
والعلة في ذلك:
أ- الاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم، فلم ينقل أن أحداً من السلف صلى العيد في مكة إلا في المسجد الحرام.
ب-أن المسجد الحرام خير البقاع وأطهرها، والصلاة فيه مضاعفة.
ج-أن مكة - شرفها الله - ضيقة الأطراف لكونها بين الجبال، ولا يوجد مكان واسع قريباً من المساكن أقرب من المسجد الحرام.
د-أن في الصلاة في المسجد الحرام مشاهدة الكعبة، وهي عبادة مفقودة في غيره. (أحكام الحرم المكي).
فائدة: 2
قوله (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
.)، جاء بلفظ (كَانَ يَرْكُزُ الْحَرْبَةَ، ثُمَّ يُصَلِّي إِلَيْهَا).
ولا تنافي بين رواية العنزة ورواية الرمح لإمكان الجمع: بأنه استعمل كلاّ منهما في أوقات مختلفة،
…
قال: ويحتمل الجمع بأن عنزة الزبير كانت أوّلاً قبل حربة النجاشي. (فتح الباري)
فإن قلت: إن الحربة من سلاح الحرب، وقد ورد النهي عن حمل السلاح يوم العيد، فكيف يجمع بينه، وبين حمل الحربة هنا؟
وقد بوّب البخاريّ رحمه الله، في "صحيحه""باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم".
وقال الحسن: نهُوا أن يحملوا السلاح يوم عيد، إلا أن يخافوا عدوّا، ثم أخرج بسنده قصّة ابن عمر رضي الله عنه مع الحجّاج بن يوسف حين أُصيب ابن عمر بسنان الرمح في أخمص قدمه، فجاء الحجاج ليعوده، فقال: لو نعلم من أصابك، فقال ابن عمر: أنت أصبتني، قال: وكيف؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يُحمَل فيه .. " الحديث، وفي رواية: أصابني من أمر يحمل السلاح في يوم لا يحلّ فيه حمله".
أجيب بأن النهي عن حمل السلاح إنما هو عند خشية التأذّي به، فأما إذا أُمن من ذلك فلا حرج فيه. (الفتح).
(وتقديمُ صلاة الأضحى).
أي: ويسن تعجيل صلاة عيد الأضحى والمبادرة بها، لأجل أن يتمكن الناس من ذبح أضاحيهم.
(وعكسُه الفطرُ).
أي: ويسن تأخير صلاة عيد الفطر ليتمكن الناس من إخراج صدقاتهم.
قال ابن قدامة: وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الْأَضْحَى.
أ- لِيَتَّسِعَ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ، وَتَأْخِيرُ الْفِطْرِ؛ لِيَتَّسِعَ وَقْتُ إخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
ب- وَقَدْ رُوِيَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ أَخِّرْ صَلَاةَ الْفِطْرِ، وَعَجِّلْ صَلَاةَ الْأَضْحَى).
ج- وَلِأَنَّ لِكُلِّ عِيدٍ وَظِيفَةً، فَوَظِيفَةُ الْفِطْرِ إخْرَاجُ الْفِطْرَةِ، وَوَقْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَوَظِيفَةُ الْأَضْحَى التَّضْحِيَةُ، وَوَقْتُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَفِي تَأْخِيرِ الْفِطْرِ وَتَقْدِيمِ الْأَضْحَى تَوْسِيعٌ لِوَظِيفَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا. (المغني).
(وأكلُه في الفطر خاصة قبل الصلاة - بتمرات وتراً - دون أضحى لمن أراد الأضحية).
أي: ويسن أن يأكل قبل الذهاب لصلاة عيد الفطر تمرات وتراً، بخلاف الأضحى فلا يأكل قبل صلاة الأضحى حتى يضحي.
أ- لحديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَغْدُو يَوْمَ اَلْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ وتراً). أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
ب- ولحديث بُرَيْدَةَ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْرُجُ يَوْمَ اَلْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ، وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ اَلْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان.
ج- ولمالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب (أن الناس كانوا يؤمرون بالأكل قبل الغدوِّ يوم الفطر).
فائدة: 1
أن هذا الحكم خاص في عيد الفطر دون عيد الأضحى، فلا يأكل حتى يأكل من أضحيته.
فائدة: 2
الحكمة من ذلك: لأن يوم الفطر يوم حرم فيه الصيام عقيب وجوبه، فاستحب تعجيل الفطر لإظهار المبادرة إلى طاعة الله تعالى وامتثال أمره في الفطر على خلاف العادة.
قال ابن قدامة: السُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ فِي الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَأْكُلَ فِي الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
قَالَ: أَنَسٌ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ اسْتَشْهَدَ بِهَا (وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْراً).
وَرُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ، قَال (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يُفْطِرَ، وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ).
وَلِأَنَّ يَوْمَ الْفِطْرِ يَوْمٌ حَرُمَ فِيهِ الصِّيَامُ عَقِيبَ وُجُوبِهِ، فَاسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ لِإِظْهَارِ الْمُبَادَرَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي الْفِطْرِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَالْأَضْحَى بِخِلَافِهِ.
وَلِأَنَّ فِي الْأَضْحَى شُرِعَ الْأُضْحِيَّةُ وَالْأَكْلُ مِنْهَا، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. (المغني).
فائدة: 3
قوله (وتراً).
قال الشيخ ابن عثيمين: (كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهنّ وتراً) لكن الواحدة لا تحصل بها السنة؛ لأن لفظ الحديث (حتى يأكل تمرات) وعلى هذا فلا بد من ثلاث فأكثر: ثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة، المهم أن يأكل تمرات يقطعها على وتر، وكل إنسان ورغبته فليس مقيداً فله أن يشبع، وإن أكل سبعاً فحسن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من تصبّح بسبع تمرات من تمرات العالية ـ وفي لفظ: من العجوة ـ فإنه لا يصيبه ذلك اليوم سم ولا سحر).
فائدة: 4
الحكمة من استحباب التمر فيه:
قال ابن حجر: لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به المنام ويرقق به القلب، وهو أيسر من غيره.
…
(الفتح).
فائدة: 5
الحكمة من جعلها سبعاً:
استناداً لحديث (من تصبح بسبع تمرات لم يصبه سم ولا سحر).
فائدة: 6
هل يسن قطع جميع الأعمال - كالأكل والشرب - على وتر؟
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ليس بواجب بل ولا سنة أن يفطر الإنسان على وتر ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع إلا يوم العيد عيد الفطر فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغدو للصلاة يوم عيد الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً، وما سوى ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتقصد أن يكون أكله التمر وتراً.
وقال رحمه الله وأما قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله وتر يحب الوتر، فالمراد فيما شرعه سبحانه).
وليس المراد بالحديث أن كل وتر، فإنه محبوب إلى الله عز وجل، وإلا لقلنا احسب خطواتك من بيتك إلى المسجد لتقطعها على وتر، احسب التمر الذي تأكله على وتر، احسب الشاي الذي تشربه لتقطعه على وتر، وكل شيء احسبه على وتر، فهذا لا أعلم أنه مشروع.
(وتُكرهُ في الجامع بلا عذرٍ).
أي: تكره إقامة صلاة العيد في جامع البلد بلا عذر.
أ- لِمُخَالَفَةِ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم.
ب- ولأن المطلوب في صلاة العيد إظهار الشعيرة، وصلاتها في الجامع يمنع إظهار الشعيرة من هذا الوجه.
• فإن كان هناك عذر فلا تكره.
لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَصَابَنَا مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِيهِ لِينٌ.
قال الشيخ ابن عثيمين: تكره إقامة صلاة العيد في المساجد إلا لعذر؛ لأن السنة إقامة العيد في الصحراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في الصحراء، ولولا أن الخروج أمر مقصود لما فعله، ولا كلف الناس الخروج إليه؛ ولأن الصلاة في المساجد يفوت إظهار هذه الشعيرة وإبرازها.
(ويُسن تبكيرُ مأمومٍ إليها ماشياً بعد الصبح).
أي: يسن أن يبكر المأموم إلى صلاة العيد من بعد صلاة الفجر.
أ- لأنه أعظم للأجر.
ب- وفيه مسارعة للخيرات.
ج- وفيه دنو من الإمام.
د- وفيه انتظار للصلاة.
هـ- وفيه عمارة الوقت بطاعة الله.
عن نافع قال: كان ابن عمر يصلي الصبح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يغدو كما هو إلى المصلى. رواه ابن أبي شيبة.
قال البغوي: يُستحب أن يغدوَ للناس إلى المصلى بعدما صلَّوا الصبح لأخذ مجالسهم.
فائدة: 1
قوله (تبكيرُ مأمومٍ) أما الإمام فيستحب له أن يتأخر حتى الخروج.
قال ابن قدامة: ويتأخر الإمام إلى وقت الصلاة.
أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، ففيه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
ب- ولأن الإمام يُنتظر ولا ينتظر. (الكافي).
ج- ولأنه أبلغ في مهابته. (المجموع).
فائدة: 2
قال الشيخ ابن عثيمين: وكذلك نقول في الجمعة: إن السنّة للإمام أن يتأخر، وأما ما يفعله بعض أئمة الجمعة الذين يريدون الخير فيتقدمون ليحصلوا على أجر التقدم الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة)، فهؤلاء يثابون على نيتهم، ولا يثابون على عملهم؛ لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة إنما يأتي عند الخطبة ولا يتقدم، ولو كان هذا من الخير لكان أول فاعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضاً هنا دليل نظري وهو: أن الإمام يُنتظر ولا ينتظر، أي: الناس ينتظرونه، أما هو فلا ينتظر الناس فإذا جاء شرع في الصلاة.
…
(الشرح الممتع).
(وأن يتنظف ويلبس أحسن ثيابه).
أي: ويسن له إذا خرج لصلاة العيد أن يتنظف ويلبس أحسن ثيابه.
أ- عن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ (أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَه) متفق عليه.
قال ابن قدامة: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّجَمُّلَ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَانَ مَشْهُوراً.
ب- وصح عن ابن عمر (أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيد) رواه البيهقي بإسناد صحيح كما قال ابن حجر.
وقال مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد.
(ويغتسل).
أي: ويسن أن يغتسل لصلاة العيد.
أ- روى مالك عن نافع عن ابن عمر (أنه كان يغتسل يوم الفطر).
وذكر النووي رحمه الله اتفاق العلماء على استحباب الاغتسال لصلاة العيد.
وقال رحمه الله: وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ (أي في إثبات استحبابه) أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ وَالْقِيَاسُ عَلَى الْجُمُعَةِ اهـ.
وقال ابن القيم: فيه حديثان ضعيفان .. ولكن ثبت عن ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة أنه كان يغتسل يوم العيد قبل خروجه
ب- وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ، فَاسْتُحِبَّ الْغُسْلُ فِيهِ، كَيَوْمِ الْجُمُعَة. (المغني).
فائدة:
وقت الاغتسال للعيد.
الأفضل أن يكون ذلك بعد صلاة الفجر، ولو اغتسل قبل الفجر أجزأ نظراً لضيق الوقت والمشقة في كونه بعد صلاة الفجر، مع حاجة الناس للانصراف إلى صلاة العيد وقد يكون المصلى بعيداً.
قال في المنتقى شرح موطأ الإمام مالك: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ غُسْلُهُ مُتَّصِلاً بِغُدُوِّهِ إلَى الْمُصَلَّى. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَفْضَلُ أَوْقَاتِ الْغُسْلِ لِلْعِيدِ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُخْتَصَرِ: فَإِنْ اغْتَسَلَ لِلْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ فَوَاسِعٌ. اهـ.
وقال ابن قدامة: وَقْتُ الْغُسْلِ (يعني للعيد) بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي ظَاهِرِ كَلامِ الْخِرَقِيِّ، قَالَ الْقَاضِي، وَالآمِدِيُّ: إنْ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يُصِبْ سُنَّةَ الاغْتِسَالِ; لأَنَّهُ غُسْلُ الصَّلاةِ فِي الْيَوْمِ فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْفَجْرِ كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَهُ.
لأَنَّ زَمَنَ الْعِيدِ أَضْيَقُ مِنْ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، فَلَوْ وُقِفَ عَلَى الْفَجْرِ رُبَّمَا فَاتَ، وَلأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْظِيفُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ فِي اللَّيْلِ لِقُرْبِهِ مِنْ الصَّلاةِ.
وَالأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَجْرِ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلافِ، وَيَكُونَ أَبْلَغَ فِي النَّظَافَةِ، لِقُرْبِهِ مِنْ الصَّلاة. (المغني).
وقال النووي: وَفِي وَقْتِ صِحَّةِ هَذَا الْغُسْلِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:
(أَحَدُهُمَا) بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُمِّ (وَأَصَحُّهُمَا) بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ يَجُوزُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلِه.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "الْمُجَرَّدِ": نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الْبُوَيْطِيِّ" عَلَى صِحَّةِ الْغُسْلِ لِلْعِيدِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
قال النووي: فَإِذَا قُلْنَا بِالأَصَحِّ أَنَّهُ يَصِحُّ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَفِي ضَبْطِهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ (أَصَحُّهَا) وَأَشْهَرُهَا: يَصِحُّ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَلا يَصِحُّ قَبْلَهُ (وَالثَّانِي) يَصِحُّ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَبِهِ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ (الثَّالِثُ) أَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ قُبَيْلَ الْفَجْرِ عِنْدَ السَّحَرِ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِي.
…
(المجموع).
وعلى هذا، فلا بأس من الاغتسال للعيد قبل صلاة الفجر حتى يتمكن المسلم من الخروج لصلاة العيد.
(إلا المعتكفَ ففي ثياب اعتكافهِ).
