المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتابُ الجنائز الجنائز: جمع جنازة، بفتح الجيم أو كسرها، وهو الميت. وقيل: - دروس فقهية - اللهيميد - جـ ٣

[سليمان بن محمد اللهيميد]

فهرس الكتاب

‌كتابُ الجنائز

الجنائز: جمع جنازة، بفتح الجيم أو كسرها، وهو الميت.

وقيل: الجنازة بفتح الجيم للميت، وبكسرها النعش، فالفتح للأعلى، والكسر للأسفل.

والمراد بهذا الكتاب: أحكام الأموات من الغسل، والتكفين، والصلاة عليه، والدفن.

(يسن الاستعداد للموت).

أي: يسن للإنسان أن يكون مستعداً للموت، بفعل الأعمال الصالحات، وترك المعاصي والمنكرات.

وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَال (بادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلاَّ فَقراً مُنسياً، أَوْ غِنىً مُطغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفسِداً، أَوْ هَرَماً مُفْنداً، أَوْ مَوتاً مُجْهزاً، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ فالسَّاعَةُ أدهَى وَأَمَر). رواه الترمذي

وعنه. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوِ الدُّخَانَ أَوِ الدَّجَّالَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ). رواه مسلم

قَالَ هِشَام: خَاصَّة أَحَدكُمْ الْمَوْت، وَخُوَيْصَة تَصْغِير خَاصَّة. وَقَالَ قَتَادَة: أَمْر الْعَامَّة الْقِيَامَة، كَذَا ذَكَرَهُ عَنْهُمَا عَبْد بْن حُمَيْدٍ.

وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

وَقَالَ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ).

وَقَالَ تَعَالَى (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.

ص: 1

وفي البخاري: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما، قَالَ (أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ).

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.

قال النووي في شرح الحديث: معناه: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بماء يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله.

(رياض الصالحين)

ففي هذا الحديث التزهيد في الدنيا، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتخذها وطناً يركن إليها، وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر.

‌فائدة:

وليحذر المسلم من طول الأمل.

قال رسول الله (لا يزال قلب الكبير شابّاً في اثنتين: في حبّ الدّنيا وطول الأمل).

يتولد من طول الأمل:

الكسلُ عن الطاعة، والتسويفُ بالتوبة، والرغبةُ في الدنيا، والنسيانُ للآخرة، والقسوة في القلب؛ لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكر الموت، والقبر، والثواب، والعقاب، وأهوال يوم القيامة؛ كما قال تعالى (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ).

ص: 2

قال ابراهيم بن أدهم: من أطلق بصره طال أسفه، ومن طال أمله ساء عمله.

قال ابن القيم: إضاعة الوقت من طول الأمل.

وقال الحسن: ما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل.

وقال الفضيل: إن من الشقاء طول الأمل، وإن من النعيم قصر الأمل.

وقال بعض الحكماء: الجاهل يعتمد على الأمل، والعاقل يعتمد على العمل.

وقال ابن القيم: مفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل.

وقال الحسن: إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك.

قال الغزالي: إذا طولت أملك قلت طاعتك.

وقال بعضهم: الأمل كالسراب غر من رآه وخاب من رجاه.

وقال يحيى بن معاذ: الأمل قاطع عن كل خير، والطمع مانع من كل حق.

وقال ابن مسعود: لا يطولنّ عليكم الأمد ولا يلهينّكم الأمل فإنّ كلّ ما هو آت قريب.

وقال معروف الكرخي: نعوذُ بالله من طولِ الأمل، فإنَّه يمنع خيرَ العمل.

قال ابن بطال: الخير ينبغي أن يبادَر به؛ فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمَن.

وقال القرطبي: (ويُلهِهِمُ الأَمل) أي: يشغلهم عن الطاعة.

قال علي: إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى؛ فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.

ص: 3

ومن أقوال ابن الجوزي: الأمل مذموم إلا للعلماء فلولاه ما صنفوا، وإني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ونسوا فقد الأقران، وألهاهم طول الأمل، ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفة أعظم منه، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً.

ويجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً.

(والإكثار من ذكرهِ).

أي: ويسن الإكثار من ذكر الموت.

لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِي.

قال ابن رجب: في الإكثار من ذكر الموت فوائد:

منها: أنه يحث على الاستعداد له قبل نزوله، ويقصّر الأمل، ويُرضي بالقليل من الرزق، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، ويهوّن مصائب الدنيا، ويمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا.

قال صلى الله عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة) وفي رواية (وترق القلب وتدمع العين).

قال الحسن: من أكثر من ذكر الموت هانت عليه مصائب الدنيا.

وقال الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العباد

ص: 4

(ويُكره تمني الموت).

أي: يكره للإنسان أن يتمنى الموت بسبب مرض، أو فقر، أو مصيبة دنيوية.

أ- لحديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ب- وعن خَبَّاب قال (لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِه) متفق عليه.

ج- ولحديث أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِب) رواه البخاري.

ج- وعنه. عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلاَّ خَيْرًا) رواه مسلم.

(لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ) الخطاب للصحابة، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموماً.

(لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ) من فقر أو مرض أو غير ذلك من الأضرار الدنيوية، والمراد بالضر الدنيوي لرواية ابن حبان (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا).

‌فائدة: 1

فهذه الأحاديث فيها النهي عن تمني الموت بسبب ضر نزل به من فقر أو مرض أو مصيبة.

قَالَ النَّوَوِيّ في شرح حديث أنس: فِي الْحَدِيث التَّصْرِيح بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ فَاقَة، أَوْ مِحْنَة بِعَدُوٍّ، وَنَحْوه مِنْ مَشَاقّ الدُّنْيَا. (شرح مسلم)

ص: 5

‌فائدة: 2

أن مطلق حديث أنس يشمل الضر الدنيوي والأخروي، لكن المراد إنما هو الضر الدنيوي فقط لأمرين:

الأول: لرواية ابن حبان (

لضر نزل به في الدنيا) حيث قيد الضر كونه في الدنيا.

الثاني: أنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز الدعاء بالموت عند خوف الفتن، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (

وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) كما سيأتي إن شاء الله.

‌فائدة: 3

متى يجوز تمني الموت:

‌أولاً: عند خوف الفتنة على دينه.

قال النووي: فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضَرَرًا فِي دِينه أَوْ فِتْنَة فِيهِ، فَلَا كَرَاهَة فِيهِ؛ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره، وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الثَّانِي خَلَائِق مِنْ

السَّلَف عِنْد خَوْف الْفِتْنَة فِي أَدْيَانهم.

أ-قال صلى الله عليه وسلم (

وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) رواه أحمد.

ب- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلاَّ الْبَلَاءُ) رواه مسلم.

فقوله صلى الله عليه وسلم (وليس به الدين) يقتضي إباحة ذلك أن لو كان عن الدين.

ص: 6

ج- وعنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال (اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ) رواه أحمد.

د- وقال تعالى عن مريم (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا).

قال القرطبي: تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين:

أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك.

الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزاً.

وقال ابن كثير: فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية.

قال ابن رجب: وأما تمني خوف فتنة في الدين، فإنه يجوز بغير خلاف.

وقال في موضع آخر: هو جائز عند أكثر العلماء.

قال عمر (اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط).

وتمنت زينب بنت جحش لما جاءها عطاء عمر فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها، فماتت قبل أن يدركها عطاء ثان لعمر.

وسأل عمر بن عبد العزيز من ظن به إجابة الدعاء أن يدعو له بالموت، لما ثقلت عليه الرعية، وخشي العجز عن القيام بحقوقهم.

وطُلب كثير من السلف الصالح إلى بعض الولايات، فدعوا لأنفسهم بالموت فماتوا.

واشتهر بعضهم واطلع على بعض عمل أحدهم أو معاملته مع الله فدعا لنفسه بالموت فمات.

وكان سفيان الثوري يتمنى الموت كثيراً فسئل عن ذلك فقال: ما يدريني لعلي أدخل في بدعة، لعلي أدخل فيما لا يحل لي، لعلي أدخل في فتنة أكون قد مت فسبقت هذا.

ص: 7

‌ثانياً: في طلب الشهادة.

وقد دل على مشروعية تمني الموت في هذه الحال كثير من الأحاديث:

أ- عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ) متفق عليه.

فقد تمنى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتل في سبيل الله، وما ذاك إلا لعظم فضل الشهادة.

ب- وعن سهل بْنِ حُنَيْف. أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ). رواه مسلم

وقد كان السلف رضي الله عنهم يحبون الموت في سبيل الله.

قال أبو بكر رضي الله عنه بشأن مسيلمة الكذاب عندما ادعى النبوة: والله لأقاتلنه بقوم يحبون الموت كما يحب الحياة.

وكتب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى أهل فارس: والذي لا إله غيره لأبعثنَّ إليكم قوماً يحبُّون الموت كما تحبُّون أنتم الحياة.

وإنما كانت هذه المنزلة مرغوبة - لا حرمنا الله منها - وطلبها ممدوحاً من كل وجه، لأن من أعطيها لم يحرم أجر العمل الصالح الذي تطيب لأجله الحياة، وتكون خيراً للمرء من الموت، ثم إن الله تعالى يحمي صاحب هذه المنزلة من فتنة القبر.

فعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ) رواه مسلم.

ص: 8

‌فائدة: 4

الحكمة من تحريم تمني الإنسان الموت بسبب الضر الدنيوي:

‌أولاً: أنه يدل على عدم الصبر، والمسلم مطالب بالصبر والاحتساب.

‌ثانياً: أن بقاء المسلم قد يكون خيراً له.

ففي الحديث -وقد سبق- (لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب) أي يتوب.

وعند أحمد (وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً).

وفي حديث أبي هريرة -وقد سبق- (لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ، وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا) رواه مسلم.

قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة يتسبب منها العمل، والعمل يحصل زيادة الثواب، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد فهو أفضل الأعمال.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله).

‌ثالثاً: أن الإنسان لا يدري ما الأفضل له، البقاء أم الموت.

قال السعدي: فإن في تمني الموت لذلك مفاسد.

منها: أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها، وهو مأمور بالصبر والقيام بوظيفته. ومعلوم أن تمني الموت ينافي ذلك.

ومنها: أنه يضعف النفس، ويحدث الخور والكسل، ويوقع في اليأس. والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور، والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به. وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه.

ومنها: أن تمني الموت جهل وحمق، فإنه لا يدري ما يكون بعد الموت، فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه، من عذاب البرزخ وأهواله.

ص: 9

ومنها: أن الموت يقطع على العبد الأعمال الصالحة التي هو بصدد فعلها والقيام بها، وبقية عمر المؤمن لا قيمة له، فكيف يتمنى انقطاع عمل الذرة منه خير من الدنيا وما عليها، وأخص من هذا العموم: قيامه بالصبر على الضر الذي أصابه، فإن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.

(بهجة قلوب الأبرار).

ومن الحكم: أن سكرات الموت شديدة، وهول المطلع أمر فظيع، ولا عهد للمرء بمثل ذلك، ثم إن الإنسان لا يدري ما ينتظره بعد الموت!.

قال ابن رجب: وقد ورد تعليل النهي عن تمني الموت بأن هول المطلع شديد؛ فتمنيه من نوع تمني وقوع البلاء قبل نزوله ولا ينبغي ذلك.

كما قال صلى الله عليه وسلم (لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَلَكِنْ وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا).

وسمع ابن عمر رجلًا يتمنى الموت فَقَالَ: لا تتمنى الموت فإنك ميت، ولكن سل الله العافية، فإن الميت ينكشف له عن هول عظيم.

ولقد كان كثير من الصالحين يتمنى الموت في صحته، فلما نزل به كَرِهَهُ لشدته، ومنهم: أبو الدرداء وسفيان الثوري، فما الظن بغيرهم.

• أن من كان داعياً فليدعوا بهذا الدعاء: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي.

والحكمة منه:

لأن في هذا الدعاء استسلام لقضاء الله، والمسلم يقول هذا الدعاء، لأنه لا يعلم هل الخير البقاء أم في الموت، فشرع قول هذا الدعاء لأن فيه رد ذلك إلى الله الذي يعلم عاقبة الأمور.

ص: 10

‌فائدة: 5

ما الجمع بين هذا الحديث، وقول يوسف (ربّ توفني مسلماً.

. .)؟

قال القرطبي: قيل: قال قتادة: لم يتمنى الموت أحد، نبي ولا غيره، إلا يوسف حين تكالبت عليه النعم وجُمع له الشمل، اشتاق إلى لقاء ربه.

وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت وإنما تمنى الموافاة على الإسلام، أي إذا جاء أجلي توفني مسلماً، وهذا هو القول في تأويل الآية عند أهل التأويل.

‌فائدة: 6

قوله صلى الله عليه وسلم (لضر نزل به) فهل معنى ذلك أنه يجوز إذا لم يكن به ضر؟

لا، لا يجوز.

لكن هذا وصف أغلبي، ولكن الغالب على النفوس أنها تتمنى الموت حين ينزل بها الضر.

(وتسن عيادة المريض).

أي: يسن للمسلم أن يعود المرضى.

وقد جاءت النصوص الكثيرة في فضل عيادة المريض والأمر بها:

أ- عن البَرَاءِ بن عازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ (أمَرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعِيَادَةِ الْمَريضِ، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ وَإبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ المَظْلُومِ، وَإجَابَةِ الدَّاعِي، وَإفْشَاءِ السَّلَامِ) متفقٌ عَلَيْهِ.

ب- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَال (حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِس) متفقٌ عَلَيْهِ.

ج-وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ يَومَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أعُودُكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلَاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَني عِنْدَهُ! يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أطْعِمُكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي! يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أسْقِيكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمينَ؟! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي). رواه مسلم

ص: 11

د-وعن أَبي موسى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (عُودُوا المَريضَ، وَأطْعِمُوا الجَائِعَ، وَفُكُّوا العَانِي) رواه البخاري

هـ- وعن ثوبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قَال (إنَّ المُسْلِمَ إِذَا عَادَ أخَاهُ المُسْلِمَ، لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ)) قِيلَ: يَا رَسولَ الله، وَمَا خُرْفَةُ الجَنَّةِ؟ قَالَ:(جَنَاهَا) واه مسلم.

و_ وعن عليّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ (مَا مِنْ مُسْلِم يَعُودُ مُسْلِماً غُدْوة إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِي، وَإنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ في الْجَنَّة) واه الترمذي.

ز_ وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عاد مريضاً أو زار أخاً له، قيل له: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً) رواه الترمذي.

‌فائدة: 1

اختلف العلماء في حكم عيادة المريض:

‌القول الأول: أنها سنة مؤكدة.

وهذا قول جمهور العلماء.

للأحاديث الكثيرة التي سبقت في فضلها.

‌القول الثاني: أنها فرض كفاية.

وهذا اختيار ابن القيم رحمه الله، وهذا القول هو الراجح، للأمر بها:

كما في حديث البراء بن عازبٍ السابق قال (أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِسَبعٍ:

بِعَيادَةِ المريض).

وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (حَقُّ الْمُسلِمِ عَلَى الْمُسلِمِ خَمْسٌ: .. وَعِيادَةُ المَريض).

ص: 12

وكما في حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (عُودُوا المَرِيضَ

).

قال الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه" باب وجوب عيادة المريض.

ثم أخرج بسنده عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفُكُّوا العاني) وأخرج أيضًا حديث البراء رضي الله عنه المذكور.

قال ابن حجر: قوله: (باب وجوب عيادة المريض) كذا جزم بالوجوب على ظاهر الأمر بالعيادة. قال ابن بطّال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية، كإطعام الجائع، وفكّ الأسير، ويحتمل أن يكون للندب، للحثّ على التواصل والألفة، وجزم الداوديّ بالأول. (الفتح).

‌فائدة: 2

وفي عيادة المريض فوائد:

يؤدي حق أخيه المسلم.

أنه لا يزال في خرفة الجنة.

أن في ذلك تذكيراً للعائد بنعمة الله عليه في الصحة.

أن فيها جلباً للمحبة والمودة. (قاله الشيخ ابن عثيمين)

‌فائدة: 3

يستحبّ عيادة الذميّ.

اختلف العلماء:

فقيل: المنع مطلقاً.

وقيل: الجواز مطلقاً.

وقيل: الجواز إذا لمصلحة ودعوة.

وهذا الراجح.

ص: 13

عن أَنَس رضي الله عنه قَالَ (كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهْوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّار) رواه البخاري.

قال الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه": "باب عيادة المشرك"، ثم ذكر حديث أنس السابق.

قال ابن بطال رضي الله عنه: إنما تشرع عيادته إذا رُجِي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يُطمَع في ذلك فلا. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى، قال الماورديّ رحمه الله: عيادة الذميّ جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة.

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قومٍ مسلمين مجاوري النصارى، فهل يجوز للمسلم إذا مرض النصراني أن يعوده؟ وإذا مات أن يتبع جنازته؟ وهل على من فعل ذلك من المسلمين وزرٌ، أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، لا يتبع جنازته، وأما عيادته فلا بأس بها؛ فإنه قد يكون في ذلك مصلحة لتأليفه على الإسلام، فإذا مات كافراً فقد وجبت له النار، ولهذا لا يصلى عليه، والله أعلم. (الفتاوى الكبرى).

وقال الشيخ ابن عثيمين: زيارة النصراني أو غيره من الكفار إذا كان مريضاً وتسمى في الحقيقة عيادة لا زيارة لأن المريض يعاد مرة بعد أخرى فإذا كان في ذلك مصلحة كدعوته إلى الإسلام فهذا خير ويطلب من الإنسان أن يعوده وإن لم يكن فيها مصلحة فإن كان هناك سبب يقتضي ذلك مثل كونه قريباً أو جاراً أو ما أشبه ذلك فلا بأس أيضاً وإلا فالخير في ترك عيادته.

ص: 14

‌فائدة: 4

لا حرج في عيادة الرجل المرأة الأجنبية،

أو المرأة الرجل الأجنبي عنها، إذا توفرت الشروط الآتية: التستر، وأمن الفتنة، وعدم الخلوة.

قال الإمام البخاري: " باب عيادة النساء الرجال، وعادت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد من الأنصار ". ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها أنها عادت أبا بكر وبلالاً رضي الله عنهما لما مرضا في أول مقدمهم المدينة.

وروى مسلم عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنهم بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (انْطَلِقْ بِنَا إلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا، وَذَهَبَا إلَيْهَا).

قال ابن الجوزي: وَالأَوْلَى حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لا يُخَافُ مِنْهَا فِتْنَةٌ كَالْعَجُوزِ " انتهى.

‌فائدة: 5

في حديث أنس فوائد:

الأولى: حُسنُ خُلقه صلى الله عليه وسلم.

الثانية: حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق.

الثالثة: أن اليهود إذا مات على يهوديته كافر مخلد في النار وهذا لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لَا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة.

الرابعة: عيادة اليهودي إذا رجيت المصلحة؛ قال أبو داود رحمه الله سمعت الإمام أحمد سئل عن عيادة اليهودي والنصراني؟ قال: إن كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام فنعم.

ص: 15

‌فائدة: 6

حديث (ثلاثة لا يُعَادون: صاحب الرَمَد، وصاحب الفرس، وصاحب الدّمل) لا يصح.

قال العجلوني: (رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب وضعفه، عن أبي هريرة رفعه. ورواه البيهقي أيضاً عن يحيى بن أبي كثير من قوله، وهو الصحيح).

وقال ابن عراق: فيه مسلمة بن علي الخشني متروك.

قال الألباني: ومما يدل على وضعه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود صاحب الرمد، قال أنس: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم من رمد كان به.

أخرجه علي بن الجعد في " مسنده "(2/ 844/ 2335) والحاكم (1/ 342) من طريق آخر وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا وله شاهد من حديث زيد نفسه صححه الحاكم أيضا والذهبي، وهو مخرج في " صحيح أبي داود "

(وتلقينهُ: لا إلهَ إلا الله مرة).

أي: يسن عند حضور أجل الميت تلقينه: لا إله إلا الله.

لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ. قال: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ) رَوَاهُ مُسْلِم.

والتلقين أن يقول الشيء ليتبعه غيره، فالمعنى اذكروا لا إله إلا الله ليتبعكم عليها الميت.

فهذا الحديث دليل على استحباب تلقين الميت لا إله إلا الله.

وقوله (موتاكم) مَعْنَاهُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْت، وسمّاهم موتى؛ لأن الموت قد حضرهم.

• وهذا الأمر في الحديث للاستحباب لا للوجوب، حيث لم يقل أحد من العلماء بالوجوب.

‌فائدة: 1

الحكمة من تلقين المحتضر الشهادة:

أنه ورد في الحديث (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود.

قال القرطبي: تلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عَمِلَ بها المسلمون، وذلك ليكون آخر كلامه: لا إله إلا الله، فيختم له بالسعادة، وليدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة).

ص: 16

‌فائدة: 2

كيفية التلقين:

قال بعض العلماء:

إن كان المحتضر قوي الإيمان فإنه يؤمر بها.

أ- للحديث السابق.

ب- ولحديث أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار، فقال: قل: لا إله إلا الله

) رواه أحمد.

وأما إذا كان المحتضر متأثراً مضطرباً، فإنها تذكر عنده.

وأما إذا حضر المؤمن احتضار الكافر، فإنه يأمره بها.

لقوله صلى الله عليه وسلم لعمه (يا عم، قل لا إله إلا الله).

‌فائدة: 3

قوله (مرةً) أي: يلقن مرة واحدة حتى لا يضجر بضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بها بما لا يليق.

فإذا قاله مرة واحدة لا تكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر فيعاد التعريض به ليكون آخر كلامه.

قال القرطبي: فإذا تلقنها المحتضر وقالها مرة فلا تعاد عليه لئلا يضجره، وقد كره أهل العلم الإكثار عليه من التلقين والإلحاح عليه إذا هو تلقنها، أو فُهم عنه ذلك. (المفهم).

وقال النووي: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى هَذَا التَّلْقِين، وَكَرِهُوا الْإِكْثَار عَلَيْهِ وَالْمُوَالَاة لِئَلَّا يَضْجَر بِضِيقِ حَاله وَشِدَّة كَرْبه فَيَكْرَه ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَيَتَكَلَّم بِمَا لَا يَلِيق. قَالُوا: وَإِذَا قَالَهُ مَرَّة لَا يُكَرِّر عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّم بَعْده بِكَلَامٍ آخَر، فَيُعَاد التَّعْرِيض بِهِ لِيَكُونَ آخِر كَلَامه.

(شرح مسلم).

ص: 17

‌فائدة: 4

لَمَّا احْتُضِرَ عبد الله بْنُ المُبَارَكِ رحمه الله، جَعَلَ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: لَسْتَ تُحْسِنُ! وَأَخَافُ أَنْ تُؤْذِيَ مُسْلِماً بَعْدِي، إِذَا لَقَّنْتَنِي، فَقُلْتُ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ لَمْ أُحْدِثْ كَلَاماً بَعْدَهَا، فَدَعْنِي، فَإِذَا أَحْدَثْتُ كَلَاماً، فَلَقِّنِّي حَتَّى تَكُوْنَ آخِرَ كَلَامِي. (سير أعلام النبلاء).

قال النووي: وَيَتَضَمَّن الْحَدِيث الْحُضُور عِنْد الْمُحْتَضَر لِتَذْكِيرِهِ وَتَأْنِيسه وَإِغْمَاض عَيْنَيْهِ وَالْقِيَام بِحُقُوقِهِ وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ.

‌فائدة: 5

اختلف العلماء في حكم تلقين الميت بعد دفنه.

(وهو أن يقوم الملقن عند رأسه بعد تسوية التراب عليه ويقول: يا فلان اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله

) على أقوال:

‌القول الأول: يستحب ذلك.

وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.

لحديث أبي أمامة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان، فإنه يسمعه ولا يجيبه، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً

) رواه الطبراني.

قال النووي: فهذا الحديث وان كان ضعيفاً فيستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم علي المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث كحديث (واسألوا له التثبيت) ووصية عمرو بن العاص وهما صحيحان سبق بيانهما قريباً، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يقتدى به وإلى الآن، وهذا التلقين إنما هو في حق المكلف الميت أما الصبي فلا يلقن. (المجموع).

ص: 18

‌القول الثاني: أن تلقين الميت في قبره جائز وليس بمستحب.

واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، ووصفه بأنه أعدل الأقوال.

ولعل مستند هذا القول، أن حديث التلقين بعد الدفن لم يثبت، ولم يرد النهي عنه، فيكون مباحاً لدخوله في عموم الدعاء بالثبات المأمور به.

‌القول الثالث: أنه مكروه وبدعة.

وهو اختيار ابن القيم في الهدي.

قال ابن القيم: ولم يكن -أي النبي- يجلس يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا بعد الدفن أن ندعو له بالمغفرة والثبات، ولم يعلمنا التلقين.

ولا يعرف عن أحد من الصحابة فعل التلقين.

وهذا القول هو الراجح.

وأما حديث أبي أمامة السابق، فهو لا يصح، وإذا كان كذلك فلا يصح الاعتماد عليه أو العمل به مطلقاً، فقول النووي أو غيره بأن الحديث الضعيف يستأنس به، وذلك في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، مردود بأن هذا الحديث ضعيف، وضعفه شديد، بل هو موضوع في نظر بعض الأئمة.

وأما جعل حديث (واسألوا له التثبيت) شاهداً لحديث التلقين، فهذا غير صحيح، لأن حديث (اسألوا له التثبيت) ليس فيه إلا الدعاء للميت، وكذلك أثر عمرو بن العاص وأمره بالوقوف عند قبره مقدار ما ينحر الجزور لا شهادة فيه على التلقين.

وأما قولهم: إن هذا العمل عليه الناس أو عليه عمل أهل الشام، فهذا لا حجة فيه، بل قول الإمام أحمد: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام، دليل على أن المسألة مبتدعة، وأنها لم تكن في القرون المفضلة. [كتاب أحكام المقابر - اختيارات ابن تيمية الفقهية]

ص: 19

‌فائدة: 6

عنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ) رواه أبو داود.

أقوال العلماء في معنى الحديث:

قيل: إن المؤمن يموت بعرق الجبين بما يكابده من المشاق بطلب المال الحلال، فإن طلب المال الحلال لا بد له من تعب ومشقة.

وقيل: من الحياء، وذلك لأن المؤمن إذا جاءته البشرى مع ما كان قد اقترف من الذنوب حصل له بذلك خجل واستحياء من الله تعالى فعرق لذلك جبينه.

وقيل: إن المؤمن يشدد عليه في النزع، وسكرات الموت تمحيصاً لذنوبه.

وهذا التفسير أقرب للصواب، وذلك لأمور:

أولاً: أن شدة النزع أمر ثابت لا إشكال فيه، وقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة قالت (لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرخ الخميصة عل وجهه، فإذا اغتم كشفها) وفي رواية قال (إن للموت لسكرات).

ثانياً: جاء عند أحمد عن بريدة (أنه كان في خراسان، فعاد أخاً له وهو مريض، فوجده بالموت، وإذا هو يعرق جبينه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: موت المؤمن بعرق الجبين)، فهذا يؤيد المعنى الثاني.

ص: 20

(ويقرأُ عنده يس).

أي: يسن أن يقرأ القارئ عند المحتضر سورة (يس).

لحديث مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قَالَ (اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

لكن الحديث ضعيف معلول بعدة علل.

لكن جمهور العلماء على استحباب ذلك، واختاره ابن تيمية.

ففي "الاختيارات: والقراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على المحتضر، فإنها تستحب بياسين.

لكن كما سبق أن الحديث ضعيف، وعليه فلا يشرع قراءتها عند المحتضر، لأن الأحكام الشرعية لا تثبت بالأحاديث الضعيفة.

‌فائدة:

الحكمة من قراءتها عند من استحب ذلك:

لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة.

كما قال تعالى (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) وقوله تعالى (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء الله فيحب الله لقاءها.

(ويُوجههُ إلى القبلةِ).

أي: من حضر الميت يوجّه الميت إلى القبلة، أي: يجعل وجهه نحو القبلة.

لحديث أبي قتادة (أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور، فقالوا: توفي، وأوصى بثلثه لك يا رسول الله، وأوصى أن يوجه إلى القبلة لما احتضر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده، ثم ذهب فصلى عليه، فقال: اللهم اغفر له، وارحمه، وأدخله جنتك، وقد فعلت) رواه الحاكم.

ص: 21

قال ابن حزم رحمه الله:

وتوجيه الميت إلى القبلة حسن فإن لم يوجّه فلا حرج قال الله تعالى (فأينما تولوا فثم وجه الله) ولم يأت نص بتوجيهه إلى القبلة

والنبي صلى الله عليه وسلم مات في حِجْر عائشة رضي الله عنها، ووصفت لحظات موته بدقّة ولم تذكر أنها وجّهته إلى القبلة، وحديثها رواه: البخاري ومسلم.

وكذا لم يثبت ذلك عن صحابي، وما روي في ذلك عن أبي قتادة وأنه أوصى عند موته أن يستقبل به القبلة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره بقوله " أصاب الفطرة ": فضعيف لا يصح. انظر - في تضعيفه -: " إرواء الغليل "(3/ 153)

قال الألباني: وأما قراءة سورة (يس) عنده، وتوجيهه نحو القبلة فلم يصح فيه حديث، بل كره سعيد بن المسيب توجيهه إليها، وقال: " أليس الميت امرأ مسلماً؟

وعن زرعة بن عبد الرحمن أنه شهد سعيد بن المسيب في مرضه وعنده أبو سلمة بن عبد الرحمن فغشي على سعيد، فأمر أبو سلمة أن يحول فراشه إلى الكعبة، فأفاق، فقال: حولتم فراشي!؟ فقالوا نعم، فنظر إلى أبي سلمة فقال: أراه بعلمك؟ فقال: أنا أمرتهم! فأمر سعيد أن يعاد فراشه. أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن زرعة.

(والنعيُ ينقسم إلى جائزٍ ومُحرّم).

النعي: هو الإخبار بموت الميت.

قال الترمذي في جامعه ص (239): والنعي عندهم أن ينادى في الناس أن فلاناً مات ليشهدوا جنازته.

وقال ابن الأثير في النهاية (5/ 85): نعى الميت إذا أذاع موته، وأخبر به، وإذا ندبه.

ص: 22

‌والنعي ينقسم إلى قسمين:

‌القسم الأول: نعي محرّم.

ودليله: حديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنِ اَلنَّعْيِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

وهو النعي الجاهلي من الإعلام بوفاة الميت على وجه التفاخر والتباهي، مثل الصياح على أبواب البيوت والأسواق.

قال السندي في (حاشية ابن ماجه) كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يُشْهِرُونَ الْمَوْت بِهَيْئَةِ كَرِيهَة، فَالنَّهْي مَحْمُول عَلَيْهِ.

وقال الحافظ في الفتح: النَّعْي لَيْسَ مَمْنُوعًا كُلّه، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَمَّا كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَصْنَعُونَهُ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ مَنْ يُعْلِن بِخَبَرِ مَوْت الْمَيِّت عَلَى أَبْوَاب الدُّور وَالأَسْوَاق.

‌القسم الثاني: نعي جائز.

وهو الإخبار بموت الميت لحضور جنازته فهذا جائز، ويدل عليه:

أ- حديث أبي هريرة (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى اَلنَّجَاشِيَّ فِي اَلْيَوْمِ اَلَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا) متفق عليه.

ب- ولحديث أنس (فإن النبي صلى الله عليه وسلم نعى الأمراء الثلاثة الذين استشهدوا وقال: أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب) متفق عليه.

قال النووي: وفيه [أي حديث النجاشي] اِسْتِحْبَاب الإِعْلام بِالْمَيِّتِ لا عَلَى صُورَة نَعْي الْجَاهِلِيَّة، بَلْ مُجَرَّد إِعْلَام للصَّلَاة عَلَيْهِ وَتَشْيِيعه وَقَضَاء حَقّه فِي ذَلِكَ، وَاَلَّذِي جَاءَ مِنْ النَّهْي عَنْ النَّعْي لَيْسَ الْمُرَاد بِهِ هَذَا، وَإِنَّمَا الْمُرَاد نَعْي الْجَاهِلِيَّة الْمُشْتَمِل عَلَى ذِكْر الْمَفَاخِر وَغَيْرهَا.

ص: 23

وقال في المجموع: والصحيح الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها وغيرها، أن الإعلام بموته لمن لم يعلم ليس بمكروه، بل إن قصد به الإخبار لكثرة المصلين فهو مستحب، وإنما يكره ذكر المآثر، والمفاخر، والتطواف بين الناس يذكره بهذه الأشياء، وهذا نعي الجاهلية المنهي عنه، فقد صحت الأحاديث بالإعلام فلا يجوز الغاؤها، وبهذا الجواب أجاب بعض أئمة الفقه والحديث المحققين والله أعلم. (المجموع).

وقال ابن قدامة: وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَعْلَمَ بِالرَّجُلِ إخْوَانُهُ وَمَعَارِفُهُ وَذَوُو الْفَضْلِ، مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ.

قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَا بَأْسَ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ أَنْ يُؤْذِنَ صَدِيقَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُطَافَ فِي الْمَجَالِسِ: أَنْعِي فُلَانًا كَفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي هَذَا؛ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ سِيرِينَ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي دُفِنَ لَيْلًا (أَلَا آذَنْتُمُونِي).

وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ (إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ).

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ قَالَ: لَا يَمُوتُ فِيكُمْ أَحَدٌ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِه).

وَلِأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْمُصَلَّيْنَ عَلَيْهِ أَجْرًا لَهُمْ، وَنَفْعًا لِلْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنْهُمْ قِيرَاطٌ مِنْ الْأَجْرِ.

وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَوْجَبَ). (المغني).

وقال ابن عبد البر: وكان أبو هريرة رضي الله عنه يمر بالمجالس، فيقول: إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته.

ص: 24

(فإذا ماتَ سُنّ تغميضُهُ والدعاء له).

أي: فإذا مات الإنسان شرع لمن عنده أن يغمضه، مع الدعاء له.

أ- لحديث أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ (دَخَلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اَلرُّوحَ إِذَا قُبِضَ، اتَّبَعَهُ الْبَصَرُ" فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ. فَإِنَّ اَلْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُولُونَ". ثُمَّ قَال: اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي اَلْمَهْدِيِّينَ، وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ب- وعن أم سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ) رواه مسلم.

والتعليل:

قال النووي: أن لا يقبح بمنظره لو ترك إغماضه.

وقال ابن قدامة: لأن الميت إذا كان مفتوح العينين والفم فلم يغمض حتى يبرد بقي مفتوحاً فيقبح منظره، ولا يؤمن دخول الهوام فيه والماء في وقت غسله.

وقال القرطبي: وهي سنة عمِل بها المسلمون كافة، والمقصود تحسين وجه الميت، وستر تغيّر بصره.

‌فائدة: 1

قوله (إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّت) وفي رواية النسائي (إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَيِّتَ).

(فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ) المراد بالملائكة، ملك الموت، وأعوانه، أو عموم الملائكة الذين يحضرون الميت، وهذا أولى، لما أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعاً (إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء

وإذا احتضر الكافر أتته ملائكة العذاب بِمِسح).

ص: 25

‌فائدة: 2

قال القرطبي: قوله (إذا حضرتم الميت، فقولوا خيراً) أمر تأديب، وتعليم بما يقال عند الميت، وإخبارٌ بتأمين الملائكة على دعاءِ مَن هناك، ومن هذا استحبّ علماؤنا أن يحضر الميت الصالحون، وأهل الخير حالة موته ليذكّروه، ويدعوا له، ولمن يخلفه، ويقولوا خيرًا، فيجتمع دعاؤهم، وتأمين الملائكة، فينتفع الميت، ومن يُصاب به، ومن يَخلُفه. (المفهم).

(وخلعُ ثيابهِ).

أي: بعد تيقن موته يسن تجريده وخلع ثيابه التي عليه من أجل تغسيله.

لحديث عائشة: قالت (لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَمْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؟ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: أَنْ اغْسِلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَغَسَلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا غَسَلَهُ إِلاَّ نِسَاؤُه). رواه أبو داود

فهذا يدل على أن تجريد الميت كان مشهوراً عندهم.

ب- ولأن في تجريده أمكن لتغسيله وأبلغ في تطهيره.

ج- وَلِأَنَّهُ إذَا غُسِّلَ فِي ثَوْبِهِ تَنَجَّسَ الثَّوْبُ بِمَا يَخْرُجُ، وَقَدْ لَا يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، فَيَتَنَجَّسَ الْمَيِّتُ بِهِ. (المغني).

ص: 26

قال البهوتي رحمه الله: ثم جرده من ثيابه ندباً، لأن ذلك أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره وأشبه بغسل الحي وأصون له من التنجيس إذ يحتمل خروجها منه ولفعل الصحابة بدليل قولهم: لا ندري أنجرد النبي صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا.

وجاء في (الموسوعة الفقهية): وذهب الحنفية والمالكية

إلى أنه يستحب تجريد الميت عند تغسيله؛ لأن المقصود من الغسل هو التطهير وحصوله بالتجريد أبلغ. ولأنه لو اغتسل في ثوبه تنجس الثوب بما يخرج، وقد لا يطهر

والصحيح المعروف عند الشافعية .. أنه يغسل في قميصه

وأما ستر عورته فلا خلاف فيه.

‌فائدة: 1

أما سترة عورته فهذا الواجب.

قال ابن قدامة: وَأَمَّا سَتْرُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: لَا تَنْظُرْ إلَى فَخِذِ حَيٍّ، وَلَا مَيِّت. (المغني).

(وسترُه بثوبٍ).

أي: ويسن ستر الميت بثوب يكون شاملاً للبدن كله.

لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(سُجِّيَ) أي: غطي جميع بدنه. (حِبَرَةٍ) بكسر الخاء وفتح الباء، وهي ضرب من برود اليمن.

فهذا الحديث دليل على استحباب تغطية الميت إذا مات.

قال النووي: وفي الحديث اِسْتِحْبَاب تَسْجِيَة الْمَيِّت، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ.

ص: 27

‌فائدة: 1

الحكمة من ستر الميت:

قال النووي: وَحِكْمَته صِيَانَته مِنْ الِانْكِشَاف وَسَتْر عَوْرَته الْمُتَغَيِّرَة عَنْ الْأَعْيُن.

‌فائدة: 2

قال ابن قدامة: وَلَا يُتْرَكُ الْمَيِّتُ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ لِفَسَادِهِ، وَلَكِنْ عَلَى سَرِيرٍ أَوْ لَوْحٍ، لِيَكُونَ أَحْفَظَ لَهُ.

‌فائدة: 3

قال بعض العلماء: يستحب أن يغطى الإنسان بالثوب الذي يحبه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه كما في حديث أنس:(إن أحب الثياب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبسها الحِبَرة) متفق عليه، والله أعلم في صحة هذا التعليل.

(والإسراع في تجهيزهِ إن مات غيرَ فجأة).

أي: ويسن الإسراع في تجهيز الميت.

قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً بين الأئمة.

وقال النووي: واتفق العلماء على استحباب الإسراع بالجنازة إلا أن يخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيره ونحوه فيتأنى.

أ- لحديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُم) متفق عليه.

ب- وعن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره) أخرجه الطبراني بإسناد حسن.

ج- وعن حصين بن وَحْوَح مرفوعاً (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله

) رواه أبو داود.

د- وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهُ وَأَحْفَظُ مِنْ التَّغَيُّرِ، قَالَ أَحْمَدُ: كَرَامَةُ الْمَيِّتِ تَعْجِيلُهُ.

ص: 28

تنبيه: ذهب بعض العلماء: إلى أنه واجب، وهو قول ابن حزم، لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك (أسرعوا).

‌فائدة: 1

قوله (أسرعوا .. ) اختلف العلماء: هل المراد الإسراع بتجهيزها أو بحملها إلى قبرها على قولين:

القول الأول: المراد الإسراع بحملها إلى قبرها.

ورجحه القرطبي، والنووي.

لقوله (

فشر تضعونه عن رقابكم).

ورد النووي القول الثاني الآتي وقال: والثاني باطل مردود بقوله (فشر تضعونه عن رقابكم).

القول الثاني: المراد الإسراع بتجهيزها وغسلها والصلاة عليها.

قال الفاكهي: ما رده النووي جمود على ظاهر لفظ الحديث، وإلا فيحتمل حمله على المعنى، فإنه قد يُعبّر بالحمل على الظهر، أو العنق عن المعاني دون الذوات، فيقال: حمل فلان على ظهره، أو على عنقه ذنباً، أو نحو ذلك ليكون المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم

(فشر تضعونه عن رقابكم) إنكم تستريحون من نظر من لا خير فيه، أو مجالسته ونحو ذلك، فلا يكون في الحديث دليل على رد قول هذا القائل، ويقوي هذا الاحتمال أن كل حاضري الميت لا يحملونه، إنما يحمله القليل منهم، لا سيما اليوم، فإنما يحمله في الغالب من لا تعلق له به.

ص: 29

قال الحافظ: ويؤيده - يعني كلام الفاكهي - حديث عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره) أخرجه الطبراني بإسناد حسن، ولأبي داود من حديث حصين بن وَحْوَح مرفوعاً (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله

).

‌فائدة: 2

الحكمة من الأمر بالإسراع بالجنازة:

أولاً: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: في تأخيره حرمان له عن الخير إن كان من الصالحين ففي الحديث (فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني).

ثالثاً: إكرام الميت دفنه.

رابعاً: وقد ورد في حديث آخر ذكر تعليل آخر، وهي مخالفة أهل الكتاب.

فعن أبي هريرة. قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبع جنازة قال: ابسطوا بها، ولا تدِبُّوا دَبيب اليهود بجنائزها) رواه أحمد.

وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عمران بن حصين (أنه أوصى، إذا أنا مت فأسرعوا، ولا تُهوّدوا، كما تُهوّد اليهود والنصارى).

‌فائدة: 3

قوله (إن مات غيرَ فجأة).

أي: فإن مات فجأة فإنه لا يسن الإسراع بتجهيزه، خشية أن تكون غشية لا موتاً.

قال الشافعي في الأم: أحب المبادرة في جميع أمور الجنازة، فان مات فجأة لم يبادر بتجهيزه لئلا تكون به سكتة ولم يمت بل يترك حتى يتحقق موته.

وقال ابن قدامة رحمه الله: وإن شُكّ في موته انتظر به حتى يتيقن موته بانخساف صُدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه.

ص: 30

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إن شك في موته؛ بأن مات بحادث أو بغتة، فإنه ينتظر حتى يتيقن موته وله علامات.

(شرح الكافي).

وقال أيضاً رحمه الله: "قوله: (أسرعوا بالجنازة) قال العلماء: يسرع في تجهيزه إلا أن يموت فجأة ويشك في موته فينتظر حتى يتيقن، وإلا فيسرع في تجهيزه.

(لقاء الباب المفتوح).

وأيضاً لا بأس بتأخيره إذا كان لمصلحة كأن يموت في حادث جنائي ليتحقق من قتله.

‌فائدة: 3

معنى الإسراع المأمور به بالحديث:

المراد بالإسراع: أن يكون فوق المشي المعتاد لا الركض بها وخضها؛ لأن هذا قد يضر الميت ويشق على المتبعين من الضعفاء.

قال النووي رحمه الله: "والمراد بالإسراع فوق المشي المعتاد، ودون الخبب؛ لئلا ينقطع الضعفاء عن اتباع الجنازة، فإن خيف عليه تغير أو انفجار أو انتفاخ زيد في الإسراع. (شرح المهذب).

وقال البهوتي رحمه الله: وسن الإسراع بالجنازة؛ لحديث: (أسرعوا بالجنازة .. ) متفق عليه. ويكون الإسراع دون الخبب

لأنه يمخضها ويؤذي حاملها ومتبعها.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: يسن الإسراع بالجنازة من غير مشقة.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قالوا: لا ينبغي الإسراع الذي يشق على المشيعين، أو يخشى منه تمزق الميت، أو خروج شيء من بطنه مع الحركة.

وقال الحافظ رحمه الله: والحاصل أنه يستحب الإسراع، لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم.

وقال ابن تيمية: كان الميت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يخرج به الرجال يحملونه إلى المقبرة لا يسرعون ولا يبطئون بل عليهم السكينة ولا يرفعون أصواتهم لا بقراءة ولا بغيرها وهذه هي السنة باتفاق المسلمين.

ص: 31

‌الخلاصة: المشي بالجنازة ينقسم إلى أقسام:

أولاً: أن يمشي به خطوة خطوة.

فهذا بدعة مكروهة مخالفة للسنة ومتضمنة التشبه بأهل الكتاب. [قاله ابن القيم].

ثانياً: أن يسرع بها إسراعاً كثيراً يخشى على الجنازة أو يشق على الحاملين، فهذا لا يجوز.

ثالثاً: أن يمشي بها بين السرعة والبطء، وهذا هو السنة.

‌فائدة: 7

أن المشروع أن تحمل الجنازة على الأعناق، لكن يجوز بالسيارة لغرض صحيح، كبعد المقبرة، أو برد شديد، أو حر شديد، فأما مع عدم ذلك فلا يشرع لأمور:

أولاً: أنه خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أنه يفوت الغاية من حملها وتشييعها، وهو الاتعاظ والاعتبار.

ثالثاً: أن حملها على الأعناق أبعد عن الفخر.

رابعاً: أن في حملها على الأعناق، يراها الناس فيدعون لها.

خامساً: أن حملها على السيارة يفوت مباشرة الحمل.

سادساً: ذكر بعضهم أن في حملها على السيارة مشابهة للكفار.

ص: 32

(وإنفاذ وصيتهِ).

أي: يسن الإسراع في تنفيذ وصيته.

أ-لِيُعَجَّلَ لَهُ ثَوَابُهَا بِجَرَيَانِهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ. (المغني)

قال البهوتي:

لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيلِ الْأَجْرِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ تَقْدِيمَ الدَّيْنِ مُطْلَقًا عَلَى الْوَصِيَّةِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ (قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ) وَأَمَّا تَقْدِيمُهَا فِي الْآيَةِ فَلِأَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتْ الْمِيرَاثَ فِي كَوْنِهَا بِلَا عِوَضٍ كَانَ فِي إخْرَاجِهَا مَشَقَّةٌ عَلَى الْوَارِثِ حَثًّا عَلَى إخْرَاجِهَا.

(كشاف القناع)

ب- ولتصل الحقوق إلى أهلها.

(ويجبُ الإسراعُ في قضاء دينهِ).

أي: يجب على الورثة الإسراع في قضاء دين الميت سواء دين لله أو لآدمي حتى قال بعض العلماء: يجب ذلك قبل دفنه.

لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (نَفْسُ اَلْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

فيجب المبادرة لقضاء دين الميت من قبل الورثة إذا ترك الميت مالاً، فما يفعله بعض الورثة من تأخير السداد، جناية في حق الميت، لأن

نفسه معلقة حتى يسدد عنه.

‌ويجب الإسراع لسببين:

أولاً: لأن نفس المؤمن معلقة بدينه.

ثانياً: ولأن كثيراً من الورثة لا يحرصون على سداد دين ميتهم مع أنه ترك مالاً.

قال الصنعاني: وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولاً بدينه بعد موته، ففيه حث على التخلص عنه قبل الموت، وأنه أهم الحقوق، وإذا كان هذا في الدين المأخوذ برضا صاحبه، فكيف بما أخذ غصباً ونهباً وسلباً.

ص: 33

وقال الشوكاني معلقاً على هذا الحديث: فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وهذا مقيدٌ بمن له مالٌ يُقضى منه دينه، وأما من لا مالَ له ومات عازماً على القضاء فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه. (نيل الأوطار).

وعلى هذا:

أولاً: إذا كان هذا الميت له مال فيجب أن يسدد منه دينه.

ثانياً: وإن لم يكن له مال واستطاع أولياؤه أن يسددوه عنه فذلك من عمل الخير والبر.

ثالثاً: وإن لم يكن شيء من ذلك فنرجو أن يدخل في معنى حديث البخاري (من أخذ أموال الناس يريد أداها أدى الله عنه) رواه البخاري.

‌فائدة: 1

معنى الحديث: قيل: لا تفرح بما لها من النعيم حتى يقضى عنه الدين، وقيل: عن دخول الجنة.

بعض أقوال العلماء في ذلك:

قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ.

وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: أَيْ أَمْرُهَا مَوْقُوفٌ لَا حُكْمَ لَهَا بِنَجَاةٍ وَلَا هَلَاكٍ حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ يُقْضَى مَا عَلَيْهَا مِنْ الدَّيْنِ أَمْ لَا.

قال السندي: أَيْ مَحْبُوسَة عَنْ الدُّخُول فِي الْجَنّة.

وقال في تحفة الأحوذي: قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: أَيْ أَمْرُهَا مَوْقُوفٌ لَا حُكْمَ لَهَا بِنَجَاةٍ وَلَا هَلَاكٍ حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ يُقْضَى مَا عَلَيْهَا مِنْ الدَّيْنِ أَمْ لَا.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فيهِ الْحَثُّ لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَالْإِخْبَارُ لَهُمْ بِأَنَّ نَفْسَهُ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ.

وقال الصنعاني: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ الْمَيِّتُ مَشْغُولًا بِدَيْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَفِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّخَلُّصِ عَنْهُ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ أَهَمُّ الْحُقُوقِ ?انتهى.

ص: 34

‌فائدة: 2

يجب المبادرة بقضاء دين الميت حتى قال بعض العلماء يكون ذلك قبل الصلاة عليه ودفنه، وذلك لعظم شأن الديْن.

قال البهوتي: (وَيَجِبُ أَنْ يُسَارِعَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ وَمَا فِيهِ إبْرَاءُ ذِمَّتِهِ مِنْ إخْرَاجِ كَفَّارَةٍ وَحَجِّ نَذْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ) كَزَكَاةٍ وَرَدِّ أَمَانَةٍ وَغَصْبٍ وَعَارِيَّةٍ لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ، (كُلُّ ذَلِكَ) أَيْ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَإِبْرَاءُ ذِمَّتِهِ، وَتَفْرِيقُ وَصِيَّتِهِ (قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالتَّجْهِيزِ.

وَفِي الرِّعَايَةِ قَبْلَ غُسْلِهِ وَالْمُسْتَوْعِبِ: قَبْلَ دَفْنِهِ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ: مَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ عَدَمِ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَيَقُولُ " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ " إلَى آخِرِهِ كَمَا يَأْتِي فِي الْخَصَائِصِ. (كشاف القناع)

‌فائدة: 3

فإن تعذر ردُّ الديون في الحال؛ لعدم وجود النقد أو لبعد المال: استحب لورثته أن يضمنوا عن أبيهم حق الغير.

‌فائدة: 4

حكم من مات وعليه دين لم يستطع أداءه لفقره هل تبقى روحه مرهونة معلقة؟

هذا الحديث (نَفْسُ اَلْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ) محمول على من ترك مالاً يقضى منه دينه، أما من لا مال له يقضى منه فيرجى ألا يتناوله هذا الحديث.

لقوله سبحانه وتعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) وقوله سبحانه (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة).

كما لا يتناول من بيّت النية الحسنة بالأداء عند الاستدانة، ومات ولم يتمكن من الأداء.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).

ص: 35

قال ابن عبد البر: والديْن الذي يُحبَسُ به صاحبُه عن الجنة، والله أعلم، هو الذي قد تَرك له وفاءً ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤد، أو ادَّانه في غير حق، أو في سرف ومات ولم يؤده، وأما من ادَّان في حق واجب لفاقةٍ وعسرةٍ، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله.

‌فائدة: 5

قال القرطبي: ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية، فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره، ثم الديون على مراتبها، ثم يخرج من الثلث الوصايا، وما كان في معناها على مراتبها أيضاً، ويكون الباقي ميراثاً بين الورثة.

قال ابن كثير: الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء.

‌فائدة: 6

إذا لم يكن الميت قد ترك مالاً فلا يجب على الورثة حينئذ قضاء الدين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن دين الميت لا يجب على الورثة قضاؤه لكن يقضى من تركته. (منهاج السنة)

ووصية الأب لأبنائه بقضاء دينه لا توجب على الأبناء تنفيذها إذا لم يكن للميت مال بل يستحب لهم تنفيذها؛ لأن في ذلك براً بأبيهم بعد موته.

‌فائدة: 7

هل ديون الميت الآجلة تحل بموته؟

ديون الميت الآجلة تحلُّ ويسقط الأجل بموت المدين على الراجح من أقوال أهل العلم.

وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والمالكية، والظاهرية، والحنابلة في رواية.

قال ابن قدامة: فَأَمَّا إنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ، فَهَلْ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: لَا تَحِلُّ إذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ.

ص: 36

وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: أَنَّهُ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ.

وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَوَّارٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوْ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا، وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلَا ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا، وَلَا رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَلَا نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ؛ أَمَّا الْمَيِّتُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (الْمَيِّتُ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ).

وَأَمَّا صَاحِبُهُ فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهُ، وَقَدْ تَتْلَفُ الْعَيْنُ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ وَأَمَّا الْوَرَثَةُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَعْيَانِ، وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ، فَلَا يَسْقُطُ حَظُّ الْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ لِمَنْفَعَةِ لَهُمْ. (المغني).

وقال ابن رشد الحفيد: وجمهور العلماء على أن الديون تحلُّ بالموت.

وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين، فالورثة في ذلك بين أحد أمرين: إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في

المواريث إلى محل أجل الدين، فيلزم أن يجعل الدين حالاً، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحلَّ الديون، فتكون الديون حينئذ مضمونة في التركة خاصةً، لا في ذممهم.

ص: 37

وخلاصة الأمر: أن الديون المؤجلة والمقسَّطة تحلُّ بموت المدين على الراجح من أقوال الفقهاء، ويلزم الورثة سداد ديون الميت الآجلة ما دام أن الميت قد ترك وفاءً لديونه، ويكون سداد الديون قبل توزيع التركة، حيث إن العلماء متفقون على أن قضاء الدين مقدمٌ على تنفيذ وصايا الميت، وإن كانت الوصية مقدمة على الدين في آية المواريث (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) كما أن الرفق يقتضي إسقاط ما قابل التأجيل من زياده.

(ولا بأسَ بتقبيلهِ والنظر إليهِ ولو بعد تكفينهِ).

أي: يجوز تقبيل الميت والنظر إليه ولو بعد تكفينه.

عن عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ، حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا) رواه البخاري.

قال النووي رحمه الله: يجوز لأهل الميت وأصدقائه تقبيل وجهه، ثبتت فيه الأحاديث. (المجموع).

وقال الحافظ رحمه الله: فيه جواز تقبيل الميت.

وقال الشوكاني رحمه الله:؛ لأنه لم ينقل أنه أنكر أحد من الصحابة على أبي بكر، فكان إجماعاً.

وكذلك لا حرج على المرأة أن تقبل زوجها بعد الوفاة.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: لا بأس بتقبيل الميت إذا قبله أحد محارمه من النساء، أو قبله أحد من الرجال، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 38

‌فائدة: 1

هل تقبيل أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم تبركاً به؟

لا، إن تقبيل أبا بكر للنبي صلى الله عليه وسلم حباً له وليس تبركاً كما زعمه بعض الشراح.

فقول من يقول: إن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً، غلط من وجوه:

أولاً: من أين لنا أن أبا بكر فعل هذا تبركاً.

ثانياً: أن أبا بكر فعل هذا محبة، يدل على هذا سياق الحديث، ولذلك بكى أبو بكر، وقال: والله ما يجمع الله عليك موتتين.

ثالثاً: أنه لو فعل هذا تبركاً لبادر كل الصحابة إلى فعله.

‌فائدة: 2

ما معنى قول أبي بكر (والله لا يجمع الله عليك موتتين)؟

قيل: هو على حقيقته، أشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى.

وقيل: أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسأل ثم يموت.

وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك، والأول أصوب.

‌فصل

(غَسْلُ المَيِّتِ، وَتَكْفِينُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ).

أي: أن هذه الأمور الأربعة المتعلقة بالميت فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين.

ودليل غسله:

أ-قوله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته الناقة (اغسلوه بماء وسدر) متفق عليه.

وهذا أمر والأمر للوجوب، لكنه وجوب كفائي، لأن المقصود أن يحصل تغسيله، لا أن يراد من كل واحد من المخاطبين ذلك.

ب- وقال صلى الله عليه وسلم في ابنته زينب لما ماتت (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً أو سبعاً، أو أكثر من ذلك) متفق عليه.

ص: 39

‌ودليل تكفينه:

قوله صلى الله عليه وسلم (وكفنوه في ثوبيه) متفق عليه.

‌ودليل الصلاة عليه:

أ- فعله صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي على الأموات باستمرار.

ب- ولحديث زيد بن خالد (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم. فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين) رواه أبو داود

ج- وقال صلى الله عليه وسلم (قد تُوفيَ اليوم رجل صالح من الحبش، فهلمَّ فصلوا عليه) متفق عليه.

د- وصلى على المرأة التي رجمت.

‌ودليل دفنه:

أ-قوله تعالى (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) فأكرم الله الميت بدفنه، فلم يلق للسباع والطيور.

ب-ولأن في تركه هتكاً لحرمته، وأذى للناس به.

ج- وقال تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً. أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً) ومعنى (كفاتاً) أي: ستراً لهم في محياهم ومماتهم، يستترون بها في الحياة في الدور والقصور، وفي الموت في القبور في بطن الأرض.

‌فائدة:

يقسم العلماء الواجب (ويسمى الفرض أيضاً عند جمهور العلماء) إلى قسمين: واجب عيني، وواجب كفائي.

فالواجب العيني: ما طلب الشارع فعله من كل فرد من أفراد المكلفين طلباً جازماً. كالصلاة والزكاة والصوم والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام .... إلخ.

والواجب الكفائي: هو الذي طلبه الشارع من مجموع المكلفين، ولم يطلبه من كل واحد منهم، فإن قام العدد الذي يكفي سقط عن الباقين، وإلا أثموا جميعاً.

ص: 40

(وَأَوْلَى النَّاسِ بِغَسْلِهِ وَصِيُّهُ).

أي: أولى الناس بتغسيل الميت وصيه.

قال ابن قدامة: وأولى الناس بغسله من أوصي إليه بذلك:

أ- لأن أبا بكر الصديق أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك.

ب- وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل.

ج- ولأنه حق للميت فقدم وصيه فيه على غيره كتفريق ثلثه، ـ يعني: لو أوصى بأن فلاناً هو الذي يفرق ثلث ماله. (الكافي).

د- قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فيه أيضاً تعليل ثالث مهم وهو: أن الميت قد يكون فيه أشياء لا يحب أن يطلع عليها كل أحد ولا يحب أن يطلع عليها إلا شخص يأتمنه فيوصي أن يغسله فلان.

هـ- ولأن الميت يحب أن يغسله من كان أعبد لله وأطوع لله فيختار شخصاً معيناً. (شرح الكافي)

(ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ جَدُّهُ، ثُمَّ الأْقْرَبُ فَالأْقْرَبُ مِنْ عَصَبَاتِهِ الخ).

أي: لو أن الشخص الميت لم يوصِ، فيقدم الأب، (ثم جده) أي: من قبل الأب (ثم الأقرب فالأقرب من عصباته) أي: بعد الأب والجد الأبناء، وإن نزلوا، ثم الإخوة وإن نزلوا، ثم الأعمام وإن نزلوا.

قال الحجاوي رحمه الله: وأولى الناس بغسل الميت وصية إن كان عدلاً ثم أبوه وإن علا، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته نسباً. (متن الإقناع)

‌فائدة: 1

هذا الترتيب يحتاج إليه عند المشاحة.

قال الشيخ ابن عثيمين: ومن المعلوم أن مثل هذا الترتيب إنما نحتاج إليه عند المشاحة (التنازع)، فأما عند عدم المشاحة، كما هو الواقع في عصرنا اليوم، فإنه يتولى غسله من يتولى غسل عامة الناس، وهذا هو المعمول به الآن، فتجد الميت يموت وهناك أناس مستعدون لتغسيله، فيذهب إليهم فيغسلونه. (الشرح الممتع)

ص: 41

‌فائدة: 2

شرط تولي الموصى إليه غسل المتوفَّى: أن يكون صالحاً لذلك، قادراً عليه، وإلا لم يشرع له القيام بذلك، وعندها يتولى تغسيل المتوفى: الأقرب فالأقرب، ممن يُحسن تغسيل الأموات.

قال الشيخ صالح الفوزان: وهذا الترتيب في الأولوية: إذا كانوا كلهم يحسنون التغسيل، وطالبوا به، وإلا فإنه يقدَّم العالم بأحكام التغسيل على مَن لا علم له.

وقال الشيخ ابن عثيمين: لكن كل هذه الترتيبات مسبوقة بأمر مهم وهو أعلم الناس بكيفية التغسيل هذا مقدم على كل هذه الأولويات يعني بعد الوصي يقدم أعلم الناس بأحكام التغسيل، كقول الرسول عليه السلام:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، فإذا قدر أن في هؤلاء الذين رتبهم المؤلف من لا يحسن التغسيل، فإنه لا يقدم؛ لأن المحافظة على التغسيل أولى من التقديم ولا يستثنى من هذا إلا شيء واحد وهو الوصي. انتهى من "الشرح الكافي"

(وَلِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ غَسْلُ صَاحِبِه).

أي: فالزوج له أن يغسل زوجته إذا ماتت، والزوجة لها أن تغسل زوجها إذا مات.

‌المسألة الأولى: تغسيل الزوج لزوجته إذا ماتت.

يجوز.

وهذا قول جماهير العلماء. [نسبه إليهم الشوكاني].

قال ابن قدامة: الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لِلزَّوْجِ غُسْلَ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاق.

ص: 42

أ- لحديث عائشة قالت (رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأساه، قال: ما ضرك لو متّ قبلي فغسلتكِ وكفنتكِ ثم صليت عليك).

والحديث فيه محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث عند أبي يعلى.

وأيضاً قد تابع محمد بن إسحاق صالح بن كيسان كما عند أحمد والنسائي، فالحديث لا بأس به.

ب- ما رواه الدارقطني عن أسماء بنت عميس قالت (غسلت أنا وعلي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال في المغني: إن علياً غسّل فاطمة، واشتهر ذلك فلم ينكر فكان إجماعاً.

قال الحافظ: رواه البيهقي من وجه آخر عن أسماء وإسناده حسن، ثم قال: وقد احتج بهذا الحديث أحمد وابن المنذر، وفي جزمهما بذلك دليل على صحته عندهما.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز.

وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري.

أ- قالوا: لأن الموت فرقة تبيح أختها.

ب- أن الموت فرقة تبيح أختها وأربعاً سواها فحرم اللمس والنظر كالطلاق.

والراجح القول الأول.

وأجاب هؤلاء عن أدلة من أجاز؟

حديث (لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ):

أولاً: أنه محمول على الغسل تسبباً، فمعنى قوله (غسلتك) أي: قمت بأسباب غسلك كما يقال بنى الأمير داراً.

ثانياً: أنه يحتمل أنه كان مخصوصاً بأنه لا ينقطع نكاحه بعد الموت.

وأجابوا عن أثر علي في تغسيله فاطمة: بأنه خاص بعلي، لأن فاطمة زوجته في الدنيا والآخرة فجاز له غسلها دون غيره.

وأجيب عن هذا الاعتراض بأنه لو بقيت الزوجية لما تزوج بنت أختها أمامة بنت زينب بعد موتها.

ص: 43

‌المسألة الثانية: تغسيل الزوجة لزوجها إذا ماتت.

جائز في قول عامة أهل العلم.

وقد نقل ابن المنذر الإجماع، أن الأمة أجمعت أن للمرأة غسل زوجها.

أ- لحديث عائشة (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) رواه أبو داود.

قال البيهقي: فتلهفت على ذلك، ولا يتلهف إلا على ما يجوز.

ب- وأوصى أبو بكر أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس.

فقد روى الإمام مالك في الموطأ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ (أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ تُوُفِّيَ ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَتْ إِنِّي صَائِمَةٌ وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ فَقَالُوا لا).

قال صاحب المنتقى على شرح الموطَّأ في هذا الحديث: يدل على جواز غسل المرأة زوجها بعد وفاته، لأن هذا كان بحضرة جماعة من الصحابة

لا سيما أن أبا بكر أوصى بذلك ولم يعلم له مخالف من الصحابة فثبت أنه إجماع.

‌فائدة:

إذا توفيت الزوجة في أثناء عدة الطلاق، فإن كان الطلاق رجعياً جاز للزوج أن يغسلها، وكذا لو مات الزوج بعد أن طلقها طلاقاً رجعياً فلها أن تغسله؛ لأن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجات، فلها ما للزوجات وعليها ما على الزوجات.

قال ابن قدامة: فإن طلق امرأته، ثم مات أحدهما في العدة، وكان الطلاق رجعياً، فحكمهما حكم الزوجين قبل الطلاق; لأنها زوجة تعتد للوفاة، وترثه ويرثها، ويباح له وطؤها. (المغني).

فإن كان الطلاق على عوض أو استكملت الطلقات الثلاث، لم يجز لأحدهما غسل الآخر؛ لانقطاع علائق الزوجية.

ص: 44

قال ابن قدامة رحمه الله: "وإن كان بائناً لم يجز؛ لأن اللمس والنظر محرم حال الحياة، فبعد الموت أولى. (المغني)

قال ابن عبد البر رحمه الله: وأجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها إن مات في عدتها.

وقال النووي رحمه الله: واتفقوا على أنه لا يُغسل البائن.

(وَلِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ غَسْلُ مَنْ لَهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ فَقَطْ).

أي: يجوز للرجل أن يغسل بنتاً دون سبع سنين، ويجوز للمرأة أن تغسل صبياً دون سبع سنين.

قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن للمرأة أن تغسل الصبي الصغير مجرداً من غير مئزر وتمس عورته وتنظر إليها.

(وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نسْوَةٍ، أَوْ عَكْسُهُ يُمِّمَتْ).

ذكر هنا متى ييمم الميت، وذلك عند تعذر ذلك، ويتعذر غسل الميت في صور:

إذا مات رجل بين نساء ليس بينهن زوجته.

وإذا ماتت امرأة بين رجال ليس فيهم زوجها.

إذا تعذر غسله لكونه محترقاً.

إذا عدم الماء.

قال ابن قدامة: والمجدور، والمحترق، والغريق، إذا أمكن غسله غسل

فإن خيف تقطعه بالماء لم يغسل، وييمم إن أمكن، كالحي الذي يؤذيه الماء، وإن تعذر غسل الميت لعدم الماء ييمم، وإن تعذر غسل بعضه دون بعض، غسل ما أمكن غسله، وييمم للباقي، كالحي سواء. (المغني)

ص: 45

‌فائدة:

اختلف الفقهاء فيمن تعذر غسله وتيممه: هل يصلى عليه أم لا؟

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَعَ تَعَذُّرِ الْغُسْل وَالتَّيَمُّمِ.

لأِنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.

أ-لأِنَّ الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ، لِمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:(وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

ب- وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَيِّت.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لأِنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَرِطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ تَقَدُّمَ غُسْل الْمَيِّتِ، وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ حُضُورَهُ أَوْ أَكْثَرِهِ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ غُسْلُهُ وَتَيَمُّمُهُ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ لِفَوَاتِ الشَّرْط. (الموسوعة)

والراجح - والله أعلم - القول الأول، وهو أنه يصلى عليه، حتى مع تعذر تغسيله وتيميمه؛ فإن الصلاة على الميت من حق الميت على المسلمين، وهكذا غسله، أو تيميمه عند تعذر الغسل؛ ومتى حصل العجز عن بعض الواجبات، لم تسقط المطالبة بما أمكن منها؛ لقول الله تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

ص: 46

(وَيَحْرُمُ أَنْ يَغْسِلَ مُسْلِمٌ كَافِراً، أَوْ يَدْفِنَهُ، بَلْ يُوَارَى لِعَدَمٍ).

أي: يحرم على المسلم أن يغسل الميت الكافر أو يكفنه، أو يدفنه، بل يواريه إذا لم يوجد من يواريه.

أ- لأن غسل الميت عبادة، والكافر ليس أهلا لها.

ب-ولأن الغسل وجب كرامة للميت وتعظيماً له، والكافر ليس من أهل استحقاق الكرامة والتعظيم.

ج-ولأنه لا يُصلى على الكافر، ولا يدعى له، فلم يصح غسله.

وذهب بعض العلماء: إلى جواز تغسيله.

وهذا مذهب الشافعي.

جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية) وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ تَغْسِيل الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ لِلْكَافِرِينَ، وَأَقَارِبُهُ الْكُفَّارُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُغَسِّل الْكَافِرَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ غُسْل زَوْجَتِهِ الْكَافِرَةِ لأِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُغَسِّل الْكَافِرَ وَلَا يَتَوَلَّى دَفْنَهُ، وَلأِنَّهُ لَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا مُوَالَاةَ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الزَّوْجِيَّةُ بِالْمَوْتِ.

(ولا يصِحُّ تغسيل الكافر للمسلمِ).

أي: لا يصح للكافر أن يقوم بتغسيل الميت المسلم.

لأنها عبادة، والكافر ليس من أهل العبادة.

قال ابن قدامة: وَلَا يَصِحُّ غُسْلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِهَا.

وقال أيضاً: وإن كانت الزوجة ذمية، فليس لها غسل زوجها؛ لأن الكافر لا يغسل المسلم؛ لأن النية واجبة في الغسل، والكافر ليس

من أهلها.

ص: 47

وجاء (في الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَخْرَجِ - مُقَابِل الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَغْسِيل الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ:

أ- لأِنَّ التَّغْسِيل عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَا يَصِحُّ تَغْسِيلُهُ لِلْمُسْلِمِ كَالْمَجْنُونِ.

ب- وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْل وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. (الموسوعة الفقهية)

وقال الشيخ ابن عثيمين: ويدل على أنها عبادة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها حيث قال (اغسلوه بماء وسدر)، فالغاسل الذي يغسل الميت ينبغي له أن يستشعر أن الرسول أمره بهذا حتى يكون قائماً بعبادة أي يمتثل بها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فلا يصح أن يغسل الكافر مسلماً.

(شرح الكافي)

وقال الشيخ صالح الفوزان: وأما بالنسبة لتغسيل الكافر للمسلم فلا يجوز؛ لأن تغسيل الميت عبادة والعبادة لا تصح من الكافر.

‌فائدة: 1

تشييع جنازة الكافر.

لا يجوز للمسلم تشييع جنازة الكافر ولو كان قريباً له؛ لأن التشييع حق للمسلم على المسلم، وهو نوع من الاحترام والإكرام والموالاة التي لا يجوز أن تكون للكافر.

وقد مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فأمر علياً أن يواريه التراب، ولم يشيعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشهد دفنه، مع ما لأبي طالب من المواقف المعروفة في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته وبرّه وإحسانه، فما منعه من ذلك إلا موت أبي طالب على الكفر، بل قال صلى الله عليه وسلم:(لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ) فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) وَنَزَلَتْ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ). رواه البخاري ومسلم

ص: 48

وروى أبو داود عن عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ قَالَ: (اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاك).

والإسلام مع دعوته إلى صلة الأقارب والإحسان إليهم إلا أنه قطع الولاء بين المؤمن والكافر، فما كان من صور الولاء: مُنع، وما كان من البر والإحسان دون ولاء: جاز.

قال الشيخ ابن عثيمين: لا يجوز للمسلم أن يشيع جنازة غير المسلم لأن اتباع الجنائز من حقوق المسلم على المسلم، وليس من حقوق الكافر على المسلم، وكما أن الكافر لا يبدأ بالسلام، ولا يفسح له الطريق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريقٍ فاضطروهم إلى أضيقه) فإنه لا يجوز إكرامه باتباع جنازته، أياً كان هذا الكافر، حتى ولو كان أقرب الناس إليك.

‌فائدة: 2

قوله (بل يواريه) أي: أن الكافِرُ إذا هَلَك بين ظهرانَيِ المسلمينَ، وليس له مِن أَهْلِ دِينِه مَن يَدْفِنه واراه المسلمون.

أ- عن أبي طلحَة (نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمَرَ يومَ بَدْرٍ بأربعةٍ وعشرينَ رَجُلًا من صناديدِ قُرَيشٍ، فقُذِفُوا في طَوِي مِن أطواءِ بَدْرٍ خبيثٍ مُخْبِث) متفق عليه.

قال النووي: قَالَ أَصْحَابنَا: وَهَذَا السَّحْب إِلَى الْقَلِيب لَيْسَ دَفْنًا لَهُمْ، وَلَا صِيَانَة وَحُرْمَة، بَلْ لِدَفْعِ رَائِحَتهمْ الْمُؤْذِيَة.

ب- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم (لَمَّا أُخْبِرَ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِعَلِيٍّ اذْهَبْ فَوَارِه) رواه أبو داود.

ج- لأنَّه يُتَضَرَّرُ بِتَرْكه، ويتَغَيَّرُ ببقائِه. (كشاف القناع).

ص: 49

(وَإِذَا أَخَذَ فِي غَسْلِهِ سَتَرَ عَوْرَتَهُ وَجَرَّدَهُ).

أي: وإذا شرع في غسله جرده من ثيابه وستر عورته، وهذا واجب.

أي: فيجرد الميت من كل شيء إلا من عورته (ما بين السرة والركبة).

وقدم تقدم: وأَنَّ تَجْرِيدَهُ أَمْكَنُ لِتَغْسِيلِهِ، وَأَبْلَغُ فِي تَطْهِيرِهِ، وَالْحَيُّ يَتَجَرَّدُ إذَا اغْتَسَلَ، فَكَذَا الْمَيِّتُ، وَلِأَنَّهُ إذَا غُسِّلَ فِي ثَوْبِهِ تَنَجَّسَ

الثَّوْبُ بِمَا يَخْرُجُ، وَقَدْ لَا يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، فَيَتَنَجَّسَ الْمَيِّتُ بِهِ.

وتقدم قول الصحابة: هل نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا؟

وتقدم أن ستر عورته واجب.

قال ابن قدامة: وأما ستر ما بين السرة والركبة فلا نعلم فيه خلافاً، فإن ذلك عورة، وستر العورة مأمور به.

‌فائدة:

لا يشترط لصحة غسل الميت أن يكون الغاسل على طهارة.

قال ابن قدامة: ولا نعلم بينهم اختلافاً في صحة تغسيلهما وتغميضهما له (الحائض والجنب) ولكن الأولى أن يكون المتولي لأموره، في تغميضه وتغسيله، طاهراً لأنه أكمل وأحسن.

ص: 50

وقال النووي: يجوز للجنب والحائض غسل الميت بلا كراهة، وكرههما الحسن وابن سيرين، وكره مالك الجنب. دليلنا: أنهما طاهران كغيرهما.

وسئل علماء (اللجنة الدائمة) هل يجوز للمرأة وهي حائض أن تقوم بتغسيل الميت وتكفينه؟

فأجابوا: "يجوز للمرأة وهي حائض أن تغسل النساء وتكفنهن، ولها أن تغسل من الرجال زوجها فقط، ولا يعتبر الحيض مانعاً من تغسيل الجنازة" انتهى.

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل كل إنسان يغسل الميت عليه وضوء؟

فأجاب: لا، ليس بشرط، أي: لا يشترط أن يكون الغاسل على طهارة، لكن العلماء قالوا: إن الجنب لا ينبغي أن يكون حول الميت؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب.

(وَسَتَرَهُ عَن العُيُون).

أي: يسن أن يغسله في مكان لا يراه الناس، كحجرة أو خيمة ونحو ذلك.

لأنه ربما كان فيه عيب يستره في حياته.

قال النووي: ويستحب نقله إلى موضع خال وستره عن العيون، وهذا لا خلاف فيه. (المجموع)

(وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ مُعِينٍ فِي غَسْلِهِ حُضُورُهُ).

أي: يكره لمن ليس له إعانة في الغسل أن يحضر الغسل.

قال ابن قدامة: وَإِنَّمَا كُرِهَ أَنْ يَحْضُرَهُ مَنْ لَا يُعِينُ فِي أَمْرِهِ:

لِأَنَّهُ يُكْرَهُ النَّظَرُ إلَى الْمَيِّتِ إلَّا لِحَاجَةٍ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاضِرِينَ غَضُّ أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ، إلَّا مِنْ حَاجَةٍ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بِالْمَيِّتِ عَيْبٌ يَكْتُمُهُ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ أَمْرٌ يَكْرَهُ الْحَيُّ أَنْ يُطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى مِثْلِهِ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ فِيهِ شَيْءٌ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مُنْكَرٌ فَيُحَدَّثُ بِهِ، فَيَكُونُ فَضِيحَةً لَهُ، وَرُبَّمَا بَدَتْ عَوْرَتُهُ فَشَاهَدَهَا، وَلِهَذَا أَحْبَبْنَا أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ ثِقَةً أَمِينًا صَالِحًا؛ لِيَسْتُرَ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال (لِيُغَسِّلْ مَوْتَاكُمْ الْمَأْمُونُونَ). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ (المغني)

ص: 51

‌فائدة: 1

قال ابن قدامة: وَيَنْبَغِي لِلْغَاسِلِ، وَلِمَنْ حَضَرَ، إذَا رَأَى مِنْ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِمَّا يُحِبُّ الْمَيِّتُ سَتْرَهُ، أَنْ يَسْتُرَهُ، وَلَا يُحَدِّثَ بِهِ؛ لِمَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

وَإِنْ رَأَى حَسَنًا مِثْلَ أَمَارَاتِ الْخَيْرِ، مِنْ وَضَاءَةِ الْوَجْهِ، وَالتَّبَسُّمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، اُسْتُحِبَّ إظْهَارُهُ، لِيَكْثُرَ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ، وَيَحْصُلَ الْحَثُّ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِ، وَالتَّشَبُّهُ بِجَمِيلِ سِيرَتِهِ. (المغني)

‌فائدة: 2

بعض العلماء رحمهم الله استثنوا ولي الميت فله أن يحضر ولو لم يكن لحاجة؛ لوجود الشفقة على الميت.

قال النووي: قال أصحابنا: ويستحب أن لا يحضره إلا الغاسل، ومن لا بد له من معونته عند الغسل، قال أصحابنا: وللولي أن يدخل، وإن لم يغسل ولم يعن. (المجموع)

قال القاضي، وابن عقيل من الحنابلة: وما هو ببعيد. (الإنصاف)

(ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى قُرْبِ جُلُوسِهِ، وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ بِرِفْقٍ، وَيُكْثِرُ صَبَّ الْمَاءِ حِينئِذٍ).

أي: بعد أن يجرده ويستر عورته، يرفع رأسه إلى قرب الجلوس.

ويعصر بطنه برفق:

ليخرج ما في جوفه من فضلة لئلا يخرج بعد الغسل، أو بعد التكفين فيفسده.

ويصب عليه الماء وقت العصر صباً كثيراً: ليذهب بما يخرج فلا تظهر رائحته.

ص: 52

(ثُمَّ يَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً فَيُنَجّيهِ).

أي: ثم بعد ذلك يلف الغاسل على يده خرقة (وفي الوقت الحاضر قفازات) وينجي الميت، فيغسل فرجه مما خرج منه، ومما كان قد خرج قبل وفاته.

قال ابن قدامة: وَيَلُفُّ الْغَاسِلُ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً خَشِنَةً، فَيُنْجِيهِ بِهَا؛ لِئَلَّا يَمَسَّ عَوْرَتَهُ، لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ، فَاللَّمْسُ أَوْلَى، وَيُزِيلُ مَا عَلَى بَدَنِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ يَبْدَأُ بِذَلِكَ فِي اغْتِسَالِهِ مِنْ الْجَنَابَةِ.

(وَيُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَمَسَّ سَائِرَه إِلاَّ بِخِرْقَةٍ).

هذا الأفضل، لأنه أنقى للميت، وهذه الخرقة غير الخرقة الأولى.

قال ابن قدامة: ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة، وينبغي أن يتخذ الغاسل خرقتين خشنتين، ينجيه بإحداهما ثم يلقيها، ويلف الأخرى على يده فيمسح بها سائر البدن، لما روي أن علياً غسل النبي صلى الله عليه وسلم وبيده خرقة يمسح بها ما تحت القميص.

(الكافي)

(ثُمَّ يُوَضّئهُ نَدْباً).

أي: ثم بعد ذلك يستحب للغاسل أن يوضئ الميت.

لحديث أُمّ عَطِيَّةَ قَالَتْ (لَمَّا غَسَّلْنَا بِنْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَنَا وَنَحْنُ نَغْسِلُهَا ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ). متفق عليه

قال النووي: وفيه استحباب وضوء الميت وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يستحب.

ويكون الوضوء عندنا في أول الغسل كما في وضوء الجنب. (شرح مسلم).

‌فائدة: 1

إلا أنه يستثنى من الوضوء المضمضة والاستنشاق، فيكتفى بالمسح بخرقة مبلولة بالماء.

قال ابن قدامة: وَلَا يُدْخِلُ الْمَاءَ فَاهُ، وَلَا مَنْخَرَيْهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

لأن إدْخَالَ الْمَاءِ فَاهُ وَأَنْفَهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ وُصُولُهُ إلَى جَوْفِهِ، فَيُفْضِي إلَى الْمُثْلَةِ بِهِ، وَلَا يُؤْمَنُ خُرُوجُهُ فِي أَكْفَانِهِ.

ص: 53

وقال الشيخ ابن عثيمين: لأن الحي إذا أدخل الماء تمضمض به ومجّه وخرج، والميت لو صببنا الماء في فمه لانحدر لبطنه وربما يحرك ساكناً، وكذلك نقول في مسألة الاستنشاق: الميت لا يستنشق الماء، ولا يستطيع أن يستنثره، وحينئذٍ نقول: لا تدخل الماء في فمه ولا أنفه.

‌فائدة: 2

وهذا الوضوء ليس على سبيل الوجوب بدليل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة فمات، فقال (اغسلوه بماءٍ وسدر) ولم يقل: وضئوه، فدل على أن الوضوء ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاستحباب.

(ثم يغسله، وَيَغْسِل بِرَغْوَةِ السِّدْرِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ فَقَط).

أي: أنه لا بد أن يعد الغاسل سدراً يدقه ويضعه في إناء فيه ماء، ثم يضربه بيديه حتى يكون له رغوة، وهذه الرغوة يغسل بها رأسه ولحيته، وأما الثفل الباقي فإنه يغسل به سائر الجسد.

وإنما خُصّ الرأس واللحية بالرغوة؛ لأننا لو غسلناهما بالثفل لبقي الثفل متفرقاً في الشعور وصعب إخراجه منها، أما الرغوة فليس فيها ثفل.

‌والدليل على استحباب السدر:

حديث أُم عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ (دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلاثاً، أَوْ خَمْساً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ -إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ- بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الأَخِيرَةِ كَافُوراً -أَوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ- فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي) متفق عليه.

قال النووي: وهو متفق على استحبابه.

ص: 54

(ثُمَّ يَغْسِلُ شِقَّهُ الأْيْمَنَ، ثُمَّ الأْيْسَرَ).

أي: ثم بعد ذلك يغسل الشق الأيمن ثم الأيسر.

لحديث أم عطية السابق (ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ اَلْوُضُوءِ مِنْهَا).

(ثُمَّ كُلَّهُ ثَلَاثاً، يُمِرُّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ).

لحديث أم عطية السابق (: اغْسِلْنَهَا ثَلاثاً).

(فَإِنْ لَمْ يَنْقَ بِثَلَاثٍ زِيدَ حَتَّى يَنْقَى وَلَوْ جَاوَزَ السَّبْعَ، ويقطع على وتر).

لأن المقصود بذلك تطهيره.

لحديث أُمّ عَطِيَّةَ قَالَتْ. قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذلك).

وهذا يرجع إلى رأي الغاسل.

قال النووي: المراد اغسلنها وترًا، وليكن ثلاثًا، فإن احتجتنّ إلى زيادة، فخمسًا، وحاصله أن الإيتار مطلوب، والثلاث مستحبّة، فإن حصل الإنقاء بها لم يشرع ما فوقها، وإلا زيد وترًا، حتى يحصل الإنقاء، والواجب من ذلك مرة واحدة عامّة للبدن انتهى.

‌فائدة: 2

قال ابن الملقن: قوله (إن رأيتنّ) أي: إن رأيتنّ الزيادة في العدد، وعند الاحتياج، وليس معناه التخيير والتفويض إلى شهوتهنّ.

ص: 55

(وَيَجْعَل فِي الغَسْلَةِ الأْخِيرَةِ كَافُوراً).

لحديث أم عطية (فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلاثاً، أَوْ خَمْساً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ -إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ- بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الأَخِيرَةِ كَافُوراً -أَوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ- فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي

).

وباستحبابه قال جماهير العلماء.

‌فائدة: 1

الحكمة من الكافور:

أ- أنه بارد.

ب- ويطرد الهوام.

قال النووي:

وَلِأَنَّهُ يُطَيِّب الْمَيِّت، وَيُصَلِّب بَدَنه وَيُبَرِّدهُ، وَيَمْنَع إِسْرَاع فَسَاده، أَوْ يَتَضَمَّن إِكْرَامه. (شرح مسلم)

وقال الحافظ رحمه الله: قيل: الحكمة في الكافور مع كونه يطيب رائحة الموضع لأجل من يحضر من الملائكة وغيرهم أن فيه تجفيفاً وتبريداً وقوة نفوذ، وخاصية في تصليب بدن الميت وطرد الهوام عنه، وردع ما يتحلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه وهو أقوى الأراييح الطيبة في ذلك وهذا هو السر في جعله في الأخيرة إذ لو كان في الأولى مثلاً لأذهبه الماء.

‌فائدة: 2

روى البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الكافور يوضع على مواضع السجود.

وهي: الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان، لأنه كان يسجد بهذه الأعضاء فخصت بزيادة الكرامة.

قال ابن قدامة: ويجعل الحنوط (الطيب الذي يصنع للميت) على المغابن (المفاصل) كباطن الركبتين وتحت الإبطين لأنها تجتمع فيها

الأوساخ، ويجعل على أعضاء سجوده لأنها أشرف، وإن طيبه كله فلا بأس " انتهى.