أي: إلا المعتكف فإنه يخرج لصلاة العيد في ثياب اعتكافه.
إبقاء لأثر العبادة.
قال ابن قدامة: إلَّا أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْخُرُوجُ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ، لِيَبْقَى عَلَيْهِ أَثَرُ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ.
وذهب بعض العلماء: إلى أن المعتكف كغيره يسن أن يخرج لصلاة العيد متجملاً.
وهذا القول هو الصحيح.
أ- لعموم الأدلة في الترغيب في التجمل ولبس أحسن الثياب للعيد.
ب- ولأن الله جعل يوم العيد يوم فرح وسرور وزينة للمسلمين، لذلك لا ينبغي لأحد ترك إظهار الزينة والطيب في الأعياد مع القدرة عليها.
وأما الجواب عن قول من قال: إن المعتكف يخرج بثياب اعتكافه، لأن هذا أثر عبادة، كما لا يشرع غسل دم الشهيد. فالجواب:
أولاً: أن هذا قياس فاسد في مقابلة النص، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف، ومع ذلك يلبس أحسن الثياب.
ثانياً: أن اتساخ ثياب المعتكف ليس من أثر اعتكافه، ولكن من طول بقائها عليه، أما الشهيد فقد ثبت بالنص أنه يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
(ومن شرطِها استيطانٌ وعددُ الجمُعَة).
أي: من شروط صلاة العيد أن تقام في جماعة مستوطنين، فلا صلاة عيد على المسافرين، وكذلك عدد الجمعة، وقد تقدم أن عدد الجمعة على المذهب حضور (40) من أهل وجوبها.
قال ابن قدامة: الْأَعْرَابَ لَا تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ، لِعَدَمِ الِاسْتِيطَانِ، فَالْعِيدُ أَوْلَى. (المغني).
وقال المرداوي: أَمَّا الِاسْتِيطَانُ وَالْعَدَدُ: فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُمَا يُشْتَرَطَانِ كَالْجُمُعَةِ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: اخْتَارَهُ الْأَكْثَر.
…
(الإنصاف).
وقد سبق لنا: أن القول الراجح في العدد المعتبر للجمعة ثلاثة، فهذا يبنى على ذاك، فلا بد من عدد يبلغون ثلاثة، فإن لم يوجد في القرية إلا رجل واحد مسلم، فإنه لا يقيم صلاة العيد، أو رجلان فلا يقيمان صلاة العيد، أما الثلاثة فيقيمونها. (الشرح الممتع)
(ويُسنّ أن يذهبَ مع طريق ويرجعَ مع آخر).
أي: ويسن عند ذهابه لصلاة العيد أن يذهب مع طريق ويرجع مع طريق آخر.
أ- لحديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْعِيدِ خَالَفَ اَلطَّرِيقَ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
ب- وعند أبي داود عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد في طريق ورجع في طريق آخر).
فائدة: 1
أن هذا الحكم للإمام والمأموم،
وهذا مذهب أكثر العلماء.
فائدة: 2
اختلف ما الحكمة من مخالفة الطريق:
قيل: ليشهد له الطريقان. وقيل: ليسوي بينهما في المزية والفضل. وقيل: لإظهار شعائر الإسلام فيهما. وقيل: لإظهار ذكر الله. وقيل: ليغيظ المنافقين أو اليهود. وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه، ورجحه ابن بطال. وقيل: حذراً من كيد الطائفتين أو إحداهما. وقيل: ليصل رحمه. وقيل: ليزور أقاربه. وقيل: كان في ذهابه يتصدق، فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى لئلا يرد من سأله، قال الحافظ: وهذا ضعيف جداً. وقيل: لتخفيف الزحام، ورجح ابن القيم: أنه يشمل الجميع. (زاد المعاد).
وقال الحافظ ابن حجر: وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى أَقْوَال كَثِيرَة اِجْتَمَعَ لِي مِنْهَا أَكْثَر مِنْ عِشْرِينَ، وَقَدْ لَخَّصْتهَا وَبَيَّنْت الْوَاهِي مِنْهَا، قَالَ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب الْمَالِكِيّ: ذُكِرَ فِي ذَلِكَ فَوَائِد بَعْضهَا قَرِيب وَأَكْثَرهَا دَعَاوَى فَارِغَة. اِنْتَهَى. فَمِنْ ذَلِكَ:
أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَشْهَد لَهُ الطَّرِيقَانِ، وَقِيلَ: لِيَشْهَد لَهُ سُكَّانهمَا مِنْ الْجِنّ وَالإِنْس.
وَقِيلَ: لِيُسَوَّى بَيْنهمَا فِي مَزِيَّة الْفَضْل بِمُرُورِهِ أَوْ فِي التَّبَرُّك بِهِ.
وَقِيلَ: لأَنَّ طَرِيقه لِلْمُصَلَّى كَانَتْ عَلَى الْيَمِين فَلَوْ رَجَعَ مِنْهَا لَرَجَعَ عَلَى جِهَة الشِّمَال فَرَجَعَ مِنْ غَيْرهَا. وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى دَلِيل.
وَقِيلَ: لإِظْهَارِ شِعَائر الإِسْلام فِيهِمَا، وَقِيلَ: لإِظْهَارِ ذِكْر اللَّه.
وَقِيلَ: لِيَغِيظَ الْمُنَافِقِينَ أَوْ الْيَهُود. وَقِيلَ: لِيُرْهِبهُمْ بِكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ. وَرَجَّحَهُ اِبْن بَطَّال.
وَقِيلَ: حَذَرًا مِنْ كَيْد الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَفِيهِ نَظَر.
وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيَعُمّهُمْ فِي السُّرُور بِهِ، أَوْ التَّبَرُّك بِمُرُورِهِ وَبِرُؤْيَتِهِ وَالانْتِفَاع بِهِ فِي قَضَاء حَوَائِجهمْ فِي الاسْتِفْتَاء أَوْ التَّعَلُّم وَالاقْتِدَاء وَالاسْتِرْشَاد أَوْ الصَّدَقَة أَوْ السَّلام عَلَيْهِمْ وَغَيْر ذَلِكَ.
وَقِيلَ: لِيَزُورَ أَقَارِبه ويَصِل رَحِمه.
وَقِيلَ: لِيَتَفَاءَل بِتَغَيُّرِ الْحَال إِلَى الْمَغْفِرَة وَالرِّضَا.
وَقِيلَ: كَانَ فِي ذَهَابه يَتَصَدَّق فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْء فَيَرْجِع فِي طَرِيق أُخْرَى لِئَلا يَرُدَّ مَنْ يَسْأَلهُ. وَهَذَا ضَعِيف جِدًّا مَعَ اِحْتِيَاجه إِلَى الدَّلِيل.
وَقِيلَ: كَانَ طَرِيقه الَّتِي يَتَوَجَّه مِنْهَا أَبْعَد مِنْ الَّتِي يرجع منهَا، فَأَرَادَ تَكْثِير الأَجْر بِتَكْثِيرِ الْخَطَأ فِي الذَّهَاب، وَأَمَّا فِي الرُّجُوع فَلِيُسْرِع إِلَى مَنْزِله. وَهَذَا اِخْتِيَار الرَّافِعِيّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَبِأَنَّ أَجْر الْخُطَا يُكْتَب فِي الرُّجُوع أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيث أُبَيِّ بْن كَعْب عِنْد التِّرْمِذِيّ وَغَيْره.
وَقِيلَ: لأَنَّ الْمَلائِكَة تَقِف فِي الطُّرُقَات فَأَرَادَ أَنْ يَشْهَد لَهُ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ. اهـ كلام الحافظ باختصار.
فائدة: 3
هل يسن فعل ذلك في الذهاب لصلاة الجمعة؟
قولان للعلماء:
قيل: يسن ذلك، قياساً على العيد.
وقيل: لا يسن ذلك.
وهذا هو الصحيح.
لأن الحديث جاء في العيد ولم يرد في الجمعة، ولو كان يفعل ذلك في الجمعة لنقل إلينا.
والقاعدة: أن كل شيء وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يحدث له أمراً، فإن من أحدث له أمراً فإحداثه مردود عليه.
(فَإِذَا حَلَّتْ الصَّلَاةُ، تَقَدَّمَ الْإِمَامُ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ).
لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ، وَفِيمَا تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ رَكْعَتَيْنِ، وَفَعَلَهُ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى عَصْرِنَا، لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا خَالَفَ فِيهِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: صَلَاةُ الْعِيدِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى.
(قبل الخطبة).
أي: أن خطبة العيد بعد الصلاة.
أ- عَنِ ابْنِ عُمَرَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ: يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ اَلْخُطْبَةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ب- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (شَهِدْتُ صَلَاةَ الْفِطْرِ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ
…
) متفق عليه.
ج- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ
…
) متفق عليه.
قال ابن قدامة: وخطبة العيد بعد الصلاة لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين.
وقال ابن حجر: وعليه جميع فقهاء الأمصار، وعده بعضهم إجماعاً.
وقال النووي: قوْله: (شَهِدْت صَلَاة الْفِطْر مَعَ نَبِيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ رضي الله عنهم فَكُلّهمْ يُصَلِّيهَا قَبْل الْخُطْبَة ثُمَّ يَخْطُب).
فِيهِ دَلِيل لِمَذْهَبِ الْعُلَمَاء كَافَّة أَنَّ خُطْبَة الْعِيد بَعْد الصَّلَاة.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا هُوَ الْمُتَّفَق عَلَيْهِ مِنْ مَذَاهِب عُلَمَاء الْأَمْصَار وَأَئِمَّة الْفَتْوَى، وَلَا خِلَاف بَيْن أَئِمَّتهمْ فِيهِ، وَهُوَ فِعْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ بَعْده إِلَّا مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَان فِي شَطْر خِلَافَته الْأَخِير قَدَّمَ الْخُطْبَة لِأَنَّهُ رَأَى مِنْ النَّاس مَنْ تَفُوتهُ الصَّلَاة. وَرُوِيَ مِثْله عَنْ عُمَر، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ - وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّل مَنْ قَدَّمَهَا مُعَاوِيَة، وَقِيلَ: مَرْوَان بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَة مُعَاوِيَة، وَقِيلَ: زِيَاد بِالْبَصْرَةِ فِي خِلَافَة مُعَاوِيَة، وَقِيلَ: فَعَلَهُ اِبْن الزُّهْرِيّ فِي آخِر أَيَّامه. (شرح مسلم).
فائدة: 1
لو خطب قبل الصلاة لم يعتد بها على الصحيح من المذهب، ونسبه بعضهم إلى أكثر العلماء.
قال ابن قدامة: فَعَلَى هَذَا مَنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَخْطُبْ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْخُطْبَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ خَطَبَ فِي الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاة.
فائدة: 2
اختلف العلماء: في أول من جعل الخطبة قبل الصلاة على أقوال:
فقيل: عثمان بن عفان.
وقيل: معاوية بن أبي سفيان.
وقيل: مروان بن الحكم.
وقيل: عبد الله بن الزبير.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ خُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا فَعَلَاهُ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ بَنِي أُمَيَّةَ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُمْ، وَمُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُمْ، وَعُدَّ بِدْعَةً وَمُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ. (المغني).
وقال الصنعاني: وَقَدْ اُخْتُلِفَ مَنْ أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ:
فَفِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ مَرْوَانُ.
وَقِيلَ: سَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ:" أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ عُثْمَانُ أَيْ صَلَاةِ الْعِيدِ ".
وَأَمَّا مَرْوَانُ فَإِنَّهُ إنَّمَا قَدَّمَ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ قِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَمَّدُونَ تَرْكَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ سَبِّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ السَّبَّ، وَالْإِفْرَاطِ فِي مَدْحِ بَعْضِ النَّاسِ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْعِيدِ مُعَاوِيَةُ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ مُخَالِفٌ لِهَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ اُعْتُذِرَ لِعُثْمَانَ بِأَنَّهُ كَثُرَ النَّاسُ فِي الْمَدِينَةِ وَتَنَاءَتْ الْبُيُوتُ فَكَانَ يُقَدِّمُ الْخُطْبَةَ لِيُدْرِكَ مَنْ بَعُدَ مَنْزِلُهُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ رَأْيٌ مُخَالِفٌ لِهَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم. (سبل السلام).
(بلا أذانٍ ولا إقامة).
أي: أن صلاة العيد لا يشرع لها أذان ولا إقامة.
قال ابن عبد البر: لا خلاف بين فقهاء الأمصار في أنه لا أذان ولا إقامة في العيدين ولا في شيء من الصلوات المسنونات.
وقال في المغني: لا نعلم في هذا خلافاً ممن يعتد به.
وقال ابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة بغير أذان ولا إقامة.
أ- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَة. قَالَ: (صَلَّيْتُ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اَلْعِيدَيْنِ، غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ) رَوَاهُ مُسْلِم.
ب- وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئاً عَلَى بِلَالٍ
…
) متفق عليه.
ج- وعن عَطَاءٌ (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ أَوَّلَ مَا بُويِعَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ لِلصَّلَاةِ يَوْمَ الْفِطْرِ فَلَا تُؤَذِّنْ لَهَا - قَالَ - فَلَمْ يُؤَذِّنْ لَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ إِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يُفْعَلُ - قَالَ - فَصَلَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ قَبْلَ الْخُطْبَة) متفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين: والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ترك الشيء مع وجود سببه كان ذلك دليلاً على عدم مشروعيته.
والقاعدة الأصولية (كل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَشْرَع فيه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فإحداث شيء له يعتبر بدعة).
د-ولأن الغرض من الأذان الإعلام بدخول الوقت، ووقت العيد محدد معلوم.
فائدة: 1
واختلف العلماء: هل ينادى لها: الصلاة جامعة كالكسوف أم لا؟
على قولين:
القول الأول: أنه يستحب أن ينادى لها بذلك.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
ودليلهم: قياس صلاة العيد على صلاة الكسوف.
القول الثاني: أنه لا يستحب.
وهذا مذهب المالكية.
وهذا القول هو الراجح.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل، ولو كان سنة لفعله، فترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع إمكان فعله يدل على أنه غير مستحب. [القاعدة السابقة]
قال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى في صلاة العيد صلى من غير أذان ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة، فالسنة أن لا يفعل شيء من ذلك.
وقياس العيد على الكسوف لا يصح، لوجهين:
الوجه الأول: أن الكسوف يقع بغتة، خصوصاً في الزمن الأول.
الوجه الثاني: أن العيد لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ينادي لها.
فائدة: 2
اختلف العلماء في أول من أحدث الأذان للعيدين على أربعة أقوال:
فقيل: أول من أحدثه معاوية.
وبهذا قال سعيد بن المسيب، وهو اختيار ابن عبد البر.
وقيل: عبد الله بن الزبير.
وقيل: زياد بن أبي سفيان.
وقيل: أنهم بنو مروان.
(يُكبّرُ في الأولَى سبعاً بتكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة الانتقال).
أي: أنه يكبر تكبيرة الإحرام ثم يقول دعاء الاستفتاح ثم يكبر ست تكبيرات، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات قبل أن يبدأ بالقراءة.
وهذا قول أكثر أهل العلم.
قال الشوكاني: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَفِي مَوْضِعِ التَّكْبِيرِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ. (نيل الأوطار).
أ- لحديث عَمْرِوِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلتَّكْبِيرُ فِي اَلْفِطْرِ سَبْعٌ فِي اَلْأُولَى وَخَمْسٌ فِي اَلْآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
هذا الحديث في إسناده عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، وهو مختلف فيه:
قال أبو حاتم: ليس بالقوي. لكن صحح هذا الحديث جمع من الحفاظ، كالبخاري، وابن المديني، وحسنه الحافظ ابن حجر والعراقي.
ب- وعن عائشة (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، فِي الْأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا). رواه أبو داود
وهو قول أكثر أهل العلم.
ب- وروى مالك في الموطأ بسند صحيح عن نافع قال: (صليت العيدين وراء أبو هريرة فكان يكبر الأولى سبعاً والثانية خمساً قبل أن يقرأ).
ج- وجاء نحو هذا عن ابن عباس موقوفاً رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح.
وذهب بعضهم أنه يكبر سبعاً في الأولى وسبعاً في الثانية.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يكبر في الأولى خمساً وفي الثانية ثلاث.
وما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أولى وأصح.
فائدة: 1
قوله (بعد الإحرام والاستفتاح)
أي: هذه التكبيرات تكون بعد دعاء الاستفتاح.
وهذا قول الحنفية، والشافعية، ورواية عن أحمد.
واستدلوا: أن دعاء الاستفتاح شُرع للصلاة، فيكون في أول الصلاة، ويأتي بعدها التكبيرات ثم التعوذ ثم القراءة.
قال النووي: مذهبنا أن تكبيرات الزوائد تكون بين دعاء الاستفتاح والتعوذ. (المجموع).
واختار هذا القول أيضاً الشيخ ابن باز.
وقيل: تقال قبل دعاء الاستفتاح.
وقيل: إن المُصلي مُخير في ذلك.
فائدة: 2
هذه التكبيرات الزوائد سنة،
فلو أن الإنسان اقتصر على تكبيرة الإحرام فقط لكفى.
(ثُمَّ يَقْرَأُ جَهْراً فِي الأْولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: بـ (سَبِّحْ) وبـ (الْغَاشِيَةِ) فِي الثَّانِيَةِ).
أي: يسن أن يقرأ في العيد (سبح) في الأولى (والغاشية) في الثانية.
أو يقرأ (ق والقرآن المجيد) في الأولى و (اقتربت الساعة) في الثانية.
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِى الْجُمُعَةِ بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) وَ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قَالَ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ) رواه مسلم.
وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي اَلْأَضْحَى وَالْفِطْرِ بِـ (ق)، وَ (اقْتَرَبَتْ)) رواه مسلم.
قال النووي: قال العلماء: الحكمة في قراءتهما لما شتملتا عليه من الإخبار بالبعث، والإخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم للبعث وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر.
(يرفع يديهِ مع كل تكبيرةٍ).
أي: يستحب أن يرفع يديه مع كل تكبيرة من تكبيرات العيد الزوائد.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي حَالِ تَكْبِيرِهِ حَسَبَ رَفْعِهِمَا مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.
فالرفع مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
وقال النووي: ومذهَبُنا استحباب الرَّفع فيهن
…
وبه قال عطاءٌ والأوزاعيُّ، وأبو حنيفة، ومحمد، وأحمد، وداود، وابنُ المنذر.
(المجموع).
أ- لحديث وائل بن حجر قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير) رواه أبوداود.
ب- وعن ابن عمر (أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة من تكبيرات) رواه البيهقي.
فقاسوا تكبيرات العيد بتكبيرات الجنائز.
ج- وعن عطاء (أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة ومن خلفه يرفعون أيديهم) رواه ابن أبي شيبة.
وممن اختار الرفع: النووي، وابن قدامة، وابن القيم.
قال ابن القيم: وكان ابن عمر مع تحريه للإتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة. (زاد المعاد).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع الرفع.
وهذا مذهب المالكية، واختاره ابن حزم، والألباني.
لأنه ليس في رفع اليدين مع التكبيرات سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وضعف الألباني ما روي عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة من تكبيرات الجنازة.
فائدة: 1
اختلف الفقهاء: ماذا يقول المصلي بين التكبيرات؟
على قولين:
القول الأول: لا يُقال شيء.
وهو قول الحنفية، والمالكية.
قال ابن عبد البر: وليس بين التكبير ذكر ولا دعاء لا قول إلا السكوت دون حد.
القول الثاني: يُستحب للمصلي أن يهلل الله تعالى ويُكبره ويحمده.
وهذا قول الشافعية، والحنابلة.
لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه سُئل ماذا يُقال بين التكبيرات فقال (يحمد الله ويُثنى عليه ويُصلى على النبي صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني في الكبير.
واختار ذلك الشوكاني.
(فَإِذَا سَلَّمَ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ).
وهذا ما عليه أكثر العلماء، إلى أنه يخطب في العيد بخطبتين، يفصل بينهما بجلوس، كما يفعل ذلك في خطبة صلاة الجمعة.
جاء في (المدونة) وقال مالك: الخطب كلها، خطبة الإمام في الاستسقاء والعيدين ويوم عرفة والجمعة، يجلس فيما بينها، يفصل فيما بين الخطبتين بالجلوس " انتهى.
وقال الشافعي رحمه الله في (الأم) عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس (قال الشافعي): وكذلك خطبة الاستسقاء وخطبة الكسوف، وخطبة الحج، وكل خطبة جماعة. انتهى.
وحديث ابن ماجة (1279) هو ما رواه عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَخَطَبَ قَائِمًا، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً، ثُمَّ قَامَ) والحديث أورده الألباني في ضعيف ابن ماجه، وقال عنه: منكر.
قال ابن حزم: فإذا سلم الإمام قام فخطب الناس خطبتين يجلس بينهما جلسة، فإذا أتمهما افترق الناس
…
كل هذا لا خلاف
فيه.
أ-لحديث جابر قال (شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته ووعظ الناس، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن).
قالوا: فظاهر هذا أنه خطب خطبتين.
لكن هذا فيه نظر، لأن وعظه للنساء ليست خطبة أخرى، وإنما ربما لبعد النساء، أو تذكيرهن بأمور تخصهن.
ب- واستدلوا بحديث جابر قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى، فخطب قائماً ثم قعد قعده ثم قام) رواه ابن ماجه وهو منكر في إسناده إسماعيل بن مسلم لا يحتج به.
قال النووي في الخلاصة: ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء.
ج-وقالوا: قياساً على الجمعة.
قال النووي في (الخلاصة) وما روي عن ابن مسعود أنه قال: السنة أن يخطب في العيد خطبتين يفصل بينهما بجلوس، ضعيف غير متصل ولم يثبُت في تكرير الخطبة شيء، ولكن المعتمد فيه القياس على الجمعة. نقله الزّيلعي في (نصب الرّاية)
وذهب بعض العلماء: إلى أن صلاة العيد لها خطبة واحدة.
لظاهر النصوص.
واختاره الشيخ ابن عثيمين.
والصحيح قول الجمهور.
فائدة:
قال ابن قدامة: وَالْخُطْبَتَانِ سُنَّةٌ، لَا يَجِبُ حُضُورُهَا وَلَا اسْتِمَاعُهَا.
لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ قَالَ (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ: إنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ) رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ عَنْ الصَّلَاةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ جُعِلَتْ فِي وَقْتٍ يَتَمَكَّنُ مَنْ أَرَادَ تَرْكَهَا، مِنْ تَرْكِهَا، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.
وَالِاسْتِمَاعُ لَهَا أَفْضَلُ.
…
(المغني).
(يستفتحُ الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبعٍ).
هذا المذهب.
أن السنة افتتاح خطبة العيدين بالتكبير، وذلك بأن يكبر في الخطبة الأولى تسع تكبيرات متوالية، وفي الثانية سبع تكبيرات متوالية.
وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، أيضاً.
واستدلوا بما جاء عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال (السنة أن تفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى، والثانية بسبع تكبيرات تترى) رواه البيهقي.
وذهب بعض العلماء: إلى أن السنة أن تفتتح بالحمد لله.
وهذا اختيار ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ السعدي، والشيخ محمد بن إبراهيم.
أ- لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبه بغيره. (قاله ابن تيمية).
ب- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد فهو أقطع) رواه أبو داود.
قال ابن القيم: وَكَانَ يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ كُلّهَا بِالْحَمْدِ لِلّهِ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَنّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ خُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ بِالتّكْبِيرِ، وَإِنّمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ سَعْدٍ الْقَرَظِ مُؤَذّنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم (أَنّهُ كَانَ يُكْثِرُ التّكْبِيرَ بَيْنَ أَضْعَافِ الْخُطْبَةِ وَيُكْثِرُ التّكْبِيرَ فِي خُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ) وَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ كَانَ يَفْتَتِحُهَا بِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي افْتِتَاحِ خُطْبَةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فَقِيلَ يُفْتَتَحَانِ بِالتّكْبِيرِ وَقِيلَ تُفْتَتَحُ خُطْبَةُ الِاسْتِسْقَاءِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَقِيلَ يُفْتَتَحَانِ بِالْحَمْدِ. قَالَ شَيْخُ ابْنُ تَيْمِيّةَ: وَهُوَ الصّوَابُ لِأَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ كَلّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ وَكَانَ يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ كُلّهَا بِالْحَمْدِ لِلّه. (زاد المعاد).
وهذا القول هو الصحيح.
(ويُكره التنفل قبل الصلاة وبعدَها في موضعها).
أي: يكره لمن حضر صلاة العيد أن يتطوع بنفل قبل الصلاة أو بعدها في موضع صلاة العيد.
وهو مذهب ابن عباس، وابن عمر، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وحذيفة، وبريدة، وهو مذهب مالك وأحمد.
قال الزهري: لم أسمع أحداً من علمائنا يذكر أن أحداً من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها. يعني صلاة العيد.
وقال: ما صلى قبل العيد بدري.
لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ اَلْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا) متفق عليه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا مانع من التطوع قبل العيد وبعدها.
لأن الإمام يستحب له التشاغل عن الصلاة ولم يكره للمأموم، لأنه وقت لم ينه عن الصلاة فيه، أشبه ما بعد الزوال.
وهذا قول الشافعي، ورجحه ابن حزم.
وبه قال أنس، وأبو هريرة، ورافع، وسهل، والحسن، وابن المنذر.
قال الشوكاني: حكى الترمذي عن طائفة من أهل العلم والصحابة وغيرهم، أنهم رأوا جواز الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها.
وذهب بعضهم: إلى أنه لا يصلي قبلها ويتطوع بعدها.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
وأجاب هؤلاء عن حديث ابن عباس ما ذكره الشافعي أنه محمول على الإمام دون المأموم.
ومن الأجوبة ما قاله العراقي في شرح الترمذي: من أنه ليس فيها نهي عن الصلاة في هذه الأوقات، ولكن لما كان صلى الله عليه وسلم يتأخر في مجيئه إلى الوقت الذي يصلي بهم فيه، ويرجع عقيب الخطبة، روى عنه من روى من أصحابه أنه كان لا يصلي قبلها ولا بعدها، ولا يلزم من تركه لذلك لاشتغاله بما هو مشروع في حقه من التأخر إلى وقت الصلاة أن غيره لا يشرع ذلك له ولا يستحب.
والراجح الجواز مطلقاً.
قال البيهقي: يوم العيد كسائر الأيام، والصلاة مباحة إذا ارتفعت الشمس حيث كان المصلي، ويدل على عدم الكراهة حديث أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (الصلاة خير موضوع، فمن شاء استكثر ومن شاء استقل) رواه ابن حبان.
وقال الحافظ في الفتح: والحاصل أن صلاة العيد لم تثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافاً لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة في جميع الأيام.
وقال الشوكاني: وهو كلام صحيح جار على مقتضى الأدلة، فليس في الباب ما يدل على منع مطلق النفل، ولا على منع ما ورد فيه دليل يخصه كتحية المسجد إذا أقيمت صلاة العيد في المسجد.