ص: 56

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل ورد تطييب جميع بدن الميت؟

فأجاب: نعم، ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.

‌فائدة: 3

إذا ماتت المعتدة من وفاة هل تطيب؟

قال النووي: الصحيح أنه لا يحرم تطيبها، لأنه حرم عليها الطيب في العدة حتى لا يدعو إلى نكاحها، وقد زال هذا المعنى بالموت. (المجموع)

‌فائدة: 4

إذا غُسل الميت، ثم بعد الفراغ من غسله خرج منه شيء من بول أو غائط أو دم .. فلا يلزم إعادة غسله، بل الواجب إزالة تلك النجاسة فقط.

قال النووي: إذا خرج من أحد فرجي الميت بعد غسله وقبل تكفينه نجاسة وجب غسلها بلا خلاف، وفي إعادة طهارته ثلاثة أوجه مشهورة، أصحها: لا يجب شيء; لأنه خرج عن التكليف بنقض الطهارة، وقياساً على ما لو أصابته نجاسة من غيره، فإنه يكفي غسلها بلا خلاف. (المجموع)

وقال ابن قدامة: وهو قول الثوري، ومالك، وأبي حنيفة; لأن خروج النجاسة من الحي بعد غسله لا يبطله، فكذلك الميت

وفي (الموسوعة الفقهية) وإن خرج منه شيء وهو على مغتسله، فيرى الحنفية والمالكية - ما عدا أشهب - وهو الأصح عند الشافعية، واختاره أبو الخطاب من الحنابلة: أنه لا يعاد غسله، وإنما يغسل ذلك الموضع، وإليه ذهب الثوري أيضاً.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذا القول، أي: عدم إعادة غسله، والاكتفاء بغسل النجاسة قال: "وهو أقرب للصواب. شرح الكافي

ص: 57

(وَيَقُصُّ شَارِبَه، وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَه، وَلَا يُسَرِّحُ شَعْرَهُ).

أي: ويسن قص شارب الميت إذا كان طويلاً، وكذا أظفاره إذا طالت.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ شَارِبَ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ طَوِيلًا اُسْتُحِبَّ قَصُّهُ.

وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقَ.

ثم قال رحمه الله: فَأَمَّا الْأَظْفَارُ إذَا طَالَتْ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: لَا تُقَلَّمُ.

وَالثَّانِيَةُ: يُقَصُّ إذَا كَانَ فَاحِشًا.

نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ، وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَيُشْرَعُ أَخْذُهُ كَالشَّارِبِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فَاحِشَةً. (المغني).

واختلف العلماء في العانة:

فقيل: لا تؤخذ.

قال ابن قدامة: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.

لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِي أَخْذِهَا إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَلَمْسِهَا، وَهَتْكِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يُفْعَلُ لِغَيْرِ وَاجِبٍ، وَلِأَنَّ الْعَوْرَةَ مَسْتُورَةٌ يُسْتَغْنَى بِسَتْرِهَا عَنْ إزَالَتِهَا.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ أَخْذَهَا مَسْنُونٌ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ جَزَّ عَانَةَ مَيِّتٍ.

وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ إزَالَتُهُ مِنْ السُّنَّةِ، فَأَشْبَهَ الشَّارِبَ.

وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

وَيُفَارِقُ الشَّارِبُ الْعَانَةَ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ يُتَفَاحَشُ لِرُؤْيَتِهِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي أَخْذِهِ إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَلَا مَسِّهَا. (المغني).

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يقص ولا يؤخذ من الميت شيء.

لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابة شيء في هذا.

ص: 58

قال في الوجيز للزحيلي: ولا يقص ظفره ولا يحلق شعره عند الجمهور خلافاً للحنابلة القائلين بأنه يقص شارب غير المحرم، ويقلم أظفاره إن طالا، ويؤخذ شعر إبطيه، لأن ذلك تنظيف. (الوجيز في الفقه).

قال ابن المنذر: الوقوف عن أخذ ذلك أحب إلي، لأن المأمور بأخذ ذلك من نفسه الحي، فإذا مات انقطع الأمر.

فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يختتن أحد بعد الموت.

(ثُمَّ يُنَشَّفُ بِثَوْبٍ).

أي: إذا فرغ الغاسل من غسل الميت نشّفَه بثوب لئلا يبل ثيابه.

(وَيُضفَرُ شَعْر المرأة ثَلاثَةَ قُرُونٍ، وَيُسْدَلُ وَرَاءَهَا).

أي: ويجعل شعر المرأة ضفائر ثلاثاً، ويسدل من ورائها.

لحديث أم عطية السابق (

فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا).

(وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيءٌ بَعْدَ سَبْعٍ حُشِيَ بِقُطنٍ)

أي: إن خرج من الميت شيء من بول، أو غائط، أو دم، حشيَ بقطن، أي: سُدّ بالقطن من أجل أن يتوقف.

(وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَكْفِينِهِ لَمْ يُعَدِ الغسْلُ)

أي: وإن خرج شيء بعد التكفين لم يعد الغسل، لأن في ذلك مشقة.

(وَمُحْرِمٌ مَيتٌ كَحيٍّ، يُغسل بماء وسِدْرٍ، ويُجنَّب الطِّيبَ، ولا يلبس ذَكَرٌ مخيطًا، ولا يُغطى رأسه، ولا وجهَ أنثى).

أي: في أحكامه.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ -أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ. وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ. فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّياً).

وَفِي رِوَايَةٍ (وَلا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلا رَأْسَهُ).

الوَقْصُ: كَسْرُ العُنُقِ.

فالمحرم إذا مات لا يغطى رأسه بل يبقى مكشوفاً.

لقوله (ولا تخمروا رأسه).

ص: 59

ولا يقرب طيباً.

لقوله (وَلا تُحَنِّطُوهُ).

ولا يلبس الذَّكَر مخيطاً.

أي: لا يلبس سراويل، أو عمامة أو غيرها مما يحرم على الحي.

‌فائدة:

اختلف العلماء في حكم تغطية المحرم وجهه على قولين.

القول الأول: مباح للمحرم أن يغطي وجهه.

روى ذلك عن عثمان وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص.

وبه قال الشافعي وأحمد وابن حزم. الأدلة:

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا تخمروا رأسه).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تغطية رأس المحرم فقط، فدل على جواز ستر الوجه لأنه لو كان حراماً لنهى عنه.

ولما روي عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن الزبير يخمرون وجوههم وهم محرمون.

القول الثاني: لا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه.

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك.

أ- لرواية مسلم (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه).

ب-وروي عن ابن عمر أنه كان يقول (ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم) رواه البيهقي.

أجاب أصحاب القول الأول عن دليل القول الثاني قالوا: أن رواية (ولا وجهه) شاذة ضعيفة.

قال البيهقي: ذكر الوجه غريب وهو وهم من بعض رواته.

وقال الحافظ: وتردد ابن المنذر في صحته.

والأحوط أن لا يغطي المحرم وجهه.

ص: 60

(وَلَا يُغَسَّلُ شَهِيدُ معركةِ كفار).

أي: أن شهيد المعركة الذي مات بين قتال الكفار لا يغسل إذا مات.

لحديث جابر. قَالَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ اَلرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ?، فَيُقَدِّمُهُ فِي اَللَّحْدِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قال ابن قدامة: إذا مات الشهيد في المعركة لم يغسل، وهو قول أكثر أهل العلم.

وقال الخطابي: وفيه من الفقه أن الشهيد لا يغسل وهو قول عامة أهل العلم.

ونقل الصنعاني أيضاً عن الجمهور قولهم أن الشهيد لا يغسل.

قال البغوي: اتفق العلماء على أن الشهيد المقتول في معركة الكفار لا يغسَّل. (شرح السنة).

وقال ابن هبيرة: واتفقوا على أن الشهيد المقتول في المعركة لا يغسَّل.

‌فائدة: 1

هل إذا مات الشهيد جنباً يغسل؟

إن كان الشهيد جنُباً فقد اختلف العلماء في تغسيله، والراجح أنه لا يُغسل إذ لا فرق بين الجُنب وغيره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغسل الذين قتلوا في أُحد، ولأن الشهادة تكفر كل شيء.

أما ما يُذكر من أن عبد الله بن حنظلة " غسلته الملائكة " فهذا إن صح فليس فيه دليل على أنه يُغسله البشر؛ لأن تغسيل الملائكة له ليس شيئاً محسوساً لنا، وأحكام البشر لا تقاس على أحكام الملائكة، وما حصل لحنظلة رضي الله عنه هو من باب الكرامة وليس من باب التكليف.

قال ابن حجر في معرض الاستدلال بحديث جابر:. . . واستدل بعمومه على أن الشهيد لا يغسل حتى ولا الجنب ولا الحائض.

‌فائدة: 2

الحكمة من عدم تغسيل الشهيد:

جاء عند أحمد في حديث جابر (. . . لا تغسلوهم فإن كلَّ جُرحٍ أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة ولم يصلّ عليهم).

ص: 61

‌فائدة: 3

قوله (معركة) مفهومه أن شهيد غير المعركة يغسل كالمبطون والمطعون

الخ.

فسائر من يطلق عليهم اسم الشهيد كالمبطون والنفساء وغيرهم يغسلون إجماعاً ويصلى عليهم.

عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ).

قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ كُلّهمْ غَيْر الْمَقْتُول فِي سَبِيل اللَّه أَنَّهُمْ يَكُون لَهُمْ فِي الْآخِرَة ثَوَاب الشُّهَدَاء. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغْسَلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ.

‌وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّهِيد ثَلَاثَة أَقْسَام:

أَحَدهَا: الْمَقْتُول فِي حَرْب بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَاب الْقِتَال فَهَذَا لَهُ حُكْم الشُّهَدَاء فِي ثَوَاب الْآخِرَة وَفِي أَحْكَام الدُّنْيَا وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُغَسَّل وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: شَهِيد فِي الثَّوَاب دُون أَحْكَام الدُّنْيَا.

وَهُوَ الْمَبْطُون، وَالْمَطْعُون، وَصَاحِب الْهَدْم، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، وَغَيْرهمْ مِمَّنْ جَاءَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِتَسْمِيَتِهِ شَهِيدًا، فَهَذَا يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَهُ فِي الْآخِرَة ثَوَاب الشُّهَدَاء، وَلَا يَلْزَم أَنْ يَكُون مِثْل ثَوَاب الْأَوَّل.

وَالثَّالِث: مَنْ غَلَّ فِي الْغَنِيمَة وَشِبْهُه مَنْ وَرَدَتْ الْآثَار بِنَفْيِ تَسْمِيَته شَهِيدًا إِذَا قُتِلَ فِي حَرْب الْكُفَّار.

فَهَذَا لَهُ حُكْم الشُّهَدَاء فِي الدُّنْيَا فَلَا يُغَسَّل، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ ثَوَابهمْ الْكَامِل فِي الْآخِرَة. وَاَللَّه أَعْلَم.

وقال النووي في المجموع: والدليل للقسم الثاني أن عمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم غسلوا وصلي عليهم بالاتفاق واتفقوا على أنهم شهداء والله أعلم.

‌فائدة: 4

قوله (كفار) مفهومه: أنها لو كانت معركة في قتال بين المسلمين كأهل البغي فإنه يغسل كغيره، لأنه مسلم قتل في غير حرب الكفار، فهو كمن قتله اللصوص.

‌فائدة: 5

ذهب بعض العلماء: إلى أن المقتول ظلماً لا يغسل أيضاً.

لأن المقتول ظلماً شهيد.

ص: 62

قال صلى الله عليه وسلم (من قتل دون دمه فهو شهيد).

وذهب الجمهور إلى أن المقتول ظلماً يغسل كغيره من الموتى.

وهذا القول هو الصحيح.

فإن عمر رضي الله عنه قد قتل ظلماً وعثمان وعلي وغيرهم، وكانوا يغسلون ويكفنون، ويصلى عليهم، وإن كانوا شهداء، ومع ذلك لم يثبت هذا الحكم فيهم، وإنما ثبت في شهيد المعركة.

بل لو قتل المسلم في أيدي الكفار لكن ذلك عن طريق الاغتيال، ونحوه مما لا يكون فيه قتال ظاهر، فإنه ليس له هذا الحكم.

فعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وهو شهيد كما قال صلى الله عليه وسلم لأحد:(اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان).

فالصديق أبو بكر والشهيدان عمر وعثمان.

ومع ذلك فإنه - أي عمر - قد كفن كما ورد ذلك في البيهقي وغيره وهو مشهور عنه، وكذلك علي كما في البيهقي وغيره، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم.

فعلى ذلك القتيل الذي يقع قتله في غير الصف يبقى على الحكم الأصلي من التغسيل والتكفين.

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلظُّلْمِ أَثَرًا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمَقْتُول بِأَنَّهُ شَهِيدٌ، وَيُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَمِنْ صُوَرِ الْقَتْل ظُلْمًا: قَتِيل اللُّصُوصِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، أَوْ مَنْ قُتِل مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ دَمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْل الذِّمَّةِ، أَوْ مَنْ قُتِل دُونَ مَظْلَمَةٍ، أَوْ مَاتَ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حُبِسَ ظُلْمًا.

وَاخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهِ شَهِيدَ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، أَوْ شَهِيدَ الآْخِرَةِ فَقَطْ؟

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ مَنْ قُتِل ظُلْمًا يُعْتَبَرُ شَهِيدَ الآْخِرَةِ فَقَطْ، لَهُ حُكْمُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَيْسَ لَهُ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِلَى أَنَّ مَنْ قُتِل ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ يُلْحَقُ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُغَسَّل وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.

لِقَوْل سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُول (مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ).

وَلأِنَّهُمْ مَقْتُولُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَشْبَهُوا مَنْ قَتَلَهُمُ الْكُفَّار.

ص: 63

(وَيُدْفَنُ فِي ثِيَابِهِ بَعْدَ نَزْعِ السِّلَاحِ وَالجُلُودِ عَنْهُ).

أي: يدفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها؛ لأنه يبعث يوم القيامة على ما مات عليه من القتل.

قال ابن قدامة: أَمَّا دَفْنُهُ بِثِيَابِهِ، فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

أ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِم). رواه أبو داود

ب- وروى أحمد أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ أُحُد (زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ).

ج- وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ (رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ - أَوْ فِي حَلْقِهِ - فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ، قَالَ: وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود. قال الحافظ: إسناده صحيح على شرط مسلم.

‌فائدة: 1

اختلف الفقهاء في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن الشهداء في ثيابهم، هل هو على سبيل الاستحباب والأولوية، أم على سبيل الوجوب؟ على قولين:

القول الأول: أنه على سبيل الاستحباب.

قال به الشافعية وبعض الحنابلة.

قال النووي: ثم وليه بالخيار إن شاء كفنه بما عليه، وإن شاء نزعه وكفنه بغيره، وتركه أفضل.

وقال ابن قدامة: وليس هذا بحتم، لكنه الأولى، وللولي أن ينزع عنه ثيابه ويكفنه بغيرها.

واستدلوا على عدم الوجوب:

بما رواه أحمد عن الزبير أن أمه صفية (وهي أخت حمزة)(أتت يوم أحد بثوبين وقالت: هَذَانِ ثَوْبَانِ جِئْتُ بِهِمَا لأَخِي حَمْزَةَ فَقَدْ بَلَغَنِي مَقْتَلُهُ فَكَفِّنُوهُ فِيهِمَا، قَالَ: فَجِئْنَا بِالثَّوْبَيْنِ لِنُكَفِّنَ فِيهِمَا حَمْزَةَ فَإِذَا إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ قَتِيلٌ قَدْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِحَمْزَةَ، قَالَ: فَوَجَدْنَا غَضَاضَةً وَحَيَاءً أَنْ نُكَفِّنَ حَمْزَةَ فِي ثَوْبَيْنِ وَالأَنْصَارِيُّ لا كَفَنَ لَهُ، فَقُلْنَا: لِحَمْزَةَ ثَوْبٌ وَلِلأَنْصَارِيِّ ثَوْبٌ، فَقَدَرْنَاهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الآخَرِ فَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا فَكَفَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثَّوْبِ الَّذِي صَارَ لَه).

ص: 64

القول الثاني: أن الأمر على سبيل الوجوب.

وهو مذهب المالكية والحنابلة.

واختاره ابن القيم والشوكاني.

قال المرداوي في (الإنصاف): والصحيح في المذهب أنه يجب دفنه في ثيابه التي قتل فيها.

وقال الإمام مالك: "إن أراد وليه أن يزيد على ما عليه وقد حصل له ما يجزئ في الكفن لم يكن له ذلك، ولا يزاد عليه شيء "

وقال الشوكاني: والظاهر أن الأمر بدفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب للوجوب.

أجابوا عن حديث حمزة:

بأنه كفن في كفن آخر لأن الكفار كانوا مثلوا به، وبقروا بطنه، واستخرجوا كبده، وأخذوا ثيابه، فلذلك كفن في كفن آخر. قاله ابن القيم في (زاد المعاد).

‌فائدة: 2

قال النووي: وأجمع العلماء على أن الحديد والجلود ينزع عنه.

(المجموع).

‌فائدة: 3

وأما الفرو والخف والقلنسوة والمنطقة (الحزام الذي يلبس على الوسط) فقد اختلف العلماء في نزعها على قولين:

وجماهير العلماء: أنه يزال عنه.

وهو مذهب الأحناف والشافعية والحنابلة.

أ- لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ السابق قَالَ: (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ) وهو ضعيف كما تقدم.

ص: 65

ب- وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ينزع من الشهيد الفرو والخف والقلنسوة.

قال الكاساني في (بدائع الصنائع): وهذا لأن ما يترك يترك ليكون كفناً، والكفن ما يلبس للستر، وهذه الأشياء تلبس إما للتجمل والزينة، أو لدفع البرد، أو لدفع معرة السلاح، ولا حاجة للميت إلى شيء من ذلك، فلم يكن شيء من ذلك كفناً، وبه تبين أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم (زملوهم بثيابهم) الثياب التي يكفن بها وتلبس للستر.

(وَإِنْ سُلِبَها كُفِّنَ بِغَيْرِهَ).

أي: وإن سُلب الثياب وصار عرياناً، فإنه يكفن بغيرها وجوباً.

لأنه لا بد من التكفين، لقوله صلى الله عليه وسلم (وكفنوه في ثوبيه).

(ولا يُصلىَ عليهِ).

أي: لا يصلى على الشهيد الذي مات في معركة مع الكفار.

لحديث جابر. قَالَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ اَلرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ?، فَيُقَدِّمُهُ فِي اَللَّحْدِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.

وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد.

قال ابن قدامة: فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ.

قال الشيخ عبد العزيز ابن باز: الشهداء الذين يموتون في المعركة لا تشرع الصلاة عليهم مطلقاً ولا يُغسلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصلِّ على شهداء أحد ولم يُغسلهم. رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

أ- لحديث جابر السابق (

وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ).

ب- وعن أنس (أن شهداء أحد لم يُغسّلوا ودُفِنوا بدمائهم ولم يُصلِ عليهم) رواه أبو داود.

ج- عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال في قتلى أحد (لا تغسلوهم فإن كلَّ جرحٍ أو كلَّ دم يفوح مسكاً يوم القيامة ولم يصل عليهم) رواه أحمد.

ص: 66

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يصلى عليه.

وهذا مذهب الحنفية.

لحديث عُقْبَة بْن عَامِر (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ «إِنِّى فَرَطٌ

لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ

) متفق عليه.

وفي رواية (صلى صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ ثمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ .. ).

ب- وجاء (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة وكبر عليه تسعاً) رجاله ثقات وصححه الألباني.

والراجح أنه لا يصلى على الشهيد.

والإجابة عن حديث عقبة:

أولاً: أن المقصود بصلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد، أي: أنه دعا لهم.

ثانياً: أن هذا خاص بشهداء أحد، بدليل أنه لم ينقل أنه صلى على غيرهم من الشهداء.

ثالثاً: أن هذا خاص به عليه الصلاة والسلام.

قال ابن حجر رحمه الله: فَإِنَّ صَلَاته عَلَيْهِمْ تَحْتَمِل أُمُورًا أُخَر: مِنْهَا أَنْ تَكُون مِنْ خَصَائِصه، وَمِنْهَا أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الدُّعَاء كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ هِيَ وَاقِعَة عَيْن لَا عُمُوم فِيهَا، فَكَيْفَ يَنْتَهِض الِاحْتِجَاج بِهَا لِدَفْعِ حُكْم قَدْ تَقَرَّرَ؟. (الفتح).

ص: 67

وقال الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي: وَأَمَّا هَذِهِ الصَّلَاةُ فَفِيهَا جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الدُّعَاءُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا صَلَاةَ الْجِنَازَةِ الْمَعْهُودَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ دَعَا لَهُمْ بِدُعَاءِ صَلَاةِ الْمَيِّتِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ دَفْنِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَإِنَّمَا صَلَّى عَلَيْهِمْ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ وَالْحَنَفِيَّةُ يَمْنَعُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ مُطْلَقًا، وَالْقَائِلُونَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ يُقَيِّدُونَهُ بِمُدَّةٍ مَخْصُوصَةٍ لَعَلَّهَا فَائِتَةٌ هُنَا، وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ وَاجِبَةً لَمَا تَرَكَهَا فِي الْأَوَّلِ. (انتهى من " طرح التثريب).

قال النووي: وأما حديث عقبة فأجاب أصحابنا وغيرهم: بأن المراد من الصلاة هنا الدعاء (وقوله) صلاته على الميت أي دعا لهم كدعاء صلاة الميت، وهذا التأويل لابد منه، وليس المراد صلاة الجنازة المعروفة بالإجماع، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله عند موته بعد دفنهم بثمان سنين ولو كان صلاة الجنازة المعروفة لما أخرها ثمان سنين. (المجموع).

وقال رحمه الله: قوله (صَلَّى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُد، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَر كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَات .. ).

مَعْنَاهُ: خَرَجَ إِلَى قَتْلَى أُحُد وَدَعَا لَهُمْ دُعَاء مُوَدِّع، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَة فَصَعِدَ الْمِنْبَر فَخَطَبَ الْأَحْيَاء خُطْبَة مُوَدِّع. (شرح مسلم)

ص: 68

‌فائدة: 1

ما الحكمة من عدم الصلاة على الشهيد؟

قال الشيخ ابن عثيمين: (الشهيد) لا يصلي عليه أحدٌ من الناس لا الإمام ولا غير الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (لم يصلِّ على شهداء أحد)، ولأن الحكمة من الصلاة الشفاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يُشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) والشهيد يُكفر عنه كل شيء إلا الدَّيْن؛ لأن الدين لا يسقط بالشهادة بل يبقى في ذمة الميت في تركته إن خَلَّف تركة، وإلا فإنه إذا أخذه يريد أداءه أدى الله عنه.

‌فائدة: 2

اختار ابن القيم أن الإمام مخير إن شاء صلى وإن شاء ترك، فقال: وَالصَّوَاب فِي الْمَسْأَلَة: أَنَّهُ مُخَيَّر بَيْن الصَّلَاة عَلَيْهِمْ وَتَرْكهَا لِمَجِيءِ الْآثَار بِكُلِّ وَاحِد مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا إِحْدَى الرِّوَايَات عَنْ الْإِمَام أَحْمَد، وَهِيَ الْأَلْيَق بِأُصُولِهِ وَمَذْهَبه.

(وَإِنْ سَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، أَوْ وُجِدَ مَيتاً، وَلَا أَثَرَ بِهِ. أَوْ حُمِلَ فَأَكَلَ أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفاً غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ).

أي: في هذه الحالات لا يأخذ حكم الشهيد، بل يغسل ويكفن ويصلى عليه.

لأنه ليس بقتيل الكفار.

فالذي سَقَطَ عَنْ دَابَّتِه: أو من شاهق أو تردى في بئر فمات فيها: يغسل ويصلى عليه.

لأن موته بسبب ذلك، أشبه ما لو مات بغير قتل المشركين، وشرطه أن يكون بغير فعل العدو فأما إذا كان بفعلهم فلا.

أَوْ وُجِدَ مَيتاً، وَلَا أَثَرَ بِه: فكذلك يغسل ويصلى عليه.

لأنه يحتمل أنه مات حتف أنفه، فلا يسقط الغسل الواجب بالشك.

أَوْ حُمِلَ فَأَكَلَ: أي: حمل بعد جرحه فأكل، فإنه يغسل ويصلى عليه.

ص: 69

لتغسيله عليه السلام سعد بن معاذ، ولأن الأكل لا يكون إلا من ذي حياة مستقرة.

أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفاً: فإنه يغسل ويصلى عليه.

لأن سعد بن معاذ أصابه سهم يوم الخندق، فحمل إلى المسجد، ثم مات بعد ذلك، فغسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى عليه، وعمر حمل، وغسل وصلي عليه بحضرة الصحابة، ولم ينكر ذلك أحد، فثبت أنه إجماع.

ولا بد أن تكون هذه الأمور بعد حمله من المعركة، فأما لو كانت قبل حمله من المعركة، مثل إن أكل أو شرب بعد جرحه، وهو في المعركة، ثم مات فيها، فحكمه حكم شهيد المعركة، لا يغسل ولا يصلى عليه، فإن قتلى أحد تكلموا بعد جراحهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم.

(حاشية الروض).

(والسِّقْطُ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْه).

السقط: هو الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه.

أي: أن السقط إذا بلغ أربعة أشهر (ودخل في الخامس)، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.

لحديث الْمُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ. قال: قال صلى الله عليه وسلم (

وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَة) رواه أبو داود.

قال الألباني: والظاهر أن السقط إنما يصلى عليه إذا كان قد نفخت فيه الروح، وذلك إذا استكمل أربعة أشهر، ثم مات، فإما إذا سقط قبل ذلك فلا، لأنه ليس بميت كما لا يخفى.

وقال الشيخ ابن عثيمين:

وأما ما سقط بعد أربعة أشهر فهذا قد نفخت فيه الروح، فيسمى، ويغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين، ويعق عنه على ما نراه، لكن بعض العلماء يقول: لا يعق عنه حتى يتم سبعة أيام حياً، لكن الصحيح أنه يعق عنه؛ لأنه سوف يبعث يوم القيامة ويكون شافعاً لوالديه.

ص: 70

‌فائدة: 1

إذا سقط قبل تمام أربعة أشهر فإنه لا يصلى عليه، لأنه لم تنفخ فيه الروح.

قال ابن قدامة: فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْتِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ، وَيُدْفَنُ.

وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَحَدِيثُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ إلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ نَسَمَةً، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَالْجَمَادَاتِ وَالدَّمِ.

وقال الشيخ ابن عثيمين: ما سقط قبل تمام أربعة أشهر فهذا ليس له عقيقة، ولا يسمى، ولا يصلى عليه، ويدفن في أي مكان من الأرض.

‌فائدة: 2

الجنين إذا خرج حياً واستهل ثم مات فإنه يغسل ويصلى عليه بغير خلاف.

قال في المغني: أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل يصلى عليه.

‌فائدة: 3

وقد نص بعض العلماء على أن السقط يشفع في أبويه يوم القيامة.

قال النووي رحمه الله:

"موتُ الواحدِ من الأولادِ حجابٌ منَ النار، وكذا السقطُ" انتهى. وانظر "المجموع"(5/ 287)

‌فائدة: 4

لا يشترط لصحة غسل الميت أن يكون الغاسل بالغاً، بل لو غسله من دون البلوغ وكان أهلاً لذلك صح غسله.

جاء في (الموسوعة الفقهية): صرح الحنفية والحنابلة؛ بأنه يجوز للصبي إذا كان عاقلاً أن يغسل الميت؛ لأنه تصح طهارته فصح أن يطهر غيره، وهو المتبادر من أقوال المالكية والشافعية " انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " يشترط في الغاسل أن يكون مسلماً وأن يكون مميزاً وأن يكون عاقلاً. (شرح الكافي)

ص: 71

‌فائدة: 5

قال ابن قدامة: وَإِنْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، نُبِشَ، وَغُسِّلَ، وَوُجِّهَ، إلا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَسَّخَ، فَيُتْرَكَ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. انتهى.

‌فائدة: 6

لا ينبش القبر لأجل التكفين.

فقد جاء في الموسوعة الفقهية: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ بِغَيْرِ كَفَنٍ لا يُنْبَشُ قَبْرُهُ، وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ السَّتْرُ، وَقَدْ حَصَلَ التُّرَابُ مَعَ مَا فِي النَّبْشِ مِنَ الْهَتْكِ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ. انتهى.

‌فائدة: 6

وأيضًا لا ينبش إذا لم يصل عليه، وإنما يصلى على القبر.

ففي الموسوعة الفقهية: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ لا يُنْبَشُ قَبْرُ الْمَيِّتِ مِنْ أَجْلِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، مَعَ إِمْكَانِيَّةِ الصَّلاةِ عَلَى الْقَبْرِ. انتهى.

‌فصل

(يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِي مَالِهِ مُقَدّماً عَلَى دَينٍ وَغَيْرِهِ).

تقدم أن التكفين واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم (وكفنوه

).

وتكفين الميت يكون من ماله.

لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته (وكفنوه في ثوبيه).

قال ابن قدامة: وَيَجِبُ كَفَنُ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهِ.

وَلِأَنَّ سُتْرَتَهُ وَاجِبَةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

ثم قال: وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ.

لِأَنَّ حَمْزَةَ، وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رضي الله عنهم لَمْ يُوجَدْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا ثَوْبٌ، فَكُفِّنَ فِيهِ.

وَلِأَنَّ لِبَاسَ الْمُفْلِسِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ كَفَنُ الْمَيِّتِ.

ص: 72

ولَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَئُونَةُ دَفْنِهِ وَتَجْهِيزِهِ، وَمَا لَا بُدَّ لِلْمَيِّتِ مِنْه.

وقال ابن القيم: في الأحكام المستفادة من حديث (وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ):

أن الكفن مقدم على الميراث، وعلى الدَّين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكفن في ثوبيه، ولم يسأل عن وارثه، ولا عن دَيْن عليه، ولو اختلف الحال لسأل.

وكما أن كسوته في الحياة مقدمة على قضاء دَيْنه، فكذلك بعد الممات، هذا كلام الجمهور، وفيه خلاف شاذ لا يُعَوّل عليه.

• والتكفين ومؤن التجهيز مقدم على الدين وعلى غيره من الوصية والإرث.

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ).

أي: إن لم نجد له مالاً، فعلى من تلزمه نفقته.

ص: 73

(إِلاَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ كَفَنُ امْرَأَتِه).

أي: لو ماتت امرأة ولم يوجد لها مال، فإن زوجها (الموسر) لا يلزمه أن يكفنها.

لأن النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ وَالْبَيْنُونَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْقَطَعَ بِالْفُرْقَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِالْمَوْتِ فَأَشْبَهَتْ الْأَجْنَبِيَّةَ. (المغني).

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجب على الزوج نفقة كفن زوجته.

وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ومالك.

وقد سئل الشيخ السعدي: هل يجب على الزوج كفن الزوجة؟

فأجاب: الصحيح أنه يجب على الزوج كفن امرأته، موسرة كانت أو معسرة، وهو من النفقة، ومن المعاشرة بالمعروف، ومما يعده الناس منكراً أنه إذا ماتت زوجة الغني المعسرة أنه لا يجب عليه كفنها.

ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين.

أما الزوجة فلا يلزمها كفن زوجها، لأنها لا يجب عليها أن تنفق عليه حال الحياة.

(وَيُسْتَحَبُّ تَكْفِينُ رَجُلٍ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ بِيض).

أي: يستحب أن يكون كفن الرجل في ثلاث لفائف بيض.

أ- لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي أَثْوَابٍ بِيضٍ يَمَانِيَةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ) متفق عليه.

فهذا الحديث دليل على أن الأفضل في الكفن أن يكون بثلاثة أثواب.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

ب-ولأن الله لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل.

قال الإمام أحمد: أصح الأحاديث في كفن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث عائشة.

قال ابن حزم: ما تخير الله تعالى لنبيه إلا أفضل الأحوال.

ص: 74

‌فائدة: 1

اتفق العلماء على أنه لا يجب أكثر من ثوب واحد يستر جميع البدن.

‌فائدة: 2

قوله (لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ) دليل على أن الأفضل ألا يكون في الكفن قميص ولا عمامة.

وهذا مذهب الجمهور.

وقيل: يستحب أن يكون فيه القميص والعمامة.

وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة.

قالوا: إن قول عائشة ليس فيها قميص ولا عمامة أي ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة.

والصحيح القول الأول.

‌فائدة: 3

الحديث دليل على أن الأفضل أن يكون الكفن لونه أبيض.

أ-للحديث السابق.

ب-ولحديث (إن من أفضل ثيابكم البياض فالبسوها وكفنوا بها موتاكم).

قال النووي: مجمع عليه: أي على استحبابه.

‌فائدة: 4

فإن ضاق الكفن ولم يوجد كفن يستر جميع البدن ستر رأسه وجعل على رجليه حشيشاً.

لحديث خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ (هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللَّهِ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئاً مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ. قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ نَمِرَةٌ فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِى رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ». وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا).

ص: 75

[فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئاً] قال النووي: معناه لم يوسع عليه الدنيا ولم يعجل له شيء من جزاء عمله. [وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ] أي: أدركت ونضجت. [فَهُوَ يَهْدِبُهَا] بفتح أوله وسكون الهاء أي يقطفها ويجنيها، وهذا استعارة لما فتح عليهم من الدنيا.

قال ابن قدامة: فإن لم يجد إلا ما يستر العورة سترها لأنها أهم في الستر بدليل حال الحياة.

‌فائدة: 5

قال ابن قدامة: وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فِي الْكَفَنِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

‌فائدة: 6

يجوز التكفين بالقميص لكن الأفضل ترك ذلك.

أ- لحديث ابَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (لَمَّا تُوُفِّىَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ أَنْ يُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّىَ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّىَ عَلَيْهِ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّى عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّىَ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا خَيَّرَنِيَ اللَّهُ فَقَالَ (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ». قَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ. فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) متفق عليه.

ب- وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا قَالَ سُفْيَانُ: وَقَالَ أَبُو هَارُونَ يَحْيَى: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَانِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ، قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ) رواه البخاري.

ص: 76

لكن الأفضل ترك ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفن في قميص.

قال النووي: لا يكره تكفين الميت في القميص،

ثم ذكر الأحاديث السابقة ..

وقال ابن قدامة: التكفين في القميص والمئزر واللفافة غير مكروه، وإنما الأفضل الأول، وهذا جائز لا كراهة فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات. رواه البخاري. (المغني).

وقد ترجم له البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 564) بقوله: باب جواز التكفين في القميص وإن كنا نختار ما اختير لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال بعض العلماء بكراهة التكفين في القميص.

قال النووي: وهذا ضعيف بل باطل من جهة الدليل، لأن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، ولم يثبت في هذا شيء، فالصواب أنه لا يكره، لكنه خلاف الأولى. (المجموع)، (المغني)

‌فائدة: 7

ما سبب إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن به هذا المنافق؟

قيل: لتطييب قلب ابنه. قال النووي: وهو أظهر.

وقيل: لأنه كان قد كسا العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً حين أسر يوم بدر، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم ثوباً بدله لئلا يبقى لكافر عنده فضل.

وقيل: فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إجابة لسؤال ابنه حين سأله ذلك. (المجموع).

ص: 77

(والواجبُ ثوبٌ يسترُ جميعَهُ).

أي: أن الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع الميت، فإذا كفّن بلفافة واحدة تستره جاز، لكن الأفضل هو ما تقدم.

(وَتُكَفَّنُ المَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ إِزَارٍ، وَخِمَارٍ، وَقَمِيصٍ، وَلِفَافَتَيْنِ).

أي: أن المرأة تكفن في خمسة أثواب بخلاف الرجل.

وهذا ما ذهب إليه الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب.

وقد ورد حديث في ذلك: عن لَيْلَى بِنْتَ قَانِفٍ الثَّقَفِيَّةَ، قَالَتْ (كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ وَفَاتِهَا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحِقَاءَ، ثُمَّ الدِّرْعَ، ثُمَّ الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ فِي الثَّوْبِ الآخَرِ، قَالَتْ: وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عِنْدَ الْبَابِ مَعَهُ كَفَنُهَا يُنَاوِلُنَاهَا ثَوْبًا ثَوْبًا) رواه أبو داود، وهو حديث ضعيف لا يصح.

وهذا الحديث له شاهد رواه الجوزقي عن أم عطية رضي الله عنها قالت (فكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما يخمر الحي)

قال الحافظ: إسناده صحيح.

قال ابن قدامة: وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ فِي حَالِ حَيَاتِهَا عَلَى الرَّجُلِ فِي السَّتْرِ لِزِيَادَةِ عَوْرَتِهَا عَلَى عَوْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْت.

ص: 78

وذهب بعض العلماء: إلى أنها تكفن كالرجل.

لعدم الدليل على التفريق.

قال الألباني: والمرأة في ذلك كالرجل، إذ لا دليل على التفريق، وأما حديث ليلى الثقفية في تكفين ابنته في خمسة أثواب فلا يصح إسناده.

‌فائدة:

جمهور العلماء على أن تفصيل هذه الخمسة هي: إزار وخمار وقميص ولفافتان تلف فيهما.

(يوضع بعضها فوق بعض، ويوضع عليها الميت مستلقياً، ثم يرد طرف اللفافة العليا الأيمن ثم الأيسر، ثم الباقيان هكذا، ويكون أكثر الفاضل من جهة الرأس، هذا إذا كان الكفن طائلاً، ثم يعقدها، وتحل في القبر).

هذه طريقة التكفين: يوضع الميت فوق الكفن، وهو للرجل ثلاث لفائف بيض، يوضع بعضها فوق بعض، ثم يرد طرف اللفافة العليا من جانب الميت الأيمن على صدره، ثم طرفها من جانبه الأيسر، ثم يفعل باللفافة الثانية ثم الثالثة كذلك، ثم يرد طرف اللفائف من عند رأس الميت ورجليه ويعقدها.

قوله (ويجعل أكثر الفاضل على رأسه) أي: إذا كان الكفن طويلاً، فليجعل الفاضل من جهة رأسه، أي: يرده على رأسه، وإذا كان يتحمل الرأس والرجلين فلا حرج، ويكون هذا أيضاً أثبت للكفن.

(وتُحلّ في القبرِ).

أي: يستحب حل العُقَد من الميت بعد دفنه؛ وذلك لأنها إنما عقدت خوف انتشار الكفن، فإذا أُدخل القبر حُلت.

أ- لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع نعيم بن مسعود في القبر نزع الأخلة بفيه. رواه البيهقي.

ب- ما جاء عن بعض الصحابة والتابعين من أن الميت إذا وضع في القبر حلّت عنه عقد الأكفان.

ج- أن عقد الكفن إنما كان للخوف من انتشاره، وقد أمن ذلك بدفن الميت.

قال ابن قدامة: وَأَمَّا حَلُّ الْعُقَدِ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ، فَمُسْتَحَبٌّ; لِأَنَّ عَقْدَهَا كَانَ لِلْخَوْفِ مِنْ انْتِشَارِهَا، وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ بِدَفْنِهِ، وَقَدْ رُوِيَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَدْخَلَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ الْقَبْرَ نَزَعَ الْأَخِلَّةَ بِفِيهِ)، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ نَحْوُ ذَلِك.

ص: 79

وقال الشيخ ابن عثيمين: حل عقد اللفائف ورد فيه أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إذا أدخلتم الميت القبر فحلو العقد).

أما كشف وجه الميت كله، فلا أصل له، وغاية ما ورد فيه - إن صح - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(إذا مت ووضعتموني في قبري فأفضوا بخدي إلى الأرض) " انتهى.

الخلاصة: يستحب أن تحل العقد في القبر.

‌فصل

(والصلاة عليه فرض كفاية).

وقد تقدم ذلك.

لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا فِي غَيْرِ حَدِيثٍ:

كَقَوْلِهِ فِي الْغَالِّ (صَلُّوا عَلَى أَصْحَابِكُمْ)، وَقَوْلِهِ (إنَّ صَاحِبَكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ).

وَقَوْلِهِ (صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ). وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَّا وَاحِدٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَعْذُورٌ.

(وتسقطُ بمكلفٍ ولو أنثى).

أي: ويسقط الوجوب في الصلاة على الميت بصلاة مكلف واحد ولو أنثى، كغسله وتكفينه ودفنه.

لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة، فلم يشترط لها العدد.

ص: 80

(وتسن جماعة).

أي: أن الأفضل في صلاة الجنازة أن تكون في جماعة.

لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ عَلَيْهِ.

فإن صلوا على الجنازة فرادى جاز ذلك.

قال النووي: تجوز صلاة الجنازة فرادى، والسنة أن تُصلى جماعة.

للحديث (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجب) مع الأحاديث المشهورة في الصحيح في ذلك، مع إجماع المسلمين، وكلما كثر الجمع كان أفضل. (المجموع)

وجاء في (الموسوعة الفقيهة)

"ونص الحنفية والشافعية والحنابلة على أن الجماعة ليست شرطاً لصحة الصلاة على الجنازة وإنما هي سنة

" انتهى.

‌فائدة:

ثبت في الروايات الصحيحة أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا صلاة الجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرادى، ولم يصلوها في جماعة.

قال ابن عبد البر رحمه الله: وأما صلاة الناس عليه أفذاذاً - يعني: على النبي صلى الله عليه وسلم فمجتمع عليه عند أهل السير وجماعة أهل النقل، لا يختلفون فيه. (التمهيد)

وقد ذكر العلماء رحمهم الله في أسباب صلاة الصحابة الجنازة على النبي صلى الله عليه وسلم فرادى أموراً كثيرة، هي:

السبب الأول: قال بعض أهل العلم إن ذلك كان بسبب وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته بالصلاة عليه فرادى، ولكن ذلك لم يثبت

بإسناد صحيح، وإنما ورد في بعض الأحاديث الضعيفة.

ص: 81

السبب الثاني: التنافس الشديد بينهم لتحصيل هذه الفضيلة -وهي إمامة الناس في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم محبة منهم له عليه السلام المحبة العظيمة التي لا يناسبها الإيثار والمسامحة، وإنما التنافس والمشاححة على هذا القرب منه عليه السلام في آخر موقف له بينهم في الدنيا الفانية.

السبب الثالث: تنافس الصحابة رضي الله عنهم في تحصيل البركة من الصلاة عليه على وجه الانفراد والخصوصية دون أن يكون تابعاً فيه لإمام، فلم يكن أحد يقبل أن يتوسط بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم أحد في الصلاة لنيل الأجر والبركة.

يقول الإمام القرطبي: أرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مخصوصاً دون أن يكون فيها تابعاً لغيره.

السبب الرابع: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه، والهيبة أن يتقدم أحد بين يديه يؤم الناس في الصلاة عليه، فقد كان عليه السلام إمام الناس وقائدهم وهاديهم، فلم يجرؤ أحد أن يقف موقفه وأن ينصب نفسه مكانه بعد وفاته وبغير إذنه عليه السلام.

يقول البهوتي الحنبلي: تسن الصلاة عليه - يعني على الميت - جماعة لفعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستمر الناس عليه، إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يصلوا عليه بإمام احتراماً له. (شرح منتهى الإرادات)

قال الشيخ ابن عثيمين: وليس من شرطها الجماعة، فلو صلوا عليها فرادى صح، والنبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه الصحابة فرادى؛ لأنهم كرهوا أن يتخذوا إماماً بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا يأتون يصلون عليه أفراداً الرجال ثم النساء. (شرح الكافي).

ص: 82

(والسُّنَّةُ أَنْ يَقُومَ الإْمَامُ عِنْدَ صَدْرِ الرجل، وَعِنْدَ وَسَطِ المرأة).

أي: أن السنة في صلاة الجنازة، أن يقوم الإمام عند صدر الرجل، ووسط المرأة.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يقف عند رأس الرجل، لا عند صدره، وعند وسط المرأة.

وهذا القول هو الراجح لثبوت السنة بذلك:

أ- عن نافع أبي غالب الخياط قال (شَهِدْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَلَمَّا رُفِعَ أُتِيَ بِجِنَازَةِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَذِهِ جِنَازَةُ فُلَانَةَ ابْنَةِ فُلَانٍ، فَصَلِّ عَلَيْهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا فَقَامَ وَسَطَهَا، وَفِينَا الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْعَدَوِيُّ، فَلَمَّا رَأَى اخْتِلَافَ قِيَامِهِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ الرَّجُلِ حَيْثُ قُمْتَ، وَمِنْ الْمَرْأَةِ حَيْثُ قُمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا الْعَلَاءُ فَقَالَ: احْفَظُوا) رواه أبو داود.

ب- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ (صَلَّيْتُ وَرَاءَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسْطَهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

قال النووي: السنة أن يقف الإمام عند عجيزة المرأة بلا خلاف للحديث; ولأنه أبلغ في صيانتها عن الباقين وفي الرجل وجهان: الصحيح: باتفاق المصنفين، وقطع به كثيرون وهو قول جمهور أصحابنا المتقدمين أنه يقف، عند رأسه، والثاني: قاله أبو علي الطبري عند صدره

، والصواب ما قدمته عن الجمهور، وهو عند رأسه ونقله القاضي حسين عن الأصحاب. (المجموع)

وقال الشوكاني: وإلى ما يقتضيه هذان الحديثان ـ حديث سمرة، وأنس رضي الله عنهما من القيام عند رأس الرجل ووسط المرأة ذهب الشافعي وهو الحق. (نيل الأوطار)

ص: 83

وهناك أقوال أخرى لكنها ضعيفة:

فقيل: يقف على وسط المرأة ووسط الرجل.

استدلوا بحديث سمرة وقالوا: إنه نص في المرأة، ويقاس عليها الرجل.

قال الشوكاني: ولم يصب من استدل بحديث سمرة على أنه يقام حذاء وسط الرجل والمرأة وقال: إنه نص في المرأة ويقاس عليها الرجل، لأن هذا قياس مصادم للنص، وهو فاسد الاعتبار.

وقيل: يقف حذاء صدرهما. وقيل: حذاء الرأس منهما، هذا قول المالكية.

وكل هذه الأقوال ضعيفة لا دليل عليها.

والحق ما سبق: أن يقوم عند وسط المرأة، وعلى رأس الرجل.

‌فائدة: 1

حكم إذا اجتمعت جنائز عديدة من الرجال والنساء:

أ- إن كانوا نوعاً [كلهم رجال] قدم إلى الإمام أفضلهم.

قال النووي: وإن اتحد النوع قدم إلى الإمام أفضلهم. قال إمام الحرمين وغيره: والمعتبر في الفضيلة هنا الورع والتقوى وسائر الخصال المرعية في الصلاة عليه والغلبة على الظن كونه أقرب من رحمة الله تعالى. (المجموع)

وقال الشيخ ابن عثيمين: وإذا اجتمعوا من جنس واحد يعني تعدد الرجال مثلاً نقدِّم إلى الإمام أعلمهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد الذين يدفنون في قبر واحد كان يأمر أيهم أكثر قرآناً فيقدمه في اللحد، وهذا يدل على أن العالم هو الذي يقدم مما يلي الإمام.

ب- وإن كانوا رجالاً ونساء قدم الرجال على النساء.

وهذا قول أكثر العلماء.

ص: 84

فيجعل الرجال مما يلي الإمام ولو كانوا صغاراً.

(ويجوز أن يصلي على كل واحدة من الجنائز صلاة لأنه الأصل).

قال النووي: قال ابن المنذر: وممن قال يقدم الرجال مما يلي الإمام والنساء وراءهم: عثمان بن عفان وعلي وابن عمر وابن عباس والحسن والحسين وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وسعيد بن المسيب والشعبي وعطاء والنخعي والزهري ويحيى الأنصاري ومالك والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، قال: وبه أقول. (المجموع)

وقال الشيخ ابن عثيمين: إذا اجتمعت جنائز، فإنه يُصلَّى عليهم صلاة واحدة، ويُقدَّم الرجال ثم النساء، ويقدم الصبي من الذكور على المرأة، فإذا كان رجل بالغ، وصبي لم يبلغ، وامرأة بالغة، وفتاة لم تبلغ رتبناهم هكذا: الرجل البالغ، ثم الصبي الذي لم يبلغ، ثم المرأة البالغة، ثم الفتاة التي لم تبلغ، ويكون وسط الأنثى بحذاء رأس الرجل.

‌فائدة: 2

كيف يوضعون للصلاة عليهم إذا كانوا رجالاً ونساءً؟

يضعون رأس الرجل بحذاء وسط المرأة.

‌فائدة: 3

علل بعض العلماء حكمة وقوف الإمام وسط المرأة بأنه أستر لها من الناس [وفيه نظر].

‌فائدة: 4

هل تجزئ صلاة الجنازة عن تحية المسجد؟

لا يجلس حتى يصلي ركعتين، لأن صلاة الجنازة ليست من جنس صلاة الركعتين، فلا تجزئه عن تحية المسجد.

ص: 85

(وَيُكَبِّرُ أَرْبَعاً).

أي: يكبر أربع تكبيرات.

وتكبيرات الجنائز كلها أركان، لأنها بمنزلة الركعات.

(يَقْرَأُ فِي الأْولَى بَعْدَ التَّعَوُّذِ الفَاتِحَةَ).

أي: بعد التكبيرة الأولى وبعد التعوذ والبسملة يقرأ الفاتحة.

والدليل على ذلك: ما ورد عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة) رواه البخاري.

فقوله (لتعلموا أنها سنة) أي طريقة مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد ما يقابل الواجب.

وقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ركن لا تصح الصلاة بدونها.

وهذا قول الشافعية، والحنابلة.

أ- لعموم حديث عبادة (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) متفق عليه.

ب-وحديث أبي هريرة مرفوعاً (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج غير تمام) رواه مسلم.

وصلاة الجنازة صلاة شرعية لقوله (صلوا على صاحبكم)، وإذا كانت صلاة فتدخل في عموم الأدلة القاضية بوجوب قراءة الفاتحة في كل صلاة.

ج- ولقول ابن عباس (

لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّة) والسنة إذا أطلقت انصرفت إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وقد قال صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي).

ص: 86

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا تشرع قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

وهذا قول الحنفية والمالكية.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود.

وذهب بعضهم: إلى استحباب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، لعدم ورود دليل يدل على وجوبها، ولأن المقصود الأكبر من صلاة الجنازة هو الدعاء للميت.

والراجح الوجوب.

قال ابن تيمية: وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاثة أقوال: قيل: لا تستحب بحال، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك، وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة، وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة جاز، وهذا هو الصواب. (الفتاوى الكبرى).

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والفاتحة في صلاة الجنازة ركن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وصلاة الجنازة صلاة؛ لقوله تعالى (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً) فسماها الله صلاة؛ ولأن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ الفاتحة على جنازة، وقال (لتعلموا أنها سنة).

‌فائدة: 1

لا يستحب الجهر بالقراءة في صلاة الجنازة.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

وابن عباس إنما جهر للتعليم.

ص: 87

وذهب بعض العلماء إلى استحباب الجهر.

فقد جاء في حديث ابن عباس عن طلحة بلفظ (فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة فجهر حتى سمعنا

) رواه النسائي.

والأول أصح.

عن أبي أمامة بن سهل قال: (السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثاً، والتسليم عند الآخرة) رواه النسائي.

‌فائدة: 2

لا يشرع دعاء استفتاح في صلاة الجنازة.

وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.

أ-أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استفتح في صلاة الجنازة.

ب-قالوا: إن صلاة الجنازة شرع فيها التخفيف، فناسب ترك الاستفتاح فيها.

قال النووي: وَأَمَّا دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، واتفق الأصحاب على أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَرْكُهُ.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: أما الاستفتاح فلا بأس بفعله ولا بأس بتركه، وتركه أفضل أخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(أسرعوا بالجنازة).

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يشرع دعاء الاستفتاح في الصلاة على الجنازة؟

فأجاب: ذكر العلماء أنه لا يستحب، وعللوا ذلك بأن صلاة الجنازة مبناها على التخفيف، وإذا كان مبناها على التخفيف، فإنه لا استفتاح.

ص: 88

‌فائدة: 3

اختلف العلماء: هل يستحب قراءة سورة بعد الفاتحة؟

قيل: يستحب.

واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله.

للرواية السابقة (قرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر بالقراءة). وقد صحح بعضهم هذه الرواية كالإمام النووي، والألباني.

وقيل: لا تستحب.

وأنكر بعض العلماء هذه الزيادة كالبيهقي ولم يخرجها البخاري. والله أعلم.

(وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّانِيَةِ كالتَّشَهُّدِ)

أي: فيكبر التكبيرة الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي عليه على أي صفة، وإن صلى عليه كما يصلي عليه في التشهد فحسن.

(وَيَدْعُو فِي الثَّالِثَةِ بما ورد).

أي: يكبر الثالثة ويدعو بعدها للميت، والأفضل أن يكون بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يعرفه فبأي دعاء دعا جاز.

عن أبي أمامة قال (السنة في صلاة الجنازة، أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت) رواه البيهقي.

ويدعو بما ورد، ومما ورد:

عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ (صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنْ اَلْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ اَلثَّوْبَ اَلْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَدْخِلْهُ اَلْجَنَّةَ، وَقِهِ فِتْنَةَ اَلْقَبْرِ وَعَذَابَ اَلنَّارِ، قال عوف: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت، لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ص: 89

وورد أيضاً:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا، وَأُنْثَانَا، اَللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى اَلْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى اَلْإِيمَانِ، اَللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ) رواه أبوداود. (وقد ضعفه جمع من العلماء).

‌فائدة: 1

ينبغي الإخلاص في الدعاء للميت.

عن أبي هريرة. عن اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى اَلْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ اَلدُّعَاءَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

‌فائدة: 2

لا يتعين دعاء معين، وإن دعا بما ورد فهو أفضل كما تقدم.

قال الشوكاني: فيه دليل على أنه لا يتعين دعاء مخصوص من هذه الأدعية الواردة.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: "والدعاء للميت استغفار له ودعاء بما يحضر الداعي من القول الذي يرجو به الرحمة له والعفو عنه وليس فيه عند الجميع شيء مؤقت [يعني: محدد].

(الاستذكار).

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: والأفضل أن يقول اللهم اغفر لحينا وميتنا

كل هذا محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن دعا له بدعوات أخرى فلا بأس.

‌فائدة: 3

قوله (أخلصوا له الدعاء):

قيل: تخصيص الميت بالدعاء، فلا يدعى لغيره على وجه الخصوص.

وقيل: الدعاء له بإخلاص وحضور قلب.

ص: 90

فإخلاص الدعاء للميت يكون بالتعيين وبالصفة:

بالتعيين: بأن يخص الميت بالدعاء وحده.

وبالصفة: بأن يدعو له بصدق وإخلاص وحضور قلب.

‌فائدة: 4

ما حكم الجهر بالدعاء؟

اختلف العلماء بالجهر بالدعاء:

فقيل: يجهر.

وقيل: يسر، وهذا هو الصحيح.

لأن الأصل في الدعاء الإسرار، ولا يجهر إلا لقصد التعليم.

‌فائدة: 5

فيه أن الدعاء يصل للميت، وقد تضافرت النصوص ف ذلك.

قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له

) رواه مسلم.

وأحاديث الباب (اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ

) (اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا

).

وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد الفراغ من دفن الميت (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت) رواه أبو داود.

(وَإِنْ كَانَ صَغِيراً يدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة).

أي: إذا كان الميت طفلاً دعيَ بهذا الدعاء.

لحديث الْمُغِيرَة بْن شُعْبَةَ. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَة) رواه أبو داود.

ص: 91

‌فائدة: 1

إذا مات الطفل، فإنه لا يدعى له بالمغفرة، وذلك لأنه لم يكتب عليه ذنب، والمغفرة هي ستر الذنب وعدم المؤاخذة عليه.

‌فائدة: 2

استحب بعض العلماء أن يقول في الدعاء للطفل: اللهم اجعله سلفاً وفرطاً لوالديه.

قال الشوكاني: إذا كان المصلى عليه طفلاً، استحب أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً وأجراً، روي ذلك عن البيهقي من حديث أبي هريرة.

[فرطاً] الفرط بالتحريك هو الذي يتقدم الواردين على الماء، يهيئ لهم ما يحتاجون إليه من الأرسال والدلاء، والمراد هنا: شافعاً يشفع لوالديه وللمؤمنين المصلين عليه.

[سلفاً] سلف الرجل: آباؤه المتقدمون.

قال ابن قدامة: وإن كان الميت طفلاً، جعل مكان الاستغفار له: اللهم اجعله فرطاً لوالديه، وذخراً وسلفاً وأجراً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، اللهم اجعله في كفالة إبراهيم وألحقه بصالح سلف المؤمنين، وأجره برحمتك من عذاب الجحيم، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله

ونحو ذلك، وبأي شيء دعا مما ذكرنا أو نحوه أجزأه وليس فيه شيء مؤقت.

(المغني).

وقال البهوتي: وإنما لم يسن الاستغفار له؛ لأنه شافع غير مشفوع فيه ولا جرى عليه قلم، فالعدول إلى الدعاء لوالديه أولى من الدعاء له، وما ذكر من الدعاء لائق بالمحل، مناسب لما هو فيه، فشرع فيه كالاستغفار للبالغ. (كشاف القناع).

وقال الشيخ ابن عثيمين: هكذا قال الفقهاء وهو دعاء طيب، وإن كان بعضه لم يكن مأثوراً، لكنه دعاء طيب.

ص: 92

(وَيَقِفُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ قَلِيلاً، وَيُسَلِّمُ وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ)

أي: بعد التكبيرة الرابعة يقف قليلاً ثم يسلم تسليمة واحدة.

‌فائدة: 1

قوله (وَيُسَلِّمُ وَاحِدَةً).

الذي عليه أكثر أهل العلم: أن التسليم من صلاة الجنازة مرةً واحدةً عن اليمين.

قال ابن عبد البر: فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ: عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَة.

وقال ابن قدامة: "التَّسْلِيمُ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، عَنْ سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا.

قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ إلَّا عَنْ إبْرَاهِيمَ [أي النخعي]. (المغني)

وقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ، قِيلَ لأبي عبد الله [يعني: الإمام أحمد]: أَتَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَتَيْنِ؟

قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً، خَفِيفَةً عَنْ يَمِينِهِ، فَذَكَرَ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَوَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ، وَابْنَ أَبِي أَوْفَى، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ.

وَزَادَ البيهقي: عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وأبا أمامة بن سهل بن حنيف، فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ مِنَ الصَّحَابَة. (زاد المعاد)

وقد ذكر هذه الآثار بأسانيدها ابن أبي شيبة في "المصنف".

وقال أبو عبد الله الحاكم: والتسليمة الواحدة على الجنازة؛ قد صحت الرواية فيه عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبي هريرة أنهم كانوا يسلمون على الجنازة تسليمة واحدة.

ص: 93

وقال الشيخ ابن باز: هذا هو السنة، تسليمة واحدة، هذا هو الثابت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تسليمة واحدة عن اليمين.

وذهب بعض العلماء إلى أن السنة في صلاة الجنازة أن يسلم تسليمتين، كما هو الحال في الفرائض والنوافل.

واستدلوا على ذلك بحديث ابن مسعود: (ثَلَاثُ خِلَالٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُنَّ تَرَكَهُنَّ النَّاسُ، إِحْدَاهُنَّ: التَّسْلِيمُ عَلَى الْجَنَازَةِ مِثْلَ التَّسْلِيمِ فِي الصَّلَاة) رواه البيهقي. وقال النووي في "الخلاصة"(2/ 982): "إسناده جيد"، وحسنه الألباني.

وهذا الحديث ليس صريحاً في التسليمتين:

فيحتمل أن يكون المراد بالتشبيه أصل السلام، أي أنه كان يسلم في الجنازة، كما كان يسلم في الصلاة.

أو أن المراد أنه كان يقول: السلام عليكم ورحمة الله، كما هو الحال في الصلاة.

أو أنه مثل تسليم الصلاة من حيث الجهر.

وفي حمله على أحد هذه الاحتمالات يكون موافقاً لآثار الصحابة في التسليمة الواحدة، وحمله على ما يوافق ما جرى عليه عملهم، أولى من حمله على ما يخالف ذلك.

والقول بالتسليمتين ورد عن بعض السلف: ففي المصنف بسند جيد عن جابر بن زيد، والشعبي، وإبراهيم النخعي، أنهم كانوا يسلمون تسليمتين.

ص: 94

وقال ابن المنذر: تَسْلِيمَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ

؛ لِأَنَّهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُمُ الَّذِينَ حَضَرُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَفِظُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ منْ رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْهُ مِنْهُمْ: أنَّ التَّسْلِيمَ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَكُونُ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ خَارِجًا مِنَ الصَّلَاة. (الأوسط).

‌فائدة: 2

قوله (وَيَقِفُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ قَلِيلاً، وَيُسَلِّم) ظاهره أنه لا يدعو بعد الرابعة.

وقيل: يشرع الدعاء بعد الرابعة.

جاء في (الموسوعة الفقهية): ثم يكبر الرابعة:

ولا دعاء بعد الرابعة.

وهو ظاهر مذهب الحنفية ومذهب الحنابلة.

وقيل عند الحنفية: يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة

) إلخ.

وقيل: (ربنا لا تزغ قلوبنا) إلخ.

وقيل: يخير بين السكوت والدعاء، وعند الشافعية والمالكية يدعو بعد الرابعة. (الموسوعة).

والقول باستحباب الدعاء بعد التكبيرة الرابعة هو الأقرب إلى الصواب.

قال النووي: ودليل استحبابه ـ أي من قال بالمشروعية:

(أن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما كبر على جنازة بنت له فقام بعد التكبيرة الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يستغفر لها ويدعو، ثم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هكذا). وفي رواية: (كبر أربعاً فمكث ساعة حتى ظننا أنه سيكبر خمساً، ثم سلم عن يمينه وعن شماله، فلما انصرف قلنا له، فقال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، أو هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي قال الحاكم: حديث صحيح.

ص: 95

وقال الشوكاني: وفيه دليل على استحباب الدعاء بعد التكبيرة الآخرة قبل التسليم وفيه خلاف، والراجح الاستحباب لهذا الحديث.

(نيل الأوطار).

‌فائدة: 3

قوله (ثم يكبر الرابعة).

أكثر ما ورد هو التكبير أربع تكبيرات.

ولذلك ذهب جمهور العلماء: أنه لا يزاد على أربع تكبيرات.

قال الترمذي: العمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع تكبيرات، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.

وقال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع.

قال ابن عبد البر: وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع.

واستدلوا:

كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى اَلنَّجَاشِيَّ فِي اَلْيَوْمِ اَلَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إلى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وعن أبي وائل قال: (كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً، فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كل

رجل منهم بما رأى، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات). رواه البيهقي وحسنه الحافظ

ورجح الجمهور ما ذهبوا إليه بمرجحات:

أولاً: أنها ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عدداً ممن روى منهم الخمس.

ثانياً: أنها في الصحيحين.

ثالثاً: أنه أجمع على العمل بها الصحابة.

رابعاً: أنها آخر ما وقع منه صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس بلفظ: (آخر ما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنائز أربع) لكنه ضعيف لا يصح كما قال البيهقي والحافظ ابن حجر.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا بأس بالزيادة على ذلك.

ص: 96

لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر خمساً:

فعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: (كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ) رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَصْلُهُ فِي "اَلْبُخَارِيِّ".

وهذا القول هو الصحيح.

وخاصة إذا كان من أهل العلم والفضل، أو من كان له أثر كبير في الأمة، فلا مانع أن يكبر عليه خمساً أو ستاً.

‌فائدة: 4

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل صلاة الجنازة في الحرم المكي تضاعف مثل بقية الصلوات في أجر القيراط؟

فأجاب: هذا فيه خلاف بين العلماء، بعض العلماء يقول: الذي يضاعف في المسجد الحرام هو الصلوات الخمس فقط وغيرها لا يضاعف، والذي يظهر من الحديث العموم، وتكون الصلاة على الجنازة داخلة في العموم تضاعف في المسجد الحرام. والله أعلم.

(لقاء الباب المفتوح).

‌فائدة: 5

صلاة الجنازة تفعل في أوقات النهي الطويلة، إجماعاً.

أي بعد طلوع الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروبها.

قال ابن قدامة: أما الصلاة على الجنازة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تميل للغروب، فلا خلاف فيه.

قال ابن المنذر: إجماع المسلمين في الصلاة على الجنازة بعد العصر والصبح.

وأما الصلاة عليها في الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة بن عامر فلا يجوز (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا).

وذكره للصلاة مقروناً بالدفن دليل على إرادة صلاة الجنازة. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله [يعني: الإمام أحمد] عن الصلاة على الجنازة إذا طلعت الشمس؟ قال: أما حين تطلع فما يعجبني. ثم ذكر حديث عقبة بن عامر. وقد روي عن جابر، وابن عمر نحو هذا القول، وذكره مالك في " الموطأ " عن ابن عمر. وقال الخطابي: هذا قول أكثر أهل العلم.

ص: 97

وإنما أبيحت بعد الصبح والعصر لأن مدتهما تطول، فالانتظار يخاف منه عليها، وهذه مدتها تقصر" انتهى من المغني".

(وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَة).

أي: يسن أن يرفع يديه مع كل تكبيرة من تكبيرات صلاة الجنازة.

لا خلاف بين العلماء رحمهم الله أن السنة رفع اليدين في التكبيرة الأولى من صلاة الجنازة.

قال النووي: قال ابن المنذر في كتابيه الإشراف والإجماع: أجمعوا على أنه يرفع في أول تكبيرة، واختلفوا في سائرها.

أما ما عداها من التكبيرات فقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يرفع أو لا؟

والمذهب وهو مذهب الشافعية: أنه يسن أن يرفع يديه مع كل تكبيرة.

وهو اختيار ابن المنذر.

قال الترمذي: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا فَرَأَى أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ عَلَى الْجَنَازَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلاَّ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ. (جامع الترمذي)

ص: 98

والدليل على استحباب الرفع في كل تكبيرة:

أ- أنه ورد عن ابن عمر (أنه صلى الله عليه وسلم كبر على جنازة أربع تكبيرات) رواه الدارقطني وأعله، وحسنه ابن باز.

ب- أنه صح عن ابن عمر أنه فعل ذلك، رواه البخاري معلقاً.

ج- قال ابن حجر: وقد صح عن ابن عباس أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرات الجنائز. رواه سعيد بن منصور.

قال الشيخ ابن باز: السنة رفع اليدين مع التكبيرات الأربع كلها; لما ثبت عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يرفعان مع التكبيرات كلها، ورواه الدار قطني مرفوعاً من حديث ابن عمر بسند جيد.

‌فائدة:

يستحب جعل المصلين على الجنازة ثلاثة صفوف.

لحديث مَالِك بْن هُبَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَوْجَب)

قَالَ: فَكَانَ مَالِكٌ إِذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الْجَنَازَةِ، جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ. رواه أبو داود.

قال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَفَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ - حِمْصِيٌّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ) قَالَ فَكَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ إذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الْجِنَازَةِ جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ.

قَالَ أَحْمَدُ: أُحِبُّ إذَا كَانَ فِيهِمْ قِلَّةٌ أَنْ يَجْعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ، قَالُوا: فَإِنْ كَانَ وَرَاءَهُ أَرْبَعَةٌ كَيْفَ يَجْعَلُهُمْ؟ قَالَ: يَجْعَلُهُمْ صَفَّيْنِ، فِي كُلِّ صَفٍّ رَجُلَيْنِ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً فَيَكُونُ فِي صَفٍّ رَجُلٌ وَاحِدٌ.

ص: 99

(وواجِبُها).

أي: المراد بالواجبات هنا أركانها، أي: أركان صلاة الجنازة.

(قيامٌ).

أي: لابد من القيام فيها.

لأنها صلاة وجب القيام فيها.

قال ابن قدامة: لأنها صلاة مكتوبة فوجب القيام بها كالظهر. (الكافي)

‌فائدة:

قال ابن قدامة: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجَنَائِزِ وَهُوَ رَاكِبٌ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْقِيَامَ الْوَاجِبَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

(وتكبيراتٌ أربعٌ).

لأن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر على النجاشي أربعاً.

جاء في (الموسوعة الفقهية) لا خلاف بين الفقهاء في أن تكبيرات الجنازة أركان لا تصح صلاة الجنازة إلا بها.

قال الشيخ ابن عثيمين: لأن كل تكبيرة منها كالركعة.

(والفاتحةُ).

أي: وقراءة الفاتحة.

وقد تقدم أنها ركن لحديث (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).

ص: 100

‌(والصلاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم

-).

هذا هو المشهور من المذهب لأنهم يرون أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركن في الفرض فكذلك في الصلاة على الجنازة.

والجمهور: مستحبة، وتقدم الخلاف.

(والدعاء للميت).

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء).

ب- ولأنه المقصود فلا يجوز الإخلال به. (الكافي)

(والسلام).

لعموم حديث (وتحليلها التسليم).

لكن كما تقدم يكفي تسليمة واحدة.

(ويسن اتباع الجنازة).

أي: يسن اتباع الجنازة وحضورها للصلاة عليها ودفنها.

وقد جاء في ذلك الفضل العظيم:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ. وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ. قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ).

وَلِمُسْلِمٍ (أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ).

ص: 101

ففي هذا الحديث أن اتباع الجنازة على مرتبتين:

الأولى: اتباعها من عند أهلها حتى الصلاة عليها.

الثانية: إتباعها من عند أهلها حتى يفرغ من دفنها.

وهذه المرتبة الثانية أفضل للحديث السابق حيث يحصل على قيراطين.

‌فائدة: 1

قوله (من شهدها حتى تدفن) ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن.

وقيل: يحصل بمجرد الوضع في اللحد، لرواية عند مسلم (حتى توضع في اللحد).

وقيل: عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب، لرواية (حتى توضع في القبر) والله أعلم.

قال النووي رحمه الله: وفيما يحصل به قيراط الدفن وجهان

، قلت: والصحيح أنه لا يحصل إلا بالفراغ من الدفن لرواية

البخاري ومسلم: (ومن تبعها حتى يفرغ من دفنها فله قيراطان)، وفي رواية مسلم (حتى يفرغ منها)

ثم قال رحمه الله: والحاصل أن الانصراف عن الجنازة مراتب:

أ-ينصرف عقب الصلاة.

ب-ينصرف عقب وضعها في القبر، وسترها باللبن قبل إهالة التراب.

ج-ينصرف بعد إهالة التراب وفراغ القبر.

د- يمكث عقب الفراغ، ويستغفر للميت ويدعو له، ويسأل له التثبيت.

فالرابعة أكمل المراتب، والثالثة تحصل القيراطين، ولا تحصله الثانية على الأصح ويحصل بالأولى قيراط بلا خلاف. (شرح المهذب)

ص: 102

وقال الحافظ في "فتح الباري" عند شرحه لحديث (47): وقد أثبتت هذه الرواية: (وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ) أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن وأن الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط واحد وهذا هو المعتمد.

‌فائدة: 2

قال ابن قدامة رحمه الله: واتباع الجنائز على ثلاثة أضرب:

أحدها: أن يصلي عليها، ثم ينصرف

الثاني: أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن ..

الثالث: أن يقف بعد الدفن، فيستغفر له. (المغني)

‌فائدة: 3

نستفيد من قوله (مَنْ شَهِدَ اَلْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ) أن القيراط يحصل لمن صلى فقط ولو لم يقع اتباع.

قال الحافظ في الفتح: ومقتضاه أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة وبذلك صرح المحب الطبري وغيره، والذي يظهر لي: أن القيراط يحصل أيضاً لمن صلى فقط؛ لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع مثلاً وصلى، ورواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ (أصغرهما مثل أحد) يدل على أن القراريط تتفاوت، ووقع أيضاً في رواية أبي صالح المذكورة عند مسلم (من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط) وفي رواية نافع بن جبير عن أبي هريرة عند أحمد:(ومن صلى ولم يتبع فله قيراط) فدل على أن الصلاة تحصل القيراط، وإن لم يقع اتباع، ويمكن أن يحمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة. (فتح الباري)

ص: 103

‌فائدة: 4

إذا تعددت الجنائز، وصليَ عليها صلاة واحدة، فهل يتعدد الأجر؟

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: في الحرم تتعدد الجنائز فهل يتعدد الأجر الذي أخبر عنه الرسول عليه السلام؟

فأجاب: إذا تعددت الجنائز في صلاة واحدة هل يأخذ الإنسان أجر عدد هذه الجنائز؟ الظاهر: نعم. لأنه يصدق عليه أنه صلى على جنازتين أو ثلاث أو أربع فيأخذ الأجر، لكن كيف ينوي؟ ينوي الصلاة على واحدة أو على الجميع؟ ينوي الصلاة على الجميع. (الباب المفتوح)

‌فائدة: 5

أن هذا الفضل في اتباع الجنائز إنما هو للرجال دون النساء، لقول أم عطية (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) متفق عليه.

(وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّكْبِيرِ قَضَاهُ عَلَى صِفَتِه).

أي: من فاته شيء من تكبيرات الجنائز فإنه يقضيه على صفته.

لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أقيمت الصلاة فامشوا إليها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا).

وصفة القضاء: أن يعتبر ما أدركه هو أول صلاته وما يقضيه هو آخرها.

لقوله صلى الله عليه وسلم (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فإذا أدرك الإمام في التكبيرة الثالثة كبر وقرأ الفاتحة، وإذا كبر الإمام الرابعة كبر بعده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سلم الإمام كبر المأموم المسبوق، ودعا للميت دعاء موجزاً، ثم يكبر الرابعة. (ابن باز)

والمسألة فيها أقوال:

قيل: يقضي متوالياً متتابعاً.

وهذا مذهب الأحناف.

وقيل: يقضي ما فاته من التكبيرات على صفتها.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

وقيل: المسبوق يقضي ما فاته على صفته ما لم يخشى رفع الجنازة.

والراجح أنه يقضيها على صفتها، وإن خشي رفعها يتمها خفيفة.

ص: 104

(وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَلَّى عَلَى القَبْرِ إلى شهر).

أي: من فاتته الصلاة على الميت، فإنه يجوز أن يصلي عليه على قبره.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

لورود ذلك في أحاديث، منها:

أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ اَلْمَرْأَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ اَلْمَسْجِدَ- قَالَ: فَسَأَلَ عَنْهَا اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مَاتَتْ، فَقَالَ:(أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي"? فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ: "دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا"، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ب- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَبْرٍ، بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعاً) متفق عليه.

ج- وعَنْ أَنَسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَبْرٍ) رواه مسلم.

د- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلاً، فَقَالَ: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ قَالُوا: الْبَارِحَةَ. قَالَ: أَفَلا آذَنْتُمُونِي!؟ قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ) رواه البخاري.

هـ- وعن يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه: (أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَرَأَى قَبْرًا جَدِيدًا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذِهِ فُلانَةُ، مَوْلاةُ بَنِي فُلَانٍ، فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَاتَتْ ظُهْرًا وَأَنْتَ نَائِمٌ قَائِلٌ (أي: في القيلولة) فَلَمْ نُحِبَّ أَنْ نُوقِظَكَ بِهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: لا يَمُوتُ فِيكُمْ مَيِّتٌ مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ إِلا آذَنْتُمُونِي بِهِ؛ فَإِنَّ صَلاتِي لَهُ رَحْمَةٌ) رواه النسائي وحسنه ابن عبد البر في التمهيد، وصححه الألباني في صحيح النسائي.

د-عن سعيد بن المسيب (أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر). رواه الترمذي وهو مرسل

ص: 105

وقد روى ابن أبي شيبة في "المصنف" مجموعة من الآثار عن الصحابة والتابعين ممن صلوا على القبور بعد الدفن: منهم عائشة رضي الله عنها حين صلت على قبر أخيها عبد الرحمن.

وابن عمر صلى على قبر أخيه عاصم، وسليمان بن ربيعة وابن سيرين وغيرهم. وكذلك ذكره ابن حزم في "المحلى"(3/ 366) عن أنس وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً.

قال الإمام أحمد: ومن يشك في الصلاة على القبر، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان.

(إلى شهر).

أي: يصلي عليها إلى شهر، ولا يصلى عليها بعد شهر.

وهذا مذهب الحنابلة.

قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر.

أ-واستدلوا بمرسل سعيد بن المسيب السابق.

قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر.

ب-قالوا: ولأن الشهر مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها، فجاز الصلاة عليه فيها.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يصلى على الميت في القبر ما لم يبل جسده ويتحقق تمزقه وذهابه.

ودليل هؤلاء: القياس على ما لو كان الميت خارج القبر على وجه الأرض.

وذهب بعضهم: إلى أن يصلى على الميت في القبر إلى ثلاثة أيام.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

واستدل هؤلاء بأن الصحابة كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أيام.

ص: 106

وذهب بعضهم: إلى أن الصلاة على القبر تكون لكل من كان من أهل فرض الصلاة على الميت عند موته.

وهذا هو الأرجح عند جمهور الشافعية.

وذهب بعضهم: إلى أن الصلاة على القبر جائزة أبداً.

وهذا وجه عند الشافعية، وإليه ذهب ابن عقيل من الحنابلة والظاهرية.

واستدل هؤلاء بحديث عقبة بن عامر قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحُد بعد ثماني سنين، كالمودع للأحياء والأموات

) متفق عليه.

وبوب أبو داود على هذا الحديث فقال: باب الميت يصلى على قبره بعد حين.

قال ابن القيم: وتبويب أبي داود، وذكره هذا الحديث يدل على أن ذلك لا يتقيد عنده بوقت لا شهر ولا غيره .....

وهذا هو الصحيح.

فالصلاة على القبر ليس لها مدة معينة أو حد معين لا تصح الصلاة بعده، وذلك لأنه لا يصح في الدلالة على التحديد شيء من النصوص.

قال ابن حزم: أما أمر تحديد الصلاة بشهر أو ثلاثة أيام فخطأ لا يشكل، لأنه تحديد بلا دليل. (انتهى)

لكن القبور القديمة التي لها سنين عديدة لا يُصلى عليها، وقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على ذلك، بل إن ما قدم عهده من القبور تكره الصلاة عليه، لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم صلوا على القبر إلا بحدثان ذلك.

قال الشيخ ابن عثيمين: والصحيح أنه نصلي على القبر ولو بعد شهر، إلا أن بعض العلماء قيده بقيد حسن، قال: بشرط أن يكون هذا المدفون مات في زمن يكون فيه هذا المصلي أهلاً للصلاة.

ص: 107

مثال ذلك: رجل مات قبل عشرين سنة، فخرج إنسان وصلى عليه وله ثلاثون سنة، فيصح؛ لأنه عندما مات كان للمصلي عشر سنوات، فهو من أهل الصلاة على الميت.

مثال آخر: رجل مات قبل ثلاثين سنة، فخرج إنسان وصلى عليه وله عشرون سنة ليصلي عليه، فلا يصح؛ لأن المصلي كان معدوماً عند ما مات الرجل، فليس من أهل الصلاة عليه.

ومن ثَمَّ لا يشرع لنا نحن أن نصلي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وما علمنا أن أحداً من الناس قال: إنه يشرع أن يصلي الإنسان على قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو على قبور الصحابة، لكن يقف ويدعو.

•‌

‌ الجواب عن أدلة الأقوال الأخرى:

أما دليل من حدد ذلك بشهر:

فالجواب: بأن ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته على أم سعد بعد شهر إنما وقع اتفاقاً من غير قصد التحديد.

قال ابن القيم: وَصَلَاته عَلَى أُمّ سَعْد بَعْد شَهْر لَا يَنْفِي الصَّلَاة بَعْد أَزْيَد مِنْهُ، وَكَوْن الْمَيِّت فِي الْغَالِب لَا يَبْقَى أَكْثَر مِنْ شَهْر لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ هَذَا يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَرْض، وَالْعِظَام تَبْقَى مُدَّة طَوِيلَة، وَلَا تَأْثِير لِتَمَزُّقِ اللُّحُوم.

وأما الجواب عن دليل من حدد ما لم يبلى جسده ويتحقق تمزقه.

فالجواب: بأن التحديد ببلى الميت لا يصح، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلى ولا يصلى على قبره.

ولأن بلى الميت يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وهو أمر لا يعلم ولا ينضبط، فلا بد أن يكون التقدير على أمر معلوم لا مجهول.

ص: 108

وأما الجواب على من حدد ذلك بثلاثة أيام، وأن الصحابة كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أيام.

فيقال: إن هذا الأثر لا يعلم صحته.

وأيضاً قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى على القبر بعد شهر، وهذا يرد دعواهم.

وأما ما استدل به أصحاب القول الأخير من صلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد بعد ثماني سنوات، فالجواب:

أن هذه الصلاة ليست هي الصلاة على الميت، ولو كانت هي الصلاة على الميت لم يؤخرها النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين هذا لا يصح، بل هذه الصلاة كالتوديع للأموات، وقد رجح هذا ابن القيم.

قال النووي: إن هذه الصلاة لا يصح أن تكون صلاة الجنازة بالإجماع.

فائدة:

يجوز الصلاة على الجنازة في المقبرة.

وهذا قول جمهور العلماء.

ص: 109

فهو قول الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والظاهرية.

أ- فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

للأحاديث السابقة كحديث أبي هريرة (التي تقم المسجد) وحديث ابن عباس وحديث أنس، فإن فيها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى على الميت في قبره وهو في المقبرة، وهذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص للنهي عن الصلاة في المقبرة.

قال ابن حزم - بعد أن ساق الآثار في النهي عن الصلاة في المقبرة وصلاته صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة السوداء - قال: وكل هذه الآثار حق، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا، إلا صلاة الجنازة فإنها تصلى في المقبرة.

ب- فعل السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

فقد روى نافع قال (لقد صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع بين القبور،

وحضر ذلك ابن عمر) أخرجه عبد الرزاق.

وقال ابن المنذر: وكان عمر بن عبد العزيز يفعل ذلك.

وذهب الشافعية إلى كراهة ذلك استدلالاً بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في المقبرة.

والراجح الأول.

(وإنْ كانَ الميتُ غائباً عن البلد صليَ عليهِ بالنيةِ).

أي: وإن كان الميت غائباً عن البلد، فإنه يصلى عليه غائباً.

وهذا مذهب الشافعي، وأحمد.

ص: 110

قال النووي رحمه الله في (المجموع) مذهبنا جواز الصلاة على الغائب عن البلد، ومنعها أبو حنيفة. دليلنا حديث النجاشي وهو صحيح لا مطعن فيه وليس لهم عنه جواب صحيح. (انتهى)

لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (نَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، خَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعاً) متفق عليه

وعَنْ جَابِرِ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي، أَوْ الثَّالِثِ) متفق عليه.

قالوا: إن في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهو غائب دليلاً على مشروعية الصلاة على الغائب.

وذهب بعض العلماء: إلى أنها لا تشرع مطلقاً.

وهذا مذهب الحنفية، والمالكية.

أ-قالوا: إنه توفي خلق كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أعز الناس عليه وهم غائبون في الأسفار، كما توفي في الحبشة، ولم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على أحد منهم.

ب- أنه لم ينقل عن الصحابة في الأمصار أنهم صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، كما توفي الخلفاء الراشدون من بعده، ولم ينقل عن المسلمين في الأمصار أنهم صلوا عليهم صلاة الغائب، وهذا دليل على عدم مشروعية الصلاة على الغائب.

ص: 111

وأجابوا عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي:

أولاً: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد.

ثانياً: قالوا: إنه كشف له صلى الله عليه وسلم حتى رآه، فيكون حكمه حكم الحاضرين بين يدي الإمام الذي لا يراه المؤمنون.

قال ابن دقيق: هذا يحتاج إلى نقل، ولا يثبت بالاحتمال.

ثالثاً: أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا كان الغائب لم يصل عليه مثل النجاشي صلي عليه، وإن كان صلي عليه فقد سقط فرض الكفاية.

جمعاً بين الأدلة.

وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

ورجحه ابن القيم وقال: لم يكن من هدي النبي وسنته الصلاة على كل ميت غائب فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غيّب فلم يصل عليهم وصح عنه أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت.

وقال الخطابي: لا يُصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس فيها من يصلي عليه.

وترجم بذلك أبو داود في السنن فقال: باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 112

‌فائدة: 1

قال بعض العلماء: تشرع الصلاة على الغائب أيضاً: إذا كان له نفع للمسلمين، كعالم أو مجاهد أو غني نفع الناس بماله ونحو ذلك، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، واختارها الشيخ السعدي وبه أفتت اللجنة الدائمة.

‌فائدة: 2

كيفية الصلاة على الميت الغائب كطريقة الصلاة على الميت الحاضر.

(وَلَا يُصَلِّي الإِمَامُ عَلَى الغَالِّ وَلَا عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ).

أي: أن الإمام لا يصلي على قاتل نفسه ولا على الغال.

أ-عنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ (أُتِيَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ). رَوَاهُ مُسْلِم.

ب- وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ (أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودَ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَين). رواه أبو داود

(بِمَشَاقِصَ) المشاقص سهام عراض. (فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) وعند النسائي بلفظ (أما أنا فلا أصلي عليه).

ج- ولعصيانه بهذا الفعل.

د- وليكون ردعاً بغيره.

قيل: يحرم. وقيل: يكره.

ومثل الإمام من هو قدوة للناس، أو من أهل العلم، فإنهم لا يصلون عليه ردعاً لغيره.

ص: 113

قال النووي: وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز، والأوزاعي.

وقال الحسن، والنخعي، وقتادة، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي وجماهير العلماء يصلى عليه.

وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجراً للناس عن مثل فعله، وصلت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من عليه ديْن زجراً لهم عن التساهل في الاستدانة، وعن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه فقال صلى الله عليه وسلم:(صلوا على صاحبكم).

‌فائدة: 1

قول القرطبي (لعل هذا القاتل لنفسه كان مستحلاً لقتل نفسه، فمات كافراً فلم يصل عليه لذلك)؟

هذا قول مردود، لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية النسائي (أما أنا فلا أصلي عليه) والتقدير: وأما أنتم فصلوا عليه، لأن (أما) للتفصيل، فيكون

المراد تفصيل حال المصلين عليه بين من لا يصلي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وبين من يصلي، وهم الصحابة، فدل على أنه مسلم ليس بكافر، وأما تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه مع كونه مسلماً، زجراً لغيره لئلا يتجاسروا بقتل أنفسهم.