فائدة: 1
ما المقصود بهذا الخلاف؟
المقصود بهذا الخلاف التنفل بعد خروج وقت النهي وقبل حضور الإمام.
فائدة: 2
ما الحكم بالنسبة لتحية المسجد؟
الحكم: إن كانت الصلاة في الجامع فإنها تصلى، لأنه مسجد ولا إشكال في ذلك.
وإن كانت في المصلى:
فقيل: لا يصلي.
ورجحه الشيخ ابن باز رحمه الله.
لأنه ليس مسجد.
قال الشيخ ابن باز في فتوى له: وأفيدك بأن صلاة العيدين إذا صليت في المسجد، فإن المشروع لمن أتى إليها أن يصلي تحية المسجد ولو في وقت النهي؛ لكونها من ذوات الأسباب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، وأما إذا صليت في المصلى المعد لصلاة العيدين فإن المشروع عدم الصلاة قبل صلاة العيد؛ لأنه ليس له حكم المساجد من كل الوجوه، ولأنه لا سنة لصلاة العيد قبلها ولا بعدها. وفق الله الجميع لما فيه رضاه.
وقال رحمه الله: ليس للمصلَى حكم المساجد فلا تشرع الركعتان لدخوله، ولا حرج في البيع والشراء فيه؛ لأنه موضع للصلاة عند الحاجة وليس مسجداً، وإنما المسجد ما يعد للصلاة وقفاً، تؤدى فيه الصلاة كسائر المساجد، أما المصلى المؤقت تصلي فيه جماعة الدائرة، أو جماعة نزلوا لوقت معين ثم يرتحلون هذا لا يسمى مسجداً، فلا حرج أن يباع فيه ويشترى وليس له تحية المسجد، وإنما التحية لما أعد مسجداً وقفاً لله عز وجل لإقامة الصلاة فيه.
وقيل: يصلي لأنه مسجد.
واختاره الشيخ ابن عثيمين، بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحيض أن يعتزلن المصلى، فدل على أنه مسجد.
والراجح أن مصلى العيد ليس بمسجد.
وأما حديث أم عطية (وليعتزلن المصلى) وفي رواية لمسلم (وليعتزلن الصلاة):
المراد برواية اعتزال المصلى كما قال ابن رجب وغيره يعتزلن المصلى وقت الصلاة لئلا يضيقن المكان على المصليات، وبعد الصلاة يختلطن مع المصليات في المكان لاستماع الخطبة.
قال ابن رجب: وأما أمر الحائض باعتزال المصلى، فَقد قيل: بأن مصلى العيدين مسجد، فلا يجوز للحائض المكث فيهِ، وَهوَ ظاهر كلام بعض أصحابنا، مِنهُم: ابن أبي موسى في (شرح الخرقي)، وَهوَ - أيضاً - أحد الوجهين للشافعية، والصحيح عندهم: أنَّهُ ليسَ بمسجد، فللجنب والحائض المكث فيهِ.
وأجابوا عَن حديث الأمر باعتزال الحيض للمصلى: بأن المراد أن يتسع على غيرهن، ويتميزن.
وفي هَذا نظر؛ فإن تميز الحائض عَن غيرها مِن النساء في مجلس وغيره ليسَ بمشروع، وإنما المشروع تميز النساء عَن الرجال جملة؛ فإن اختلاطهن بالرجال يخشى منهُ وقوع المفاسد.
وقد قيل: إن المصلى يكون لَهُ حكم المساجد في يوم العيدين خاصةً، في حال اجتماع الناس فيهِ دونَ غيره مِن الأوقات.
وفي ذَلِكَ - أيضاً - نظر، والله أعلم.
والأظهر: أن أمر الحيض باعتزال المصلى إنما هوَ حال الصلاة؛ ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، ثُمَّ يختلطن بهن في سماع الخطبة.
وقد صرح أصحابنا: بأن مصلى العيد ليسَ حكمه حكم المسجد، ولا في يوم العيد، حتى قالوا: لو وصل إلى المصلى يوم العيد والإمام يخطب فيهِ بعد الصلاة؛ فإنه يجلس مِن غير صلاة؛ لأنه لا تحية لَهُ.
وقال النووي: واختلف أصحابنا في هذا المنع فقال الجمهور: هو منع تنزيه لا تحريم، وسببه الصيانة والاحتراز من مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة.
وقال الحافظ ابن حجر: وحمل الجمهور الأمر المذكور على الندب، لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الِحيضُ من دخوله.
وقال بن المنير: الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات، إظهار استهانة بالحال فاستحب لهن اجتناب ذلك.
وقال ابن دقيق العيد: اعتزال الحيض للمصلي ليس لتحريم حضورهن فيه إذا لم يكن مسجداً، بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة في وقتها على سبيل الاستحسان، أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد في حال إقامة الصلاة كَمَا جَاءَ (مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ أَلَسْت بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟).
وقال ابن الملقن في شرحه لعمدة الأحكام: أمر الحيّض باعتزال مصلى المسلمين ليس للتحريم، بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة، أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد في حال إقامة الصلاة، أو هو للاحتراز وصيانتهن من مقاربة الرجال من غير حاجة ولا صلاة.
(والتكبيرات الزوائدُ سنة).
أي: التكبيرات الزوائد على تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى، وعلى تكبيرة القيام في الثانية سنة، لو تركها صحت صلاته.
(ويُسن لمن فاتتهُ أو بعضها قضاؤُها على صفتِها).
أي: يشرع لمن فاتته صلاة العيد مع الجماعة أن يقضيها. (لكن بدون خطبة).
وهذا قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ- لحديث أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) متفق عليه.
ب- - ما روي عن بعض الصحابة بالأمر بالقضاء لمن فاتته صلاة العيد: فعن أنس (أنه كان إذا فاتته الصلاة يوم الفطر مع الإمام، جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد) ذكره البخاري تعليقاً.
وعلى هذا القول - وهو قول الجمهور - تقضى على صفتها، فتصلى ركعتين بسبع تكبيرات في الركعة الأولى وخمس في الركعة الثانية ويجوز قضاؤها فرادى أو في جماعة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع قضاؤها.
وهذا قول الحنفية، وقول المزني من الشافعية، واختيار ابن تيمية، والشيخ ابن عثيمين.
أ- لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ب- ولأنها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه. (الشرح الممتع).
فائدة: 1
من العلماء من قال: يصليها أربعاً، واحتج بأثر وارد عن ابن مسعود أنه قال: من فاتته العيد فليصل أربعاً، ولكنه منقطع كما قال
الشيخ الألباني.
ومن العلماء من خيّره بين صلاة ركعتين أو أربع.
فائدة: 2
يشرع التكبير ليلة عيد الفطر.
لقوله تعالى (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون).
وابتداؤه من غروب الشمس ليلة العيد إذا علم دخول الشهر قبل الغروب كما لو أكمل الناس الشهر ثلاثين يوماً، أو من ثبوت رؤية هلال شوال، وينتهي بالصلاة، يعني إذا شرع الناس في صلاة العيد انتهى وقت التكبير.
صفته:
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أو تكبر ثلاثاً، فتقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حكمه:
هذا التكبير سنة عند جمهور أهل العلم، وهو سنة للرجال والنساء، في المساجد والبيوت والأسواق.
أما الرجال فيجهرون به، وأما النساء فيسررن به بدون جهر؛ لأن المرأة مأمورة بخفض صوتها. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا نابكم شيء في صلاتكم فليسبح الرجال، ولتصفق النساء).
فالنساء يخفين التكبير والرجال يهجرون به.
وقال الشافعي في "الأم": قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) فَسَمِعْت مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولَ: لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عِدَّةَ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَتُكَبِّرُوا اللَّهُ عِنْدَ إكْمَالِهِ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَإِكْمَالُهُ مَغِيبُ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
ثم قَالَ الشَّافِعِيُّ:
فَإِذَا رَأَوْا هِلالَ شَوَّالٍ أَحْبَبْتُ أَنْ يُكَبِّرَ النَّاسُ جَمَاعَةً، وَفُرَادَى فِي الْمَسْجِدِ وَالأَسْوَاقِ، وَالطُّرُقِ، وَالْمَنَازِلِ، وَمُسَافِرِينَ، وَمُقِيمِينَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَيْنَ كَانُوا، وَأَنْ يُظْهِرُوا التَّكْبِيرَ، وَلا يَزَالُونَ يُكَبِّرُونَ حَتَّى يَغْدُوَا إلَى الْمُصَلَّى، وَبَعْدَ الْغُدُوِّ حَتَّى يَخْرُجَ الإِمَامُ لِلصَّلاةِ ثُمَّ يَدَعُوا التَّكْبِيرَ ..
ثم روى عن سعيد ابْن الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْن الزُّبَيْرِ وَأَبي سَلَمَةَ وَأَبي بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنهم كانوا يُكَبِّرُونَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ.
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا كَانَا يَجْهَرَانِ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَغْدُوَانِ إلَى الْمُصَلَّى.
وعن نَافِع بْن جُبَيْرٍ أنه كان يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَغْدُو إلَى الْمُصَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ.
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَغْدُو إلَى الْمُصَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ يُكَبِّرُ بِالْمُصَلَّى حَتَّى إذَا جَلَسَ الإِمَامُ تَرَكَ التَّكْبِيرَ اهـ باختصار.
• التكبير في عيد الأضحى.
التكبير عند العلماء في هذه الأيام على نوعين:
مطلق - ومقيد.
أما التكبير المطلق فيبدأ من أول شهر ذي الحجة في جميع الأوقات ولا يخص بمكان معين.
فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد).
وقال الإمام البخاري في صحيحه (وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً).
وأما التكبير المقيد فيكون بعد الصلوات المكتوبات.
وأرجح أقوال أهل العلم أنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق أي يكبر بعد ثلاث وعشرين صلاة مفروضة.
قال ابن حجر: وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى.
عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر يوم عرفة من صلاة الغداة إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق وروى ابن أبي شيبة بسنده عن علي رضي الله عنه (أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق).
وروى أيضاً بسنده عن الأسود قال (كان عبد الله -ابن مسعود رضي الله عنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من النحر يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد).
قال البخاريّ في صحيحه: كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما" انتهى.
• قال الشيخ ابن عثيمين: التكبير المطلق يكون في موضعين:
الأول: ليلة عيد الفطر، من غروب الشمس إلى انقضاء صلاة العيد.
الثاني: عشر ذي الحجة من دخول الشهر، إلى فجر يوم عرفة، والصحيح أنه يمتد إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
التكبير المقيد: من انتهاء صلاة عيد الأضحى إلى عصر آخر أيام التشريق.
التكبير الجامع بين المطلق والمقيد: من طلوع الفجر يوم عرفة إلى انتهاء صلاة عيد الأضحى، والصحيح أنه إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
والفرق بين التكبير المطلق والتكبير المقيد، أن المطلق مشروع في كل وقت لا في أدبار الصلوات، فمشروعيته مطلقة، ولهذا سمي مطلقاً.
وأما المقيد فمشروع أدبار الصلوات فقط. [مجموع الفتاوى 16/ 266].
فائدة: 3
ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كان يهنئ بعضهم بعضاً بالعيد بقولهم: تقبل الله منا ومنكم.
فعن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اِلْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك. قال الحافظ: إسناده حسن.
وقَالَ الإمام أَحْمَدُ رحمه الله: وَلا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُل لِلرَّجُلِ يَوْمَ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك. نقله ابن قدامة في "المغني".
فائدة: 4
صلاة المرأة العيد في بيتها مع نساء.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يجوز للمرأة أن تصلى صلاة العيد في بيتها؟
فأجاب:
المشروع في حق النساء أن يصلين صلاة العيد في مصلى العيد مع الرجال، لحديث أم عطية رضي الله عنها، فالسنة أن يخرج النساء إلى مصلى العيد مع الرجال، أما صلاة النساء في البيوت فلا أعلم في ذلك سنة ".
وسئل أيضاً: امرأة تسأل عن صلاة العيد بالنسبة للنساء حيث لا يوجد لدينا مصلى للنساء، فأجمع النساء في بيتي وأصلي بهن صلاة العيد، فما الحكم في ذلك؟ علما بأن بيتي مستور وبعيد عن الرجال.
فأجاب:
الحكم في ذلك أن هذا من البدعة؛ فصلاة العيد إنما تكون جماعة في الرجال، والمرأة مأمورة بأن تخرج إلى مصلى العيد فتصلى مع الرجال
وتكون خلفهم بعيدة عن الاختلاط بهم، وأما أن تكون صلاة العيد في بيتها فغلط عظيم؛ فلم يعهد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أن النساء يقمن صلاة العيد في البيوت.
فائد: 5
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يخطب العيد للناس على منبر على الراجح.
قال البخاري رحمه الله في "صحيحه" بَابُ الخُرُوجِ إِلَى المُصَلَّى بِغَيْرِ مِنْبَرٍ " انتهى
ثم روى عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَال (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ، وَيُوصِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا: قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ: أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ " قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: " فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ - وَهُوَ أَمِيرُ المَدِينَةِ - فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا المُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ، فَجَبَذَنِي، فَارْتَفَعَ، فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ، فَقَالَ أَبَا سَعِيدٍ: قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ، فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لَا أَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاة).
قال ابن القيم: وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مِنْبَرٌ يَرْقَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُخْرِجُ مِنْبَرَ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَخْطُبُهُمْ قَائِمًا عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ جابر:" شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ " مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
…
(زاد المعاد).
وقال ابن رجب: وكان أكثر خطبه على المنبر في المسجد، إلا خطبه في العيدين وفي موسم الحج ونحو ذلك. (الفتح).