‌فائدة: 2

سئل الشيخ ابن باز: هل قاتل نفسه يغسل ويصلى عليه؟.

فأجاب:

قاتل نفسه يغسل ويصلي عليه ويدفن مع المسلمين؛ لأنه عاص وهو ليس بكافر؛ لأن قتل النفس معصية وليس بكفر.

ص: 114

وإذا قتل نفسه والعياذ بالله يغسل ويكفن ويصلي عليه، لكن ينبغي للإمام الأكبر ولمن له أهمية أن يترك الصلاة عليه من باب الإنكار؛ لئلا يظن أنه راض عن عمله، والإمام الأكبر أو السلطان أو القضاة أو رئيس البلد أو أميرها إذا ترك ذلك من باب إنكار هذا الشيء وإعلان أن هذا خطأ فهذا حسن، ولكن يصلي عليه بعض المصلين.

‌فائدة: 3

مسألة: هل يلحق بالغالّ، وقاتل النفس من هو مثلهم،

أو أشد منهم أذية للمسلمين، كقطاع الطرق مثلاً؟

الجواب: المشهور من المذهب: لا يلحق.

والقول الثاني: أن من كان مثلهم، أو أشد منهم، فإنه لا يصلي الإمام عليه؛ لأن الشرع إذا جاء بعقوبة على جرم من المعاصي، فإنه يلحق به ما يماثله، أو ما هو أشد منه.

فإذا كان الذي غل هذا الشيء اليسير لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن يقف للمسلمين في الطرق، ويقتلهم ويأخذ أموالهم، ويروعهم، أليس هذا من باب أولى أن ينكل به؟

الجواب: بلى، ولهذا فالصحيح: أن ما ساوى هاتين المعصيتين، ورأى الإمام المصلحة في عدم الصلاة عليه، فإنه لا يصلي عليه.

(الشرح الممتع)

ص: 115

(وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد).

أي: لا بأس بالصلاة على الميت في المسجد.

وبه قال الشافعي، وأحمد.

قال ابن قدامة: لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يُخَفْ تَلْوِيثُهُ.

وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد. (المغني).

وقال النووي: فِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ فِي جَوَاز الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَد وَإِسْحَاق.

وقال الشوكاني: وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور.

أ- لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اِبْنَيْ بَيْضَاءَ فِي اَلْمَسْجِدِ) رَوَاهُ مُسْلِم.

ب- ورد (أنه صلي على أبي بكر في المسجد) رواه سعيد بن منصور.

ج- (وصلي على عمر في المسجد) رواه مالك.

وذهب بعض العلماء: إلى المنع من ذلك.

وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك.

قال النووي: قَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك عَلَى الْمَشْهُور عَنْهُ: لَا تَصِحّ الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له) رواه أبو داود.

وأجابوا عن حديث عائشة: بأن حديث الباب محمول على أن الصلاة على ابني بيضاء وهما كانا خارج المسجد، والمصلون داخله وذلك جائز.

والراجح الجواز.

ص: 116

فائدة:

الجواب عن حديث (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له)؟

أَحَدهَا: أَنَّهُ ضَعِيف لَا يَصِحّ الِاحْتِجَاج بِهِ.

قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل: هَذَا حَدِيث ضَعِيف تَفَرَّدَ بِهِ صَالِح مَوْلَى التَّوْأَمَة، وَهُوَ ضَعِيف.

وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي فِي النُّسَخ الْمَشْهُورَة الْمُحَقَّقَة الْمَسْمُوعَة مِنْ سُنَن أَبِي دَاوُدَ (وَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء عَلَيْهِ) وَلَا حُجَّة لَهُمْ حِينَئِذٍ فِيهِ.

الثَّالِث: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحَدِيث وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: " فَلَا شَيْء له" لَوَجَبَ تَأْوِيله عَلَى " فَلَا شَيْء عَلَيْهِ " لِيَجْمَع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ وَبَيْن هَذَا الْحَدِيث وَحَدِيث سُهَيْل بْن بَيْضَاء، وَقَدْ جَاءَ (لَهُ) بِمَعْنَى (عَلَيْهِ)، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.

الرَّابِع: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى نَقْص الْأَجْر فِي حَقّ مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِد وَرَجَعَ وَلَمْ يُشَيِّعهَا إِلَى الْمَقْبَرَة لِمَا فَاتَهُ مِنْ تَشْيِيعه إِلَى الْمَقْبَرَة وَحُضُور دَفْنه. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم للنووي)

وقال الخطابي: صالح مولى التوأمة ضعفوه وكان قد نسي حديثه في آخر عمره، وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صُلي عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، ففي تركهم إنكاره دليل على جوازه.

وكان ممن ضعفه من العلماء: الإمام أحمد - كما في مسائل ابنه عبد الله، وابن المنذر في (الأوسط)، والخطابي في (معالم السنن)، والبيهقي كما في (سننه)، وابن حزم في (المحلى)، وابن الجوزي في (العلل المتناهية).

قال ابن القيم: ولم يكن من هديه الراتب الصلاة عليه في المسجد، وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد، وربما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد، ولكن لم يكن ذلك سنته وعادته.

ص: 117

فالأفضل الصلاة على الجنازة بمصلى خاص.

أ-ففي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (نَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، خَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى

).

ب-وفي حديث ابن عمر (أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد) متفق عليه.

‌فصل

(يُسَنُّ التَّرْبيعُ فِي حَمْلِهِ).

أي: يسن التربيع في حمل الجنازة.

والتربيع أن يضع قائمة السرير اليسرى في المقدمة على كتفه الأيمن، ثم ينتقل إلى المؤخرة، ثم يضع قائمته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى، ثم ينتقل إلى المؤخرة.

وقد جاء عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال (من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنه من السنة، ثم إن شاء فليطوع، وإن شاءَ فليدع) إسناده ثقات، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. رواه ابن ماجه.

ولابن أبي شيبة بسند صحيح، عن أبي الدرداء: من تمام أجر الجنازة أن تُشَيَّعَها من أهلها، وأن تحمل بأركانها الأربعة، وأن تَحشْوَ في القبر، وهذا يقتضي أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. (حاشية الروض)

(وَكَوْنُ المُشَاةِ أَمَامَهَا، وَالرُّكْبَانِ خَلْفَهَا).

أي: يسن أن يكون المشاة أمام الجنازة، والركبان خلفها.

وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور وجماعة من الصحابة.

أ- لحديث ابن عمر رضي الله عنه (أَنَّهُ رَأَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ). رَوَاه أبو داود، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ بِالْإِرْسَالِ.

ب- ولثبوت ذلك عن جمع من الصحابة، كابن عمر.

ص: 118

وذهب بعض العلماء: إلى أن المشي خلفها أفضل.

وهذا مذهب أبي حنيفة، وحكاه الترمذي عن سفيان الثوري.

أ- لحديث (من تبع الجنازة

) والاتباع يكون من الخلف.

ب- ولمرسل طاوس قال (ما مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، إلا خلف جنازة) وهذا مرسل وهو ضعيف.

وذهب بعضهم: إلى أنه يمشي حيث شاء، أمامها أو يمينها أو يسارها أو خلفها.

لحديث المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الراكب يسير خلفها، والماشي حيث شاء) رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح

وهذا القول هو الصحيح.

(ويكرهُ رفعُ الصوت معها، ولو بالذكرِ والقرآن).

أي: يكره رفع الصوت مع الجنازة أو في المقبرة حتى ولو كان ذلك الصوت بالذكر وقراءة القرآن، أو طلب الاستغفار للميت أو نحو ذلك.

أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تُتْبَعُ الْجَنَازَةُ بِصَوْتٍ، وَلَا نَارٍ) رواه أبو داود.

ب- وعن عمرو بن العاص أنه قال في وصيته (فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار) رواه مسلم.

قال القرطبي: هذا توصية منه باجتناب هذين الأمرين، لأنهما من عمل الجاهلية، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم.

ج- ولقول قيس ابن عباد (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز) رواه البيهقي.

د- ولان فيه تشبها بالنصارى فإنهم يرفعون أصواتهم بشيء من أناجيلهم وأذكارهم مع التمطيط والتلحين والتحزين.

ص: 119

قال النووي: واعلم أن الصوابَ المختارَ ما كان عليه السلفُ رضي الله عنهم: السكوتُ في حال السير مع الجنازة، فلا يُرفع صوتاً بقراءة، ولا ذكر، ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكنُ لخاطره، وأجمعُ لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوبُ في هذا الحال، فهذا هو الحقّ. (الأذكار)

(ويستحب القيام لها إذا مرت).

أي: يستحب القيام للجنازة إذا مرت.

أ- لحديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَع) متفق عليه.

ب- ولحديث عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ) رواه مسلم.

ج- وعَنِ ابْنِ أَبِى لَيْلَى قال (أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ. فَقَالَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ إِنَّهُ يَهُودِيٌّ. فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْساً) متفق عليه.

وهذا القول هو الصحيح.

وذهب بعض العلماء: إلى أن هذا الحكم منسوخ.

وهذا قول جمهور العلماء.

قال الشوكاني: وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، أن القيام منسوخ بحديث علي.

أ- لحديث علي قال (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد) رواه مسلم.

ب- ولحديث عبادة بن الصامت قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اجلسوا خالفوهم) رواه أبو داود، والحديث ضعفه الترمذي والنووي وابن حجر وابن القيم.

ص: 120

والصحيح أن القول بالنسخ ضعيف.

وتكون أحاديث الأمر تدل على الاستحباب، وأن أحاديث الترك تدل على جواز ترك القيام.

وهذا القول هو الصحيح، وهو أولى من القول بالنسخ لأن فيه جمعاً بين الأدلة.

قال النووي بعد أن اختار هذا القول: هذا هو المختار، فيكون الأمر به للندب، والقعود بياناً للجواز، ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا، لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث ولم يتعذر.

وقال ابن حزم رحمه الله: فكان قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام مبيناً أنه أمر ندب، وليس يجوز أن يكون هذا نسخاً; لأنه لا يجوز ترك سنة متيقنة إلا بيقين نسخ، والنسخ لا يكون إلا بالنهي، أو بتركٍ معه نهي.

وقال ابن القيم: قيل: منسوخ والقعود آخر الأمرين، وقيل: بل الأمران جائزان، وفعله بياناً للاستحباب، وتركه بياناً للجواز، وهذا أولى من ادعاء النسخ.

ص: 121

‌فائدة: 1

الجواب عن دليل من قال بالنسخ:

أولاً: أن من شرط النسخ عدم إمكان الجمع بين الدليلين، وليس الأمر كذلك ههنا، فإن تركه صلى الله عليه وسلم للقيام بعد أمره به دليل على أن الأمر الأول للندب وليس للوجوب، وبه تجتمع الأدلة دون حاجة للقول بالنسخ.

ثانياً: أن أحاديث الأمر بالقيام لفظ صريح، وهذه الأحاديث حكاية فعل لا عموم له، وليس فيها لفظ عام يحتج به على النسخ، وغاية ما فيها أنه (قام وقعد) وهو فعل محتمل لا يقوى على تأييد دعوى النسخ.

‌فائدة: 2

الحكمة من القيام للجنازة.

جاء تعليله في الحديث بقوله (إن للموت فَزَعاً) فدلّ على أن القيام لتذكر الموت، وإعظامه، وجعله من أهمّ ما يخطر بالإنسان، ولذا استوى فيه جنازة المؤمن والكافر.

أيضًا جاء تعليله بقوله (أليست نفساً).

وثبت في رواية أحمد، وابن حبّان تعليله بقوله (إنما تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس).

وفي رواية الحاكم بقوله (إنما قمنا للملائكة).

ولا تنافي بين هذه الروايات، كما سيأتي بيان ذلك قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى

ص: 122

قال القرطبي: قوله (إن للموت فَزَعاً) معناه: إن الموت يُفزَع إليه، إشارة إلى استعظامه، ومقصودُ الحديث أن لا يستمرّ الإنسان على الغفلة بعد رؤية الميت، لما يُشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثَمَّ استوى فيه الميت مسلمًا، أو غير مسلم. وقال غيره: جَعَل نفس الموت فَزَعًا، مبالغةً، كما يقال: رجل عدلٌ.

وقال البيضاويّ: هو مصدرٌ، جَرَى مَجْرَى الوصف، للمبالغة، أو فيه تقديرٌ، أي الموت ذو فزَع. ويؤيّد الثاني -كما قال الحافظ رحمه الله رواية المصنّف، وابن ماجه بلفظ:"إن للمَوت فَزَعًا"، وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يَقْلَق من أجلها، ويضطرب، ولا يَظهر منه عدم الاحتفال والمبالاة. قاله في "الفتح"

‌فائدة: 3

الأمر بالقيام للجنازة، إذا مرّت بالمكلّف القاعد، وإن لم يقصد تشييعها، والمراد عموم كلّ جنازة، من مؤمن وغيره، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهوديّ مرّت به، وعلّل ذلك بأنها نفس، وفي رواية بأن الموت فَزَع.

‌فائدة: 4

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد السابق (فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَع).

وروى أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً (من صلى على جنازة، فلم يمش معها، فليقم حتى تغيب عنه، وإن مشى معها، فلا يجلس حتى توضع).

فيكره جلوس تابعها حتى توضع.

ص: 123

وقوله (حَتَّى تُوضَعَ) يحتمل أن المراد حتى توضع على الأرض، أو توضع في اللحد.

وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه باللفظين.

إلا أن البخاريّ أشار إلى ترجيح رواية (حتى توضع بالأرض).

حيث قال (باب من تبع جنازة، فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال).

وصرّح أبو داود بترجيحها، حيث قال بعد رواية حديث أبي سعيد رضي الله عنه من طريق سهيل بن أبي صالح، بلفظ (إذا تبعتم الجنازة، فلا تجلسوا حتى توضع) ما نصّه: وروى الثوريّ هذا الحديث، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال فيه:(حتى توضع بالأرض) ورواه أبو معاوية، عن سهيل، قال (حتى توضع في اللحد) وسفيان أحفظ من أبي معاوية انتهى.

(وَيُسَجَّى قَبْرُ امْرَأَةٍ فَقَطْ).

أي: يغطَى قبر المرأة فقط عند إدخالها القبر دون الرجل.

قال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب هذا بين العلماء خلافاً.

أ- روي عن علي أنه أتى قوماً وهم يدفنون ميتاً، وقد بسط الثوب على قبره، فجذب الثوب من القبر وقال: إنما يصنع هذا بالنساء. رواه البيهقي.

ب- أن مبنى حال المرأة على الستر، لأن المرأة عورة، ولا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون.

قال ابن قدامة: وَالْمَرْأَةُ يُخَمَّرُ قَبْرُهَا (أي: يُستر) بِثَوْبٍ، لَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُغَطِّي قَبْرَ الْمَرْأَةِ.

ص: 124

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ قَدْ دَفَنُوا مَيِّتًا، وَبَسَطُوا عَلَى قَبْرِهِ الثَّوْبَ، فَجَذَبَهُ وَقَالَ: إنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا بِالنِّسَاءِ.

وَشَهِدَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ دَفْنَ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ فَخَمَّرَ الْقَبْرَ بِثَوْبٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنَسٍ: ارْفَعُوا الثَّوْبَ، إنَّمَا يُخَمَّرُ قَبْرُ النِّسَاءِ، وَأَنَسٌ شَاهِدٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ لَا يُنْكِرُ.

وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ، وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَرَاهُ الْحَاضِرُون. (المغني)

‌فائدة:

يكره ستر قبر الرجل.

وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة.

أ- لحديث علي المتقدم.

ب- ما روي عن بعض السلف من التابعين كشريح والحسن البصري في كراهة ذلك.

ج- أن كشف القبر حال الدفن أمكن في دفن الميت، وأبعد من التشبه بالنساء.

قالوا: ويجوز ستر القبر إذا كان ذلك لضرورة كدفع مطر، أو ثلج، أو حر على الداخلين في القبر.

(وَاللَّحْدُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّق).

أي: أن القبر إذا كان لحداً فهو أفضل.

وهذا قول جمهور العلماء.

قال ابن قدامة: السُّنَّةُ أَنْ يُلْحَدَ قَبْرُ الْمَيِّتِ، كَمَا صُنِعَ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

أ- عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ (الحدو ا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَى اللَّبِنِ نُصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ مُسْلِم.

ب- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ (لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَلْحَدُ، وَآخَرُ يَضْرَحُ، فَقَالُوا: نَسْتَخِيرُ رَبَّنَا، وَنَبْعَثُ

إِلَيْهِمَا، فَأَيُّهُمَا سُبِقَ تَرَكْنَاهُ، فَأُرْسِلَ إِلَيْهِمَا، فَسَبَقَ صَاحِبُ اللَّحْدِ، فَلَحَدُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه.

ص: 125

وجه الدلالة من الحديثين: أن اللحد هو الذي فُعل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ليختار الله لنبيه إلا الأفضل.

قال النووي في شرح حديث سعد: فيه استحباب اللحد ونصب اللبن، وأنه فعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق الصحابة رضي الله عنهم، وقد نقلوا أن عدد لبناته صلى الله عليه وسلم تسع.

ج-ولحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللحد لنا والشق لغيرنا) رواه أبو داود وهو حديث مختلف في صحته.

د - ولحديث جابر - وقد سبق - قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين في قتلى أحد ثم يقول (أيهم أكثر أخذاً للقرآن) فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد) رواه البخاري.

ففي هذا الحديث بيان فضيلة اللحد، لأنه الذي وقع دفن الشهداء فيه، مع ما كانوا فيه من الجهد والمشقة، فلولا مزيد فضيلة ما عانوه.

‌فائدة: 1

تعريف اللحد والشق:

قال البهوتي: اللحد أن يحفر في أسفل حائط القبر مما يلي القبلة مكاناً يوضع فيه الميت.

والشق: أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبنى جانباه باللبن أو غيره.

ص: 126

‌فائدة: 2

قوله صلى الله عليه وسلم (اللحد لنا والشق لغيرنا) اختلف العلماء في معنى قوله (لنا) و (لغيرنا)؟

فقيل: (لنا) أي: هو الذي نؤثره - أيها المسلمون - ونعرفه، لأن العرب لم تكن تعرف غيره، و (لغيرنا) أي: من الأمم السابقة ويؤيد ذلك رواية (والشق لغيرنا من أهل الكتاب).

وقيل: اللحد لنا معشر الأنبياء، والشق جائز لغيرنا.

وقيل: يمكن أنه صلى الله عليه وسلم عنى بضمير الجمع نفسه، أي: أوثر لي اللحد، وهو إخبار عن الكائن فيكون معجزة.

والصحيح الأول.

‌فائدة: 3

متى يكون الشق أفضل:

يكون أفضل إذا كانت الأرض رخوة، فهنا فالشق أفضل.

قال النووي: أجمع العلماء على أن الدفن في اللحد والشق جائزان، لكن إن كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها فاللحد أفضل، لما سبق من الأدلة، وإن كانت رخوة تنهار، فالشق أفضل.

وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، فعند هؤلاء الشق أفضل إذا كان الأرض رخوة.

قال ابن عثيمين رحمه الله: ولكن إذا احتيج إلى الشق، فإنه لا بأس به، والحاجة إلى الشق إذا كانت الأرض رملية، فإن اللحد فيها لا يمكن؛ لأن الرمل إذا لحدت فيه انهدم، فتحفر حفرة، ثم يحفر في وسطها ثم يوضع لبن على جانبي الحفرة التي بها الميت؛ من أجل ألا ينهد الرمل، ثم يوضع الميت بين هذه اللبنات. (الشرح الممتع)

ص: 127

(وسد لحد القبر باللبِن من الطين أفضل).

أي: أن السنة أن يسد لحد القبر باللبِن من الطين، وهو أفضل من غيره.

وهذا قول جمهور العلماء.

أ- عنّ سَعْد بْن أَبِى وَقَّاصٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِى هَلَكَ فِيهِ (الْحَدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.

قال النووي: فِيهِ اِسْتِحْبَاب اللَّحْد وَنَصْب اللَّبِن، وَأَنَّهُ فُعِلَ ذَلِكَ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَة رضي الله عنهم، وَقَدْ نَقَلُوا أَنَّ عَدَد لَبِنَاته صلى الله عليه وسلم تِسْع. (شرح مسلم)

ب- ولأن اللبِن أفضل من غيره، لأنه من جنس الأرض وأبعد من أبنية الدنيا.

(ويسن تعميق القبر وتوسيعُه بلا حد).

أي: يسن إعماق القبر وإحسانه.

عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ (شُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِرَاحَاتُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: احْفِرُوا وَأَعمقوا وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا) رواه الترمذي.

ص: 128

(شُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِرَاحَاتُ يَوْمَ أُحُدٍ)، ورواية (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ شَدِيدٌ) أي: إنّ حفر القبر لكلّ إنسان على حِدَة شاقّ علينا، حيث أصابنا الجراح الكثير، والجهد الشديد، وفي رواية لأحمد (قالوا: يا رسول اللَّه، أصابنا قَرْحٌ، وجَهْدٌ، فكيف تأمرنا؟ "، وفي رواية له: "كيف تأمرنا بقتلانا؟). (وَأَعْمِقُوا) بقطع الهمزة، من الإعماق، وهو إبعاد القعر، يقال: أعمقَ البئرَ: جعلها عَمِيقة، أي بعيدة القعر. (وَأَحْسِنُوا) بقطع الهمزة أيضاً، أي: اجعلوا القبر حسنًا بتسوية قعره؛ ارتفاعًا، وانخفاضًا، وتنقيته من التراب، والقذاة، وغيرهما.

• وقوله (وأعمقوا) أمر، لكن حمله جمهور العلماء على الاستحباب بدليل اقترانه بالأمر بالتوسيع وإحسان القبر، وهي أفعال مستحبة، ولأنه إذا حصل المقصود من الدفن فالمبالغة في الإعماق تكون أيضاً من باب تحسين القبر ليكون أبلغ في المقصود.

(ويكفي ما يمنعُ السباع والرائحة).

جمهور العلماء - كما تقدم - أن تعميق القبر مستحب، لكن هناك قدر من الإعماق واجب، وهو أقل ما يجزئ في القبر، وذكر الفقهاء أن أقل القبر حفرة تمنع الرائحة والسباع.

‌فائدة:

اختلف العلماء في حد الإعماق على أقوال:

فقيل: يستحب أن يعمّق القبر قدر قامة وبسطة من رجل معتدل لهما.

وقيل: حده إلى مقدار نصف قامة.

ص: 129

وقيل: يعمق إلى الصدر.

وكان الحسن وابن سيرين يستحبان أن يعمق القبر إلى الصدر.

وقيل: يستحب تعميقه بلا حد.

لأن قوله (وأعمقوا) فيه الأمر مطلقاً من غير تحديد، فيُرجع إلى ما يحصل به المقصود.

وهذا الراجح.

قال البهوتي: وسن أن يعمق قبر ويوسع قبر بلا حد، لقوله صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد احفروا وأوسعوا وأعمقوا، ويكفي ما يمنع السباع والرائحة؛ لأنه يحصل به المقصود، وسواء الرجل والمرأة.

(وكرهَ إدخال القبر خشباً).

أي: يكره إدخال الخشب في القبر واستخدامه في دفن الميت.

أ- لما جاء عن عمرو بن العاص أنه قال في مرضه الذي مات فيه:

ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجراً. رواه أحمد.

ب- وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الآجر، ويستحبون القصب ويكرهون الخشب. رواه ابن أبي شيبة

ج- أن الخشب لإحكام البناء والعمران للزينة، والقبر موضع البلى فلا حاجة فيه إلى ذلك.

د- قالوا: إن الخشب معد لمس النار، والقبر يكره إدخاله كل ما مسته النار كما سيأتي إن شاء الله.

(وما مسته نار).

أي: يكره إدخال القبر بشيء مسته النار، من الآجر، أو الحديد.

أ- أن ما فيه أثر النار يكره تفاؤلاً، كما يكره أن يتبع الميت إلى قبره بالنار تفاؤلاً بأن لا تمسه النار.

وقد جاء في هذا حديث:

ص: 130

عن أبي بردة قال: أَوْصَى أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: لَا تَتْبَعُونِي بِمِجْمَرٍ، قَالُوا لَهُ: أَوَ سَمِعْتَ فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. رواه ابن ماجه.

وعن عمرو بن العاص أنه قال في مرض موته (. . . فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ).

وكذا روي عن عدد من الصحابة كراهة ذلك.

قال البيهقي: وَفِي وَصِيَّةِ عَائِشَةَ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم: أَنْ لَا تَتَّبِعُونِي بِنَار.

ب- ما روي من الآثار عن السلف في كراهة الآجر، فعن زيد بن أرقم وإبراهيم النخعي قالا: كانوا يكرهون الآجر.

ج- أن الآجر إنما يستعمل في الأبنية للزينة أو لإحكام البناء، والقبر موضع البلى، فلا حاجة للميت فيه، ولأنه من بناء المترفين.

قال ابن قدامة: وَلَا يُدْخِلُ الْقَبْرَ آجُرًّا، وَلَا خَشَبًا، وَلَا شَيْئًا مَسَّتْهُ النَّارُ. . . وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بِنَاءِ الْمُتْرَفِينَ، وَسَائِرُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، تَفَاؤُلًا بِأَنْ لَا تَمَسَّهُ النَّارُ.

(ووضع فراشٍ تحته).

أي: يكره أن يوضع تحت الميت شيء من فراش أو حصير أو ثوب أو نحو ذلك.

وهذا قول جماهير العلماء.

قال النوويّ: وقد نصّ الشافعيّ، وجميع أصحابنا، وغيرهم، من العلماء على كراهة وضع قَطِيفة، أو مُضَرَّبَة، أو مِخَدّة، ونحو ذلك تحت الميت في القبر، وشذّ عنهم البغويّ من أصحابنا، فقال: في كتابه "التهذيب": لا بأس بذلك؛ لهذا الحديث، والصواب كراهته، كما قال الجمهور.

أ- عن أبي بُرْدَة قالَ (أوصى أَبُو مُوسَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قَال: إِذَا انْطَلَقْتُمْ بِجِنَازَتِي فَأَسْرِعُوا بِهِ الْمَشْيَ، وَلَا تَتَّبِعُونِي بِمِجْمَرٍ، وَلَا تَجْعَلُنَّ عَلَى لَحْدِي شَيْئًا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ التُّرَابِ

الحديث، وفي آخره، قَالُوا لَهُ: سَمِعْتَ فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه.

ص: 131

ب- روي عن ابن عباس (أنه كره أن يلقى تحت الميت في القبر شيء) رواه الترمذي.

ج- أن الواقع في زمن النبوة بمرأى ومسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وضع الميت على الأرض، ففي فرش القبر مخالفة للسنة الثابتة، وكذا بعد زمن النبوة، فإنه لم ينقل عن أحد من السلف فعل ذلك.

د- أن هذا الفعل فيه إتلاف للمال، وإضاعة له، وقد نهي عن ذلك.

‌فائدة:

روى مسلم في صحيحه: عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ).

وفي رواية النسائي (جعِلَ تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ دُفِنَ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ).

والجواب عن هذا:

أ- أن وضع القطيفة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن صادراً من جملة الصحابة ولا برضاهم ولا بعلمهم، وإنما فعله شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روى ابن عباس قال (وقد كان شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته أخذ قطيفة قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويفرشها فدفنها معه في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البيهقي.

قال البيهقي: وهي تدل على أنهم لم يفرشوها في القبر استعمالاً للسنة في ذلك.

وقال البغوي: فهذا يدل على أنهم لم يجعلوا القطيفة في القبر لتكون فراشاً له.

قال النووي: وأجابوا عن هذا الحديث بأن شُقران انفرد بفعل ذلك، لم يوافقه غيره من الصحابة، ولا علموا ذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها، ويفترشها، فلم تطب نفس شقران أن يبتذلها أحد بعد النبي لمجر، وخالفه غيره، فروى البيهقيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره أن يُجعل تحت الميت ثوب في قبره. واللَّه أعلم. (شرح مسلم).

ص: 132

ب- وقيل: إنما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لأن أرض المدينة أرض سبخة.

ج- وقيل: أن هذه القطيفة التي وضعت في قبر النبي صلى الله عليه وسلم أخرجت.

قال ابن عبد البر: وطُرح في قبره سمل قطيفة كان يلبسها، فلما فرغوا من وضع اللبن أخرجوها وأهالوا التراب على لحده.

(وَيَقُولُ مُدْخِلُهُ: بِسْمِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّة رَسُولِ الله).

أي: يسن أن يقول من يدخل الميت في قبره: بسم الله وعلى ملة رسول الله.

لحديث ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود.

فائدة:

لا يشترط فيمن يتولى إدخال الميتة في قبرها أن يكون من محارمها.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ (شَهِدْنَا بِنْتاً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ -قَالَ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ قَالَ- فَقَالَ «هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ». فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا. قَالَ «فَانْزِلْ». قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا) رواه البخاري.

قوله (لم يقارف): أي لم يجامع، ويؤيد هذا المعنى أنه جاء في رواية (لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة) وقيل: لم يذنب، والصحيح الأول.

ففي هذه القصة نزل أبو طلحة، مع أن أبوها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم كان موجوداً، وكذلك زوجها عثمان.

لكن الأولى أن يكون من محارمها إن وجِد.

ص: 133

قال ابن قدامة رحمه الله: لا خلاف بين أهل العلم في أن أولى الناس بإدخال المرأة قبرها محرمها، وهو من كان يحل له النظر إليها في حياتها، ولها السفر معه، وقد روى الخلال بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه قام عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت زينب بنت جحش فقال: ألا إني أرسلت إلى النسوة: من يدخلها قبرها؟ فأرسلن من كان يحل له الدخول عليها في حياتها. فرأيت أن قد صدقن. (المغني).

قال الشيخ الألباني أخرجه ـ أثر عمر رضي الله عنه ـ الطحاوي (3/ 304 - 305) والبيهقي (3/ 53) بسند صحيح. ينظر كتاب الجنائز (1/ 148).

فإن لم يكن لها محارم أو وجدوا إلا أن بهم مانعاً جاز أن ينزلها الأجنبي لحديث أنس السابق.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: العلماء فيما أعلم لم يقل أحد منهم: إن المرأة يحرم أن يدخلها في قبرها من جامع تلك الليلة، لكنهم قالوا: من بعد عهده بالجماع فهو أولى

وبعض الناس يظنون أنه لا ينزل المرأة في قبرها إلا من كان من محارمها، وهذا غير صحيح، ينزلها من كان أعرف بطريقة الدفن، سواء كان من محارمها أو من غير محارمها (لقاء الباب المفتوح)

وقال رحمه الله أيضاً: المرأة يضعها في قبرها أي رجل من الرجال، سواء كان من محارمها أو من غير محارمها؛ لكن الأفضل من محارمها، إلا إذا علمنا أن أحداً من الناس لم يجامع تلك الليلة كرجل نعلم أنه ليس له زوجة، أو نعلم أنه قد تجاوز سن الشهوة، فقد قال العلماء رحمهم الله: إن من بَعُدَ عهده بالجماع أولى ممن قَرُب. (لقاء الباب المفتوح)

ص: 134

(والرجال - ولو كانوا أجانب - أولى من النساء في دفن المرأة).

أن الذي يتولى إنزال المرأة لقبرها الرجال دون النساء.

ويدل لذلك:

أ-لحديث أنس السابق.

قال النووي: وهذا مما يحتج به في كون الرجال هم الذين يتولون الدفن وإن كان الميت امرأة. (المجموع)

وقال: ومعلوم أنه كانت أختها فاطمة وغيرها من محارمها وغيرهن هناك، فدل على أنه لا مدخل للنساء في إدخال القبر والدفن. (المجموع)

ب-ولأن تولي الرجال للجنائز في الدفن هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جرى عليه عمل المسلمين.

ج-ولأن الدفن يحتاج إلى بطش وقوة، والرجال أقوى وأشد بطشاً، فهم بذلك أعرف وعليه أقدر.

د- أن الجنائز يحضرها جموع الرجال غالباً، وفي نزول النساء القبر بين أيديهم تعريض لهن بالهتك والكشف بحضرة الرجال.

ص: 135

(وَيَضَعُهُ فِي لَحْدِهِ عَلَى شِقِّهِ الأْيْمَن).

أي: يسن أن يوضع الميت في قبره على شقه الأيمن، فإن وضعه على جنبه الأيسر جاز ذلك، وكان تاركاً للأفضل.

أ- أن وضع الميت بهذه الكيفية هي طريقة السلف والخلف وهو شعار السنة، وعليه جرى عمل أهل الإسلام من عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

ب- قياس وضع الميت في قبره على المصلي مضطجعاً.

ج- قياسه على الاضطجاع عند النوم، فإنه يندب الاضطجاع على اليمين، والنوم موتة صغرى، والميت مشبّه بالنائم.

قال النووي: واتفقوا على أنه يستحب أن يضجع على جنبه الأيمن، فلو أضجع على جنبه الأيسر مستقبل القبلة جاز، وكان خلاف الأفضل. (المجموع)

وقال المرداوي: وضعه في لحده على جنبه الأيمن مستحب، بلا نزاع.

(مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ).

أي: يجب أن يكون الميت في القبر مستقبلاً القبلة.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم في الكعبة (قبلتكم أحياء وأمواتاً).

ب- ولأنه طريقة المسلمين بنقل الخلف عن السلف. (كشاف القناع)

قال النووي: يجب وضع الميت في القبر مستقبل القبلة.

(المجموع)

وقال المرداوي:

وكونه مستقبل القبلة واجب، على الصحيح من المذهب. (الإنصاف)

ص: 136

‌فائدة:

قال المرداوي:. . .، فعلى المذهب: لو وضع غير مستقبل القبلة نبش على الصحيح من المذهب، قال ابن عقيل: قال أصحابنا: ينبش إلا أن يخاف أن يتفسخ.

(وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ عَنِ الأْرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ).

أي: يسن أن يرفع القبر عن الأرض قدر شبر.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ- لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد ونصب عليه

ورفع قبره من الأرض نحواً من شبر) رواه ابن حبان.

ب- وجاء في ذلك بعض الآثار عن بعض السلف.

ج- ولأن القبر يرفع عن الأرض ليعلم أنه قبر فيتوقى ويصان ولا يهان، ويترحم على صاحبه.

واستثنى العلماء من هذه المسألة: إذا مات الإنسان في دار حرب، أي: في دار الكفار المحاربين، فإنه لا ينبغي أن يُرفع قبره، بل يسوى بالأرض خوفاً عليه من الأعداء أن ينبشوه، ويمثلوا به، وما أشبه ذلك.

(مُسَنَّماً).

أي: يجعل كالسنام بحيث يكون وسطه بارزاً على أطرافه، وضد المسنم: المسطح الذي يجعل أعلاه كالسطح.

والدليل على هذا: أن هذا هو صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه.

(الشرح الممتع)

أ- روى البخاري عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا.

ب- ما ورد في قبور شهداء أحد أنها كانت مسنمة، فعن الشعبي قال: رأيت قبور شهداء أحد جثاء مسنمة. رواه ابن أبي شيبة

أما ما رواه مسلم عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ).

ص: 137

فالمقصود بالتسوية هنا، أي تسويته بسائر القبور، وقد تقدم أنها تكون في حدود الشبر.

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: "فِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنَّ الْقَبْر لَا يُرْفَع عَلَى الْأَرْض رَفْعًا كَثِيرًا، وَلَا يُسَنَّم، بَلْ يُرْفَع نَحْو شِبْر وَيُسَطَّح، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْأَفْضَل عِنْدهمْ تَسْنِيمهَا وَهُوَ مَذْهَب مَالِك" انتهى.

‌فائدة:

كره العلماء أن يزاد على تراب القبر أكثر مما خرج منه.

واستدلوا على الكراهة بحديث جابر قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر أو يزاد عليه

) رواه مسلم دون قوله (أو يزاد عليه) فهي عند أبي داود والنسائي.

والمراد بقوله (أو يزاد عليه) الزيادة على ترابه، بأن يزاد على التراب الذي خرج منه.

ولهذا بوب البيهقي على هذا اللفظ من هذا الحديث، فقال: باب لا يزاد في القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع جداً.

وقالوا: إن زيادة التراب على القبر يجري مجرى البناء، فلا يزاد عليه تراب من غيره، لئلا يرتفع القبر ارتفاعاً كثيراً.

وذهب ابن حزم إلى أن الزيادة على تراب القبر حرام.

(وسنّ حثو التراب عليه ثلاثاً ثم يهال).

أي: إذا فرغ من دفن الميت ومن وضع اللبن أو غيره على اللحد، فإنهم يهيلون التراب عليه، وهذا من تمام الدفن.

وفي الحديث عن أنس قال (لما دفن النبي صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب). رواه البخاري

ص: 138

وهذا يدل على أن الحاضرين لدفن الميت يردون تراب القبر على القبر بالمساحي والأيدي.

ويستحب لكل من حضر دفن الميت أن يحثو التراب على قبره ثلاث حثيات بيديه جميعاً.

أ-لحديث عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَأَتَى الْقَبْرَ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، وَهُوَ قَائِمٌ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْني. [وهو ضعيف].

ب-ولحديث أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قِبل رأسه ثلاثاً) وهذا مختلف فيه: صححه النووي، وابن القطان، والبوصيري، والألباني، وضعفه أبو حاتم، وأبو زرعة.

ج- حديث جعفر بن محمد عن أبيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعاً) رواه الشافعي وهو ضعيف.

د-وجاء عن ابن عباس: (أنه لما دفن زيد بن ثابت حثا عليه التراب ثم قال: هكذا يذهب العلم) أخرجه البيهقي.

وهذا القول هو الراجح. (فالأحاديث الواردة كلها فيها نظر لكن لعل بعضها يقوي بعض).

‌فائدة:

استحب البعض عند حثُ التراب على الميت أن يقول في الحثية الأولى (منها خلقناكم) وفي الثانية (ومنها نعيدكم) وفي الثالثة (ومنها نخرجكم تارة أخرى) والحديث الوارد في ذلك لا يصح.

وهو حديث أبي أمامة قال (لما وضعت أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، قال صلى الله عليه وسلم (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً

أُخْرَى) رواه أحمد والبيهقي.

قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف، وضعفه ابن حجر رحمه الله.

ص: 139

(ورش القبر بالماء).

أي: يسن رش القبر بالماء.

لورود ذلك في بعض الأحاديث التي فيها ضعف.

وقالوا: إن القبر إذا رُش بالماء كان أكثر إبقاء، وأبعد عن التناثر والاندراس.

(والاستغفار له).

أي: يسن الدعاء للميت بعد الفراغ من دفنه بالاستغفار والتثبيت.

لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَال: اِسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(وقف عليه) أي: على قبره. (فقال استغفروا لأخيكم) أي اطلبوا له المغفرة من الله. أي قولوا: اللهم اغفر له. (وسلوا له التثبيت) أي اطلبوا له من اللّه تعالى أن يثبت لسانه لجواب الملَكين. أي: قولوا: ثبته اللّه بالقول الثابت. (فإنه الآن يسأل) أي: يأتيه في تلك الحال ملكان، وهما منكر ونكير ويسألانه، فهو أحوج ما كان إلى الاستغفار والتثبيت.

‌فائدة:

اختلف العلماء في الموعظة عند القبر

على أقوال:

فقيل: بجوازها.

أ- لحديث عَلِي رضي الله عنه قَالَ (كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثمَّ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً، أَوْ سَعِيدَةً فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)). متفق عليه

ص: 140

قال ابن بطال: فيه جواز القعود عند القبور، والتحدث عندها بالعلم والمواعظ.

ب- ولحديث الْبَرَاء بْن عَازِبٍ، قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، زَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ هَاهُنَا وَقَالَ: وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ حِينَ يُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا، مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ قَالَ هَنَّادٌ: قَالَ: وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الإِسْلَامُ

) رواه أبو داود.

ج- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِنَازَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه

) رواه أحمد.

القول الثاني: لا تشرع الموعظة عند القبر إلا لعارض أحياناً وليس دائماً.

واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين.

قالوا: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة الوعظ عند القبر.

وفي حديث البراء السابق (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر

).

ص: 141

فهذا يدل على جواز الموعظة عند القبر في بعض الأحيان وليس ذلك سنة راتبة، بل إن قول البراء في الحديث (ولمّا يلحد) دليلاً على أن الوعظ كان لعارض وهو تأخر دفن الميت، لأن القبر لم يجهز، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم موعظة أصحابه إلى أن يُنتهى من تجهيز القبر.

والله أعلم.

(ويجوز الدفن ليلاً إلا من ضرورة).

أي: ويجوز دفن الميت ليلاً.

وهذا قول الجمهور.

قال النووي: وهذا هو قول جماهير العلماء من السلف والخلف.

أ- لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلاً فَقَالَ «مَتَى دُفِنَ هَذَا». قَالُوا الْبَارِحَةَ. قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي، قَالُوا دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْه) رواه البخاري.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة دفنهم إياه بالليل، وإنما أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره.

ب-ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد -وفي رواية: كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد- ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني؟ قال: فكأنهم صغروا أمرها، وفي رواية: قالوا: ماتت من الليل ودفنت فكرهنا أن نوقظك، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم) متفق عليه، والرواية التي فيها وجد الشاهد عند البيهقي.

ص: 142

ووجه الدلالة: كسابقه من حيث إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره على الصحابة الدفن بالليل.

قال ابن عبد البر: في الحديث دليل واضح على جواز الدفن بالليل.

ج-أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ليلاً.

عن عائشة قالت (ما علمنا بدفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء

) رواه أحمد.

قال الطحاوي:

وهذا بحضرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا ينكره أحد منهم.

د-أن أبا بكر رضي الله عنه دفن ليلاً.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلْتُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. وَقَالَ لَهَا فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ. قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالَتْ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ. قَالَ أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ. فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهَا. قُلْتُ إِنَّ هَذَا خَلَقٌ. قَالَ إِنَّ الْحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ. فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِح) رواه البخاري.

ص: 143

ه- أن فاطمة دُفنت بالليل.

عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِى بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكَ، وَمَا بَقِىَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَالِ». وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئاً مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئاً فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ، دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِىٌّ لَيْلاً) متفق عليه.

و - (أن ابن مسعود رضي الله عنه دفن ليلاً) أخرجه ابن أبي شيبة.

قال ابن قدامة: وَمِمَّنْ دُفِنَ لَيْلًا: عُثْمَانُ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ.

‌فائدة: 1

فإن قيل: ما الجواب عن حديث جَابِر رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه.

ص: 144

ولفظ مسلم في صحيحه:

عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْماً فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ وَقُبِرَ لَيْلاً فَزَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَه).

قيل: إن النهي الوارد في الحديث إنما هو عن دفن الميت قبل الصلاة عليه ويدل عليه ( .. فزجر النبي

حتى يصلى عليه).

وقيل: إن النهي في الحديث عن الدفن ليلاً ليس لذات الدفن، وإنما لما يترتب عليه من قلة المصلين، فإن الدفن بالنهار يحضره كثير من الناس ويصلون عليه، ولا يحضره في الليل إلا أفراد.

وقيل: إن النهي عن الدفن في الليل إنما كان لما يترتب عليه من إساءة الكفن، لأن الدفن ليلاً مظنة إساءة الكفن ورداءته.

قال ابن قدامة: وَحَدِيثُ الزَّجْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالتَّأْدِيبِ؛ فَإِنَّ الدَّفْنَ نَهَارًا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَى مُتَّبِعِهَا، وَأَكْثَرُ لِلْمُصَلِّينَ عَلَيْهَا، وَأَمْكَنُ لِإِتْبَاعِ السُّنَّةِ فِي دَفْنِهِ وَإِلْحَادِهِ.

‌فائدة: 2

ورد أن عائشة طلبت أن تدفن ليلاً.

هكذا ذكره محمد بن عمر الواقدي كما أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 6 - 7 وابن سعد في طبقاته 8/ 76 - 77، وسير أعلام النبلاء 2/ 192 وغيرها من المصادر.

والظاهر والله أعلم إما لئلا يؤخر دفنها لأنها كما ورد أنها ماتت ليلة السابع عشر من رمضان بعد الوتر، أو لأنّ ذلك أستر لها أو لعله ظهر في زمنها لا سيما في أواخر عمرها من يكره الدفن ليلاً فأرادت أن تبيّن الحكم .. أو لغير ذلك. وعموماً فإن الدفن بالليل جائز للحاجة والله تعالى أعلم.

(الإسلام سؤال وجواب).

ص: 145

(وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ القبر).

أي: يكره أن يجصص القبر، والصواب تحريم ذلك:

لحديث جَابِرٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ) رواه مسلم.

قال القرطبي: التجصيص هو البناء بالجص.

‌فائدة:

‌الحكمة من النهي:

أولاً: سد ذريعة الشرك.

ثانياً: لما في ذلك من تعظيم القبور والمباهاة فيها، وهذا باب قد يصل بصاحبه إلى الإخلال بالتوحيد.

ثالثاً: أن التجصيص في الأبنية إنما هو للزينة ولإحكام البناء، ولا حاجة للميت في قبره للزينة.

رابعاً: أن في ذلك خيلاء وإسراف.

خامساً: أن في ذلك تضييعاً للمال وإسرافاً بلا فائدة. (كتاب أحكام المقابر).

ويلحق بالتجصيص كل ما شابهه من تلوين القبر أو تزويق أو تخليق أو جعل الرخام عليه.

(وَالْبِنَاء).

أي: ويكره البناء على القبور، والصحيح تحريم ذلك:

أ- لحديث جَابِر السابق (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ).

ب-ولحديث أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى إلى القبر) رواه ابن ماجه.

ص: 146

ج- ومما يدل على التحريم: حديث أَبِى الْهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ (أَلاَّ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ) رواه مسلم.

قال الشوكاني: ومن رفْع القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أولياً، القبب والمشاهد المعمورة على القبور.

‌فائدة:

الحكمة من ذلك: أن ذلك وسيلة إلى عبادتها، وأن هذا من فعل عباد القبور والروافض، وسد باب الشرك، وأن ذلك إسرافاً وتضييعاً للمال.

(والجُلوسُ عليه).

أي: ويكره الجلوس على القبر، والصحيح تحريم ذلك:

أ- عن أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا) رواه مسلم.

ج- وعن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ) رواه مسلم.

(والكتابة).

أي: يكره أن يكتب على القبر شيء.

أ- لحديث جابر السابق (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ) وعند الترمذي (وأن يكتب عليه).

ب- ولأن الكتابة على القبر لم تكن معهودة عند السلف الصالح.

ج- ولأن الكتابة على القبر قد تكون طريقاً للمباهاة والفخر والخيلاء.

د-وفي ذلك سداً للذرائع الشرك.

ص: 147

والنهي عن الكتابة يشمل الكتابة التي فيها ذكر اسم صاحب القبر، أو تاريخ وفاته، أو كتابة شيء من القرآن، أو أسماء الله تعالى.

قال الشيخ ابن باز: لا يجوز البناء على القبور لا بصبة ولا بغيرها ولا تجوز الكتابة عليها؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البناء عليها والكتابة عليها، فقد روى مسلم رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) وخرجه الترمذي وغيره بإسناد صحيح وزاد (وأن يكتب عليه) ولأن ذلك نوع من أنواع الغلو فوجب منعه.

ولأن الكتابة ربما أفضت إلى عواقب وخيمة من الغلو وغيره من المحظورات الشرعية، وإنما يعاد تراب القبر عليه ويرفع قدر شبر تقريبا حتى يعرف أنه قبر، هذه هي السنة في القبور التي درج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

‌فائدة: 1

ذهب بعض العلماء إلى أن الكتابة على القبر مكروهة.

جاء في (الموسوعة الفقهية) واختلف الفقهاء أيضاً في الكتابة على القبر، فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى كراهة الكتابة على القبر مطلقاً؛ لحديث جابر قال:(نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه)

وذهب الحنفية والسبكي من الشافعية إلى أنه لا بأس بالكتابة إن احتيج إليها حتى لا يذهب الأثر ولا يمتهن

" انتهى

ص: 148

‌فائدة: 2

قال الشيخ ابن عثيمين: والكتابة عليه فيها تفصيل: الكتابة التي لا يُراد بها إلا إثبات الاسم للدلالة على القبر، فهذه لا بأس بها، وأما الكتابة التي تشبه ما كانوا يفعلونه في الجاهلية يكتب اسم الشخص ويكتب الثناء عليه، وأنه فعل كذا وكذا وغيره من المديح أو تكتب الأبيات

فهذا حرام، ومن هذا ما يفعله بعض الجهال أنه يكتب على الحجر الموضوع على القبر سورة الفاتحة مثلاً .. أو غيرها من الآيات فكل هذا حرام وعلى من رآه في المقبرة أن يزيل هذا الحجر، لأن هذا من المنكر الذي يجب تغييره.

‌فائدة: 3

يجوز تعليم القبر بشيء مباح، فقد جاء في السنة ما يبين ذلك.

عن كثير بن زيد المدني عن المطلب قال: لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدُفن؛ أَمَر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يأتيه بحجَرٍ فلم يستطع حملَه، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعيه - قال كثير: قال المطلب: قال الذي يخبرني ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حسر عنهما ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أَتَعَلَّمُ بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي) رواه أبو داود، والحديث: حسَّن إسنادَه الحافظ ابن حجر.

ص: 149

قال ابن قدامة: ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشبة، قال أحمد: لا بأس أن يعلِّم الرجل القبرَ علامةً يعرفه بها، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم قبرَ عثمان بن مظعون.

(ويكره المشي بالنعل بين القبور إلا لخوف شوك ونحوه).

أي: يكره المشي بين القبور بالنعال.

وهذا المذهب.

وذهب ابن حزم إلى تحريم ذلك.

لحديث بَشِير بن الخصاصية. قَالَ (بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لَقَدْ سَبَقَ هَؤُلَاءِ خَيْرًا كَثِيرًا ثَلَاثًا ثُمَّ مَرَّ بِقُبُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: لَقَدْ أَدْرَكَ هَؤُلَاءِ خَيْرًا كَثِيرًا وَحَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَظْرَةٌ، فَإِذَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي الْقُبُورِ عَلَيْهِ نَعْلَانِ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ، وَيْحَكَ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَلَمَّا عَرَفَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَلَعَهُمَا فَرَمَى بِهِمَا) رواه أبو داود. (قال النووي: إسناده حسن).

فهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم وأقل أحوال الأمر الندب، وهو يتضمن النهي عن المشي بين القبور بالنعال، وأقل ما يحمل عليه النهي الكراهة.

قال ابن قدامة: هَذَا مُسْتَحَبٌّ، ثم ذكر الحديث السابق.

ب- وَلِأَنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ، وَزِيُّ أَهْلِ التَّوَاضُعِ، وَاحْتِرَامُ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ. (المغني).

ص: 150

‌فائدة: 1

فإن قيل: ما الجواب عن حديث أَنَسٍ. قال: قَالَ صلى الله عليه وسلم (الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ

) متفق عليه.

الجواب من وجوه:

أولاً: أن هذا الحديث فيه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بالواقع وهو سماع الميت قرع نعال الحي، وهذا الإخبار لا يدل على الإذن في قرع القبور والمشي بينها بالنعال، إذ الإخبار عن وقوع الشيء لا يدل على جوازه ولا تحريمه.

ثانياً: أنه يحتمل أن المراد سماع الميت قرع نعال أصحابه بعد أن يجاوزوا المقبرة ويبتعدوا عن القبور.

ثالثاً: أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث تمثيل لسرعة سؤال الرجل في قبره، وليس فيه تعرض للحكم.

‌فائدة: 2

استثنى فقهاء الحنابلة من هذا الحكم بعض الصور:

الأولى: أن يكون للماشي بين القبور عذر يمنعه من خلع نعليه، بحيث يتأذى من المشي بدونهما، كأن يكون في المقبرة شوك، أو نجاسة، أو حرارة في الأرض.

الثانية: أن يكون النزع للملبوس يشق كالخفاف.

ص: 151

(ويَحْرُمُ فِيهِ دَفْنُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ إِلاّ لِضَرُورَةٍ).

أي: يحرم في القبر دفن اثنين فأكثر.

وهذا قول جمهور العلماء.

لأن هذا خلاف عمل المسلمين.

قال النووي في المجموع: لا يجوز أن يدفن رجلان ولا امرأتان في قبر واحد من غير ضرورة.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه مكروه.

وهذا اختيار ابن تيمية.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والراجح عندي - والله أعلم - القول الوسط، وهو الكراهة، كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، إلا إذا كان الأول قد دفن واستقر في قبره، فإنه أحق به، وحينئذٍ فلا يُدخل عليه ثان، اللهم إلا للضرورة القصوى.

وقيل: لا يكره، وإنما هو ترك للأفضل، فحسب.

والراجح التحريم.

ص: 152

• قوله (إِلاّ لِضَرُورَةٍ) أي: فيجوز، ككثرة الموتى، أو قلة من يدفن.

لحديث جابر. قَالَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ اَلرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ?، فَيُقَدِّمُهُ فِي اَللَّحْدِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.

ب- وعن أبي قتادة أنه قال: (أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله، حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقتلوا يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم،

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما وبمولاهما، فجعلوا في قبر واحد). رواه أحمد بسند حسن كما قال الحافظ.

وفي حديث جابر في قصة استشهاد أبيه في آخرها: (

فكان أول قتيل، ودفن معه آخر في قبر

).

‌فائدة: 1

قوله (في ثوب واحد) اختلف العلماء في معناها على قولين:

قيل: أنه يشق الثوب بين الاثنين فيكفن هذا في بعضه وهذا في بعضه، لئلا يمس بشرة كل إنسان بشرة الآخر، وهذا اختيار ابن تيمية.

ولأن ذلك أدعى إلى ستر العورة.

قال ابن تيمية: معنى الحديث أنه كان يقسم الثوب الواحد بين الجماعة، فيكفن كل واحد ببعضه للضرورة، وإن لم يستر إلا بعض بدنه، يدل عليه تمام الحديث (أنه كان يسأل عن أكثرهم قرآناً فيقدمه في اللحد) فلو أنهم في ثوب واحد جملةً لسأل عن أفضلهم قبل ذلك كي لا يؤدي إلى نقض الكفن وإعادته.

ص: 153

وقيل: يجمعهم في ثوب واحد ملتصقين.

أ- لأن هذا هو ظاهر اللفظ.

ب- ويؤيده قول جابر (فكفّن أبي وعمي في نمِرة واحدة).

‌فائدة: 2

اختلف العلماء في الذكر والأنثى، هل يدفنان جميعاً؟

فقيل: لا مانع من دفنهما إذا كان الرجل أحد محارمها.

وقيل: لا تدفن مطلقاً.

قال الحافظ ابن حجر: روى عبد الرزاق بإسناد حسن عن وائلة بن الأسقع (أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل وتجعل المرأة وراءه).

وكان يجعل بينهما حائلاً من تراب ولا سيما إذا كان أجنبيين.

‌فائدة: 3

قوله (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ) جاء عند الترمذي (أيهم أكثر حفظاً للقرآن).

ففيه أن الذي يقدم في اللحد أفضلهم وأكثرهم أخذاً للقرآن، يعني يكون إلى جهة القبلة.

وفيه فضيلة ظاهرة لقارئ القرآن.

قال الحافظ: ويلحق به أهل الفقه والزهد وسائر وجوه الفضل.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين). رواه مسلم

ص: 154

فصاحب القرآن له منزلة عالية:

في الدين:

(إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) رواه مسلم.

وفي الآخرة:

قال صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن اقرأ وارتقِ ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها) رواه أبو داود.

(وَلَا تُكْرَهُ القِرَاءَةُ عَلَى القَبْرِ).

أي: لا تكره أن يقرأ الإنسان القرآن عند القبر.

أ- لفعل ابن عمر أنه كان يقرأ عند القبر بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها. رواه البيهقي.

ب- ولحديث ابن عباس (مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان بكبير

الحديث: فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحداً، وعلى هذا واحداً، ثم قال: لعله يخفف عنهما مالم ييبسا) متفق عليه.

قال النووي: اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاء قِرَاءَة الْقُرْآن عِنْد الْقَبْر لِهَذَا الْحَدِيث؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يُرْجَى التَّخْفِيف بِتَسْبِيحِ الْجَرِيد فَتِلَاوَة الْقُرْآن أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم).

وذهب بعض العلماء: إلى أن قراءة القرآن عند القبر مكروهة.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) رواه مسلم.

قال القاضي أبو يعلى: فلولا أن المقبرة لا يقرأ فيها لم يشبه البيت الذي لا يقرأ فيه بالمقبرة.

ب- أن القراءة عند القبر عمل مبتدع، لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عليه فعل الصحابة، ولم يكن معروفاً عند السلف الصالح.

وهذا الراجح.

ص: 155

قال الشيخ ابن باز: ليس لقراءة القرآن على الميت أو على القبر أصل صحيح، بل ذلك غير مشروع، بل من البدع. اهـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين: قراءة القرآن الكريم على القبور بدعة، ولم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه

والواجب على المسلمين أن يقتدوا بمن سلف من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان حتى يكونوا على الخير والهدى. اهـ.

وقال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز: قراءة القرآن عند زيارة القبور مما لا أصل له في السنة. اهـ.

(وَأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لمسلمِ ميت نَفَعَهُ ذَلِك).

المراد بالقربة ما يُتقرب به إلى الله تعالى من الطاعات مثل الدعاء، والاستغفار، والصدقة، والصلاة، والصوم، والحج، وقراءة القرآن وغير ذلك، فلا فرق بين القربة البدنية والمالية.

قوله (فعلها) أي: فعلها شخص مسلم سواء كان من أقارب الميت أو من غيرهم.

قوله (نفعه) أي: يصل ثوابها إليه بكرم الله ورحمته.

وهذا أحد الأقوال في المسألة: وهو أن جميع القرب تُهدى للأموات ويصل ثوابها إليهم.

وهذا مذهب الحنابلة.

واستدلوا بالقياس على ما ثبت في الشرع.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يهدى للأموات إلا ما دل الدليل على جواز إهدائه، لأن وصول الثواب إلى الأموات من الأمور التوقيفية التي لا مجال للرأي فيها، وإنما يعمل فيها بما يقتضيه الدليل.

وقد ورد النص في أمور ينتفع بها الميت:

منها: الدعاء، وهذا بالإجماع.

قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ).

ص: 156

وقال صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:

وذكر منها أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.

وصلاة الجنازة، فإن أهم ما فيها الدعاء للميت.

والأدعية التي سبقت التي تقال في صلاة الجنازة للميت.

وكذا الدعاء له بعد الدفن، كما في سنن أبي داود من حديث عثمان قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل).

وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم.

ومنها: الصدقة.

لحديث عائشة قالت (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتُلتتْ نفسُها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقتُ عنها، قال: نعم) متفق عليه.

وعن عبد الله بن عباس (أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقتُ عنها، قال: نعم) رواه البخاري.

ومنها: الصوم.

لحديث عائشة. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) متفق عليه.

ومنها: الحج.

لحديث ابن عباس (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرتْ أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دينٌ أكنتِ قاضيتَه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.

ص: 157

ومنها: الدين.

فقد أجمع المسلمون على أن قضاء الديْن من ذمةِ الميت يسقطه، ولو كان من أجنبي، ومن غير تركته.

وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفيَ من المؤمنين فترك ديْناً فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته) متفق عليه.

‌الخلاصة:

اختلف العلماء في جواز إهداء الثواب للموتى وهل يصلهم ذلك على قولين:

القول الأول: أن كل عمل صالح يهدى للميت فإنه يصله، ومن ذلك قراءة القرآن والصوم والصلاة وغيرها من العبادات.

القول الثاني: أنه لا يصل إلى الميت شيء من الأعمال الصالحة إلا ما دل الدليل على أنه يصل.

وهذا هو القول الراجح.

والدليل عليه قوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى).

وقوله عليه السلام: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

وقد مات عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة رضي الله عنه، وزوجته خديجة، وثلاث من بناته، ولم يرد أنه قرأ عن واحد منهم القرآن، أو ضحى أو صام أو صلى

عنهم، ولم ينقل شيء من ذلك عن أحد من الصحابة، ولو كان مشروعاً لسبقونا إليه.

ص: 158

أما ما دل الدليل على استثنائه ووصول ثوابه إلى الميت فهو: الحج، والعمرة، والصوم الواجب، والصدقة، والدعاء.

قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) ومن هذه الآية استنبط الشافعي ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة، فذاك مجمع على وصولها ومنصوصٌ من الشارع عليها " ا. هـ (تفسير ابن كثير 4/ 258)

(وَسُنَّ أَنْ يُصْلِحَ لأَهْلِ المَيِّتِ طَعَامٌ يُبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِمْ).

لحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما قَالَ: - لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ -حِينَ قُتِلَ- قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ) رواه أبو داود.

(اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا) خطاب منه صلى الله عليه وسلم لأهله أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً، والمراد بآل جعفر: زوجته أسماء بنت عُمَيْس وأولاده.

فالحديث دليل على استحباب صنع الطعام لأهل الميت في يوم مصيبتهم.

قال الإمام الشافعي: وَأُحِبُّ لِجِيرَانِ الْمَيِّتِ، أَوْ ذِي قَرَابَتِهِ: أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِ يَمُوتُ وَلَيْلَتِهِ: طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، وَذِكْرٌ كَرِيمٌ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْخَيْرِ قَبْلَنَا وَبَعْدَنَا. (الأم).

وقال الشوكاني رحمه الله: فِيه مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَامِ بِمُؤْنَةِ أَهْلِ الْمَيِّتِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ؛ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِمَا دَهَمَهُمْ مِنْ الْمُصِيبَة. (نيل الأوطار).

ص: 159

‌فائدة:

الحكمة من هذا الأمر:

أن أهل الميت مشغولون بمصيبتهم فلا يقدرون على صنع طعامهم.

قال ابن قدامة: يُسْتَحَبُّ إصْلَاحُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ، يَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ، إعَانَةً لَهُمْ، وَجَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا اشْتَغَلُوا بِمُصِيبَتِهِمْ، وَبِمَنْ يَأْتِي إلَيْهِمْ، عَنْ إصْلَاحِ طَعَامٍ لَأَنْفُسِهِم.

وقال العيني: يستفاد من الحديث استحباب صنعة الطعام لأهل الميت، سواء كان الميت حاضراً، أو جاء خبر موته، وذلك لاشتغال أهله بخبره، أو بحاله، ولذلك علل عليه السلام بقوله:(فإنه قد أتاهم أمرٌ يَشغَلُهم) أي: فإن الشأن: قد أتاهم أمر، أي: شأن وحالة، شَغلهم عن صنعة الطعام وغيره. (شرح سنن أبي داود).

‌فائدة: 2

حكم صنع أهل الميت الطعام للناس:

بدعة، بل عده بعض العلماء من النياحة.

قال الشيخ ابن باز: الأفضل أن يصنع الجيران والأقارب الطعام في بيوتهم ثم يهدوه إلى أهل الميت؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه موت ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة أمر أهله أن يصنعوا لأهل جعفر طعاماً وقال: (لأنهم قد أتاهم ما يشغلهم).

وأما كون أهل الميت يصنعون طعاماً للناس من أجل الميت فهذا لا يجوز وهو من عمل الجاهلية سواء كان ذلك يوم الموت أو في اليوم الرابع أو العاشر أو على رأس السنة، كل ذلك لا يجوز لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي - أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصناعة الطعام بعد الدفن من النياحة) أما إن نزل بأهل الميت ضيوف زمن العزاء فلا بأس أن يصنعوا لهم

الطعام من أجل الضيافة، كما أنه لا حرج على أهل الميت أن يدعوا من شاؤا من الجيران والأقارب ليتناولوا معهم ما أهدي لهم من الطعام، والله ولي التوفيق.

ص: 160

‌فَصْلٌ

(تُسَنُّ زِيَارَةُ القُبُورِ للرجال).

أي: أن زيارة القبور للرجال سنة.

وهذا مذهب جماهير العلماء، بل نقل بعضهم الإجماع كالنووي.

قال النووي رحمه الله: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وهو قول العلماء كافة; نقل العبدري فيه إجماع المسلمين، ودليله مع الإجماع الأحاديث الصحيحة المشهورة، وكانت زيارتها منهيا عنها أولاً ثم نسخ. (المجموع)

وقال رحمه الله: أجْمَعُوا عَلَى أَنَّ زِيَارَتهَا سُنَّة للرِّجَال.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه: إباحة الخروج إلى المقابر وزيارة القبور وهذا أمر مجتمع عليه للرجال، ومختلف فيه للنساء وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً فإنها تذكر الآخرة). (التمهيد)

أ- عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كنت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) رَوَاهُ مُسْلِم.

زَادَ اَلتِّرْمِذِيُّ: (فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ)، وزادَ ابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا).

ب- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْت) رواه مسلم.

ص: 161

‌فائدة: 1

سبب النهي عن الزيارة في أول الأمر:

قال النووي: وكان النهي أولاً لقرب عهدهم من الجاهلية، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلما استقرت قواعد الإسلام، وتمهدت أحكامه، واشتهرت معالمه، أبيح لهم الزيارة، واحتاط صلى الله عليه وسلم بقوله:(ولا تقولوا هجراً).

وقال ابن القيم: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سداً للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجراً، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً وفعلاً.

‌فائدة: 2

صفة الزيارة الشرعية:

قال ابن القيم: زيارة الموحدين: فمقصودها ثلاثة أشياء:

أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة).

الثاني: الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيهجره ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك فالميت أولى، لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه هدية: من دعاء أو صدقة أو أهدى قربة ازداد بذلك سروره وفرحه كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم ولا أن يدعوا بهم ولا يصلي عندهم.

ص: 162

الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.

‌فائدة: 3

الحكمة من زيارة القبور:

بين الحديث الحكمة من زيارة القبور، وهي:

العبرة والاتعاظ، لقوله:(تذكر الآخرة)(تذكر الموت)(وتزهد في الدنيا).

وانتفاع الميت بالدعاء والاستغفار له.

‌فائدة: 4

ليس لزيارة القبور وقت معين.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأفضل في زيارة القبور أن يكون يوم الجمعة.

واستدل هؤلاء بحديث (من زار قبر والديه أو أحدهما في كل جمعة مرة غفر له وكتب باراً). وهو حديث ضعيف.

وقالوا: إن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة.

لكن الصحيح أن زيارة القبور ليس لها وقت معين لا يوم ولا وقت، بل ظاهر الحديث التي فيها الأمر بزيارة القبور، لم تحدد زمناً ولا وقتاً.

وأما الحديث فضعيف لا يصح، ومثل هذا الحديث لا يصلح الاعتماد عليه ولا العمل به مطلقاً.

ص: 163

وأما قولهم إن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة، فهذا القول لا دليل عليه سوى بعض الأخبار والمنامات، ومن المقرر عند أهل العلم أن الاحتجاج بالمنامات لا يصح لإثبات الأحكام الشرعية.

‌فائدة: 5

يشترط لجواز زيارة القبور: ألا يسافر إليها، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) متفق عليه.

قال علماء اللجنة الدائمة:

"تشرع زيارة القبور للرجال دون النساء إذا كانت في البلد - أي: بدون شد رحل - للعبرة والدعاء لهم إذا كانوا مسلمين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة) " انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لا يجوز للإنسان أن يشد الرحل لزيارة قبر من القبور أياً كان صاحب هذا القبر.

‌فائدة: 6

يجوز للمسلم زيارة مقابر الكفار للعبرة والاتعاظ.

ويدل لذلك:

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْت) رواه مسلم.

قال النووي: فِيهِ جَوَاز زِيَارَة الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَيَاة، وَقُبُورهمْ بَعْد الْوَفَاة؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَتْ زِيَارَتهمْ بَعْد الْوَفَاة فَفِي الْحَيَاة أَوْلَى، وَفِيهِ: النَّهْي عَنْ الِاسْتِغْفَار لِلْكُفَّارِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رحمه الله: سَبَب زِيَارَته صلى الله عليه وسلم قَبْرهَا أَنَّهُ قَصَدَ قُوَّة الْمَوْعِظَة وَالذِّكْرَى بِمُشَاهَدَةِ قَبْرهَا، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي آخِر الْحَدِيث:(فَزُورُوا الْقُبُور فَإِنَّهَا تُذَكِّركُمْ الْمَوْت).

(شرح مسلم).

ص: 164

لكن لا يجوز عند زيارة قبور الكفار السلام عليهم ولا الاستغفار لهم.

(وأن يقول لمن زارها أو مرّ بها ما ورد).

أي: ويسن أن يقول من زار القبور أو مر بها أن يقول ما ورد في ذلك.

ومما ورد:

أ- عن سُلَيْمَان بْن بُرَيْدَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى اَلمَقَابِرِ: - اَلسَّلَامُ عَلَى أَهْلِ اَلدِّيَارِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اَللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ب- وعن عائشة: قَالَتْ قُلْتُ كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ (قُولِي السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ

الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُون) رواه مسلم.

ج- وعنْها قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَد). رواه مسلم

د-وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ). رواه مسلم

ص: 165

‌فائدة: 1

يسن أيضاً السلام على أهل القبور عند المرور بهم.

لحديث ابن عباس. قال (مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر) رواه الترمذي.

‌فائدة: 2

الأفضل لزائر المقابر أن يكون حال الزيارة قائماً، فيسلّم وهو قائم، ويدعو وهو قائم.

وهذا قول الحنفية، والشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة.

أ- ففي حديث عائشة الطويل قالت (

ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات

الحديث) رواه مسلم.

ب- ولأن القيام عند القبر قد روي عن جماعة من السلف.

‌فائدة: 3

المستحب في حال زيارة المقابر والسلام على أهلها أن يقبل الزائر على أهل المقبرة بوجهه فيسلّم عليهم ويدعو بما ورد.

وهذا قول جمهور العلماء.

ويدل عليه: حديث ابن عباس السابق (مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه

).

ص: 166

(وتُكرهُ للنساء).

أي: وتكره زيارة القبور للنساء.

وهذا مذهب الحنابلة.

لحديث أم عطية (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) متفق عليه.

قالوا: والزيارة من جنس الاتباع، فيكون كلاهما مكروهاً غير محرم.

وذهب بعض العلماء: إلى إباحة ذلك للنساء.

وهذا مذهب الجمهور.

قال النووي: بالجواز قطع الجمهور.

أ- لحديث أنس قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي عند قبر، فقال لها: اتقي الله واصبري

).

قال الحافظ: وموضع الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة.

ب- ولحديث بريدة السابق (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها).

وجه الدلالة: أن الخطاب عام، فيدخل فيه النساء.

قال الحافظ: هو قول الأكثر، ومحله إذا أمنت الفتنة.

ج-وبحديث عائشة الطويل، وفيه (قالت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين

). رواه مسلم

قالوا: وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة هذا الدعاء يدل على جواز زيارة المقابر للنساء.

د- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: (أَنَّ عَائِشَةَ أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْمَقَابِرِ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ؟ قَالَتْ: مِنْ قَبْرِ

أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ لَهَا: أَلَيْسَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ قَدْ نَهَى، ثُمَّ أُمِرَ بِزِيَارَتِهَا) رواه الحاكم.

ص: 167

وذهب بعضهم: إلى تحريم ذلك.

وهذا اختيار ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم.

أ- لحديث أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور) رواه الترمذي.

ب-ولحديث ابن عباس قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور) رواه الترمذي.

ج-ولحديث حسان بن ثابت قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) رواه ابن ماجه.

د- وعن عبد الله بن عمرو قال (بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ما أخرجكِ من بيتك يا فاطمة؟ قالت: أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم وعزيتهم بميتهم، فقال: لعلك بلغت معهم الكدى؟ قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر؟ فقال: لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك) رواه أبو داود، والكدى هي القبور هكذا فسرها بعض الرواة.

وهذا الحديث يدل دلالة صريحة على أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج إلى القبور، وقد كان ذلك مستقراً عند الصحابة، يدل عليه قول فاطمة: معاذ الله أن أكون بلغتها وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر، تعني من النهي عن ذلك.

وهذا القول هو الراجح.

ص: 168

‌فائدة: 1

الإجابة عن أدلة من قال بالإباحة:

أ-أما حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري

) فيجاب عنه:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرّ المرأة على فعلها، بل أمرها بتقوى الله التي هي فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ومن جملتها النهي عن زيارة القبور، ففي هذا إنكار قعودها عند القبر، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

قال ابن القيم: احتج به على جواز زيارة النساء للقبور، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها الزيارة وإنما أمرها بالصبر، ولو كانت حراماً لبيّن لها حكمها، وأجيب عن هذا بأنه صلى الله عليه وسلم قد أمرها بتقوى الله والصبر، وهذا إنكار منه لحالها من الزيارة والبكاء.

ثانياً: أن هذه القضية لا يعلم هل كانت قبل أحاديث المنع من زيارة النساء للقبور أو لا؟ وهي إما أن تكون دالة على الجواز فلا دلالة على تأخرها عن أحاديث المنع، أو تكون دالة على المنع بأمرها بتقوى الله فلا دلالة فيها، وعلى الجواز على التقديرين لا تعارض أحاديث المنع، ولا يمكن دعوى نسخها بها.

ب- أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) فيجاب عنه:

أنه خطاب للرجال دون النساء، فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور بأصل الوضع فلا يدخل فيه النساء، وهذا هو المذهب الصحيح المختار في الأصول.

وعلى هذا فالإذن لا يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ.

ص: 169

ج- أما حديث عائشة: (قولي: السلام على أهل الديار

) فيجاب عنه:

أولاً: بأن الحديث لا دلالة فيه على جواز زيارة القبور للنساء، لأن الحديث إنما سيق لتعليم السلام على أهل القبور دون إباحة الزيارة للنساء، وقد تمر المرأة على أهل القبور في مسير لها من غير قصد الزيارة فتحتاج إلى التسليم عليهم، فلا يلزم من تعليمه لهن إباحة الزيارة قصداً.

ثانياً: أن هذا التعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة يحتمل أن يكون قبل النهي الأكيد والوعيد الشديد لزوّارات القبور.

د- وأما حديث عائشة في زيارة قبر أخيها، فيجاب عنه:

أولاً: أنها لم تخرج إليه للزيارة، وإنما خرجت للحج فمرت بقبره فوقفت عليه للدعاء له.

ثانياً: أنه على فرض أنها قصدت الزيارة، فهو اجتهاد منها رضي الله عنها لا يعارض الأخبار الثابتة التي وردت في نهي النساء عن زيارة القبور.

قال ابن القيم رحمه الله:

وَعَائِشَة إِنَّمَا قَدِمَتْ مَكَّة لِلْحَجِّ، فَمَرَّتْ عَلَى قَبْر أَخِيهَا فِي طَرِيقهَا، فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا بَأْس بِهِ، إِنَّمَا الْكَلَام فِي قَصْدهنَّ الْخُرُوج لِزِيَارَةِ الْقُبُور، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا عَدَلَتْ إِلَيْهِ وَقَصَدَتْ زِيَارَته، فَهِيَ قَدْ قَالَتْ "لَوْ شَهِدْتُك لَمَا زُرْتُك"، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَقَرّ الْمَعْلُوم عِنْدهَا: أَنَّ النِّسَاء لَا يُشْرَع لَهُنَّ زِيَارَة الْقُبُور، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلهَا ذَلِكَ مَعْنًى. وَأَمَّا رِوَايَة الْبَيْهَقِيِّ، وَقَوْلهَا" نَهَى عَنْهَا ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا":

لَوْ صَحَّ؛ فَهِيَ تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ غَيْرهَا مِنْ دُخُول النِّسَاء، وَالْحُجَّة فِي قَوْل الْمَعْصُوم، لَا فِي تَأْوِيل الرَّاوِي، وَتَأْوِيله إِنَّمَا يَكُون مَقْبُولًا، حَيْثُ لَا يُعَارِضهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَهَذَا قَدْ عَارَضَهُ أَحَادِيث الْمَنْع. (تهذيب السنن).

ص: 170

‌فائدة: 2

جواب من قال بالجواز عن حديث لعن زائرات القبور.

أ- أن اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة بدلالة قوله (زوّارات)، وهذا لا يتناول الزائرة من غير إكثار للزيارة.

قال القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج، وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك.

وقال الشوكاني بعد سياق كلام القرطبي: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر.

لكن يجاب عن هذا:

أولاً: أنه قد ورد في حديث ابن عباس لفظ (زائرات)، وفي هذا اللفظ زيادة علم، حيث إنه يصدق على الزائرة مرة واحدة فيؤخذ به.

ثانياً: أن لفظ (الزوّارات) قد يكون لتعددهن، كما يقال: فتحت الأبواب، إذا لك باب فتح يخصه.

ب- وأجابوا أيضاً: أن هذه الأحاديث التي فيها لعن زوارات القبور محمولة على ما إذا كانت زيارتهن لتجديد الحزن والتعديد والبكاء والنوح، وأما إذا كانت الزيارة للاعتبار من غير نوح ولا تعديد فلا يحرم عليهن ذلك.

لكن يجاب عن هذا:

أولاً: أن هذا التأويل أو الحمل للحديث لا دليل عليه.

ثانياً: أن زيارة النساء إذا كانت مظنة وسبباً للأمور المحرمة - والحكمة هنا غير مضبوطة - فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة، أن الحكمة إذا كانت خفية، أو غير منتشرة، علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب سداً للذريعة.

ص: 171

ج- وأجابوا أيضاً: بأن هذه الأحاديث ضعيفة الإسناد.

ويجاب عن هذا:

أولاً: أن كل من تُكلّم فيه من رجال الإسناد قد عدّله طائفة من العلماء، وإذا كان الجارح والمعدل من الأئمة، لم يقبل الجرح إلا مفسراً، فيكون التعديل مقدماً على الجرح المطلق.

ثانياً: أن حَدِيثَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْحَسَنِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ كَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْجَرْحِ إلَّا مَا ذُكِرَ كَانَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَسَنِ.

ثالثاً: أَنْ يُقَالَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِجَالُ هَذَا لَيْسَ رِجَالَ هَذَا فَلَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْحِفْظِ وَمِثْلُ هَذَا حُجَّةٌ بِلَا رَيْبٍ.

‌فائدة: 3

أنه لا فرق في التحريم بين زيارة قبره صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره على الصحيح من أقوال أهل العلم.

لأن بعض العلماء قال: يجوز للنساء زيارة قبره صلى الله عليه وسلم.

‌فائدة: 4

حكمة الشرع في التفريق في بعض الأحكام بين النساء والرجال.

ص: 172

(ويحرم إسراج المقابر).

أي: يحرم اتخاذ السرج على المقابر.

وقد ذكر ابن تيمية اتفاق العلماء على تحريم اتخاذ السرج على القبور فقال: وكذلك إيقاد المصابيح في هذه المشاهد مطلقاً لا يجوز بلا خلاف أعلمه للنهي الوارد.

‌ويدل على التحريم:

أ- حديث ابن عباس قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج). رواه الترمذي

ب- أن في إسراج المقابر تعظيماً لها، بل إفراط في التعظيم، يشبه تعظيم الأصنام.

ج-أن في إسراج القبور تشبهاً بالمجوس الذين يعبدون النار.

د- أن في هذا الفعل إضاعة للمال في غير فائدة.

قال ابن قدامة: ولَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ السَّرْجِ عَلَى الْقُبُورِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، الْمُتَّخِذَاتِ عَلَيْهِنَّ الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

وَلَوْ أُبِيحَ لَمْ يَلْعَنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ فَعَلَهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لِلْمَالِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِفْرَاطًا فِي تَعْظِيمِ الْقُبُورِ أَشْبَهَ تَعْظِيمَ الْأَصْنَامِ

ص: 173

(وَتُسَنُّ تَعْزِيَةُ المُصَابِ بِالْمَيِّتِ).

أي: يستحب تعزية المصاب بالميت.

قال ابن قدامة: لا نعلم في ذلك خلافاً.

والأدلة على مشروعيتها:

قوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى).

وثبتت التعزية من فعله صلى الله عليه وسلم:

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا - أَوِ ابْناً لَهَا - فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا. قَالَ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَم اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ). متفق عليه

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِى سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ (إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ». فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ». ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِى سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ. وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ) رواه مسلم.

ص: 174

‌فائدة: 1

أحسن ما يعزى به ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أ- ما جاء في حديث أُسَامَة بنِ زيدِ السابق (إنَّ لله مَا أخَذَ وَلَهُ مَا أعطَى وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِأجَلٍ مُسَمًّى فَلتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ

).

قال النووي: وهذا الحديث أحسن ما يعزى به.

ب- ومنها: (اتقي الله واصبري) متفق عليه.

ج- ومنها: (اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره ونور له فيه) رواه مسلم.

وإن قال: عظم الله أجركم، أو أحسن الله مصابكم، فكله جائز.

فليس للتعزية دعاء محدد، فلو عزاه بأي صيغة جاز.

قال ابن قدامة: لا نعلم في التعزية شيئاً محدوداً.

وقال النووي: فأما لفظ التعزية فلا حجر فيها، فبأي لفظ عزاه حصلت.

ص: 175

وقال الشوكاني: فكل ما يجلب للمصاب صبراً يقال له تعزية بأي لفظ كان، ويحصل به للمعزي الأجر المذكور في الأحاديث.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "وليس فيها لفظ مخصوص، بل يعزي المسلم أخاه بما تيسر من الألفاظ المناسبة مثل أن يقول:(أحسن الله عزاءك وجبر مصيبتك وغفر لميتك) إذا كان الميت مسلماً.

وقال الشيخ الألباني: ويعزيهم بما يظن أنه يسليهم، ويكف من حزنهم، ويحملهم على الرضا والصبر، مما يثبت عنه صلى الله عليه وسلم، إن كان يعلمه ويستحضره، وإلا فبما تيسر له من الكلام الحسن الذي يحقق الغرض ولا يخالف الشرع.

‌فائدة: 2

وقوله (ويعزى المصاب) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ولم يقل تعزية القريب

فكل مصاب ولو بعيداً يُعزى، وكل من لم يصب ولو قريباً فإنه لا يعزى، من أصيب فعزه، ومن لم يصب فلا تعزه.

‌فائدة: 3

ليس للتعزية وقت محدد، بل يعزى المصاب ما دام أن المصيبة قائمة، لأن التعزية للتقوية والتسلية، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

وذهب بعض العلماء إلى أن مدة التعزية ثلاثة أيام وهو قول ضعيف، وحديث لا عزاء فوق ثلاث، لا أصل له، قاله الألباني.

ص: 176

قال النووي: وحكى إمام الحرمين -وجهاً- أنه لا أمد للتعزية، بل يبقى بعد ثلاثة أيام وإن طال الزمان، لأن الغرض الدعاء، والحمل على الصبر، والنهي عن الجزع، وذلك يحصل مع طول الزمان، وبهذا الوجه قطع أبو العباس بن القاص في التلخيص. (المجموع)

وقال الشيخ ابن باز: وليس لها وقت مخصوص ولا أيام مخصوصة بل هي مشروعة من حين موت الميت قبل الصلاة وبعدها وقبل الدفن وبعده والمبادرة بها أفضل في حال شدة المصيبة وتجوز بعد ثلاث من موت الميت لعدم الدليل على التحديد.

وقال الشيخ الألباني: ولا تحد التعزية بثلاثة أيام لا يتجاوزها، بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها.

‌فائدة: 4

تشرع التعزية من حين الموت -قبل الدفن وبعده- ولا تحد بوقت، بل تبقى سنة التعزية إلى أن يذهب عن المصاب أثر المصيبة.

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل تجوز التعزية قبل الدفن؟

فأجاب: نعم، تجوز قبل الدفن وبعده، لأن وقتها من حين ما يموت الميت إلى أن تنسى المصيبة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى ابنة له حين أرسلت تخبره أن صبياً لها في الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب).

وسئل عما يقوله بعض الناس إنه لا تجوز التعزية قبل دفن الميت؟

فأجاب: هذا ليس بصحيح، التعزية متى حصلت المصيبة، أي الموت فإنها مشروعة. (مجموع الفتاوى).

والأفضل عند جمهور العلماء أن تكون بعد الدفن.

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذهب جمهور الفقهاء: إلى أن الأفضل في التعزية أن تكون بعد الدفن.

لأن أهل الميت قبل الدفن مشغولون بتجهيزه; ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر، فكان ذلك الوقت أولى بالتعزية.

وقال جمهور الشافعية: إلا أن يظهر من أهل الميت شدة جزع قبل الدفن، فتعجل التعزية، ليذهب جزعهم أو يخف .. انتهى.

ص: 177

وقيدوا التعزية بثلاثة أيام. واستدلوا لذلك بإذن الشارع في الإحداد في الثلاث فقط، بقوله صلى الله عليه وسلم:(لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج: أربعة أشهر وعشراً) وتكره بعدها. (الموسوعة).

‌فائدة: 5

الاجتماع للتعزية.

المقصود من الاجتماع للتعزية: أن يجلس أهل الميت ويجتمعوا في مكان معين، بحيث يقصدهم فيه من أراد العزاء، سواء اجتمعوا في بيت أهل الميت، أو في تلك السرادقات التي يقيمونها لهذا الشأن وغيره.

وهذه المسألة من مسائل الخلاف المعتبر بين أهل العلم، واختلف العلماء فيها على قولين:

القول الأول: لا يرى الاجتماع لأجل العزاء، وأن هذا الاجتماع مكروه.

وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وكثير من المالكية، وصرح بعضهم بالتحريم.

وأقوى ما استدلوا به القائلون بالكراهة أمران:

أ-أثر جرير بن عبد الله قَالَ (كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ: مِنْ النِّيَاحَةِ).

ب- أن هذا الأمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، فهو من المحدثات، وفيه مخالفة لهدي السلف الصالح، الذين لم يجلسوا ويجتمعوا للعزاء.