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هل يسن للإمام أن يخطب على منبر في صلاة العيد؟
فأجاب: " يرى بعض العلماء أنه سنة، لأن في حديث جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال:(ثم نزل فأتى النساء) قالوا: والنزول لا يكون إلا من مكان عالٍ، وهذا هو الذي عليه العمل.
وذهب بعض العلماء إلى أن الخطبة بدون منبر أولى، والأمر في هذا واسع إن شاء الله.
باب صلاة الكسوف.
الكسوف هو ذهاب ضوء الشمس كله أو بعضه.
والخسوف: ذهاب ضوء القمر كله أو بعضه.
• قال ابن القيم: فرّق الفقهاء بين صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء بأن هذه صلاة رهبة وهذه صلاة رغبة.
• وللكسوف سببان:
السبب الأول: سبب شرعي وهو تخويف العباد وزجرهم عن الذنوب ودفعهم إلى التوبة.
وكما قال ابن المنير: أنه بمنزلة الإعلام بقرب وقوع عقوبة، فعلى الناس أن يبادروا بالتوبة ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والذكر والصدقة والعتق وغير ذلك مما يدفع أسباب العقوبات.
ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده).
السبب الثاني: سبب كوني: بالنسبة لكسوف الشمس هو حيلولة القمر بين الشمس وبين الأرض.
وأما بالنسبة للقمر فهي حيلولة الأرض بين الشمس.
(وهي سنة).
أي: أن حكم صلاة الكسوف سنة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث بادر إلى فعلها عند وجود سببها.
أ- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ مُنَادِياً يُنَادِي: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعُوا. وَتَقَدَّمَ، فَكَبَّرَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَات) متفق عليه.
ب- وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ فَزِعاً، وَيَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ. فَقَامَ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلاتِهِ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ عز وجل: لا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ) متفق عليه.
ج- وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً قَدْرَ نَحْوِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ. فَقَالَ «إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ». قَالُوا بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُفْرِهِنَّ». قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ «بِكُفْرِ الْعَشِيرِ وَبِكُفْرِ الإِحْسَانِ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ). رواه مسلم
د- وعن الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة. قال (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْكَشِفَ). متفق عليه
وللبخاري (حتى تنجلي).
هـ- وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلْنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُم) رواه البخاري.
وقد قال النووي: سنة مؤكدة بالإجماع.
وذهب بعض العلماء: إلى وجوبها.
قال ابن حجر: فالجمهور على أنها سنة مؤكدة، وصرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها.
قال الشيخ الألباني: دعوى الاتفاق منقوضة، فقد قال أبو عوانة في صحيحه في [بيان وجوب صلاة الكسوف] ثم ساق بعض الأحاديث الصحيحة في الأمر بها كقوله: (فصلوا
…
).
قال الشيخ الألباني: وهو الأرجح دليلاً.
وقال: إن القول بالسنية فقط فيه إهدار للأوامر الكثيرة التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة دون أي صارف لها عن دلالتها الأصلية ألا وهو الوجوب.
قال ابن القيم: إن القول بالوجوب قوي قوي.
وهذا الصحيح أنها واجبة، لكن على الكفاية.
فائدة:
قوله (يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ) يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، وكانت وفاته بالمدينة.
(آيَتَانِ) علامتان.
(مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ) أي: الدالة على وحدانية الله وعظم قدرته، وقد جاء في حديث أبي مسعود (يخوف الله بهما عباده).
(وَلَا لِحَيَاتِهِ) استشكلت هذه الزيادة، لأن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكر الحياة؟
والجواب: أن فائدة ذكر الحياة، دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سبباً للفقد أن يكون سبباً للإيجاد، فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم.
(وهي ركعتان كل ركعة بقيامين وركوعين).
أي: أن صفة صلاة الكسوف تكون بركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان.
وهذا أصح ما ورد.
وهذه الصفة اتفق عليها البخاري ومسلم، أي: أنه يصلي ركعتين، في ركعة ركوعان وسجودان.
وبهذا قال أحمد، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وداود.
واختاره ابن تيمية، والصنعاني، والسعدي.
قال ابن تيمية: قد روي في صفة صلاة الكسوف أنواع، لكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه البخاري ومسلم من غير وجه، وهو الذي استحبه أكثر أهل العلم كمالك والشافعي وأحمد، أنه صلى بهم ركعتين في كل ركعة ركوعان.
وقال الشيخ السعدي: والصحيح صلاة الكسوف حديث عائشة الثابت في الصحيحين، أنه صلى في كل ركعة بركوعين وسجودين، وأما ما سواه من الصفات، فإنه وهْم من بعضهم واهٍ كما قال الأئمة: الإمام أحمد، والبخاري، وغيرهما.
وقال الشوكاني: "حكى النووي عن ابن عبد البر أنه قال: أصح ما في الباب ركوعان، وما خالف ذلك فمعلل أو ضعيف، وكذا قال البيهقي".
ونقل ابن القيم والشافعي وأحمد والبخاري، أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطاً من بعض الرواة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم.
ويدل لذلك:
حديث عائشة (أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ مُنَادِياً يُنَادِي: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعُوا. وَتَقَدَّمَ، فَكَبَّرَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَات).
وعنها قَالَتْ (خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ. فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ - وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ - ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ -وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ- ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً) متفق عليه.
وهذا فيه صفة صلاة الكسوف بالتفصيل:
يصلي ركعتين يقرأ في الأولى جهراً بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُورةً طَوِيلَةً، ثُمَّ يَرْكَعُ طَوِيلاً ثُمَّ يَرْفَعُ، وَيُسَمِّعُ، وَيُحَمِّدُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً طَوِيلَةً دُونَ الأْولى، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ وَهُوَ دُونَ الأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ كَالأْولَى لَكِنْ دُونَهَا فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّم.
• مسائل:
أ- ليس في القراءة بعد الفاتحة في صلاة الكسوف شيء محدد، بل يقرأ فيها بما تيسر له من القرآن.
قال البهوتي رحمه الله: " ومهما قرأ به من السور جاز لعدم تعين القراءة.
ب- تطويل الركعة الأولى أطول من الثانية.
قال النووي: واتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيها أقصر من القيام الأول وركوعه فيها.
واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه، هل هما أقصر من القيام الأول من الأولى وركوعه، أو يكونان سواء؟
وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله (وهو دون القيام الأول) هل المراد به الأول من الثانية، أو يرجع إلى الجميع فيكون كل قيام دون الذي قبله؟
والثاني هو الراجح.
قال الشيخ المباركفوري رحمه الله: " في الحديث دليل على مشروعية تطويل القيام بقراءة سورة طويلة في صلاة الكسوف، وهو مستحب عند الجميع.
(ويقرأ جهراً).
أي: أن صلاة الكسوف جهرية سواء كسوف الشمس بالنهار، أو خسوف القمر بالليل.
وهذا مذهب الحنابلة.
لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ فِي صَلَاةِ اَلْكُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وهو نص في الباب.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجهر في صلاة الكسوف ويجهر في صلاة الخسوف، لأنها ليلية.
وإلى هذا ذهب الجمهور.
جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية) ولَا يَجْهَرُ فِي صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ، فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا).
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. (الموسوعة).
أ-لحديث ابن عباس قال (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقام طويلاً نحواً من سورة البقرة
…
) متفق عليه.
قالوا: هذا دليل على أنه لم يسمعه، لأنه لو سمعه لم يقدره بغيره.
ب-وعن سمرة قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف لا نسمع له صوتاً
…
) رواه الترمذي.
والراجح القول الأول وهو الجهر بالكسوف والخسوف.
وأما الإجابة عن أدلة القول الثاني:
حديث سمرة حديث ضعيف من أجل ثعلبة بن عباد.
وعلى فرض صحته فالمثبت مقدم على المنفي.
وأما حديث ابن عباس، فالجواب عنه من وجوه:
أولاً: أنه جهر ولم يسمعه ابن عباس.
ثانياً: أنه سمع ولم يحفظ ما قرأ به، فقدره بسورة البقرة.
ثالثاً: أن يكون نسي ما قرأ به، وحفظ قدر قراءته، فقدرها بالبقرة، ونحن نرى الرجل ينسى ما قرأ به الإمام في صلاة يومه.
وقد رجح الجهر: الحافظ ابن حجر، والشوكاني، وابن حزم، وابن العربي وغيرهم.
فائدة:
حمل بعض العلماء (حديث عائشة السابق: فجهر بقراءته) على أنه كان في خسوف القمر، أي: ليلاً، ولم يكن في كسوف الشمس.
وروايات الحديث ترد هذا، لأن فيها التصريح بأن ذلك كان في كسوف الشمس.
قال ابن حجر: وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيّ رَوَى هَذَا الْحَدِيث مِنْ وَجْه آخَر عَنْ الْوَلِيد بِلَفْظِ: (كَسَفَتْ الشَّمْس فِي عَهْد رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيث، وَكَذَا رِوَايَة الْأَوْزَاعِيِّ الَّتِي بَعْده صَرِيحَة فِي الشَّمْس. (الفتح).
وقال العيني: يرد بما رواه إسحاق بن راهويه عن الوليد بن مسلم بإسناده إلى عائشة (أن النبي صلى بهم في كسوف الشمس وجهر بالقراءة) رواه الخطابي في " أعلام الجامع الصحيح "(عمدة القارئ).
وقال الصنعاني: والمراد كسوف الشمس؛ لما أخرجه أحمد بلفظ: (خسفت الشمس) وقال: (ثم قرأ فجهر بالقراءة) وقد أخرج الجهر أيضاً الترمذي والطحاوي والدار قطني.
…
(سبل السلام).
ورجح ابن المنذر رحمه الله حديث عائشة في الجهر على قول ابن عباس، لأن المثبت مقدم على النافي.
وقال ابن تيمية: ويجهر بالقراءة في صلاة الكسوف ولو نهاراً وهو مذهب أحمد وغيره.
وقال الشيخ الألباني: المتقرر أن صلاة الكسوف إنما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وقد صح أنه جهر بها كما في البخاري ولم يثبت ما يعارضه ولو ثبت لكان مرجوحاً. (تمام المنة).
(من غير خطبة).
وهذا مذهب الجمهور: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة دون الخطبة، وإنما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة ليعلمهم حكمها، وهذا مختص به.
وقال بعضهم: إنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد الخطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس.
قال ابن قدامة: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخُطْبَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَأَمَرَهُمْ بِهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَفْعَلُهَا الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ، فَلَمْ يُشْرَعْ لَهَا خُطْبَةٌ، وَإِنَّمَا خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الصَّلَاةِ لِيُعَلِّمَهُمْ حُكْمَهَا، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَطَبَ كَخُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ. (المغني).
وذهب بعض العلماء: إلى استحباب الخطبة.
وهو مذهب الإمام الشافعي وأحد القولين للإمام أحمد.
قال النووي رحمه الله في (المجموع) عن القول باستحباب الخطبة بعد الصلاة: وبه قال جمهور السلف، ونقله ابن المنذر عن الجمهور.
وقال الحافظ ابن حجر: فاستحبها الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث.
أ- لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعد صلاة الكسوف، فإنه (قام وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد
…
).
ب- والأصل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(ولا تقضى إذا فاتت).
أي: إذا فاتت صلاة الكسوف حتى خرج وقتها فإنها لا تقضى، لأنها سنة شرعت لسبب فتزول بزواله.
قال ابن قدامة: فَإِنْ فَاتَتْ لَمْ تُقْضَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (إذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ حَتَّى تَنْجَلِي).
فَجَعَلَ الِانْجِلَاءَ غَايَةً لِلصَّلَاةِ.
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا سُنَّتْ رَغْبَةً إلَى اللَّهِ فِي رَدِّهَا، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ. (المغني).
وقال النووي رحمه الله: " قال أصحابنا: النوافل قسمان:
أحدهما: غير مؤقت، وإنما يفعل لعارض كالكسوف والاستسقاء وتحية المسجد، فهذا إذا فات لا يقضى. (المجموع).
وقال البهوتي رحمه الله: ووقتها: من ابتداء كسوف إلى التجلي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا رأيتم شيئاً من ذلك، فصلوا حتى ينجلي) رواه مسلم. ولا تقضى صلاة الكسوف بالتجلي؛ لما تقدم. ولم ينقل الأمر بها بعد التجلي، ولا قضاؤها; ولأنها غير راتبة، ولا تابعة لفرض، فلم تقض، كاستسقاء، وتحية مسجد، وسنة وضوء، وسجود تلاوة وشكر، لفوات محلها. (كشاف القناع).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا لم يعلم بالكسوف إلا بعد زواله فلا يقضى؛ لأننا ذكرنا قاعدة مفيدة، وهي: " أن كل عبادة
مقرونة بسبب إذا زال السبب زالت مشروعيتها". فالكسوف مثلاً إذا تجلت الشمس، أو تجلى القمر، فإنها لا تعاد؛ لأنها مطلوبة لسبب وقد زال، ويعبر الفقهاء رحمهم الله عن هذه القاعدة بقولهم: "سنة فات محلها.
(وتدرك الركعة بإدراك الركوع الأول).
أي: أن الركعة في صلاة الكسوف تدرك بإدراك الركوع الأول منها.
(وتُسنّ جماعةً وفُرادَى).
أي: أن صلاة الكسوف يجوز أن تصلى جماعة، ويجوز فرادى في البيوت، والأفضل أن تصلى جماعة.
قال الشوكاني: وقد ذهب مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور العلماء إلى أن صلاة الكسوف والخسوف تسن الجماعة فيهما.
أ- لحديث عائشة قالت (خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس
…
) متفق عليه.