قال النووي: أَمَّا الْجُلُوسُ لِلتَّعْزِيَةِ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ عَلَى كَرَاهَتِهِ

قَالُوا: بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفُوا فِي حَوَائِجِهِمْ، فَمَنْ صَادَفَهُمْ عَزَّاهُمْ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي كَرَاهَةِ الجلوس لها.

(المجموع).

وقال المرداوي: "وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ لَهَا، هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَنَصَّ عَلَيْه.

وبهذا القول يفتي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث يقول: بالنسبة لأهل الميت لا يشرع لهم الاجتماع في البيت وتلقي المعزين؛ لأن هذا عدَّه بعض السلف من النياحة، وإنما يغلقون البيت، ومَن صادفهم في السوق أو في المسجد عزَّاهم.

ص: 178

القول الثاني: جواز ذلك إذا خلا المجلس من المنكرات والبدع، ومن تجديد الحزن وإدامته، ومن تكلفة المؤنة على أهل الميت

وهو قول بعض الحنفية، وبعض المالكية، وبعض الحنابلة.

واختار هذا القول من العلماء المعاصرين: الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

أ-لحديث عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ). رواه البخاري ومسلم.

فهذا الحديث فيه الدلالة الواضحة على أنهم كانوا لا يرون في الاجتماع بأساً، سواء اجتماع أهل الميت، أو اجتماع غيرهم معهم.

ب- وعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَال (لمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ اجْتَمَعَنْ نِسْوَةُ بَنِي الْمُغِيرَةِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَرْسِلْ إلَيْهِنَّ فَانْهَهُنَّ، لَا يَبْلُغُك عَنْهُنَّ شَيْءٌ تَكْرَهُه، فَقَالَ عُمَر: وَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يُهْرِقْنَ مِنْ دُمُوعِهِنَّ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ، أَوْ لَقْلَقَة). رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح.

وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ، أي ما لم يرفعن أصواتهن أو يضعن التراب على رؤوسهن.

وأجاب هؤلاء عن أثر جرير بن عبد الله بجوابين:

الأول: أن الراجح فيه أنه ضعيف.

فقد أعله الإمام أحمد، والدراقطني.

الثاني: على القول بصحته فالمقصود منه: الاجتماع الذي يكون فيه صنعٌ للطعام من أهل الميت لإكرام من يأتيهم ومن يجتمع عندهم.

ص: 179

ولذلك نص في الأثر على الأمرين: (كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ: مِنْ النِّيَاحَةِ)، فاجتماع هذين

الوصفين معاً، هو الذي يعد من النياحة.

قال الشوكاني: يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الِاجْتِمَاعَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ وَأَكْلَ الطَّعَامِ عَنْدَهُمْ نَوْعًا مِنْ النِّيَاحَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّثْقِيلِ عَلَيْهِمْ وَشَغْلِهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شُغْلَةِ الْخَاطِرِ بِمَوْتِ الْمَيِّتِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَصْنَعُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا فَخَالَفُوا ذَلِكَ وَكَلَّفُوهُمْ صَنْعَةَ الطَّعَامِ لِغَيْرِهِم.

وقال الشيخ ابن باز: المقصود أن كونهم يجمعونهم ليقرؤوا ويأكلوا هذا لا أصل له، بل هي من البدع، أما لو زارهم إنسان يسلم عليهم، ويدعو لهم ويعزيهم، وقرأ في المجلس قراءة عارضة ليست مقصودة، لأنهم مجتمعون فقرأ آية أو آيات لفائدة الجميع ونصيحة الجميع فلا بأس، أما أن أهل الميت يجمعون الناس أو يجمعون جماعة معنية ليقرؤوا أو يطعموهم أو يعطوهم فلوساً، فهذا بدعة لا أصل له. (نور على الدرب).

وأما القول بأن الاجتماع للعزاء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو من البدع المحدثة.

فيجاب عنه: بأن الاجتماع للعزاء من العادات، وليس من العبادات، والبدع لا تكون في العادات، بل الأصل في العادات: الإباحة، ثم إن التعزية أمر مقصود شرعاً، ولا وسيلة لتحصيلها في مثل هذه الأزمنة إلا باستقبال المعزين، والجلوس لذلك، فإن ذلك مما يعينهم على أداء السنة.

(بحث في الإسلام س ج).

ص: 180

(وَيَجُوزُ البُكَاءُ عَلَى المَيِّتِ من غيرِ نياحة).

وقد جاءت النصوص الكثيرة على جوازه من غير نياحة.

أ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ شَهِدْنَا بِنْتاً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ - قَالَ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ قَالَ - فَقَالَ «هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا. قَالَ «فَانْزِلْ» . قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا) رواه البخاري.

ب- وبكى صلى الله عليه وسلم لما مات ابن ابنته.

كما في حديث أُسَامَة بنِ زيدِ. قَالَ (أرْسَلَتْ بنْتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ ابْني قَد احْتُضِرَ فَاشْهَدنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرئُ السَّلامَ، ويقُولُ: (إنَّ لله مَا أخَذَ وَلَهُ مَا أعطَى وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِأجَلٍ مُسَمًّى فَلتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) فَأَرسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيهِ لَيَأتِينَّهَا. فقامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابتٍ، وَرجَالٌ رضي الله عنهم، فَرُفعَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الصَّبيُّ، فَأقْعَدَهُ في حِجْرِهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَينَاهُ فَقالَ سَعدٌ: يَا رسولَ الله، مَا هَذَا؟ فَقالَ:(هذِهِ رَحمَةٌ جَعَلَها اللهُ تَعَالَى في قُلُوبِ عِبَاده)) متفق عليه.

ج- وبكى لما زار سعد بن عبادة.

كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ (اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ فَقَالَ «أَقَدْ قَضَى». قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا فَقَالَ «أَلَا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ) متفق عليه.

ص: 181

د- وبكى لما مات ابنه إبراهيم.

كما في حديث أَنَس بْنِ مَالِك. قَالَ (دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ - وَكَانَ ظِئْراً لإِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ «يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ». ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُون) رواه البخاري.

هـ- بكاؤه صلى الله عليه وسلم لما نعى جعفر وأصحابه. متفق عليه.

(وَيَحْرُمُ النَّدْبُ، وَالنِّيَاحَةُ، وَشَقُّ الثَّوْبِ، وَلَطْمُ الخَدِّ، وَنَحْوُهُ).

الندب: هو تعداد محاسن الميت بحرف الندبة وهو «وا» فيقول: واسيداه، وامن يأتي لنا بالطعام والشراب، وامن يخرج بنا إلى النزهة، وامن

يفعل كذا وكذا.

والنياحة: رفع الصوت بتعداد مآثر الميت، وهو من خصال أهل الجاهلية.

وقد جاءت النصوص الكثيرة بتحريم النياحة.

أ-عن أَبي مَالِكٍ الأَشْعَرِي. أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ». وَقَالَ «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ) رواه مسلم.

ص: 182

ب- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ) رواه مسلم

ج-وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنُوحَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

د- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلنَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

هـ- وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

و- وعن أبي أُمامة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الخامشة وجهها، والشّاقّة جيبها، والدّاعية بالويل والثّبور) رواه ابن حبان.

ومن الأمور المحرمة: شق الجيب، وضرب الخدود.

عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ) متفق عليه.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ). متفق عليه

(الصَّالِقَةِ) بالصّاد المهملة والقاف، أي: التي ترفع صوتها بالبكاء (وَالْحَالِقَةِ) التي تحلق رأسها عند المصيبة (وَالشَّاقَّة) التي تشقّ ثوبها، وفي لفظ لمسلم " أنا بريء ممّن حلق وسلق وخرق " أي: حلق شعره وسلق صوته - أي رفعه - وخرق ثوبه.

• خص بمثل هذه الأعمال النساء لضعفهن، إلا أن الرجال مثلهن إذا ناحوا على الميت.

ص: 183

‌فائدة: 1

حرمت النياحة لأمور:

أولاً: ينافي الصبر.

ثانياً: فيه اعتراض على قدر الله.

ثالثاً: لا يقدم شيئاً ولا يؤخره.

رابعاً: أنه جزع وتسخط بقضاء الله.

خامساً: أنه يهيج الحاضرين.

‌فائدة: 2

الإنسان تجاه المصيبة له أحوال:

‌الأول: الصبر.

وهذا واجب.

قال شيخ الإسلام: والصبر واجب باتفاق العلماء.

وقال ابن القيم: والصبر واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.

‌الثاني: الرضا.

وهو أعلى من الصبر، وهو أن يكون الأمران عنده سواء.

وهذا مستحب لا واجب على القول الصحيح.

‌الثالث: الشكر.

وهو أعلى المراتب، وهو أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة.

ص: 184

‌الرابع: التسخط.

وهو إما أن يكون بالقلب، كأن يسخط على ربه ويغضب على ما قدر الله له، وقد يكون باللسان، كالدعاء بالويل والثبور.

قال ابن القيم: والمصائب التي تحل بالعبد، وليس له حيلة في دفعها، كموت من يعزُّ عليه، وسرقة ماله، ومرضه، ونحو ذلك، فإن للعبد فيها أربع مقامات:

أحدها: مقام العجز، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً ومروءة.

المقام الثاني: مقام الصبر إما لله، وإما للمروءة الإنسانية.

المقام الثالث: مقام الرضى، وهو أعلى من مقام الصبر، وفي وجوبه نزاع، والصبر متفق على وجوبه.

المقام الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضى؛ فإنه يشهدُ البليةَ نعمة، فيشكر المُبْتَلي عليها.

‌فائدة: 3

عن نَافِع عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ حَفْصَةَ بَكَتْ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ مَهْلاً يَا بُنَيَّةُ أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) متفق عليه.

وعَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ) متفق عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم (اَلْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ).

المراد النياحة.

قال النووي: وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم على أن المراد بالبكاء هنا البكاء بصوت لا مجرد دمع العين.

ص: 185

‌اختلف العلماء في الجمع بين هذا الحديث، وبين قوله تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) على أقوال:

‌القول الأول: حمل الأحاديث الواردة في المسألة على ظاهرها وتأويل الآية.

وهذا قول ابن عمر، واختاره الشوكاني، والشيخ ابن باز.

قالوا: بأن الله تعالى له أن يتصرف في خلقه كما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل سبحانه.

وقالوا عن الآية: بأنها عامة، والحديث مخصص لعمومها.

قال الشوكاني: وأنت خبير بأن الآية عامة لأن الوزر المذكور فيها واقع في سياق النفي والأحاديث المذكورة في الباب مشتملة على وزر خاص، وتخصيص العمومات القرآنية بالأحاديث الأحادية هو المذهب المشهور الذي عليه الجمهور، فلا وجه لما وقع من رد الأحاديث بهذا العموم، ولا ملجئ إلى تجشم المضايق لطلب التأويلات المستبعدة باعتبار الآية.

‌القول الثاني: أن اللام في قوله صلى الله عليه وسلم (إن الميت) هي لمعهود معين،

وهي يهودية مر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحديث، والراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه الآخر.

وهذا هو الظاهر من رواية عمرة وعروة عن عائشة.

عن عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِى عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا) متفق عليه.

ص: 186

وعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ (ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، فَقَالَتْ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآن) متفق عليه.

‌القول الثالث: أن التعذيب المذكور في الحديث مختص بالكافر.

وهذا قول عائشة في رواه ابن عباس عنها.

الحديث وفيه (

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ

عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَاباً بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . وَقَالَتْ حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) متفق عليه.

‌القول الرابع: أن الحديث محمول على ما إذا كان النوح من سنة الميت وسنة أهله،

ولم ينه أهله عنه في حياته، فإنه يعذب من أجل ذلك.

وهذا مذهب البخاري، وقد ترجم له في صحيحه بقوله:(باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه) إذا كان النوح من سنته.

‌القول الخامس: إن هذا محمول على من أوصى بأن يبكى عليه،

ويناح بعد موته، فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم، لأنه بسببه ومنسوب إليه.

ونسبه النووي للجمهور.

وهو اختيار الطحاوي، والخطابي، والبغوي، وأبي عبد الله القرطبي، والنووي، والذهبي، والشاطبي، والسندي، والآلوسي، والألباني.

ص: 187

‌القول السادس: إنهم كانوا ينوحون على الميت ويندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم،

وتلك الشمائل قبائح في الشرع يعذب بها كما كانوا يقولون: يا مؤيد النسوان، ومؤتم الولدان، ومخرب العمران.

القول السابع: أن الحديث محمول على ما إذا أهمل الميت نهي أهله عن النوح عليه قبل موته، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه، لأن إهماله لهم تفريط منه، ومخالفة لقوله تعالى (قوا أنفسكم).

‌القول الثامن: معناه أنه يعذب بسماعه بكاء أهله ويرق لهم.

وذهب إلى هذا محمد بن جرير، واختاره ابن تيمية والشيخ ابن عثيمين.

قال الشيخ ابن عثيمين: معناه أن الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يعلم بذلك ويتألم، وليس المعنى أن الله يعاقبه بذلك لأن الله تعالى يقول:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) والعذاب لا يلزم أن يكون عقوبة ألم تر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن السفر قطعة من العذاب) والسفر ليس بعقوبة، لكن يتأذى به الإنسان ويتعب، وهكذا الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يتألم ويتعب من ذلك، وإن كان هذا ليس بعقوبة من الله عز وجل له، وهذا التفسير للحديث تفسير واضح صريح، ولا يرد عليه إشكال، ولا يحتاج أن يقال: هذا فيمن أوصى بالنياحة، أو فيمن كان عادة أهله النياحة ولم ينههم عند موته، بل نقول: إن الإنسان يعذب بالشيء ولا يتضرر به " انتهى. "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (17/ 408)

ص: 188

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة

دروس فقهية

كتاب الزكاة

بقلم

سليمان بن محمد اللهيميد

السعودية - رفحاء

الموقع/ رياض المتقين

www.almotaqeen.net

ص: 189

‌كِتَابُ الزَّكَاةِ

‌مقدمة:

‌فائدة: 1

تعريفها لغة: النماء والزيادة.

قال العلامة ابن الملّقن: الزكاة في اللغة: النماء، والتطهير.

فمن الأول قولهم: زَكَى الزرعُ: أي نما، فالمال ينمو بإخراج الزكاة من حيث لا يُرى، وإن كان في الظاهر يُحسّ بالنقصان، وقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما نقص مال من صدقة".

ومن الثاني: قوله تعالى (وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)، وقوله:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) أي طهّرها من دنس المعاصي والمخالفات، دليله قوله تعالى (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) أي أخملها بالمعاصي، فالزكاة تطهّر النفس من رذيلة البخل وغيره. وقد قيل: من أدّى زكاة ماله لم يُسَمّ بخيلاً، وتطهّر أيضًا من الذنوب، وتطهّر المال أيضًا من الخبث. (الإعلام).

وشرعاً: هي نصيب مقدر شرعاً في مال معين يصرف لطائفة مخصوصة.

‌فائدة: 2

وسميت زكاة: لأنها تزكي المال، وتزكي صاحب المال، وتطهر نفس الغني من الشح والبخل، وتطهر نفس الفقير من الحسد والضغينة، وتسد حاجة الإسلام والمسلمين.

كما قال تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).

وقال صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال) رواه مسلم.

ومن حِكمِها: تطهير أصحاب الأموال من الشح والبخل، تقوية روابط المجتمع، تزيد المحبة والمودة بين أفراد المجتمع، وأيضاً فيها امتحان للنفس، لأن المال محبوب للنفس، والنفس تبخل به، إعانة الضعفاء وكفاية أصحاب الحاجة، وتكفر الخطايا وتدفع البلاء، ومجلبة للمحبة.

ص: 190

‌فائدة: 3

قال ابن قدامة: اعلم أن على مريد الآخرة في زكاته وظائف:

الأولى: أن يفهم المراد من الزكاة، وهو ثلاثة أشياء: ابتلاء مدعي محبة الله بإخراج محبوبه، والتنزه عن صفة البخل، وشكر نعمة المال.

الوظيفة الثانية: الإسرار بإخراجها لكونه أبعد من الرياء والسمعة.

الوظيفة الثالثة: أن لا يفسدها بالمن والأذى.

الوظيفة الرابعة: أن يستصغر العطية، فإن المستعظم للفعل معجب به.

الوظيفة الخامسة: أن ينتقي من ماله أجله وأجوده وأحبه إليه.

الوظيفة السادسة: أن يطلب لصدقته من تزكو به.

قال القرطبي: وتسمى الزكاة صدقةً مأخوذة من الصدق، إذ هي دليل على صحّة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره.

‌فائدة: 4

مناسبة كتاب الزكاة بعد كتاب الصلاة

لأربعة أسباب:

أولاً: لأن الزكاة قرينة الصلاة في كثير من المواضع.

ثانياً: لأنها تأتي بعد الصلاة في الأهمية.

ثالثاً: شدة حاجة المكلف إليها.

رابعاً: اقتداء بحديث ابن عمر (بني الإسلام على خمس

وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة

).

ص: 191

‌فائدة: 5

اختلف العلماء متى فرضت الزكاة؟

فقيل: قبل الهجرة.

لقوله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده) وهذه في سورة الأنعام وهي مكية.

وقيل: بعد الهجرة.

قال النووي: إن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة.

قال ابن حجر: وهو قول الأكثر.

وهذا هو الراجح.

قال ابن حجر: وإنما الذي وقع في السنة التاسعة بعث العمال.

‌فائدة: 6

عقوبة تارك الزكاة:

أ- قال تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ).

ب- وقال تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

ج- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ، يَعْنِي شِدْقَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلَا (لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الآيَةَ) رواه البخاري.

ص: 192

[الشجاع] الحية الذكر. [الأقرع] الذي لا شعر له لكثرة سمه وطول عمره. [الزبيبتان] نقطتان سوداوان فوق العينين وهو أخبث الحيات.

د- وعنه. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّى زَكَاتَهُ إِلاَّ أُحْمِىَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ يُرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّى زَكَاتَهَا إِلاَّ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ يُرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ

) رواه مسلم.

هـ- عن ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (

وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء) رواه ابن ماجه.

(وهي واجبةٌ)

أي: أن الزكاة واجبة، بل ركن من أركان الإسلام الخمسة.

ودلّ على وجوبها الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة).

وقال تعالى (وقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).

ص: 193

وقال تعالى (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

ولحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة

) متفق عليه.

ولحديث ابن عباس. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ - (إنَّك سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ. فَإِذَا جِئْتَهُمْ: فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ. وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) متفق عليه.

وأجمع المسلمون على وجوبها، فمن جحد وجوبها وهو ممن عاش بين المسلمين فإنه كافر، لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.

قال في المغني: وهي واجبة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أمته.

(ويكفر إذا تركها جاحداً لوجوبِها).

أي: من ترك الزكاة جحْداً لوجوبها فهو كافر بالإجماع.

‌فتارك الزكاة ينقسم إلى قسمين:

‌القسم الأول: أن يتركها جاحداً لوجوبها.

فهذا كفر مخرج من الملة، لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.

ص: 194

قال ابن قدامة: ...... فَمَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهَا جَهْلًا بِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ إمَّا لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ عَنْ الْأَمْصَارِ، عُرِّفَ وُجُوبَهَا، وَلَا يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا نَاشِئًا بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ وَيُسْتَتَابُ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ظَاهِرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَلَا تَكَادُ تَخْفَى عَلَى أَحَدِ مِمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ، فَإِذَا جَحَدَهَا لَا يَكُونُ إلَّا لِتَكْذِيبِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَكُفْرِهِ بِهِمَا.

‌القسم الثاني: أن يتركها كسلاً وتهاوناً.

فهذا فيه خلاف.

والأرجح أنه لا يكفر، وهذا مذهب جمهور العلماء.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر عقوبة مانع الزكاة قال: (

فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) رواه مسلم، فلو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة.

ولكن على مانعها بخلا وتهاونا من الإثم العظيم ما ذكره الله تعالى في قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

وفي قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُون).

ص: 195

(أو بُخلاً أخِذتْ منهُ وعُزّرَ).

أي: من منع الزكاة بخلاً وتهاوناً، فقد تقدم أنه لا يكفر، وهذا قول قول الجمهور.

لكن لا بد من أمرين:

الأمر الأول: تؤخذ منه قهراً، يأخذها السلطان.

الأمر الثاني: يعزّر على تركها.

الأمر الأول: تؤخذ منه قهراً.

عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا فَلَهُ أَجْرُهُ، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ) رَوَاه أبو داود.

(مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا) أي: طالباً للأجر، (وَمَنْ مَنَعَهَا) أي: امتنع من إعطائها طوعاً، (فَإِنَّا آخِذُوهَا) أي: قهراً، (وَشَطْرَ مَالِهِ) أي: نصف ماله (عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا) العزمة في اللغة: الجد في الأمر، أي نأخذها أخذاً مؤكداً مجزوماً به.

ص: 196

‌ولكن هل تبرأ ذمته؟ اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: أن الإمام إذا أخذ الزكاة قهراً بلا نية من المزكي فإنها تجزئ عن صاحبها.

وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

قالوا: أن للإمام ولاية في أخذها، ولذلك يأخذها من الممتنع اتفاقاً، ولو لم تكن مجزئة لما أخذها.

القول الثاني: أن الإمام إذا أخذ الزكاة قهراً بلا نية من المزكي فإنها لا تجزئ عن صاحبها باطناً، وإن أجزأت ظاهراً، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

لأن الزكاة عبادة، يشترط لصحتها نية التعبد لله تعالى، فلا تسقط مع القدرة عليها.

وهذا القول أصح.

الأمر الثاني: أنه يُعزّر. (يؤخذ شطر ماله).

والمراد بالتعزير هنا ما جاء في الحديث السابق (فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ).

فائدة:

المراد بقوله (وشطر ماله)؟

فقيل: شطر المال كله. (حتى المال الذي لم يمنع زكاته).

وقيل: المال الذي منع زكاته فقط.

مثال: رجل عنده مليون درهم، وعنده [40] شاة، فجاءه الساعي فمنع الزكاة في الغنم، وقال: لا أعطيك شاة.

إذا قلنا المقصود (شطر ماله) المال الذي منع الزكاة، فإننا نأخذ [21]، وإذا قلنا المقصود (شطر ماله) كل ماله، فإننا نأخذ [500] ألف و [21] شاة.

والراجح الثاني، لأن الأصل في مال المسلم الحرمة فلا نأخذ بالاحتمال الزائد مع إمكان حمل اللفظ على الأقل.

ص: 197

(وتجبُ على كلِ مسلمٍ).

أي: أن الزكاة تجب على المسلم، فلا تجب على الكافر ولا تصح منه.

لقوله تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ).

ولحديث ابن عباس - السابق - (

فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ

فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً

) متفق عليه.

(حُرٍ).

أي: على الحر، فلا تجب على المملوك.

لأنه لا يملك، لأن المال الذي بيده لسيده.

لقوله صلى الله عليه وسلم ( .... من ابتاع عبداً وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع).

(ملَكَ نِصاباً).

هذا الشرط الثالث، وهو أن يملك نصاباً. فلا بد أن يكون عند الإنسان مال يبلغ النصاب الذي قدره الشرع، وهو يختلف باختلاف الأموال، فإن لم يكن عند الإنسان نصاب فإنه لا زكاة فيه.

والنصاب: هو القدر الذي رتب الشارع وجوب الزكاة عليه.

ودليل هذا الشرط أدلة كثيرة:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ. وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ. وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ).

وعن أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (في كل أربعين شاة شاة).

ص: 198

(ولا زكاةَ في مالٍ حتى يحولَ عليه الحول).

هذا الشرط الرابع: مضي حول كامل، بأن يمر عليها حول وهي في حوزة مالكها (أي: أن يتم على المال بيد صاحبه سنة كاملة).

لحديث علي قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) رواه أبو داود [وهو مختلف بين رفعه ووقفه].

والأقوى أنه موقوف على أبي بكر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة كما ذكر ذلك الدارقطني وابن عبد الحق وابن حجر.

ويغني عن هذا الأثر - المختلف فيه - السنة الفعلية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله على الصدقة كل عام ثم عمل بذلك الخلفاء بما عملوه من سنته، بل بعضهم من السعاة كعمر.

ومن النظر: اشتراطه فيه رفق بالمالك ليتمالك النماء فيواسي منه، لأنها لو وجبت في كل شهر لكان ذلك ضرراً في المالك أو بأصحاب الأموال، ولو وجبت في السنتين أو الثلاث أو أكثر لكان ذلك ضرراً على أهل الزكاة.

وهذا قول جمهور الفقهاء.

قال ابن رشد:

وَأَمَّا وَقْتُ الزَّكَاةِ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يَشْتَرِطُونَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَاشِيَةِ الْحَوْلَ.

لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ،.

وَلِانْتِشَارِهِ فِي الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلِانْتِشَارِ الْعَمَلِ بِهِ.

وَلِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِانْتِشَارِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ.

وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ).

وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَلَيْسَ فِيهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ خِلَافٌ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ. (بداية المجتهد).

ص: 199

وقال النووي: ما معناه: هذا الأثر المذكور عن أبي بكر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم صحيح عنهم، رواه البيهقيّ وغيره، وقد روي عن عليّ، وعائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول".

قال: وإنما لم يحتجّ المصنّف -يعني صاحب "المهذّب"- بالحديث؛ لأنه ضعيف، فاقتصر على الآثار المفسّرة.

قال البيهقيّ: الاعتماد في اشتراط الحول على الآثار "الصحيحة، فيه عن أبي بكر الصدّيق، وعثمان، وابن عمر، وغيرهم رضي الله عنهم. (المجموع)

‌فائدة:

هذا الشرط خاص بالأنعام [وهي الإبل والبقر والغنم] و السلع التجارية والنقود.

اعتبر الحول في النعم، لأنها مرصدة للدر والنسل، والحول مظنة النماء، فيكون إخراج الزكاة من الريع فيكون أسهل وأيسر.

(إلا الخارج من الأرض).

أي: مما يستثنى من مضي الحول، الخارج من الأرض، فلا يشترط له مضي الحول، بل يجب إخراج زكاتها عند حصادها واستخراجها من الأرض.

لقوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).

(ونَتاج السائمة).

هذا أيضاً مما يستثنى فلا يشترط له مضي الحول، وهو نتاج السائمة.

مثال: لو كان عند شخص (120) من الغنم ففيها شاتان، وقبل تمام الحول بشهر ولدت مائة، فأصبح له (220) ففيها ثلاث شياه، مع أن أولادها لم يتم لها إلا شهر (أي لم يحول عليه الحول)، لكن تجب فيه الزكاة لأن حوله حول أصله.

ص: 200

مثال آخر: لو أن إنساناً عنده أربعون شاة، فأنتجت هذه الأربعون حتى أصبحت مائة وإحدى وعشرين شاة، فهنا يجب إخراج زكاتها وهي شاتان، مع أن النماء لم يحل عليه الحول، وذلك لأن النماء يتبع الأصل.

(وَرِبحَ التجارة).

هذا أيضاً مما يستثنى فلا يشترط له مضي الحول، وهو ربح التجارة، فإن حوله حول أصله.

مثال: لو فتح إنساناً محلاً في شهر محرم ورأس ماله خمسة آلاف، ثم إنه ربح في شهر محرم خمسة آلاف، وفي شهر صفر خمسة آلاف، وفي شهر ربيع خمسة آلاف، ولما انتهت السنة فإذا معه خمسون ألفاً، ففي هذه الحالة يزكي عن الخمسين ألفاً.

لأن الربح فرع والفرع تبع للأصل.

مثال آخر: إنسان عنده أرض تساوي خمسين ألفاً، وقبل تمام السنة صارت تساوي مائة ألف، فإنه هنا يزكي عن المائة ألف، مع أن الخمسين الثانية لم يحل عليها الحول، لكنه ربح الخمسين الأولى فيتبع الأصل، لأن الربح فرع والفرع تبع للأصل.

‌فائدة: 1

المال المستفاد ينقسم إلى أقسام:

أ-أن يكون نماء للمال الأصلي:

فهذا حوله حول أصله.

مثال: نتاج السائمة، ربح التجارة.

ب-لا يكون نماء ويكون من جنس المال الذي عنده:

فهذا يبدأ حول مستقل، لأنه ليس نماء للأصل.

ص: 201

مثال: إنسان عنده ألف ريال، بدأ الحول فيها في محرم، وفي صفر جاءه ألف ريال راتب، هذه الألف من جنس المال، لكن ليس نماءً لهذه الألف.

ج-أن يكون مخالفاً للمال الذي عندك في الجنس:

فهذا يشترط له حول جديد.

مثال: عنده خمس من الإبل في محرم، وفي صفر اكتسب ألفاً، فإنه يبدأ من صفر.

قال الشيخ المشيقح: الأموال المستفادة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يكون المال المستفاد ربح تجارة أو نتاج سائمة:

فإذا كان ربح تجارة أو نتاج سائمة فحوله حول أصله، ولنضرب مثالاً على نتاج السائمة: هذا رجل عنده خمس من الإبل سائمة ابتدأ عليها الحول من محرم، وفي شهر ذي الحجة في آخر السنة أنتجت خمساً أخرى فالخمس الثانية هذه هل لها حول مستقل أو نقول حولها حول أصلها؟ نقول حولها حول أصلها وحينئذ إذا جاء شهر محرم نقول يزكي عن عشر من الإبل مع أن الخمس الجديدة هذه من الإبل ما مكثت عنده إلا شهراً.

وأيضاً ربح التجارة الذي يبيع ويشتري، الأموال هذه حولها حول أصلها، مثال على ذلك: صاحب بقالة افتتح البقالة في شهر محرم بخمسين ألف ريال يبيع ويشتري ولما جاء شهر محرم من السنة المقبلة عنده بضائع الآن اشتراها وأصبحت قيمة البقالة تساوي ثمانين ألف فحكم الزيادة هذه بأن حولها حول أصلها. فإذا جاء محرم لا يقول أن هذه البضائع الآن جديدة و لا يقول الربح الذي اكتسبه الآن إنما نقول هذه حولها حول أصلها فيجب عليه أن يزكي الجميع يقدر سعر بيع هذه البقالة تساوي ثمانين ألف والتي اشتراها الآن فيخرج زكاة الجميع.

فتلخص لنا القسم الأول وهو ما إذا كان نتاج سائمة أو ربح تجارة هذا نقول بأن حوله حول أصله.

ص: 202

القسم الثاني: أن يكون المال المستفاد ليس نتاج سائمة ولا ربح تجارة ويخالف جنس المال الذي عنده:

ولنفرض أن عنده نصاب من الإبل وجاءته أموال مثلاً: إرث أو هبة كما لو وهب له شخص عشرة آلاف ريال، أو جاءه راتب شهري خمسة آلاف ريال أو ورث من أبيه أو جاءته هبة خمسة ألاف وعنده سائمة، فهذه الأموال التي جاءته لا تضم إلى السائمة بالاتفاق، السائمة لها حولها وهذه الدراهم التي جاءته لها حول مستقل من حين ملكها.

القسم الثالث: أن يكون المال المستفاد ليس ربح تجارة ولا نتاج سائمة ويكون من جنس المال الذي عنده:

مثال: رجل عنده عشرة آلاف ريال ثم جاءه مرتب ألف ريال هذه الألف هل يضمها إلى العشرة التي عنده في الحول أو نقول بأن هذه الألف يستأنف لها حولاً جديداً؟ هذا موضع خلاف بين الجمهور وبين الحنفية رحمهم الله:

الرأي الأول: مذهب الحنيفية: يقولون مادام أنه من جنسه عنده الآن عشرة آلاف وجاءه ألف والجنس واحد يضمه ويكون هذا المستفاد حوله حول أصله.

الرأي الثاني: رأي الجمهور أنه يستأنف له حولاً مستقلاً.

والصواب ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله.

‌فائدة: 2

كيفية زكاة الراتب الشهري؟

وعلى رأي الجمهور كل راتب يكون له حول مستقل، فراتب محرم تجب فيه الزكاة في محرم، وراتب صفر تجب الزكاة فيه في صفر وربيع في ربيع وهكذا، فكل مرتب يكون له حول مستقل، وهذا فيه مشقة، ولهذا أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة بأن الأحسن للإنسان أن يحدد وقتاً وينظر كم تجمع عنده من الرواتب فما حال عليه الحول يكون أدى زكاته في وقته وما لم يحل عليه الحول يكون عجل زكاته وتعجيل الزكاة عند جمهور العلماء أن هذا جائز ولا بأس به خلافاً للمالكية.

ص: 203

‌فائدة: 3

هل تجب الزكاة في المال المحرم (إذا كان محرماً لذاته)؟

إذا كان المال المحرم، محرماً لعينه وذاته (كالدخان) فهذا باتفاق الفقهاء أنه لا تجب فيه الزكاة.

ولنفترض أن صاحب بقالة يبيع في بقالته مواداً غذائية ويبيع دخاناً، المواد الغذائية بخمسين ألف ريال والدخان بألف ريال نقول هذا الدخان ما تجب فيه الزكاة يخرج الزكاة عن الأموال المباحة شرعاً أما الدخان فهذا لا تجب في الزكاة. (فقه النوازل للمشيقح).

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم، وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ثم يمد يده إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) رواه مسلم.

(وتحب في مال الصبي والمجنون).

أي: وتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون.

وهذا قول جماهير العلماء.

أ-لعموم الأدلة التي تدل على وجوب الزكاة في مال الأغنياء ولم تستثن.

ب- ولقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم

)، وحديث ابن عباس السابق (في أموالهم) فالزكاة واجبة في المال، فهي عبادة مالية تجب متى توفرت شروطها، كملك النصاب، ومرور الحول.

ج-ولقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم

) وكل الأغنياء من عاقل ومجنون، وصغير وكبير، محتاج إلى طهارة الله لهم وتزكيته إياهم.

ص: 204

د- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ; عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مِنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ، فَلْيَتَّجِرْ لَهُ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ اَلصَّدَقَةُ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيف.

هـ - ـولأن المعنى الذي فرضت من أجله الزكاة وهو شكر الله جل وعلا وطهارة المال، يسري على مال الصبي والمجنون، إذ هما بحاجة إلى شكر الله وطهارة أموالهم أسوة بغيرهم من الأغنياء.

و_وأيضاُ فإن المقصود من الزكاة سد خلة الفقير من مال الغني، وذلك لأمرين: الأمر الأول: شكراً لله تعالى على نعمة المال، الأمر الثاني: تطهيراً للمال، ومالهما قابل لأداء القربات منه، وهو محل للشكر ومحل للتطهير.

ز-ولأن الزكاة واجب مالي، فتجب في مالهما كغيرهما من ذوي اليسار.

ك-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث سعاته لقبض الزكاة ولم يقل لهم لا تأخذوا الزكاة من مال المجانين والصبيان مع كثرة وجود ذلك.

ظ-أن هذا قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال بوجوبها: عمر وعلي وعائشة وابن عمر وجابر ولا يعلم لهم مخالف، قال عمر (اتجروا في أموال اليتامى ولا تأكلها الصدقة) رواه البيهقي وقال: إسناده صحيح.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون.

ص: 205

وهذا مذهب أبي حنيفة.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق،

).

ب-ولأنها عبادة محضة فلا تجب عليه كالصلاة والحج.

ج- ولقوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) والصبي والمجنون لا ذنوب عليهما حتى يحتاجا إلى التطهير والتزكية.

والصحيح قول الجمهور.

•‌

‌ ما الجواب عن أدلة القول الثاني؟

الجواب:

أما الحديث فالمراد به رفع الإثم والوجوب عليهما، والزكاة لا تجب عليهما وإنما تجب في مالهما.

وأما الآية فإن التطهير ليس خاصاً بالذنوب، وإنما هو عام في تربية الخلق وتزكية النفس.

‌فائدة:

الذي يتولى إخراج الزكاة عنهما وليهما.

قال ابن قدامة في المغني: إذا تقرر هذا - يعني وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون - فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما; لأنها زكاة واجبة، فوجب إخراجها، كزكاة البالغ العاقل، والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه; ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون، فكان على الولي أداؤه عنهما، كنفقة أقاربه.

ص: 206

وقال النووي: الزكاة عندنا واجبة في مال الصبي والمجنون بلا خلاف، ويجب على الولي إخراجها من مالهما كما يخرج من مالهما غرامة المتلفات، ونفقة الأقارب وغير ذلك من الحقوق المتوجهة إليهما، فإن لم يخرج الولي الزكاة وجب على الصبي والمجنون بعد البلوغ والإفاقة إخراج زكاة ما مضى، لأن الحق توجه إلى مالهما، لكن الولي عصى بالتأخير فلا يسقط ما توجه إليهما. (المجموع)

(ولا تجبُ الزكاةَ إلا في أربعةِ أنواعٍ: السائمةِ من بهيمةِ الأنعام، والخارج من الأرض، والأثمان، وعروض التجارة).

هذه الأموال الزكوية التي تجب فيها الزكاة، وسيأتي تفصيلها إن شاء الله.

ص: 207

(ومن كان له دين ومال لا يرجو وجوده كالذي على مماطل أو معسر لا وفاء له فلا زكاة فيه، وإلا ففيهِ الزكاة).

‌أي: من كان له دين عند الناس، فإن هذا الديْن ينقسم إلى قسمين:

‌القسم الأول: أن يكون الدين مما لا يرجو وجوده، كأن يكون عند مماطل أو يكون عند معسر لا وفاء له.

‌فهنا اختلف العلماء فيه على أقوال:

‌القول الأول: لا زكاة فيها، ويستقبل به حولاً جديداً.

لأنه يجب إنظار المعسر إلى الميْسرة بنص القرآن، ولو وجبت الزكاة على صاحب المال في هذه الحال، فإن ذلك سيخالف المقصود من إمهال المعسر، لأنه يترتب على ذلك أن يضيق صاحب الدين على المعسر.

‌القول الثاني: يزكيه إذا قبضه لعام واحد.

وهذا قول المالكية، واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

فائدة:

المماطل هو: من يؤخر السداد الذي عليه بغير حق.

‌القسم الثاني: أن يكون عند مليء باذل.

فهذا تجب فيه الزكاة عن كل سنة.

المليء: هو القادر على السداد بقوله وبماله وببدنه.

ص: 208

[بقوله] أن يكون مقراً به [بماله] بأن يكون باذلاً لا جاحداً، [ببدنه] بأن يحضر إذا طلب حضوره.

الدليل على أنه تجب فيه الزكاة:

لأن هذا الرجل قادر على قبضه والانتفاع به، وهو مملوك له، فلزمته زكاته كسائر أمواله، لأن الدين الذي عند المليء كالدراهم التي في جيبك.

لكن اختلفوا في الوقت الذي تخرج فيه الزكاة على قولين:

القول الأول: لا تلزمه زكاته حتى يقبضه، فإذا قبضه أدى زكاته ما مضى من السنين.

أ- هذا المروي عن بعض الصحابة كعلي، وعائشة، وابن عمر (لا زكاة في الديْن حتى يقبض) رواه ابن أبي شيبة.

ب- ولأن هذا الدين ثابت في الذمة، فلا يلزمه إخراجه قبل القبض كما لو كان على غير مليء.

ج- ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مالٍ لا ينتفع به.

القول الثاني: أنه يجب عليه أن يخرج زكاته في كل حول ولو لم يكن هذا المال عنده.

وهذا مذهب الشافعي.

والقول الأول أقوى.

تنبيه: إن شاء أدى زكاته مع زكاة ماله فلا بأس لأنه أسرع في إبراء الذمة.

‌فائدة:

من كان عليه دين وعنده مال زكوي فهل تجب في هذا المال زكاة أم لا،

اختلف العلماء:

‌القول الأول: أن الديْن يمنع الزكاة.

وهذا قول الجمهور.

أ-واستدلوا بقول عثمان: (هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده).

ب-وقالوا: إن هذا الشخص المدين (الذي دينه أكثر من ماله) مما يحل له أخذ الزكاة، فيكون فقيراً فلا تجب عليه الزكاة.

ج- وقالوا: إن الزكاة وجبت مواساة للفقراء وشكراً لنعمة الغنى، وهذا المدين محتاج إلى قضاء دينه كحاجة الفقير، وليس من الحكمة تعطيل حاجة هذا المالك لحاجة غيره.

ص: 209

‌القول الثاني: أن الدين لا يمنع الزكاة.

واختاره الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين.

لعموم الأدلة في وجوب الزكاة في كل مال بلغ النصاب.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة إلى أصحاب المزارع ولم يستفصل عليه الصلاة والسلام، مع أن الغالب أن عليهم ديون.

وهذا القول هو الصحيح.

(ومنْ ماتَ وعليهِ زكاةٌ أخذتْ من تركتهِ).

أي: إذا مات الإنسان وعليه زكاة، فإنه يجب أن تخرج من تركته إن كان ترك مالاً ولو لم يوص، وتقدم على الوصية والورثة.

لأن الديْن مقدم على الوصية والورثة.

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (فدين الله أحق أن يقضى).

فلا يستحق صاحب الوصية شيئاً إلا بعد أداء الزكاة، وكذلك لا يستحق الوارث شيئاً إلا بعد أداء الزكاة.

قال ابن قدامة: وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَتُخْرَجُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا.

هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.

لأَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.

وَلِأَنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَاجِبٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَالدَّيْنِ، وَيُفَارِقُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ، فَإِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ بَدَنِيَّتَانِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِمَا، وَلَا النِّيَابَةُ فِيهِمَا. (المغني).

جاء في (الموسوعة الفقهية) حُكْمُ مَنْ تَرَكَ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ حَتَّى مَاتَ:

مَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِخْرَاجِهَا، حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا أَثِمَ إِجْمَاعًا.

ثُمَّ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ لَمْ يُؤَدِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ، وَمِنْهَا الْحَجُّ وَالْكَفَّارَاتُ، وَيَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنْ مَالِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ.

وَتُخْرَجُ مِنْ كُل مَالِهِ لأِنَّهَا دَيْنٌ لِلَّهِ، فَتُعَامَل مُعَامَلَةَ الدَّيْنِ، وَلَا تُزَاحِمُ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ؛ لأِنَّ الثُّلُثَ يَكُونُ فِيمَا بَعْدَ الدَّيْنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ فِي الْمَال، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ. (الموسوعة).

ص: 210

قال الشيخ ابن عثيمين: هذا فيما إذا كان الرجل لم يتعمد تأخير الزكاة، فإننا نخرجها من تركته، وتجزئ عنه، وتبرأ بها ذمته كرجل يزكي كل سنة، وتم الحول في آخر سنواته في الدنيا ثم مات، فهنا نخرجها وتبرأ بها ذمته.

أما إذا تعمد ترك إخراج الزكاة، ومنعها بخلاً ثم مات: فالمذهب أنها تخرج وتبرأ منها ذمته.

وقال ابن القيم رحمه الله: إنها لا تبرأ منها ذمته ولو أخرجوها من تركته؛ لأنه مصِرٌّ على عدم الإخراج فكيف ينفعه عمل غيره؟ وقال: إن نصوص الكتاب والسنة وقواعد الشرع تدل على هذا. (وتقدمت المسألة).

‌فائدة:

لو مات شخص وعليه دين وزكاة فأيهما يقدم؟

مثاله: رجل خلف (100) ريال، وعليه زكاة (100) ريال، ودين (100) ريال فهل يقدم حق الآدمي، أو تقدم الزكاة؟

‌في المسألة ثلاثة أقوال:

قال بعض العلماء: يقدم دين الآدمي.

لأنه مبني على المشاحة؛ ولأن الآدمي محتاج إلى دفع حقه إليه في الدنيا، أما حق الله فالله غني عنه، وحقه سبحانه وتعالى مبني على المسامحة.

وقال بعض العلماء: يقدم حق الله.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اقضوا الله فالله أحق بالوفاء).

وقال بعض العلماء: إنهما يتحاصان.

لأن كلاً منهما واجب في ذمة الميت، فيتساويان فإن كان عليه (100) ديناً و (100) زكاة، وخلف (100) فللزكاة (50) وللدين (50).

ويجاب عن الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحكم بين دينين أحدهما للآدمي، والثاني لله، وإنما أراد القياس؛ لأنه سأل (أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيتَهُ؟) قالت: نعم، قال: «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء).

فكأنه قال: إذا كان يقضى دين الآدمي، فدين الله من باب أولى.

وهذا هو المذهب، وهو الراجح.

(ابن عثيمين).

ص: 211

‌باب زكاة السائمة

السائمة من بهيمة الأنعام: هي: الإبل والبقر والغنم.

ودليل وجوب الزكاة فيها قوله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن تنطحه بقرونها).

(تجب الزكاة فيها بثلاثة شروط)

أي: تجب الزكاة في سائمة بهية الأنعام بثلاثة شروط.

(أن تكون سائمةً الحول أو أكثره).

هذا الشرط الأول من شروط وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام: أن تكون سائمة.

وخصَّتْ السائمةُ بالذّكْرِ للاحتراز عن المعلوفَةِ، فإنها لا زكاةَ فيها عند أكثرِ أهل العلم

السائمة لغة: الراعية، ومنه قوله تعالى (ومنه شجر فيه تسيمون).

وأما في الشرع: فهي المكتفية بالرعي المباح أكثر العام.

‌والدليل على أنه يشترط أن تكون سائمة:

أ- حديث أَنَس أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ (هَذِهِ فَرِيضَةُ اَلصَّدَقَةِ اَلَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّتِي أَمَرَ اَللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ اَلْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا اَلْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ ..... وَفِي صَدَقَةِ اَلْغَنَمِ سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ، ..... ) رواه البخاري.

ب- وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ

). رواه أحمد

ص: 212

فذكْر السوم في الحديث يدل بمفهومه على أن المعلوفة لا زكاة فيها، لأن ذكْر السوم لا بد له من فائدة يعتد بها، صيانة لكلام الشارع عن اللغو.

• فلا تجب الزكاة في بهيمة الأنعام إلا إذا كانت سائمة أكثر الحول ترعى الكلأ المباح، بأن ترعى سبعة أشهر - مثلاً - ويعلفها خمسة أشهر، واعتبر الأكثر، لأن له حكم الكل، وهذا بخلاف المعلوفة فلا زكاة فيها، لأنها تكثر مؤنتها، فيشق على النفوس إخراج الزكاة منها، بخلاف السائمة.

مثال: شخص عنده أغنام، ثمانية أشهر لا يعلفها [في البر] وأربعة أشهر يعلفها، فهذه زكاتها زكاة بهيمة الأنعام.

‌الخلاصة: أحوال السائمة:

أولاً: أن تسوم الحول فهذه فيها زكاة.

ثانياً: أن ترعى أكثر الحول ففيها الزكاة وهذا المذهب.

رابعاً: أن تكون راعية أقل من النصف فهذه لا زكاة فيها.

ص: 213

‌فائدة:

الحكمة من اشتراط السوم: الرفق بالمالك.

(الثاني أن تُتخذَ للدرِ والنسل لا للعمل).

هذا الشرط الثاني من شروط وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام: أن تتخذ للدر والنسل لا للعمل.

فلو كانت تتخذر للدر والنسل لكنها غير سائمة - فلا زكاة فيها.

ولو كانت من العوامل، وهي: الإبل التي عند شخص يؤجرها للحمل - فهذه ليس فيها زكاة.

ولو كانت عروض تجارة: فهذه تزكى زكاة العروض.

فقد تجب الزكاة في شاة واحدة، أو في بعير واحد، أو في بقرة واحدة؛ لأن المعتبر في عروض التجارة القيمة، فإذا كان هذا هو المعتبر فما بلغ نصاباً بالقيمة ففيه الزكاة، سواء كانت سائمة أو معلوفة، مؤجرة كانت، أو مركوبة للانتفاع.

فالخلاصة:

فبهيمة الأنعام التي تجب فيها الزكاة: أن تتخذر للدر والنسل وتكون سائمة.

(الثالث: أن تبلغَ نصاباً).

هذا الشرط الثالث، وقد تقدم دليله، وسيأتي مقدار نصاب كل نوع من بهيمة الأنعام إن شاء الله.

فلا شيء فيما دونه إلا إذا كان عروضاً.

ص: 214

‌نصاب الإبل

‌(فأقلّ نصابِ الإبل خمسٌ، وفيها شاةٌ، ثم في كل خمسٍ شاةٌ إلى خمس وعشرين فتجبُ بنتُ مخاضٍ، وهي ما تمّ لها سنة، وفي ستٍّ وثلاثين بنتُ لبونٍ، لها سنتان،

).

أي: أن الزكاة في الإبل تجب إذا بلغت خمساً، فإذا نقصت فلا زكاة فيها.

والأدلة على وجوب الزكاة في الإبل.

أ- عن أَبَي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالإِبِلُ قَالَ «وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لَا يَفْقِدُ مِنَهَا فَصِيلاً وَاحِداً تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) رواه مسلم.

ب- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ. وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ. وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ) متفق عليه.

(ذَوْدٍ) من الواحد إلى العشرة من الإبل.

ص: 215

‌فائدة: 1

أن من عنده أقل من خمس لا زكاة فيها - وإن كانت سائمة - إلا إذا شاء ربها.

‌فائدة: 2

جدول نصاب الإبل:

نصاب الإبل من 5 - 120 كالتالي:

5 -

9: شاة واحدة.

10 -

14: شاتين.

15 -

19: 3 شياه.

20 -

24: 4 شياه.

25 -

35: بنت مخاض.

36 -

45 بنت لبون.

46 -

60 حقة.

61 -

75 جذعة.

[76 - 90] بنتا لبون.

[91 - 120] حقتان.

وعلى هذه المقادير انعقد الإجماع. ثم بعد: 120، في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون.

130: فيها حقة واحدة وبنتا لبون.

150: فيها 3 حقاق.

ص: 216

والدليل على هذا:

حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ (هَذِهِ فَرِيضَةُ اَلصَّدَقَةِ اَلَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّتِي أَمَرَ اَللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ اَلْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا اَلْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ اَلْجَمَلِ فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا اَلْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ .... ) رواه البخاري.

‌فائدة: 3

بنت اللبون: هي أنثى الإبل تمت لها سنتان وسميت بذلك لأن أمها قد ولدت وأصبحت ذات لبن غالباً.

بنت مخاض: أنثى الإبل ولها سنة واحدة، وسميت بذلك لأن الغالب أن أمها حامل.

حقة: الأنثى لها ثلاث سنوات سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل.

جذعة: أنثى الإبل وتمت لها: 4 سنوات.

ص: 217

‌نصاب البقر

(وأقل نصاب البقر - أهلية كانت أو وحشية -: ثلاثون وفيها تبيع وهو ما له سنة، وفي أربعين مسنة لها سنتان وفى ستين تبيعان ثم في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة).

أي: أن نصاب البقر يبدأ من: 30.

والدليل على وجوب الزكاة في البقر.

أ-حديث أَبَي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» ...... قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ قَالَ «وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئاً لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَضْبَاءُ تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّار) رواه مسلم.

ص: 218

قال النووي: هو أصح حديث في زكاة البقر.

قال ابن قدامة: فلا أعلم خلافاً في وجوب الزكاة في البقر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإنما لم يذكر زكاة البقر في كتاب أبي بكر، لقلة البقر في الحجاز، فلما بعث معاذاً إلى اليمن ذكر له حكم البقر لوجودها عندهم.

ب-وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى اَلْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً) رواه أبو داود.

‌فائدة: 1

نصاب البقر يبدأ من ثلاثين بقرة، فلا زكاة فيما أقل من ذلك.

قال ابن قدامة: ولا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر، وهو قول جمهور الفقهاء.

زكاة البقر في كل ثلاثين بقرة تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة.

30: تبيع أو تبيعة

40: مسنة

60: تبيعان

70: مسنة وتبيعة

80: مسنتان

وهكذا.

‌فائدة: 2

التبيع: ما له سنة واحدة، وسمي بذلك لأنه يتبع أمه.

مسنة: وهي أنثى لها سنتان.

ص: 219

‌نصاب الغنم

(وأقلُّ نصابِ الغنم أربعون، وفيها شاةٌ تمَّ لها سنة، أو جذعةُ ضأنٍ لها سِتَّةُ أشهر، وفي مائةٍ وإحدى وعشرين شاتان، في مائتين وواحدةٍ ثلاثُ شياهٍ، وفي أربعمائةٍ أربع شياهٍ، ثم فيما زاد على ذلك: في كل مائةٍ شاةٍ شاةٌ).

أي: أن أول نصاب الغنم: 40.

والدليل على وجوب الزكاة في الغنم.

أ- حديث أبي هريرة السابق.

ب-ولحديث أنس السابق وفيه (

وَفِي صَدَقَةِ اَلْغَنَمِ سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ

) رواه البخاري.

‌فائدة: 1

أجمع العلماء على أن أول نصاب الغنم: 40.

جدول نصاب الغنم:

40 -

120: شاة.

121 -

200: شاتان.

201 -

399: ثلاث شياه.

ثم في كل (100) شاة، فمثلاً: 400 - 499 أربع شياه، 500 - 599 خمس شياه.

ص: 220

والدليل على هذا:

حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ (هَذِهِ فَرِيضَةُ اَلصَّدَقَةِ اَلَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّتِي أَمَرَ اَللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ اَلْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا اَلْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ،

وَفِي صَدَقَةِ اَلْغَنَمِ سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ اَلرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا. . .) رواه البخاري.

‌فائدة: 2

لماذا قال في الغنم (وَفِي صَدَقَةِ اَلْغَنَمِ سَائِمَتِهَا. . .) ولم يذكر السوم في الإبل؟

الجواب من وجوه:

أولاً: أنه ذكر في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده كما تقدم (فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ

).

ثانياً: أن عدم الذكر ليس ذِكراً للعدم.

ثالثاً: قياساً على الغنم.

رابعاً: ولأن الإبل غالباً لا تكون إلا سائمة.

ص: 221

(وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ اَلصَّدَقَةِ).

أي: أنه يحرم أن يجمع بين متفرق، أو يفرق بين مجتمع خشية الصدقة.

مثال: شخص عنده [40] شاة، فلما علم بقدوم المصدق فرقها، جعل [20] في جهة، و [20] في جهة، فهذا أمر محرم، لأنه فرق من أجل الهروب من الزكاة.

مثال: ثلاث أشخاص عند كل واحد [40] شاة، تجب على كل واحد شاة، فلما علموا بقدوم المصدق، جمعوها في مكان واحد، من أجل أن يكون فيها شاة واحدة، لأنه يصير مجموعها [120] فعلوا ذلك حيلة للتخلص من الزكاة، فهذا أمر محرم.

‌فائدة: 1

لو كان مال الرجل نفسه متفرق:

مثال: شخص عنده (20) شاة في رفحاء، و (20) شاة في الرياض، فالصحيح أن عليه الزكاة، لأن المالك واحد.

‌فائدة: 2

الحيل التي تؤدي إلى إبطال الحقوق أو تخفيفها محرمة في الشريعة، وقد مسخ الله تلك القرية قردة لما تحايلوا على ارتكاب المحرم كما قال تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).

وتعريف الحيلة: التوصل إلى أمر محرم بفعلٍ ظاهره الإباحة.

وحكمها: حرام.

أ- لقوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) فقد مسخ الله تلك القرية قردة لما تحايلوا على ارتكاب المحرم.

ص: 222

ب- أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم بما بلاهم به في سورة (القلم) وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفاً وهو نائمون فأصبحت كالصريم، وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين، بأن يصرموها مصبحين، قبل مجيء المساكين، فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده.

ج-لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل).

د-ولأن المتحيل فيه نوع استهزاء بالله تعالى.

• كل من تحيل لارتكاب محرم [إما بإسقاط واجب أو فعل محرم] فقد ارتكب مفسدتين:

الأولى: مفسدة التحايل. الثانية: مفسدة فعل المحرم.

(ولا يُؤخذُ في الصدقةِ تيْسٌ، ولا ذاتَ عَوارٍ، ولا هرِمَةٍ).

لحديث أنس السابق وفيه (وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ إِلاَّ أن يشَاءَ الْمُصَدِّقُ).

(هَرِمَةٌ) بفتح الهاء وكسر الراء، أي: كبيرة سقطت أسنانها، قال ابن الأثير: الطاعنة في السن.

(وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ) بفتح العين المهملة وضمها، أي: معيبة، وقيل: بالفتح: العيب، وبالضم العَوَر في العين، قاله في الفتح.

وقال ابن الأثير: بفتح العين ويضم: أي صاحبة عيب ونقص.

‌فائدة: 1

واختُلف في ضبط العيب الذي يمنع الإجزاء في الزكاة:

فالأكثر على أنه ما يَثبُت به الردّ في البيع -وهو ما يوجب نقصان الثمن عند التجّار-.

وقيل: ما يَمنع الإجزاء في الأضحية. ويَدخُل في المعيب المريض، والذكور بالنسبة إلى الأنوثة، والصغير بالنسبة إلى سنّ أكبر منه. أفاده في "الفتح".

ص: 223

‌فائدة: 2

قوله (وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ إِلاَّ أن يشَاءَ الْمُصَدِّقُ).

قوله (الْمُصَدِّقُ) اختلف العلماء في ضبطه ومعناه:

فقيل: المراد ربّ الماشية، لا الساعي.

وعلى هذا تكون: بتشديد الصاد وتشديد الدال المكسورة.

ويكون تقدير الحديث: لا تؤخذ هرمة، ولا ذات عيب أصلاً، ولا يؤخذ التيس إلا برضا المالك؛ لكون المالك يحتاج إليه، ففي أخذه بغير اختياره إضرار به، وعلى هذا فالاستثناء مختصّ بالثالث، وهو التيس.

وقيل: المراد به الساعي.

وعلى هذا هو بتخفيف الصاد، وكسر الدال المشدّدة. (المصَدّق: هو آخذ الصدقة: الساعي والعامل).

وهذا هو المشهور في ضبطها، وهو قول المحدّثين، وعامة الرواة، كما قال الخطّابيّ، أي العامل الذي يستوفي الزكاة من أربابها. قال وعلى هذا يكون الاستثناء متعلّق بالأقسام الثلاثة.

ويكون المعنى: لا تخرج الهرمة ولا ذات العوار ولا تيس إلا إذا رأى الساعي أن هذا فيه مصلحة للفقراء.

وهذا الأقرب، لأنه هو المناسب أن يجعل الأمر إليه، لأنه لو جعل الأمر موكول إلى صاحب المال ربما يجحف بالفقراء.

ص: 224

(ولا يُؤخذُ شرارُ المالِ، ولا كرائمه إلا أن يتبرعوا).

أي: يحرم على صاحب المال إخراج شرار المال: كالمعيبة أو مريضة أو كسيرة أو هرمة -وهي الكبيرة التي سقطت أسنانها- أو بها عيب ينقص منفعتها وقيمتها.

أ-قال تعالى (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ).

ب-وفي حديث أبي بكر السابق (وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ .... ).

ج- وجاء في حديث عبد الله بن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ثلاث من فعلهن طعم طعم الإيمان:

وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولا يعطى الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة

).

وعلى السَّاعِي أن يتجنب طَلَبَ خِيَارِ الْمَال، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَالِكُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُه.

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أمره أن يأخذ الزكاة من أهل اليمن (فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ. وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ).

ب- وعن عائشة رضي الله عنها قالت (مُرَّ على عمر بن الخطاب بغنم من الصدقة، فرأى فيها شاة حافلاً ذات ضرع، فقال: ما هذه الشاة؟ فقالوا: شاة من الصدقة، فقال عمر: ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا خَزَرات المسلمين، نكبوا عن الطعام) رواه مالك.

‌فائدة:

إنْ كَانَتْ مَاشِيَةُ الرَّجُل كُلُّهَا خِيَارًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:

فَقِيل: يَأْخُذُ السَّاعِي مِنْ أَوْسَطِ الْمَوْجُودِ، وَقِيل: يُكَلَّفُ شِرَاءَ الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ.

ص: 225

(وإنِ اختلطَ جماعةٌ في نصابٍ من السائمةِ حوْلاً كاملاً، وكان مرعاهم وفحلُهم، ومبيتُهم ومَحْلَبُهُم واحداً، فحكم زكاتِهم حكمُ زكاةِ الواحد).

هذا بيان حكم المختلطة في بهيمة الأنعام، فالخُلطة تصيّر المالين واحداً.

مثال: عندي غنم، وأنت عندك غنم، والثالث عنده غنم، والرابع عنده غنم، وخلطناها جميعاً، فتجعل المالين كالمال الواحد، لكن تكون الخلطة مؤثرة بشروط:

الشرط الأول: أن يكون الخليطان من أهل الزكاة (بأن يكونا مسلمين حرين، فلو كان أحدهما مسلم والآخر ذمي، فإنه لا أثر لخلطة غير المسلم، لأن الزكاة غير واجبة على الذمي أصلاً.

الشرط الثاني: أن يختلطا في نصاب، بأن يكون مجموع ماليهما يبلغ نصاباً (كأربعين من الغنم).

الشرط الثالث: أن تكون الخلطة في السائمة (وهذا المشهور من مذهب الحنابلة) فلو اختلطا في زرع أو في عروض أو أثمان فإنه لا أثر لهذه الخلطة.

الشرط الرابع: أن يختلطا في الأوصاف التي ذكرها العلماء، وهي:

أ- (مرعاهم) أي: في المرعى، أي يكون المرعى لها جميعاً فليس غنم هذا في شعبة الوادي الشرقية، والثاني في الشعبة الغربية.

ب- (وفحلُهم) أي: في الفحل، أي فحل المالين واحد، فلو كان مال زيد له فحل، ومال عمرو له فحل، فالخلطة غير مؤثرة.

ج- (ومبيتُهم) أي: في المبيت، فلا يكون غنمي لها مراح وحدها، وغنمك لها مراح وحدها.

د- (ومَحْلَبُهُم واحداً) أي: في المحلب، أي المكان الذي تحلب فيه يكون واحداً.

ص: 226

فهذه إذا اشتركت في هذه الأشياء الخمسة، فإن الخلطة هنا تصير المالين كالمال الواحد.

وأما إذا تميز مال كل منهما عن الآخر في شيء من هذه الأوصاف فإنه لا يحصل تمام الارتفاق، وإذا لم يحصل تمام الارتفاق فإنه لا

يكون مالهما كالمال الواحد.

الشرط الخامس: أن يختلطا في جميع الحول - وهذا الشرط بالإجماع - فلو اختلطا في بعض الحول أو افترقا في بعض الحول فإنه لا أثر لهذه الخلطة، لأن إيجاب الزكاة معلقة بالخلطة، فإذا عدمت الخلطة عدِم وجوب الزكاة، وإذا عدم في بعض الحول سقطت الزكاة.

ص: 227

‌فائدة: 1

هل الخلطة مؤثرة في غير بهيمة الأنعام.

جمهور العلماء أن الخلطة مؤثرة في بهيمة الأنعام فقط، فلا تأثير للخلطة في غيرها من الأموال.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الخلطة تؤثر في جميع الأموال الزكوية، فلو خلط شخصان ماليهما - ومال كل واحد منهما لا يبلغ نصاباً - لكنهما يبلغان نصاباً إذا اجتمعا، فإن الخلطة تكون مؤثرة وتجب الزكاة على هذا القول، قياساً على السائمة بجامع الارتفاق.

وذهب بعضهم: إلى أن الخلطة مؤثرة في الأموال الظاهرة (كالحبوب والثمار والماشية) لأن السعاة كانوا يخرصون الثمر والحبوب دون استفصال.

والصحيح قول الجمهور.

‌فائدة: 2

بعض الأحكام التي تختلف فيها سائمة بهيمة الأنعام عن بقية الأموال الزكوية؟

الأول: أن أنصابها مقدرة ابتداء وانتهاء.

الثاني: أنه لا شيء في الوقص. (الوقص هو ما بين الفرضين).

الثالث: أنه إذا فرّقها مسافة قصر فأكثر - لا فراراً من الزكاة - فلكل مكانٍ حكم منفرد.

رابعاً: أن الخلطة تؤثر فيها بخلاف غيرها.

ص: 228

‌فائدة: 3

ما الحكم لو كان مال الرجل نفسه متفرق:، مثال: شخص عنده (20) شاة في رفحاء، و (20) شاة في الرياض؟

الصحيح أن عليه الزكاة.

ولا يضرّ اختلاف الأمكنة.

لظواهر النصوص الواردة في وجوب الزكاة، حيث إنها علّقت الوجوب بالملك، لا باتحاد المحلّ. واللَّه تعالى أعلم.

وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.

‌فائدة: 4

معنى قوله (

وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ .... ).

أي: أن المصدق (الساعي) إذا أخذ الصدقة من أحد الخليطين فإنه يرجع على صاحبه بالقدر الذي وجب عليه.

ص: 229

‌باب زكاة الحبوب والثمار

(تجب الزكاة في الحبوب والثمار).

والأدلة على وجوب الزكاة فيها:

أ- قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ)

وَالزَّكَاةُ تُسَمَّى نَفَقَةً، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى:{وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

ب- وَقَالَ تَعَالَى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).

ج- وعن أبي سعيد. قال: قال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

د- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَكَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي.

هـ- وَعَنْ جَابِرٍ أنه سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْر) رواه أبو داود.

وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَر.

ص: 230

(في كلِ ما يُكالُ ويُدّخر، كتمرٍ، وزبيبٍ،).

هذا المذهب: تجب الزكاة في كل ما يكال ويدخر.

الثمر: ما يخرج من الأشجار، فكل ثمر يكال ويدخر تجب فيه الزكاة، والثمر الذي لا يكال ولا يدخر لا تجب فيه الزكاة، ولو كان يؤكل مثل: الفواكه، والخضروات، ليس فيها زكاة؛ لأنها لا تكال ولا تدخر.

التمر يكال ويدخر.

والزبيب يكال ويدخر، ولا عبرة باختلاف الكيل والوزن، فإن التمر في عرفنا يوزن، وكذلك الزبيب، لكن لا عبرة بذلك؛ لأن العبرة بما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

والمراد بالادخار: أن عامة الناس يدخرونه؛ لأن من الناس من لا يدخر التمر، بل يأكله رُطَبَاً، وكذلك العنب قد يؤكل رطباً، لكن العبرة بما عليه عامة الناس في هذا النوع.

وهذا القول الأول في هذه المسألة.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا تجب إلا في الأصناف الأربعة السابقة.

وبهذا قال جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري، واختاره الشوكاني، والألباني.

لحديث عَنْ أَبِي مُوسَى اَلْأَشْعَرِيِّ; وَمُعَاذٍ رضي الله عنهما; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا: (لَا تَأْخُذَا فِي اَلصَّدَقَةِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ اَلْأَصْنَافِ اَلْأَرْبَعَةِ: اَلشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ). رَوَاهُ اَلطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِم.

وهذا الحديث يؤيده أحاديث أخرى مرسلة:

عن مجاهد قال: (لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الأربعة: البر، والشعير، والتمر، والزبيب). رواه البيهقي

ص: 231

وقال الحسن: (لم يفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة إلا في عشرة أصناف: البر من الشعير، والتمر، والزبيب، والذرة، والإبل

). رواه البيهقي

قال الشوكاني: " فهي تنتهض بتخصيص العمومات، مثل: (وآتوا حقه يوم حصاده) فالحق ما ذهب إليه الثوري والحسن البصري والنخعي، والحسن بن صالح في وجوبها في هذه الأربعة، وأما زيادة الذرة فهي ضعيفة، لكن يعضد زيادة: والذرة، مرسل الحسن البصري ومجاهد ".

وذهب بعضهم: إلى أنه تجب في كل ما يقتات ويدخر.

وهذا مذهب المالكية والشافعية.

كالحنطة، والشعير، والأرز، والذرة، بخلاف الجوز واللوز والفستق، هذه تدخر لكنها لا تقتات.

وكذلك الفواكه كالتفاح والرمان والكمثرى لا زكاة فيها، لأنها لا تدخر.

والراجح المذهب.

‌فائدة: 1

اتفق العلماء على وجوب الزكاة في أصناف أربعة: الحنطة والشعير والزبيب والتمر، واختلفوا في غيرها.

‌فائدة: 2

أنه لا زكاة في الخضروات، كالتفاح والبرتقال والموز والمشمش، لأنها ليست مدخرة وليست مكيلة، ومثل هذه الأشياء إنما هي ذات منفعة عاجلة، والحاجة إليها مؤقتة، وليست من الغذاء الضروري، وإنما هي للتمتع والتفكه، فهي مأكولات الأغنياء دون الفقراء.

ص: 232

‌فائدة: 3

قوله (الخارج من الأرض) فيه أن من شروط وجوب زكاة الخارج من الأرض:

أن يكون خارجاً من الأرض.

فلو أن إنساناً اشترى طناً من البر، فهذا لا تجب فيه الزكاة إلا إذا أراده عروض تجارة، لأنها ليست خارجة من الأرض.

(إذا بلغت خمسة أوسق).

أي: يشترط لوجوب الزكاة في الحبوب والثمار أن تبلغ نصاباً وهو: خمسة أوسق.

لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ. وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ. وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ) متفق عليه.

(أَوْسُقٍ) جمع وسْق، وهو ستون صاعاً بالاتفاق، فيكون نصاب الحبوب [300] صاع.

(فيجبُ العشرُ فيما سقي من السماء، ونصف العشر فيما سقي بكلفةٍ كالدوالي والنواضح)

هذا مقدار ما يجب إذا النصاب.

العشر: فيما سقي بماء السماء والأنهار ونحوها فيما ليس فيه مؤونة كثيرة.

ص: 233

ونصف العشر: فيما سقي بالنواضح وغيرها مما فيه مؤونة كثيرة، وهذا متفق عليه. [شرح النووي].

أ- عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّه. قال: قال صلى الله عليه وسلم قَالَ (فِيمَا سَقَتِ الأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ وَفِيمَا سُقِىَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ) رواه مسلم.

ب- وعن ابن عمر. عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (فِيمَا سَقَتِ اَلسَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا: اَلْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ: نِصْفُ اَلْعُشْرِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

ج- وَلِأَبِي دَاوُدَ: (أَوْ كَانَ بَعْلًا: اَلْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي أَوِ اَلنَّضْحِ: نِصْفُ اَلْعُشْرِ).

[السماء] المراد بذلك المطر. [العيون] هي الينابيع التي تنبع من الأرض أو من سفوح الجبال. [أو كان عَثرياً] بفتح العين قال الخطابي: "هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي". [بالنضح] سقي الزرع بالماء الذي ينضحه [يخرجه] الناضح، وهو البعير. [بعلاً] البعل: الأشجار التي تشرب بعروقها من الأرض. [السواني] جمع سانية، وهي الدابة من الإبل أو البقر أو الحمر ذاهبة وآيبة تخرج الماء من البئر.

قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث وُجُوب الْعُشْر فِيمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاء وَالْأَنْهَار وَنَحْوهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ مُؤْنَة كَثِيرَة، وَنِصْف الْعُشْر فِيمَا سُقِيَ بِالنَّوَاضِحِ وَغَيْرهَا مِمَّا فِيهِ مُؤْنَة كَثِيرَة، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ.

وقال ابن قدامة: وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا سُقِيَ بِكُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ، مِنْ دَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ أَوْ دُولَابٍ أَوْ نَاعُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ، فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ لِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرًا فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ جُمْلَةً، بِدَلِيلِ الْمَعْلُوفَةِ، فَبِأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ النَّامِي، وَلِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرٌ فِي تَقْلِيلِ النَّمَاءِ، فَأَثَّرَتْ فِي تَقْلِيلِ الْوَاجِبِ فِيهَا.

ص: 234

‌فائدة: 1

إن وجد ما يسقى بالنضح تارة وبالمطر تارة، فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب ثلاثة أرباع العشر.

وهو قول أهل العلم.

قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً.

الخلاصة:

أولاً: ما سقي بلا مؤونة فيه العشر، كالذي ينبت على الأنهار والأمطار.

ثانياً: ما سقي بمؤونة فيه نصف العشر، المقصود بالمؤونة: ما سقي بالرشاشات والآبار والمكائن.

ثالثاً: ما سقي نصفه بمؤونة والنصف الآخر بلا مؤونة فيه ثلاثة أرباع العشر.

‌فائدة: 2

ضابط المؤونة: المقصود بالمؤونة هي مؤونة استخراج الماء لا تصريفه، لأنه حتى الذي يسقى بلا مؤونة يحتاج إلى تصريف الماء بين الأحواض.

ولا يؤثر في المؤونة حفر الأنهار والسواقي وتنقيتها، لأن هذا لابد منه، فهو كحرث الأرض.

ص: 235

‌فائدة: 3

وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار: إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، وهو أن يحمر أو يصفر كما جاء في الحديث.

فائدة هذا القول: أنه لو تلف قبل البدو ولو بفعل المالك فإنه لا زكاة عليه.

‌فائدة: 4

لماذا جعل الشارع بدو الصلاح وقتاً لوجوب الزكاة؟ لأن هذا الوقت هو الذي يقصد فيه الأكل من الثمار والاقتيات منها.

‌فائدة: 5

الحكمة من هذا التفريق:

لأن ما سقي بمؤونة أشق على المالك فخفف مقدار الواجب.

قال الخطابي: وإنما كان وجوب الصدقة مختلف المقادير في النوعين، لأن ما عمت منفعته، وخفت مؤنته، كان أحمل للمواساة، فاُوجِب فيه العشر، توسعة على الفقراء، وجعل فيما كثُرت مؤونته نصف العشر، رفقاً بأرباب الأموال.

ص: 236

‌باب زكاة الأثمان

(تجب الزكاة في الذهب والفضة).

هذا هو النوع الثالث من الأنواع التي فيها الزكاة وهي الأثمان وتشمل: الذهب والفضة والأوراق النقدية التي تنوب عنها، وتشمل أيضاً الأسهم والسندات.

والدليل على وجوب الزكاة فيها:

أ- قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

ب- وقال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) رواه مسلم.

(وَلَا زَكَاةَ فِي الْفِضَّةِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَم، وَلَا فِيْ الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِيْنَ مِثْقَالاً).

نصاب الفضة (200) درهم (خمس أواق) وهي تساوي (595) بالجرام.

ونصاب الذهب (20) مثقالاً، وهي تساوي (85) بالجرام.

أ- عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) متفق عليه.

[أواق] جمع أوقية، قال في الفتح: ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهماً بالاتفاق.

ب- وفي حديث أنس (

وَفِي اَلرِّقَة رُبُعُ اَلْعُشْرِ).

قال النووي: فنصاب الفضة خمس أواق، وهي مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالاً والمعول فيه على الإجماع.

ص: 237

‌فائدة: 1

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والنصاب (أي الذهب) 85 جرام، فما دون ذلك ليس فيه زكاة، وما بلغ (85) جرام ففيه الزكاة، ونزكيه بقدر قيمته ونأخذ ربع عشر قيمته، وذلك بأن نقسم القيمة على (40) فما خرج فهو الزكاة.

مثال: إذا كان الحلي يساوي (40. 000) فزكاته (1000) وعلى هذا نقيس.

‌فائدة: 2

التعامل الآن بالأوراق النقدية، نصابها: معتبرة بالفضة، 200 درهم هي 140 مثقالاً، = 56 ريالاً عربياً من الفضة، فإذا أردت أن تعرف مقدار الزكاة فاعرف مقدار الريال العربي من الفضة.

نسال عن قيمة الريال العربي بالفضة، فإذا كانت قيمته 10 فالنصاب 560، فمن ملك 560 ريالاً وجب فيها الزكاة.

كم الريال العربي من الفضة ثم اضربه 56.

(والواجب فيهما ربع العشْر).

أي: الواجب إخراجه فيهما ربع العشر، أي: 2، 5 بالمائة.

للحديث السابق (وَفِي اَلرِّقَة رُبُعُ اَلْعُشْرِ).

وطريقة ذلك: أن تقسم ما عندك من المال الزكوي على أربعين، فما خرج فهو الزكاة.

‌أمثلة:

رجل عنده مبلغ (40) ألف، فنقسم هذا المبلغ على (40) يساوي: ألف ريال.

رجل عنده مبلغ: 12، 680 ريالاً: نقسم هذا المبلغ: 12، 680 ÷ 40 يساوي 316

ص: 238

‌تنبيه:

سعر جرام الذهب في تاريخ 28/ 3/ 1431 هـ هو: 130 ريالاً تقريباً.

وسعر جرام الفضة في 28/ 3/ 1431 هـ هو: 5 ريالا تقريباً.

فيكون نصاب الذهب: 85 × 130= 11. 050 ريال.

ويكون نصاب الفضة: 595×5= 2. 975 ريال.

وعليه فيكون النصاب الآن هو: 2. 975 ريالا، فمن ملكها وحال عليها الحول وجب عليه إخراج الزكاة. (مقال في صيد الفوائد).

(وَيُبَاحُ لِلذَّكَرِ مِن الفِضَّةِ الخَاتَمُ).

أي: يباح للرجل أن يلبس الخاتم من فضة.

أ- لحديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ (اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَكَانَ فِي يَدِهِ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِى بَكْرٍ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) متفق عليه. ‌

(وَرِق: فضة).

ب- وعن أنس. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتم فضةٍ في يمينه) متفق عليه.

ج- وقد ثبت لبسه عن جماعة من الصحابة.

وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك.

ص: 239

لكن هل يستحب ذلك أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

فقيل: مستحب.

وقيل: مباح.

وهذا المذهب.

وقيل: يستحب لمن يحتاجه وإلا فليس بسنة.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبسه حتى قيل له: إن الملوك لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ (كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِتَاباً - أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ - فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَاباً إِلاَّ مَخْتُوماً. فَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ. فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه) متفق عليه.

‌فائدة: 1

اتفق العلماء على جواز التختم في اليمين واليسار لورود الأحاديث بالتختم فيهما، لكن اختلفوا في الأفضل:

فقيل: لبسه باليمين أفضل.

لحديث أنس قال (لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم من فضه في يمينه) متفق عليه.

وعن عبد الله بن جعفر قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه) رواه النسائي.

ص: 240

وقيل: لبسه باليسار أفضل.

لحديث أنس قال (كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى) رواه مسلم.

وعن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره) رواه أبو داود.

والراجح أن التختم باليمين أفضل لأمور:

أولاً: أن أحاديث التختم في اليمين أكثر وأصح، وقد وردت عن جمع من الصحابة.

ثانياً: أن الخاتم زينة، واليمين أولى بالزينة والإكرام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في شأنه كله.

ثالثاً: أن الخاتم قد يُنقش فيه الذكر، ولفظ الجلالة ونحو هذا، فإذا لبس في اليمين، كان ذلك صوناً له من امتهان ما كتب عليه عند الاستنجاء.

‌فائدة: 2

اتفق أهل العلم على أن السنة في حق الرجل جعْل خاتمهِ في خنصر يده دون سائر أصابعه.

لحديث أنس قال (صنع النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً، ثم قال: إنا اتخذنا خاتماً، ونقشنا فيه نقشاً، فلا يَنقشنَّ عليه أحد، قال: فإني لأرى بريقَه في خنصره) رواه البخاري.

ولحديث أنس أيضاً قال (كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى) رواه مسلم.

ص: 241

وعن علي قال (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في إصبعي هذه أو هذه، وأومأ إلى الوسطى والتي تليها). رواه مسلم

(وَقَبِيعَةُ السَّيْفِ).

وأي: ويباح أن تحلَّى قبيعة السيف بالفضة.

والقبيعة: ما يكون على رأس مقبض السيف.

قال ابن قدامة: وَلَا بَأْسَ بِقَبِيعَةِ السَّيْفِ مِنْ فِضَّةٍ.

لِمَا رَوَى أَنَسٌ، قَالَ (كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِضَّةً) رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: كَانَ سَيْفُ الزُّبَيْرِ مُحَلًّى بِالْفِضَّةِ، أَنَا رَأَيْتُهُ.

(وَحِليَةُ المِنْطَقَةِ).

أي: ويُبَاحُ لَهُ حِلْيَةُ مِنْطَقَةٍ وَهِيَ مَا شَدَدْت بِهِ وَسَطَك قَالَهُ الْخَلِيلُ.

لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّخَذُوا الْمَنَاطِقَ مُحَلَّاةً بِالْفِضَّةِ وَهِيَ كَالْخَاتَمِ.

(وَمِنَ الذَّهَبِ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ كَأَنْفٍ وَنَحْوِهِ)

أي: أن الذهب لا يجوز للرجل إلا ما كان لضرورة، كأن يستعمله في الأسنان، أو في الأنامل، أو الأنف، أو غير ذلك.

لحديث عن عرفجة بن أسعد (أنه أصيب أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب) رواه الترمذي وأبو داود وحسنه النووي.

ص: 242

(ويوم الكلاب) هو بضم الكاف، وهو يوم معروف من أيام الجاهلية كانت لهم فيه وقعة مشهورة، والكلاب اسم لماء من مياه العرب كانت عنده الوقعة، فسمي ذلك اليوم يوم الكُلاب، وأما عرفجة الراوي فهو بفتح العين وهو عرفجة بن أسعد بن كَرِب بن صفوان التميمي الفطاري رضي الله عنه. (المجموع).

قال النووي رحمه الله في (المجموع)(1/ 312) قول المصنف (إن اضطر إلى الذهب جاز استعماله) فمتفق عليه، وقال أصحابنا: فيباح له الأنف والسن من الذهب ومن الفضة، وكذا شد السن العليلة بذهب وفضة جائز " انتهى.

وقال ابن قدامة: لا يباح اليسير من الذهب، ولا يباح منه إلا ما دعت الضرورة إليه، كأنف الذهب، وما ربط به أسنانه.

وقال الشيخ ابن عثيمين:

مثاله: رجل انكسر سنه، واحتاج إلى رباط من الذهب، أو سن من الذهب، فإنه لا بأس به.

ولكن إذا كان يمكن أن يجعل له سناً من غير الذهب، كالأسنان المعروفة الآن، فالظاهر أنه لا يجوز من الذهب؛ لأنه ليس بضرورة، ثم إن غير الذهب وهي المادة المصنوعة أقرب إلى السن الطبيعي من سن الذهب، وكذلك إذا اسودّ السن ولم ينكسر، فإنه لا يجوز تلبيسه بالذهب؛ لأنه لا يعتبر ضرورة ما لم يخش تكسره أو تآكله، فإنه يجوز. (الشرح الممتع).

وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: عن حكم تركيب الأسنان الذهبية؟

فأجاب: الأسنان الذهبية لا يجوز تركيبها للرجال إلا لضرورة، لأن الرجل يحرم عليه لبس الذهب والتحلي به. وأما للمرأة فإذا جرت عادة النساء أن تتحلى بأسنان الذهب فلا حرج عليها في ذلك، فلها أن تكسو أسنانها ذهباً، إذا كان هذا مما جرت العادة بالتجمل به، ولم يكن إسرافاً.

ص: 243

‌فائدة: 1

أما لغير ضرورة، فيحرم على الرجل لبس الذهب من خاتم وغيره.

عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُحِلَّ اَلذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهِمْ.) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وعن علي قال (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حريراً في يمينه وذهباً في يساره وقال: هذان حرام على ذكور أمتي) رواه أبو داود وابن ماجه وزاد (حل لإناثهم).

وعن- البراءِ بن عازب رضي الله عنهما، قَالَ: أمرنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: ونَهَانَا عَنْ خَواتِيمٍ أَوْ تَخَتُّمٍ بالذَّهَبِ، وَعَنْ شُرْبٍ بالفِضَّةِ،

) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

ج-وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن خاتم الذهب).

د- عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتَماً مِنْ ذهبٍ في يدِ رجلٍ فنَزعه فطرحه، وَقالَ (يَعْمدُ أحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ!)) فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لا والله لا آخُذُهُ أبَداً وَقَدْ طَرَحَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.

قال النووي: أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَة خَاتَم الذَّهَب لِلنِّسَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمه عَلَى الرِّجَال، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عُمَر بْن مُحَمَّد بْن حَزْم أَنَّهُ أَبَاحَهُ، وَعَنْ بَعْضٌ أَنَّهُ مَكْرُوه لَا حَرَام، وَهَذَانِ النَّقْلَانِ بَاطِلَانِ، فَقَائِلهمَا مَحْجُوج بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرهَا مُسْلِم مَعَ إِجْمَاع مَنْ قَبْله عَلَى تَحْرِيمه لَهُ، مَعَ قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الذَّهَب وَالْحَرِير:(إِنَّ هَذَيْنِ حَرَام عَلَى ذُكُور أُمَّتِي حِلّ لِإِنَاثِهَا).

ص: 244

‌فائدة: 2

حكم لبس خاتم الحديد:

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

‌القول الأول: تحريم لبسه.

قال ابن بطال في شرحه على البخاري: (خاتم الحديد كان يُلبَسُ في أول الإسلام ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطرحه).

أ-عن بُرَيْدَة (أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيهِ خَاتَمٌ مِن شَبَهٍ؛ فَقَالَ لَهُ: مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْأَصْنَامِ، فَطَرَحَهُ ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ؛ فَقَالَ: مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ، فَطَرَحَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَالَ: اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالاً).

(خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ) هو الخاتم من النحاس الأصفر، والشبه أرفع النحاس وسُمِّيَ بذلك لشبهه بالذهب في لونه، وعند الترمذي:"خاتم من صفر".

(مالي أجد منك ريح الأصنام) قال الخطابي والبيهقي في الشعب: لأن الأصنام كانت تتخذ من الشبه.

(حِلية أهل النار) قيل: هو زينة بعض الكفار في الدنيا، وقيل: زينتهم في النار بملابسة السلاسل والأغلال، وقيل: إنما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم لنتنه.

(ولا تتمَّه مثقالاً) أي لا يكون الخاتم ثقيلاً مبالغاً في وزنه.

ب- ولما جاء عند ابن سعد في (الطبقات)(أن عمراً ضرب يد رجل لأنه يلبس خاتم ذهب، فقال رجل بجانبه: يا أمير المؤمنين، أنظر أما أنا فخاتمي من حديد، فقال له عمر: ذلك شر، إنه حلية أهل النار).

ص: 245

‌القول الثاني: أنه مكروه.

وهذا قول جمهور العلماء.

‌القول الثالث: جواز لبسه من غير كراهة.

لحديث الباب في قوله صلى الله عليه وسلم (التمس ولو خاتماً من حديد).

قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا دليل على جواز التختم بالخاتم - أي الحديد - إذ أن الخاتم لا ينتفع به إلا بالتختم، فلولا أنه جائز ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم التمس ولو خاتما من حديد.