ب- ولحديث أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ قَالَتْ (أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّى
…
) متفق عليه.
قال ابن قدامة: لقَوْلُهُ عليه السلام (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا).
وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ، فَجَازَتْ فِي الِانْفِرَادِ، كَسَائِرِ النَّوَافِلِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ فِعْلَهَا فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهَا فِيهِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ، فَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلِأَنَّ وَقْتَ الْكُسُوفِ يَضِيقُ، فَلَوْ خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى احْتَمَلَ التَّجَلِّي قَبْلَ فِعْلِهَا.
وَتُشْرَعُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ إذْنِهِ.
…
(المغني).
فائدة:
يشرع حضور النساء لصلاة الكسوف، فقد ثبت أن عائشة وأسماء صلتا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ قَالَتْ (أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّى فَقُلْتُ مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ. فَقُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ. فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي مَاءً، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ «مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيباً مِنْ فِتْنَةِ
…
). رواه البخاري
(ويُنادى لها: الصلاة جامعة).
أي: ويسن أن ينادى لصلاة الكسوف بـ: الصلاة جامعة.
أ- لحديث عَائِشَةَ (أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ مُنَادِيًا «الصَّلَاةَ جَامِعَةً». فَاجْتَمَعُوا وَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ. وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ) رواه مسلم.
ب- وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ (لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُودِيَ إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَة) متفق عليه
فائدة:
لا يسن لها أذان ولا إقامة.
أ-لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بغير أذان ولا إقامة.
ب- ولأنها من غير الصلوات الخمس فأشبهت النوافل.
(ووقتُها من حدوث الكسوف إلى التجلي).
أي: أن صلاة الكسوف تكون من رؤية الكسوف إلى تجلي الكسوف.
أ-لقوله (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَادْعُوا اَللَّهَ وَصَلُّوا، حَتَّى تَنْكَشِفَ) والذي في مسلم مثبت (حتى ينكشف) أي: يرتفع ويزول ما حل بكم من الكسوف.
ب-وفي رواية البخاري من حديث المغيرة (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ).
ج-وفي البخاري عَنْ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا، وَادْعُوا، حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُم).
فائدة:
فلو أخبرنا بالكسوف لكن لم نره لوجود السحب، فأننا لا نصلي صلاة الكسوف.
وكذلك لو طلعت الشمس والقمر خاسف، فإنه لا يصلى، لأنه ذهب سلطانه.
وكذلك إذا غابت الشمس كاسفة، فإنه لا يصلى، لأن سلطانها قد ذهب.
قال ابن قدامة: وَإِنْ غَابَتْ الشَّمْسُ كَاسِفَةً، أَوْ طَلَعَتْ عَلَى الْقَمَرِ وَهُوَ خَاسِفٌ، لَمْ يُصَلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ وَقْتُ الِانْتِفَاعِ بِنُورِهِمَا.
(فإن تجلَّى الكسوفُ فيها أتمها خفيفةً).
أي: لو تجلى الكسوف أثناء الصلاة فإنهم يتمونها خفيفة لأمرين:
أولاً: لأن السبب الذي شرعت له الصلاة قد زال.
ثانياً: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صلوا حتى ينكشف ما بكم).
فائدة:
اختلف العلماء: في حكم لو فرِغَ من الصلاة قبل التجلي؟
فقيل: يصلون مرة ثانية.
وقيل: يشتغلون بالدعاء والذكر والتسبيح.
وهذا القول هو الصحيح.
قال ابن قدامة: إن فرغ من الصلاة والكسوف قائم: لم يَزِدْ، واشتغل بالذكر والدعاء; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على ركعتين.
وقال النووي: لو سلم من صلاة الكسوف -والكسوف باق- فهل له استفتاح صلاة الكسوف مرة أخرى؟ فيه وجهان، خرجهما الأصحاب على جواز زيادة الركوع، والصحيح المنع من الزيادة والنقص، ومن استفتاح الصلاة ثانياً. والله أعلم. (المجموع)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: المشهور عند أهل العلم أن صلاة الكسوف لا تكرر، ولكن ينبغي للإمام أن يلاحظ مدة الكسوف فيجعل الصلاة مناسبة، فإن كانت قصيرة قصّر الصلاة، ويعلم هذا بما نسمع عنه الآن مما يقرر قبل حدوث الكسوف؛ بأن الكسوف سيبدأ في الدقيقة كذا من الساعة كذا إلى الدقيقة كذا في الساعة كذا، فينبغي للإمام أن يلاحظ ذلك. وإذا فرغت الصلاة قبل انجلاء الكسوف فليتشاغلوا بالدعاء والذكر حتى ينجلي.
وقال رحمه الله: لا تكرر صلاة الكسوف إذا انتهت قبل الانجلاء، وإنما يصلي نوافل كالنوافل المعتادة، أو يدعو ويستغفر ويشتغل بالذكر حتى ينجلي.
(وحكمتُها تخويف العباد).
أي: الحكمة من الكسوف تخويف العباد لعلهم يرجعوا إلى الله ويتوبوا.
أ-عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ (خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ فَزِعاً يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَقَامَ يُصَلِّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاةٍ قَطُّ ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ) متفق عليه.
ب-وعن عَائِشَةَ (أَنَّ الشَّمْسَ انْكَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ قِيَاماً شَدِيداً يَقُومُ قَائِماً ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُومُ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُومُ ثُمَّ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ فَانْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ وَكَانَ إِذَا رَكَعَ قَالَ «اللَّهُ أَكْبَرُ». ثُمَّ يَرْكَعُ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفاً فَاذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى يَنْجَلِيَا) رواه مسلم.
فائدة: 1
قال ابن حجر: قَوْله: (فَأَفْزَعُوا): أَيْ اِلْتَجِئُوا وَتَوَجَّهُوا، وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى الْمُبَادَرَة إِلَى الْمَأْمُور بِهِ، وَأَنَّ الِالْتِجَاء إِلَى اللَّه عِنْد الْمَخَاوِف بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَار سَبَب لِمَحْوِ مَا فرطَ مِنْ الْعِصْيَان؛ يُرْجَى بِهِ زَوَال الْمَخَاوِف، وَأَنَّ الذُّنُوب سَبَب لِلْبَلَايَا وَالْعُقُوبَات الْعَاجِلَة وَالْآجِلَة.
وقال أيضاً: فيهِ النَّدْب إِلَى الِاسْتِغْفَار عِنْد الْكُسُوف وَغَيْره لِأَنَّهُ مِمَّا يُدْفَع بِهِ الْبَلَاء.
…
(الفتح).
فائدة: 2
قال الشيخ ابن عثيمين: الكسوف إنذار من الله لعقوبة انعقدت أسبابها، وليس هو عذاباً، لكنه إنذار، كما قال صلى الله عليه وسلم (يخوف الله بهما عباده) ولم يقل: يعاقب الله بهما عباده، بل هو تخويف، ولا ندري ما وراء هذا التخويف، قد تكون هناك عقوبات عاجلة أو آجلة في الأنفس أو الأموال أو الأولاد أو الأهل، عقوبات عامة أو خاصة، ما ندري، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله) ما قال: قوموا، وما قال: صلوا، اذكروا الله، ولكن قال: افزعوا، افزعوا إلى ذكر الله واستغفاره، وكبروا وتصدقوا وصلوا وأعتقوا، كل هذه أشياء تدل على عظم هذا الكسوف.
•
والكسوف له سببان:
السبب الأول: التخويف: تخويف العباد إذا كثرت الذنوب، ورانت المعاصي على القلوب، نسأل الله العافية.
والسبب الثاني: كوني قدري: وهو ما يذكره الناس من أن سبب الكسوف حيلولة القمر بين الشمس والأرض، وسبب الخسوف حيلولة الأرض بين الشمس والقمر، ولا يمتنع أن يجعل الله عز وجل أسباباً طبيعية لتخويف العباد. (لقاء الباب المفتوح).
فائدة: 3
استشكل خشية النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون الساعة مع أن الساعة لها مقدمات:
قيل: يحتمل أن تكون قصة الكسوف وقعت قبل إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العلامات.
أو لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات.
أو أن الراوي ظن أن الخشية لذلك وكانت لغيره.
أو أن المراد بالساعة غير يوم القيامة، أي الساعة التي جعلت علامة على أمر من الأمور.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أما الأول ففيه نظر، لأن قصة الكسوف متأخرة جداً، فقد تقدم أن موت إبراهيم كان في السنة العاشرة كما اتفق عليه أهل الأخبار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من الأشراط والحوادث قبل ذلك.
وأما الثالث، فتحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم بذلك إلا بتوثيق.
وأما الرابع فلا يخفى بعده.
وأقربها الثاني، فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها.
(ويسن عند الكسوف الصلاة والصدقة والاستغفار).
أي: يسن عند حصول الكسوف الإكثار من الطاعات والقربات كالصلاة والصدقة والدعاء.
أولاً: الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم (فصلوا
…
).
ثانياً: الدعاء، لقوله (فادعوا
…
).
ثالثاً: التكبير، لقوله (وكبروا
…
).
رابعاً: الصدقة، لقوله (وتصدقوا
…
).
خامساً: العتاقة، عن أسماء قالت:(لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس) رواه البخاري.
وَلِأَنَّهُ تَخْوِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِيَكْشِفَهُ عَنْ عِبَادِه. (المغني).
(ويُصَلَّى لزلزلةٍ دائمةٍ فقط).
أي: يشرع الصلاة إذا حدثت زلزلة، وقوله (فقط) أي: فلا يصل لغيرها كالريح الشديدة، والظلمة، وكثرة المطر وغيرها.
لورود ذلك عن ابن عباس: أنه صلى في زلزلة بالبصرة كصلاة الكسوف، ثم قال: هكذا صلاة الآيات.
رواه والبيهقي في "السنن الكبرى" وقال: هو عن ابن عباس ثابت.
وصححه الحافظ في "فتح الباري".
جاء في (الموسوعة الفقهية)
…
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الزَّلْزَلَةُ الدَّائِمَةُ، فَيُصَلَّى لَهَا كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ لِفِعْل ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. انتهى.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يصلى لغير الكسوف والخسوف.
وهذا قول مالك، والشافعي.
أ-لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ لغير الكسوف، وقد كان في عصره بعض هذه الآيات، وكذلك خلفاؤه.
ب- وحدثت الزلزلة في عهد عمر فلم يصلوا.
وذهب بعضهم: إلى أنه يصلى لكل آية، الزلزلة وغيرها.
وهو مذهب أبي حنيفة، وهو اختيار ابن تيمية.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه آية من آيات الله يخوف بها عباده.
فائدة:
الحكم إذا كسفت الشمس يوم الجمعة:
إذا كسفت الشمس يوم الجمعة، فإن كان ذلك قبل الجمعة بوقت يسع صلاة الكسوف المعتادة، كما لو كان الكسوف في الضحى أو قريباً منه، بدئ بالكسوف، ثم صليت الجمعة في وقتها، وإن وقع الكسوف في وقت الجمعة، فإن خيف فوات الجمعة، قدمت اتفاقاً
وإن أمن فواتها، فالجمهور على تقديم الكسوف.
وذهب الحنابلة في قول اختاره ابن قدامة رحمه الله إلى تقديم الجمعة؛ لأن البدء بالكسوف يفضي إلى المشقة، ويقتضي حبس الناس لأجله وإلزامهم بصلاته، وهي غير واجبة في الأصل.
قال ابن قدامة رحمه الله: وإذا اجتمع صلاتان، كالكسوف مع غيره من الجمعة، أو العيد، أو صلاة مكتوبة، أو الوتر، بدأ بأخوفهما فوتاً، فإن خيف فوتهما بدأ بالصلاة الواجبة، وإن لم يكن فيهما واجبة كالكسوف والوتر أو التراويح، بدأ بآكدهما، كالكسوف والوتر، بدأ بالكسوف; لأنه آكد، ولهذا تسن له الجماعة، ولأن الوتر يقضى، وصلاة الكسوف لا تقضى.
فإن اجتمعت التراويح والكسوف، فبأيهما يبدأ؟ فيه وجهان، هذا قول أصحابنا، والصحيح عندي أن الصلوات الواجبة التي تصلى في الجماعة مقدمة على الكسوف بكل حال; لأن تقديم الكسوف عليها يفضي إلى المشقة، لإلزام الحاضرين بفعلها مع كونها ليست واجبة عليهم، وانتظارهم للصلاة الواجبة، مع أن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتخفيف الصلاة الواجبة، كي لا يشق
على المأمومين، فإلحاق المشقة بهذه الصلاة الطويلة الشاقة، مع أنها غير واجبة، أولى، وكذلك الحكم إذا اجتمعت مع التراويح، قدمت التراويح لذلك، وإن اجتمعت مع الوتر في أول وقت الوتر قدمت؛ لأن الوتر لا يفوت، وإن خيف فوات الوتر قدم; لأنه يسير يمكن فعله وإدراك وقت الكسوف، وإن لم يبق إلا قدر الوتر، فلا حاجة بالتلبس بصلاة الكسوف; لأنها إنما تقع في وقت النهي، وإن اجتمع الكسوف وصلاة الجنازة، قدمت الجنازة وجها واحداً; لأن الميت يخاف عليه، والله أعلم.
…
(المغني).
وقال النووي رحمه الله: قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله: إذا اجتمع صلاتان في وقت واحد قدم ما يخاف فوته، ثم الأوكد، فإذا اجتمع عيد وكسوف، أو جمعة وكسوف وخيف فوت العيد أو الجمعة لضيق الوقت قدم العيد والجمعة؛ لأنهما أوكد من الكسوف وإن لم يخف فوتهما فالأصح وبه قطع المصنف [أبو إسحاق الشيرازي] والأكثرون: يقدم الكسوف، لأنه يخاف فوته. (المجموع)
بَابُ صَلَاةِ اَلِاسْتِسْقَاءِ
أي: باب الصلاة لأجل الاستسقاء، وهو الدعاء بطلب السقيا على صفة مخصوصة.