(نور على الدرب).

وقد جرى الاستدلال بهذا الحديث على جواز التختم بالحديد جمعٌ من أهل العلم كالبخاري - كما تقدم - وابن عبد البر في الاستذكار، والنووي في المجموع، وابن رجب في أحكام الخواتم وجماعة.

وأصحاب هذا القول ضعفوا أحاديث التحريم.

قال ابن عبد البر: وعن عمر بن الخطاب أنه قال في خاتم الذهب وخاتم الحديد" جمرة من نار" أو قال: "حلية أهل النار"، وقد روي مثل هذا مرفوعاً، ولا يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن عمر، وليس بثابت، والأصل: أن الأشياء على الإباحة حتى يثبت النهي، وهذا في كل شيء، إلا أن النهي عن التختم بالذهب صحيح، ولا يختلف في صحته. (التمهيد).

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ولا حرج في لبس الحديد من الساعة والخاتم لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال للخاطب (التمس ولو خاتماً من حديد) أما ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم في التنفير من ذلك: فشاذ، مخالف لهذا الحديث الصحيح. (فتاوى إسلامية).

ص: 246

وقال ابن رجب في رسالته أحكام الخواتم: (والصحيح عدم التحريم، فإن الأحاديث فيه لا تخلو عن مقال، وقد عارضها ما هو أثبت منها).

وقال النووي في شرحه على مسلم - في شرح حديث الواهبة نفسها - (وفي هذا الحديث جوازُ اتخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسلف حكاه القاضي، ولأصحابنا في كراهته وجهان: أصحهما: لا يُكره لأن الحديث في النهي عنه ضعيف).

(وَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ ولو كثُر).

لبس الذهب للنساء جائز المحلق وغير المحلق، كَالطَّوْقِ، وَالْخَلْخَالِ، وَالسِّوَارِ، وَالدُّمْلُوجِ، وَالْقُرْطِ، وَالْعِقْدِ، وَالْمُقَلَّدَةِ، وَالْخَاتَم.

وهذا قول جماهير العلماء.

أ- عن أَبِي مُوسَى السابق (أُحِلَّ اَلذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهِمْ).

وحديث علي أيضاً (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حريراً في يمينه وذهباً في يساره وقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم).

وجه الدلالة: الحديث لم يستثن من الذهب شيئاً محلقاً ولا غير محلق.

ب- ولحديث جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ خَطَبَ، فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ، فَذَكَّرَهُنَّ وَهْوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلَالٍ وَبِلَالٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ، يُلْقِى فِيهِ النِّسَاءُ الصَّدَقَةَ. قُلْتُ لِعَطَاءٍ زَكَاةَ يَوْمِ الْفِطْرِ قَالَ لَا وَلَكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَ حِينَئِذٍ، تُلْقِى فَتَخَهَا وَيُلْقِينَ. قُلْتُ أَتُرَى حَقًّا عَلَى الإِمَامِ ذَلِكَ وَيُذَكِّرُهُنَّ قَالَ إِنَّهُ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا لَهُمْ لَا يَفْعَلُونَهُ) متفق عليه.

ص: 247

(فتخها: هي الخواتيم العظام).

ج-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ (شَهِدْتُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ، فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلَالٍ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّهَا ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ «أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ» . وَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يَدْرِى الْحَسَنُ مَنْ هِيَ. قَالَ «فَتَصَدَّقْنَ» وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ).

وفي رواية (ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقُ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا).

(فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى قُرْطَهَا).

(بخرصها: قال الحافظ بضم الخاء وسكون الراء هي الحلقة الصغيرة من الذهب أو الفضة).

(وسخابها: قلادة تتخذ من طيب ليس فيها ذهب ولا فضة).

(قُرطها: كل ما علق على الأذن فهو قرط سواء كان ذهباً أو فضة أو غير ذلك).

د-ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم معها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لها: أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ولرسوله) رواه أبو داود.

وجه الدلالة: من الواضح في هذا الحديث - وضوحاً جلياً - أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر على الصحابية لبس السوارين، ولكنه سألها هل تؤدين الزكاة عليهما؟ ولو كان لبس السوارين محرماً لنهاها النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 248

(وَلَا زَكَاةَ فِي حُلَيِّهِمَا المُعَدِّ لِلاسْتِعْمَالِ، أَوِ العَارِيَةِ،).

أي: لا زكاة في حلي المرأة الذي تستعمله.

وبه قال ابن عمر، وجابر، وأنس، وابن مسعود، وأسماء، وعمرة بنت عبد الرحمن، والحسن البصري، وطاووس، والشعبي، وابن المسيب.

وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد.

أ-لحديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة).

قال النووي: هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها.

ب-ولحديث جابر رضي الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم (ليس في الحلي زكاة) رواه البيهقي.

وهذا مختلف فيه: فقد ذكر الشيخ البسام: أنه صححه: أبو زرعة، وابن الجوزي، والمنذري، وابن دقيق العيد.

وضعفه: البيهقي، وقال: باطل لا أصل له، وضعفه الألباني.

ج- قوله صلى الله عليه وسلم للنساء (تصدقن ولو من حليكن) متفق عليه.

وجه الدلالة: فيه دلالة على أنه لا زكاة في الحلي، لأنه لو كانت الصدقة فيه واجبة، لما ضرب به المثل في صدقة التطوع.

د-أن الصحابة كانت لهم أموال من الحلية ما هو معروف ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالزكاة في ذلك.

هـ-وروي هذا القول عن جمع من الصحابة.

ص: 249

فقد جاء عن جابر (أنه سئل: أفي الحلي زكاة؟ قال: لا، قيل: وإن بلغ عشرة آلاف؟ قال: كثير) أخرجه عبد الرزاق.

وعن نافع (أن ابن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج من حليهن الزكاة) أخرجه مالك.

قال الشنقيطي: هذا الإسناد في غاية الصحة.

وعن أنس (أنه سئل عن الحلي؟ فقال: ليس فيه زكاة) أخرجه البيهقي.

و- أن الزكاة إنما تجب في المال المعد للنماء، والحلي ليس معداً لذلك، لأنه خرج عن النماء بصناعته حلياً يلبس ويستعمل وينتفع به، والمرأة إنما تملكه بقصد الانتفاع الشخصي والتزين والتجمل، لا بنية النماء والاستثمار.

وذهب بعض العلماء: إلى وجوب الزكاة فيه.

وبهذا قال عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وسعيد بن جبير، وابن المسيب، وجابر بن زيد، وميمون بن مهران، ومحمد بن سيرين، ومجاهد، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله ابن شداد، ومكحول، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، وابن المبارك، وابن شبرمة، والطحاوي، وابن حزم، وابن المنذر، والصنعاني.

وهو مذهب أبي حنيفة.

ورجحه الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى.

ورجحه احتياطاً: الخطابي، والشنقيطي، وأبو بكر الجزائري، وصالح البليهي. أدلتهم:

أ-لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

والمراد بكنز الذهب والفضة: عدم إخراج ما يجب فيهما من زكاة وغيرها من الحقوق، والآية عامة في جميع الذهب والفضة، لم تخصص شيئاً دون شيء، فمن ادعى خروج الحلي المباح المستعمل من هذا العموم فعليه الدليل.

ص: 250

ب-ما ثبت في حديث مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ) والحديث عام.

ج-ولحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ اِمْرَأَةً أَتَتِ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا اِبْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ اِبْنَتِهَا مِسْكَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهَا:"أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا? " قَالَتْ: لَا. قَالَ

).

قال ابن حجر: إسناده قوي. وقال النووي: إسناده قوي. وقال ابن الملقن: إسناده صحيح.

وقال الشنقيطي: أقل درجاته الحسن. وقال الألباني: إسناده حسن.

د-حديث عائشة قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدي فتختان من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، فقال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، قال: هو حسبكِ من النار) رواه أبو داود والحاكم.

قال النووي: إسناده حسن. وصححه الألباني.

• أحاب من قال بعدم الوجوب (وهم الجمهور) عن أدلة من قال بالوجوب:

أ-قالوا: إن الآية والحديث، هذه عمومات، ولهذا العموم أدلة تخصص معناه وتقيد اطلاقه.

ب- أما الأحاديث التي فيها الأمر بإخراج الزكاة (كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وغيره) ففيها ضعف

قال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب شيء، ورجح النسائي إرسال حديث عمرو بن شعيب.

قال ابن عبد البر: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في الذهب.

ص: 251

• وأجاب من قال بالوجوب عن أدلة من قال بعدم الوجوب:

أجابوا: أن حديث (ليس في الحلي زكاة) ضعيف.

وعلى فرض صحته: فأنتم لا تقولون به، حيث أنهم يوجبون الزكاة في الذهب إذا أعد للنفقة والأجرة.

ب- وأما حديث (تصدقن ولو من حليكن) فإن هذا الحديث ليس فيه إثبات وجوب الزكاة، ولا نفيه، وإنما فيه الأمر بالصدقة حتى من حاجات الإنسان

والراجح القول الأول، والله أعلم.

فائدة: الخلاف السابق في الحلي المباح، أما المحرم فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على وجوب الزكاة فيه.

قال ابن قدامة: فيها الزكاة بغير خلاف بين أهل العلم.

قال النووي: أما الحلي المحرم فتجب الزكاة فيه بالإجماع.

مثال: إذا اتخذت المرأة حلياً فيه صورة محرمة.

(فَإِنْ أُعِدَّ لِلْكِرَى، أَوْ للنَّفَقَةِ، أَوْ كَانَ مُحَرَّماً فَفِيهِ الزَّكاة).

أي: إن أُعِد الذهب للكراء، وهي الأجرة.

أو للنفقة: مثل رجل عنده ذهب لنفقته، كلما احتاج إلى النفقة باع منه، ففيه الزكاة.

أو كان محرّماً ففيه الزكاة.

قال النووي: أما الحلي المحرم فتجب الزكاة فيه بالإجماع.

مثال: إذا اتخذت المرأة حلياً فيه صورة محرمة.

ص: 252

(والركاز: مَا وُجِدَ مِن دِفْنِ الجَاهِلِيَّةِ، فَفِيهِ الخُمسُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِه).

أي: أن زكاة الركاز الخمس.

والركاز: ما وجد من دِفن الجاهلية، ويعرف أنه من الجاهلية إما باسم ملِك من ملوكهم، أو ذكر تاريخ يدل على السنة أو نحو ذلك من العلامات.

والواجب فيه الخمس.

لحديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَفِي اَلرِّكَازِ: اَلْخُمُسُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

‌فائدة: 1

الركاز لواجده.

أ-لأنه أحق به.

ب- ولفعل عمر وعلي، فإنهما دفعا باقي الركاز لواجده.

‌فائدة: 2

ليس للركاز نصاب، فيزكى قليله وكثيره.

ففي الحديث السابق (وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ).

فظاهره: عدم اشتراط النصاب وهو مذهب الجمهور.

واختاره: ابن المنذر، والصنعاني، والشوكاني.

‌فائدة: 3

وقت إخراج زكاته: من حين العثور عليه، فلا ينتظر دوران الحول عليه.

‌فائدة: 4

يكون مصرفه يكون لمصالح المسلمين العامة [بيت المال] ولا يخص به الأقسام الثمانية.

‌فائدة: 5

الفرق بين الركاز واللقطة؟

الركاز لواجده، واللقطة تعرف، فإن جاء صاحبها فهي له وإلا فهي لواجدها.

ص: 253

‌بَابُ زَكَاةِ العُرُوضِ

عروض التجارة: هي كل ما أعد للتجارة، فكل شيء معد للتكسب والتجارة فهو عروض تجارة.

سميت عروض: لأنها تعرض للبيع، أو لأنه يعرض ويزول ولا يبقى عند صاحبه.

(وتجب الزكاة فيها).

أي: تجب الزكاة في عروض التجارة.

وهذا قول أكثر العلماء.

قال ابن قدامة: تجب الزكاة في قيمة العروض في قول أكثر أهل العلم.

وقال الخطابي: زعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر أنْ لا زكاة فيها، وهو مسبوق بالإجماع.

ومما يدل على وجوب الزكاة في عروض التجارة:

أ-قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْض).

قال الطبري: يعني بذلك: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم، إما بتجارة أو بصناعة.

وروي من عدة طرق عن مجاهد في قوله (من طيبات ما كسبتم) قال: من التجارة.

وبوب البخاري في صحيحه على هذه الآية فقال: باب صدقة الكسب والتجارة لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْض).

قال أبو بكر الجصاص: وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال، فمن أخرج عروض التجارة منها فعليه الدليل.

ص: 254

وقال أبو بكر العربي: قال علماؤنا، قوله تعالى (ما كسبتم) يعني التجارة (ومما أخرجنا لكم من الأرض) يعني النبات.

ب-عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا; أَنْ نُخْرِجَ اَلصَّدَقَةَ مِنَ اَلَّذِي نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ لَيِّن.

ج-وروى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِم عَنْ أَبِي ذَرّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (فِي الْإِبِل صَدَقَتهَا، وَفِي الْغَنَم صَدَقَتهَا، وَفِي الْبَقَر صَدَقَتهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَته

الْحَدِيث).

قال الحافظ في "التلخيص"(2/ 391): إسناده لا بأس به اهـ. وصححه النووي في المجموع (6/ 4). وَالْبَزُّ بِالْبَاءِ وَالزَّاي (الثياب أو نوع منها). كَذَا ضَبَطَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَالْحَدِيث صَحَّحَهُ الْحَاكِم وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْره. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنْ النَّاس مَنْ صَحَّفَهُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَبِالرَّاءِ وَهُوَ غَلَطٌ ا. هـ.

فهذا الحديث دليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة، لأن الثياب لا زكاة فيها إلا إذا كانت للتجارة، فتعين حمل الحديث على ذلك.

د-وروى الشَّافِعِيّ، وَأَحْمَد، وَعَبْد الرَّزَّاق، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي عَمْرو بْن حِمَاس عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَبِيعُ الْأُدْمَ فَمَرَّ بِي عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ لِي: أَدِّ صَدَقَة مَالِك، فَقُلْت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا هُوَ فِي الْأُدْم، فَقَالَ: قَوِّمْه ثُمَّ أَخْرَجَ صَدَقَته. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(828) لجهالة أبي عمرو بن حماس. ولكن يشهد له الأثر الثاني.

هـ-وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيّ قَالَ: كُنْت عَلَى بَيْتِ الْمَالِ زَمَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ إذَا خَرَجَ الْعَطَاءُ جَمَعَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ ثُمَّ حَسَبَهَا، غَائِبَهَا وَشَاهِدَهَا، ثُمَّ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ شَاهِدِ الْمَالِ عَنْ الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ. صححه ابن حزم.

و-وعن ابن عمر قال (ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة) رواه ابن أبي شيبة، والبيهقي، وصححه ابن حزم، والبيهقي والنووي.

ص: 255

وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك:

قال أبو عبيد: أجمع المسلمون أن الزكاة فرض واجب فيها، أي: عروض التجارة.

وقال ابن المنذر: وأجمعوا على أن في العروض التي تدار للتجارة الزكاة إذا حال عليها الحول.

(ولا زكاةَ فيها حتى ينويَ بها التجارة).

أي: لا زكاة في عروض التجارة إلا إذا نوى بها التجارة.

‌فائدة:

هل مجرد ما ينوي التجارة يكون للتجارة، أو لا بد أن يملكها بنية التجارة؟

‌المسألة لها أحوال:

أولاً: إن ملكها بفعله بنية التجارة، فهذه تكون للتجارة وفيها زكاة.

مثال: اشترى أرضاً يريد التجارة فيها.

ثانياً: إن ملكها بغير فعله، كمن مات له مورث وورث بعده أرضاً ونوى بها التجارة.

المذهب لا تكون للتجارة، لأنه ملكها قهراً.

والصحيح أنها تكون للتجارة.

ثالثاً: ملكها بفعله بغير نية التجارة ثم نوى بها التجارة:

المذهب لا تكون للتجارة، لأنه حين ملكها لم يكن ناوياً للتجارة.

والصحيح أنها تكون للتجارة بالنية.

مثال: اشترى سيارة، فأراد أن يستعملها للأجرة، ثم بدا له أن يعرضها للتجارة.

ص: 256

(وهي نصابٌ حولاً كاملاً).

أي: يشترط في عروض التجارة:

أن تبلغ نصاباً. (ونصابها يقوّم بقيمة الذهب والفضة).

فإذا كان عنده عروض تجارة فنقول يشترط أن تبلغ قيمتها نصاب الذهب أو نصاب الفضة يعني قيمة الذهب أو قيمة الفضة.

• والأحوط الآن نصاب الفضة لأن الفضة الآن نازلة، وتقدم أن نصاب الفضة 595 غراماً فننظر إلى قيمة 595 غراماً فإذا كانت قيمتها 600 ريال فإذا كانت عنده عروض تجارة تساوي 600 ريال وجبت عليه الزكاة. (المشيقح).

ومضي سنة كاملة.

(ثم يُقوّمُها).

هذه كيفية عروض التجارة، يقوّمها.

‌فائدة: 1

المعتبر في التقويم بقيمة السلعة عند تمام الحول، ولا يحق له أن يؤخرها بزمن يتغير فيه السعر.

‌فائدة: 2

إذا كان هناك سلع لم يدفع التاجر ثمنها هل يقوّمها؟ نقول إذا كانت السلعة حال عليها الحول وأصبحت في ملكه زكاها وإن لم يدفع ثمنها، لأن الديْن - كما تقدم - لا يسقط وجوب الزكاة. (وبل الغمامة).

‌فائدة: 3

لا يعتبر في تقويم السلعة عند تمام الحول ما اشتريت به، وذلك لأن القيمة تختلف ارتفاعاً ونزولاً، بل المعتبر في تقويمها عند حلول الحول.

ص: 257

(ويخرج زكاتها من قيمتِها لا منها).

أي: الواجب في زكاة عروض التجارة إخراج الزكاة من قيمتها لا من عينها.

فمثلاً صاحب البقالة لا يخرج الزكاة من المواد الغذائية التي يبيعها أو صاحب الأقمشة لا يخرج الزكاة أقمشة وثياباً وإنما يخرج القيمة، لماذا؟ لأن هذه العروض المقصود منها القيمة فهو لم يشتريها لذاتها وإنما يقصد قيمتها.

وهذا قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.

أن الواجب إخراج زكاة العروض من قيمتها لا من عينها.

أ-قالوا: إن نصاب عروض التجارة معتبر بالقيمة، فوجب أن يكون المُخرج منها، وذلك قياساً على بقية الأموال التي حدد نصابها بالعين.

ب-وقالوا: إن القيمة هي محل الوجوب في زكاة العروض، إذ الواجب إخراج ربع العشر، وأما العروض فليست محلاً للوجوب، فكان الإخراج من عينها كالإخراج من غير الجنس.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الواجب إخراج زكاة العروض من عينها لا من قيمتها.

وهذا قول الحنفية.

قالوا: إن الواجب إخراج ما في يد المزكي وملكه، وملكه عين العروض لا قيمتها.

وذهب بعضهم: إلى أنه يجزئ إخراج زكاة العروض من العروض إذا كان لمصلحة الفقير.

وهذا اختيار ابن تيمية.

والراجح القول الأول.

ص: 258

(وإن نوى بعرْضِ التجارة القِنية فلا زكاة فيها).

أي: أن ما أعد للقنية والاستعمال فلا زكاة فيه.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ عَلَى اَلْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

ففي هذا الحديث أنه ليس على المسلم فيما يقتنيه من العبيد والخيل زكاة، فالأموال المعدة للقنية أو الاستعمال لا زكاة فيها.

قال النووي: هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف.

وقال الصنعاني: الحديث نص على أنه لا زكاة في العبيد ولا الخيل، وهو إجماع فيما كان للخدمة والركوب.

وعليه: فليس على المسلم صدقة في فراش البيت، وأواني البيت، وسيارة الركوب، وما أشبه ذلك، فكل ما اقتناه الإنسان لنفسه من أي شيء كان، فليس فيه زكاة.

‌فائدة:

هل في الخيل زكاة؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا زكاة فيها إلا إذا كانت للتجارة.

أ- للحديث السابق (لَيْسَ عَلَى اَلْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَة).

ب- ولحديث علي. قال: قال صلى الله عليه وسلم (قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق) رواه الترمذي وأبو داود.

وحكى الترمذي عن البخاري تصحيح هذا الحديث، وقد حسنه الحافظ، وقال الدارقطني: الصواب وقفه على علي.

ص: 259

‌باب زكاة الفطر

المراد بزكاة الفطر: الصدقة التي يخرجها المسلم عن نفسه أو عن غيره في نهاية شهر رمضان لتزكية صومه.

وقد أضيفت إلى الفطر كما في حديث ابن عمر الآتي. لكونها تجب بالفطر من رمضان، قال الحافظ:"ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث: زكاة الفطر من رمضان".

(وهي واجبة).

أي: أن زكاة الفطر حكمها واجبة.

لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (فَرَضَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ اَلْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ: عَلَى اَلْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ، مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ اَلنَّاسِ إِلَى اَلصَّلَاةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيه.

(على كل مسلم).

أي: أنها تجب على مسلم، فلا تجب على الكافر.

أ-لقوله (من المسلمين) قال الحافظ: وهو أمر متفق عليه.

فقوله (من المسلمين) يدل على اشتراط الإسلام في وجوب صدقة الفطر، وأنها لا تجب على الكافر عن نفسه، وهذا متفق عليه.

(سبل السلام).

ب- ولأنها طهرة، والكافر ليس مكاناً للطهرة.

ص: 260

أنها واجبة على الصغير والكبير، والجمهور قالوا: تجب فطرة الصغير في ماله، والمخاطب بإخراجها وليه، إن كان للصغير مال وإلا وجبت على من تلزمه نفقته.

‌فائدة:

لماذا أضيفت إلى الفطر؟

قيل: أضيف إلى الفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان.

وقيل: المراد صدقة النفوس.

قال الحافظ: والأول أظهر، ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث: زكاة الفطر من رمضان.

‌فائدة: 2

هل تجب زكاة الفطر على المسلم ولو لم يصم رمضان لمرض أو عذر؟

نعم، واجبة حتى ولو لم يصم لمرض أو عذر.

وذهب سعيد بن المسيب، والحسن البصري أنها لا تجب إلا على من صام، واستدل لهما بحديث ابن عباس بلفظ (صدقة الفطر طهرة للصائم).

قال في الفتح: وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب، كما أنها تجب على من لا يذنب، كمتحقق الصلاح، أو من أسلم قبل الغروب بلحظة.

ولأن من حكم هذه الزكاة اغتناء الفقراء في يوم العيد، لئلا يبتذلوا أنفسهم بالسؤال.

(والواجب عن كل شخص صاع من تمرٍ، أو زبيب، أو بر، أو شعير، أو أقط).

هذا قدر الواجب في زكاة الفطر، ونوع ما تخرج منه.

فالقدر فيها: صاع [والصاع كيلوين وربع كيلو] كما في حديث ابن عمر السابق.

والنوع الذي تخرج منه ما جاء في الحديث: التمر، أو الشعير، أو الزبيب، أو الإقط.

لحديث أبي سَعِيد الْخُدْرِي، رضي الله عنه قال (كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ) متفق عليه.

فيخير في إخراج زكاة الفطر بين هذه المذكورات.

ص: 261

‌فائدة: 1

قد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن عليه زكاة الفطر ويعلم أنها صاع ويزيد عليه، ويقول هو نافلة، هل يكره؟

فأجاب: "الحمد لله. نعم، يجوز بلا كراهية عند أكثر العلماء؛ كالشافعي، وأحمد، وغيرهما، وإنما تنقل كراهيته عن مالك.

وأما النقص عن الواجب فلا يجوز باتفاق العلماء" انتهى. "مجموع فتاوى ابن تيمية" (25/ 70)

‌فائدة: 1

اختلف العلماء: في حكم إخراج الزكاة من غير هذه الأصناف المنصوص عليها

على قولين:

‌القول الأول: أنه لا يجزئ إخراج غير هذه الأصناف المنصوص عليها.

وهذا قول الحنابلة.

أ-أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَجْنَاسًا مَعْدُودَةً، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَجْنَاسِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْفَرْضَ تَفْسِيرٌ لِلْمَفْرُوضِ، فَمَا أُضِيفَ إلَى الْمُفَسَّرِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ مَفْرُوضَةً فَيَتَعَيَّنُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا. (المغني).

ب- وَلِأَنَّهُ إذَا أَخْرَجَ غَيْرَهَا عَدَلَ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجْزِ، كَإِخْرَاجِ الْقِيمَةِ، وَكَمَا لَوْ أَخْرَجَ عَنْ زَكَاةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.

‌القول الثاني: أنه يجوز إخراج زكاة الفطر من غير الأصناف المنصوصة مما هو من قوت البلد ولو مع توفر الأجناس المنصوصة.

وهذا قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، واختيار ابن تيمية.

أ- قياس الأصناف غير المنصوصة مما هو من قوت البلد على المنصوصة، وذلك لأنه لا يوجد في الأصناف المنصوصة معنى يخصها ويمنع من قياس غيرها عليها.

ب- أن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء، وزكاة الفطر لا تخرج عن هذا الباب، فجاز إخراجها من غالب قوت البلد، ويؤيده أن الأصناف المنصوصة كانت هي غالب قوت أهل المدينة وقتها، ولو كانوا يقتاتون غيرها لأمروا بالإخراج مما يقتاتون.

وهذا القول هو الراجح.

ص: 262

قال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين"(3/ 12): " وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب، كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره، إذ المقصود سد حاجة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه الحديث " انتهى

وقال الشيخ ابن عثيمين: ولكن إذا كان قوت الناس ليس حباً ولا ثمراً، بل لحماً مثلاً، مثل أولئك الذين يقطنون القطب الشمالي، فإن قوتهم وطعامهم في الغالب هو اللحم، فالصحيح أنه يجزئ إخراجه.

والله أعلم.

‌فائدة: 2

لا يجوز إخراج زكاة الفطر نقداً.

وهذا مذهب جماهير العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.

قال النووي: لا تجزئ القيمة في الفطرة عندنا، وبه قال مالك وأحمد وابن المنذر.

(المجموع).

أ-لقول ابن عمر رضي الله عنه (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر وصاعا من شعير).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض الصدقة من تلك الأنواع، فمن عدل إلى القيمة فقد ترك المفروض.

ب-عن أبي سعيد رضي الله عنه قال (كنا نخرجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، وكان طعامنا التمر والشعير والزبيب والأقط).

ص: 263

وجه الدلالة: أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يخرجونها من غير الطعام، وتتابعهم على ذلك دليل على أن المشروع إخراجها طعاماً.

ج-أن إخراج زكاة الفطر من الشعائر، فاستبدال المنصوص بالقيمة يؤدي إلى إخفائها وعدم ظهورها (فتنقلب من شعيرة ظاهرة إلى صدقة خفية).

د-قال صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

هـ- أن ذلك مخالف لعمل الصحابة، فقد كانوا يخرجونها من الطعام.

(فيُخرجُ عن نفسه).

أي: يخرج الإنسان عن نفسه وجوباً.

فمن كان ينفق على نفسه وجبت عليه زكاة الفطر، ولو كان صغيراً لغناه بمال أو كسب، ويخرجها أبوه عنه.

لحديث ابن عمر السابق (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن الصغير والكبير

).

(وعن مُسلمٍ يَمونُه).

أي: وتلزم الشخص فطرة من يمونه، أي ينفق عليه، كالزوجة والأم والأب والابن والبنت وغيرهم ممن ينفق عليهم.

وهذا مذهب الحنابلة.

واستدلوا: بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أدوا صدقة الفطر عمن تمونون)، ولكنه حديث ضعيف، ضعفه الدارقطني، والبيهقي، وابن العربي، والذهبي، والنووي وابن حجر وغيرهم.

وقد اختار هذا القول علماء اللجنة الدائمة للإفتاء، فقد سئلوا: هل يلزم الزوج فطرة الزوجة التي بينه وبينها نزاع شديد أم لا؟

فأجابوا: زكاة الفطر تلزم الإنسان عن نفسه وعن كل من تجب عليه نفقته ومنهم الزوجة، لوجوب نفقتها عليه " انتهى.

ص: 264

واختاره أيضاً الشيخ ابن باز رحمه الله، كما في "مجموع الفتاوى"(14/ 197).

وذهب بعض العلماء: أنه لا يلزمه أن يخرج زكاة الفطر عن غيره.

وهو مذهب الحنفية

واستدلوا: بحديث ابْنِ عُمَرَ السابق (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ).

ففي الحديث: أنها واجبة على كل واحد من المسلمين، والأصل: أن الذي يخاطب بالواجب هو الشخص نفسه

وقد اختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في " الشرح الممتع "(6/ 154): " فالصحيح أن زكاة الفطر واجبة على الإنسان بنفسه، فتجب على الزوجة بنفسها، وعلى الأب بنفسه، وعلى الابنة بنفسها، ولا تجب على الشخص عمن ينفق عليه من زوجة وأقارب، ولأن الأصل في الفرض أنه يجب على كل واحد بعينه دون غيره " انتهى بتصرف.

لكن لو تبرع الأب بإخراجها عن أسرته برضاهم فلا بأس بذلك.

‌فائدة: 1

قوله (وعن مُسلمٍ. . .) فلو كان له قريب كافر فإنه لا يجب عليه أن يخرج عنه زكاة فطر، لأن من شرطها الإسلام كما تقدم

فلا يجب - مثلاً - على الزوج المسلم أن يخرج زكاة الفطر عن زوجته الكتابية.

جاء في (مغني المحتاج) ولا فطرة على كافر أصلي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (من المسلمين)، وهو إجماع، قاله الماوردي; لأنها طهرة، وليس من أهلها [أي: أنها تطهير من الذنوب، والكافر لا يطهره من ذنوبه إلا الإسلام] انتهى.

وقال أبو إسحق الشيرازي في (المهذب) ولا يجب عليه إلا فطرة مسلم، فأما إذا كان المؤدي عنه كافراً فلا يجب عليه فطرته، لحديث ابن عمر:(على كل ذكر وأنثى حر وعبد من المسلمين) ولأن القصد بالفطرة تطهير المؤدَّى عنه، والكافر لا يلحقه تطهير.

ص: 265

وقال النووي: قال الشافعي والأصحاب: ولا يلزمه إلا فطرة مسلم، فإذا كان له قريب أو زوجة أو مملوك كافر يلزمه نفقتهم، ولا يلزمه فطرتهم بلا خلاف عندنا، وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور.

(المجموع).

وقال الحافظ "قوله (والذكر والأنثى) ظاهره وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا

ثم قال: واتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة.

‌فائدة: 2

يستثنى من ذلك العبد فلا زكاة عليه، وإنما تجب على سيده، لحديث أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر) متفق عليه.

(إذا كان ذلك فاضلاً عن قوت يومه وليلته).

هذا شرط لوجوب الزكاة، وهو أن يكون غنياً، والغني في باب زكاة الفطر كونه واجداً قوت يومه وليلته ومن يمون لقوله صلى الله عليه وسلم (ابدأ بمن تعول) رواه البخاري.

وهذا أمر لابد، لأن المقصود من زكاة الفطر إغناء الفقير في ذلك اليوم.

• أن زكاة الفطر أنها لا تجب على الجنين، ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه، وكان عثمان يخرجها عنه.

ص: 266

(وتسن عن الجنين).

أي: يسن إخراج زكاة الفطر عن الجنين في بطن أمه.

لفعل عثمان.

ولا تجب.

وقد ذكر الشوكاني: أن ابن المنذر نقل الإجماع على أنها لا تجب عن الجنين، وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه.

(والأفضل إخْراجها يوم العيد قبل الصلاة).

هذا أفضل وقت لإخراج زكاة الفطر: وهو يوم العيد قبل الصلاة.

أ- لحديث ابْن عُمَرَ، رضي الله عنهما، قَالَ (فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ) متفق عليه.

ب- وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (فَرَضَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ اَلْفِطْرِ; طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اَللَّغْوِ، وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ اَلصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ اَلصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ اَلصَّدَقَاتِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(وتكره بعدها).

أي: يكره إخراج زكاة الفطر يوم العيد بعد الصلاة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم) رواه سعيد بن منصور، فإذا أخرها بعد الصلاة لم يحصل الإغناء لهم في اليوم كله.

وذهب بعض العلماء: إلى تحريم تأخيرها إلى بعد صلاة العيد.

وهذا اختيار ابن القيم.

ص: 267

(ويحرم تأخيرها عن يوم العيد مع القدرة).

أي: يحرم أن يؤخر إخراج زكاة الفطر عن يوم العيد بلا عذر.

لحديث ابن عباس السابق (فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ اَلصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ اَلصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ اَلصَّدَقَاتِ).

‌فائدة:

قال ابن قدامة: فإن أخرها (يعني زكاة الفطر) عن يوم العيد أثم ولزمه القضاء.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) يرى المالكية والشافعية والحنابلة أن من أخر زكاة الفطر عن يوم العيد مع القدرة على إخراجها أثم، ولزمه القضاء.

(ويُجزئُ قبل العيد بيومين).

أي: يجوز إخراجها قبل العيد بيومين.

وهذا مذهب المالكية والحنابلة.

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه: (وَكَانُوا يُعطُونَ قَبلَ الفِطرِ بِيَومٍ أَو يَومَينِ) رواه البخاري.

وقال بعضهم قبل العيد بثلاثة أيام، لما في "المدونة" (1/ 385) قال مالك: أخبرني نافع أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة.

وهو اختيار الشيخ ابن باز رحمه الله.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز من أول شهر رمضان.

وهو المفتى به عند الحنفية والصحيح عند الشافعية.

قالوا: لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها، كما يجوز تعجيل زكاة المال بعد ملك النصاب قبل تمام الحول.

والراجح أنه لا يجوز إخراجها قبل العيد بأكثر من يومين.

ص: 268

(ويجوزُ أن يُعطَى الواحدُ ما يلزم الجماعة، والجماعةُ ما يلزم الواحد).

أي: لو كان عند الإنسان خمس فطر، فيجوز أن يعطيها لفقير واحد.

وكذلك إذا كان عنده فطرة واحدة، فيجوز أن يعطيها خمسة فقراء.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر المعطى ولم يقدر الآخذ.

قال ابن قدامة: إعْطَاءُ الْجَمَاعَةِ مَا يَلْزَمُ الْوَاحِدَ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ل، لِأَنَّهُ صَرَفَ صَدَقَتَهُ إلَى مُسْتَحِقَّهَا، فَبَرِئَ مِنْهَا كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى وَاحِدٍ.

‌فائدة: 1

زكاة الفطر واجبة حتى على اليتيم.

لعموم حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فَرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ

).

واليتيم داخل في عموم الناس.

وعليه، فإن كان اليتيم يملك مالاً يخرج منه زكاة الفطر، فالزكاة واجبة عليه في ماله، ولا يلزم كافله إخراج زكاة الفطر عنه؛ لغناه، فإن تبرع كافله بالإخراج عنه أجزأه ذلك.

قال النووي: اليتيم الذي له مال وجبت فطرته في ماله عندنا، وبه قال الجمهور منهم مالك وأبو حنيفة وابن المنذر. (المجموع)

وقال البهوتي: وهي واجبة على كل مسلم

ذكر وأنثى كبير وصغير؛ لما سبق من الخبر، ولو يتيماً، فتجب في ماله نص عليه [يعني: الإمام أحمد]. (كشاف القناع).

ص: 269

أما إن كان اليتيم لا يملك مالاً، فزكاة الفطر واجبة على من يلزمه شرعاً النفقة على هذا اليتيم من أقاربه، أما كافله فلا يلزم أن يزكي عنه، لأنه متبرع بالنفقة عليه.

وهذا مذهب الجمهور (منهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي)؛ لأنهم يقولون؛ بأن زكاة الفطر واجبة على كل مسلم وعلى من تلزمه مؤنتهم. وكافل اليتيم متبرع بالنفقة فلا تلزمه زكاة الفطر عن اليتيم.

‌فائدة: 2

ورد حديث (شهر رمضان معلق بين السماء والأرض ولا يرفع إلى الله إلا بزكاة الفطر).

وهذا الحديث لا يصح.

عزاه السيوطي في "الجامع الصغير" لابن شاهين في "ترغيبه" والضياء عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (شهر رمضان معلق بين السماء والأرض ولا يرفع إلى الله إلا بزكاة الفطر).

وضعفه السيوطي، وبين المناوي في "فيض القدير" سبب ضعفه فقال:"أورده ابن الجوزي في "الواهيات" وقال: لا يصح، فيه محمد بن عبيد البصري مجهول ".

وضعفه الألباني في: سلسلة الأحاديث الضعيفة" وقال: " ثم إن الحديث لو صح لكان ظاهر الدلالة على أن قبول صوم رمضان متوقف على إخراج صدقة الفطر، فمن لم يخرجها لم يقبل صومه، ولا أعلم أحداً من أهل العلم يقول به

والحديث ليس بصحيح.

ص: 270

‌فائدة: 3

اختلف الفقهاء في حكم إخراج زكاة الفطر صاعاً مختلطاً من جنسين فأكثر،

على قولين:

‌القول الأول: لا يصح ولا يجزئ.

وهو قول الشافعية، وابن حزم الظاهري.

حيث وقفوا مع ظاهر النصوص التي بينت أن زكاة الفطر صاع من أنواع معينة من الطعام، فإذا أخرج نصف صاع من نوع، ونصفاً من آخر، لم يمتثل ما ورد في النص.

‌القول الثاني: يصح ويجزئ.

وهو قول الحنفية والحنابلة.

فقد التفتوا إلى المعنى، فقالوا إن صاعاً مختلطاً من الطعام يحقق المقصود من كفاية الفقير، وتطهير النفس، وإخراج الصدقة.

والراجح الأول.

‌فائدة: 4

ذكر العلماء رحمهم الله أن زكاة الفطر متعلقة بالبدن لا بالمال، فتخرج في المكان الموجود فيه الشخص ليلة العيد.

قال ابن قدامة: فأما زكاة الفطر فإنه يخرجها في البلد الذي وجبت عليه فيه، سواء كان ماله فيه أو لم يكن " انتهى.

‌فائدة: 5

زكاة الفطر تعطى الفقراء والمساكين.

لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ - السابق - قَالَ: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ).

قال ابن القيم: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تخصيص المساكين بهذه الصدقة" انتهى.

ص: 271

‌باب إخراج الزكاة.

(لا يجوزُ تأخيرُ الزكاة عن وقتِ وجوبِها).

أي: لا يجوز ويحرم أن يؤخر المزكي زكاته عن وقت وجوبها، فمتى حال الحول وجب المبادرة بإخراجها.

أ-لأن الله أمر بإيتاء الزكاة، والأمر يقتضي الفور.

ب- وأيضاً فإن حاجة الفقراء ناجزة، وحقهم في الزكاة ثابت، فيكون تأخيرها عنهم منعاً لحقهم في وقته. (المغني).

قال النووي: يجب إخراج الزكاة على الفور إذا وجبت، وتمكن من إخراجها، ولم يجز تأخيرها، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء؛ لقوله تعالى:(وَآتُوا الزَّكَاةَ) والأمر على الفور.

(المجموع).

قال ابن بطال: إن الخير ينبغي أن يبادر به فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود.

قال ابن حجر: وزاد غيره: وهو أخلص للذمة وأنفى للحاجة وأبعد عن المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب.

(إلا لضررٍ).

أي: إذا كان هناك ضرر عليه فيجوز له التأخير.

قال ابن قدامة:

فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِخْرَاجِ، مِثْلُ مَنْ يَحُولُ حَوْلُهُ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي، وَيَخْشَى إنْ أَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

وَكَذَلِكَ إنْ خَشِيَ فِي إخْرَاجِهَا ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ لَهُ سِوَاهَا، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا؛؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ) وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَأْخِيرُ قَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ لِذَلِكَ، فَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ أَوْلَى. (المغني).

ص: 272

(أو مصلحة).

أي: إذا كان هناك مصلحة في تأخير الزكاة فلا بأس.

مثال: أكثر الناس يخرجون زكاتهم في شهر رمضان رغبة في حصول الأجر، لكن في بعض الأيام الأخرى كأيام الشتاء التي لا توافق رمضان قد يكون الفقراء أشد حاجة، فلو أخرها المزكي إلى هذا الوقت جاز ذلك، لأن في ذلك مصلحة لمستحقيها.

(وتجبُ في مالِ صبيٍ ومجنون).

وهذه المسألة تقدمت، وأن الراجح وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون، وهذا قول جماهير العلماء.

(ولا يجوزُ إِخراجُها إلا بنية).

أي: تجب النية على المخرج، لأن الزكاة عبادة وقربة تحتاج إلى نية من المخرج.

لأن إخراج المال يكون للزكاة ويكون للصدقة، ولا يحدد نوع الإخراج إلا النية.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).

قال النووي: لا يصح أداء الزكاة إلا بالنية، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وأبو ثور وداود وجماهير العلماء; لقوله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) ; وشذ عنهم الأوزاعي فقال: لا تجب ويصح أداؤها بلا نية كأداء الديون.

(المجموع).

ص: 273

وقال ابن قدامة: ذْهَبَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ.

لقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) وَأَدَاؤُهَا عَمَلٌ.

وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ، فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ. (المغني).

وقال ابن تيمية: فإن الزكاة، وإن كانت حقاً مالياً، فإنها واجبة لله، ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه.

وقال المرداوي: لو أخرج شخص من ماله زكاة عن حي بغير إذنه: لم يصح، وإلا صح.

قال الشيخ ابن عثيمين: كل من أخرج زكاةً عن شخص لم يوكله، فإنها لا تجزئه عنه؛ لأن الزكاة لابد فيها من النية. (نور على الدرب).

‌فائدة:

قال الشيخ ابن عثيمين: هذا السائل أخرج زكاة أكثر مما عليه، ويسأل هل يحسبها من زكاة العام القادم؟

نقول: لا يحسبها من زكاة العام القادم؛ لأنه لم ينوها عنه، ولكن تكون صدقة تقربه إلى الله عز وجل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)" انتهى. "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (18/ 309).

وقال أيضاً: "إذا أخرج الإنسان زيادة عن الزكاة يظن أن ذلك الواجب عليه فإنه صدقة. (الباب المفتوح).

(والأفضلُ أن يفرقَها بنفسهِ).

أي: أن الأفضل والأكمل أن يقوم صاحب الزكاة بتفريق زكاته بنفسه بدون توكيل.

لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُصُولِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا.

(المغني).

لأنه يكون على ثقة من تفريقه بخلاف الوكيل. (المجموع).

ولينال أجر القيام بتفريقها، وليبرئ ذمته بيقين، ويدفع عن نفسه المذمة ولا سيما إذا كان غنياً مشهوراً، وربما ينال دعوة صادقة من فقير، وربما يعطيها للفقير وهو في وقت كربة فيتذكرها الفقير ويدعو له كل ما تذكره، لكن يجوز أن يوكل من يدفعها عنه. (الشرح الممتع).

ص: 274

‌فائدة: 1

يجوز التوكيل في توزيع الزكاة.

جاء في (الإنصاف) يجوز التوكيل في دفع الزكاة. وهو صحيح. لكن يشترط فيه أن يكون ثقة، نص عليه [يعني الإمام أحمد]، وأن يكون مسلماً، على الصحيح من المذهب.

وقال النووي: له أن يوكل في صرف الزكاة التي له تفريقها بنفسه

وإنما جاز التوكيل في ذلك مع أنها عبادة; لأنها تشبه قضاء الديون; ولأنه قد تدعو الحاجة إلى الوكالة لغيبة المال وغير ذلك

وتفريقه بنفسه أفضل من التوكيل بلا خلاف; لأنه يكون على ثقة من تفريقه بخلاف الوكيل.

(المجموع).

‌فائدة: 2

اختلف الفقهاء في حكم أخذ الوكيل لنفسه من مال الزكاة الموكَّل بتوزيعه.

فقيل: لا يجوز أن يأخذ.

سئل الشيخ ابن عثيمين: عن رجل فقير يأخذ الزكاة من صاحبه الغني بحجة أنه سيوزعها ثم يأخذها هو فما الحكم في هذا العمل؟

فأجاب: هذا محرم عليه وهو خلاف الأمانة، لأن صاحبه يعطيه على أنه وكيل يدفعه لغيره، وهو يأخذه لنفسه، وقد ذكر أهل العلم أن الوكيل لا يجوز أن يتصرف فيما وكل فيه لنفسه، وعلى هذا فإن الواجب على هذا الشخص أن يبين لصاحبه أن ما كان يأخذه من قبل كان يصرفه لنفسه، فإن أجازه فذلك، وإن لم يجزه فإن عليه الضمان ـ أي يضمن ما أخذ لنفسه ليؤدي به الزكاة عن صاحبه.

قال ابن قدامة: إِنْ وَكَّلَهُ فِي إخْرَاجِ صَدَقَةٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَهُوَ مِسْكِينٌ، أَوْ أَوْصَى إلَيْهِ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ عَلَى قَوْمٍ وَهُوَ مِنْهُمْ، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا وَأَمَرَهُ بِتَفْرِيقِهِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ، أَوْ دَفْعِهِ إلَى مَنْ شَاءَ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ لِلْمَسَاكِينِ وَأَبْوَابِ الْبِرِّ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، فَلَا يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، إنَّمَا أَمَرَهُ بِتَنْفِيذِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْمُوَكِّلِ يَنْصَرِفُ إلَى دَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ. (المغني).

وقيل: يجوز له أن يأخذ ما دام أنه (أي الوكيل) من المصارف الثمانية، ولم يحدد الموكل شخصاً معيناً.

لأنه داخل ضمن مصارف الزكاة المذكورة في الآية.

قال ابن قدامة: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْأَخْذُ إذَا تَنَاوَلَهُ عُمُومُ اللَّفْظِ، كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَصَلَ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، وَاللَّفْظُ مُتَنَاوِلٌ لَهُ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ كَغَيْرِهِ. (المغني).

ص: 275

‌فائدة: 3

هل الأفضل الإسرار في إخراج الزكاة أم الإظهار؟

الأفضل إظهار الزكاة المفروضة وإعلانها لأجل أن يقتدي به غيره، ولئلا يُساء الظن به، فيظن بعض الناس أنه لا يخرج زكاة.

لكن. . . إذا خشي على نفسه من الرياء، أو خشي أن يكون في ذلك إيذاء للفقير، وكسر قلبه، فالأولى الإسرار بها.

قال النووي: الأفضل في الزكاة إظهار إخراجها; ليراه غيره فيعمل عمله، ولئلا يساء الظن به، وهذا كما أن الصلاة المفروضة يستحب إظهارها، وإنما يستحب الإخفاء في نوافل الصلاة والصوم. (المجموع).

وقال رحمه الله: قوله (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها. . . .) وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَضْل صَدَقَة السِّرّ، قَالَ الْعُلَمَاء: وَهَذَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع فَالسِّرّ فِيهَا أَفْضَل؛ لِأَنَّهُ أَقْرَب إِلَى الْإِخْلَاص وَأَبْعَد مِنْ الرِّيَاء. وَأَمَّا الزَّكَاة الْوَاجِبَة فَإِعْلَانهَا أَفْضَل، وَهَكَذَا حُكْم الصَّلَاة فَإِعْلَان فَرَائِضهَا أَفْضَل، وَإِسْرَار نَوَافِلهَا أَفْضَل. (شرح مسلم).

وقال ابن العربي: أَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَلا خِلافَ أنَّ إظْهَارَهَا أَفضَلُ، كَصَلاةِ الفَرْضِ وَسَائِرِ فَرَائِضِ الشرِيعَةِ؛ لأَنَّ المَرءَ يُحْرِزُ بِهَا إسلامَهُ، وَيَعصِمُ مَالَه.

وقال المرداوي: يستحب إظهار إخراج الزكاة مطلقاً على الصحيح من المذهب. (الإنصاف).

وقال ابن بطال: ولا خلاف بين أئمة العلم أن إعلان صدقة الفريضة أفضل من إسرارها، وأن إسرار صدقة النافلة أفضل من إعلانها .... وكذلك جميع الفرائض، والنوافل في الأشياء كلها وقال سفيان:(إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) قال: سوى الزكاة، وهذا قول كالإجماع " انتهى. (شرح البخاري).

وجاء في (الموسوعة الفقهية) فيما ينبغي مراعاته حال الإخراج: إظهار إخراج الزكاة وإعلانه. . . قال الطبري: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل.

ومن العلماء من قال بأن إخفاء الصدقة أفضل، سواء كانت مفروضة أو مندوبة.

استدلالاً بقوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. . . .).

ص: 276

قال الإمام ابن كثير: قوله (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء؛ إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية

إلى أن قال: ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل، وإن كانت مفروضة أو من مندوبة.

‌فائدة: 4

هل إذا دفع الزكاة لفقير يخبره أنه زكاة أم لا؟

أ-إذا كان من أهل الزكاة ويعلم أنه مستحق فلا يخبره بذلك.

قال النووي: إذا دفع المالك أو غيره الزكاة إلى المستحق ولم يقل هي زكاة، ولا تكلم بشيء أصلاً: أجزأه، ووقع زكاة، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور. (المجموع).

وقال ابن قدامة: وإذا دفع الزكاة إلى من يظنه فقيراً: لم يحتج إلى إعلامه أنها زكاة، قال الحسن: أتريد أن تقرعه؟! لا تخبره.

وقال أحمد بن الحسن: قلت لأحمد: يدفع الرجل الزكاة إلى الرجل فيقول: هذا من الزكاة، أو يسكت؟، قال: " ولم يبكِّته بهذا القول؟! يعطيه، ويسكت، ما حاجته إلى أن يقرعه؟!. (المغني). .

وقال الشيخ ابن عثيمين: وإذا كان من عادته أن يأخذ الزكاة: فإن الذي ينبغي أن لا يخبره؛ لأن إخباره بأنها زكاة فيه نوع من المنَّة، وقد قال الله تعالى:(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى).

ب-وأما إذا علم المعطي أن الآخذ لا يقبل الزكاة، وأنه إذا علم أنها زكاة لم يأخذها، فيجب على المعطي حينئذ أن يخبره أنها زكاة، ثم إن شاء قبلها وإن شاء ردّها.

قال الشيخ ابن عثيمين: إذا أعطى الإنسان زكاته إلى مستحقها: فإن كان هذا المستحق يرفض الزكاة ولا يقبلها: فإنه يجب على صاحب الزكاة أن يخبره أنها زكاة؛ ليكون على بصيرة من أمره إن شاء رفض وإن شاء قبِل.

ص: 277

(ويقولُ عندَ دفعِهَا هو وآخِذُها ما وردَ).

أي: ويستحب أن يقول معطي الزكاة ما ورد.

ومما ورد: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا.

وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى التَّوْفِيقِ لِأَدَائِهَا.

فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا، وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ.

وَيُسْتَحَبُّ لِلْآخِذِ أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِهَا فَيَقُولَ آجَرَك اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْت، وَبَارَكَ لَك فِيمَا أَنْقَقْت، وَجَعَلَهُ لَك طَهُورًا.

(والأفضلُ إخراجُ زكاةِ كلِ مالٍ في فقراء بلدهِ).

أي: أن الأفضل للمزكي أن يخرج زكاة ماله في فقراء بلده.

لأن ذلك أيسر، وأقل خوفاً، وأن أهل بلده أقرب الناس إليه والقريب له حق، وأيضاً أن فقراء بلده تتعلق أطماعهم به وبما عنده من المال، وأيضاً أنه إذا أعطى أهل بلده صار بينه وبينهم مودة ورحمة. (الشرح الممتع).

ص: 278

(ولا يجوزُ نقلُها إلى ما تُقصرُ فيه الصلاةُ).

أي: لا يجوز نقل الزكاة من بلد المال إلى بلد آخر.

وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية.

أ- لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ - (إنَّك سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ. فَإِذَا جِئْتَهُمْ: فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ .... ).

وجه الدلالة: أنه قيد الصرف بأن يكون في فقرائهم، وهو أمر يشعر باختصاص فقراء بلد المال به دون غيرهم، أي فقراء أهل اليمن.

ب- وقالوا: إن زياد بن أبيه لما بعث عمران بن حصين ساعياً في الزكاة، فلما قدم عليه عمران، قال له: أين المال، قال عمران: أللمال بعثتني؟ ثم قال: أخذناها من حيث كنا نأخذها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناه فيما كنا نضعه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أنه صرفها في أهلها.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز النقل للمصلحة الشرعية [كقرابة محتاجين، أو من هم أشد حاجة من أهل بلد المال]

ص: 279

وهذا قول الحنفية، واختاره ابن تيمية.

أ-واستدلوا بالعمومات (إنما الصدقات للفقراء

) قالوا: إن الله لم يفرق بين فقراء وفقراء.

ب-وبحديث معاذ (

فترد في فقرائهم) قالوا المراد بالفقراء هنا فقراء المسلمين.

ج-وبقوله صلى الله عليه وسلم لقَبِيصة بن المخارق - وقد تحمل حمالة وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم يريد منه العون على هذه الحمالة - قاله له (أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) فدل على أن الصدقات تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم[هذا من أقوى الأدلة].

وهذا القول هو الصحيح.

‌فائدة: 1

لا خلاف في جواز نقلها إذا استغنى أهل بلد المال.

‌فائدة: 2

إذا قلنا بجواز نقل الزكاة، واحتاج نقلها إلى كلفة ونفقات، ما الحكم؟

الواجب على صاحب المال أن يوصل الزكاة إلى أهلها، وعلى هذا؛ لو كان إيصالها إلى الفقراء يحتاج إلى سفر ونفقات فإن ذلك يكون على صاحب المال، ولا يجوز خصمه من الزكاة.

قال النووي: حيث جاز النقل (أي نقل الزكاة إلى بلد آخر) أو وجب فمؤنته على رب المال.

وقال المرداوي: أجرة نقل الزكاة - حيث قلنا به - على رب المال.

ص: 280

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: شخص طُلب منه إيصال مبلغ زكاة مال إلى الخارج وبشكل شخصي، فهل يجوز له التصرف بأن يقتطع من مبلغ الزكاة مصاريف السفر، علماً أنه لا يمكنه تحمل ذلك شخصيًّا؟

فأجاب: لا يحل له أن يأخذ من الزكاة شيئاً لهذا السفر، لأن الواجب على مَنْ عليه الزكاة أن يوصلها إلى الفقير من ماله هو، فإذا كان يريد أن يذهب إلى مكان يحتاج إلى مؤنة سفر، فإنه يأخذ من صاحب المال الذي أعطاه مؤنة السفر، وأما حق الفقراء فيجب أن يُؤدى إليهم خالصاً.

‌فائدة: 3

إن نقلها مع عدم الحاجة أو المصلحة فقد أساء، ومع ذلك فإنها تجزئه، ولا يؤمر بإعادة إخراجها.

جاء في (كشاف القناع ((وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا) أَيْ الزَّكَاةِ (عَنْ بَلَدِهَا إلَى مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَلَوْ) كَانَ النَّقْلُ (لِرَحِمٍ وَشِدَّةِ حَاجَةٍ أَوْ لِاسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ) وَالسَّاعِي وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ. . . (فَإِنْ خَالَفَ وَفَعَلَ) أَيْ نَقَلَ الزَّكَاةَ إلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ (أَجْزَأَهُ) الْمَنْقُولُ لِلْعُمُومَاتِ وَلِأَنَّهُ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَبَرِئَ كَالدَّيْنِ.

وجاء في (الموسوعة الفقهية). . . . ثُمَّ إِنْ نُقِلَتِ الزَّكَاةُ حَيْثُ لَا مُسَوِّغَ لِنَقْلِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ صَاحِبِهَا؛ لأِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الأْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.

ص: 281

(فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ، وَمَالُهُ فِي آخَرَ أخْرَجَ زَكَاةَ المال فِي بَلَدِهِ، وَفِطْرَتَهَ فِي بَلَدٍ هُوَ فِيهِ).

أي: إذا كان صاحب المال في بلد، وماله في بلد آخر، ولا سيما إذا كان المال ظاهراً كالمواشي والثمار، فإنه يخرج زكاة المال في بلد المال، ويخرج فطرة نفسه في البلد الذي هو فيه؛ لأن زكاة الفطر تتعلق بالبدن، والمال زكاته تتعلق به.

فالقاعدة إذاً: أن زكاة الفطر تتبع البدن، وزكاة المال تتبع المال.

فلو فرضنا أن رجلاً في بلد، وماله في بلد آخر يُتَّجَر فيه، فإنه يخرج زكاة المال في البلد الآخر، لا في بلده هو، وأما زكاة الفطر ففي بلده هو.

(وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ لِحَوْلَيْنِ فَأَقَلّ).

أي: يجوز تعجيل الزكاة لحولين فقط ولا يجوز أكثر من ذلك.

وبهذا قال الحسن، وسعيد بن جبير، والزهري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما تعجيل الزكاة قبل وجوبها بعد سبب الوجوب: فيجوز عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، فيجوز تعجيل زكاة الماشية، والنقدين، وعروض التجارة، إذا ملك النصاب.

والدليل على جواز تقديمها:

أ- ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلاَّم في (الأموال) عن علي (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تعجَّل من العباس صدقة سنتين) قال الألباني: حسن

ب- وعن عَلِي رضي الله عنه (أَنَّ اَلْعَبَّاسَ رضي الله عنه سَأَلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِي.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز تعجيل الزكاة.

حُكِيَ ذلك عن الحسن، وهو مذهب مالك، وقول ربيعة، وهو اختيار ابن المنذر.

لحديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا زكاة على مال حتى يحول عليه الحول).

والراجح القول الأول، لكن الأفضل عدم فعل ذلك إلا لمصلحة.

ص: 282

‌فائدة: 1

هل الأفضل تعجيل الزكاة أم لا؟

الأفضل عدم تعجيلها، يعني لا يستحب (مع قولنا بالجواز).

أولاً: لأن الأصل أن تفعل العبادة عند حلول وقتها.

ثانياً: أنه ربما تتغير الحال، فقد يتلف المال، أو ينقص النصاب.

قال الشيخ ابن عثيمين: ولكن نفي الاستحباب لا يقتضي عدم ثبوته لسبب شرعي، مثل أن تدعو الحاجة للتعجيل كمعونة مجاهدين، أو لحاجة قريب، أو ما أشبه ذلك، فهنا استحباب تعجيلها ليس لذاته، وإنما لغيره، وهو السبب الطارئ الذي صارت المصلحة في تقديم الزكاة من أجله. (الشرح الممتع).

مثال آخر: لنفرض أن رجلاً يريد أن يتزوج هذا العام وهو محتاج إلى الزواج فيطلب منّا معاونته، فيجوز أن تقدم زكاة المال القادم، فهذا فيه مصلحة للمعطى، وفي هذه الحالة يكون التقديم أفضل.

‌فائدة: 2

يشترط لتعجيل الزكاة أن يكون مالكاً للنصاب،

لأن ملك النصاب سبب لوجوبها.

فلو كان عنده (30) من الغنم سائمة، فإنه لا يجوز أن يعجل زكاته، لأنه لم تجب عليه الزكاة أصلاً.

‌فائدة: 3

إخراج الزكاة من المال قبل بلوغه النصاب يعتبر صدقة تطوع، فالمال لا تجب فيه الزكاة المفروضة حتى يبلغ النصاب ويحول عليه الحول.

فمثل هذا غير جائز باتفاق العلماء لا يُعرف بينهم خلاف، وأن هذا مثل تقديم الثمن قبل البيع، وتقديم الدية قبل القتل، وتقديم الكفارة قبل اليمين، وأن باذل هذا المال قبل ملك النصاب إنما يكون ماله صدقة تطوع لا زكاة واجبة.

قال ابن قدامة: ولا يجوز تعجيل الزكاة قبل ملك النصاب بغير خلاف علمناه، ولو ملك بعض نصاب فعجل زكاته أو زكاة نصاب: لم يجُز؛ لأنه تعجَّل الحكم قبل سببه.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز التكفير قبل اليمين؛ لأنه تقديم الحكم قبل سببه، كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب، وكتقديم الصلاة قبل دخول وقتها.

ص: 283

‌أهل الزكاة

(وهم ثمانيةُ أصنافٍ).

فلا يجوز صرف الزكاة لغيرهم.

قال تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

قال البهوتي: أهل الزكاة

ثمانية أصناف، لا يجوز صرفها إلى غيرهم، كبناء المساجد والقناط، وسد البثوق، وتكفين الموتى، ووقف المصاحف، وغير ذلك من جهات الخير لقوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) وكلمة " إنما " تفيد الحصر، أي تثبت المذكورين وتنفي ما عداهم.

(اِلْفُقراء).

هم من لم يجدوا شيئاً أو يجدون نصف الكفاية.

وهم أشد حاجة من المساكين، لأن الله بدأ به، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم.

(وَالْمَسَاكِينِ).

وهم الذين يجدون نصف الكفاية أو أكثرها، سموا بذلك لأن الفقر أسكنهم.

ص: 284

‌فائدة:

الْقَدْرُ الَّذِي يُعْطَاهُ الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ مِنَ الزَّكَاةِ:

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ أَهْل الْحَاجَةِ الْمُسْتَحِقَّ لِلزَّكَاةِ بِالْفَقْرِ أَوِ الْمَسْكَنَةِ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ الْكِفَايَةَ أَوْ تَمَامَهَا لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ عَامًا كَامِلاً، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا حَدَّدُوا الْعَامَ لأِنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ كُل عَامٍ غَالِبًا، وَلأِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ادَّخَرَ لأِهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يعطى ما يصير به غنياً.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَنْصُوصٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ يُعْطَيَانِ مَا يُخْرِجُهُمَا مِنَ الْفَاقَةِ إِلَى الْغِنَى وَهُوَ مَا تَحْصُل بِهِ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ، لِحَدِيثِ قَبِيصَةَ مَرْفُوعًا إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِل إِلاَّ لِثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَال: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ .. الْحَدِيثَ.

قَالُوا: فَإِنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ الاِحْتِرَافُ أُعْطِيَ مَا يَشْتَرِي بِهِ أَدَوَاتِ حِرْفَتِهِ قَلَّتْ قِيمَتُهَا أَوْ كَثُرَتْ بِحَيْثُ يَحْصُل لَهُ مِنْ رِبْحِهِ مَا يَفِي بِكِفَايَتِهِ غَالِبًا تَقْرِيبًا، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا أُعْطِيَ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الضِّيَاعِ يُشْتَرَى لَهُ ضَيْعَةٌ تَكْفِيهِ غَلَّتُهَا عَلَى الدَّوَامِ. قَال بَعْضُهُمْ: يَشْتَرِيهَا لَهُ.

قال ابن تيمية: ويأخذ الفقير من الزكاة ما يصير به غنياً، وإن كثر. وهو أحد القولين في مذهب أحمد والشافعي" انتهى.

وقال المرداوي: "الصحيح من المذهب أن كل واحد من الفقير والمسكين يأخذ تمام كفايته سنة .... وعنه [يعني الإمام أحمد]: يأخذ تمام كفايته بمتجر أو آلة صنعة، ونحو ذلك، واختار الآجري والشيخ تقي الدين [ابن تيمية] جواز الآخذ من الزكاة جملة واحدة ما يصير به غنياً وإن كثر " انتهى باختصار.

ص: 285

(وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا).

وهم جباتها وحفاظها، وهم السعاة الذين يبعثهم الإمام لأخذ الصدقات من الأغنياء.

‌فائدة: 1

لا يشترط أن يكونوا فقراء، بل يعطون ولو كانوا أغنياء، لأنهم يعملون لمصلحتها، فهم يعملون للحاجة إليهم، وفي الحديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: للعامل عليها .. ).

‌فائدة: 2

العامل يشترط فيه شروط:

• أن يكون مسلماً، لأنها ضرب من الولاية.

• أن يكون مكلفاً (بالغاً عاقلاً).

• أن يكون أميناً، قال تعالى (إن خير من استأجرت القوي الأمين).

• أن يكون أهلاً للعمل.

(وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ)

جمع مُؤَّلف، من التأليف، وهو جمع القلوب، والمراد به: السيد المطاع في عشيرته كما ذهب إليه بعض العلماء.

أقسامهم:

o أن يكون كافراً يرجى إسلامه فيعطى (لا بد من قرائن تدل على رغبته في الإسلام).

o أن يكون كافراً يخشى شره فهذا يعطى إذا كان له سلطة ونفوذ.

o أن يرجى بعطيته قوة إيمانه، كأن يكون حديث عهد بإسلام.

ص: 286

• هذا الصنف - المؤلفة قلوبهم - منهم من يعطى للحاجة إليه، كمن يعطى لكف شره، ومنهم من يعطى لحاجة نفسه، كمن يعطى

لقوة إيمانه ورجاء إسلامه.

• وسهم المؤلفة قلوبهم باقٍ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على القول الراجح - وهذا مذهب أكثر العلماء، لوجود العلة.

(وَفِي الرِّقَابِ)

ويشمل صور:

أ-إعطاء المكاتب: وهو الرقيق الذي اشترى نفسه من سيده، فهذا يعطى من الزكاة ليكون حراً.

ب-أن يشترى من أموال الزكاة أرقاء يعتقون.

ج-فكاك الأسير المسلم، فيعطى الأسير من الزكاة لفكاكه من الأسر، لأن في ذلك فك رقبةٍ من الأسر، فهو كفك رقبة من الرق، ولأن في ذلك إعزازاً للدين.

ص: 287

(الغارمون).

الغارم: هو من عليه دين.

وهو ينقسم إلى قسمين:

o من تدين لمصلحة نفسه كأن يستدين لزواج أو غيره، فهذا يعطى إذا كان فقيراً.

o من تدين لإصلاح ذات البين، فهذا يعطى من الزكاة ولو كان غنياً، مثاله: كانت هناك عداوة وفتنة بين جماعتين، فدخل زيد للإصلاح بينهم، لكن لا يتمكن من الصلح بينهم إلا ببذل مال، فيقول: أنا ألتزم لكل واحد منكما بمبلغ وقدره كذا من أجل الصلح، فيوافقون على ذلك، فهذا الرجل يعطى من الزكاة ما يدفعه في هذا الإصلاح، فيعطى هذا المبلغ الذي اشترطه على نفسه.

(في سبيل الله).

وهم الغزاة المتطوعة ويشمل أيضاً ما يتعلق بالجهاد كآلات الحرب، وكل ما يتعلق بالجهاد.

‌فائدة:

قول بعض العلماء: إن (في سبيل الله) يشمل أيضاً جميع القرب كعمارة المساجد والطرق وغيرها، هذا القول ضعيف.

والصحيح أنه مقصور بالمجاهدين الغزاة، لأن كثيراً من الناس لو علموا لبنوا المساجد وتركوا كثيراً من المستحقين.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ولا حجة لمن قال إن قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) يشمل كل أعمال الخير، لأن "سبيل الله" هو الطريق الموصل إليه.

ص: 288

نقول: هذا خطأ، أولاً: لأن الله ذكرها في باطن أشياء معينة، يعني لو كانت في الآخر لقلنا: تعميم بعد تخصيص، أو في الأول لقلنا: تخصيص بعد تعميم، أما أن يذكرها في جوف المستحقين ويقول:"وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ"، فهذا يدل على أن المراد:(وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ): شيء خاص، وهو الجهاد في سبيل الله.

وأيضاً لو قلنا: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ): عام لكل خير، لكان ذكر الحصر لغواً لا فائدة منه ". انتهى من "شرح الكافي".

(ابن السبيل).

وهو المسافر الذي انقطع به الطريق (يعطى ما يوصله إلى حاجته ويرده إلى بلده).

‌فائدة: 1

يشترط أن يكون السفر مباحاً، لأننا لو قلنا يجوز في سفر المعصية لكان ذلك من باب التعاون على الإثم.

‌فائدة: 2

لا يشترط أن يكون فقيراً، حتى لو كان غنياً في بلده.

(وَيَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ).

أي: ويجوز صرف الزكاة إلى صنف واحد من أصناف الزكاة الثمانية ولا يلزم تعميمهم.

وهذا قول جماهير العلماء.

أ- لقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

ب- ولحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن (

فترد على فقرائهم) والفقراء صنف واحد من الأصناف الثمانية.

ج-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بني زُرَيْق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر) رواه ابن خزيمة.

د-وقال صلى الله عليه وسلم لقَبِيصة (أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها) رواه مسلم.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجب التعميم.

وهذا مذهب الشافعي.

لقوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ

).

والصحيح القول الأول.

ص: 289

‌فائدة: 1

هل يعطى الفقير من الزكاة ليحج.

ذكر الله تعالى مصارف الزكاة في قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم).

واتفق العلماء على أن قوله تعالى: (وفي سبيل الله) المراد به الجهاد في سبيل الله.

ثم اختلفوا هل يشمل مع الجهاد الحج أم لا؟

فذهب أكثر العلماء إلى أنه خاص بالجهاد ولا يشمل الحج.

وذهب الإمام أحمد إلى أنه يدخل فيه الحج.

واستدل بما رواه أبو داود عن أُمِّ مَعْقَلٍ أنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيَّ حَجَّةً وَإِنَّ لأَبِي مَعْقَلٍ بَكْرًا (والبكر هو الفتي من الإبل) قَالَ أَبُو مَعْقَلٍ: صَدَقَتْ؛ جَعَلْتُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطِهَا فَلْتَحُجَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وثبت عن ابن عمر أنه قال: أَمَا إِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. قال الحافظ: أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن لم يحج حجة الإسلام وهو فقير أعطى ما يحج به اهـ يعني من الزكاة.

وجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) يجوز صرف الزكاة في إركاب فقراء المسلمين لحج فريضة الإسلام، ونفقتهم فيه، لدخوله في عموم قوله تعالى:(وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) من آية مصارف الزكاة اهـ.

‌فائدة: 2

هل يجوز إسقاط الديْن عن المعسر مقابل الزكاة؟

الصحيح أنه لا يجوز.

وهذا قول الجمهور.

ص: 290

قال الإمام النووي في المجموع: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى مُعْسِرٍ دَيْنٌ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ زَكَاتِهِ وَقَالَ لَهُ جَعَلْتُهُ عَنْ زَكَاتِي، فَوَجْهَانِ: حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْبَيَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْمَرِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي ذِمَّتِهِ فلا يبرأ إلا بإقباضها .... أَمَّا إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ عَنْ دَيْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ الدَّفْعُ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يَصِحُّ قَضَاءُ الدَّيْنِ بِذَلِكَ بِالِاتِّفَاق.

(المجموع).

جاء في (الموسوعة الفقهية) لَا يَجُوزُ لِلدَّائِنِ أَنْ يُسْقِطَ دَيْنَهُ عَنْ مَدِينِهِ الْفَقِيرِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَسُدُّ بِهِ دَيْنَهُ وَيَحْسِبَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ. فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا أَشْهَبَ، وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل أَبِي عُبَيْدٍ.

وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّ الزَّكَاةَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ لِلإْنْسَانِ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَى نَفْعِ نَفْسِهِ أَوْ إِحْيَاءِ مَالِهِ، وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ: إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأِنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ زَكَاتَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُ عَنْ دَيْنِهِ جَازَ، فَكَذَا هَذَا. (الموسوعة).

ص: 291

وقال الشيخ العثيمين: مسألة: إبراء الغريم الفقير بنية الزكاة، صورتها: رجل له مدين فقير يطلبه ألف ريال، وكان على هذا الطالب ألف ريال زكاة، فهل يجوز أن يسقط الدائن عن المدين الألف ريال الذي عليه بنية الزكاة؟

الجواب: أنه لا يجزئ.

قال شيخ الإسلام: بلا نزاع، وذلك لوجوه هي:

الأول: أن الزكاة أخذ وإعطاء، قال تعالى:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً). وهذا ليس فيه أخذ.

الثاني: أن هذا بمنزلة إخراج الخبيث من الطيب، قال تعالى:(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).

ووجه ذلك: أنه سيخرج هذا الدين عن زكاة عين، ومعلوم نقص الدين عن العين في النفوس، فكأني أخرج رديئاً عن جيد وطيب فلا يجزئ.

الثالث: أنه في الغالب لا يقع إلا إذا كان الشخص قد أيس من الوفاء، فيكون بذلك إحياء وإثراء لماله الذي بيده لأنه الآن سيسلم من تأدية ألف ريال. انتهى.

‌فائدة: 2

هل يدفع من الزكاة لقضاء دين الميت؟

ذهب بعض العلماء إلى الجواز.

لقوله تعالى (والغارمين).

قال ابن العربي المالكي: فإن كان ميتاً - أي الغارم - قضي منها دينه لأنه من الغارمين.

وقال القرطبي: وقال علماؤنا وغيرهم: يقضى منها دين الميت لأنه من الغارمين، قال صلى الله عليه وسلم: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعاً - أي عيال - فإلي وعلي.

ص: 292

وقال ابن تيمية: وأما الدين الذي على الميت فيجوز أن يوفى من الزكاة في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى قال: (وَالْغَارِمِينَ) ولم يقل: (وللغارمين) فالغارم لا يشترط تمليكه وعلى هذا يجوز الوفاء عنه وأن يملك لوارثه ولغيره.

وذهب جماهير العلماء: إلى أنه لا يجوز.

قال ابن قدامة: قَالَ الإمام أَحْمَدَ لا يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَلَا يُقْضَى مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّت، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا فِي قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ; لِأَنَّ الْغَارِمَ هُوَ الْمَيِّتُ وَلَا يُمْكِنُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى غَرِيمِهِ صَارَ الدَّفْعُ إلَى الْغَرِيمِ لَا إلَى الْغَارِمِ " انتهى.

وقال النووي: الأصح الأشهر أنه لا يقضى دين الميت من سهم الغارمين. (روضة الطالبين).

وقال الشيخ ابن عثيمين: مرجحاً هذا القول: والصحيح أنه لا يقضى دين الميت منها، وقد حكاه أبو عبيد في الأموال وابن عبد البر إجماعاً، لكن المسألة ليست إجماعاً ففيها خلاف، إلا أنه في نظرنا خلاف ضعيف، والعجيب أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جوّز أن تقضى ديون الأموات من الزكاة وحكاه وجهاً في مذهب الإمام أحمد، واستدل بقوله تعالى:(وَالْغَارِمِينَ) ـ فلم يعتبر التمليك، وإنما اعتبر إبراء الذمة، فالميت أولى بإبراء الذمة من الحي.

لكن القول الأول أرجح، فلا يقضى دين الميت من الزكاة للأمور التالية:

أولاً: أن الظاهر من إعطاء الغارم أن يزال عنه ذل الدين، لأن الدين ذل، كما يقال: الدين هم في الليل وذل في النهار.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقضي ديون الأموات من الزكاة، فكان يؤتى بالميت وعليه دين فيسأل صلى الله عليه وسلم: هل ترك وفاء؟ فإن لم يترك لم يصل عليه، وإن قالوا: له وفاء، صلى عليه.

ص: 293

فلما فتح الله عليه وكثر عنده المال صار يقضي الدين بما فتح الله عليه عن الأموات، ولو كان قضاء الدين عن الميت من الزكاة جائزاً لفعله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: أنه لو فتح هذا الباب لعطل قضاء ديون كثير من الأحياء، لأن العادة أن الناس يعطفون على الميت أكثر مما يعطفون على الحي، والأحياء أحق بالوفاء من الأموات.

رابعاً: أن الميت إذا كان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، وإن أراد إتلافها فالله قد أتلفه ولم ييسر له تسديد الدين.

خامساً: أن ذمة الميت قد خربت بموته، فلا يسمى غارماً.

سادساً: أن فتح هذا الباب يفتح باب الطمع والجشع من الورثة، فيمكن أن يجحدوا مال الميت ويقولوا: هذا مدين. انتهى.

(ويُسَنُّ إِلَى أَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُ مَؤُونَتُهُم).

أي: يسن للإنسان أن يدفع زكاته إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤونته، كعمته، وخالته، وهكذا.

أ- عن سلْمان بن عامرٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (الصَّدقَةُ عَلَى المِسكِينِ صدقَةٌ، وعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وصِلَةٌ). رواه الترمذي

ب- وقال صلى الله عليه وسلم لامرأة ابن مسعود (

لَها أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ) رواه مسلم.

قال الشيخ ابن عثيمين: يجوز أن تدفع زكاة الفطر وزكاة المال إلى الأقارب الفقراء، بل إنَّ دفعَها إلى الأقارب أولى من دفعها إلى الأباعد؛ لأن دفعَها إلى الأقارب صدقةٌ وصلةٌ، لكن بشرط ألا يكون في دفعها حمايةُ ماله، وذلك فيما إذا كان هذا الفقير تجب عليه نفقته أي على الغني، فإنه في هذه الحال لا يجوز له أن يدفع حاجته بشيء من زكاته، لأنه إذا فعل ذلك فقد وفر ماله بما دفعه من الزكاة، وهذا لا يجوز ولا يحل.

ص: 294

‌باب من لا تدفع الزكاة لهم

هذا الباب لبيان من لا يجوز دفع الزكاة إليهم.

(لاتحِلٌّ الصدقةُ لغنيٍ بكسب أو مال).

أي: لا يجوز دفع الزكاة لغني بكسب أو مال.

قال ابن قدامة: ولا خلاف في هذا.

[القوي] سليم الأعضاء [المكتسب] الذي يستطيع أن يتكسب بصنعة أو وظيفة.

أ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) رواه أبو داود.

ب- وعَنْ عُبَيْدِ اَللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ اَلْخِيَارِ (أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلَانِهِ مِنَ اَلصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا اَلْبَصَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَوَّاهُ، وَأَبُو دَاوُد.

ج- وأيضاً لآية الصدقة (إنما الصدقات للفقراء .. ) فمفهومه أنها لا تحل لغني.

د- ولأن أخذ الغني منها يمنع وصولها إلى أهلها، ويخل بحكمة وجوبها وهو إغناء الفقراء بها.

‌فائدة: 1

ضابط الغنى: هو من يجد كفاف عيشه وعيش من يعولهم طول العام.

‌فائدة: 2

متى يجوز دفع الزكاة لغني؟

الغني - كما تقدم ليس من أهل الزكاة - لكن قد تحل له بطرق شرعية:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحِلُّ اَلصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اِشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

‌الأول: العامل على الصدقة.

وهم جباتها، فإنهم يعطون لحاجتنا إليهم، وهذا من أهل الزكاة.

ص: 295

‌ثانياً: أو رجل اشتراها بماله.

أي اشترى الزكاة من الفقير. (المراد زكاة غيره).

‌ثالثاً: الغارم.

أي المديون، وهو على نوعين:

أولاً: الغارم لإصلاح ذات البين: وذلك بأن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم، ويلزم في ذمته مالاً لإطفاء الفتنة.

الثاني: الغارم الذي ركبته الديون بسبب من الأسباب: وهذا من أهل الزكاة.

‌رابعاً: الغازي في سبيل الله.

وهذا من أهل الزكاة الثمانية، كما قال تعالى:(وابن السبيل).

خامساً: المسكين الذي تصدق عليه منها فأهدى منها لغني.

• هؤلاء الخمسة:

الثلاثة الذين هم: الغارمون لإصلاح ذات البين، والعاملون عليها، والغزاة المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء من أهل الزكاة الثمانية.

وأما المشتري لها، والمهدي إليه منها، فليس من أهلها، وإنما ملكها من الفقير الذي استحقها وأعطى منها.

(و لا تَحِلّ لآلِ محمدٍ وهم: بنو هاشمٍ ومواليِهم).

أي: لا يجوز دفع الزكاة لآل محمد وهم بنو هاشم.

والمراد ببني هاشم: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وآل الحارث).

عَنْ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ اَلْحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اَلصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ اَلنَّاسِ).

ص: 296

وَفِي رِوَايَةٍ: (وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا آلِ مُحَمَّدٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قال في الشرح: لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة.

(إِنَّ اَلصَّدَقَةَ) المراد الزكاة الواجبة.

(إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ اَلنَّاسِ) المراد بالناس هنا المزكون. (فهو عام اريد به الخصوص).

‌فائدة: 1

الحكمة من عدم أخذهم من الزكاة؟

الحكمة بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (إنما هي أوساخ الناس).

قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخ النَّاس) تَنْبِيهٌ عَلَى عِلَّة فِي تَحْرِيمهَا عَلَى بَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب، وَأَنَّهَا لِكَرَامَتِهِمْ وَتَنْزِيههمْ عَنْ الْأَوْسَاخ، وَمَعْنَى (أَوْسَاخ النَّاس) أَنَّهَا تَطْهِير لِأَمْوَالِهِمْ وَنُفُوسهمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) فَهِيَ كَغَسَّالَةِ الْأَوْسَاخ.

وقال القرطبي: إنما كانت الصدقة كذلك؛ لأنها تطهرهم من البخل، وأموالهم من إثم الكنز، فصارت كأنها الغسالة التي تعاب.

‌فائدة: 2

هذا التحريم في الحديث خاص بالصدقة الواجبة،

وأما صدقة التطوع فإنها تحل لهم.

وهذا قول جماهير العلماء.

لأنهم إنما منعوا الزكاة لأنها تطهير لأموال الأغنياء ونفوسهم، وصدقة التطوع ليس كذلك.

قال ابن قدامة: أما صدقة التطوع فتحل لهم لأنها ليست من أوساخ الناس.

وقيل: تحرم عليهم حتى صدقة التطوع، وإلى هذا ذهب الشوكاني وجماعة.

لعموم الحديث.

ص: 297

‌فائدة: 3

يستثنى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا تحل له صدقة التطوع أيضاً.

قال في المغني: فَأَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّدَقَةَ جَمِيعَهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا؛ لِأَنَّ اجْتِنَابَهَا كَانَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِيُخِلَّ بِذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ سَلْمَانِ الْفَارِسِيِّ، أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَصَفَهُ، قَالَ (إنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ).

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ؟ فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي لَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ).

وَقَالَ عليه السلام (إنِّي لَأَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فِي بَيْتِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً، فَأُلْقِيهَا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ (إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ).

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَشْرَفَ الْخَلْقِ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمْسُ الْخُمْسِ وَالصَّفِيُّ، فَحُرِمَ نَوْعَيْ الصَّدَقَةِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا، وَآلُهُ دُونَهُ فِي الشَّرَفِ، وَلَهُمْ خُمْسُ الْخُمْسِ وَحْدَهُ، فَحُرِمُوا أَحَدَ نَوْعَيْهَا، وَهُوَ الْفَرْضُ

‌فائدة: 4

اختلف العلماء في أخذ بني هاشم من الزكاة إذا لم يعطوا حقهم من الخمس على قولين:

‌القول الأول: أنه لا يجوز أخذ بني هاشم من الزكاة مطلقاً، منعوا حقهم من الخمس أو أعطوه.

وهذا قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

للحديث السابق ( .... إنما هي أوساخ الناس).

ص: 298

وجه الدلالة: أن التعليل بعدم حل الزكاة لبني هاشم من أجل كون الصدقات أوساخ الناس، ولشرفهم ومكانتهم، وهذا الوصف فيهم وفي الصدقات باق أعطوا الخمس أو حرموه.

‌القول الثاني: جواز أخذ بني هاشم للزكاة إذا منعوا حقهم من الخمس.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

أن الخمس عوض عن الزكاة، فإذا لم يصل إليهم العوض عادوا إلى المعوض، وهو الزكاة، لإهمال الناس أمر الغنائم وإيصالها إلى مستحقيها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وبنو هاشم إذا منعوا من خمس الخمس جاز لهم الأخذ من الزكاة وهو قول القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا وقاله أبو يوسف والإصطخري من الشافعية لأنه محل حاجة وضرورة.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فإذا مُنعوا أو لم يوجد خمس كما هو الشأن في وقتنا هذا: فإنهم يُعطَون من الزكاة دفعاً لضرورتهم إذا كانوا فقراء، وليس عندهم عمل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصحيح.

‌فائدة: 5

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: والخمس: هو أن الغنائم تقسم خمسة أسهم، أربعة أسهم للغانمين، وسهم واحد يقسم خمسة أسهم أيضاً:

الأول: لله ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون في مصالح المسلمين، وهو ما يعرف بالفيء أو بيت المال.

الثاني: لذي القربى، هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، لأن بني عبد المطلب يشاركون بني هاشم في الخمس.

الثالث: لليتامى.

الرابع: للمساكين.

الخامس: لابن السبيل.

فإذا منعوا أو لم يوجد خمس، كما هو في الشأن في وقتنا هذا، فإنهم يعطون من الزكاة دفعاً لضرورتهم إذا كانوا فقراء، وليس عندهم عمل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.

ص: 299

‌فائدة: 6

روى البخاري: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ (مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي اَلْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم ": إِنَّمَا بَنُو اَلْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

استدل بهذا الحديث من قال: إن بني المطلب لا تحل لهم الزكاة.

وهذا قول الشافعي وجماعة.

أ-لقوله (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد).

ب- ولأن لهم نصيباً من الخمس.

وذهب بعض العلماء: إلى أن بني المطلب يعطون من الزكاة.

وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك.

أ- لعموم الأدلة (إنما الصدقات للفقراء

).

ب-وأما تشريكهم في الخُمُس، فإنه مبني على المناصرة والمؤازرة بخلاف الزكاة، فإنهم لما آزروا بني هاشم وناصروهم أعطوا جزاءً لفضلهم من الخمس.

(ولا يجوزُ دفعُها إلى الوالدينِ وإن علَوْا، ولا إلى الولدِ وإنْ سَفلَ).

أي: لا يجوز دفع الزكاة إلى الأصول، ولا إلى الفروع.

وحكى ابن المنذر الإجماع على أنه لا يجوز دفع الزكاة إليهم.

لأن الأصل والفرع يجب النفقة لهما بكل حال إذا كانوا فقراء وهو غني، فلا يعطيهم من الزكاة، ولأن دفع الزكاة إليهم تغنيهم عن نفقته، وتسقطها عنه فيعود نفع الزكاة إليه [كما لو قضى ديْن نفسه].

ص: 300

قال الشافعي: ولا يعطي (يعني من زكاة ماله) أباً ولا أماً ولا جداً ولا جدة " انتهى. (الأم).

وقال ابن قدامة: وَلَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا لِلْوَلَدِ، وَإِنْ سَفَلَ،

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْوَالِدَيْنِ، فِي الْحَالِ الَّتِي يُجْبَرُ الدَّافِعُ إلَيْهِمْ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ تُغْنِيهِمْ عَنْ نَفَقَتِهِ، وَتُسْقِطُهَا عَنْهُ، وَيَعُودُ نَفْعُهَا إلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى نَفْسِهِ، فَلَمْ تَجُزْ، كَمَا لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَهُ، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ " لِلْوَالِدَيْنِ " يَعْنِي الْأَبَ وَالْأُمَّ.

وَقَوْلُهُ: " وَإِنْ عَلَوْا " يَعْنِي آبَاءَهُمَا وَأُمَّهَاتِهِمَا، وَإِنْ ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهُمْ مِنْ الدَّافِعِ، كَأَبَوَيْ الْأَبِ، وَأَبَوَيْ الْأُمِّ، وَأَبَوَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُمْ، مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَرِثُ.

وَقَوْلُهُ: " وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ " يَعْنِي وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ مِنْ أَوْلَادِهِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، الْوَارِثِ وَغَيْرِ الْوَارِثِ. (المغني).

‌فائدة:

إذا كان المنفق عاجزاً عن النفقة فقد أجاز بعض أهل العلم له أن يدفع زكاة ماله إلى والديه أو أولاده ممن لزمته نفقتهم وعجز عنها ـ

وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

قال ابن قاسم في حاشية الروض: وقال شيخ الإسلام: يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والولد، إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن الإنفاق عليهم، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، ويشهد له العمومات.

وقال: الأقوى جواز دفعها إليهم في هذه الحال، لأن المقتضي موجود، والمانع مفقود، فوجب العمل بالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم.

ص: 301

وقال أيضًا: إن كان محتاجًا إلى النفقة، وليس لأبيه ما ينفق عليه، ففيه نزاع، والأظهر أنه يجوز له أخذ زكاة أبيه، وأما إن كان مستغنيًا بنفقة أبيه، فلا حاجة به إلى زكاته.

وقال: إذا كانت الأم فقيرة ولها أولاد صغار ولهم مال ونفقتها تضر بهم أعطيت من زكاتهم، وإذا كان على الولد دَيْنٌ لا وفاء له جاز أن يأخذ النفقة من زكاة أبيه في أظهر القولين في مذهب أحمد وغيره.

(ولا إلى الزوْجةِ).

أي: لا يجوز أن يدفع الزوج زكاته لزوجته.

قال ابن المنذر: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لا يُعْطِي زَوْجَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ لأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَة عَلَيْهِ فَتَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الزَّكَاةِ.

‌فائدة:

اختلف العلماء: هل يجوز للزوجة أن تعطي زوجها الفقير من الزكاة على قولين:

القول الأول: أنه يجوز ذلك.

قال الصنعاني: هو قول الجمهور.

قال الحافظ - في حديث الباب -: وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الْمَرْأَةِ زَكَاتهَا إِلَى زَوْجِهَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَة وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ.

وقال ابن حزم في المحلى: وتعطي المرأة زوجها من زكاتها إن كان من أهل السهام، صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفتى زينب امرأة ابن مسعود. وساق الحديث.

أ-لعموم الأدلة (إنما الصدقات للفقراء

).

ب-ولعدم الدليل الذي يمنع من ذلك.

ص: 302

ج- قال ابن قدامة: ولأنه - أي الزوج - لا تجب نفقته عليها فلا يمنع دفع الزكاة إليه كالأجنبي، ويفارق الزوجة فإن نفقتها واجبة عليه؛ ولأن الأصل جواز الدفع؛ لدخول الزوج في عموم الأصناف المسمين في الزكاة، وليس في المنع نص ولا إجماع، وقياسه على من ثبت المنع في حقه غير صحيح لوضوح الفرق بينهما، فيبقى جواز الدفع ثابتًا. انتهى

د-ولحديث أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (جَاءَتْ زَيْنَبُ اِمْرَأَةُ اِبْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ اَلْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ اِبْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدُهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَ اِبْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

وفي رواية (

فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامِى فِي حَجْرِي مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ سَلِى أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

).

فإن المراد به صدقة الفرض ويدل لذلك:

أولاً: قولها: (أيُجْزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي

).

ثانياً: ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم لها، ينزل منزلة العموم، فلم يستفصل عن الصدقة، هل هي تطوع، أو واجب؟ فكأنه قال: يجزئ عنك فرضاً كان أو تطوعاً.

قال الشوكاني: والظاهر أنه يجوز للزوجة صرف زكاتها إلى زوجها:

أما أولاً: فلعدم المانع من ذلك ومن قال أنه لا يجوز فعليه الدليل.

وأما ثانياً: فلأن ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم لها ينزل منزلة العموم فلما لم يستفصلها عن الصدقة هل هي تطوع أو واجب فكأنه قال يجزئ عنك فرضاً كان أو تطوعاً.

ص: 303

القول الثاني: لا يجوز.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

أ-لأن الرجل من امرأته كالمرأة من الرجل، وقد منعنا إعطاء الرجل للزوجة كذلك إعطاء المرأة لزوجها.

ب- ولأنها ستنتفع بدفعها إليه.

وقالوا: إن حديث زينب ليس المراد صدقة الفرض، وإنما المراد به صدقة التطوع ويدل لذلك:

قوله صلى الله عليه وسلم: (

ولو من حليكن

) فهذا يدل على التطوع.

قالوا: وأما قولها: (أيجزئ عني

) أي في الوقاية من النار، كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا يحصل لها المقصود.

وأجيب عن ذلك: إنه لا يستقيم ذلك، لأنه لا يستحق النار إلا من منع الصدقة الواجبة، أما صدقة التطوع فلا يعاقب على تركها، وفي قولها: أيجزئ عني؟ أي أيجزئ عني في الزكاة الواجبة؟ أما صدقة التطوع فلا يقال: أتجزئ عني؛ لأن الغرض منها قصد الأجر والثواب، والثواب يحصل بأي مقدار من المال دُفع ولأي دفع.

والراجح القول الأول.

(ولا إلى رقيقٍ).

أي: لا يجوز دفع الزكاة إلى الرقيق.

أ- لأن نفقته واجبة على سيده.

ب- لأننا لو أعطيناه لانتقل المال إلى سيده فوراً، فإن مال العبد مال لسيده.

ص: 304

(ولا إلى كافرٍ).

أي: لا يجوز دفع الزكاة لكافر.

قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في أن زكاة الأموال لا تعطى لكافر.

لكن يستثنى إذا كان مؤلفاً فإنه يعطى.

(ولا إلى فقيرةٍ تحت غنيٍ مُنفِق).

أي: إذا كان هناك امرأة فقيرة متزوجة، فإنها لا تعطى من الزكاة، إذا كان زوجها غني، وهذا الزوج منفق باذل.

ومفهومه: أنه إذا كان هذا الزوج غير منفق، فإنه يجوز إعطاؤها من الزكاة.

(أما صدقةُ التطوعِ، فيجوزُ دفعُها إلى هؤلاء وإلى غيرهم).

تقدم أهل الزكاة، فصدقة الفريضة لا يجوز دفعها إلا لمن عينه الله تبارك وتعالى في كتابه كما تقدم.

أما صدقة التطوع، فالأمر فيها واسع، فيجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع الزكاة إليه وإلى غيرهم.

لكن على القريب أفضل فهي صدقة وصلة كما في الحديث السابق (الصدقة على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة).

(وَإِنْ أَعْطَاهَا لِمَنْ ظَنَّهُ غَيْرَ أَهْلٍ فَبَانَ أهْلاً، أوْ بِالْعَكْسِ لَمْ يُجْزِهِ).

هنا مسألتان:

الأولى: إذا أعطى زكاته لشخص يعتقد أنه ليس من أهلها، فبان وظهر فيما بعد أنه من أهلها.

فالحكم هنا: لا يجزئه ذلك.

لأنه أعطى وهو شاك، والعبادة يجب أن يؤديها الإنسان وهو جازم على يقين. هذا شيء.

ولأن من أعطى زكاته لرجل يظن أنه ليس أهلاً للصدقة فهو إما متساهل أو متلاعب.

ولا نقول دائماً أنه متلاعب، بل الغالب أنه متساهل، ولا يجوز أن يتساهل الإنسان في إبراء ذمته حين إخراج الزكاة.

الثانية: عكسها.

إذا دفع الزكاة لمن ظن أنه مستحق للزكاة، فتبين أنه ليس أهلاً لها.

فالحكم هنا: لا يجزئه ذلك.

لأن العبرة بما في نفس الأمر لا بما في ظنه.

ص: 305

مثاله: أعطى رجلاً يظنه غارماً فبان أنه غير غارم، فإنها لا تجزئ؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر، أي: بالواقع، والواقع أنه غير أهل.

مثال آخر: أعطاها لشخص يظنه ابن سبيل فتبين أنه غير ابن سبيل فإنها لا تجزئه.

(إِلاَّ لِغَنِيٍّ ظَنَّهُ فَقِيراً فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ).

أي: يستثنى مما سبق حالة واحدة وهي: إذا دفعها لغني يظنه فقيراً، فإنه يجزئه ذلك.

أ- لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (قَالَ رَجُلٌ لأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ. قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِىٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِىٍّ. قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِىٍّ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ. فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِىٍّ وَعَلَى سَارِقٍ. فَأُتِىَ فَقِيلِ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا وَلَعَلَّ الْغَنِىَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِه) متفق عليه.

ب- ولأنه فعل ما استطاع عليه، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

ج- ولأن حقيقة الفقر قد تخفى، فاكتفى فيه بغلبة ظن دافع الزكاة،

قال البهوتي: فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا أَجْزَأَتْ. (كشاف القناع).

ص: 306

(وصدقةُ التطوعِ مستحبةٌ في كلِ وقت).

صدقة التطوع مستحبة، وأجرها كبير، وثوابها عظيم، وقد جاءت النصوص الكثيرة في فضلها والحث عليها والترغيب فيها.

‌أولاً: أنها برهان على صحة الإيمان.

عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) رواه مسلم.

قال ابن رجب: وأما الصدقة فهي برهان،

فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان.

‌ثانياً: أنها تطهير للنفس.

قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).

‌ثالثاً: أنها تغفر الذنوب.

قال صلى الله عليه وسلم (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) رواه الترمذي.

‌رابعاً: أن الصدقة تزيد المال.

قال صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال) رواه مسلم.

‌خامساً: أنها تظلل صاحبها يوم القيامة.

قال صلى الله عليه وسلم (العبد في ظل صدقته يوم القيامة) رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:

ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

ص: 307

‌سادساً: أنها وقاية من النار.

قال صلى الله عليه وسلم (اتقوا النار ولو بشق تمرة) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم للنساء (يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاِسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ) متفق عليه.

‌سابعاً: دعاء الملائكة.

كما قال صلى الله عليه وسلم (ما من صباح إلا وينزل ملكان: يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً). متفق عليه

‌ثامناً: أن فيها علاجاً من الأمراض.

روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (داووا مرضاكم بالصدقة).

قال ابن شقيق (سمعت ابن المبارك وسأله رجل: عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فاحفر بئراً في مكان حاجة إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ).

‌تاسعاً: أن الله يدفع بالصدقة أنواعاً من البلاء.

كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل (وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم).

فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها أنواعاً من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض مقرون به لأنهم قد جربوه. (الوابل الصيب).

‌عاشراً: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به.

كما في قوله تعالى (ومَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُم).

ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عائشة عن الشاة التي ذبحوها ما بقى منها: قالت: ما بقى منها إلا كتفها، قال (بقي كلها غير كتفها) رواه الترمذي.

ص: 308

‌الحادي عشر: أن يضاعف للمتصدق أجره.

كما في قوله عز وجل (إنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيم).

وقوله سبحانه (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون).

‌الثاني عشر: أن فيها انشراحاً للصدر.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدَيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تُغَشِّىَ أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا) متفق عليه.

فالمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلمَّا تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح، وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في الصَّدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبدُ حقيقياً بالاستكثار منها والمبادرة إليها وقد قال تعالى (ومَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُون).

‌الثالث عشر: الفضل الكبير.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ. فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلَانٌ. لِلاِسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتاً فِي السَّحَابِ

الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لاِسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالي ثُلُثاً وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَه) رواه مسلم.

ص: 309

‌الرابع عشر: صاحب الصدقة موعود بالخلف.

كما قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب.

‌الخامس عشر: أن الله يربي الصدقة.

كما قال تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ - وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) متفق عليه.

قال السمرقندي: عليك بالصدقة بما قلّ أو كثر، فإن في الصدقة عشر خصال محمودة خمس في الدنيا وخمس في الآخرة:

أما التي في الدنيا:

فأولها: تطهير المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن البيع يحضره اللغو والحلف والكذب، فشوبوه بالصدقة).

والثاني: أن فيها تطهير البدن من الذنوب، كما قال الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ

).

والثالث: أن فيها دفع البلاء والأمراض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (داووا مرضاكم بالصدقة).

والرابع: أن فيها إدخال السرور على المساكين، وأفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمنين.

والخامس: أن فيها بركة في المال وسعة في الرزق، كما قال تعالى (ومَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ).

ص: 310

وأما الخمس التي في الآخرة:

فأولها: أن تكون الصدقة ظلاً لصاحبها في شدة الحر.

والثاني: أن فيها خفة الحساب.

والثالث: أنها تثقل الميزان.

والرابع: جواز على الصراط.

والخامس: زيادة الدرجات في الجنة.

قال ابن القيم: فإن الصدقة تفدي من عذاب الله، فإن ذنوب العبد وخطاياه تقتضي إهلاكه، فتجئ الصدقة تفديه من العذاب وتفكه منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما خطب النساء يوم العيد (يا معشر النساء تصدقن .... فإني رأيتكن أكثر أهل النار.

(والأفضل والأكمل أن تكون سراً).

أي: الأفصل أن تكون الصدقة المندوبة سراً.

أ- لقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

ب- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) متفق عليه.

ص: 311

بعض أقوال أهل العلم.

قال ابن الجوزي: وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين:

أحدهما: يرجع إلى المعطي وهو بُعْدُه عن الرياء، وقربه من الإخلاص، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية.

والثاني: يرجع إلى المعطَى، وهو دفع الذل عنه بإخفاء الحال، لأن في العلانية ينكر.

ثم قال: واتفق العلماء على إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها.

وقال ابن كثير: في الآية دلالة على إن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية.

فالأصل أن الإسرار أفضل، لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ..... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

(تفسير ابن كثير).

ص: 312

وقال ابن القيم: قوله تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) أي فنعم شيء هي وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاء فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر وهذه كانت حال الصحابة.

وقال السعدي:. . . وإن أخفاها وسلمها للفقير كان أفضل، لأن الإخفاء على الفقير إحسان آخر، وأيضاً فإنه يدل على قوة الإخلاص، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله (من تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

قال القرطبي: قوله تعالى (فَنِعِمَّا هِيَ) ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك.

ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطُنع إليك فانشره.

وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: لا يتمّ المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيلُه وتصغيرُه وسترهُ؛ فإذا أعجلته هنيّته، وإذا صغّرته عظّمته، وإذا سترته أتْمَمْته.

ويقول ابن عاشور في فوائد الآية السابقة في سورة البقرة - فيها: تفضيل لصدقة السرّ؛ لأنّ فيها إبْقاء على ماءِ وجه الفقير، حيث لم يطّلع عليه غير المعطي.

‌فائدة: 1

قوله صلى الله عليه وسلم (حتى لا تعلم شماله. . .) المراد المبالغة في الإخفاء.

قال القرطبي: هذا مبالغة في إخفاء الصدقة.

ص: 313

وقال في الفتح: المقصود منه المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث أن شماله مع قربها من يمينه وتلازمهما لو تصور أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها فهو على هذا من مجاز التشبيه ويؤيده رواية حماد بن زيد عند الجوزقي تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه من شماله.

‌فائدة: 2

وأما الزكاة المفروضة فالأفضل إظهارها.

لأجل أن يقتدي به غيره، ولئلا يُساء الظن به، فيظن بعض الناس أنه لا يخرج زكاة.

قال النووي: الأفضل في الزكاة إظهار إخراجها; ليراه غيره فيعمل عمله، ولئلا يساء الظن به، وهذا كما أن الصلاة المفروضة يستحب إظهارها، وإنما يستحب الإخفاء في نوافل الصلاة والصوم. (المجموع). (وتقدمت المسألة).

(ويتأكد استحباب الصدقة وقت الحاجات).

أي: يتأكد استحباب الصدقة كلما اشتدت حاجة الفقير.

وذلك أن سد الحاجات وستر العورات من أهم مقاصد تشريع الصدقات.

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أَفْضَلُ الأَعْمَالِ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى المُؤمِنِ: كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، وَأَشْبَعْتَ جَوْعَتَه، أَوْ قَضَيتَ لَهُ حَاجَةً) رواه الطبراني في المعجم الأوسط.

وقال الشيخ ابن عثيمين: فإن قيل: أيها أولى أن تصرف فيه الزكاة من هذه الأصناف الثمانية؟

قلنا: إن الأولى ما كانت الحاجة إليه أشد؛ لأن كل هؤلاء استحقوا الوصف، فمن كان أشد إلحاحاً وحاجة فهو أولى، والغالب أن الأشد هم الفقراء والمساكين، ولهذا بدأ الله تعالى بهم فقال:(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغاارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

وجاء في (الموسوعة الفقهية) إعطاء المستحقّين الزّكاة ليس بدرجةٍ واحدةٍ من الفضل، بل يتمايز: فقد نصّ المالكيّة على أنّه يندب للمزكّي إيثار المضطرّ على غيره، بأن يزاد في إعطائه منها دون عموم الأصناف.

ص: 314

(وفي الزمان والمكان الفاضل).

أي: ومما تتأكد فيه الصدقة: الزمان الفاضل، والمكان الفاضل، كشهر رمضان، وعشر ذي الحجة، وكالحرمين.

أ- لقوله تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (.

فجعله الله مباركاً، لتضاعف العمل فيه، والبركة كثرة الخير.

ب- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَة) متفق عليه.

قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: اِسْتِحْبَاب إِكْثَار الْجُود فِي رَمَضَان.

وقال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وأجودُ ما يكون في رمضان، يُكثر فيه مِن الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف.

ج- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ قَالُوا، وَلَا الْجِهَادُ قَالَ، وَلَا الْجِهَادُ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) رواه البخاري.

‌فائدة:

قال ابن رجب: في تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:

منها: شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل فيه.

ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم.

ص: 315

ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله به على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل.

ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة.

ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها. (310/ 312).

(ووقت الصحة أفضل).

أي: الصدقة والإنفاق وقت الصحة والنشاط أفضل من وقت المرض.

أ- لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ (جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رسولَ الله، أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أجْرَاً؟ قَالَ: ((أنْ تَصَدَّقَ وَأنتَ صَحيحٌ شَحيحٌ، تَخشَى الفَقرَ وتَأمُلُ الغِنَى، وَلَا تُمهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغتِ الحُلقُومَ قُلْتَ لِفُلان كذا ولِفُلانٍ كَذا، وقَدْ كَانَ لِفُلان) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

(أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أجْرَاً؟) وفي رواية (أي الصدقة أفضل) أي: في وقت يكون فعلها أفضل، فهو لم يسأل عن كميتها ولا في نوعها، وإنما يريد ما هو الوقت الأفضل الذي تكون فيه الصدقة أفضل من غيرها. (أنْ تَصَدَّقَ وَأنتَ صَحيحٌ) البدن، والمراد بالصحيح هنا من لم يدخل في مرض مخوف. (شَحيحٌ) النفس، أي: من شأنه الشح للحاجة إلى المال، وفي رواية للبخاري (وأنت صحيح حريص). (تَخشَى الفَقرَ) بإخراج المال من يدك. (وتَأمُلُ الغِنَى) أي: تطمع فيه وترجوه، وفي رواية للنسائي (وتأمل العيش) والعَيْش - بفتح فسكون - الحياة، أي: ترجو الحياة. (وَلَا تُمهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغتِ الحُلقُوم) بلغت الروح، والمراد قاربت بلوغ الحلقوم إذ لو بلغته حقيقة

لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شيء من تصرفاته باتفاق الفقهاء. (قُلْتَ لِفُلان كذا ولِفُلانٍ كَذا، وقَدْ كَانَ لِفُلانٍ) قال الخطابي: المراد به الوارث، وقال غيره: المراد به سبق القضاء به للموصى له، ويحتمل أن يكون المعنى أنه قد خرج عن تصرفه وكمال ملكه واستقلاله بما شاء من التصرف فليس له في وصيته كبير ثواب بالنسبة إلى صدقة الصحيح الشحيح. (نووي).

ص: 316

وإنما كان الإنفاق في هذه الحالة أكثر ثواباً وأعظم أجراً، لما فيه من مجاهدة النفس، وصدق النية، والعزم على إرضاء الله تعالى، ونيل الفلاح عنده.

قال النووي رحمه الله: قَالَ الخطابي: فَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الشُّحّ غَالِب فِي حَال الصِّحَّة، فَإِذَا شَحّ فِيهَا وَتَصَدَّقَ كَانَ أَصْدَقَ فِي نِيَّته وَأَعْظَم لأَجْرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْت وَآيَسَ مِنْ الْحَيَاة وَرَأَى مَصِير الْمَال لِغَيْرِهِ فَإِنَّ صَدَقَته حِينَئِذٍ نَاقِصَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَة الصِّحَّة، وَالشُّحّ رَجَاء الْبَقَاء وَخَوْف الْفَقْر .. فَلَيْسَ لَهُ فِي وَصِيَّته كَبِير ثَوَاب بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَدَقَة الصَّحِيح الشَّحِيح.

قال العلماء: وإنما خص هاتين الحالتين، وهما أمل الغنى، وخشية الفقر، لأن الصدقة في هاتين الحالتين أشد مراغمة للنفس.

ولأنه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالباً لما يخوّفه به الشيطان، ويُزين له، من إمكان طول العمر، والحاجة إلى المال.

وقال الحافظ ابن حجر: وَفِي الْحَدِيث أَنَّ تَنْجِيز وَفَاء الدَّيْن وَالتَّصَدُّق فِي الْحَيَاة وَفِي الصِّحَّة أَفْضَل مِنْهُ بَعْد الْمَوْت وَفِي الْمَرَض، وَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (وَأَنْتَ صَحِيح حَرِيص تَأْمُل الْغِنَى الخ) لأَنَّهُ فِي حَال الصِّحَّة يَصْعُب عَلَيْهِ إِخْرَاج الْمَال غَالِبًا لِمَا يُخَوِّفهُ بِهِ الشَّيْطَان وَيُزَيِّن لَهُ مِنْ إِمْكَان طُول الْعُمْر وَالْحَاجَة إِلَى الْمَال كَمَا قَالَ تَعَالَى (الشَّيْطَان يَعِدكُمْ الْفَقْر) الآيَة.

وقد جاء عند الترمذي عن أبي درداء مرفوعاً (مثل الذي يُعتق ويتصدق عند موته، مثل الذي يهدي إذا شبع).

وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً (لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم، خير له من أن يتصدق عند موته بمائة).

ص: 317

ب- ولحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لأَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَ مَوْتِه) رواه أبو داود.

(وتكون الصدقة بعد الفاضل عن كفايتهِ وكفاية من يمونه).

أي: ويسن أن تكون الصدقة بالزائد عن كفايته، وكفاية من يمونه، ويأثم المتصدق إذا تصدق بصدقة تنقص كفايته وكفاية من يمونه.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول).

ب- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ (أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي دِينَارٌ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ - أَوْ قَالَ: زَوْجِكَ -، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْتَ أَبْصَرُ) هذا لفظ أبي داود.

ج- وعنه. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِى رَقَبَةٍ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُهَا أَجْراً الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) رواه مسلم.

د- لأن النفقة على نفسه وعلى من يعول واجبة، فلا يقدم عليها ما هو تطوع.

هـ-عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اَلْيَدُ اَلْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اَلْيَدِ اَلسُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ اَلصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

و- جاء عند ابن حبان (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، ثم على أبويك، ثم على قرابتك، ثم هكذا، ثم هكذا).

‌فائدة: 1

قوله (وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)

أي: أنه أول ما يجب على الإنسان الإنفاق على من يعولهم.

ص: 318

‌فائدة: 2

قوله (وَخَيْرُ اَلصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى).

قَالَ الْخَطَّابِيّ: الْمَعْنَى أَفْضَل الصَّدَقَة مَا أَخْرَجَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْقِيَ مِنْهُ قَدْرَ الْكِفَايَة.

وقال الحافظ ابن حجر: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَفْضَل الصَّدَقَة مَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَى مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُه.

وقال القرطبي: وَالْمُخْتَار أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَفْضَلُ الصَّدَقَة مَا وَقَعَ بَعْدَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النَّفْسِ وَالْعِيَال بِحَيْثُ لَا يَصِيرُ الْمُتَصَدِّق مُحْتَاجًا بَعْدَ صَدَقَتِهِ إِلَى أَحَد.

(ويأثمُ بِما يَنْقُصُها).

أي: ويأثم المتصدق إذا تصدق بصدقة تنقص كفايته وكفاية من يمونه.

أ-لأن النفقة على نفسه وعلى من يعول واجبة، فلا يقدم عليها ما هو تطوع.

ب- عن عبد الله بن عمرو، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (كَفَى بِالمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) رواه أبو داود.

وأصله في مسلم بلفظ (كَفَى بِالمَرْءِ إثْمًا أَنْ يحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ).

ص: 319

‌فائدة: 1

الصدقة لمن عليه ديْن.

قال ابن قدامة: ومن عليه دين لا يجوز أن يتصدق صدقة تمنع قضاءها؛ لأنه واجب فلم يجز تركه. (الكافي).

وجاء في "كشاف القناع"(2/ 298) من كتب الحنابلة: "ووفاء الدَّيْن مقدم على الصدقة، لوجوبه " انتهى.

وقال الدكتور وهبة الزحيلي في "الفقه الإسلامي وأدلته"(3/ 394): "يستحب ألا يتصدق من عليه دَيْن، حتى يؤدي ما عليه، والأصح عند الشافعية تحريم الصدقة من مدين لا يجد لدينه وفاء؛ لأنه حق واجب، فلم يجز تركه بصدقة التطوع، فيقدم الدَّيْن لأن أداءه واجب، فيتقدم على المسنون، فإن رجا له وفاء من جهة أخرى ظاهرة، فلا بأس بالتصدق به، إلا إن حصل بذلك تأخير، وكان الواجب وفاء الدين على الفور بمطالبة أو غيرها " انتهى باختصار

وعلى هذا، فينبغي لمن عليه دين أن يبادر بسداده لصاحبه، ويقدم ذلك على صدقة التطوع.

ويمكن تقسيم هذه المسألة إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون الدين مؤجلاً، فلا بأس بالصدقة، إذا كان يرجو الوفاء عند حلول الأجل.

قال ابن عثيمين: أما إذا كان الدين مؤجلاً، وإذا حل وعندك ما يوفيه: فتصدق ولا حرج؛ لأنك قادر " انتهى من "الشرح الكافي"

القسم الثاني: أن يكون الدين معجلاً، أو مؤجلاً قد حل أجله.

فلا يجوز للمدين أن يتصدق، قبل الوفاء بالدين.

لأن قضاء الدين واجب، والصدقة مندوب إليها، فلا يقدم مندوب على واجب؛ ولأن هذا داخل في المطل، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ).

ص: 320

‌فائدة: 2

لا حرج من الرجوع في الصدقة قبل أن يقبضها الفقير بنفسه أو عن طريق وكيله

؛ لأن الفقير لا يملك الصدقة إلا إذا قبضها، فإذا لم يقبضها فلا تزال على ملك صاحبها.

لقوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة/ 271.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تفسيره: ومن فوائد الآية: أن الصدقة لا تعتبر حتى يوصلها إلى الفقير؛ لقوله تعالى: (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء).

وروى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: (لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ وَلَا أَرَى النَّجَاشِيَّ إِلَّا قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى إِلَّا هَدِيَّتِي مَرْدُودَةً عَلَيَّ فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ فَهِيَ لَكِ. . .) قال الحافظ في فتح الباري "إسناده حسن".

وهذا قول أكثر الفقهاء. (المغني).

أما بعد قبضها بنفسه أو عن طريق وكيله، فلا يجوز الرجوع فيها باتفاق أهل العلم رحمهم الله.

عن ابن عباس رضي الله عنهما: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِه) وفي لفظ (الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِه).

وروى مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها. . .).

وقد بوب البخاري في صحيحه باب: (لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته).

ص: 321

قال الحافظ ابن حجر: وأما الصدقة، فاتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض. (الفتح).

والحاصل: أن من نوى أن يتصدق بمبلغ من المال، فالأولى له إمضاء الصدقة ولا يجب عليه ذلك، ما لم يقبضها الفقير، فإن قبضها فلا يجوز الرجوع فيها باتفاق العلماء رحمهم الله.

‌فائدة: 3

قوله (اَلْيَدُ اَلْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اَلْيَدِ اَلسُّفْلَى).

المراد باليد العليا: هي المنفقة. والسفلى: هي السائلة.

كما جاء في حديث آخر (يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي).

وقال صلى الله عليه وسلم (الأيد ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى).

(والمنّ بالصدقة كبيرة، ويبطل به الثواب).

أي: أن المنّ بالصدقة حرام وكبيرة من الكبائر، ومبطل لأجر الصدقة.

وقال القرطبي: المَنُّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها؛ مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونَعْشْتُك وشبهه.

وقال بعضهم: المنّ: التحدّث بما أَعطى حتى يبلغ ذلك المعطَى فيؤذيه.

أ- قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).

ب- وعنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَنَّانُ الَّذِى لَا يُعْطِى شَيْئًا إِلاَّ مَنَّهُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ) رواه مسلم.

ج- وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاقّ لوالديه والمرأة المترجِّلة تتشبّه بالرجال والديُّوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاقّ لوالديه والمدمِن الخمر والمنّان بما أعطى) رواه النسائي.

ص: 322

‌فائدة: 1

قال أبو السعود: وإنما قُدم المن لكثرة وقوعِه.

‌فائدة: 2

المن بالعطية من مساوئ الأخلاق:

قال القرطبي: المنّ يقع غالباً من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية، وإن كانت حقيرة في نفسها، والمُعجب يحمله العُجب على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه مُنعِم بماله على المُعْطَى، وموجب ذلك كله الجهل، ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه.

وقال بعض السلف: من منّ بمعروفه سقط شكره، ومن أعجب بعمله حبط أجره.

(ويحرم على الشخص شراءُ صدقتهِ).

أ- لحديث عُمَر قَالَ (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ. فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لا تَشْتَرِهِ. وَلا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ. فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) متفق عليه.

(حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ) قال القرطبي: يعني أنه تصدق به على رجل ليجاهد عليه، ويتملكه لا على وجه الحبس، إذ لو كان كذلك لما جاز له أن يبيعه، وقد وجده عمر في السوق يباع، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك) فدل على أنه ملّكه إياه على جهة الصدقة ليجاهد عليه في سبيل الله.

(فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ) معنى إضاعته له، أنه لم يحسن القيام عليه، وقصّر في مؤونته وخدمته، وقد جاء في رواية (فوجده عند صاحبه، وقد أضاعه، وكان قليل المال).

(فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ) أي: بثمن قليل، قال القرطبي: إنما ظن ذلك، لأنه هو الذي كان أعطاه إياه، فتعلق خاطره بأنه يسامحه في ترك جزء من الثمن، وحينئذ يكون رجوعاً في عين ما تصدق به في سبيل الله، ولما فهِم النبي صلى الله عليه وسلم هذا نهاه عن ابتياعه، وسمى ذلك عوْداً، فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك.

(لَا تَبْتَعْهُ) وفي الرواية الثانية (لا تشتره)، وفي الرواية التالية (ولا تعد في صدقتك)

ب- ولأن الفقير (قابض الزكاة) قد يحابي هذا المشتري، وحينئذ تعود بعض منفعة زكاته إليه.

وهذا هو القول الصحيح.

ص: 323

قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (أنه منع المتصدق من شراء صدقته ولو وجدها تباع في السوق، سداً لذريعة العود فيما خرج عنه لله ولو بعوضه؛ فإن المتصدق إذا منع من تملك صدقته بعوضها فتملكه إياها بغير عوض أشد منعاً وأفطم للنفوس عن تعلقها بما خرجت عنه لله، والصواب ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من المنع من شرائها مطلقاً والعلة كما ذكرها ابن القيم في ذلك "

ولا ريب أن في تجويز ذلك ذريعة إلى التحيل على الفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها، ويرى المسكين أنه قد حصل له شيء - مع حاجته - فتسمح نفسه بالبيع، والله عالم بالأسرار، فمن محاسن هذه الشريعة الكاملة سد الذريعة ومنع المتصدق من شراء صدقته، وبالله التوفيق).

وذهب بعض العلماء: إلى أن النهي للكراهة.

قال النووي: هَذَا نَهْي تَنْزِيه لَا تَحْرِيم فَيُكْرَه لِمَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ أَوْ أَخْرَجَهُ فِي زَكَاة أَوْ كَفَّارَة أَوْ نَذْر وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْقُرُبَات أَنْ يَشْتَرِيه مِمَّنْ دَفَعَهُ هُوَ إِلَيْهِ أَوْ يَهَبهُ، أَوْ يَتَمَلَّكهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْهُ، فَأَمَّا إِذَا وَرِثَهُ مِنْهُ فَلَا كَرَاهَة فِيهِ، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور.

‌فائدة:

سئل ابن عثيمين: ما حكم أن ينوي الإنسان بصدقته أو زكاته نماء ماله فقط؟

لا بأس بذلك.

وقد نبه الله على مثل ذلك في قول نوح عليه السلام لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال). وقال صلى الله عليه وسلم (من أحب أن يُنسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)، ولم يجعل الله عز وجل هذه الفوائد الدنيوية إلا ترغيباً للناس، وإذا كانوا يرغبون فيها فسوف يقصدونها، لكن من قصد الآخرة حصلت له الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، يعني نعطيه الدنيا والآخرة، أما الاقتصار في أداء العبادة على رجاء الفوائد الدنيوية فقط فلا شك أن هذا قصور في النية سببه تعظيم الدنيا ومحبتها في قلب من يفعل ذلك.

(لقاءات الباب المفتوح).

ص: 324

‌كتاب الصيام

‌مقدمة

‌فائدة: 1

تعريفه: لغة الإمساك.

وشرعاً: هو التعبد لله بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

وقال في الفتح: والصوم والصيام في اللغة الإمساك، وفي الشرع إمساك مخصوص، في زمن مخصوص، عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة.

وقال النووي: إمساك مخصوص، في زمن مخصوص، من شخص مخصوص بشرطه.

واختلف في تسمية هذا الشهر رمضان:

فقيل: لأنه ترمض فيه الذنوب، أي تحرق، لأن الرمضاء شدة الحر.

وقيل: لما نقلت أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر شدة الحر.

وقيل: لأن وجوب صومه صادف شدة الحر.

قال ابن حجر: واختلف في تسمية هذا الشهر رمضان فقيل: لأنه ترمض فيه الذنوب، أي تحرق لأن الرمضاء شدة الحر، وقيل وافق ابتداء الصوم فيه زمناً حاراً. (الفتح).

ص: 325

‌فائدة: 2

حكمة مشروعية الصيام:

قال ابن رجب: في التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:

منها: كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشَر والبطر والغفلة.

ومنها: تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب وتُعميه.

ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيراً من الفقراء.

ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان.

وقال الزرقاني: شُرِع الصيام لفوائد:

أعظمها كسر النفس، وقهر الشيطان، فالشبع نهر في النفس يرده الشيطان، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة.

ومنها: أن الغنيّ يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره على ما منع منه كثيراً من الفقراء، من فضول الطعام والشراب والنكاح، فإنه بامتناعه من ذلك وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من مُنع ذلك على الإطلاق، فيوجب ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج، ومواساته بما يمكن من ذلك.

‌فائدة: 3

قال ابن حجر: وذكر بعض الصوفية أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة ثم تاب تأخر قبول توبته مما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوماً فلما صفا جسده منها تيب عليه ففرض على ذريته صيام ثلاثين يوماً وهذا يحتاج إلى ثبوت السند فيه إلى من يقبل قوله في ذلك وهيهات وجدان ذلك.

ص: 326

‌فائدة: 4

فرض في السنة الثانية من الهجرة.

قال ابن القيم: وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات.

‌فائدة: 5

فضائل الصيام:

‌أولاً: الصوم جُنّة من النار.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الصِّيَامُ جُنَّةٌ) متفق عليه.

وعند أحمد (الصيام جُنة يستجن بها العبد من النار).

وفي رواية (الصوم جنّة من النار، كجنة أحدكم من القتال).

ولأحمد (جنة وحصن حصين من النار).

وقال صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفاً) متفق عليه.

• اختلف في معنى (

جنة يستجن بها العبد):

فقيل: جنة ووقاية من النار، ورجحه ابن عبد البر.

وقيل: من الآثام.

وقيل: من الشهوات.

وقيل: من جميع ذلك، وبذلك جزم النووي.

ص: 327

‌ثانياً: الصيام طريق إلى الجنة.

عن أبي أمامة قال (قلت: يا رسول الله، دلني على عمل أدخل به الجنة؟ قال: عليك بالصوم فإنه لا مِثل له) رواه النسائي.

‌ثالثاً: الصوم يشفع لصاحبه.

عن عبد الله بن عمرو. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال: فيشفعان) رواه أحمد.

‌رابعاً: الصيام كفارة للخطايا والذنوب.

عن حذيفة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ) متفق عليه.

‌خامساً: الصيام سبب لدخول الجنة.

عنْ سَهْلٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُون لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ) متفق عليه.

‌سادساً: الصيام من الأعمال التي وعد الله صاحبها بالمغفرة والأجر الكبير.

قال تعالى (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).

ص: 328

‌سابعاً: للصائم فرحتان.

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِه) متفق عليه.

(إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ) قال القرطبيّ: معناه يفرح بزوال جوعه وعطشه حيث أُبيح له الفطر، وهذا الفرح طبيعيّ، وهو السابق للفهم. وقيل: إن فَرَحَه بفطره إنما هو من حيث إنه تمام صومه، وخاتمة عبادته، وتخفيف من ربّه، ومعونة على مستقبل صومه.

(وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِه) بنيل الجزاء، أو الفوز باللقاء. وقيل: هو السرور بقبول صومه، وترتّب الجزاء الوافر عليه، ولا تنافي بين المعاني.

‌ثامناً: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) متفق عليه.

قال ابن عبد البر: يريد أزكى عند الله تعالى وأقرب لديه وأرفع عنده من رائحة المسك.

وعلل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كون خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك بقوله: لأنها من آثار الصيام فكانت طيبة عند الله سبحانه ومحبوبة له، وهذا دليل على عظيم شأن الصيام عند الله.

الصوم فضله عظيم اختص الله به.

عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، .... ) متفق عليه.

ص: 329

اختلف العلماء معنى قوله صلى الله عليه وسلم[قال تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به] مع أن الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي عليها على أقوال:

أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره.

ثانيها: أن المراد بقوله [وأنا أجزي به] أي أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس.

ثالثها: معنى قوله [الصوم لي] أي أنه أحب العبادات إلي والمقدم عندي.

رابعها: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله.

وأقرب الأجوبة التي ذكرتها إلى الصواب الأول والثاني. (فتح الباري).

‌فائدة: 6

فضائل رمضان:

‌أولاً: تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق أبواب النار.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ) متفق عليه.

وهذا يتم في أول ليلة من هذا الشهر المبارك:

لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن

وقيل: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر) رواه الترمذي.

(صفدت) أي شدت بالأصفاد.

‌ثانياً: صيامه سبب لمغفرة الذنوب.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه.

إيماناً: أي تصديقاً بأنه حق.

احتساباً: أي يريد الله وحده لا رؤية الناس.

ص: 330

‌ثالثاً: فيه ليلة القدر. التي هي خير من ألف شهر.

قال تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ).

وقد حسب بعض العلماء ألف شهر فوجدوها تزيد على (83) سنة.

‌رابعاً: شهر القرآن.

قال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان).

والمراد إنزاله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا كما جاء ذلك عن ابن عباس.

قال الإمام ابن كثير: يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء.

‌خامساً: شهر رمضان وصيامه يكفر الذنوب:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مكفِّراتُ ما بينهنَّ إذا اجتَنَبَ الكبائر) رواه مسلم.

‌سادساً: العمرة في رمضان ثوابها مضاعف.

عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عُمرة في رمضان تعدل حَجَّة) رواه البخاري.

قال الإمام المناوي: قوله صلى الله عليه وسلم (عمرة في رمضان تعدل حجة) في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض للإجماع على أن الاعتمار لا يجزى عن حج الفرض.

ص: 331

‌فائدة: 7

اختلف العلماء: هل فُرض على المسلمين صياماً قبل رمضان على قولين:

‌القول الأول: لم يفرض على المسلمين صياماً قط قبل رمضان.

وهذا قول جمهور العلماء.

قال ابن حجر: ذهب الجمهور -وهو المشهور عند الشافعية- إلى أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان.

‌القول الثاني: فُرض على المسلمين قبل رمضان صيام عاشوراء ثم نُسخ هذا الحكم بعد فرض رمضان،

وهذا قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

‌فائدة: 8

قوله صلى الله عليه وسلم (وصفدت الشياطين) قال في "الفتح": قال الحليميّ:

يحتمل: أن يكون المراد من الشياطين مسترقو السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه؛ لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع، فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ.

ويحتمل: أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن والذكر.

وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم، وهم المردة منهم.

وترجم لذلك ابن خزيمة في "صحيحه"، وأورد ما أخرجه هو والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، والحاكم من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفّدت الشياطين، ومردة الجن). وأخرجه النسائيّ من طريق أبي قلابة، عن أبي هريرة، بلفظ (وتُغلّ فيه مردة الشياطين).

ص: 332

وقال القرطبيّ: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرًا، فلو صُفّدت الشياطين لم يقع ذلك.

فالجواب: أنها إنما تقلّ عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه.

أو المصفّد بعض الشياطين، وهم المردة، لا كلّهم، كما تقدّم في بعض الروايات.

أو المقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس، فإن وقوع ذلك فيه أقلّ من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شرّ، ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين؛ كالنفوس الخبيثة، والعادات القبيحة، والشياطين الإنسيّة.

(حكمه صومه فرض).

أي: أن صوم رمضان فرض، وركن من أركان الإسلام الخمسة.

أ-قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

(كتب) أي فرض (كما كتب على الذين من قبلكم) تسلية للمؤمنين وإشعار لهم بأن الله قد فرض هذا الأمر على من قبلهم من الأمم (لعلكم تتقون) فيه بيان الحكمة من مشروعية الصيام وهي تقوى الله.

ب-عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ) متفق عليه.

ج-وعن طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يقال (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» . فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ «

لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ «لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ» . وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ «لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ» قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) متفق عليه.

ص: 333

وأجمع المسلمون على وجوب صيام رمضان. (قاله ابن قدامة).

(من أنكر وجوبه كفر لأنه أنكر أمراً معلوماً بالضرورة من الدين، وأما من تركه تهاوناً وكسلاً فالصحيح أنه لا يكفر وهذا مذهب الجمهور).

‌فائدة: 1

مراحل فرضية صيام رمضان:

صيام رمضان فرض على ثلاث مراحل:

‌أولاً: صيام عاشوراء.

لحديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر) رواه البخار ي.

‌ثانياً: مرحلة التخيير بين الصيام والفدية.

قال تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ).

‌ثالثاً: فرض الصيام على التعيين.

قال تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

(ويُنهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين).

أي: ينهى الإنسان أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين.

لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ إلاَّ رَجُلاً كَانَ يَصُومُ صَوْماً فَلْيَصُمْهُ) متفق عليه.

قال ابن حجر: قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان.

قال الترمذي لما أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان.

ص: 334

‌فائدة: 1

اختلف العلماء: هل النهي في الحديث للتحريم أم للكراهة على قولين:

‌القول الأول: أنه للتحريم.

قالوا لأن الأصل في النهي التحريم.

‌القول الثاني: أنه للكراهة.

قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى [إلا رجل كان له صوم فليصمه].

والأول هو الراجح.

قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لحديث (لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ

): واختلف العلماء رحمهم الله في هذا النهي هل هو نهي تحريم أو نهي كراهة؟ والصحيح أنه نهي تحريم، لاسيما اليوم الذي يشك فيه. (شرح رياض الصالحين)

‌فائدة: 2

اختلف في علة النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين:

فقيل: التقوي بالفطر لرمضان.

وهذا فيه نظر، لأن مقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام أو أربع لجاز. (ابن حجر).

وقيل: خشية اختلاط النفل بالفرض.

وفيه نظر أيضاً، لأنه يجوز لمن له عادة كما في الحديث. (ابن حجر).

وقيل: لأن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم.

قال ابن حجر: وهذا هو المعتمد.

قال ابن رجب: لكراهة التقدم ثلاثة معان:

أحدها: أنه على وجه الاحتياط لرمضان، فيُنهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه.

والمعنى الثاني: الفصْل بين صيام الفرض والنفل.

والمعنى الثالث: أنه أمر بذلك، للتقوي على صيام رمضان، فإن مواصلة الصيام قد تُضعف على صيام الفرض، فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى التقوي على صيام رمضان، وفي هذا التعليل نظر، فإنه لا يكره التقدم بأكثر من ذلك، ولا لمن صام الشهر كله.

ص: 335

‌فائدة: 3

معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إلا رجل كان يصوم.

. .):

معنى الاستثناء: أن من كان له ورد فقد أذن له فيه، لأنه اعتاده وألفه، وترك المألوف شديد، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما.

فيجوز تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين في حالتين:

الأولى: من كان له عادة بصوم يوم معين، كيوم الاثنين أو الخميس، فلا بأس بذلك لزوال المحذور.

والثانية: من يصوم واجباً كصوم نذر أو كفارة أو صيام قضاء رمضان السابق، فكل هذا جائز، لأن ذلك ليس من استقبال رمضان.

‌فائدة: 4

استدل بعض العلماء بحديث (لا تقدموا رمضان.

. .) على ضعف حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا. رواه أبو داود

قال أحمد وابن معين: إنه منكر. (الفتح).

قال ابن حجر: وقد استدل البيهقي بحديث الباب على ضعفه فقال: الرخصة في ذلك فيما هو أصح من حديث العلاء، وكذلك صنع قبله الطحاوي.

وحديث (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا

) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والطحاوي وابن حبان وعبد الرزاق والنسائي.

وهذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه.

قال ابن رجب: اختلف العلماء في صحة هذا الحديث، فصححه غير واحد، منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر.

وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا: هو حديث منكر، منهم عبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة الرازي، والأثرم، وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء حديثاً أنكر منه، وردّه بحديث:(لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين)، فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين.

(لطائف المعارف).

ويدل على ضعفه:

أ-الحديث السابق (لا تقدموا رمضان بصوم يوم .... ).

ب-وحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أكثر شعبان).

‌فائدة: 5

قوله صلى الله عليه وسلم (لا تقدموا رمضان) دليل على أنه يجوز أن يقال رمضان من غير ذكر الشهر بلا كراهة.

ص: 336

‌ومن الأدلة على هذا الجواز:

أ- هذا الحديث (لا تقدموا رمضان .. ).

ب-قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة

).

ج-وقوله صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيماناً واحتساباً

).

د-وقوله صلى الله عليه وسلم (من قام رمضان

).

هـ-وقوله صلى الله عليه وسلم (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذي الحجة) متفق عليه.

و-وقوله صلى الله عليه وسلم (عمرة في رمضان

).

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يقال رمضان على انفراده بحال، وإنما يقال شهر رمضان.

وهذا قول أصحاب مالك.

واستدلوا بحديث (لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا شهر رمضان).

قال النووي: قولهم إنه اسم من أسماء الله ليس بصحيح، ولم يصح فيه شيء، وإن كان قد جاء به أثر ضعيف.

وقال ابن حجر: أخرجه ابن عدي في الكامل وضعفه بأبي معشر.

(ويجبُ صيامُ رمضان على كلِ مسلم).

أي: فلا يجب على الكافر ولا يصح منه. (أي: لا يطالب به حال كفره ولا يصح منه).

والدليل على تخصيصه بالمسلمين:

قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ

)، فالخطاب جاء للمؤمنين، والمراد بالمؤمنين مطلق أهل الإيمان، أي يا معشر المسلمين.

وقال تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) فإذا كانت النفقة لا تقبل مع الكفر مع أن نفعها متعد، فما كان نفعه قاصراً كالصيام من باب أولى ألا يقبل.

ولأن الكافر ليس أهلاً للعبادة.

ص: 337

‌فائدة:

أذا أسلم الكافر في أثناء شهر رمضان فله أحوال:

أ- عليه أن يصوم ما بقي من الشهر، بغير خلاف.

وذلك لأنه صار من أهل الوجوب، فيلزمه الصوم.

قال ابن قدامة: أما صوم ما يستقبله من بقية شهره فلا خلاف فيه.

ب- لا يلزمه قضاء الأيام الماضية من رمضان

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قال ابن قدامة: وأما قضاء ما مضى من الشهر قبل إسلامه فلا يجب.

وبهذا قال الشعبي، وقتادة، ومالك، والأوزاعي، والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.

لأن ما مضى عبادة خرجت في حال كفره فلم يلزمه قضاؤه كالرمضان الماضي. (المغني).

وقال القرطبي: وقد اختلف العلماء في الكافر يسلم في آخر يوم من رمضان، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أو لا؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه؟ فقال الإمام مالك والجمهور: ليس عليه قضاء ما مضى، لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه.

(التفسير).

وقال المرداوي: لو أسلم الكافر الأصلي في أثناء الشهر لم يلزمه قضاء ما سبق منه بلا خلاف عند الأئمة الأربعة. (الإنصاف)

ج- حكم اليوم الذي أسلم فيه هذا الكافر:

فقيل: يلزمه إمساك بقية اليوم، ولا يجب عليه قضاؤه.

ص: 338

وهو مذهب الحنفية، واختاره ابن عثيمين.

أ-لعموم قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

وجه الدلالة: أن الكافر بإسلامه صار من أهل الشهادة للشهر، فوجب عليه الإمساك.

ب-ولحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال (أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم أنْ أذِّن في الناس أنَّ من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم؛ فإن اليوم يوم عاشوراء) أخرجه البخاري ومسلم.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة رضي الله عنهم بالإمساك نهاراً، ولم يأمرهم بالقضاء، وذلك لما أوجب الله عز وجل صوم يوم عاشوراء في أول الأمر.

وقيل: يلزم الإمساك والقضاء.

وهذا مذهب الحنابلة.

قال ابن قدامة: فأما اليوم الذي أسلم فإنه يلزمه إمساكه ويقضيه، هذا المنصوص عن أحمد، وبه قال الماجشون وإسحاق.

(بالغ عاقل).

فالصغير لا يجب عليه الصوم وكذا المجنون.

أ- لحديث علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: .. عن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يصحو). رواه أبو داود

ب- ولأنه ليس أهلاً للتكليف.

[رفع القلم] كناية عن سقوط التكليف

‌فائدة: 1

(علامات البلوغ:

بلوغ السن وهو: 15 سنة، أو إنبات شعر العانة، أو إنزال المني، وتزيد الأنثى الحيض).

ص: 339

‌فائدة: 2

مثل المجنون:

المعتوه والمهذري وكل من ليس له عقل ولا يطعم عنه.

(قادر على الصوم).

أي: بأن يكون قادراً على الصوم، فإن كان عاجزاً بأن يكون مريضاً فلا يجب عليه الصوم.

لقوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).

والعجز ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: عجز طارئ يرجى برؤه: فهذا يفطر ويقضي.

قال تعالى (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر).

القسم الثاني: عجز دائم لا يرجى برؤه: فهذا يفطر ويطعم.

لقول ابن عباس في قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم) رواه البخاري.

(برؤية هلاله، أو أكمال شعبان ثلاثين يوماً).

أي: أن صوم رمضان يجب بأمرين:

الأمر الأول: برؤية الهلال.

لحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً). متفق عليه

‌فائدة:

قوله: (إذا رأيتموه)

سواء كانت الرؤية بالرؤية المجردة أو بالواسطة كالمنظار أو آلة رصد فإنه يعتبر ذلك موجباً لثبوت شهر رمضان.

وأيضاً يستفاد من قوله: إذا رأيتموه: أنه لا عبرة في الحساب ولا يصح الاعتماد عليه وهذا مذهب الأئمة الأربعة.

ص: 340

(أو أكمال شعبان ثلاثين يوماً).

هذا الأمر الثاني الذي يجب به صوم رمضان: وهو إكمال شهر شعبان 30 يوماً.

قال في المغني: لأنه يتيقن به دخول شهر رمضان ولا نعلم فيه خلافاً.

‌فائدة:

صوم يوم الشك

ويوم الشك: هو الذي لا يعلم أيكون من رمضان أو يكون آخر يوم من شعبان.

وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت ليلته صحواً ولم يرى الهلال، لاحتمال أن الشهر قد هلّ ولم ير.

وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.

وقيل: يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر مما يعلم الرؤية، وهذا أصح.

‌وقد اختلف في حكم صومه على قولين:

‌القول الأول: أنه حرام.

ونسبه النووي لجمهور العلماء.

أ- عن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ (مَنْ صَامَ اَلْيَوْمَ اَلَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا اَلْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَهُ اَلْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.

ب - وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) متفق عليه.

وفي رواية: (فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً) وهذه مفسرة رواية (فاقدروا له) أن معنى اقدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً.

ص: 341

قال ابن حجر: ويرجح هذا التأويل الروايات الأخرى المصرحة بالمراد، وهي ما تقدم من قوله:(فأكملوا العدة ثلاثين) ونحوها، وأولى ما فسر الحديث بالحديث.

ج-قال ابن عثيمين: ولأن الصائم في يوم الشك متعدٍّ لحدود الله عز وجل لأن حدود الله ألا يصام رمضان إلا برؤية هلاله، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه).

‌القول الثاني: أنه واجب.

وهذا مذهب الحنابلة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له).

قالوا: ومعنى (اقدروا له) أي ضيقوا، من قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله) والتضييق أن يجعل شعبان (تسـ 29 ـعة وعشرون) يوماً.

والراجح القول الأول.

قال ابن القيم: كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة أو شهادة شاهد واحد، وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو قتر أو سحاب أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صامه، ولم يكن يصوم يوم الغيم ولا أمر به بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً إذا غم، وكان يفعل ذلك، فهذا فعله وهذا أمره.

(وَإِذَا رَآهُ أَهْلُ بَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُم الصَّوْمُ).

أي: فإذا ثبتت رؤيته في مكان لزم الناس كلهم الصوم في مشارق الأرض ومغاربها.

وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أيضاً، وهو ما ذهب إليه كثير من المعاصرين.

أ-لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته

) متفق عليه.

وجه الدلالة: أن الخطاب عام للأمة بمجموعها، فإذا ثبت الهلال بأي بلد وجب الصوم على الجميع.

ب-هذا أولى لاجتماع كلمة المسلمين.

ج-ولحديث (الصومُ يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس).

وذهب بعض العلماء: إلى أن لكل بلد رؤيتهم.

حكاه ابن المنذر عن عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه. (الفتح).

ص: 342

عَنْ كُرَيْبٍ (أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتُهِلَّ عَلَىَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ. فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ فَقَالَ: لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم

وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا اتفقت المطالع لزمهم الصوم، وإلا فلا.

وهذا المشهور عند فقهاء الشافعية واختاره ابن تيمية.

أ- لقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فمفهوم هذه الآية: من لم يشهده فلا صيام عليه.

ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (إذا رأيتموه فصوموا

) وإذا اختلفت المطالع فلا يمكن أن يروه.

ج- ولحديث كريب السابق، فابن عباس لم يعمل برؤية أهل الشام، وكان حاكم المسلمين واحداً ولا ذكر عن أحد من الصحابة مخالف لابن عباس.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الناس تبع للإمام.

وهذا القول هو الذي عليه العمل اليوم.

(وَمَنْ رَأَى وَحْدَهُ هِلَالَ رَمَضَانَ صَام).

أي: من رأى وحده هلال رمضان، كأن يكون في برية، أو رآه في بلد لكن ردّ قوله، فإنه يصوم.

وهذا قول جماهير العلماء.

أ- لقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

وجه الدلالة: أن الله تعالى جعل شهود الشهر سببًا لوجوب الصوم على من رآه، وقد حصل شهود الشهر في حقه، فوجب أن يجب عليه الصوم.

ص: 343

ب-ولحديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) متفق عليه.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علَّق الصوم في هذا الحديث على الرؤية أو إكمال العدد، فوجب أن يثبت الصوم في حق من رآه، سواء أكان واحدًا أم أكثر.

ج- الدليل من المعقول:

أنه يلزمه الصوم برؤية غيره، فأن يلزَمَه برؤيته وهي متيقنة أَولى وأحرى.

أن اليقين الذي حصل له مِن رؤية نفسه أبلغ من الظن الحاصل بالبيِّنة.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يصوم، بل يصوم مع الناس.

وهذا اختيار ابن تيمية.

أ- لحديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون) رواه أبو داود.

(عكسُ الفطرِ).

أي: ومن رأى وحده هلال شوال، فإنه لا يفطر.

وهذا المذهب، وهو قول أبي حنيفة.

لأنه لم يكمل نصاب الشهادة، لأن دخول شوال يكون بشاهدين.

ولاحتمال خطئه وتهمته، فوجب الاحتياط.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يفطر سراً.

ص: 344

وهذا قول الشافعي.

لحديث ابن عمر السابق (

وأفطروا لرؤيته) وهذا قد رآه.

والأول أرجح.

(ويُصامُ برؤيةِ ثقةٍ ولو أنثى).

أي: يقبل شخص واحد يُخبِر برؤية هلال رمضان، سواء كان ذكراً أم أنثى، بشرط أن يكون ثقة.

والمعني: أن يكون موثوقاً بخبره لأمانته وبصره، أما من لا يوثق بخبره لكونه معروفاً بالكذب أو بالتسرع أو كان ضعيف البصر بحيث لا يمكن أن يراه فلا يثبت الشهر بشهادته.

والدليل على أنه يقبل شخص واحد:

أ- حديث اِبْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ (تَرَاءَى اَلنَّاسُ اَلْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ اَلنَّاسَ بِصِيَامِهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

ب- وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنِّي رَأَيْتُ اَلْهِلَالَ، فَقَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ? " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اَللَّهِ? " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَأَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ يَا بِلَالُ أَنْ يَصُومُوا غَداً) رواه أبو داود.

قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم.

قال الخطابي في حديث ابن عمر: فيه بيان أنّ شهادة الواحد العدل في رؤية هلال شهر رمضان مقبولة.

وقال النووي: وهو الأصح، لأنه خبر ديني لا تهمة فيه وأحوط للعبادة.

وقال الشوكاني: والحديثان المذكوران في الباب يدلان على أنها تُقبَل شهادة الواحد في دخول رمضان.

ص: 345

‌فائدة:

قال مالك والليث والأوزاعي: لا بد من اثنين.

لقول عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب حين خطب الناس في اليوم الذي شك فيه (لقد جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين، وإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا).

وبقول عثمان رضي الله عنه: لا يقبل إلا شهادة اثنين.

ولأن هذه شهادة على الهلال فأشبهت شهادة شوال.

قال ابن حزم: قد صح في الدين قبول خبر الواحد، فهو مقبول في كل مكان؛ إلا حيث أمر الله تعالى بأن لا يقبل إلا عدد سماه لنا".

وقال أيضاً في الكلام على حديث عبد الرحمن بن زيد المتقدم: "وليس فيه إلا قبوله اثنين، ونحن لا ننكر هذا، وليس فيه أن لا يقبل

واحد.

وقال ابن القيم: والصحيح قبول شهادة الواحد مطلقاً؛ كما دل عليه حديثا ابن عمر وابن عباس، ولا ريب أن الرؤية كما تختلف بأسباب خارجة عن الرائي؛ فإنها تختلف بأسباب من الرائين؛ كحدة البصر وكلاله، وقد شاهد الناس الجمع العظيم يتراءون الهلال فيراه الآحاد منهم، وأكثرهم لا يرونه، ولا يعد انفراد الواحد بالرؤية من بين الناس كاذباً.

ص: 346

‌فائدة: 2

يشترط في الشاهد شروطاً:

أن يكون مسلماً:

فلا تقبل شهادة الكافر لأمور:

أولاً: لحديث الأعرابي السابق: (أتشهد أن لا إله إلا الله

).

ثانياً: أن الله رد شهادة الفاسق من المسلمين، ومن باب أولى رد شهادة الكافر.

ثالثاً: لأن الغالب فيه الكذب، والمتهم لا تقبل شهادته.

رابعاً: قوله تعالى (ممنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) والكافر ليس بمرضي.

أن يكون بالغاً عاقلاً:

عاقل: فالمجنون لا تقبل.

بالغ: الصبي لا يخلو من حالين:

الأول: أن يكون غير مميز (لا يقبل قوله).

الثاني: أن يكون مميز (وهذا محل خلاف)، والأكثر على أنه لا يقبل قوله، لأنه لا يوثق بخبره، فلا بد من البلوغ.

(ولا يقبل في بقية الشهور إلا عدلان).

وهذا قول أكثر العلماء، أنه لابد من شاهدين.

قال النووي: .... وَأَمَّا الْفِطْر فَلَا يَجُوز بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ عَلَى شَوَّال عِنْد جَمِيع الْعُلَمَاء إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَجَوَّزَهُ بِعَدْلٍ.

لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب - السابق - (

فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا) رواه النسائي.

ص: 347

(وإذا قَامَتْ البَيِّنَةُ في أثْنَاءِ النَّهارِ وَجَبَ الإِمْسَاكُ والقَضَاء).

أي: إذا قامت البينة - إما بالشهادة، وإما بإكمال شعبان ثلاثين يوماً - أثناء النهار، فإنه يجب الإمساك والقضاء.

والمقصود هنا: أن تثبت الرؤية في نهار أول يوم على أنه من رمضان.

فيجب الإمساك والقضاء.

وهذا قول أكثر العلماء.

قال ابن قدامه: إذا أصبح مفطراً يعتقد أنه من شعبان، فقامت البينة بالرؤية، لزمه الإمساك والقضاء في قول عامة الفقهاء.

أولاً: الإمساك.

والدليل على وجوب الإمساك:

أ-قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

ب- ولحديث ابن عمر السابق (إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا).

فعلق وجوب الصيام على الرؤية، وهنا قد رئي الهلال، فوجب الصوم.

ج- وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، رضي الله عنه، قَالَ (أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ) رواه البخاري.

ص: 348

وجه الدلالة من وجهين:

الأول: أنه لما وجب صوم عاشوراء أثناء النهار، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالإمساك عن الطعام في أثناء النهار فأمسكوا، ومثله رمضان لأن حرمته أشد.

الثاني: أن ثبوت رمضان في ذلك اليوم يجعل له حرمة رمضان، فلا يجوز أن ينتهك بالفطر،

ثانياً: القضاء.

يجب عليهم القضاء، وهذا قول جماهير العلماء.

أ- لحديث حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ لَمْ يُجْمِعْ [يعني: لم ينو] الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ) قالوا: وهنا لم يحصل تبييت للنية من الليل، فلم يصح الصيام، والإمساك في ذلك اليوم، إنما وجب؛ احتراماً للزمن.

‌فائدة:

اختار ابن تيمية: وجوب الإمساك دون القضاء.

أ- لحديث سلمة بن الأكوع السابق في صيام عاشوراء، فالذين أكلوا في أول اليوم من عاشوراء لم يثبت أنهم قضوا ذلك اليوم، مع أن صيام عاشوراء كان واجباً في صدر الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالإمساك وسكت عن القضاء، فلو كان واجباً لأمر به.

ب-أن التكليف يتبع العلم، فإذا لم يمكن علمه لم يجب صومه.

ج- لم يقم دليل على وجوب القضاء إذا كان الترك بغير تفريط.

ص: 349

(وَكَذا حَائِضٌ وَنَفْسَاءُ طَهرَتَا وَمُسافِرٌ قَدِمَ مُفْطِراً).

أي: وكذا حائض طهرت في أثناء النهار في رمضان، فإنه يجب عليه القضاء والإمساك.

ومثلها النفساء.

وكذا مسافر قدم إلى بلده مفطراً، فإنه يجب عليه الإمساك والقضاء.

أما القضاء، فهذا لا إشكال فيه عند العلماء.

أما الإمساك:

فقيل: يلزمهم الإمساك.

جاء في الموسوعة الفقهية: وَيَجِبُ عَلَيْهَا الإْمْسَاكُ حِينَئِذٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (الموسوعة).

لأن الرخصة وهي الفِطر قد زالت بزوال سببها وهو العُذر، وبحرمة الزمان.

وبأن مَن لم يتمكن من الإتيان بجميع المأمور: لزمه الإتيان بما يقدر عليه منه.

وقيل: لا يلزمهم الإمساك.

قال ابن قدامة: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَه.

ورجحه الشيخ ابن عثيمين.

لأنه إذا أفطر جاز له أن يستديم الفطر يومه كله كما لو دام العذر.

ولأن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أكل أول النهار فليأكل آخره. البيهقي وابن أبي شيبة.

وقد زالت حرمة الزمان بأكله أول النهار.

وهذا أرجح.

قال النووي: إذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ فِي أَثْنَاءِ نَهَارِ رَمَضَانَ وَهُوَ مُفْطِرٌ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ بَرَأَتْ مِنْ مَرَضٍ وَهِيَ مُفْطِرَةٌ فَلَهُ وَطْؤُهَا وَلا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا بِلا خِلَاف.

(المجموع).

وقال الشيخ ابن عثيمين: الحائض إذا طهرت في أثناء اليوم لا يجب عليها الإمساك، وكذلك المسافر إذا قدم، وهو إحدى الروايتين

عن الإمام أحمد رحمه الله وهو مذهب مالك والشافعي رحمهما الله.

ص: 350

وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (من أكل أول النهار فليأكل آخره)، وروي عن جابر بن يزيد وهو أبو الشعثاء أحد أئمة التابعين الفقيه أنه قدم من سفر فوجد امرأته طاهراً من الحيض في ذلك اليوم فجامعها، ذكر هذين الأثرين في المغني، ولم يتعقبهما.

ولأنه لا فائدة من الإمساك، لأنه لا يصح صيام ذلك اليوم إلا من الفجر.

ولأن هؤلاء يباح لهم الفطر أول النهار ظاهراً وباطناً مع علمهم بأنه رمضان، والله إنما أوجب الإمساك من أول النهار من الفجر، وهؤلاء في ذلك الوقت ليسوا من أهل الوجوب، فلم يكونوا مطالبين بالإمساك المأمور به.

(وإذا اشتبهتْ الأشهرُ على الأسيرِ تحرى وصام، فإن وافق الشهرَ أو ما بعدَه أجزأه، وإن وافقَ ما قبلَه لم يجزهِ).

مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ مَطْمُورًا، أَوْ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي النَّائِيَةِ عَنْ الْأَمْصَارِ لَا يُمْكِنُهُ تَعَرُّفُ الْأَشْهُرِ بِالْخَبَرِ، فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْأَشْهُرُ، فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيَجْتَهِدُ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَنْ أَمَارَةٍ تَقُومُ فِي نَفْسِهِ دُخُولُ شَهْرِ رَمَضَانَ صَامَهُ.

وَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَنْكَشِفَ لَهُ الْحَالُ.

فَإِنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ، وَيُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ بِاجْتِهَادِه، فَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي يَوْمِ الْغَيْمِ بِالِاجْتِهَادِ.

جاء في (الموسوعة الفقهية) فَهَذَا يُجْزِئُهُ صَوْمُهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لأِنَّهُ بَذَل وُسْعَهُ وَلَا يُكَلَّفُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي يَوْمِ الْغَيْمِ بِالاِجْتِهَادِ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ؛ لاِحْتِمَال وُقُوعِهِ قَبْل وَقْتِ رَمَضَانَ.

الثَّانِي: أَنْ يَنْكَشِفَ لَهُ أَنَّهُ وَافَقَ الشَّهْرَ أَوْ مَا بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.

ص: 351

وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ صَامَهُ عَلَى الشَّكِّ فَلَمْ يُجْزِئُهُ، كَمَا لَوْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَبَانَ مِنْ رَمَضَان.

وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ بِالِاجْتِهَادِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا أَصَابَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْحَالَ؛ أَجْزَأَهُ كَالْقِبْلَةِ إذَا اشْتَبَهَتْ، أَوْ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ إذَا اشْتَبَهَ وَقْتُهَا، وَفَارَقَ يَوْمَ الشَّكِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِالصَّوْمِ عِنْدَ أَمَارَةٍ عَيَّنَهَا، فَمَا لَمْ تُوجَدْ لَمْ يَجُزْ الصَّوْمُ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: وَافَقَ قَبْلَ الشَّهْرِ.

فَلَا يُجْزِئُهُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.

وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُجْزِئُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَوَقَفُوا قَبْلَهُ.

وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِالْعِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ.

وَأَمَّا الْحَجُّ فَلَا نُسَلِّمُهُ إلَّا فِيمَا إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، لِعَظَمِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ لِنَفَرٍ مِنْهُمْ لَمْ يُجْزِئْهُمْ.

وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَهِيَ وَجْهَانِ:

لْوَجْهُ الأْوَّل: إِذَا وَافَقَ صَوْمُهُ مَا قَبْل رَمَضَانَ وَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمَّا يَأْتِ رَمَضَانُ لَزِمَهُ صَوْمُهُ إِذَا جَاءَ بِلَا خِلَافٍ، لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا وَافَقَ صَوْمُهُ مَا قَبْل رَمَضَانَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فَفِي إجْزَائِهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْل الأْوَّل: لَا يُجْزِيهِ عَنْ رَمَضَانَ بَل يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُوَافِقَ بَعْضُهُ رَمَضَانَ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ؛ أَجْزَأَهُ وَمَا وَافَقَ قَبْلَهُ؛ لَمْ يُجْزِئْهُ.

ص: 352

(وَمَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَطْعَمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً).

أي: من أفطر في رمضان لكبر في سنه يشق عليه الصيام، أو أفطر لمرض لا يرجى برؤه، فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

أولاً: عن ابن عباس في قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَلْيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. رواه البخاري.

بناء على هذا الوجه فقد فسرت الآية الكريمة على ثلاثة تفسيرات:

أ-على قراءة (يُطوَّقونه) فتح الطاء وتشديد الواو مبنياً للمفعول فخففت الطاء، من طوق بضم أوله على وزن قطع، أي يُكلَّفونه على مشقة فيه وهم لا يطيقونه لصعوبته فعليهم الإطعام.

وبناء على هذا فالشيخ الكبير إذا لحقته مشقة شديدة في الصيام يجوز له الفطر ويجب عليه إخراج الفدية.

ب-أن معنى الآية الكريمة على قراءة رسم المصحف «يطيقونه» أي يقدرون عليه مع تحمل المشقة، وذلك لأن الطاقة هي الإتيان بالشيء مع الشدة والمشقة، بخلاف الوسع فهو القدرة على الشيء على وجه السهولة.

ج-على تقدير حرف «لا» النافية، فيكون المعنى: وعلى الذين لا يطيقونه، فدية، وهذا له نظائر وردت في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِين) أي: لا تفتأ تذكر يوسف.

ص: 353

ثانياً: أن الله تعالى جعل الفدية في هذه الآية الكريمة معادلة للصوم في أول الأمر لماَّ كان الناس مخيرين بين الصوم والفدية، فلما تعذر أحد البدلين ثبت الآخر، أي لما تعذر الصوم ثبتت الفدية، وذلك لأن الله تعالى لما جعل الفدية عديلاً للصوم في مقام التخيير، دل ذلك على أنها تكون بدلاً عنه في حالة تعذر الصوم، وذلك لمَّا يكون المكلف لا يستطيع الصوم كالمسن ومن في حكمه.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا تجب عليه الفدية.

أ-لما ثبت من حديث سلمة بن الأكوع قال: ولما نزلت (

وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ .. ) كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي نزلت بعدها فنسختها).

وجه الدلالة: أن الفدية كانت حكماً خاصاً لمن كان يفطر ولا يصوم، ونسخ، فلا يجب على الشيخ المسن الذي يجوز له الفطر شيء بثبوت نسخ الآية المثبتة للفدية.

ب- أن المسن المفطر معذور فلا تجب عليه الفدية لعجزه عن ذلك كالمسافر والمريض، ولا قضاء عليه لأنه لا يتمكن من القضاء لعجزه المستمر.

والراجح قول الجمهور.

قال ابن قدامة: الشَّيْخُ الْكَبِير وَالْعَجُوز إذَا كَانَ يُجْهِدُهُمَا الصَّوْمُ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فَلَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الإِطْعَامِ أَيْضًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَ (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا) وَالْمَرِيضُ الَّذِي لا يُرْجَى بُرْؤُهُ، يُفْطِرُ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا; لأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّيْخ.

وفي الموسوعة الفقهية: اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُصَارُ إلَى الْفِدْيَةِ فِي الصِّيَامِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ إمْكَانِ قَضَاءِ الأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا لِشَيْخُوخَةٍ لا يَقْدِرُ مَعَهَا عَلَى الصِّيَامِ، أَوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُهُ، لقوله تعالى:(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) وَالْمُرَادُ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِم الصِّيَامُ.

ص: 354

‌فائدة: 1

المريض الذي لا يرجى شفاؤه حكمه حكم الشيخ الكبير.

قال ابن قدامة: وَالْمَرِيضُ الَّذِي لا يُرْجَى بُرْؤُهُ، يُفْطِرُ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا; لأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّيْخِ اهـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين: العاجز عن الصيام عجزاً مستمراً لا يرجى زواله - كالكبير والمريض مرضاً لا يرجى برؤه كصاحب السرطان ونحوه - فلا يجب عليه الصيام لأنه لا يستطيعه وقد قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). وقال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا).

لكن يجب عليه أن يطعم بدل الصيام عن كل يوم مسكيناً. اهـ.

‌فائدة: 2

قال العلامة ابن عثيمين: ووقته - أي الإطعام - بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم لفعل أنس رضي الله عنه وهل يقدم قبل ذلك؟ لا يقدم؛ لأن تقديم الفدية كتقديم الصوم، فهل يجزئ أن تقدم الصوم في شعبان؟ الجواب: لا يجزئ، وهو قياس قولهم في كفارة الظهار؛ لأنهم يرون عدم صحة تقديم كفارة الظهار عليه.

‌فائدة: 3

قال ابن قدامة: فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الإِطْعَامِ أَيْضًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَ (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا).

ص: 355

‌فائدة: 4

إذا أفطر المريض، وكان مرضه مما لا يرجى برؤه، وأطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم عافاه الله، فلا يلزمه القضاء؛ لأنه أدى ما عليه، وبرئت ذمته بذلك. (الإنصاف).

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: إذا برئ شخص من مرض سبق أن قرر الأطباء استحالة شفائه منه، وكان ذلك بعد مضي أيام من رمضان فهل يطالب بقضاء الأيام السابقة؟

فأجاب: " إذا أفطر شخص رمضان أو من رمضان لمرض لا يرجى زواله: إما بحسب العادة، وإما بتقرير الأطباء الموثوق بهم، فإن الواجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينا، فإذا فعل ذلك وقدر الله له الشفاء فيما بعد، فإنه لا يلزمه أن يصوم عما أطعم عنه، لأن ذمته برئت بما أتى به من الإطعام بدلا عن الصوم.

وإذا كانت ذمته قد برئت فلا واجب يلحقه بعد براءة ذمته، ونظير هذا ما ذكره الفقهاء رحمهم الله في الرجل الذي يعجز عن أداء فريضة الحج عجزاً لا يرجى زواله، فيقيم من يحج عنه ثم يبرأ بعد ذلك، فإنه لا تلزمه الفريضة مرة ثانية. (مجموع الفتاوى)

(ويُسَنُّ لِمَرِيضٍ يَضُرُّهُ).

أي: ويسن الفطر للمريض الذي يضره الصوم، لأن الله يحب أن تؤتى رخصه.

هذه الجملة فيها مسائل:

أولاً: جواز الفطر للمريض.

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة، والأصل فيه قوله تعالى:(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

ثانياً: قوله (لمريض يضره) لابد أن يكون المرض شديداً.

ذهب أكثر العلماء ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن المريض لا يجوز له أن يفطر في رمضان إلا إذا كان مرضه شديداً.

ص: 356

والمراد بالمرض الشديد:

أن يزداد المرض بسبب الصوم.

أن يتأخر الشفاء بسبب الصوم.

أن تصيبه مشقة شديدة، وإن لم تحصل له زيادة في المرض ولا تأخر للشفاء.

وألحق به العلماء من يخشى حصول المرض بسبب الصيام.

قال ابن قدامة: وَالْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلْفِطْرِ هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَزِيدُ بِالصَّوْمِ أَوْ يُخْشَى تَبَاطُؤُ بُرْئِهِ. قِيلَ لأَحْمَدَ: مَتَى يُفْطِرُ الْمَرِيضُ؟ قَالَ: إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ. قِيلَ: مِثْلُ الْحُمَّى؟ قَالَ: وَأَيُّ مَرَضٍ أَشَدُّ مِنْ الْحُمَّى

!

وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَخْشَى الْمَرَضَ بِالصِّيَامِ، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ زِيَادَتَهُ فِي إبَاحَةِ الْفِطْرِ; لأَنَّ الْمَرِيضَ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ خَوْفًا مِمَّا يَتَجَدَّدُ

بِصِيَامِهِ، مِنْ زِيَادَةِ الْمَرَضِ وَتَطَاوُلِهِ، فَالْخَوْفُ مِنْ تَجَدُّدِ الْمَرَضِ فِي مَعْنَاهُ) اهـ.

وقال النووي: الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنْ الصَّوْمِ لِمَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ لا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ

وَهَذَا إذَا لَحِقَهُ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ بِالصَّوْمِ وَلا يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى حَالَةٍ لا يُمْكِنُهُ فِيهَا الصَّوْمُ، بَلْ قَالَ أَصْحَابُنَا: شَرْطُ إبَاحَةِ الْفِطْرِ أَنْ يَلْحَقَهُ بِالصَّوْمِ مَشَقَّةٌ يُشَقُّ احْتِمَالُهَا. (المجموع)

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز الفطر لكل مريض وإن لم تحصل له مشقة بسب الصوم.

وهو قول شاذ ردَّه جمهور العلماء.

قال النووي: وَأَمَّا الْمَرَضُ الْيَسِيرُ الَّذِي لا يَلْحَقُ بِهِ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ بِلا خِلَافٍ عِنْدَنا. (المجموع).

ص: 357

وقال الشيخ ابن عثيمين: المريض الذي لا يتأثّر بالصوم، مثل الزكام اليسير، أو الصداع اليسير، ووجع الضرس، وما أشبه ذلك، فهذا لا يحلّ له أن يُفطر، وإن كان بعض العلماء يقول: يحلّ له للآية (ومن كان مريضاً) البقرة/ 185، ولكننا نقول: إن هذا الحكم معلّل بعلّة وهي أن يكون الفطر أرفق به، أما إذا كان لا يتأثّر فإنّه لا يجوز له الفطر، ويجب عليه الصوم.

ثالثاً: قوله (يسن

).

والراجح: أنه إذا كان يضره الصيام فإنه يحرم صومه.

لقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

ولقوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

فإن كان صيامه مع المرض يؤدي إلى التلف أو غلب على ظنه أنه لو صام أن يتلف أو يحصل له فوات عضو، فإنه في هذه الحالة يحرم صومه.

وأما إذا كان يشق عليه الصوم، فهنا يكره صومه (يستحب فطره).

لأن ذلك يتضمن إكراهاً بنفسه.

ولأنه ترك تخفيف وقبول رخصة الله، ففي الحديث (إن الله يحب أن تؤتى رخصه).

(ولمُسافرٍ يقصر)

أي: ويسن الفطر في رمضان لمسافر يشق عليه الصوم.

وهذه الجملة فيها مسائل:

أولاً: جواز الفطر في رمضان للمسافر.

وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

وعن جَابِر بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ اَلْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ اَلنَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ اَلنَّاسِ قَدْ صَامَ. قَالَ: أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ، أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ) متفق عليه.

ص: 358

وعن أنس قال: (كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) متفق عليه.

وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ (يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى اَلصِّيَامِ فِي اَلسَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ? فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم " هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اَللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) رَوَاهُ مُسْلِم.

ثانياً: فإن صام المسافر فإنه جائز.

قال ابن قدامة: وهذا قول أكثر العلماء.

وقال النووي: وهو قول جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى.

أ-عن أَنَس قَالَ (كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبِ الصِّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِم) متفق عليه.

ب- وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ) متفق عليه.

ج - ولحديث عائشة قالت (سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر، فقال: إن شئتَ فصُم، وإن شئت فأفطر) متفق عليه.

ثالثاً: قوله (ولمُسافرٍ يقصر). هذا حكم الصوم في السفر.

فالمذهب أن الفطر للمسافر أفضل.

ص: 359

قال ابن قدامة: وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ إمَامِنَا رحمه الله، الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. (المغني).

أ-عملاً بالرخصة، ففي الحديث (إن الله يحب أن تؤتى رخصه). رواه ابن خزيمة.

ب-ولحديث جَابِر قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ. فَرَأَى زِحَاماً وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ. قَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) متفق عليه.

ج- وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى اَلصِّيَامِ فِي اَلسَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ? فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اَللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وذهب بعض العلماء: إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه.

ونسبه ابن حجر لجمهور العلماء.

قال ابن قدامة: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ.

أ- لحديث أبي الدرداء السابق (

وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ).

ب-لأنه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

ج-أسرع في إبراء الذمة.

د-أسهل على المكلف.

هـ-يدرك الزمن الفاضل وهو رمضان.

وهذا الراجح.

تنبيه: ذهب بعض العلماء: إلى أنه مخير مطلقاً إن شاء صام وإن شاء أفطر، وهو اختيار البخاري رحمه الله، لحديث "فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".

ص: 360

‌فائدة:

لكن إن كان هناك مشقة: فالأفضل الفطر. (يكره الصوم).

لحديث جَابِر - وقد تقدم - قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ. فَرَأَى زِحَاماً وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ. قَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) متفق عليه.

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: (عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ).

فهذا الحديث خرج على سبب، فيقتصر عليه، وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاري حيث ترجم [باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصوم في السفر].

قال ابن دقيق العيد: أخذ من هذا: أنه كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من القربات ويكون قوله (ليس من البر الصيام في السفر) منزلاً على مثل هذه الحالة.

(وَإِنْ نَوَى حَاضِرٌ صِيَامَ يَوْمٍ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَهُ الفِطْرُ).

أي: أن الإنسان إذا صام في بلده، ثم سافر أثناء هذا اليوم، فإن له الفطر.

وهذا المذهب.

وهذا قول أحمد وإسحاق.

أ- لقول الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ومن سافر أثناء النهار فهو "على سفر" فله أن يفطر ويترخص برخص السفر.

ب- لحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ اَلْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ اَلنَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ اَلنَّاسِ قَدْ صَامَ. قَالَ: أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ، أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ).

وَفِي لَفْظٍ: (فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ اَلصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ اَلْعَصْرِ، فَشَرِبَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ج- وعن ابن عباس (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكَديد أفطر، فأفطر الناس) متفق عليه.

ص: 361

وجه الاستدلال من الحديثين السابقين: أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في اليوم الذي سافر فيه.

قال القرطبي في تفسيره: وهذا نص في الباب، فسقط ما خالفه.

واستدلَّ الشوكاني على ذلك بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

د- وعنْ عُبَيْدٍ بْنَ جَبْرٍ قَالَ: رَكِبْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ، فَدَفَعَ ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ (وفي رواية لأحمد: فَلَمَّا دَفَعْنَا مِنْ مَرْسَانَا أَمَرَ بِسُفْرَتِهِ فَقُرِّبَتْ) ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ. فَقُلْتُ: أَلَسْنَا نَرَى الْبُيُوتَ! فَقَالَ أَبُو بَصْرَةَ: أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟!

وَقَوْل الصَّحَابِيّ مِنْ السُّنَّة يَنْصَرِف إِلَى سُنَّة رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم. اهـ من عون المعبود.

قال ابن القيم: وَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ جَوَّزَ لِلْمُسَافِرِ الْفِطْر فِي يَوْمٍ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ. وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الإِمَام أَحْمَد، وَقَوْل عَمْرو بْن شُرَحْبِيل وَالشَّعْبِيّ وَإِسْحَاق. وَحَكَاهُ عَنْ أَنَس، وَهُوَ قَوْل دَاوُدَ وَابْن الْمُنْذِر" اهـ.

هـ- بالقياس: أنّ من أصبح صائمًا ثم مرض فإنه يباح له الفطر، فكذلك السفر.

قال الخطابي: وشبَّهوه بمن أصبح صائمًا ثم مرض في يوم فله أن يفطر من أجل المرض، قالوا: وكذلك من أصبح صائمًا ثم سافر، لأنّ كلَّ واحد من الأمرين سبب للرخصة حدث بعد مُضِيِّ شيء من النهار.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يفطر ذلك اليوم.

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي.

قالوا: لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة.

والراجح المذهب.

ص: 362

‌تنبيه:

لكنه لا يفطر حتى يفارق العمران، وهو مذهب أحمد.

لقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

قالوا: وهذا شاهد، ولا يوصف بكونه مسافراً حتى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة.

‌فائدة: 1

حكم من نوى الصوم وهو مسافر، ثم أراد أن يفطر، فهل يجوز له ذلك؟

نعم يجوز له ذلك.

قال ابن قدامة: وَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، فَلَهُ ذَلِكَ.

أ- لحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ب- و عن جَابِر (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مَا فَعَلْت، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ، وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) رواه مسلم.

وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَعْرُجُ عَلَى مَنْ خَالَفَه. (المغني).

‌فائدة: 2

إذا قدم المسافر في أثناء النهار وهو صائم، فهل له أن يفطر باعتبار كونه مسافراً في أول النهار؟

مذهب جمهور العلماء رحمهم الله: أنه لا يجوز له الفطر، وعللوا ذلك بأن سبب الرخصة قد زال قبل الترخص بالفطر في حالة السفر، فلم يجز له الترخص بعد زوالها كما لو قدم المسافر وقت الصلاة فإنه لا يجوز له القصر.

ص: 363

‌فائدة: 3

هل للمترخص بالفطر في رمضان بسبب السفر أن يصوم غيره من النفل أو النذر أو القضاء؟

ذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى عدم جواز الصيام في رمضان عن غيره، فإن نوى صيام غير رمضان لم يصح ذلك.

ووجه قولهم: أن الفطر أبيح رخصة وتخفيفاً عنه، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه، لزمه أن يأتي بالأصل.

(وَإِنْ أَفْطَرَتْ حَامِلٌ، أَوْ مُرْضَعٌ خَوْفاً عَلَى أَنْفُسِهِمَا قَضَتَاه فَقَطْ، وَعَلَى وَلَدَيْهِمَا قَضَتَاه وَأَطْعَمَتَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً).

‌إفطار الحامل والمرضع له أحوال:

‌أولاً: إن خافتا على أنفسهما فقط.

فحكمهما حكم المريض يفطران ويقضيان فقط.

قال ابن قدامة: إن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما إذا صامتا فلهما الفطر وعليهما القضاء، لا نعلم فيه خلافاً لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه.

‌ثانياً: إن خافتا على أنفسهما وولديهما جميعاً.

فعليهما القضاء فقط (نفس الحالة السابقة).

‌ثالثاً: إن خافتا على ولديهما فقط:

ففي هذه الحالة اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

فقيل: عليهما القضاء والكفارة.

وهذا المشهور من المذهب.

ص: 364

لما رواه أبو داود بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) قال فيها: (نسخت هذه الآية وبقيت للشيخ الكبير والعجوز والحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً).

وقيل: عليهما القضاء فقط من غير الكفارة.

وهذا مذهب الأحناف.

وهو قول عطاء بن أبي رباح، والحسن، والضحاك، والنخعي، والزهري، وربيعة، والأوزاعي، والثوري، وأبو عبيد.

واختاره ابن المنذر.

ورجحه الشيخ ابن باز، وابن عثيمين.

لحديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله تبارك وتعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصيام)

رواه الترمذي.

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم حكم الحامل والمرضع كالمسافر، والمسافر يفطر ويقضي فكذلك الحامل والمرضع.

ب-القياس على المريض، فكما أن المريض يفطر ويقضي فكذلك الحامل والمرضع.

ص: 365

تنبيه: قول بعض العلماء: إن عليهما الفدية فقط قول ضعيف.

(ومنْ أُغميَ عليهِ أو جُنَّ جميع النهار لم يصحَّ صومه، ويقضي المغمَى عليه).

هذا حكم من أغمي عليه أو جن في رمضان:

المذهب: أن من أصيب بإغماء في رمضان لا يخلو من حالين:

أ- أن يستوعب الإغماء جميع النهار - وكذا الجنون - بمعنى أنه يغمى عليه قبل الفجر ولا يفيق إلا بعد غروب الشمس.

فهذا لا يصح صومه، وعلى المغمى عليه قضاء هذا اليوم بعد رمضان.

والدليل على عدم صحة صومه:

قال ابن قدامة: أنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ مَعَ النِّيَّة، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي).

فَأَضَافَ تَرْكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ، فَلَا يُضَافُ الْإِمْسَاكُ إلَيْهِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ.

وَلِأَنَّ النِّيَّةَ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ، فَلَا تُجْزِئُ وَحْدَهَا، كَالْإِمْسَاكِ وَحْدَهُ

ويقضي المغمى عليه فقط.

لقول الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

وأما المجنون فلا يقضي، لأنه ليس مكلفاً.

ب - أن يفيق جزءً من النهار - ولو لحظة - فهذا يصح صيامه، سواء أفاق من أول النهار أو آخره أو وسطه.

قال ابن تيمية: وإنما اشترطنا أن يفيق في جزء من النهار؛ لأن الصوم لا بد فيه من الإِمساك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه في صفة الصائم (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) والإِمساك لا يكون إلا مع حضور العقل، ولم يشترط وجود الإِمساك في جميع النهار، بل اكتفينا بوجوده في بعضه؛ لأنه دخل في عموم قوله يدع طعامه وشهوته من أجلي).

ص: 366

‌فائدة:

إن نام جميع النهار، فإنه يصح صومه.

قال في الروض المربع: لأن النوم عادة، ولا يزول به الإحساس بالكلية.

وقال ابن مفلح: وإن نام جميع النهار صح صومه خلافاً للاصطخري الشافعي، لأنه إجماع قبله، ولأنه معتاد، إذا نُبّه انتبه.

(وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لِصَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ وَاجِبٍ).

أي: يجب تبييت النية من الليل لصيام الفرض، كرمضان، وقضاء رمضان، والنذر.

أ- لحديث حَفْصَةَ عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ اَلصِّيَامَ قَبْلَ اَلْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَمَالَ النَّسَائِيُّ وَاَلتِّرْمِذِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ، وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا اِبْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.

وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ: (لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اَللَّيْلِ)، اختلف في هذا الحديث بين الرفع والوقف.

وجاء موقوفاً عن ابن عمر كما عند مالك في الموطأ، ولا يعلم لحفصة ولا لابن عمر مخالف من الصحابة.

ب- ولحديث (إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه.

قالوا: والصيام عمل فلا صحة له إلا بالنية، لأن صحة العبادات مربوط بالنية.

فمن نوى صوم الفرض من بعد صلاة الصبح فلا يصح، وتصح النية في أي جزء من أجزاء الليل.

ص: 367

‌فائدة:

قوله (لِصَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ وَاجِبٍ) اختلف العلماء هل يلزم لكل يوم نية أو يكفي نية واحدة من أول يوم من رمضان على قولين:

القول الأول: يجزئ صوم رمضان نية واحدة من أول الشهر ما لم يقطعه بعذر فيستأنف النية.

وهذا مذهب المالكية.

لأنه من المعلوم عند جميع المسلمين أنه إذا دخل رمضان لا يمكن أن يتخلله يوم بدون صيام.

القول الثاني: يجب أن ينوي كل يوم بيومه من ليلته.

وهذا هو المشهور من المذهب، وهو مذهب الجمهور.

أ- قالوا: لأن كل يوم عبادة مستقلة.

قال ابن قدامة: ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض، ويتخللها ما ينافيها، فأشبهت القضاء.

ب- ولأنه صوم واجب، فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته، كالقضاء. (المغني).

والراجح القول الأول.

ويظهر أثر الخلاف: لو نام مكلف قبل الغروب، ولم يفق إلا من الغد بعد الفجر، فعلى المذهب لا يصح صومه، وعلى القول الراجح يصح صومه.

(ويصح النَّفْلُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ)

أي: أن صوم النفل (كصيام الاثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر) يجوز أن ينويه من النهار، سواء نوى قبل الزوال أو بعده.

لحديث عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَ عَلَيَّ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ. فَقَالَ: " هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ? " قُلْنَا: لَا. قَالَ: " فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ ...... ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فهذا الحديث دليل على أن صوم النافلة يجوز من النهار.

ص: 368

لقوله (قَالَ: فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ).

قال النووي: الحديث دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل الزوال.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يصح صوم التطوع بنية من النهار.

قال النووي: ويتأوله الآخرون على أن سؤاله صلى الله عليه وسلم: هل عندكم شيء؟ لكونه ضعف عن الصوم وكان نواه من الليل، فأراد الفطر للضعف، وهذا تأويل فاسد وتكلف بعيد.

‌فائدة: 1

يشترط لذلك: أن لا يكون قد أكل شيئاً من بعد الفجر.

‌فائدة: 2

قوله (قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ)

أي: يجوز أن تكون النية قبل الزوال أو بعده.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يشترط أن تكون النية قبل الزوال؟

وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي.

قالوا: لأن معظم النهار مضى من غير نية، بخلاف الناوي قبل الزوال، فإنه قد أدرك معظم العبادة.

والراجح أنه يجوز قبل الزوال وبعده.

وهذا مذهب الحنابلة.

أ- لحديث عائشة السابق (فإني إذاً صائم).

وجه الاستدلال: أنّ حديث عائشة رضي الله عنها مطلق من غير فصل بين ما قبل الزوال وبعده، فدلَّ على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد صام بنية من النهار، ولا فرق بين أوَّله وآخره.

ب- قالوا: إنّه قول معاذ وابن مسعود وحذيفة، ولم ينقل عن أحد من الصّحابة رضي الله عنهم ما يخالفه صريحاً.

قال ابن تيمية: واختلف قولهما -أي الشافعي وأحمد- هل يجزئ التطوُّع بنية بعد الزوال؟ والأظهر صحته، كما نقل عن الصحابة.

ج- ولأنّ النّيّة وجدت في جزء النّهار، فأشبه وجودها قبل الزّوال بلحظة.

د- قال الزركشي: لأنّ ما صحَّت النية في أوله صحَّت في آخره، كالليل.

ص: 369

‌فائدة: 3

اختلف العلماء: إن نوى الصوم أثناء النهار،

هل يكتب له أجر الصوم يوماً كاملاً أو يكتب له من نيته على قولين:

القول الأول: أنه يكتب له أجر اليوم الكامل.

قالوا: لأن الصوم الشرعي لا بد أن يكون من أول النهار.

القول الثاني: لا يثاب إلا من وقت النية فقط.

فإذا نوى عند الزوال فأجره على هذا القول نصف يوم.

لحديث (إنما الأعمال بالنيات) وهذا أول النهار لم ينو الصوم فلا يكتب له الأجر كاملاً.

واختار هذا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وقال:

إذا نوى الصيام أثناء النهار وهو نفل ولم يأت قبله بما ينافي الصوم من أكل أو شرب أو غيرهما فصومه صحيح، سواء كان قبل الزوال أم بعد الزوال، ولكن هل يثاب من أول النهار، أو يثاب من النية؟ الصحيح: أنه يثاب من النية فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) والفائدة: أنه يكتب له أجر الصيام منذ نوى إلى غروب الشمس. (لقاء الباب المفتوح)

والله أعلم بالراجح.

‌فائدة:

هل يجب تبييت النية من الليل في صيام النفل المقيد (المعين)، كصيام ست شوال، أو عاشوراء؟

قيل: لا بد من ذلك.

وقيل: لا يشترط ذلك.

ص: 370

(وَلَوْ نَوَى إِن كَانَ غَدَاً مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي لَمْ يجْزِهِ).

أي: وإن نوى إن كان غداً من رمضان فأنا صائم لم يصح.

مثال ذلك: رجل نام في الليل مبكراً ليلة الثلاثين من شعبان، وفيه احتمال أن تكون هذه الليلة هي أول رمضان، فقال: إن كان غداً من رمضان فهو فرضي، أو قال: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، أو قال: إن كان غداً من رمضان فهو فرض، وإلا فهو عن كفارة واجبة، أو ما أشبه ذلك من أنواع التعليق. (الشرح الممتع).

فالمذهب أن الصوم لا يصح.

وهو مذهب أيضاً: المالكية والشافعية.

أ- لحديث حفصة السابق (مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ اَلصِّيَامَ قَبْلَ اَلْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ).

قالوا: إن الحديث صريح في تبييت النية من الليل، فيكون نصاً في المسألة.

ب- ولأن هذا تردد في النية، والنية لا بد فيها من الجزم.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يصح.

وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره الشيخ ابن عثيمين.

لأن هذا الرجل علق النية لأنه لا يعلم هل غداً من رمضان أم لا؟ فتردده مبني على التردد في ثبوت الشهر، لا على التردد هل يصوم أم لا؟

وهذا القول هو الصحيح.

قال ابن تيمية: وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاء الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلِمَ وُجُوبَهُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ وَمَنْ أَوْجَبَ التَّعْيِينَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ أَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. فَإِذَا قِيلَ إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَصَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَجْزَأَهُ.

ص: 371

‌فائدة:

وهذه المسألة تحدث في رجل نام مبكراً ليلة الثلاثين من شعبان، وفيه احتمال أن تكون هذه الليلة من رمضان.

(وَمَنْ نَوَى الإْفْطَارَ أَفْطَرَ).

أي: من نوى وهو صائم أن يفطر جازماً غير متردد فإنه صومه بطل.

وهذا مذهب المالكية والحنابلة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).

والصوم عبادة من شرطها النية، ففسدت بنيته الخروج منه.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يفطر بمجرد العزم على الفطر بل لا بد من تناول مفطر.

وهذا مذهب الحنفية والشافعية، لكنه قول ضعيف.

‌فائدة:

إن تردد في النية ولم يجزم.

فقيل: يبطل صومه.

وقيل: لا يبطل.

وهذا مذهب الحنفية والشافعية.

قال النووي: وَلَوْ تَرَدَّدَ الصَّائِمُ فِي قَطْعِ نِيَّةِ الصَّوْمِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ. . . الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تَبْطُل. (المجموع)

وبهذا أفتى الشيخ ابن عثيمين والشيخ ابن جبرين رحمهما الله تعالى.

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " وأما إذا لم يعزم ولكن تردد فموضع خلاف بين العلماء:

منهم من قال: إن صومه يبطل؛ لأن التردد ينافي العزم.

ومنهم من قال: إنه لا يبطل؛ لأن الأصل بقاء النية حتى يعزم على قطعها وإزالتها، وهذا هو الراجح عندي لقوته.

وسئل رحمه الله: رجل مسافر وصائم في رمضان، نوى الفطر ثم لم يجد ما يفطر به، ثم عدل عن نيته وأكمل الصوم إلى المغرب فما صحة صومه؟

فأجاب: صومه غير صحيح، ويجب عليه القضاء؛ لأنه عندما نوى الفطر أفطر، أما لو قال: إن وجدت ماءً شربت وإلا فأنا على صومي، ولم يجد الماء، فهذا صومه صحيح؛ لأنه لم يقطع النية ولكنه علّق الفطر على وجود الشيء، ولم يوجد الشيء فبقي على نيته الأولى.

ص: 372

فصل

‌باب ما يفسد الصوم

(مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ).

هذا المفسد الأول للصوم.

قال ابن قدامة: وهذا لا خلاف أن من تعمده يفطر ويجب عليه الإمساك والقضاء.

أ- لقوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل).

فأباح الله تعالى الأكل والشرب إلى طلوع الفجر، ثم أمر بإتمام الصيام إلى الليل، وهذا معناه ترك الأكل والشرب في هذا الوقت.

ب- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا). رواه البخاري

ج- وعنه. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اَللَّهُ وَسَقَاهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه

وأجمع العلماء على أن الفطر بالأكل والشرب.

ص: 373

‌فائدة: 1

قوله (من أكل) يشمل ما ينفع وما لا ينفع،

ويشمل ما يضر، فلو ابتلع خرزة فإنها تفطر.

‌فالأكل عمداً أثناء الصيام ينقسم إلى قسمين:

‌القسم الأول: أن يكون مغذياً:

فالأكل الذي يتغذى وينتفع به البدن ويتلذذ به، وهو الأكل المعروف ويحصل معه الذوق والمضغ والبلع.

فهذا يفسد الصوم باتفاق الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

للآية والأحاديث السابقة.

ونقل الإجماع على ذلك كما تقدم.

‌القسم الثاني: أن لا يكون مغذياً:

وهو ما لا ينتفع به البدن، ويسمى أكلاً لدخوله الجوف عن طريق ابتلاعه من الفم وإن لم يحصل به مضغ وذوق.

وذلك كالحصاة، والدراهم، وقطع الحديد، والحصاة ونحو ذلك من المواد الصلبة التي لا تنماع في الجسد ولا تغذي.

فهذا يفسد الصوم أيضاً عند جماهير العلماء.

قال النووي: إذا ابتلع الصائم ما لا يؤكل في العادة كدرهم ودينار أو تراب أو حصاة أو حشيشاً أو ناراً أو حديداً أو خيطاً أو غير ذلك أفطر بلا خلاف عندنا، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف. (المجموع).

أ-أنه في حكم الأكل، فإنه يقال: أكل حصاة، فيكون حكمه حكم الأكل.

ب- قول ابن عباس رضي الله عنهما: الفطر مما دخل وليس مما خرج.

ص: 374

‌فائدة: 2

ما كان بمعنى الأكل والشرب فإنه يفطر: كالإبر المغذية.

‌فائدة: 3

يلزم من أفطر متعمداً بتناول الطعام أو الشراب:

‌أ- القضاء.

وعلى هذا عامة أهل العلم، أما الكفارة فلا تجب عليه في أرجح قولي أهل العلم، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، ورجحه ابن المنذر، والنووي.

‌ب- والإمساك بقية يومه.

وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم.

وذلك لأنه أفطر بدون عذر فلزمه إمساك بقية النهار، وفطرُهُ عمداً لم يُسقِط عنه ما وجب عليه من إتمام الإمساك.

قال النووي: ذكرنا أن مذهبنا أن عليه قضاء يوم بدله وإمساك بقية النهار، وإذا قضى يوما كفاه عن الصوم وبرئت ذمته منه، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور العلماء، قال العبدري: هو قول الفقهاء كافة إلا من سنذكره ـ إن شاء الله تعالى. انتهى.

قال النووي: إذا أفطر الصائم في نهار رمضان بغير الجماع من غير عذرٍ عامداً مختاراً عالماً بالتحريم، بأن أكل أو شرب أو استعط

أثم ووجب عليه القضاء وإمساك بقية النهار). (المجموع).

وقال ابن القيم: الصائم إذا أفطر عمداً لم يسقط عنه فطره ما وجب عليه من إتمام الإمساك ولا يقال له قد بطل صومك فإن شئت أن تأكل فكل، بل يجب عليه المضي فيه وقضاؤه؛ لأن الصائم له حدٌّ محدود وهو غروب الشمس.

ص: 375

‌فائدة: 4

من أكل أو شرب ناسياً فصومه صحيح،

وهو قول جماهير العلماء كما سيأتي إن شاء الله.

(أوْ اسْتَعَطَ).

أي تناول السعوط، والسعوط ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف فإنه مفطر.

لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة.

لحديث لقيط بن صبرة قال (قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء! قال: أسبغ الوضوء، وبالغ في الاستنشاق إلاَّ أن تكون صائماً).

قالوا: فهذا دليل على أن الأنف منفذ إلى المعدة، وإذا كان كذلك فاستخدام هذه القطرة نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاَ نهْي النبي صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في الاستنشاق يتضمن النهي عن إدخال أي شيء عن طريق الأنف ولو كان يسيراً لأن الداخل عن طريق المبالغة شيء يسير.

قال الشيخ ابن عثيمين: أما قطرة الأنف فإذا وصلت إلى المعدة فإنها تفطر، أما ما لا يصل إلى ذلك من قطرة الأنف، فإنها لا تفطر.

(أوْ احْتَقَنَ).

الاحتقان: إدخال الأدوية عن طريق الدبر.

فالحقنة تفطر، وإليه ذهب الجمهور.

أ- لأن دواء الحقنة (وَاصِلٌ إلَى جَوْفِ الصَّائِمِ بِاخْتِيَارِهِ، فَيُفْطِرهُ، كَالْوَاصِلِ إلَى الْحَلْق. (المغني).

ص: 376

وذهب بعض العلماء: إلى عدم الفطر بالحقنة.

أ- لأنها ليست بأكل ولا شرب، ولا بمعناهما.

ب- أن الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن.

ج- ولأن الصيام أحد أركان الإسلام، ويحتاج إلى معرفته المسلمون، فلو كانت هذه الأمور من المفطرات لذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، ونقل إلينا.

د- كما أن الأصل صحة الصيام حتى يقوم دليل على فساده.

وهذا الراجح.

تنبيه: ولو أخر الحقن إلى الليل لكان أفضل؛ خروجاً من الخلاف، فقد ذهب الجمهور إلى أنه يفطر بذلك.

(أوْ اكْتَحَلَ بِمَا يَصِلُ إِلَى حَلْقِهِ)

أي: ومن المفطرات: إذا اكتحل بما يصل إلى حلقه يعني: بما يستطعم حلقه.

وقد وردت أحاديث تجيز الاكتحال للصائم، وأحاديث تمنع ذلك وكلها لا تصح.

الأحاديث التي تثبت ذلك:

أ-حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اِكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

قَالَ اَلتِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ.

ب-حديث ابن عمر (أنه صلى الله عليه وسلم خرج عليهم في رمضان وعيناه مملوءتان من الإثمد). رواه الترمذي.

ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء.

ص: 377

‌والأحاديث التي تمنع الكحل:

حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد عند النوم وقال: ليتقه الصائم). رواه أبو داود

قال أحمد: حديث منكر.

وقال ابن القيم: لا يصح.

فذهب بعض العلماء: إلى أن الكحل يفسد الصوم.

لحديث (ليتقه الصائم).

ونسبه الشوكاني لابن شبرمة وابن أبي ليلى.

قال ابن قدامة: فَأَمَّا الْكُحْلُ، فَمَا وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، أَوْ عَلِمَ وُصُولَهُ إلَيْهِ، فَطَّرَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُفَطِّرْهُ.

نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، أَنَّ الْكُحْلَ يُفَطِّرُ الصَّائِمَ.

لأَنَّهُ أَوْصَلَ إلَى حَلْقِهِ مَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِفِيهِ فَأَفْطَرَ بِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَلَهُ مِنْ أَنْفِهِ.

وَمَا رَوَوْهُ (أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل) لَمْ يَصِحَّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَابِ الْكُحْلِ لِلصَّائِمِ شَيْءٌ.

ثُمَّ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ اكْتَحَلَ بِمَا لَا يَصِلُ.

وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَتْ الْعَيْنُ مَنْفَذًا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ يُوجَدُ طَعْمُهُ فِي الْحَلْقِ، وَيَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ فَيَتَنَخَّعَه. (المغني).

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يفطر.

ص: 378

وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، واختيار ابن تيمية.

أ-أن أحاديث المنع ضعيفة لا تنهض للاحتجاج بها.

ب-البراءة الأصلية، ولا تنتقل عنها إلا بدليل، وليس في الباب ما يصلح للنقل [قاله الشوكاني].

ج-أن العين ليست منفذاً للأكل كالأنف.

د- أن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كان الكحل مفطراً لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكره لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة، وقد تقرر أن الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، والكحل منها.

وهذا القول هو الراجح، وهو قول عامة التابعين، فقد روى أبو داود في سننه عن الأعمش. وهو أحد أئمة التابعين. أنه قال (ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصائم).

‌فائدة: 1

الكحل إذا لم يصل إلى الحلق فلا يفطر.

‌فائدة: 2

قطرة العين لا تفطر.

وقد ذهب إلى ذلك الحنفية، والشافعية، وهو اختيار ابن عثيمين، وابن باز.

أ- أن جوف العين لا يتسع لأكثر من قطرة واحدة، والقطرة الواحدة حجمها قليل جداً، وإذا ثبت ذلك فإنه يعفى عنه، فهو أقل من القدر المعفو عنه مما يبقى من المضمضة.

ب - ولأن هذه القطرة تُمْتَصُّ جميعها أثناء مرورها في القناة الدمعية ولا تصل إلى البلعوم.

ج- ولأنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا بمعنى الأكل والشرب.

د- ولأن الأذن ليست منفذاً للطعام والشراب.

ص: 379

قال ابن باز: وهكذا قطرة العين والأذن لا يفطر بهما الصائم في أصح قولي العلماء، فإن وجد طعم القطور في حلقه، فالقضاء أحوط ولا يجب؛ لأنهما ليسا منفذين للطعام والشراب، أما القطرة في الأنف فلا تجوز؛ لأن الأنف منفذ.

(أوِ اسْتَقَاءَ).

ومن المفطرات: اذا استدعى القي فقاء.

لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ ذَرَعَهُ اَلْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ اَلْقَضَاء) رواه أبو داود.

قوله (وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ اَلْقَضَاء) أي: استدعى القيء وطلب خروجه تعمداً.

واستدعاء القيء له طرق: النظر، والشم، والعصر، والجذب، وربما نقول السمع ـ أيضاً.

أما النظر: فكأن ينظر الإنسان إلى شيءٍ كريهٍ فتتقزز نفسه ثم يقيء.

وأما الشم: فكأن يشم رائحة كريهة فيقيء.

وأما العصر: فكأن يعصر بطنه عصراً شديداً إلى فوق ثم يقيء.

وأما الجذب: بأن يدخل أصبعه في فمه حتى يصل إلى أقصى حلقه ثم يقيء. (الشرح الممتع).

فالحديث دليل على أن القيء عمداً يفسد الصوم وعليه القضاء إذا كان الصوم واجباً.

وقد حكاه ابن المنذر بالإجماع.

ص: 380

‌فائدة: 1

ذهب ابن مسعود وعكرمة وربيعة والقاسم: إلى أن القيء لا يفسد الصوم سواء كان غالباً أو مستخرجاً ما لم يرجع فيه القيء باختياره. (نقله الشوكاني عنهم).

واستدلوا:

أ-أن الحديث لا يصح، ولم يثبت دليل أن القيء مفطر، ولو كان مفطراً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً.

ب-واستدلوا بحديث (ثلاث لا يفطرن: القيء، والحجامة، والاحتلام). وهو حديث ضعيف رواه الترمذي وغيره.

والراجح مذهب الجمهور.

‌فائدة: 2

لا فرق في القيء بين القليل والكثير على الصحيح، فلو تعمد القيء،

وخرج شيء قليل أفطر، قال في الفروع: وإن استقاء فقاء أي شيء كان أفطر.

(أوْ اسْتَمْنَى).

أي: ومن المفطرات طلب خروج المني بأي وسيلة، سواء بيده، أو بالتدليك على الأرض حتى أنزل.

وهذا مذهب الجمهور.

أ- قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) رواه ابن خزيمة.

ومن استمنى لم يترك شهوته.

ص: 381

ب- من القياس: فقد جاءت السنة بفطر الصائم بالاستقاء إذا قاء، وهو يضعف البدن، فخروج الطعام يضعف البدن؛ لأن المعدة تبقى خالية فيجوع الإنسان ويعطش سريعاً. وخروج المني يحصل به ذلك فيفتر البدن بلا شك؛ ولهذا أمر بالاغتسال ليعود النشاط إلى البدن، فيكون هذا قياساً على من استقاء عمداً.

‌فائدة: 1

قال ابن قدامة: وَلَوْ اسْتَمْنَى بِيَدِهِ فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَلا يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِهِ إلا أَنْ يُنْزِلَ، فَإِنْ أَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ " انتهى.

‌فائدة: 2

ذهب بعض العلماء إلى أن الاستمناء عمداً لا يفسد الصوم لكنه قول ضعيف.

‌فائدة: 3

من احتلم في نهار رمضان فإنه يغتسل وصومه صحيح ولا يضره لأنه ليس باختياره.

قال ابن قدامة: ولو احتلم لم يفسد صومه، لأنه عن غير اختيار منه. (المغني).

وجاء في (الموسوعة الفقهية) لا أثر للاحتلام في الصوم، ولا يبطل به باتفاق، لقوله صلى الله عليه وسلم (ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام).

ولأن فيه حرجاً، لعدم إمكان التحرز عنه إلا بترك النوم، والنوم مباح وتركه غير مستطاع، ولأنه لم توجد صورة الجماع، ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بمباشرة. انتهى.

‌فائدة: 4

اختلف الجمهور الذين قالوا: إن من تعمد الاستمناء يفطر: هل تجب عليه الكفارة مع القضاء أم يكفيه القضاء؟

فذهب أكثرهم إلى أنه يكفيه القضاء مع التوبة والاستغفار ولا كفارة عليه.

وذهب المالكية إلى وجوب القضاء والكفارة عليه.

ص: 382

والراجح عدم وجوبها لأنه لا دليل على إلزام من أفسد صومه تعمداً بغير جماع بها، ولأن النص ورد في الجماع فلا يقاس عليه غيره لأنه أغلظ من غيره فيقتصر عليه.

(أَوْ بَاشَرَ فَأَمْنَى).

المراد بالمباشرة هنا: أن يباشر امرأته بما دون الفرج.

ذهب جماهير العلماء وحكي إجماعاً أن الإنسان إذا باشر أو قبل أو لمس فأنزل فإن صيامه يفسد.

قال ابن قدامة: إذَا قَبَّلَ (أي زوجته) فَأَمْنَى فَيُفْطِرَ بِغَيْرِ خِلافٍ نَعْلَمُهُ " انتهى.

وقال النووي: إذَا قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِذَكَرِهِ أَوْ لَمَسَ بَشَرَةَ امْرَأَةٍ بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ بَطَلَ صَوْمُهُ وَإِلا فَلا، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْحَاوِي وَغَيْرُهُ الإِجْمَاعَ عَلَى بُطْلانِ صَوْمِ مَنْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ " انتهى باختصار.

وقال في (بداية المجتهد) كلهم يقولون: ـ يعني الأئمة ـ أن من قبل فأمنى فقد أفطر " انتهى.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا أرخص في القبلة للصائم إلا وهو يشترط السلامة مما يتولد منها، وأن من يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه وجب عليه اجتنابها. (الاستذكار).

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (يدع شرابه وطعامه وشهوته) فإنه لم يدع شهوته.

ب-وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه

(وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ) المباشرة: التقاء البشرتين، ويستعمل في الجماع سواء أولج أو لم يولج، وليس الجماع مراداً هنا، وإنما المراد: الجماع فيما دون الفرج من تقبيل ولمس وضم وغيرها.

ص: 383

وجه الدلالة: أن مفهوم حديث عائشة أن من لا يملك نفسه فإنه لا يجوز له أن يقبل أو يباشر لأن هذا يؤدي إلى الإنزال الذي يؤدي إلى فساد الصوم.

ج- القياس على الجماع، ووجه القياس: أن غاية ما يطلب في الجماع الإنزال، وقد حصل له بالمباشرة أو التقبيل.

وقد حكى ابن قدامة الإجماع على ذلك.

قال ابن قدامة: إذَا قَبَّلَ فَأَمْنَى أَوْ أَمْذَى، وَلَا يَخْلُو الْمُقَبِّلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُنْزِلَ، فَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ.

لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْه

وَيُرْوَى بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ حَاجَةُ النَّفْسِ وَوَطَرُهَا، وَقِيلَ بِالتَّسْكِينِ: الْعُضْوُ، وَبِالْفَتْحِ: الْحَاجَةُ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُمْنِيَ فَيُفْطِرَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.

لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إيمَاءِ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إنْزَالٌ بِمُبَاشَرَةٍ، فَأَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْجِمَاعِ دُونَ الْفَرْجِ.

الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يُمْذِيَ.

فَيُفْطِرَ عِنْدَ إمَامِنَا وَمَالِكٍ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُفْطِرُ.

(المغني).

ص: 384

(أَوْ أَمْذَى)

أي: إن باشر فأمذى فسد صومه أيضاً.

وهذا قول المالكية والحنابلة.

قالوا: إن المذي خارج تخلله الشهوة، خرج بالمباشرة، فأفسد الصوم كالمني. (المغني).

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يفطر.

وهذا قول الحنفية، والشافعية، واختيار ابن تيمية.

أ-قالوا: بأنه خارج لا يوجب الغسل، فأشبه البول.

ب-أنه لم يوجد الجماع لا صورة ولا معنى.

(أو كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ).

أي: وإن كرر النظر إلى ما يثير الشهوة فأنزل منياً فإنه يفسد صومه.

لأنه إنْزَالٌ بِفِعْلٍ يَتَلَذَّذُ بِهِ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ، كَالْإِنْزَالِ بِاللَّمْسِ، وَالْفِكْرُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، بِخِلَافِ تَكْرَارِ النَّظَرِ. (المغني).

وقوله (فأنزل) فإن لم ينزل، فَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ. (المغني).

‌فائدة: 1

قوله (كرر) فيه أن من نظر نظرة واحدة فأنزل: أن صيامه صحيح، لأنه قيد الذي يفسد بأن يكرر، والسبب في أن صيامه صحيح: أن النظرة الأولى: جائزة. ولا يترتب على المأذون محذور.

وأما إذا لم يكرر النظر فإنه لا يفطر ولو أنزل - وهذا المذهب - لعدم إمكان التحرز منه.

ص: 385

‌فائدة: 2

أن من كرر النظر فأمذى فإن صيامه صحيح حتى عند الحنابلة.

فتبين أن الحنابلة يفرقون بين المذي الذي يكون سببه المباشرة وبين المذي الذي يكون سببه تكرار النظر.

فالمذي الأول: يفسد الصيام. والمذي الثاني: لا يفسد الصيام وهذا مما يضعف القول بإفساده في مسألة المباشرة.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَلَوْ أَمْذَى بِتَكْرَارِ النَّظَرِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ لَا يُفْطِرُ بِهِ، لأِنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْفِطْرِ بِهِ، وَلا يمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى إِنْزَال الْمَنِيِّ، لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ فِي الأْحْكَامِ، فَيَبْقَى عَلَى الأْصْل.

‌فائدة: 3

اختلف العلماء في إبطال الصوم بإنزال المني بالتفكر.

فأبطله المالكية، ولم يبطله جمهور العلماء، والظاهر أنهم لم يبطلوا به الصيام لأنه لا إرادة للعبد فيه، فهو شيء يأتي على الخاطر ولا

يمكن دفعه، أما مع تعمد التفكر والاسترسال به بقصد الإنزال: فلا فرق - حينئذٍ - بينه وبين تعمد النظر من أجل الإنزال، والجمهور يرون إبطال الصيام بتعمد النظر حتى الإنزال.

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذهب الحنفية والشافعية إلى: أن إنزال المني أو المذي عن نظر وفِكر لا يبطل الصيام، ومقابل الأصح عند الشافعية أنه: إذا اعتاد الإنزال بالنظر، أو كرر النظر فأنزل: يفسد الصيام.

وذهب المالكية والحنابلة إلى: أنَّ إنزال المني بالنظر المستديم يفسد الصوم؛ لأنه إنزال بفعل يتلذذ به، ويمكن التحرز منه.

ص: 386

وأما الإنزال عن فكر: فيفسد الصوم عند المالكية، وعند الحنابلة لا يفسده لأنه لا يمكنه التحرز عنه" انتهى.

قال ابن قدامة: فَإِنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ.

لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ).

وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْفِطْرِ بِهِ وَلَا إجْمَاعَ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا تَكْرَارِ النَّظَرِ، لِأَنَّهُ دُونَهُمَا فِي اسْتِدْعَاءِ الشَّهْوَةِ، وَإِفْضَائِهِ إلَى الْإِنْزَالِ، وَيُخَالِفُهُمَا فِي التَّحْرِيمِ إذَا تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ الْكَرَاهَةِ إنْ كَانَ فِي زَوْجَةٍ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. (المغني).

(أَوْ حَجَمَ أوْ احْتَجَمَ وَظَهَرَ دَمٌ).

أي: ومن المفطرات الحجامة.

(حَجَمَ) غيره (أوْ احْتَجَمَ) طلب من يحجمه.

لحديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: أَفْطَرَ اَلْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) رواه أبو داود.

وصححه ابن المديني، وابن عبد البر، وابن حزم.

قال العقيلي في الضعفاء: أصح الأحاديث في هذا الباب حديث شداد بن أوس.

وقال أيضاً: حديث شداد بن أوس صحيح في هذا الباب.

وقال إسحق بن راهويه: (هذا إسناد صحيح تقوم به الحجة) ذكره الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى.

ص: 387

ونقل في الفتح تصحيحه عن أحمد وابن خزيمة، وصححه ابن حبان أيضاً.

وقال النووي في المجموع: إسناده صحيح.

قال شيخ الإسلام: الأحاديث الواردة كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ.

وقال في المغني: حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفساً.

وقال ابن كثير: فأما حديث (افطر الحاجم والمحجوم) فقد رواه جماعة من الصحابة نحو بضعة عشر صحابياً من طرق متعددة يشدُّ بعضها بعضاً، بل هي مفيدةٌ للقطع عند جماعةٍ من المحدِّثين ومتواترة عند آخرين، وإن كان قد تكلم في بعض تلك الطرق.

والقول بالفطر بالحجامة: هو مذهب الحنابلة، وهو من المفردات.

وهو قول علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان [ذكر ذلك في الفتح].

أ- للحديث السابق (أفطر الحاجم والمحجوم).

ب- أن أحاديث الفطر بالحجامة للصائم أشهر وأكثر وأقوى من الترخيص بها.

ج-أن أحاديث الفطر بالحجامة قولية وحديث احتجام النبي صلى الله عليه وسلم فعل والقول مقدم على الفعل.

وذهب بعض العلماء: إلى عدم الفطر بها.

وهو مذهب الجمهور.

أ-لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اِحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

ب-ولما رواه أبو داود بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه) قال الحافظ: إسناده صحيح.

ج-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال (رخص للصائم بالحجامة والقبلة) رواه ابن خزيمة، وسنده صحيح إلى أبي سعيد وله حكم الرفع.

ص: 388

وأجابوا عن حديث (أفطر الحاجم والمحجوم):

أ- أنه منسوخ.

قال ابن حجر في الفتح: قال ابن عبد البر وغيره: فيه دليل على أن حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) منسوخ، لأنه جاء في بعض طرقه أن ذلك كان في حجة الوداع، وسبق ذلك الشافعي.

وقال ابن حزم: صح حديث (أفطر الحاجم والمحجوم)، بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد (رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم) وإسناده صحيح فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً.

ب- لأنهما كانا يغتابان.

لما أخرجه الطحاوي والدارمي عن ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال (أفطر الحاجم والمحجوم) لأنهما كانا يغتابان.

ورد هذا: بأن في إسناده يزيد ابن معاوية وهو متروك، وحكم ابن المديني بأنه حديث باطل.

ج-وأجاب بعضهم بأن المراد (أفطر الحاجم والمحجوم) سيفطران باعتبار ما يؤول إليه الأمر.

قال الحافظ: ولا يخفى تكلف هذا التأويل.

وقال البغوي: معنى (أفطر الحاجم والمحجوم) أي تعرضا للإفطار.

قال الشوكاني: وهذا أيضاً جواب متكلف.

ومن أحسن ما يستدل به على أن الحجامة لا تفطر: حديث ابن عباس السابق.

ص: 389

‌فائدة:

العلة من الفطر بالحجامة:

قيل: تعبدية.

وقيل: العلة معقولة.

أما بالنسبة للمحجوم: فإن خروج الدم يوجب ضعف البدن وفتوره.

وأما بالنسبة للحاجم: فإنه قد يدخل إلى جوفه الدم.

(عامداً ذَاكِراً لِصَوْمِهِ فَسد لا ناسياً).

أي: أن هذه المفطرات التي سبقت يقع الإفطار بها بثلاثة شروط:

الشرط الأول: أن يكون عالِمًا، فإن كان جاهلاً لم يُفطِر.

لقوله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً).

قال الشيخ ابن عثيمين: سواءٌ كان جاهِلاً بالْحُكْمَ الشَّرْعِيِّ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ هذا الشيءَ غير مُفَطِّرٍ فيَفْعَلَه أو جاهِلاً بالحَالِ أيْ بالْوقْتِ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ الْفَجْرَ لم يَطلُع فيأْكُلَ وهو طالِعٌ، أو يظنَّ أنَّ الشمسَ قد غَربَتْ فيأكلَ وهي لم تَغْرُب، فلا يُفْطِر في ذلك كلِّه.

الشرط الثاني: أن يكون مختاراً، فإن كان مكرهاً فصيامه صحيح.

الشرط الثالث: أن يكون ذاكراً، فإن كان ناسياً فصيامه صحيح.

ص: 390

عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اَللَّهُ وَسَقَاهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْه

وَلِلْحَاكِمِ (مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ) وَهُوَ صَحِيحٌ.

‌فائدة:

حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ. فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ. فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ).

الحديث دليل على أن من شرب أو أكل ناسياً لا يفسد صومه ولا كفارة.

وهذا مذهب جمهور العلماء، وأبو حنيفة والشافعي وأحمد.

وهو الموافِقُ لقوله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) وقوله تعالى (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنا) وقد ثَبَتَ في الصحيح أنَّ الله أجاب هذا الدعاء.

وقال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الله وَضَعَ عن أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه).

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يفسد الصوم ويجب القضاء.

وهو مذهب المالكية.

ص: 391

واعتذروا عن العمل بحديث الباب بأمور:

أ-لم يرد في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع، ويرد هذا:

قوله (وهو صائم) نكرةٌ في سياق الشرط فَتَعُمّ كُلَّ صائم.

ولرواية الحاكم (من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء ولا كفارة).

ب-ورده بعضهم بكونه خبر واحد خالف القاعدة.

قال الشوكاني: وهو اعتذار باطل والحديث قاعدة مستقلة في الصيام، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل، ولرد ما شاء ما شاء.

ج-وتأول بعضهم (فليتم صومه) أن المراد فليتم إمساكه من المفطرات.

‌فائدة: 2

أنه لا فرق بين قليل الأكل وكثيره.

لما أخرجه أحمد عن أم إسحاق: (أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه، ثم تذكرت أنها كانت صائمة فقال لها ذو اليدين: الآن بعد ما شبعتِ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك).

قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيره.

‌فائدة: 3

اختلف العلماء: هل يجب على من رأى من يأكل ويشرب في نهار رمضان أن يذكره أم لا؟ قولان للعلماء:

القول الأول: أنه يجب تذكيره.

واختار هذا القول الشيخ ابن باز وابن عثيمين.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). رواه مسلم

ص: 392

القول الثاني: أنه لا يجب تذكيره.

لأنك تعلم علم اليقين أنه أكل أو شرب نسياناً ولم يرتكب حينئذٍ منكراً، وإنما أطعمه الله وسقاه.

والأول أرجح.

‌فائدة: 4

اختلف العلماء في حكم من جامع في نهار رمضان ناسياً على قولين:

‌القول الأول: أنه لا يفسد صومه.

وهذا مذهب الحنفية والشافعية.

قال النووي: وأما المجامع ناسياً فلا يفطر ولا كفارة عليه، هذا هو الصحيح من مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء، ودليلنا أن الحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر، والجماع في معناه.

واختار هذا القول ابن تيمية.

أ- لرواية (من أفطر في رمضان ناسياً

) لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع، وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في حديث الباب لكونهما الأغلب وقوعاً.

قال ابن دقيق العيد: تعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب، لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي عموماً.

ب-ولعموم قوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).

ج - ولقوله (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان).

د- قال النووي: ودليلنا أن الحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر، والجماع في معناه.

ص: 393

‌القول الثاني: أن عليه القضاء والكفارة.

وهو قول الحنابلة.

أ- لحديث المجامع في نهار رمضان - وسيأتي الحديث إن شاء الله - حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل منه، هل كان عن عمد أو نسيان، وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول.

والراجح القول الأول.

والجواب عن دليل القول الثاني:

أن المجامع الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم كان متعمداً، ويدل لذلك الروايات، فقد جاء في بعضها (هلكت) وفي بعضها (احترقت).

قال ابن حجر: فدل على أنه كان عامداً عارفاً بالتحريم.

‌فائدة: 5

قال ابن حجر: ومن المستظرفات ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار: (أن إنساناً جاء إلى أبي هريرة فقال: أصبحت صائماً فنسيت فطعمت، قال: لا بأس، قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت، قال: لا بأس، الله أطعمك وسقاك، ثم قال: دخلت على آخر فنسيت فطعمت، فقال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام).

(أوْ طَارَ إِلَى حَلْقِه ذُبَابٌ، أوْ غُبَارٌ).

أي: فإنه لا يفطر بذلك.

لأنه ليس بمتعمد لذلك ولا بمختار، والشرط في المفطرات أن تكون على هيئة الاختيار.

ص: 394

(أوْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ)

أي: من فكر بجماع أو شهوة فأنزل منياً لم يفطر.

قال ابن قدامة: فَإِنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ.

لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ).

وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا تَكْرَارِ النَّظَرِ، لِأَنَّهُ دُونَهُمَا فِي اسْتِدْعَاءِ الشَّهْوَةِ، وَإِفْضَائِهِ إلَى الْإِنْزَالِ.

(وقد تقدمت المسألة).

‌فائدة:

قال الشيخ ابن عثيمين: وعُلم من كلامه (فكر فأنزل) أنه لو حصل منه عمل فإنه يفطر بأن تدلك بالأرض حتى أنزل، أو حرك ذكره حتى أنزل، أو قبل زوجته حتى أنزل، أو ما أشبه ذلك فإنه يفطر.

(أوْ احْتَلَمَ).

الاحتلام اسم لما يراه النائم من الجماع، فيحدث معه إنزال المني غالباً.

فمن احتلم فلا يفسد صومه.

قال ابن قدامة: ولو احتلم لم يفسد صومه، لأنه عن غير اختيار منه. (المغني).

وجاء في (الموسوعة الفقهية) لا أثر للاحتلام في الصوم، ولا يبطل به باتفاق، لقوله صلى الله عليه وسلم (ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام).

ولأن فيه حرجاً، لعدم إمكان التحرز عنه إلا بترك النوم، والنوم مباح وتركه غير مستطاع، ولأنه لم توجد صورة الجماع، ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بمباشرة. انتهى.

ص: 395

(أَوْ أَصْبَحَ فِي فِيهِ طَعامٌ فَلَفَظَهُ)

إذا استيقظ الإنسان من النوم ووجد في فيه طعام فلفظه وأخرجه لم يفسد صومه، وإن ابتلعه فسد صومه، لأنه قد أكل طعاماً.

فمَنْ أَصْبَحَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ طَعَامٌ؛ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُمْكِنْهُ لَفْظُهُ، فَازْدَرَدَهُ (ابتلعه).

فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِهِ.

قال ابن قدامة: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الرِّيقَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ. (المغني).

وقال النووي: أجمع العلماء على أنه لا شيء على الصائم فيما يبلعه مما يجري مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على رده. (المجموع).

وجاء في (الموسوعة الفقهية) ابْتِلَاعُ مَا بَيْنَ الأْسْنَانِ، إِذَا كَانَ قَلِيلاً، لَا يُفْسِدُ وَلَا يُفْطِرُ؛ لأِنَّهُ تَبَعٌ لِرِيقِهِ، وَلأِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الأْسْنَانِ، وَالاِحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا يُمْكِنُ لَفْظُهُ.

فَإِنْ لَفَظَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ازْدَرَدَهُ عَامِدًا، فَسَدَ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

لأنه بَلَعَ طَعَامًا يُمْكِنُهُ لَفْظُهُ بِاخْتِيَارِهِ، ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، فَأَفْطَرَ بِهِ، كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ الْأَكْلَ، وَيُخَالِفُ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنْهُ لَفْظُهُ. (المغني).

(أوْ اغْتَسَلَ).

فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه.

(أوْ تَمَضْمَضَ).

فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه.

(أو اسْتَنْشق).

فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه.

هذه المسائل حكمها واحد، فإذا وقع لم يفطر لعدم القصد.

ص: 396

‌فائدة:

الاغتسال للصائم.

يباح للصائم أن يغتسل (يستحم) ولا أثر لذلك على صومه.

قال ابن قدامة: لا بأس أن يغتسل الصائم.

واستدل بما رواه والبخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ.

وروى أبو داود عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ الْعَطَشِ أَوْ مِنْ الْحَرِّ. صححه

الألباني في صحيح أبي داود.

قال عون المعبود: فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَجُوز لِلصَّائِمِ أَنْ يَكْسِر الْحَرّ بِصَبِّ الْمَاء عَلَى بَعْض بَدَنه أَوْ كُلّه، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْجُمْهُور وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْن الاغْتِسَال الْوَاجِبَة وَالْمَسْنُونَة وَالْمُبَاحَة اهـ.

وقال البخاري رحمه الله: بَاب اغْتِسَالِ الصَّائِمِ وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما ثَوْبًا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَائِمٌ وَدَخَلَ الشَّعْبِيُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ

وَقَالَ الْحَسَنُ لا بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ.

قال الحافظ: قَوْلُهُ: (بَابٌ اِغْتِسَالُ الصَّائِمِ) أَيْ بَيَانُ جَوَازِهِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنَيِّرِ: أَطْلَقَ الاغْتِسَالَ لِيَشْمَل الأَغْسَالَ الْمَسْنُونَةَ وَالْوَاجِبَة وَالْمُبَاحَة، وَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى ضَعْف مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ النَّهْي عَنْ دُخُول الصَّائِمِ الْحَمَّامَ أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ اهـ. والله أعلم.

ص: 397

(أَوْ بَالَغَ فَدَخَلَ المَاءُ حَلْقَهُ لَمْ يَفْسُدْ).

أي: إذا بالغ الصائم في الاستنشاق - مع أنه مكروه للصائم - فإنه لا يفطر لعدم القصد.

صائم منهي عن المبالغة في الاستنشاق.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم للَقِيطِ بْنِ صَبِرَة رضي الله عنه (أَسْبِغْ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إِلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا) رواه أبو داود.

والحديث يدل على تجنب المبالغة في الاستنشاق حال الصوم حتى لا ينزل الماء إلى جوف الصائم من غير اختياره.

فلو تمضمض الصائم أو استنشق فنزل شيء من الماء إلى حلقه من غير قصدٍ منه فإنه لا يفطر.

لقول الله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).

وهذا لم يتعمد قلبه فعل المفسد، فيكون صومه صحيحاً.

(وَمَنْ أَكَلَ شَاكّاً فِي طُلُوع الفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهُ).

أي: من أكل أو شرب أو جامع شاكاً في طلوع الفجر [هل طلع الفجر أم لا فأكل] صح صومه.

قال ابن قدامة: وَإِنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ الْأَمْرَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَلَهُ الْأَكْلُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ الْفَجْرِ.

نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي.

وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهم.

أ-لقول اللَّهِ تَعَالَى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ).

مَدَّ الْأَكْلَ إلَى غَايَةِ التَّبَيُّنِ، وَقَدْ يَكُونُ شَاكًّا قَبْلَ التَّبَيُّنِ، فَلَوْ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ لَحَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى، لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْت أَصْبَحْت.

ب- وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ زَمَانُ الشَّكِّ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ زَوَالِهِ، بِخِلَافِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، فَبَنَى عَلَيْهِ. (المغني).

ص: 398

‌فائدة:

إذا أكل أو شرب ثم تبين له أن أكله كان بعد طلوع الفجر.

فالجمهور على أنه يلزمه القضاء.

واختار ابن تيمية لا يلزمه القضاء، وستأتي المسألة إن شاء الله.

(لَا إِنْ أَكَلَ شَاكّاً في غُرُوبِ الشَّمْسِ).

أي: فلا يصح صومه، لأن الأصل بقاء النهار.

‌فائدة: 1

لكن يجوز الفطر بغلبة الظن،

بمعنى أنه إذا غلب على ظنه أن الشمس غربت فله الفطر.

ويدل لذلك: حديث أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ (أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ).

ومعلوم أنهم لم يفطروا عن علم، لأنهم لو أفطروا عن علم ما طلعت الشمس، لكن أفطروا بناءً على غلبة الظن أنها غابت، ثم انجلى الغيم فطلعت الشمس

‌فائدة: 2

اختلف العلماء: من أكل شاكاً في طلوع الفجر ثم تبين له أنه الفجر طلع

- وكذلك من أكل ظاناً غروب الشمس، ثم تبين أنها لم تغرب، هل يجب القضاء أم لا على قولين:

‌القول الأول: يجب عليه القضاء.

وهذا قول جمهور العلماء.

ص: 399

قال ابن قدامة: هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم.

أ- عنَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، رضي الله عنهما قَالَتْ (أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ (قِيلَ لِهِشَامٍ فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ قَالَ بُدٌّ مِنْ قَضَاء. رواه البخاري.

ب- ولقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل).

وجه الدلالة: أن هذا لم يتمه.

‌القول الثاني: أنه لا يجب القضاء.

وهو مروي عن مجاهد والحسن، وقال به إسحاق وأحمد في رواية، والمزني، وابن خزيمة.

واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمهم الله جميعاً.

قال ابن تيمية: وَإِنْ شَكَّ: هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ؟ أَوْ لَمْ يَطْلُعْ؟ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الطُّلُوعَ وَلَوْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ نِزَاعٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ

واستدلوا:

أ- بحديث أَسْمَاء السابق قَالَتْ (أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقضاء، ولو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل دل أنه لم يأمرهم به.

ب- أنه لم يقصد الأكل في الصوم، فلم يلزمه القضاء كالناسي.

قالوا: وقول هشام: لا بد من القضاء. قاله من عنده تفقهاً، ولم يقل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء.

ولهذا قال الحافظ: وَأَمَّا حَدِيث أَسْمَاء فَلا يُحْفَظُ فِيهِ إِثْبَات الْقِضَاء وَلا نَفْيُهُ " انتهى.

ص: 400

وقال الشيخ ابن عثيمين: فأفطروا في النهار بناء على أن الشمس قد غربت فهم جاهلون، لا بالحكم الشرعي، ولكن بالحال، لم يظنوا أن الوقت في النهار، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لكان من شريعة الله، ولكان محفوظاً، فلما لم يحفظ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأصل براءة الذمة، وعدم القضاء " انتهى.

وقول الجمهور أحوط.

(وَمَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَان فِي قُبُلٍ أوْ دُبُرٍ فَعَلَيْهِ القَضَاءُ والكَفَّارَةُ، وَإِنْ جَامَعَ دُونَ الفَرجِ فأَنْزَلَ أَوْ كَانَتِ المرأةُ معذورةً أوْ جَامَعَ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ أفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ).

من المفطرات: الجماع في الفرج، والعلماء يجعلون له فصلاً خاصاً لأنه أعظم المفطرات تحريماً وأكثرها تفصيلاً.

فمن جامع في نهار رمضان فقد فسد صومه.

أ- لقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل).

وجه الدلالة: أن الشارع علق حل الرفث إلى النساء وهو الجماع إلى تبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر وهو وقت بداية الصيام، ثم يجب إتمام الصيام والإمساك عن ذلك إلى الليل فإذا وجد الجماع قبل الليل فإن الصيام حينئذ لم يتم فيكون باطلاً.

ص: 401

ب- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ. قَالَ: " وَمَا أَهْلَكَكَ? " قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى اِمْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: " هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً? " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ? " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا? " قَالَ: لَا، ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ: " تَصَدَّقْ بِهَذَا "، فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا? فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَك) متفق عليه.

وأجمع العلماء على ذلك:

قال ابن قدامة: لا نعلم بين أهل العلم خلافاً، في أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل، أو دون الفرج فأنزل، أنه يفسد صومه إذا كان عامداً.

‌فائدة: 1

في الحديث: أن الوطء للصائم في نهار رمضان وهو صائم يعتبر من الكبائر،

لقوله (هلكت) فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على أن فعله هذا مهلك

‌فائدة: 2

من جامع في نهار رمضان وهو صائم فإنه يترتب عليه عدة أمور:

أولاً: الإثم.

ثانياً: فساد الصوم.

ثالثاً: وجوب الإمساك بقية يومه.

رابعاً: وجوب قضاء هذا اليوم. (وهذا مذهب جماهير العلماء).

خامساً: وجوب الكفارة المغلظة.

ص: 402

‌فائدة: 3

الحديث دليل على أن من جامع في نهار رمضان،

فإنه تجب عليه الكفارة وهي:

عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.

وهي على الترتيب، وهذا مذهب جمهور العلماء. (وسيأتي مباحثها إن شاء الله).

‌فائدة: 4

لا تجب الكفارة لو جامع وهو صائم في قضاء رمضان،

وإنما تجب الكفارة إذا جامع في نهار رمضان فقط.

فلو أن رجلاً جامع زوجته وهو يصوم رمضان قضاءً، فلا كفارة عليه، وذلك لأن وجوب الكفارة من أجل انتهاك الصوم في زمن محترم، وهو شهر رمضان.

قال ابن قدامة: ولا تجب الكفارة في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء. (المغني).

هو حرام الجماع في قضاء رمضان لكن لا يوجب الكفارة.

‌فائدة: 5

لو جامع زوجته في نهار رمضان لكن الصوم غير واجب عليه،

فليس عليه كفارة.

مثل: أن يكون هو وزوجته مسافرين وصائمين في السفر، ثم جامعها في نهار رمضان، فليس عليه كفارة، لأنه يباح له الفطر.

‌فائدة: 6

الجماع الموجب للكفارة:

الجماع الموجب للكفارة هو إيلاج الذكر في الفرج قبلاً كان أو دبراً، فأما الإنزال بالمباشرة دون الفرج فإنه يفطر الصائم ويلحقه الإثم،

ولكنه لا يوجب الكفارة.

ص: 403

الخلاصة: فتجب الكفارة بشروط:

أولاً: أن يكون هناك جماع، وهو الإيلاج، فإن حصل مباشرة أو تقبيل أو ضم ولو مع الإنزال فلا تجب الكفارة.

ثانياً: أن يكون الجماع في صيام رمضان، فإن جامع في غير صيام رمضان فلا تجب الكفارة (وقد تقدم).

ثالثاً: أن يكون الصوم أداءً، فلو جامع في صيام رمضان قضاء، فلا تجب الكفارة.

رابعاً: أن يكون الصوم واجباً عليه، فلو كان مسافراً وهو صائم في نهار رمضان وجامع فلا تجب عليه الكفارة، لأن المسافر يحل له الفطر.

‌فائدة: 7

اختلف العلماء: هل على المرأة كفارة أم لا على قولين:

‌القول الأول: ليس عليها كفارة.

وهو قول الشافعية.

أ-قال ابن حجر: واستدلوا بإفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة.

ب-وكذا قوله في المراجعة (هل تستطيع) و (هل تجد) وغير ذلك

).

ج- واستدل الشافعية بسكوته صلى الله عليه وسلم عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة. (الفتح).

قال الماوردي: والدليل في هذا الخبر من وجهين:

أحدهما: أنّ الأعرابي إنما سأله عن فعل شارك فيه زوجته مع جهلها بحكمه، فاقتضى أن يكون جوابه حكمًا لجميع الحادثة.

والثاني: أنه لَمَّا كان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولم يُنقَل عنه أنه أمر المرأة بالكفارة ولا راسلها بإخراجها مع جهلها بالحكم فيها دلَّ على أنّ الكفارة لا تلزمها.

ص: 404

وقال ابن دقيق العيد: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم المرأة بوجوب الكفارة عليها مع الحاجة إلى الإعلام، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

‌القول الثاني: عليها الكفارة.

وهو مذهب الجمهور.

لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما خص بدليل.

قال ابن حجر: ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره بالغسل، والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين.

وهذا القول هو الصحيح أن على المرأة الكفارة إلا إذا كانت مكرهة فلا شيء عليها.

وأما الجواب عن قول أصحاب القول الأول (وقت الحاجة):

قال الحافظ ابن حجر: وأجيب ممتنع الحاجة إذ ذاك لأنها لم تعترف ولم تسأل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكماً ما لم تعترف.

‌فائدة: 8

اختلف العلماء: هل يجب على المجامع قضاء اليوم أم لا على قولين:

‌القول الأول: لا يجب عليه القضاء.

وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالقضاء.

‌القول الثاني: يجب عليه قضاء هذا اليوم.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

أ- عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء).

ص: 405

وجه الاستدلال: أن من استقاء عامداً وجب عليه القضاء بنص هذا الحديث، فيكون حكم المجامع في وجوب القضاء مثل حكمه.

ب- واستدلوا أنه جاء عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع بالقضاء فقال له (صم يوماً مكانه) وهذه الزيادة مختلف فيها، فقد ضعفها ابن تيمية، وممن أثبتها الحافظ ابن حجر، وبين أن لها أصلاً كما في الفتح.

ج-واستدلوا: أن الصوم إذا شغلت به الذمة لم تبرأ إلا بالأداء، فإذا فات وقته وجب القضاء.

د-واستدلوا بحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (فاقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء) رواه البخاري.

وهذا القول هو الصحيح.

‌فائدة: 9

حكم من جامع في نهار رمضان ناسياً؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأول: أنه لا يفسد صومه.

وهذا مذهب الحنفية والشافعية.

قال النووي: وأما المجامع ناسياً فلا يفطر ولا كفارة عليه، هذا هو الصحيح من مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء، ودليلنا أن الحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر، والجماع في معناه.

ص: 406

واختار هذا القول ابن تيمية.

أ- لرواية (من أفطر في رمضان ناسياً

) لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع، وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في حديث الباب لكونهما الأغلب وقوعاً.

قال ابن دقيق العيد: تعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب، لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي عموماً.

ب-ولعموم قوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).

ج - ولقوله (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان).

د- قال النووي: ودليلنا أن الحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر، والجماع في معناه.

‌القول الثاني: أن عليه القضاء والكفارة.

وهو قول الحنابلة.

أ- لحديث المجامع في نهار رمضان، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل منه، هل كان عن عمد أو نسيان، وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول.

ب- أن الصوم عبادة يفسدها الجماع، فاستوى عمده وسهوه.

والراجح القول الأول.

والجواب عن دليل القول الثاني:

أن المجامع الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم كان متعمداً، ويدل لذلك الروايات، فقد جاء في بعضها (هلكت) وفي بعضها (احترقت).

قال ابن حجر: فدل على أنه كان عامداً عارفاً بالتحريم.

ص: 407

‌فائدة: 10

اختلف العلماء: هل تسقط الكفارة بالعجز والإعسار أم لا على قولين:

‌القول الأول: تسقط بالعجز والإعسار.

وهو أحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصحيح من المذهب، وقول الأوزاعي.

أ- للحديث السابق. حيث قال صلى الله عليه وسلم (أطعمه أهلك).

وجه الاستدلال: قال ابن قدامة - في الاستدلال لهذا القول: بدليل أنّ الأعرابي لما دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم التمر وأخبره بحاجته إليه قال (أطعمه أهلك)، ولم يأمر بكفارة أخرى.

وقال النووي: واحتج لهذا القول بأنّ حديث هذا المجامع ظاهر بأنه لم يستقرَّ في ذمته شيء؛ لأنه أخبر بعجزه ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الكفارة ثابتة في ذمته، بل أذن له في إطعام عياله.

ب-القياس على زكاة الفطر، فإنه إذا عُدِمَهَا وقت الوجوب ثم وجدها فيما بعد؛ فإنه لا تجب عليه، لتعلقها بطهرة الصوم.

قال ابن حجر: ويتأيد ذلك - يعني الاستدلال بحديث الأعرابي السابق - بصدقة الفطر، حيث تسقط بالإعسار المقارن لسبب وجوبها، وهو هلال الفطر.

ج - لعموم قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).

ص: 408

‌القول الثاني: لا تسقط بالعجز بل تبقى في ذمته.

وهو الظاهر من المذهب، والمالكية، والقول الثاني للشافعي، وهو الصحيح عند الشافعية، ورواية عن أحمد، وهو اختيار الخطابي.

أ- لحديث المجامع السابق.

ووجه الاستدلال: أنّ الأعرابي لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجزه عن أجناس الكفارة لم يبيِّن له سقوطها عنه، بل أمر له بما يكفر به من التمر، فدلَّ على ثبوتها في ذمته وإن عجز عنها.

قال ابن تيمية - عند ذكره لأدلة هذا القول -: ولأنّ الأعرابي لو سقطت الكفارة عنه لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتكفير بعد أن أُتِيَ بالعَرَق، فإنه حين وجوب الكفارة كان عاجزاً.

وقال النووي: وأمّا الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة، بل فيه دليل لاستقرارها؛ لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عاجز عن الخصال الثلاث ثم أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة، فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء ولم يأمره بإخراجه، فدلَّ على ثبوتها في ذمته، وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه كان محتاجًا ومضطرًّا إلى الإنفاق على عياله في الحال، والكفارة على التراخي فأذن له في أكله وإطعام عياله، وبقيت الكفارة في ذمته.

ب- قياسًا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات.

وتُعُقب: بما قاله ابن قدامة: لا يصح القياس على سائر الكفارات؛ لأنه اطِّراح للنص بالقياس، والنص أولى.

والراجح القول الأول.

ص: 409

‌فائدة: 11

حكم فيمن كرر الجماع في نهار رمضان؟ إن كرر الجماع فله أحوال:

أ-إن كرر الجماع في يوم واحد، ولم يكفر، فكفارة واحدة، لأن الفعل واحد واليوم واحد.

قال ابن قدامة: إذا جامع ثانياً قبل التكفير عن الأول، فإن كان في يوم واحد، فكفارة واحدة تجزئه بغير خلاف بين أهل العلم.

ب-وإن جامع في يوم واحد مرتين، وقد كان كفّر عن الجماع الأول:

فقيل: يلزمه كفارة ثانية.

قالوا: لأن حرمة الزمن لا تزال باقية في حقه، لأنه يجب عليه الإمساك، فانتهكها بهذا الجماع.

وقيل: لا شيء عليه.

قال ابن قدامة: وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا شيء عليه بذلك الجماع.

لأن الوطء في الثانية لم يصادفه صائماً، لأن صومه فسد في الجماع الأول.

ج-إذا جامع في يومين أو أكثر، بأن جامع في: 1 رمضان، وفي: 2 رمضان، وفي 3 رمضان، فكم كفارة يلزمه؟

إن كان جامع في يومين وكان قد كفر عن اليوم الأول، فإنه يلزمه أن يكفر عن اليوم الثاني.

قال ابن قدامة: بغير خلاف نعلمه.

وإن كان لم يكفّر:

قيل: يلزمه 3 كفارات.

قال ابن قدامة: وهو قول مالك، والليث والشافعي، وابن المنذر.

قالوا: لأن كل يوم عبادة منفردة.

وقيل: لا يلزمه إلا كفارة واحدة إذا لم يكفر عن الأول.

لأنها كفارات من جنس واحد، فاكتفي فيها بكفارة واحدة، كما لو أحدث بأحداث متنوعة، فإنه يجزئه وضوء واحد.

والراجح القول الأول.

ص: 410

‌فائدة: 12

حكم من طلع عليه الفجر وهو يجامع؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأول: أن عليه الكفارة والقضاء.

وهذا مذهب الحنابلة.

قالوا: إن النزع جماع، ولأنه يتلذذ بالنزع، فيأخذ حكمه، والمجامع العامد يجب عليه القضاء والكفارة.

‌القول الثاني: أن صومه صحيح.

وهذا قول الجمهور من الحنفية، والشافعية وهو اختيار ابن تيمية.

أ- قالوا: إن النزع ترك للجماع، وترك الشيء لا يكون محصلاً له، بل يكون اشتغالاً بضده، وعليه فلا يعتبر النزع جماعاً أصلاً.

ب- بالقياس على ما لو حلف أن لا يلبس هذا الثوب وهو عليه، فبدأ بنزعه لم يحنث.

ج- وبالقياس أيضاً على الغاصب إذا تاب وقد توسط الأرض المغصوبة، فهذا خروجه بنية تخليه المكان وتسليمه إلى مستحقه ليس منهياً عنه ولا محرماً.

وهذا القول هو الراجح.

‌فائدة: 13

الحديث دليل على أنه لا يشترط العلم بالعقوبة لإسقاط العقوبة، بل يكفي أن يعلم أنها حرام.

فهذا الرجل لم يدر ما ذا يجب عليه، لكن يدري أن الجماع حرام، وعلمنا ذلك من قوله (هلكت).

ويقاس على ذلك ما لو زنى رجل وهو يعلم أن الزنى حرام، ولكنه يجهل الحد الواجب فيه، لأن العلم بالعقوبة ليس بشرط.

ص: 411

(وَإِنْ جَامَعَ دُونَ الفَرجِ فأَنْزَلَ أَوْ كَانَتِ المرأةُ معذورةً أوْ جَامَعَ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ أفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ).

‌هذه مسائل:

‌الأولى: من جامع دون الفرج فأنزل.

فإنه يفطر بذلك:

قال ابن قدامة: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، فِي أَنَّ مَنْ جَامَعَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ، أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ إذَا كَانَ عَامِدًا

وليس عليه كفارة.

وهذا القول هو الصحيح.

قال ابن قدامة: هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.

لِأَنَّهُ فِطْرٌ بِغَيْرِ جِمَاعٍ تَامٍّ، فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ.

وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلَا نَصَّ فِي وُجُوبِهَا وَلَا إجْمَاعَ وَلَا قِيَاسَ.

وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُوجِبُهَا مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ، وَيَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ اثْنَا عَشَرَ حُكْمًا.

وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الْجِمَاعُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ، وَالْجِمَاعُ هَاهُنَا غَيْرُ مُوجِبٍ، فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُهُ بِهِ. (المغني).

‌فائدة:

الْكَفَّارَةَ تَلْزَمُ مَنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا،

أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

ص: 412

‌الثانية: أَوْ كَانَتِ المرأةُ معذورةً.

بنسيان، أو إكراه، أو جهل.

فإنها تفطر بذلك وعليها القضاء، ولا كفارة عليها.

والراجح: أنه لا قضاء عليها ولا كفارة، ما دامت معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه.

‌الثالثة: أو جَامَعَ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ أفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ.

أي: إذا نوى المسافر الصوم، وفي أثناء النهار جامع زوجته.

فهذا يفطر لأنه أفسد صومه بالجماع.

ولا كفارة عليه، حيث لم ينتهك حرمة الصوم، لأنه ليس بواجب عليه.

وإنما تجب الكفارة إذا جامع في نهار رمضان وهو مقيم.

وسئل الشيخ ابن عثيمين: عن رجل جامع زوجته في نهار رمضان وهو مسافر؟

فأجاب: لا حرج عليه في ذلك؛ لأن المسافر يجوز له أن يفطر بالأكل والشرب والجماع، فلا حرج عليه في هذا ولا كفارة. ولكن يجب عليه أن يصوم يوماً عن الذي أفطره في رمضان.

كذلك المرأة لا شيء عليها إذا كانت مسافرة مفطرة أم غير مفطرة في ذلك اليوم معه، أما إذا كانت مقيمة فلا يجوز له جماعها إن كانت صائمة فرضاً؛ لأنه يفسد عليها عبادتها ويجب عليها أن تمتنع منه" اهـ.

(وَمَنْ جَامَعَ وَهُوَ مُعَافَى، ثُمَّ مَرِضَ، أوْ جُنَّ، أَوْ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ).

يعني: رجل جامع زوجته أول النهار وهو معافى، ثم مرض مرضاً يبيح له الفطر.

وكذا لو جامع زوجته أول النهار، ثم جن، وكذا لو جامعها أول النهار ثم سافر.

فلا تسقط عنه الكفارة.

لأن وجوب الكفارة سابق لزوال التكليف.

لأنه كان حين الجماع، ممن لم يؤذن له بالجماع.

ص: 413

قال ابن قدامة: وَإِذَا جَامَعَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، ثُمَّ مَرِضَ أَوْ جُنَّ، أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً فَحَاضَتْ أَوْ نُفِسَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، لَمْ تَسْقُطْ الْكَفَّارَةُ.

وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَإِسْحَاقُ.

لأنه مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يُسْقِطْهَا، كَالسَّفَرِ، وَلِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمًا وَاجِبًا فِي رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ، فَاسْتَقَرَّتْ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَطْرَأْ عُذْر. (المغني).

ولِأَنَّهُ صَل صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْأَلْ الْأَعْرَابِيَّ: هَلْ طَرَأَ لَهُ بَعْدَ وَطْئِهِ مَرَضٌ أَوْ غَيْرُهُ؟ بَلْ أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ لَسَأَلَ عَنْه.

جاء في (الموسوعة الفقهية)

‌ اختَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَمَّنْ جَامَعَ فِي أَوَّل النَّهَارِ، ثُمَّ مَرِضَ أَوْ جُنَّ، أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ فَحَاضَتْ أَوْ نُفِسَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

‌الْقَوْل الأْوَّل: عَدَمُ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِحُدُوثِ الْعَارِضِ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْظْهَرِ، وَبِهِ قَال اللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو ثَوْر.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يُسْقِطْهَا كَالسَّفَرِ.

وَبِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمًا وَاجِبًا فِي رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ، فَاسْتَقَرَّتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَطْرَأْ عُذْرٌ.

وَأَنَّهُ قَصَدَ هَتْكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ أَوَّلاً بِمَا فَعَل

‌ثم ذكر القول الثاني. (انتهى من الموسوعة).

(وَلَا تَجِبُ الكَفَّارَةُ بِغَيْرِ الجِمَاعِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ).

هذه المسألة تقدم ذكرها، لكن ذكرتْ هنا لوجود الخلاف فيها.

لكن الراجح كما هنا: أن الكفارة لا تجب إلا بأمرين:

الأول: بالجماع.

فلا تجب الكفارة في مفطر آخر غير الجماع.

والثاني: أن يكون في صيام رمضان.

فلا تجب الكفارة في قضاء رمضان.

ص: 414

(وَهْيَ عِتْقُ رَقْبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيِّنَ مِسْكِيناً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَقَطَتْ).

هذه كفارة الجماع في نهار رمضان:

عِتْقُ رَقْبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيِّنَ مِسْكِيناً.

لحديث أبي هريرة - وقد تقدم - قال صلى الله عليه وسلم للمجامع (هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً? " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ? " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا? " قَالَ: لا

).

‌فائدة: 1

قوله (عتق رقبة).

يشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة، وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ-حملاً للمطلق هنا على المقيد في آية القتل (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

ب-ولحديث الجارية (قال لها رسول الله: أين الله؟ قالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم.

وجه الدلالة: أنه علل جواز إعتاقها عن الرقبة بأنها مؤمنة فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليه إلا مؤمنة.

‌فائدة: 2

قوله (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) بأن لا يكون هناك عبيد، أو لا يملك ثمنها.

ص: 415

‌فائدة: 3

قوله (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ).

o يجب التتابع في صيامهما، فلو أفطر بينهما يوماً واحداً من غير عذر استأنف من جديد.

o فإن تخلل هذا القضاء شهر رمضان، فإنه يصوم رمضان ثم يكمل من اليوم الثاني من شوال.

o إن تخلله فطر واجب كعيد الفطر أو الأضحى أو أيام التشريق لم ينقطع.

o إن أفطر بعذر يبيح الفطر فإن التتابع لا ينقطع، أما إذا تحيل بالسفر على الفطر فإن التتابع ينقطع.

فالخلاصة: أن التتابع في الصيام لا ينقطع في ثلاث مسائل:

إذا انقطع التتابع بصوم واجب كرمضان.

وإذا انقطع لفطر واجب كالعيدين وأيام التشريق.

وإذا انقطع التتابع لعذر يبيح الفطر في رمضان.

o إن أفطر لصوم مستحب انقطع التتابع.

o المذهب: المعتبر بالشهرين الأهلة إذا ابتدأ من أول الشهر سواء كان 30 يوماً أو كان 29 يوماً.

وإن ابتدأ من أثناء الشهر فالمعتبر العدد.

مثال: رجل صام من (1) محرم، وكان محرم (29) يوماً ينتهي الشهر، وكان مثلاً صفر (29) يوماً فإنه يجزي ويكون صام (58) يوماً.

لكن إن صام من أثناء الشهر فالمعتبر العدد، فلو صام من اليوم (11) من محرم، فإنه ينقضي الشهر الأول (11) من صفر، ثم يشرع في (12) صفر وينقضي الشهر ب (12) من ربيع الأول. فيكون قد صام (60) يوماً.

والصحيح أن المعتبر بالشهرين الأهلة مطلقاً سواء صام من أول الشهر أو من أثنائه.

‌فائدة: 4

قوله (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيِّنَ مِسْكِيناً).

o لا يجوز أن يطعم إلا إذا كان عاجزاً عن الصيام لمرض لا يرجى برؤه.

o يجزئ كل شيء يكون قوتاً للبلد، لأن الله تعالى قال (إطعام ستين مسكيناً) ولم يخصص من أي نوع، فيرجع ذلك إلى ما جرى به العرف. وهذا اختيار ابن تيمية.

o الواجب إطعام ستين مسكيناً لا يجزئ أقل من ذلك، فمن أطعم واحداً [60] يوماً لم يكن أطعم إلا واحداً فلم يتمثل الأمر.

ص: 416

‌بَابُ مَا يُكْرَهُ، وَيُسْتَحَبُّ، وَحُكْمِ القَضَاءِ

(يُكْرَهُ جَمْعُ رِيقِهِ فَيَبْتَلِعَهُ).

أي: يكره جمع ريقه فابتلاعه.

للخروج من خلاف من قال بفطره. (الروض المربع).

(أي: خلاف من قال إنه إذا فعل ذلك أفطر، فإن من العلماء من يقول: إن الصائم إذا جمع ريقه فابتلعه أفطر).

ولإِمْكانِ التَّحَرُّزِ منه. (الشرح الكبير).

وذهب بعض العلماء: إلى إنه لا يكره.

قال الشيخ ابن عثيمين: لا بأس أن يبلع الصائم ريقه، لكن بعض العلماء قال يكره أنه يجمع الريق ثم يبتلعه، وأما بدون جمع، فإن الريق لا يضر سواء قل أم كثر على أنه لو جمعه وابتلعه فلا حرج عليه، فلا يفطر بذلك، لأنه لم يأكل ولم يشرب، والمحرم هو الأكل والشرب.

(نور ع الدرب).

‌فائدة:

قوله (جَمْعُ رِيقِهِ فَيَبْتَلِعَهُ) لو بلع ريقه من غير جمع فإنه لا يكره.

قال ابن قدامة: وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، كَابْتِلَاعِ الرِّيقِ لَا يُفَطِّرُهُ، لِأَنَّ اتِّقَاءَ ذَلِكَ يَشُقُّ، فَأَشْبَهَ غُبَارَ الطَّرِيقِ، وَغَرْبَلَةَ الدقيق.

(المغني).

وقال في الشرح الكبير: لا يُفَطِّرُ ابْتِلاعُ الرِّيقِ إذا لم يَجْمَعْه، بغيرِ خِلافٍ نَعْلَمُه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ منه، أشْبَهَ غُبارَ الطّرِيقِ.

وقال النووي: ابْتِلَاعُ الرِّيقِ لَا يُفْطِرُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ عَلَى الْعَادَةِ، لِأَنَّهُ يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْه. (المجموع)

ص: 417

(وَيَحْرُمُ بَلْعُ النُّخَامَةِ).

أي: ويحرم - على الصائم وغير الصائم - بلع النخامة.

لأنه مستقذر والأشياء المستقذرة لا يجوز للإنسان أن يبتلعها.

(وَيُفْطِرُ بِهَا فَقَطْ إِنْ وَصَلَتْ إِلَى فَمِهِ).

أي: أن النخامة تفطر إلى وصلت إلى الفم فابتلعها.

وهذا المذهب، وهو قول الشافعية.

وذهب بعض العلماء: إلى أنها لا تفطر.

لأنها لم تخرج من الفم، ولا يُعد بلعها أكلاً ولا شرباً.

ورجحه الشيخ ابن عثيمين.

‌فائدة:

البلغم أو النخامة إذا لم تصل إلى الفم فإنها لا تفطر قولاً واحداً في المذهب.

(وَيُكْرَهُ ذَوْقُ طَعَامٍ بِلَا حَاجِةٍ)

أي: يكره للصائم أن يتذوق الطعام من غير حاجة، فإن كان لحاجة فلا يكره.

وهذا المذهب، وهو مذهب الحنفية، والشافعية.

أ- ورد عن بعض الصحابة ما يدل على جواز ذوق الطعام للصائم، ومن ذلك ما يلي:

قول ابن عباس رضي الله عنهما: لا بأس أن يتطعم القدر أو الشيء.

و قول الحسن البصري: لا بأس أن يتطاعم الصائم العسل والسمن ونحوه ويمجه.

قول مجاهد: لا بأس أن يتطعم الطعام من القدر.

ص: 418

وجه الاستدلال: دلت هذه الآثار على جواز تذوق الطعام للصائم، وأنه لا بأس به، وهذا محمول على ما إذا كان هناك حاجة للتذوق لإصلاح الطعام ومعرفة نضجه. وأما في حال غير وجود الحاجة الداعية لذلك، يكون جائزاً مع الكراهة؛ لأنه يعتبر تعريض للصوم للفساد بلا عذر.

ب- أن تذوق الطعام لا يأمن فيه عدم وصول المذوق للحلق، فمن الاحتراز وحفظ وصيانة الصوم كراهة فعل التذوق بلا حاجة داعية، ومع الحاجة والمصلحة يرخص فيه مع وجوب الاحتراز عند دخوله للحلق.

‌فائدة:

اختلف العلماء: إذا ذاق الصائم الطعام ثم وصل منه شيء إلى حلقه،

هل يفسد صومه ويُفطر بذلك أو لا؟ على قولين:

‌القول الأول: إذا ذاق الصائم الطعام ثم وصل منه شيء إلى حلقه فإنه يفطر بذلك.

وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وقول للحنابلة.

قالوا: لأن وصول الطعم إلى الحلق يفسد الصوم؛ لأنه قد دخل إلى ما لا يجوز دخوله إليه أثناء الصوم، وكذلك لا يعد ذوقاً بل يعتبر أنه قد أدخل الأكل إلى جوفه عن طريق الحلق.

‌القول الثاني: إذا ذاق الصائم الطعام ثم وصل منه شيء إلى حلقه،

فإنه لا يفسد صومه ولا يفطر بذلك.

وهو مذهب الشافعية.

ويمكن أن يستدل لهم بأنه إذا ثبت الإذن بالتذوق شرعاً، فما نتج عن المأذون فهو مأذون.

الترجيح: الذي يظهر - والله أعلم - رجحان القول الأول وهو أن وصول طعم المذوق منه للحلق للصائم يفسد الصوم، خاصة إذا قصده؛ لقوة ما استدلوا به، ولورود المناقشة على القول الآخر. والله أعلم. (بحث في موقع الملتقى الفقهي).

ص: 419

(وَمَضْغُ عِلْكٍ قَوِيّ).

أي: ويكره للصائم مضغ علك قوي. (والقوي: هو اليابس الذي لا يتحلل).

وهو الذي كلما مضغه صلب وقوي، لأنه يحلب البلغم، ويجمع الريق، ويورث العطش. (الروض).

لأنه ربما يتسرب إلى بطنه شيء من طعمه إن كان له طعم، فإن لم يكن له طعم فلا وجه للكراهة. (الشرح الممتع).

‌فائدة:

أما العلك الذي يتحلل فيحرم مضغه إذا بلغ ريقه.

جاء في (الروض المربع)(ويحرم) مضغ (العلك المتحلل) مطلقًا، إجماعًا، قاله في المبدع (إن بلع ريقه) وإلا فلا.

(وَتُكْرَهُ القُبْلَةُ لِمَنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ).

أي: وتكره القبلة للصائم إذا كانت تحرك شهوته.

فإن كانت لا تحرك شهوته فلا تكره.

فالقبلة للصائم على أنواع:

جائزة مباحة: إذا كانت لا تحرك شهوته.

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

مكروهة: إذا كانت تحرك شهوته.

تحرم: إذا كان لا يأمن فساد صومه. (لا يأمن الإنزال).

ص: 420

قال ابن قدامة: لَا يَخْلُو الْمُقَبِّلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:

أَنْ لَا يُنْزِلَ.

فَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يُمْنِيَ فَيُفْطِرَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إيمَاءِ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إنْزَالٌ بِمُبَاشَرَةٍ، فَأَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْجِمَاعِ دُونَ الْفَرْجِ

الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُمْذِي. (وتقدم هذا الكلام).

ثم قال ابن قدامة:

إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُقَبِّلَ إذَا كَانَ ذَا شَهْوَةٍ مُفْرِطَةٍ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إذَا قَبَّلَ أَنْزَلَ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْقُبْلَةُ؛ لِأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِصَوْمِهِ، فَحَرُمَتْ، كَالْأَكْلِ.

وَإِنْ كَانَ ذَا شَهْوَةٍ، لَكِنَّهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنَّهُ ذَلِكَ، كُرِهَ لَهُ التَّقْبِيلُ؛ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُ صَوْمَهُ لِلْفِطْرِ، وَلَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ. (المغني)

‌فائدة:

ذهب بعض العلماء إلى كراهة القبلة.

وهو المشهور عند المالكية، وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر أنه كان يكره القبلة لمباشرته.

ونقل عن قوم تحريمها.

ص: 421

لقوله تعالى (فالآن باشروهن) فمنع المباشرة في هذه الآية نهاراً.

والجواب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهاراً، فدل ذلك على أن المباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها.

وفرق قوم بين الشاب والشيخ فكرهها للشاب دون الشيخ.

لحديث عبد الله بن عمرو قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: يا رسول الله، أقبل وأنا صائم؟ قال: لا، فجاءه شيخ فقال: أقبل وأنا صائم؟ قال: نعم، قال: فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيخ يملك نفسه). رواه أبو داود

وهذا الحديث ضعفه الحافظ ابن حجر وابن القيم، وقال: لا يصح التفريق بين الشاب والشيخ، ولم يجيء من وجه يثبت.

ص: 422

‌فصل

هذا الفصل في سنن الصيام.

(وسُنَّ لِمَنْ شُتِمَ قَوْلُهُ: إِنِّي صَائِمٌ).

أي: يسن للصائم أن يقول لمن شاتمه: اللهم إني صائم.

لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْماً صَائِماً فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ) متفق عليه.

‌فائدة:

اختلف العلماء هل يشرع أن يقولها في كل صيام أو يختص بالفرض دون النفل؟

في ذلك قولان. وأصح القولين: أنه يقولها العبد في الحالين جميعاً واختاره ابن تيمية وابن عثيمين.

‌فائدة: 2

اختلف العلماء: هل يقول (إني صائم) جهراً أم سراً؟

فَقِيلَ: يَقُولهُ بِلِسَانِهِ جَهْرًا يَسْمَعهُ الشَّاتِم وَالْمُقَاتِل فَيَنْزَجِر غَالِبًا.

وَقِيلَ: لَا يَقُولهُ بِلِسَانِهِ، بَلْ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ؛ لِيَمْنَعَهَا مِنْ مُشَاتَمَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ وَمُقَابَلَتِهِ وَيَحْرِص صَوْمَهُ عَنْ الْمُكَدِّرَات.