قال في الفتح: الاستسقاء لغة طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير.
وشرعاً: طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب على وجهٍ مخصوص.
(وهي سنة، إذا أجدبت الأرضُ وقَحَطَ المطر).
أي: أن صلاة الاستسقاء حكمها سنة عند وجود سببها وهو: تأخر نزول المطر وجدب الديار وهذا قول أكثر العلماء.
قال ابن قدامة: صلاة الاستسقاء سنة عند الحاجة إليها سنة مؤكدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وكذلك خلفاؤه، وهذا قول سعيد بن المسيب وداود ومالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا تسن صلاة الاستسقاء ولا الخروج إليها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى على المنبر يوم الجمعة ولم يخرج ولم يصل.
وقول الجمهور هو الصحيح.
فقد ثبتت الأحاديث في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الاستسقاء ركعتين.
أ-كحديث عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى وصلى ركعتين) متفق عليه.
وفي رواية للبخاري (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة).
ب- وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي اَلْعِيدِ، لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ) رَوَاهُ ابو داود.
ج- وحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه قحوط المطر
…
فخطب ثم أقبل على الناس
…
) رواه أبو داود.
فائدة:
أنواع الاستسقاء التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة:
أولاً: استسقى يوم الجمعة وهو يخطب.
كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. قَالَ أَنَسٌ: فَلا وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلا دَارٍ قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ. فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ
…
) متفق عليه.
ثانياً: السؤال من كل واحد من الناس.
وقد استسقى النبي صلى الله عليه وسلم بدون صلاة، كما ورد في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فقال (اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً غدقاً طبقاً عاجلاً
…
) رواه ابن ماجه.
ثالثاً: خرج بهم إلى المصلى واستسقى بهم.
كما في أحاديث الاستسقاء، وقد تقدمت.
(وتفعل كصلاة العيد في الصحراء).
أي: أن صلاة الاستسقاء صفتها كصلاة العيد، فتسن في الصحراء.
لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت (شَكَا اَلنَّاسُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ، فَوُضِعَ لَهُ فِي اَلْمُصَلَّى، وَوَعَدَ اَلنَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَخَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ اَلشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى اَلْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اَللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدَبَ دِيَارِكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمْ اَللَّهُ أَنْ تَدْعُوَهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ اَلْغَنِيُّ وَنَحْنُ اَلْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ" ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى اَلنَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبِلَ عَلَى اَلنَّاسِ وَنَزَلَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اَللَّهُ سَحَابَةً، فَرَعَدَتْ، وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَت) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
(ووقتها وصفتها كصلاة العيد).
أي: صلاة الاستسقاء كصلاة العيد في الوقت، والصفة.
في الوقت:
ليس لها وقت معين، لكن الأفضل وقت صلاة العيد.
قال ابن قدامة: وليس لصلاة الاستسقاء وقت معين، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف; لأن وقتها متسع، فلا حاجة إلى فعلها في وقت النهي، والأولى فعلها في وقت العيد.
أ- لما روت عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين بدا حاجب الشمس. رواه أبو داود.
ب- ولأنها تشبهها في الموضع والصفة، فكذلك في الوقت، إلا أن وقتها لا يفوت بزوال الشمس، لأنها ليس لها يوم معين،
فلا يكون لها وقت معين.
…
(المغني).
وقال النووي رحمه الله: في وقت صلاة الاستسقاء ثلاثة أوجه:
أحدها: وقتها وقت صلاة العيد.
الوجه الثاني: أول وقت صلاة العيد ويمتد إلى أن يصلي العصر
…
والثالث: وهو الصحيح، بل الصواب: أنها لا تختص بوقت، بل تجوز وتصح في كل وقت من ليل ونهار، إلا أوقات الكراهة على أحد الوجهين. وهذا هو المنصوص للشافعي، وبه قطع الجمهور وصححه المحققون. (المجموع).
في الصفة:
يكبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً، وتصلى في المصلى.
لحديث ابن عباس السابق (خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا .... فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي اَلْعِيدِ).
(ويخرج إليها متخشعاً متذللاً متضرعاً).
أي: ويسن أن يخرج لصلاة الاستسقاء متخشعاً متذللاً متضرعاً.
لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ - السابق - قَالَ (خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي اَلْعِيدِ، لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ) رواه أبوداود.
[متخشعاً]: التذلل ورمي البصر إلى الأرض وخفض الصوت وسكون الأعضاء [متذللاً] التذلل الخضوع والتذلل إلى الله وإظهار الذل، وهو الهوان، وهو أشد من التواضع. [متضرعاً] التضرع الابتهال إلى الله في الدعاء مع حضور القلب وامتلائه بالهيبة والخوف من الله أن يكون متواضعاً، متخشعاً، متذللاً، لأنه يوم استكانة وخضوع، واستحب الفقهاء أن يخرج أهل الدين والشيوخ.
(ولا يتطيب).
أي: لا يشرع له إذا ذهب لصلاة الاستسقاء أن يتطيب.
قال ابن قدامة: وَلَا يَتَطَيَّبُ، لِأَنَّهُ مِنْ كَمَالِ الزِّينَةِ، وَهَذَا يَوْمُ تَوَاضُعٍ وَاسْتِكَانَةٍ
قال الشيخ ابن عثيمين: الصحيح أنه لا ينكر على من تطيب، لأن الطيب لا يمنع الاستكانة والخضوع لله تعالى.
(فيصلي ركعتين).
أي أن صلاة الاستسقاء ركعتان.
قال النووي: بإجماع المثبتين لها.
قال ابن قدامة: لا نعلم بين القائلين بصلاة الاستسقاء خلافاً في أنها ركعتان.
كما في حديث ابن عباس السابق (خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي اَلْعِيدِ
…
).
وصفة الصلاة كصلاة العيد، يكبر في الأولى بعد التحريمة والاستفتاح ستاً، وفي الثانية خمساً، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بالأعلى، وفي الثانية بعد الفاتحة بالغاشية.
(يجهر بها).
أي: أن صلاة الاستسقاء يجهر بالقراءة بها.
لحديث عبد الله بن زيد قال (خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِى فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَة) رواه البخاري، ورواه مسلم دون الجهر بالقراءة.
قال النووي: أجمعوا على استحبابه، وكذلك نقل الإجماع على استحباب الجهر ابن بطال.
(ثم يخطب خطبة واحدة).
أي: ثم بعد الصلاة يخطب.
وهذا يدل على أن الخطبة تكون بعد الصلاة كالعيد.
وهذا مذهب الجمهور، المالكية، والشافعية، والحنابلة.
قال النووي: وبه قال الجماهير.
أ- لحديث ابن عباس وقد سبق (خرج متضرعاً
…
فصلى كما يصلي العيد).
ب- ولحديث أبي هريرة قال (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خطبنا) رواه ابن ماجه.
ج-ولحديث عبد الله بن زيد قال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقي، فحول ظهره إلى الناس، واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، ثم صلى ركعتين، جهر فيهما بالقراءة) متفق عليه.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الخطبة قبل الصلاة. (بخلاف العيد)
روي ذلك عن عمر، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وذهب إليه ابن عبد البر.
أ-لحديث عائشة السابق (
…
فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم
…
ثم نزل فصلى) فهو نص أنه خطب قبل الصلاة.
ب-ولحديث عبد الله بن زيد، وفيه: (
…
فحول ظهره إلى الناس واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه ثم صلى ركعتين).
وذهب بعضهم: إلى أنه مخير.
واختار هذا الشوكاني.
لورود الأخبار بكلا الأمرين.
والله أعلم.
(يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد).
وهذا مذهب الحنابلة.
لحديث ابن عباس - السابق - (خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي اَلْعِيدِ).
وذهب بعض العلماء: إلى أن السنة افتتاح خطبة الاستسقاء بالاستغفار.
وهذا قول المالكية والشافعية.
قالوا: لأن الاستغفار أليق بالحال، وأخص بالاستسقاء، لأنه حال طلب ودعاء.
وذهب بعضهم: إلى أن السنة افتتاح خطبة الاستسقاء بالحمد.
وهذا قول ابن تيمية.
أ-لحديث أبي هريرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كل امرئ ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد أقطع) رواه أبو داود.
ب- قال ابن تيمية: لم ينقل عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبه بغير الحمد لا خطبة عيد ولا استسقاء.
وهذا القول هو الصحيح.
قال ابن القيم: وقد اختلف الناسُ في افتتاح خُطبة العيدين والاستسقاء، فقيل: يُفتتحان بالتكبير، وقيل تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وقيل: يُفتتحان بالحمد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو الصواب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كلُّ أَمْرٍ ذي بالٍ لَا يُبْدَأ فيهِ بِحَمْدِ الله، فَهُوَ أَجْذَم، وكان يفتتح خطبَه كلَّها بالحمد لله.
[وقد تقدمت المسألة].
(ويكثر فيها: الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به).
أي: يسن أن يكثر في الخطبة من الاستغفار، ويقرأ الآيات التي فيها الأمر به، فيقول: اللهم اغفر لنا، اللهم إنا نستغفرك، لأن الاستغفار سبب لحصول الخيرات والبركات.
كما قال تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً).
وقال تعالى (فاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ).
وقال تعالى (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً).
(ويُحولُ الناسُ أردِيتَهم).
أي: يسن تحويل الرداء في صلاة الاستسقاء.
كما في حديث عبد الله بن زيد السابق (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَة).
قال ابن قدامة: يستحب تحويل الرداء للإمام والمأموم، في قول أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة: لا يسن; لأنه دعاء، فلا يستحب تحويل الرداء فيه، كسائر الأدعية.
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع.
وحكي عن سعيد بن المسيب، وعروة، والثوري، أن تحويل الرداء مختص بالإمام دون المأموم. وهو قول الليث، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، لأنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أصحابه.
ولنا أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق غيره، ما لم يقم على اختصاصه به دليل، كيف وقد عُقِل المعنى في ذلك، وهو التفاؤل بقلب الرداء، ليقلب الله ما بهم من الجدب إلى الخصب، وقد جاء ذلك في بعض الحديث. (المغني).
فائدة: 1
اختلف العلماء: هل التحويل خاص بالإمام أو حتى للمأمومين
على قولين:
القول الأول: يستحب للمأمومين أن يحولوا أرديتهم في الاستسقاء كما يحوّل الإمام.
وهذا قول أكثر العلماء، وبه قال المالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ-فقد جاء في مسند أحمد من حديث عبد الله بن زيد: (
…
ثم تحول إلى القبلة، وحول رداءه فقلبه ظهْراً لبطن وتحول الناس معه) وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن إسحاق، وقد صرح التحديث فانتفت شبهة تدليسه.
ب-أن ما ثبت في حقه صلى الله عليه وسلم ثبت في حق غيره ما لم يقم دليل على اختصاصه.
ج-ولأن العلة واحدة وهي التفاؤل.
القول الثاني: أن سنة تحويل الرداء في الاستسقاء خاصة بالإمام دون المأمومين.
وإليه ذهب جماعة من السلف منهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وهو مذهب الحنفية.
قالوا: إن تحويل الرداء إنما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أصحابه الذين صلوا معه الاستسقاء، فدل ذلك على اختصاص التحويل بالإمام دون المأمومين.
والراجح الأول.
فائدة: 2
اختلف أهل العلم القائلين باستحباب تحويل الأردية في الاستسقاء في هيئة التحويل
على قولين:
القول الأول: أن تحويل الرداء يكون بقلبه فقط،
وذلك بجعل ما كان من الرداء على اليمين على اليسار، وما على اليسار على اليمين.
وهذا مذهب الجمهور.
أ-لحديث عبد الله بن زيد في خبر خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه للاستسقاء وفيه (وحول رداءه، فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله) رواه أحمد.
ب- ولحديث أبي هريرة قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي، فصلى بنا ركعتين
…
وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن) رواه ابن ماجه، وفي إسناده النعمان بن راشد فيه ضعف.
القول الثاني: يستحب مع قلب الرداء تنكيسه، بأن يجعل أعلاه أسفله.
وهذا مذهب الشافعي.
واستدلوا بالحديث الذي سبق: (
…
فقلبه ظهراً لبطن وتحول الناس معه).
والراجح القول الأول، لأن الأحاديث فيه أصرح.
فائدة: 3
الحكمة من التحويل.
أ- التحويل شرع تفاؤلاً بتغير الحال من القحط إلى نزول الغيث والخصب، ومن ضيق الحال إلى سعته.
ب- وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ج-وكأن الرجل التزم أن يغير عمله السيئ إلى عمل صالح، لأن الأعمال لباس.
فائدة: 4
هل يقدّم التحويل أم الدعاء؟
يقدم الدعاء ثم التحويل.
وهذا ظاهر حديث الباب أنه دعا ثم حوّل رداءه.
وكذلك حديث عبد الله بن زيد.
فائدة: 5
اختلف العلماء المعاصرون فيمن يرتدي ملحفة،
أو غطاء يضعه على رأسه، كالشماغ أو الغترة المعروفة اليوم، هل يشمله استحباب قلبه وتحويله عند الاستسقاء، على قولين:
القول الأول: يستحب قلب " الشماغ " كما يستحب قلب الرداء.
ورجحه ابن باز.
القول الثاني: لا يشمله الحكم، ولا يستحب قلبه.
واختاره الشيخ ابن عثيمين.
قال الشيخ ابن عثيمين: وأما الشماغ فالظاهر أنه لا يقلب؛ لأن الشماغ بمنزلة العمامة، والذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هو قلب الرداء.
والراجح القول الأول.
(وإنْ خرجَ أهل الذمةِ لم يُمنعوا، وأُمروا أن يكونوا منفردينَ عن المسلمين).
إِنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا:
لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجِيبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا ضَمِنَ أَرْزَاقَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَيُؤْمَرُوا بِالِانْفِرَادِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ في المكان:
لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ، فَيَعُمَّ مَنْ حَضَرَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَ عَادٍ اسْتَسْقَوْا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا، فَأَهْلَكَتْهُمْ.
لكن لو طلبوا الانفراد بيوم فإنهم يمنعون.
لئلا يتفق نزول الغيث يوم خروجهم وحدهم فيكون أعظم لفتنتهم، وربما افتتن غيرهم بهم.
(ويُنادَى: الصلاة جامعة).
أي: ينادى لصلاة الاستسقاء إذا حان وقتها: الصلاة جامعة.
والراجح أنه لا ينادى لها بذلك، لأنه لم ينقل.
وقياسها على الكسوف قياس ضعيف، وقد تقدم ذلك في باب صلاة العيد.
(ويسن أن يقفَ في أولِ المطرِ، ويحسر عن ثوبه ليصيبه المطر).
أي: يسن عند نزول المطر أن يحسر عن ثوبه ليخرج بعض جسده ليصيبه المطر.
عن أَنَس قال (أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ قَالَ فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ. فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا قَالَ «لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى) رواه مسلم.
قال النووي: معنَى (حَسِرَ) كَشَفَ أَيْ كَشَفَ بَعْض بَدَنه، وَمَعْنَى (حَدِيث عَهْد بِرَبِّهِ) أَيْ بِتَكْوِينِ رَبّه إِيَّاهُ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَطَر رَحْمَة، وَهِيَ قَرِيبَة الْعَهْد بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَهَا فَيَتَبَرَّك بِهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِقَوْلِ أَصْحَابنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ عِنْد أَوَّل الْمَطَر أَنْ يَكْشِف غَيْر عَوْرَته لِيَنَالَهُ الْمَطَر، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا وَفِيهِ أَنَّ الْمَفْضُول إِذَا رَأَى مِنْ الْفَاضِل شَيْئًا لَا يَعْرِفهُ أَنْ يَسْأَلهُ عَنْهُ لِيُعَلِّمهُ فَيَعْمَل بِهِ وَيُعَلِّمهُ غَيْره. (شرح مسلم).
وقال ابن قدامة: ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ فِي أَوَّلِ الْمَطَرِ، وَيُخْرِجَ رَحْلَهُ؛ لِيُصِيبَهُ الْمَطَرُ.
لِمَا رَوَى أَنَس (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْنَا الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَنْ لِحْيَتِهِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ إذَا أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ قَالَ لِغُلَامِهِ أَخْرِجْ رَحْلِي وَفِرَاشِي يُصِبْهُ الْمَطَرُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ إذَا سَالَ السَّيْلُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ كَانَ إذَا سَالَ السَّيْلُ يَقُول: اُخْرُجُوا بِنَا إلَى هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ طَهُورًا، فَنَتَطَهَّرَ). (المغني).
وقال أبو العباس القرطبي: وهذا منه صلى الله عليه وسلم تبرك بالمطر، واستشفاء به؛ لأن الله تعالى قد سماه رحمة، ومباركاً، وطهوراً، وجعله سبب الحياة، ومبعداً عن العقوبة، ويستفاد منه احترام المطر، وترك الاستهانة به. (المفهم).
وفي " صحيح البخاري ": " باب من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته "، أورد فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم المطر على المنبر، وكان مما قاله أنس رضي الله عنه:(ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ).
وقال الحافظ ابن حجر: كأن المصنف أراد أن يبين أن تحادُرَ المطر على لحيته صلى الله عليه وسلم لم يكن اتفاقاً، وإنما كان قصداً، فلذلك ترجم بقوله:" من تمطَّر "، أي: قصد نزول المطر عليه؛ لأنه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر أول ما وكف السقف، لكنه تمادى في خطبته حتى كثر نزوله بحيث تحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم. (الفتح).
وقال الشيخ ابن عثيمين: والثابت من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم (أنه إذا نزل المطر حسر ثوبه) أي: رفعه حتى يصيب المطر بدنه ويقول: إنه كان حديث عهد بربه.
وهذه السنّة ثابتة في الصحيح، وعليه فيقوم الإِنسان ويخرج شيئاً من بدنه إما من ساقه، أو من ذراعه، أو من رأسه حتى يصيبه المطر اتباعاً لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله في الحديث:«إنه كان حديث عهد بربه» لأن الله خلقه الآن، فهو حديث عهد بخلق الله.
…
(الشرح الممتع).
(وإنْ كثُرَ المطرُ حتى خِيف منه سُنّ قول: اللهم حوالينا ولا علينا ..
).
أي: يسن إذا كثر المطر وخيف منه الضرر، فإنه يسن قول ما ورد.
كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى يُغِيثُنَا،
…
قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِماً، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ قَالَ: لا أَدْري).
(هَلَكَتْ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا) أي: بسبب غير السّبب الأوّل، والمراد أنّ كثرة الماء انقطع المرعى بسببها، فهلكت المواشي من عدم الرّعي. أو لعدم ما يكنّها من المطر، ويدلّ على ذلك قوله في رواية سعيد عن شريك عند النّسائيّ (من كثرة الماء).
وأمّا انقطاع السّبل، فلتعذّر سلوك الطّرق من كثرة الماء، وفي رواية حميدٍ عند ابن خزيمة (واحتبس الرّكبان) وفي رواية مالك عن شريك (تهدّمت البيوت) وفي رواية إسحاق عند البخاري (هدم البناء وغرق المال) وفي رواية يحيى بن سعيد عند البخاري (بشق المسافر ومنع الطريق).
(اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ) قيل: هي الهضبة الضخمة، وقيل: هي الجبل الصغير، (وَالظِّرَابِ) بكسر المعجمة وآخره موحّدة، جمع ظرِب بكسر الرّاء. وقد تسكن، وقال القزّاز: هو الجبل المنبسط ليس بالعالي، وقال الجوهريّ: الرّابية الصّغيرة، (وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ) وزاد مالك في روايته (ورءوس الجبال).
(وعند نزوله قول مطرنا بفضل الله ورحمته).
أي: ويسن عند نزول المطر قول: مطرنا بفضل الله ورحمته.
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ «هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا. فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ) متفق عليه.
ومما يستحب أيضاً:
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى المَطَرَ قَالَ: (اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا) رواه البخاري.
وفي لفظ لأبي داود أنه كان يقول: (اللَّهُمَّ صَيِّبًا هَنِيئًا) صححه الألباني
والصيب: ما سال من المطر وجرى.
فائدة: 1
قول ابن عباس (خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا
…
كَمَا يُصَلِّي فِي اَلْعِيدِ، لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ).
قال ابن قدامة: وقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ) نَفْيٌ لِلصِّفَةِ لَا لِأَصْلِ الْخُطْبَةِ، أَيْ لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، إنَّمَا كَانَ جُلُّ خُطْبَتِهِ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ وَالتَّكْبِير. (المغني).
فائدة: 2
هل يشرع الصوم في يوم الاستسقاء؟
قال بذلك بعض العلماء.
وقال الشيخ ابن عثيمين: لكنه ليس في هذا سنة، لكن من كان يعتاد أن يصوم الاثنين فهذا طيب، يصوم الاثنين ويجمع بين هذا وهذا.
فائدة: 3
المستحب في حق الإمام إذا أراد الخروج للاستسقاء أن يعد الناس يوماً يخرجون فيه.
لقول عائشة السابق (ووعد الناس يوماً يخرجون فيه).
فائدة: 4
يستحب في الاستسقاء التصدق.
جاء في (الموسوعة الفقهية): اتّفقت المذاهب على استحباب الصّدقة قبل الاستسقاء، ولكنّهم اختلفوا في أمر الإمام بها.
قال الشّافعيّة، والحنابلة، والحنفيّة، وهو المعتمد عند المالكيّة: يأمرهم الإمام بالصّدقة في حدود طاقتهم.
وقال بعض المالكيّة: لا يأمرهم بها، بل يترك هذا للنّاس بدون أمرٍ؛ لأنّه أرجى للإجابة، حيث تكون صدقتهم بدافعٍ من أنفسهم، لا بأمرٍ من الإمام. انتهى
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: قوله: "والصدقة " أي: ويأمرهم أيضاً بالصدقة -أي: قبل الاستسقاء- والصدقة قد يقال: إنها مناسبة؛ لأن الصدقة إحسان إلى الغير، والإحسان سبب للرحمة؛ لقول الله تعالى:(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) والغيث رحمة؛ لقول الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) والصدقة هنا ليست الصدقة الواجبة، بل المستحبة، أما الصدقة الواجبة فإن منْعها سبب لمنع القطر من السماء كما قال النبي عليه السلام في الحديث المروي عنه: وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء. (الشرح الممتع).
فائدة: 5
جاء في الحديث عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلسَّمَاءِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
الحديث يدل على استحباب رفع اليدين في الاستسقاء والمبالغة في ذلك.
وقد اختلف العلماء في معنى الحديث على قولين:
القول الأول: أن السنة في صفة رفع اليدين أن يرفع الداعي يديه وظهورهما إلى السماء.
وهذا قول الأكثر (المالكية، والشافعية، والحنابلة).
قالوا: إن هذا كالنص في كيفية رفع اليدين في الدعاء في الاستسقاء.
القول الثاني: أن السنة في صفة رفع اليدين أن يرفع الداعي يديه وبطونهما إلى السماء.
وهذا ظاهر مذهب الحنفية، وهو اختيار ابن تيمية.
لحديث ابن عباس مرفوعاً (إذا دعوت فادع بباطن كفيك ولا تدع بظهورهما) رواه أبو داود وفيه ضعف.
وقالوا: إن المراد بحديث الباب المبالغة في رفع اليدين، وأنه من شدة الرفع صار ظهور الكفين نحو السماء وبطونهما نحو الأرض.
وهذا هو الصحيح.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
…
وينبغي في هذا الرفع أن يبالغ فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبالغ فيه حتى يرى بياض أبطيه ولا يرى البياض إلا مع الرفع الشديد حتى أنه جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم (جعل ظهورهما نحو السماء) واختلف العلماء في تأويله:
فقال بعضهم: يجعل ظهورهما نحو السماء.
وقال بعضهم: بل رفعهما رفعاً شديداً حتى كان الرائي يرى ظهورهما نحو السماء، لأنه إذا رفع رفعاً شديداً صارت ظهورهما نحو السماء.
وهذا هو الأقرب وهو اختيار شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، وذلك لأن الرافع يديه عند الدعاء يستجدي ويطلب، ومعلوم أن الطلب إنما يكون بباطن الكف لا بظاهره. (الشرح الممتع).
فائدة: 6
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي الاِسْتِسْقَاءِ وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْه) رواه مسلم.
قال النووي: هذَا الْحَدِيث يُوهِم ظَاهِره أَنَّهُ لَمْ يَرْفَع صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاء، وَلَيْسَ الْأَمْر كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ رَفْع يَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّعَاء فِي مَوَاطِن غَيْر الِاسْتِسْقَاء، وَهِيَ أَكْثَر مِنْ أَنْ تُحْصَر، وَقَدْ جَمَعْت مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدهمَا، وَذَكَرْتهمَا فِي أَوَاخِر بَاب صِفَة الصَّلَاة مِنْ شَرْح الْمُهَذَّب، وَيُتَأَوَّل هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْفَع الرَّفْع الْبَلِيغ بِحَيْثُ يُرَى بَيَاض إِبْطَيْهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاء، أَوْ أَنَّ الْمُرَاد لَمْ أَرَهُ رَفَعَ، وَقَدْ رَآهُ غَيْره رَفَعَ، فَيُقَدَّم الْمُثْبِتُونَ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة وَهُمْ جَمَاعَات عَلَى وَاحِد لَمْ يَحْضُر ذَلِكَ، وَلَا بُدّ مِنْ تَأْوِيله لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (شرح مسلم).
فائدة: 7
من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء:
عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال: أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دعا في الاستسقاء، فَقَالَ:(اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، مَرِيئًا، مَرِيعًا، نَافِعًا، غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلًا، غَيْرَ آجِلٍ. قَالَ: فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ) رواه أبو داود.
قال النووي: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
الغيث: المطر. المغيث: المنقذ من الشدة. المريء: المحمود العاقبة. المريع: الذي يأتي بالريع وهو الزيادة.
فائدة: 8
في قوله صلى الله عليه وسلم (عاجلاً غير آجل) دليل على جواز سؤال الله عز وجل بهذه الصيغة.
ويمكن تقسيم الاستعجال في الدعاء إلى نوعين:
الأول: استعجال بمعنى طلب تعجيل المطلوب، وسؤال قرب وقوعه على أكمل وجه.
فهذا استعجال جائز بل محمود، لأنه من باب الطمع في كرم الله عز وجل وجوده وإحسانه، وهو سبحانه يرضى من عباده أن يقدروه حق قدره.
والثاني: استعجال مذموم، وهو استبطاء الإجابة، والتسخط على الله عز وجل، والتشكك في جوده وكرمه، والتذمر من عدم تحقق المراد، والله عز وجل لا يرضى أن يضيق قلب عبده المؤمن به.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي). متفق عليه
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة
دروس فقهية
كتاب الجنائز
بقلم