قال ابن تيمية: وفيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.

قيل: يقول في نفسه فلا يرد عليه، وقيل: يقول بلسانه، وقيل: يفرق بين الفرض فيقول بلسانه والنفل يقول في نفسه، فإن صوم الفرض مشترك والنفل يخاف عليه من الرياء.

والصحيح أنه يقول بلسانه كما دل عليه الحديث، فإن القول المطلق لا يكون إلا باللسان، وأما ما في النفس فمقيد كقوله (عما حدثت به أنفسها - ثم قال - ما لم تتكلم أو تعمل به) فالكلام المطلق إنما هو الكلام المسموع.

ص: 423

وإذا قال بلسانه إني صائم بين عذره في إمساكه عن الرد، وكان أزجر لمن بدأه بالعدوان.

(منهاج النبوة).

ومما يدل على الجهر بها:

أ- حديث أبي هريرة السابق (فليقل: إني صائم .. ) فالقول المطلق لا يكون إلا باللسان.

ب-ولأن مقصود هذه السنة زجر الشاتم، وهذا لا يتحقق إلا بإخباره، فإذا أسر قد يمضي في غيه، والمسلم يرتدع بطريق الديانة إذا علم أن صاحبه صائم.

ج-أن من السنة تكرار هذا القول مرتين، لأنه أقرب إلى إمساك صاحبه عنه، والتكرار لا يتصور إلا بالقول اللساني.

‌فائدة: 3

الوارد أن يقول هذه الجملة مرتين (إني صائم، إني صائم).

‌فائدة: 3

أن المحفوظ في الألفاظ المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر (اللهم) فلا يشرع أن يقول: اللهم إني صائم.

‌فائدة: 4

لا يشرع للعبد أن يقول غير هذا القول إذا سب أو خوصم في صيامه، وأما ما ورد - كما عند ابن خزيمة وغيره - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وإن كنت قائماً فاجلس) فهذه اللفظة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 424

(ويسن السحور).

أي: ويسن للصائم أن يتسحر.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً) متفق عليه.

فهذا الحديث دليل على استحباب السحور.

قال في المغني: ولا نعلم فيه خلافاً. (أي في استحبابه).

وقال ابن المنذر: وأجمعوا على أن السحور مندوب إليه.

‌فائدة: 1

قوله (تسحروا) لم نقل بوجوبه لوجود الصارف عن ذلك، وهو وصال النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه.

قال البخاري: باب بركة السحور من غير إيجاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا ولم يذكر السحور.

ويشير البخاري إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ قال: وأيكم مثلي؟ إني يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا).

ص: 425

‌فائدة: 2

قوله صلى الله عليه وسلم (بركة) هذه البركة تشمل:

أولاً: اتباع السنة.

ثانياً: مخالفة أهل الكتاب.

ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر).

ثالثاً: أن السحور يعطي الصائم قوة لا يمل معها الصيام.

رابعاً: أنه يكون سبباً للانتباه من النوم في وقت السحر الذي هو وقت الاستغفار والدعاء، وفيه ينزل الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا.

خامساً: مدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع.

سادساً: الزيادة في النشاط.

‌فائدة: 3

يحصل السحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب.

فقد جاء عند أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ (السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين).

ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة (تسحروا ولو بلقمة).

وعند أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم سحور المؤمن التمر).

ص: 426

(وتأخيره).

أي: ويسن تأخير السحور.

أ-لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر). متفق عليه

زاد أحمد (وأخروا السحور).

ب- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهما قَالَ (تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلاةِ. قَالَ أَنَسٌ: قُلْت لِزَيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً) متفق عليه.

(كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ) المراد بالأذان هنا الإقامة، فقد جاء في رواية للبخاري (

فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى قُلْنَا لأَنَسٍ كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ قَالَ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً).

فهذا الحديث يدل على أنه يستحب تأخير السحور إلى قبيل الفجر، فقد كان بين فراغ النبي صلى الله عليه وسلم ومعه زيد من سحورهما، ودخولهما في الصلاة، قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية من القرآن، قراءة متوسطة لا سريعة ولا بطيئة، وهذا يدل على أن وقت الصلاة قريب من وقت الإمساك.

والمراد بالأذان الإقامة، سميت أذاناً لأنها إعلام بالقيام إلى الصلاة.

قال ابن حجر: وهي قدر ثلث خمس ساعة، أي أربع دقائق.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لكنى قرأتها فبلغت نحو ست دقائق.

ص: 427

(وتعجيل فطر).

أي: ويسن تعجيل الفطر.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ) متفق عليه.

ومعنى التعجيل: أنه بمجرد غياب قرص الشمس من الأفق يفطر.

قال ابن دقيق العيد: في هذا الحديث رد على الشيعة في تأخيرهم الفطر إلى ظهور النجوم، ولعل هذا هو السبب في وجود الخير بتعجيل الفطر، لأن الذي يؤخره يدخل في فعل خلاف السنة.

‌فائدة: 1

ثمرات تعجيل الفطر:

أولاً: في تعجيل الإفطار اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعجل الإفطار.

عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (كنا مع رسول الله في سفر وهو صائم، فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان، قم فاجدح لنا [أي اخلط السويق بالماء] فقال: يا رسول الله، لو أمسيت، قال: انزل فاجدح لنا، قال: إن عليك نهاراً، قال: انزل فاجدح لنا، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا أفطر الصائم). متفق عليه

ثانياً: تعجيل الفطر من أخلاق الأنبياء.

قال أبو الدرداء: ثلاث من أخلاق الأنبياء: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة. رواه الطبراني

ثالثاً: أن في تعجيل الفطور علامة أن الناس بخير.

لحديث الباب.

رابعاً: في تعجيل الفطور مخالفة لليهود والنصارى.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون). رواه أبو داود

ص: 428

قال ابن حجر: وتأخير أهل الكتاب له أمد، وهو ظهور النجم، وقد روى ابن حبان والحاكم من حديث سهل أيضاً بلفظ:

(لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم) وفيه بيان العلة في ذلك.

خامساً: في تعجيل الفطور تيسير على الناس، وبعد عن التنطع، وقد امتثل هذا الأدب الصحابة.

قال البخاري: أفطر أبو سعيد حين غاب قرص الشمس.

وقال عمرو بن ميمون: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً، وأبطأهم سحوراً). رواه عبد الرزاق

‌فائدة: 2

يفطر الصائم أول ما تغرب الشمس.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم).

قوله (فقد أفطر الصائم) قال ابن حجر: أي دخل في وقت الفطر.

ويحتمل أن يكون معناه: فقد صار مفطراً في الحكم لكون الليل ليس ظرفاً للصيام الشرعي، وقد رد ابن خزيمة هذا الاحتمال، وأومأ إلى ترجيح الأول.

قال ابن حجر: ولا شك أن الأول أرجح.

وقال القرطبي: يحتمل أن يكون معناه: دخل في وقت الفطر.

ص: 429

كما يقول العرب: أظهر: دخل في وقت الظهر. وأشهر: دخل في الشهر. وأنجد وأتهم: إذا دخل فيهما. أعني: الموضعين وعلى هذا: لا يكون فيه تعرض للوصال، لا بنفي ولا بإثبات.

ويحتمل أن يكون معناه: فقد صار مفطرًا حكمًا. ومعنى هذا: أن زمان الليل يستحيل فيه الصوم الشرعي. (المفهم).

وقال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْل وَأَدْبَرَ النَّهَار وَغَابَتْ الشَّمْس فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِم)

مَعْنَاهُ: اِنْقَضَى صَوْمه وَتَمَّ، وَلَا يُوصَف الْآن بِأَنَّهُ صَائِم، فَإِنَّ بِغُرُوبِ الشَّمْس خَرَجَ النَّهَار وَدَخَلَ اللَّيْل، وَاللَّيْل لَيْسَ مَحِلًّا لِلصَّوْمِ. وَقَوْله صلى الله عليه وسلم:(أَقْبَلَ اللَّيْل وَأَدْبَرَ النَّهَار وَغَرَبَتْ الشَّمْس) قَالَ الْعُلَمَاء: كُلّ وَاحِد مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَة يَتَضَمَّن الْآخَرَيْنِ وَيُلَازِمُهُمَا، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون فِي وَادٍ وَنَحْوه بِحَيْثُ لَا يُشَاهِد غُرُوب الشَّمْس، فَيَعْتَمِد إِقْبَال الظَّلَّام وَإِدْبَار الضِّيَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.

‌فائدة: 3

قوله (وتعجيل فطر) فيه أنه لا يسن الوصال.

وقد جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اَلْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ تُوَاصِلُ? قَالَ: " وَأَيُّكُمْ مِثْلِي? إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي ". فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ اَلْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا اَلْهِلَالَ، فَقَالَ: " لَوْ تَأَخَّرَ اَلْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ " كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ص: 430

‌أ- تعريف الوصال:

الوصال هو: صوم يومين فصاعداً من غير أكل وشرب بينهما. [قاله النووي].

وقال ابن قدامة: وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب.

وقال القاضي عياض: هو متابعة الصوم دون الإفطار بالليل.

وقال ابن الأثير: هو أن لا يُفْطِرَ يَوْمَيْن أو أيَّاماً.

‌ب- اختلف العلماء في حكم الوصال على أقوال:

‌القول الأول: أنه محرم.

وهو مذهب الجمهور.

قال ابن حجر: وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال.

أ-لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه كما جاء في حديث الباب (نهى عن الوصال).

ب-وفي رواية: (لا تواصلوا

).

ج-ولابن خزيمة: (إياكم والوصال).

د-ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، فقد أفطر الصائم).

قال الحافظ ابن حجر: إذ لم يجعل الليل محلاً لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر.

ص: 431

‌القول الثاني: أنه جائز.

قال الحافظ ابن حجر: وقد ذهب إلى جوازه مع عدم المشقة، عبد الله بن الزبير، وروي أن أبى شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً.

أ-مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ولو كان حراماً ما أقرهم على فعله.

ب-إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي، فدل هذا على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما أقدموا عليه.

ج-ومن الأدلة حديث عائشة قالت: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم).

قال ابن حجر: ويدل على أنه ليس بمحرم ما أخرجه أبو داود وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه) وإسناده صحيح، فإن الصحابي قد صرح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرم الوصال.

القول الثالث: أنه جائز إلى السحر والمبادرة بالفطر أفضل.

وهذا قول أحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وابن خزيمة.

لحديث أبي سعيد عند البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر).

ورجح هذا القول ابن القيم، وقال: وهذا القول أعدل الأقوال، أن الوصال يجوز من سحر إلى سحر، وهو أعدل الوصال وأسهله على الصائم.

ص: 432

ج- الحكمة من النهي عن الوصال:

أولاً: رحمة بهم، وإبقاء عليهم.

وفي التنزيل (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت (نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رَحمة لهم) رواه البخاري ومسلم.

ثانياً: النهي عن التعمّق والتكلّف.

قال الإمام البخاري: باب الوصال. ومَن قال ليس في الليل صيام لقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه رحمة لهم وإبقاء عليهم، وما يُكْرَه مِن التَّعَمُّق.

وفي حديث أنس رضي الله عنه: قال (وَاصَل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر، وواصَل أناس مِن الناس، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ) رواه البخاري ومسلم.

ثالثاً: لِمَا فيه مِن ضعف القوة، وإنهاك الأبدان. قاله القرطبي.

رابعاً: دَفْع الْملل.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ). رواه البخاري ومسلم

ولَما نَهى عن الوصال صلى الله عليه وسلم قال (فَاكْلَفُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ) متفق عليه.

خامساً: يُنهَى عن الوصال مِن أجل مُخالفة أهل الكتاب.

ولذلك كانت أكلة السَّحَر مِما يُخالَف به أهل الكتاب.

سادساً: لِمَا في الوصال مِن تضييع الحقوق والتقصير فيها.

ص: 433

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يصوم النهار ويقوم الليل، فلمّا زاره سلمان رضي الله عنه قال له سلمان: إن لربك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعطِ كل ذي حق حقّه، فأتى أبو الدرداء النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان. رواه البخاري.

د-معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (يطعمني ربي ويسقيني):

اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم (يطعمني ربي ويسقيني):

فقيل: هو على حقيقته.

وضعفه النووي، فقال: لو كان حقيقة لم يكن مواصلاً.

وضعفه ابن القيم، فقال: إنه غَلِطَ من قال: إنه كان يأكل ويشرب طعاماً وشراباً يتغذى به بدنه لوجوه:

أحدهما: أنه قال (أظل عند ربي يطعمني ويسقيني) ولو كان أكلاً وشراباً لم يكن وصالاً ولا صوماً.

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنهم ليس كهيئتهم في الوصال، فإنهم إذا واصلوا تضرروا بذلك، وأما هو صلى الله عليه وسلم فإنه إذا واصل لا يتضرر بالوصال، فلوا كان يأكل ويشرب لكان الجواب: وأنا أيضاً لا أواصل، بل آكل وأشرب، كما تأكلون وتشربون فلما قررهم: إنك تواصل، ولم ينكر عليهم، دلّ على أنه كان مواصلاً وأنه لم يكن أكلاً وشراباً يفطر الصائم.

الثالث: أنه لو كان أكلاً وشراباً يفطر الصائم لم يصح الجواب بالفارق بينهم وبينه، فإنه حينئذٍ صلى الله عليه وسلم هو وهم مشتركون في عدم الوصال، فكيف يصح الجواب بقوله: لست كهيئتكم.

وقيل: يجعل الله فيه قوة الطاعم الشارب.

ص: 434

ونسبه ابن حجر للجمهور.

وقيل: أن المراد ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته، وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح.

ورجح هذا القول ابن القيم، وقال: وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان، ومن له أدنى تجربة وشوق، يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه، والرضى عنه.

(عَلَى رُطَبٍ، فَإِنْ عُدِمَ فَتَمْرٌ، فَإِنْ عُدِمَ فَمَاءٌ).

أي: يسن كون الفطر يكون على رطب، فإن عدم الرطب فعلى تمر، فإن عدم الرطب والتمر فعلى ماء.

لحديث أنس قال (كان رسول صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات، فإن لم تكن فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسَوات من ماء) رواه الترمذي، وصححه الدارقطني.

وجاء عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ اَلضَّبِّيِّ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

‌فائدة: 1

قوله (فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ) هذا الأمر بالحديث للاستحباب.

ويدل لذلك حديث ابن أبي أوفى قال: (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، فلما غربت الشمس قال: انزل فاجدح لنا، قال: يا رسول الله، لو أمسيت

).

ص: 435

قوله (فاجدح) بالجيم ثم بالحاء، والجدح تحريك السويق ونحوه بالماء بعود يقال له المجدح.

قال ابن حجر: وشذ ابن حزم فأوجب الفطر على التمر وإلا فعلى الماء.

‌فائدة: 2

الحكمة من الفطر على التمر:

قال ابن القيم رحمه الله: وكان يحض على الفطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة، أدعى إلى قبوله، وانتفاع القوى به،

وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان أولى بالظمآن الجائع، أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده.

وقال الشوكاني: وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم، وهذا أحسن ما قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة.

(وقولُ ما وردَ).

أي: ويسن أن يقول عند فطره ما ورد.

عن ابن عمر قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: " ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) رواه أبو داود.

وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) قال الدارقطني: إسناده حسن ".

وأما دعاء: " اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت " فقد رواه أبو داود وهو حديث مرسل، فهو ضعيف.

ص: 436

‌فائدة: 1

وقد وردت أحاديث في فضل دعوة الصائم منها:

عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر) رواه البيهقي.

وعن أبي أمامة مرفوعاً (لله عند كل فطر عتقاء) رواه أحمد.

وعن أبي سعيد الخدري مرفوعاً (إن الله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلية - يعني في رمضان - وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة) رواه البزار.

وهذه الأحاديث اختلف العلماء في صحتها _ والله أعلم -.

جاء في (الموسوعة الفقهية) أَمَرَ اللَّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَذَكَرَ إِكْمَال الْعِدَّةِ ثُمَّ قَال (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَال ابْنُ كَثِيرٍ: فِي ذِكْرِهِ تَعَالَى هَذِهِ الآْيَةَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الدُّعَاءِ مُتَخَلِّلَةً بَيْنَ أَحْكَامِ الصِّيَامِ إِرْشَادٌ إِلَى الاِجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ إِكْمَال الْعِدَّةِ بَل وَعِنْدَ كُل فِطْرٍ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: لِلصَّائِمِ عِنْدَ إِفْطَارِهِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَة، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِذَا أَفْطَرَ دَعَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ ثُمَّ دَعَا، وَلِمَا رُوِيَ أَيْضًا: إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةً مَا تُرَد. (انتهى).

وقال النووي: يستحب للصائم أن يدعو في حَالِ صَوْمِهِ بِمُهِمَّاتِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا لَهُ وَلِمَنْ يُحِبُّ وَلِلْمُسْلِمِينَ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ وَالْمَظْلُومُ ـ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ ـ وَهَكَذَا الرِّوَايَةُ حَتَّى بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ فَيَقْتَضِي اسْتِحْبَابُ دُعَاءِ الصَّائِمِ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ إلَى آخِرِهِ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى صَائِمًا فِي كُلِّ ذَلِك. (المجموع).

‌فائدة: 2

قال الشيخ ابن عثيمين: الدعاء يكون قبل الإفطار عند الغروب؛ لأنه يجتمع فيه انكسار النفس والذل وأنه صائم، وكل هذه أسباب للإجابة وأما بعد الفطر فإن النفس قد استراحت وفرحت وربما حصلت غفلة، لكن ورد دعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لو صح فإنه يكون بعد الإفطار وهو: " ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله.

ص: 437

‌باب قضاء رمضان

(ومن أفطر برمضان فعليه القضاء).

أي: يجب على من أفطر في رمضان لعذر السفر، أو مرض، أو حيض، أو نفاس، أن يقضي هذه الأيام بعد رمضان.

أ- لقوله تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر).

ب- وعَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ (سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِى الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِى الصَّلَاةَ فَقَالَتْ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ قُلْتُ لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّى أَسْأَلُ. قَالَتْ كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فُنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ) متفق عليه.

‌فائدة:

فقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: امرأة عليها قضاء من رمضان، ولكنها شكت هل هي أربعة أيام أم ثلاثة، والآن صامت ثلاثة أيام فماذا يجب عليها؟

فأجاب: إذا شك الإنسان فيما عليه من واجب القضاء فإنه يأخذ بالأقل، فإذا شكَّت المرأة أو الرجل هل عليه قضاء ثلاثة أيام أو أربعة

؟ فإنه يأخذ بالأقل، لأن الأقل متيقن، وما زاد مشكوك فيه، والأصل براءة الذمة، ولكن مع ذلك: الأحوط أن يقضي هذا اليوم الذي شك فيه، لأنه إن كان واجباً عليه فقد حصلت براءة ذمته بيقين، وإن كان غير واجب فهو تطوع، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا " انتهى من "فتاوى نور على الدرب".

ص: 438

(ويُسنُ القضاءُ على الفور).

أي: أن الأفضل والمستحب أن يكون قضاء تلك الأيام فوراً.

لقوله تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُم).

وقوله أيضاً (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَات).

وأسرع في إبراء الذمة.

لكن لا يجب لذلك:

لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إلاَّ فِي شَعْبَانَ).

فهذا الحديث دليل على أن قضاء رمضان ليس على الفور بل هو على التراخي.

قال ابن قدامة:. . . أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ صَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَلَهُ تَأْخِيرُهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ رَمَضَانُ آخَرُ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصِّيَامُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَا أَقْضِيه حَتَّى يَجِيءَ شَعْبَانُ.

قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً سواء كان لعذر أو لغير عذر

لكن لا يجوز تأخيره عن شعبان.

‌فائدة:

الحديث دليل على أنه يجب قضاء رمضان قبل مجيء رمضان الثاني.

قال الحافظ: يُؤْخَذ مِنْ حِرْصهَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَعْبَان أَنَّهُ لا يَجُوز تَأْخِير الْقَضَاء حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَان آخَرُ.

جاء في (الموسوعة الفقهية): وقضاء رمضان يكون على التّراخي. لكن الجمهور قيّدوه بما إذا لم يفت وقت قضائه، بأن يهلّ رمضان آخر، لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان يكون عليّ الصّوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلاّ في شعبان، لمكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما لا يؤخّر الصّلاة الأولى إلى الثّانية

ولا يجوز عند الجمهور تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر يأثم به، لحديث عائشة هذا (ولا يجوزُ إلى رمضانٍ آخرَ من غير عذرٍ).

ص: 439

أي: لا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان من غير عذر.

‌فمن أخر قضاء رمضان إلى ما بعد رمضان الثاني فله أحوال:

‌الحالة الأولى: أن يؤخره بعذر.

كأن يستمر مرضه أو سفره.

فهنا يجب عليه القضاء فقط (فلا إثم ولا كفارة).

‌الحالة الثانية: أن يؤخره بغير عذر. فعليه:

‌أ-الإثم:

لأنه إذا أخره إلى ما بعد رمضان صار كمن أخر فريضة إلى وقت الثانية من غير عذر، ومعلوم أنه لا يجوز تأخير صلاة الفريضة إلى وقت الثانية إلا لعذر.

قال ابن قدامة: وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها لَمْ تُؤَخِّرْهُ إلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أَمْكَنَهَا لَأَخَّرَتْهُ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْأُولَى عَنْ الثَّانِيَةِ، كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ.

‌ب-القضاء.

‌ج-الكفارة: اختلف أهل العلم هل عليه كفارة أم لا؟

فقيل: عليه كفارة.

وهذا مذهب، والشافعي، وأحمد.

قال ابن قدامة: وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ إطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ.

ص: 440

وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ.

أ- ولما رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُمْ قَالُوا: أَطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.

وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُمْ.

ب- وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ صَوْمِ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ إذَا لَمْ يُوجِبْ الْقَضَاءَ، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ. (المغني).

وقيل: لا كفارة عليه.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

لأن الله قال (

فعدة من أيام أخر) فلم يوجب إلا الصيام.

ولم يرد دليل على إيجاب الكفارة.

وهذا القول اختاره الإمام البخاري رحمه الله، قال في صحيحه: قَالَ إِبْرَاهِيمُ -يعني: النخعي-: إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ طَعَامًا، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلا وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُطْعِمُ. ثم قال البخاري: وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ الإِطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ:(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). ا. هـ

والأول أحوط.

(ولا يصح ابتداء تطوعٍ من عليه قضاء رمضان).

أي: لا يصح أن يصوم الإنسان تطوعاً وعليه قضاء من رمضان.

وهذا المذهب.

لحديث هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أدرك رمضان وعليه من رمضان شيء لم يقضه لم يتقبل منه، ومن صام تطوعا وعليه من رمضان شيء لم يقضه فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه).

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز ذلك.

ص: 441

وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.

أ- لقول الله تعالى: (ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) ولم يقيد الله تعالى القضاء بالاتصال برمضان ولا بالتتابع

ب-ولحديث عائشة السابق قالت (كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان) متفق عليه.

ج-أن قضاء رمضان موسع، ومن المقرّر عند الفقهاء: أن الواجب الموسّع يجوز الاشتغال بالتطوع من جنسه قبل الاشتغال به.

قال ابن رجب في القواعد: "القاعدة الحادية عشرة: من عليه فرض، هل له أن يتنفّل قبل أدائه بجنسه أم لا؟ هذا نوعان: أحدهما: العبادات المحضة، فإن كانت موسّعة جاز التنفّل قبل أدائها كالصلاة بالاتفاق، وقبل قضائها أيضاً كقضاء رمضان على الأصح.

وقال ابن قدامة معلِّلاً سبب الجواز: لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع، فجاز التطوع بها في وقتها قبل فعلها.

(ومن مات وعليه صيام صام عنه وليه).

أي: إذا مات الإنسان وعليه صيام، فإنه يستحب لوليه أن يقضيه عنه.

لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ) متفق عليه.

فإن قيل: متى يكون على الميت صيام؟

ويكون عليه صيام إذا تمكن منه فلم يفعل، أما إذا لم يتمكن فليس عليه صيام.

ص: 442

مثال: إنسان نذر أن يصوم [3] أيام، ثم مات من يومه، فهذا ليس عليه شيء لأنه لم يتمكن منه.

مثال آخر: إنسان مرض في: 20 رمضان فأفطر، وتواصل به المرض شهر شوال وشهر ذي القعدة، ثم مات، فهذا ليس عليه صوم، فلا يقضى عنه، لأنه لم يمر عليه أيام يتمكن منها القضاء. (الشيخ ابن عثيمين).

قال الشيخ ابن عثيمين: ومفهوم الحديث أن من مات ولا صيام عليه لم يُصم عنه، وقد علمت مما سبق أن المريض إذا استمر به المرض لم يجب عليه الصوم أداء ولا قضاء في حال استمرار مرضه.

وقال ابن قدامة: وجملة ذلك أن من مات وعليه صيام من رمضان لم يَخلُ من حالين:

أحدهما: أن يموت قبل إمكان الصيام، إما لضيق الوقت، أو لعذر من مرض، أو سفر، أو عجز عن الصوم: فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم

ثم ذكر الحالة الثانية.

وقال النووي: فرع في مذاهب العلماء فيمن مات وعليه صوم فاته بمرض، أو سفر، أو غيرهما من الأعذار، ولم يتمكن من قضائه حتى مات:

ذكرنا أن مذهبنا لا شيء عليه، ولا يصام عنه، ولا يطعم عنه، بلا خلاف عندنا.

وبه قال أبو حنيفة ومالك والجمهور، قال العبدري: وهو قول العلماء كافةً إلا طاوساً وقتادة. (المجموع).

جاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) السؤال: كانت والدتي مريضة في شهر رمضان عام 97 هـ ولم تستطع صيام ثمانية أيام منه، وتوفيت بعد شهر رمضان بثلاثة أشهر، فهل أصوم عنها ثمانية الأيام، وهل يمكن تأجيلها إلى ما بعد رمضان 98 هـ أو أتصدق عنها؟

فكان الجواب: إذا كانت والدتك شفيت بعد شهر رمضان الذي أفطرت فيه ثمانية أيام، ومر بها قبل وفاتها وقت تستطيع القضاء فيه، وماتت ولم تقض، استحب لك أو لأحد أقاربها صيام ثمانية الأيام عنها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:(من مات وعليه صيام صام عنه وليه) متفق عليه، ويجوز تأجيل صيامها، والأَوْلى المبادرة به مع القدرة.

ص: 443

أما إن كان المرض استمر معها، وماتت ولم تقدر على القضاء، فلا يُقضَى عنها لعدم تمكنها من القضاء، لعموم قوله تعالى:(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) " انتهى.

‌فائدة: 1

اختلف العلماء: هل يشرع القضاء عن الميت على أقوال؟

‌القول الأول: أنه يقضى عنه النذر فقط.

وهو قول أحمد وإسحاق.

قال الحافظ: وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: لا يصام عنه إلا النذر، وأما رمضان فيطعم عنه.

حملاً للعموم الذي في حديث عائشة (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) على المقيد في حديث ابن عباس.

ففي حديث ابن عباس أن امرأة قالت (إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ. أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْهَا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ).

‌القول الثاني: يصام عن الميت النذر والواجب بأصل الشرع.

وهذا مذهب أبي ثور، وأهل الحديث، ونصره ابن حزم، واختاره ابن تيمية والشيخ السعدي.

ورجحه النووي، وقال: وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي نَعْتَقِدُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ مُحَقِّقُو أَصْحَابنَا الْجَامِعُونَ بَيْن الْفِقْه وَالْحَدِيث لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة.

أ- للحديث السابق (من مات

).

ب- ولحديث بريدة قال (بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال

: صومي عنها) رواه مسلم.

ص: 444

وجه الدلالة: أن عموم حديث عائشة يتناول رمضان وغيره، وفي حديث بريدة لم يستفصل من السائل عن هذا الشهر: هل هو رمضان أو غيره، ولو كان هناك فرق في الحكم لوجب الاستفسار أو بينه، فلما سكت عنه صلى الله عليه وسلم دل على اتحاد الحكم.

قال البيهقي عن حديث بريدة: فهذا الحديث قد صحَّ، وهو صريح في جواز الصوم عن الميت بعيدٌ من التأويل.

وقال الشوكاني عن حديث (من مات وعليه صوم): فيه دليل على أنه يصوم الولي عن الميت إذا مات وعليه صوم، أيّ صوم كان.

ج- ما ذكره ابن تيمية: أنه إذا جاز الإطعام عنه وهو ليس من جنس الصيام، فالصيام من باب أولى، لأنه أقرب إلى المماثلة.

القول الثالث: لا يصام عن الميت مطلقاً.

وهذا مذهب الجمهور.

قال النووي: وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَام عَنْ مَيِّت لَا نَذْر وَلَا غَيْره، حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، وَرِوَايَة عَنْ الْحَسَن وَالزُّهْرِيّ، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره: هُوَ قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء.

وقال الحافظ ابن حجر: وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة: لا يصام عن الميت.

أ- لحديث ابن عمر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من مات وعليه صوم رمضان، فليطعم عن كل يوم مسكيناً) رواه الترمذي (حديث ضعيف)

ب-لقول ابن عباس (لا يصلِّ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد). أخرجه النسائي

ج-ولقول عائشة (لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم). أخرجه عبد الرزاق. قالوا:

فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه، دلّ ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه.

ص: 445

قال ابن حجر: وهذه قاعدة لهم معروفة، إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة وعن ابن عباس فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جداً، والراجح أن المعتبر ما رواه لا ما رآه.

والراجح القول الثاني، وأنه يصام عنه الواجب بأصل الشرع والنذر.

• بماذا أجاب الجمهور عن حديث عائشة (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)؟

قالوا المراد بقوله (صام عنه وليه) أي يفعل عنه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام.

قال النووي: وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ، بَلْ بَاطِلٌ، وَأَيُّ ضَرُورَةٍ إِلَيْهِ وَأَيُّ مَانِع يَمْنَع مِنْ الْعَمَل بِظَاهِرِهِ مَعَ تَظَاهُرِ الْأَحَادِيثِ، مَعَ عَدَم الْمُعَارِض لَهَا، قَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابنَا: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنْهُ صَلَاةٌ فَائِتَة، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُصَام عَنْ أَحَد فِي حَيَاته، وَإِنَّمَا الْخِلَاف فِي الْمَيِّت.

وقال الشوكاني: وهو عذر بارد لا يتمسك به منصف في مقابلة الأحاديث الصحيحة.

• ما الجواب عن حديث ابن عمر (من مات وعليه صوم رمضان، فليطعم عن

الجواب عنه: أنه حديث لا يصح.

قال الترمذي: لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح عن ابن عمر موقوف قوله.

وقال ابن حجر: قال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن عمر.

وقال البيهقي: هذا خطأ من وجهين؛ أحدهما: رفعه الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول ابن عمر.

وقال النووي: ليس بثابت.

ص: 446

‌فائدة: 2

الأمر بالحديث (فليصم عنه وليه) ليس للوجوب عند جمهور العلماء، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادّعوا الإجماع على ذلك.

قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأن بعض أهل الظاهر أوجبه، فلعله لم يعتد بكلامهم على قاعدته.

الدليل على أنه غير واجب:

أ- أننا لو قلنا بالوجوب للزم أن يأثم الولي إذا لم يصم، والله يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالديْن، كما قال صلى الله عليه وسلم للمرأة (أرأيتِ لو كان على أمكِ ديْنٌ أكنتِ قاضيَتَه؟. . . فقال: صومي) ومن المعلوم أن الوارث لا يجب عليه قضاء ديْن مورثه.

‌فائدة: 3

اختلف العلماء في المراد بالولي في قوله (صام عنه وليه):

فقيل: كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عصبه، والأول أرجح.

قال النووي: وَالْمُرَاد بِالْوَلِيِّ الْقَرِيب، سَوَاء كَانَ عَصَبَةً أَوْ وَارِثًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَقِيلَ: الْمُرَاد الْوَارِث، وَقِيلَ: الْعَصَبَة، وَالصَّحِيح الْأَوَّل.

وقال في الفتح: واختلف في المراد بقوله (وليه) فقيل: كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عصبته، والأول أرجح، والثاني قريب، ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها.

‌فائدة: 4

يجوز أن يقضيه عن الميت أجنبي.

قال النووي: ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث أو غيره، فيبرأ به بلا خلاف.

‌فائدة: 5

لا يشترط التتابع في القضاء، فيجوز متتابعاً ويجوز متفرقاً.

‌فائدة: 6

هل يجوز إذا كان للميت عدد من الأولياء أن يتقاسموا أيام الصيام التي على مورثهم،

ويصوم كل واحد منهم قسماً منها سواء كانوا رجالاً أو نساءً أو من الصنفين؟

نعم يجوز، (هذا ما لم يشترط فيه التتابع كالكفارة، فإنه لا يجوز أن يصوموا جميعاً).

ص: 447

‌باب صيام التطوع

(يسن صوم التطوع).

أي: يسن الإكثار من صيام التطوع.

وقد تقدم في أول الباب الأحاديث التي تدل على فضل الصيام.

(وأفضلُه صوم يوم وإفطار يوم).

أي: أفضل صيام التطوع صوم يوم وإفطار يوم.

لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد. وَأَحَبَّ الصَّلاةِ إلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُد. كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ. وَيَنَامُ سُدُسَهُ. وَكَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً) متفق عليه.

وعنه (أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ: وَاَللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَقَالَ: فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ. وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ. قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ. قُلْتُ: أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْماً. فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد. وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ. فَقُلْتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) متفق عليه.

وإنما كان ذلك أعدل الصيام، وأحبه إلى اللَّه تعالى، لأن فاعله يُؤَدِّي الحقوق الواجبة عليه، كما تقدّم قريبًا، بخلاف من يصوم الدهر، أي يتابع الصوم، ويسرده، فإنه يفوّت بعض الحقوق، وقد لا يشقّ عليه باعتياده، فلا يحصّل المقصود من قمع النفس، نظير ما قاله الأطبّاء من أن المرض إذا تعوّد عليه البدنُ لم يَحتَج إلى دواء.

ص: 448

قال القرطبي: قوله (وهو أعدل الصيام) من جهة حفظ القوة، ووجدان صوم مشقة العبادة، وإذا كان أعدل في نفسه فهو عند الله أفضل وأحب.

قال في الفتح: في رواية عند البخاري (أحب الصيام إلى الله صيام داوود) يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقاً، ورواه مسلم والترمذي بلفظ (أفضل الصيام صيام داود) ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك من الصوم مفضولة.

‌فائدة: 1

قال ابن رجب: قوله صلى الله عليه وسلم في حق داود عليه السلام (كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى) يشير إلى أنه كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه ومجاهدته في سبيل الله.

‌فائدة: 2

هذا الصوم - صوم يوم وإفطار يوم - مشروط بما إذا لم يضيع ما أوجب الله عليه.

ففي حديث عبد الله بن عمرو السابق (. . . فَصُمْ يَوماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ)) قُلْتُ: فَإنِّي أُطِيقُ أفضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ:((فَصُمْ يَوماً وَأفْطِرْ يَوماً فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُد صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أعْدَلُ الصيامِ)).

وفي رواية: ((هُوَ أفْضَلُ الصِّيامِ)) فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:((لا أفضَلَ مِنْ ذلِكَ))، وَلأنْ أكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيّامِ الَّتي قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحَبُّ إليَّ مِنْ أهْلي وَمَالي).

وفي رواية (فَكَانَ عَبدُ الله يقول بَعدَمَا كَبِرَ: يَا لَيتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 449

ومعنى كلامه: أنه كبر، وعجز عن المحافظة على ما التزمه، ووظّفه على نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك عليه فعله لعجزه، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل، فتمنى أن لو قبِل الرخصة فأخذ بالأخف، ومع عجزه، وتمنّيه الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف، فقد ثبت عنه أنه كان حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام كذلك، يصل بعضها إلى بعض، ثم يفطر بعدد تلك الأيام، فيقوى بذلك، وكان يقول: لأن أكون قبلت الرخصة أحب إليّ مما عُدل به، لكنني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره. [قاله في الفتح]

قال الشيخ ابن عثيمين: ونأخذ من هذا فائدة، وهي أن الإنسان ينبغي ألا يقيس نفسه في مستقبله على حاضره، فقد يكون الإنسان في أول العبادة نشيطاً يرى أنه قادر، ثم بعد ذلك يلحقه الملل، أو يلحقهُ ضعف وتعب، ثم يندم، لهذا ينبغي للإنسان أن يكون عمله قصداً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم مرشداً أمته (اكلفوا من العمل ما تطيقون) أي: لا تكلفوا أنفسكم وقال: «استعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا) وقال (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) والمنبت هو الذي يسير ليلاً ونهاراً، فالإنسان ينبغي له أن يقدر المستقبل، لا يقول أنا الآن نشيط سأحفظ القرآن والسنة، وزاد المستقنع وألفية ابن مالك كلها في أيام قليلة، فهذا لا يمكن، فأعط نفسك حقها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).

ص: 450

(ويسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والأفضل أن تكون أيام البيض).

من الصيام التطوع: صيام 3 أيام من كل شهر.

أ- عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو -رضى الله عنهما- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَهِكَتْ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ صَوْمُ الشَّهْرِ كُلِّهِ). متفق عليه

وقد أوصى بذلك بعض الصحابة:

ب- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلاثٍ صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ) متفق عليه.

ج- وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ (أَوْصَانِي حَبِيبِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَبِأَنْ لَا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ) رواه مسلم.

د-ومنهم أبو ذر كما عند الترمذي.

هـ- وعن مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ (أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِى مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُوم) رواه مسلم.

ص: 451

(والأفضل أن تكون أيام البيض).

أي: أن الأفضل أن تكون هذه الأيام الثلاثة: 13 - 14 - 15 لورود أحاديث في الأمر بها:

أ-عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَصُومَ مِنْ اَلشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَاَلتِّرْمِذِيّ.

ب-وعن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام البيض صبيحة ثلاث عشر، وأربع عشر، وخمس عشر) رواه النسائي، قال المنذري: إسناده جيد. وقال الحافظ: إسناده صحيح.

ج-وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (إذا صمت من الشهر ثلاثاً، فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة) رواه النسائي والترمذي.

‌فائدة: 1

أيام البيض، سميت بذلك لأن لياليها بيضاً لوضوح القمر فيها.

‌فائدة: 2

ذكر السنديّ عن بعضهم أن الحكمة في صومها أنه لما عمّ النور لياليها ناسب أن تعمّ العبادة نهارها. وقيل: الحكمة في ذلك أن الكسوف يكون فيها غالبًا، ولا يكون في غيرها، وقد أُمرنا بالتقرّب إلى اللَّه تعالى بأعمال البرّ عند الكسوف انتهى (3).

ص: 452

(وَالاثْنَيْنِ والخَمِيسِ).

أي: ومن الصيام التطوع، صيام الاثنين والخميس.

أ-لحديث أَبِي قَتَادَةَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ " وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ " وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ اَلِاثْنَيْنِ، قَالَ: " ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ب- وعن عائشة قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صوم الاثنين والخميس) رواه الترمذي.

ج- وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم). رواه الترمذي

(وَسِتٍ مِنْ شَوَّالٍ).

أي: ومن الصيام التطوع: صيام ست أيام من شوال.

لحديث أَبِي أَيُّوبَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ اَلدَّهْرِ). رَوَاهُ مُسْلِم

فهذا الحديث دليل على استحباب صيامها.

وبالاستحباب قال الجمهور، وهو مذهب السلف والخلف.

وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك، حتى لا يظن وجوبها.

قال مالك: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها.

قال النووي رداً عليهم: وَدَلِيل الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح، وَإِذَا ثَبَتَتْ السُّنَّة لَا تُتْرَكُ لِتَرْكِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَوْ كُلِّهِمْ لَهَا، وَقَوْلهمْ: قَدْ يُظَنّ وُجُوبهَا، يُنْتَقَض بِصَوْمِ عَرَفَة وَعَاشُورَاء وَغَيْرهمَا مِنْ الصَّوْم الْمَنْدُوب.

وقال الشوكاني رداً عليهم: وهو باطل لا يليق بعاقل، فضلاً عن عالماً نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة، وأيضاً يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها، ولا قائل بها.

ص: 453

وأحسن ما اعتذر به عن مالك:

ما قاله شارح موطئه أبو عمر بن عبد البر: إن هذا الحديث لم يبلغ مالكاً، ولو بلغه لقال به ..

‌فائدة: 1

يجوز صوم هذه الأيام متفرقة ومتتابعة.

قال في سبل السلام: واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية، ومن صامها عقيب العيد أو في أثناء الشهر.

لكن الأفضل عقيب العيد مباشرة لعدة اعتبارات:

o المسارعة في فعل الخير.

o المسارعة إليها دليل على الرغبة في الصيام والطاعة.

o أن لا يعرض له من الأمور ما يمنعه من صيامها إذا أخرها.

o أن صيام ستة أيام بعد رمضان كالراتبة بعد فريضة الصلاة، فتكون بعدها.

‌فائدة: 2

قوله (كصيام الدهر) المراد بالدهر العام.

قال النووي: قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين، وقد جاء في هذا حديث مرفوع في كتاب النسائي.

ص: 454

‌فائدة: 3

هل يصح صوم ست من شوال لمن عليه قضاء من رمضان؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأول: لا يصح صيامها لمن عليه قضاء من رمضان.

وهذا اختيار الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحم الله الجميع.

لقوله (من صام رمضان) أي كاملاً، فلا يصح صيام ست من شوال إلا باستكمال رمضان، وأما الذي عليه بقية من رمضان فلا يصدق في حقه أنه صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال.

‌القول الثاني: أنه يجوز.

وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة اختارها ابن قدامة وغيره.

أ-لفعل عائشة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها.

ب-ولأن قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ) خرج مخرج الغالب.

ج-ولو أخذ قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ) على ظاهره لم يدخل في هذه الفضيلة الكثير من النساء؛ لأن المرأة يأتيها العذر أثناء رمضان فيكون عليها قضاء.

د-ومن المعلوم أن الفرض إذا كان موسعاً فإنه لا حرج أن يتنفل صاحبه، بدليل ما لو أذن الظهر مثلاً فإن الإنسان يصلي الراتبة القبلية مع أنه مخاطب بالفرض، لأن الوقت واسع، وكذلك بالنسبة لرمضان فإن وقت قضائه واسع كما ثبت ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها (كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ الشُّغُلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم متفق عليه.

وهذا أرجح.

ص: 455

‌فائدة: 4

ما الحكم إن أخر صيام الست من شوال حتى خرج شوال بلا عذر؟

إن أخرها بلا عذر، فإنه لا يقضيها لأنه تركها بلا عذر.

‌فائدة: 5

حكم إن أخرها بعذر كمرض أو حيض؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

قيل: يقضيها، واختاره السعدي.

قال السعدي: أما إن كان له عذر من مرض أو حيض أو نفاس أو نحو ذلك من الأعذار التي بسببها أخر صيام قضائه أو أخر صيام الست فلا شك في إدراك الأجر الخاص، وقد نصوا على ذلك.

وأما إذا لم يكن له عذر أصلاً بل أخر صيامها إلى ذي القعدة أو غيره فظاهر النص على أنه لا يدرك الفضل الخاص، وأنه سنة في وقت فات محله، كما إذا فاته صيام عشر ذي الحجة أو غيرها حتى فات وقتها، فقد زال ذلك المعنى الخاص وبقي الصيام المطلق.

وقيل: لا يقضيها، وهذا أرجح.

لأنها مؤقتة بوقت وقد مضى هذا الوقت.

ص: 456

(وَشَهْرِ المُحَرَّمِ).

أي: ومن الصيام التطوع صيام شهر الله المحرم.

لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ) رواه مسلم.

‌فائدة: 1

اختلف العلماء: ما الأفضل صوم شعبان أم صوم محرم على قولين:

‌القول الأول: صوم محرم.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم). رواه مسلم

فهذا تصريح بأنه أفضل الشهور.

قالوا: وأما إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون محرم، فلعله إنما علم فضله في آخر حياته.

أو لعلة كان يعرض عليه أعذار من سفر أو مرض أو غيرهما. [قاله النووي]

‌القول الثاني: صوم شعبان أفضل.

ورجح هذا ابن رجب رحمه الله، وقال: ويكون قوله (أفضل الصيام بعد رمضان المحرم) محمولاً على التطوع المطلق بالصيام، فأما ما قبل رمضان وبعده فإنه يلتحق به في الفضل، كما أن قوله في تمام الحديث:(وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل) إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء.

ص: 457

قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (أَفْضَل الصِّيَام بَعْد رَمَضَان شَهْر اللَّه الْمُحَرَّم)

تَصْرِيح بِأَنَّهُ أَفْضَل الشُّهُور لِلصَّوْمِ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَاب عَنْ إِكْثَار النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَوْم شَعْبَان دُون الْمُحْرِم، وَذَكَرنَا فِيهِ جَوَابَيْنِ:

أَحَدهمَا: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَلِمَ فَضْلَهُ فِي آخِر حَيَاته.

وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِض فِيهِ أَعْذَار، مَنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. (نووي).

وقال ابن رجب: فإن قيل: فكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم)؟

فالجواب: أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية، لاعتقادهم أن صيام المحرم والأشهر الحرم أفضل من شعبان كما صرح به الشافعية و غيرهم.

والأظهر خلاف ذلك وأن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم.

ويدل على ذلك ما خرجه الترمذي من حديث أنس (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان تعظيماً لرمضان) وفي إسناده مقال.

وفي سنن ابن ماجه (أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صم شوالاً) فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالاً حتى مات) وفي إسناده إرسال.

وقد روي من وجه آخر يعضده.

ص: 458

فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم، وإنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده كما أن شعبان يليه من قبله، وشعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه وسلم له دون شوال، فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى.

فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريباً من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم (أفضل الصيام بعد رمضان المحرم) محمولاً على التطوع المطلق بالصيام، فأما ما قبل رمضان وبعده فإن يلتحق في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث (وأفضل الصلاة بعد المكتوبة: قيام الليل) إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية و الله أعلم.

قال الشيخُ ابنُ عثيمين: واختلف العلماءُ رحمهم الله أيهما أفضلُ صوم شهر المحرم، أم صوم شعبان؟

فقال بعضُ العلماءِ: شهرُ شعبانَ أفضلُ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومهُ إلا قليلاً منهُ ولم يُحفظ عنهُ أنه كان يصومُ شهرَ المحرمِ، لكنهُ حث على صيامهِ بقوله: " إنهُ أفضلُ الصيامِ بعد رمضان.

قالوا: ولأن صومَ شعبانَ ينزلُ منزلةَ الراتبةِ قبل الفريضةِ، وصومَ المحرمِ ينزلُ منزلةَ النفلِ المطلقِ، ومنزلةُ الراتبةِ أفضلُ من منزلةِ المطلقِ، وعلى كلٍ فهذان الشهران يسنُ صومهما، إلا أن شعبانَ لا يكملهُ.

ص: 459

‌فائدة: 2

قال الحافظُ ابنُ رجبٍ: وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرمَ شهرَ اللهِ، وإضافتهُ إلى اللهِ تدلُّ على شرفهِ وفضلهِ، فإن اللهَ تعالى لا يضيفُ إليه إلا خواصَّ مخلوقاتهِ، كما نسبَ محمداً وإبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ وغيرَهم من الأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم وسلامهُ إلى عبوديتهِ، ونسبَ إليه بيتهُ وناقتهُ، ولما كان هذا الشهرُ مختصاً بإضافتهِ إلى اللهِ تعالى، وكان الصيامُ من بين الأعمالِ مضافاً إلى الله تعالى، فإنهُ لهُ من بين الأعمالِ، ناسبَ أن يختصَّ هذا الشهرُ المضافُ إلى اللهِ بالعملِ المضافِ إليهِ، المختصِّ به، وهو الصيام.

‌فائدة: 3

اختلف أهل العلم رحمهم الله في مدلول الحديث

؛ هل يدل الحديث على صيام الشهر كاملاً أم أكثره؟

وظاهر الحديث - والله أعلم- يدل على فضل صيام شهر المحرم كاملاً.

وحمله بعض العلماء على الترغيب في الإكثار من الصيام في شهر المحرم لا صومه كله.

لقول عائشة رضي الله عنها (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) أخرجه مسلم.

ولكن قد يقال إن عائشة رضي الله عنها ذكرت ما رأته هنا ولكن النص يدل على صيام الشهر كاملًا.

(وآكَدُهُ العَاشِرُ، ثُمَّ التَّاسِعُ).

أي: آكد صوم شهر المحرم العاشر ثم التاسع.

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ " وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ " وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ اَلِاثْنَيْنِ، قَالَ: " ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ) رَوَاهُ مُسْلِم.

وعاشوراء: هو اليوم العاشر من محرم، وهذا مذهب جمهور العلماء.

ص: 460

ثم يليه تاسوعاء.

فالأفضل أن يصوم مع العاشر التاسع، وعلى هذا جاءت أكثر الأحاديث.

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع). رواه مسلم

وقد روى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال (صوموا التاسع مع العاشر).

وأما حديث: صوموا يوماً قبله وبعده - وكذلك حديث: صوموا يوماً قبله أو بعده، ضعيفة لا تصح.

‌فائدة: 1

ما الحكمة من استحباب صوم اليوم التاسع مع العاشر؟

قال النووي: وذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم في حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجهاً:

أحدها: أن المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر وهو مروى عن ابن عباس في حديث رواه الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود وصوموا قبله يوماً وبعده يوماً.

الثاني: أن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم كما نهى أن يصام يوم الجمعة وحده ذكرهما الخطابي وآخرون.

الثالث: الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع غلط فيكون التاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة مثل قوله في عاشوراء: لئن عشتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع.

وقال ابن حجر رحمه الله في تعليقه على حديث (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع): ما همّ به من صوم التاسع يحتمل معناه ألا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطاً له، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يُشعر بعض روايات مسلم.

ص: 461

‌فائدة: 2

هل يكره إفراد صوم عاشوراء؟

لا، لا يكره.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر وأمر به، ويحصل بصيامه الأجر المترتب على ذلك من التكفير.

‌فائدة: 3

سبب صيام عاشوراء:

ما جاء في حديث ابن عباس قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم نجى الله نبيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. فقال: أنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه). متفق عليه

‌فائدة: 4

هل كان صوم يوم عاشوراء واجباً أم تطوعاً؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لم يكن واجباً قبل فرض رمضان، بل كان سنة باق على سنيته.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

قال ابن حجر: ذهب الجمهور - وهو المشهور عند الشافعية - إلى أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان.

أ- لحديث مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَان أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِر) متفق عليه.

وجه الدلالة: أن قوله (لم يكتب عليكم صيامه) يدل على أنه لم يكن واجباً قط، لأن لم لنفي الماضي.

القول الثاني: أنه كان واجباً فنسخ وجوبه بفرض صيام رمضان.

ص: 462

وهذا قول الحنفية والمالكية واختيار ابن تيمية.

أ- عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ (كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَه). متفق عليه

قال ابن بطال: دلّ حديث عائشة على أن صومه كان واجباً قبل أن يُفْرَض رمضان، ودل أيضاً أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضاً.

‌فائدة: 5

من لم يصم يوم عرفة أو عاشوراء هل يقضيه أم لا؟

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: النوافل نوعان: نوع له سبب، ونوع لا سبب له.

فالذي له سبب يفوت بفوات السبب ولا يُقضى.

مثال ذلك: تحية المسجد، لو جاء الرجل وجلس ثم طال جلوسه ثم أراد أن يأتي بتحية المسجد، لم تكن تحية للمسجد، لأنها صلاة ذات سبب، مربوطة بسبب، فإذا فات فاتت المشروعية، ومثل ذلك فيما يظهر يوم عرفة ويوم عاشوراء، فإذا أخر الإنسان صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء بلا عذر فلا شك أنه لا يقضي، ولا ينتفع به لو قضاه، أي لا ينتفع به على أنه يوم عرفة ويوم عاشوراء.

وأما إذا مر على الإنسان وهو معذور كالمرأة الحائض والنفساء أو المريض، فالظاهر أيضاً أنه لا يقضي، لأن هذا خص بيوم معين يفوت حكمه بفوات هذا اليوم.

ص: 463

‌فائدة: 6

أيهما أفضل يوم عرفة أم يوم عاشوراء؟

قال ابن حجر: روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً: إن صوم يوم عاشوراء يكفر سنة، وإن صيام يوم عرفة يكفر سنتين.

وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك كان أفضل.

وقال ابن القيم: فإن قيل: لم كان عاشوراء يكفر سنة، ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل: فيه وجهان:

أحدهما/ أن يوم عرفة في شهر حرام، وقبله شهر حرام، وبعده شهر حرام، بخلاف عاشوراء.

الثاني/ أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا، بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى.

(وَتِسْعِ ذِي الحِجَّةِ).

أي: ومن صيام التطوع صوم تسع من ذي الحجة.

لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ قَالُوا، وَلَا الْجِهَادُ قَالَ، وَلَا الْجِهَادُ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْء) رواه البخاري.

والصوم من العمل الصالح.

عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر وخميسين) رواه الإمام أحمد.

ص: 464

‌فائدة:

فإن قيل: جاء في صحيح مسلم: عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمِ الْعَشْرَ).

قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا الْحَدِيث مِمَّا يُوهِم كَرَاهَة صَوْم الْعَشَرَة، وَالْمُرَاد بِالْعَشْرِ هُنَا: الْأَيَّام التِّسْعَة مِنْ أَوَّل ذِي الْحِجَّة، قَالُوا: وَهَذَا مِمَّا يُتَأَوَّل فَلَيْسَ فِي صَوْم هَذِهِ التِّسْعَة كَرَاهَة، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّة اِسْتِحْبَابًا شَدِيدًا لَا سِيَّمَا التَّاسِع مِنْهَا، وَهُوَ يَوْم عَرَفَة، وَقَدْ سَبَقَتْ الْأَحَادِيث فِي فَضْله، وَثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّام الْعَمَل الصَّالِح فِيهَا أَفْضَل مِنْهُ فِي هَذِهِ " - يَعْنِي

: الْعَشْر الْأَوَائِل مِنْ ذِي الْحِجَّة -.

فَيَتَأَوَّل قَوْلهَا: لَمْ يَصُمْ الْعَشْر، أَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ لِعَارِضِ مَرَض أَوْ سَفَر أَوْ غَيْرهمَا، أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ صَائِمًا فِيهِ، وَلَا يَلْزَم عَنْ ذَلِكَ عَدَم صِيَامه فِي نَفْس الْأَمْر، وَيَدُلّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل حَدِيث هُنَيْدَة بْن خَالِد عَنْ اِمْرَأَته عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَصُوم تِسْع ذِي الْحِجَّة، وَيَوْم عَاشُورَاء، وَثَلَاثَة أَيَّام مِنْ كُلّ شَهْر: الِاثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْر وَالْخَمِيس) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا لَفْظه وَأَحْمَد وَالنَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَتهمَا (وَخَمِيسَيْنِ). وَاَللَّه أَعْلَم. (شرح مسلم).

وقال ابن حجر: ولا يرد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط) لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته كما رواه الصحيحان من حديث عائشة أيضاً. (الفتح).

ص: 465

‌الخلاصة:

سلك بعض الفقهاء مسلك الجمع بين الحديثين بأحد الوجوه التالية:

أن حديث عائشة أرادت به أنه لم يصم العشر كاملا، وحديث حفصة أرادت أنه كان يصوم غالبه، وهذا أحد جوابي الإمام أحمد.

أن حديث عائشة متأول بأنها لم تره صائما، ولا يلزم منه تركه في نفس الأمر؟ لأنه يكون عندها في يوم من تسعة أيام، والباقي عند أمهات المؤمنين.

ويحتمل أن يكون المراد أنه يصوم بعضها في بعض الأوقات، وكلها في بعض الأوقات، ويتركها في بعض الأوقات لعارض.

(وآكَدُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ لِغَيْرِ حَاجٍّ بِهَا).

أي: وآكد تسع ذي الحجة صيام يوم عرفة لغير الحاج.

لحديث أَبِي قَتَادَةَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ " وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ " وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ اَلِاثْنَيْنِ، قَالَ: " ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ص: 466

‌فائدة: 1

قوله (لِغَيْرِ حَاجٍّ بِهَا) فلا يشرع صومه لمن كان بعرفة حاجاً.

وقد اختلف العلماء في حكم صومه للحاج على أقوال:

‌القول الأول: يستحب فطره.

وهذا قول مالك والشافعي وأحمد.

أ-عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ (أَنَّ نَاساً تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ) متفق عليه.

ب- وعَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ (إِنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ مَيْمُونَةُ بِحِلَابِ اللَّبَنِ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْمَوْقِفِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْه) متفق عليه.

وجه الاستدلال: يُستفاد من الحديثين استحبابُ فطر يوم عرفة للحجاج تأسِّيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الخطابي -شارحًا لحديث ميمونة رضي الله عنها وفيه: الاستحباب للإفطار بعرفة لمن شهدها، وإنما جاء الترغيب لمن غاب عنها.

وقال ابن القيم - بعد أن أورد حديث أم الفضل في فطر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بعرفة وغيره من الآثار في ذلك -: وصحَّ عنه: صيامه يكفر سنتين، فالصواب أنّ الأفضل لأهل الآفاق - أي الذين لم يَحُجُّوا - صومه، ولأهل عرفة فطره، لاختياره صلى الله عليه وسلم ذلك لنفسه، وعمل خلفائه بعده بالفطر.

تنبيه: في الحديث الأول أنّ أم الفضل هي التي أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح اللبن، وفي هذا الحديث أنّ ميمونة هي التي أرسلته!!

ص: 467

والجواب على ذلك - كما قال ابن القيم في تهذيب السنن، فقيل: يحتمل أن تكون ميمونة أرسلت، وأم الفضل أرسلت، كلٌّ منهما بقدَح، ويحتمل أن يكون مجتمعتين فإنها أختها، فاتفقتا على الإرسال بقدح واحد، فينسب إلى هذه وإلى هذه.

ج-وقال ابن عمر: (حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه). رواه الترمذي

وجه الاستدلال: في الحديث بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في تركهم صيام يوم عرفة بعرفة.

د-أنّ يوم عرفة يوم عبادة وتضرُّع ودعاء، فيستحب للحاج أن يفطر ذلك اليوم ليقوى على التعبُّد والذكر والدعاء.

قال ابن قدامة: لأنّ الصوم يُضعفه ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظَّم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف الذي يُقصَد من كل فجٍّ عميق، رجاء فضل الله فيه، وإجابة دعائه به؛ فكان تركه أفضل.

‌القول الثاني: يكره صومه.

وهذا ذهب إليه بعض العلماء.

لحديث أبي هريرة. (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة) رواه أبو داود.

لكنه حديث ضعيف، قال العقيلي: لا يصحّ عنه أنه نهى عن صومه.

وقال النووي: ضعيف.

ص: 468

‌القول الثالث: يستحب صومه.

وهذا قول ابن حزم.

للحديث السابق (يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ).

لكن هذا الحديث ورد في حق غير الحاج، أمّا الحاج فلا يصومه اقتداء وتأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، وفيه قوة على الدُّعاء والذكر والعبادة، والدعاء فيه مستجاب، وأنّ يوم عرفة هو يوم عيد لأهل عرفة؛ لاجتماعهم فيه كما في الحديث الذي تقدَّم ذكره.

والراجح القول الأول وهو استحباب فطره.

‌فائدة: 2

الحكمة من استحباب فطره للحاج:

قيل: ليتقوى على الدعاء.

وقيل: لأنه عيد لأهل عرفة.

قال ابن القيم: قالت طائفة: ليتقوى على الدعاء، وهذا قول الخرقي وغيره.

وقال غيرهم - منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة، فلا يستحب صومه لهم، قال: والدليل عليه الحديث الذي في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى، عيدنا أهل الإسلام) قال شيخنا: وإنما يكون يوم عرفة عيداً في حق أهل عرفة لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم.

ص: 469

‌فائدة: 3

تكفير الذنوب في صوم عرفة يشمل الصغائر دون الكبائر،

وهذا مذهب جمهور العلماء.

أ-لقوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

ب-ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر). رواه مسلم

فإذا كانت الصلوات الخمس لا تقوى على تكفير الكبائر، فمن باب أولى صيام عرفة.

(وصوم شعبان).

أي: ومن صوم التطوع، صوم شهر شعبان.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اِسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

وعنها قَالَتْ (لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَان) رواه مسلم.

وعنها قالت (لَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) رواه مسلم

ص: 470

‌فائدة: 1

الحكمة من إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان؟

اختلف العلماء في ذلك:

فقيل: كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فتجتمع فيقضيها في شعبان.

وهذا فيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط.

وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان.

وهذا فيه حديث آخر أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان) قال الترمذي: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس بذاك القوي.

والأولى في ذلك: ما جاء في حديث أصح مما مضى أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: (قلت يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم في شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم).

‌فائدة: 2

جاء عند أبي داود من حديث أم سلمة (أنه كان لا يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصله برمضان)؟

اختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال:

قيل: أي أنه كان يصوم معظمه، فالمراد بالكل أكثره.

ويدل ذلك الحديث السابق (وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ).

وجاء عند مسلم (كان يصوم شعبان إلا قليلاً).

قال الحافظ: وهذا يبين أن المراد بقوله في حديث أم سلمة عند أبي داود: (أنه كان لا يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصله برمضان) أي كان يصوم معظمه، فالمراد بالكل الأكثر.

ص: 471

وقيل: يحتمل أنه كان يصوم شعبان كله تارة، ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان.

وقيل: المراد بقولها (كله) أنه كان يصوم من أوله تارة، ومن آخره أخرى، ومن أثنائه طوراً، فلا يخلي شيئاً منه من صيام، ولا يخص بعضه بصيام دون بعض.

وقيل: قال ابن المنير: إما يحمل قول عائشة على المبالغة والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانياً عن آخر أمره أنه كان يصومه كله.

قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه، والأول هو الصواب، ويؤيده رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة عند مسلم ولفظه (ولا صام شهراً كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان).

‌فائدة: 3

قال ابن رجب: عند حديث (ذاك شهر يغفل الناس عنه.

. .) وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب عند الله عز وجل.

وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:

منها: أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل.

ومنها: أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة، لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطاعة، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعاتهم، لقلة من يقتدون بهم فيها.

ومنها: أن المنفرد بالطاعة بين أهل المعاصي والغفلة قد يُدْفَعُ به البلاء عن الناس كلهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم. [لطائف المعارف 251 ـ 254]

ص: 472

(ولا تصوم المرأة تطوعاً إلا بإذن زوجها).

أي: لا يجوز للمرأة أن تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها.

أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ولفظ أبي داود والترمذي (لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ غَيْرَ رَمَضَان).

ب- ولأن حق الزوج فرض فلا يجوز تركه بنفل.

قال النووي: هذَا مَحْمُول عَلَى صَوْم التَّطَوُّع وَالْمَنْدُوب الَّذِي لَيْسَ لَهُ زَمَن مُعَيَّن، وَهَذَا النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابنَا، وَسَبَبه أَنَّ الزَّوْج لَهُ حَقّ الاسْتِمْتَاع بِهَا فِي كُلّ الَايَّام، وَحَقّه فِيهِ وَاجِب عَلَى الْفَوْر فَلا يَفُوتهُ بِتَطَوُّعٍ وَلا بِوَاجِبٍ عَلَى التَّرَاخِي.

‌فائدة: 1

الحكمة من المنع:

لأن حق الزوج واجب، وصيام غير الفرض مستحب، ومن الفقه تقديم الواجبات، ومن ذلك تقديم طاعة الزوج على المستحبات.

‌فائدة: 2

صوم الفرض كرمضان لا يحتاج إذن الزوج،

لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ص: 473

‌فائدة: 3

هل يجب على الزوجة أن تستأذن زوجها في قضاء رمضان أم لا؟

هذه المسألة لا تحلو من حالين:

‌الحال الأولى: أن يضيق الوقت،

بأن لم يبق من شعبان إلا بمقدار ما عليها من رمضان.

فهنا لا يجب أن تستأذنه.

‌الحال الثانية: إذا لم يضق الوقت،

(الوقت موسع للقضاء) فهنا اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأول: يجب أن تستأذنه.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

أ- لحديث عائشة قالت (كان يكون عليّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان) متفق عليه.

ب- أنه ليس لها أن تمنع الزوج حقه الذي هو على الفور بما ليس على الفور.

‌القول الثاني: أنه لا يجب أن تستأذنه.

وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تصومن امرأة تطوعاً وبعلها شاهد إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم وعبد الرزاق وهذا لفظه.

فمفهوم المخالفة من هذا الحديث يدل على أن لها أن تصوم بغير إذنه إذا لم يكن تطوعاً.

ب- أنه ليس للزوج منع الزوجة من المبادرة إلى قضاء رمضان إلا باختيارها، لأن لها حقاً في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 474

‌فائدة: 4

قوله صلى الله عليه وسلم (وزوجها شاهد)؟

نستفيد: أن الزوج إذا كان غائباً فيجوز لها أن تصوم ولا تحتاج إلى إذنه.

أ- لمفهوم الحديث.

ب- ولأن صيامها لا يضيع عليه حقاً من حقوقه.

ج- ولأن المعنى المراد من المنع لا يوجد.

قال النووي: قوله (وَزَوْجهَا شَاهِد) أَيْ مُقِيم فِي الْبَلَد، أَمَّا إِذَا كَانَ مُسَافِرًا فَلَهَا الصَّوْم؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الِاسْتِمْتَاع إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ.

‌فصل

(وَيُكْرَهُ إِفرَادُ رَجَبٍ)

أي: يكره إفراد شهر رجب بصيام.

قال ابن قدامة: وَيُكْرَهُ إفْرَادُ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ.

أ- لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِهِ) رواه ابن ماجه.

ب- وَلِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءً لِشِعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ بِتَعْظِيمِهِ وَلِهَذَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ فِيهِ وَيَقُولُ: كُلُوا فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُه (كشاف القناع).

جاء في (الموسوعة الفقهية). . . بَل نَصُّوا (يعني الحنابلة) عَلَى كَرَاهَةِ إِفْرَادِ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ.

لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاس (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَب).

وَلأِنَّ فِيهِ إِحْيَاءً لِشِعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ بِتَعْظِيمِهِ.

‌فائدة: 1

قوله (إفراد) يؤخذ منه أنه لو صامه مع غيره، فلا يكره.

جاء في (الموسوعة الفقهية). . . وَتَزُول الْكَرَاهَةُ بِفِطْرِهِ فِيهِ وَلَوْ يَوْمًا، أَوْ بِصَوْمِهِ شَهْرًا آخَرَ مِنَ السَّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَل رَجَبًا.

ص: 475

‌فائدة: 2

لم يصح في فضل صوم رجب حديث.

قال ابن تيمية: كل ما ورد في فضل الصلاة والصيام في رجب فكله كذب.

(والجُمُعَةِ).

أي: ويكره إفراد الجمعة بصيام.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلاَّ أَنْ يَصُومَ يَوْماً قَبْلَهُ، أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ) متفق عليه.

وعنه. عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ اَلْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اَللَّيَالِي، وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اَلْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ (سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ) متفق عليه، وَزَادَ مُسْلِمٌ (وَرَبِّ الْكَعْبَةِ).

‌فائدة: 1

اختلف العلماء: في النهي في قوله (لا يصومن.

. .) هل هو للتحريم أم للكراهة على قولين:

‌القول الأول: أنه للكراهة.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

لقوله (لا يصومن

) والصارف عن النهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز صيامه إذا صيم يوماً قبله أو بعده.

‌القول الثاني: أنه للتحريم.

وهذا قول الظاهرية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

أ-للأحاديث، قالوا: والأصل في النهي التحريم.

ب- ولحديث جابر (فقد سُئل أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم).

والراجح الأول.

ص: 476

‌فائدة: 2

دلت هذه الأحاديث على أن النهي يزول بأمرين:

الأول: أن يوافق يوم الجمعة صيام معتاد، كأن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصادف يوم صيامه يوم الجمعة.

الثاني: إذا لم يفرده بالصيام، بل جمع معه غيره.

قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الدَّلَالَة الظَّاهِرَة لِقَوْلِ جُمْهُور أَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِمْ، وَأَنَّهُ يُكْرَه إِفْرَاد يَوْم الْجُمُعَة بِالصَّوْمِ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ عَادَةً لَهُ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِيَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ وَافَقَ عَادَةً لَهُ بِأَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ شِفَاءِ مَرِيضِهِ أَبَدًا، فَوَافَقَ يَوْم الْجُمُعَة لَمْ يُكْرَهْ؛ لِهَذِهِ الْأَحَادِيث.

وقال ابن قدامة: يُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، إلا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، مِثْلُ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَيُوَافِقُ صَوْمُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَنْ عَادَتُهُ صَوْمُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ، أَوْ آخِرِهِ، أَوْ يَوْمِ نِصْفِهِ.

‌فائدة: 3

اختلف في السبب في النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام؟

فقيل: لئلا يضعف عن العبادة، ورجحه النووي.

قال في الفتح: وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه.

وقال ابن القيم: ولكن يشكل عليه زوال الكراهة بضم يوم قبله أو بعده إليه.

وقيل: سداً للذريعة من أن يلحق بالدين ما ليس منه، ويوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد من الأعمال الدنيوية. [قاله ابن القيم]

ص: 477

وقيل: لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، ورجحه الحافظ ابن حجر، وقال: ورد فيه صريحاً حديثان:

أحدهما: رواه الحاكم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا يوماً قبله أو بعده).

والثاني: رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: (من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة، فإنه يوم طعام وشراب وذكر.

‌فائدة: 4

صوم يوم الجمعة إذا صادف يوم عرفة أو عاشوراء أو قضاء رمضان.

صوم يوم الجمعة مكروه، لكن ليس على إطلاقه، فصوم يوم الجمعة مكروه لمن قصده وأفرده بالصوم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تخصوا يوم الجمعة بصيام، ولا ليلتها بقيام).

وأما إذا صام الإنسان يوم الجمعة من أجل أنه صادف صوماً كان يعتاده فإنه لا حرج عليه في ذلك، وكذلك إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلا حرج عليه في ذلك، ولا كراهة.

مثال الأول: إذا كان من عادة الإنسان أن يصوم يوماً ويفطر يوماً فصادف يوم صومه الجمعة فلا بأس، وكذلك لو كان من عادته أن

يصوم يوم عرفة فصادف يوم عرفة يوم الجمعة فإنه لا حرج عليه أن يصوم يوم الجمعة ويقتصر عليه؛ لأنه إنما أفرد هذا اليوم لا من أجل أنه يوم الجمعة، ولكن من أجل أنه يوم عرفة، وكذلك لو صادف هذا اليوم يوم عاشوراء واقتصر عليه، فإنه لا حرج عليه في ذلك، وإن كان الأفضل في يوم عاشوراء أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده.

ومثال الثاني: أن يصوم مع الجمعة يوم الخميس، أو يوم السبت، أما من صام يوم الجمعة لا من أجل سبب خارج عن كونه يوم جمعة فإننا نقول له: إن كنت تريد أن تصوم السبت فاستمر في صيامك، وإن كنت لا تريد أن تصوم السبت ولم تصم يوم الخميس فأفطر كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والله الموفق. (الشيخ ابن عثيمين).

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: إذا صادف يوم الجمعة يوم عرفة فصامه المسلم وحده فلا بأس بذلك، لأن هذا الرجل صامه لأنه يوم عرفة لا لأنه يوم جمعة.

ص: 478

سئل الشيخ ابن عثيمين: هل يجوز صيام يوم الجمعة منفرداً قضاء؟

فأجاب رحمه الله تعالى: صيام يوم الجمعة منفرداً نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم (دخلت عليه امرأة من نساءه أو دخل هو عليها فوجدها صائمة فقال لها أصمت أمس قالت لا قال أتصومين غدا قالت لا قال فأفطري) لكن إذا صادف يوم الجمعة يوم عرفة مثلاً وصامه وحده فلا بأس لأن هذا الرجل صامه لأنه يوم عرفة لا لأنه يوم الجمعة وكذلك لو كان عليه قضاء من رمضان ولا يتسنى له الفراغ إلا يوم الجمعة فإنه لا حرج عليه أن يفرده لأنه لم يفرده لأنه يوم الجمعة ولكن أفرده لأنه يوم فراغه وكذلك لو صادف يوم الجمعة يوم عاشوراء فصامه فإنه لا حرج عليه أن يفرده لأنه صامه لأنه يوم عاشوراء لا لأنه يوم الجمعة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام) فنص على الخصوصية أي على أن يفعل الإنسان هذا لخصوصية يوم الجمعة وليلة الجمعة.

(وَالسَّبْتِ).

أي: ويكره إفراد السبت بصيام.

لحديث اَلصَّمَّاءِ بِنْتِ بُسْرٍ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَصُومُوا يَوْمَ اَلسَّبْتِ، إِلَّا فِيمَا اِفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهَا) رواه أبو داود والترمذي.

لكن هذا الحديث لا يصح.

قال أبو داود: هذا حديث منسوخ.

وقال مالك: هذا كذب.

وقال النسائي: هذا حديث مضطرب.

وضعفه يحيي بن سعيد، والطحاوي، وابن القيم، وابن حجر كما في التلخيص.

ص: 479

وسبب الضعف: الاضطراب في سنده والنكارة في متنه:

أما الاضطراب في سنده: فإن الحديث مداره على الصحابي: عبد الله بن بُسْر لكن اضطرب الرواة في روايته عنه:

فتارة رَووْه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم[بدون ذكر أخته]. [هذا عند أحمد].

وتارة رووه عنه عن أخته. [هذا كما في الرواية التي معنا: عند أبي داود والترمذي].

وتارة عنه عن عمته. [وهي لم يتغير اسمها: الصماء]. [عند ابن خزيمة والبيهقي].

وتارة عنه عن خالته الصماء. [عند النسائي في الكبرى].

وتارة عنه عن أمه الصماء. [انفرد بها تمام الرازي في كتابه الفوائد].

فقالوا: هذا اضطراب.

وأما نكارة متنه: فإن الحديث يدل على النهي عن صوم السبت إلا في حالة واحدة فقط: وهي أن يكون في صوم الفريضة، وهذا يدل على أنه لا يصام ولو كان قبله يوم أو بعده يوم.

وهذا يعارضه أحاديث أخرى أصح منه.

أ- ما رواه البخاري عن جويرية (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري).

فهذا حديث صريح في أنه يجوز صيام يوم السبت إذا كان قبله يوم، بخلاف حديث الباب فإنه لم يستثن هذه الحالة.

ب-ومنها: حديث (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده) ومعلوم قطعاً أن اليوم الذي بعد الجمعة هو يوم السبت.

ج- حديث أم سلمة (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ اَلْأَيَّامِ يَوْمُ اَلسَّبْتِ، وَيَوْمُ اَلْأَحَدِ).

ص: 480

فهذه الأحاديث تدل على نكارة حديث الصماء بنت بسر، وهذا القول هو الصحيح.

قال الشيخ ابن باز: لا حرج أن يصوم الإنسان يوم السبت مطلقاً في الفرض والنفل، والحديث الذي فيه النهي عن صوم يوم السبت حديث ضعيف مضطرب مخالف للأحاديث الصحيحة، فلا بأس أن يصوم المسلم من يوم السبت، سواءٌ كان عن فرض أو عن نفل، ولو ما صام معه غيره، والحديث الذي فيه النهي عن صوم يوم السبت إلا في الفرض حديث غير صحيح، بل هو ضعيف وشاذ مخالف للأحاديث الصحيحة. (نور على الدرب).

ولذلك فالراجح جواز صوم يوم السبت من غير كراهة ولو منفرداً.

‌فائدة:

بما أجاب من قال بصحة الحديث؟

من صحح الحديث، بعضهم ذهب إلى أنه منسوخ.

قال أبو داود: وهذا حديث منسوخ. كما في سننه.

لكن لا دليل على النسخ، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص متعقباً دعوى أبي داود: ولا يتبين وجه النسخ فيه.

وذهب بعضهم: إلى أن النهي محمول على إفراده بالصيام، فإن صام يوماً قبله أو بعده فلا بأس.

وهذا رأي الترمذي وابن خزيمة وغيرهم.

أ- الترمذي، فقد أَخْرَجَ حديثَ الصَّمَّاءِ وقال: هذا حديثٌ حسنٌ، ومعنى كراهتِهِ في هذا أنْ يَخُصَّ الرجلُ يومَ السَّبْتِ بصيامٍ لأنَّ اليهودَ تُعظِّمُ يومَ السَّبْت.

ب- ابن خزيمة، فقد أخْرَجَ الحديث (وبَوَّبَ له في صحيحه: باب النهي عن صوم يوم السَّبْتِ تطَوُّعَاً إذا أُفرِد بالصوم).

ص: 481

ج-منهم ابن حبان، فقد ترجم (ذِكْرُ الزجر عن صوم يوم السَّبْتِ مُفْرَدَاً) وأَخْرَجَ تَحْتَهُ حديثَ عبد الله بن بُسْر، وترجم بَعْدَهُ:(ذِكْرُ العلة التي من أجلها نُهيَ عن صيام يوم السَّبْتِ مع البيان بأنَّه إذا قُرِن بيومٍ آخرَ جَازَ صومُهُ). وساق تَحْتَهُ حديثَ كُرَيْبٍ مولى ابنِ عباس عن أم سَلَمَةَ (إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكثَرَ ما كانَ يصومُ من الأيام يومَ السَّبْتِ والأحد وكانَ يقول: إنَّهما عيدانِ للمشركين، وأنا أريد أنْ أُخالِفَهم).

د-قال النووي في المجموع: يُكْرَهُ إفرادُ يوم السَّبْتِ بالصوم، فإنْ صام قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ معه لم يُكرَه، صرَّح بكراهةِ إفرادهِ أصحابُنا، منهم الدارمي والبغوي والرافعي وغيرهم

والصوابُ

أنَّه يُكْرَهُ إفرادُ السَّبْتِ بالصيام إذا لم يُوافق عادةً له لحديث الصَّمَّاء ....

هـ-قال ابن القيم: وقال جماعةٌ من أهل العلم: لا تعارُضَ بينه وبين حديث أم سَلَمَةَ، فإنَّ النهي عن صومه: إنَّما هو عن إفراده، وعلى ذلك تَرْجَمَ أبو داوُدَ

قالوا: ونظيرُ هذا أنَّه نهى عن إفراد يوم الجُمُعَةِ بالصوم إلا أنْ يصوم يوماً قَبْلَهُ أو يوماً بَعْدَهُ، وبهذا يزولُ الإشكالُ الذي ظنَّهُ مَنْ قال: إنَّ صومَهُ نوعُ تعظيمٍ له: فهو موافَقَةٌ لأهل الكتاب في تعظيمه، وإنْ تضمَّن مخالفتَهم في صومه، فإنَّ التعظيم إنَّما يكون إذا أُفرِدَ بالصوم ولا ريب أنَّ الحديث لم يجيء بإفراده، وأمَّا إذا صامه مع غيره، لم يكن فيه تعظيمٌ واللهُ أعلَمُ).

و-وقال الشوكاني: وقد جَمَعَ صاحِبُ البدر المنير بين هذه الأحاديث فقال النهيُ متوجِّهٌ إلى الإفراد، والصومُ باعتبارِ انضمامِ ما قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ إليه، ويؤيِّدُ هذا ما تقدَّمَ من إذنه صلى الله عليه وسلم لِمَنْ صام الجُمُعَةَ أنْ يصوم السَّبْتَ بعدها، والجَمْعُ مهما أمْكَنَ أولى من النسخ.

ك- وهو رأي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

ص: 482

(والدهر).

أي: ويكره صوم الدهر.

ومعنى صيام الدهر: سرد الصوم متتابعاً جميع الأيام باستثناء ما نهي عن صومه كأيام العيد وأيام التشريق.

وقد اختلف العلماء في حكم صيام الدهر على أقوال:

القول الأول: المنع مطلقاً، إما على وجه التحريم أو على وجه الكراهة ..

وهو قول ابن حزم، والكراهة هو مذهب الحنفية واختيار ابن قدامة وابن تيمية.

قال ابن قدامة: الذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام - يعني العيد والتشريق -، فإن صامها قد فعل محرماً، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف، وشبه التبتل المنهي عنه.

وقال ابن حزم: يحرم صوم الدهر أصلاً.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (لا صام من صام الأبد)، وفي رواية (لا صام ولا أفطر).

قال الحافظ رحمه الله: وَالْمَعْنَى بِالنَّفْيِ أَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ أَجْرَ الصَّوْمِ لِمُخَالَفَتِهِ.

ب-لحديث أبي موسى مرفوعاً (من صام الدهر ضيقت عليه جهنم) أخرجه أحمد.

قال ابن حجر: وظاهره أنه تضيق عليه حصراً لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراماً.

ج-قوله صلى الله عليه وسلم (لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) وهذا وعيد شديد من مخالفة صوم النبي كصيام الدهر كما فعل بعض الصحابة، إذ قال أحدهم (أصوم أبداً).

ص: 483

د-لحديث عبد الله بن عمرو - (قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا

إلى آخر الحديث. وفي رواية: فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك) رواه مسلم.

هـ-وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمرو الشيباني قال: (بلغ عمر أن رجلاً يصوم الدهر، فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول: كل يا دهري).

و-النظر الصحيح لما في صيام الدهر من المشقة على النفس وهذا يتعارض مع التشريع من التخفيف والتيسير.

القول الثاني: أنه يستحب صوم الدهر.

وهذا قول جمهور العلماء من المالكية، والشافعية والحنابلة.

أما المالكية والشافعية فقد صرحوا بالاستحباب، وأما الحنابلة فنصوصهم جاءت بلفظ الجواز.

(والاستحباب مقيد عند الجميع بأن لا يؤدي صوم الدهر إلى تقصير في أداء الحقوق والواجبات، أو يخاف الصائم ضرراً على نفسه، فإن أدى لذلك فيكره حينئذ عند الشافعية والحنابلة، ويجوز عند المالكية).

واستدل هؤلاء:

أ-بحديث حمزة بن عمرو عند مسلم (أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم) وموضع الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سرد الصوم

ب- ولحديث أبي موسى. قال صلى الله عليه وسلم (من صام الدهر ضيقت عليه جهنم).

قال النووي رحمه الله: ومعنى: (ضيقت عليه) أي: عنه، فلم يدخلها.

وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو (لا أفضل من ذلك) أي في حقك، فيلتحق به من في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة، أو يفوت حقاً، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد، فلو السرد ممتنعاً لبينه له، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

ص: 484

ج-ولقوله صلى الله عليه وسلم في صيام ثلاثة أيام من كل شهر (كصيام الدهر). متفق عليه

قالوا: فدل على أن صوم الدهر أفضل مما شبه به، وأنه أمر مطلوب.

د- أنه فعل بعض الصحابة كعائشة وعثمان وأبو طلحة.

عن ابن عمر أنه سئل عن صيام الدهر فقال: (كنا نعد أولئك فينا من السابقين) رواه البيهقي.

وعن عروة أن عائشة (كانت تصوم الدهر في السفر والحضر) رواه البيهقي بإسناد صحيح.

وعن أنس قال (كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطراً إلا يوم الفطر أو الأضحى) رواه البخاري في صحيحه.

هـ-عموم الآيات والأحاديث الدالة على فضل العبادة وعمل الخير:

منها قوله تعالى (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا).

وقوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا).

وأجاب هؤلاء (وهم الجمهور) عن أدلة من قال بالمنع؟

أجابوا بما قال النووي رحمه الله:

أحدها: جواب عائشة رضي الله عنها وتابعها عليه خلائق من العلماء، أن المراد: من صام الدهر حقيقة، بأن يصوم معه العيد والتشريق، وهذا منهي عنه بالإجماع.

الثاني: أنه - يعني حديث (لا صام من صام الأبد) - محمول على أن معناه أنه لا يجد من مشقته ما يجد غيره، لأنه يألفه ويسهل عليه، فيكون خبراً لا دعاء، ومعناه لا صام صوماً يلحقه فيه مشقة كبيرة، ولا أفطر، بل هو صائم له ثواب الصائمين

ص: 485

والثالث: أنه محمول على من تضرر بصوم الدهر أو فوت به حقاً، ويؤيده أنه في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كان النهي خطاباً له، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة، وكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمرو بن العاص لعلمه بأنه يضعف عن ذلك، وأقر حمزة بن عمرو - سيأتي حديثه فيما بعد - لعلمه بقدرته على ذلك بلا ضرر. (المجموع).

وأجاب أصحاب القول الأول عن أدلة من قال بالجواز؟

أجابوا:

أما حديث حمزة بن عمرو (إني أسرد الصوم) بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر، ولا يلزم من سرد الصوم صوم الدهر، فقد قال أسامة بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم فيقال لا يفطر). رواه أحمد، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم الدهر، فلا يلزم من ذكر السرد صوم الدهر. (الفتح).

وقد أجاب ابن حزم عن حديث حمزة بن عمرو الأسلمي وغيره من الصحابة الذين ورد أنهم كانوا يسردون الصوم: بأن سرد الصوم ليس هو صيام الدهر كله، وإنما هو متابعة الصيام لأشهر طويلة حتى يقال: لا يفطر، ولكن ليس صيام العام كله، وروي عن بعض الصحابة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه النهي الصريح عن صيام الدهر.

وأما قوله (صيام ثلاثة أيام كصيام الدهر

) قال ابن القيم: هذا التشبيه إنما يقتضي التشبيه في ثوابه لو كان مستحباً.

وأما الآية (من جاء بالحسنة

) والحديث (من صام يوماً

) فأجيب عن هذين الدليلين بأنهما عامَّان في كل صيام، وقد جاءت الأدلة السابقة بتخصيص صيام الدهر من عموم الاستحباب.

ص: 486

وأما الجواب عن فعل بعض الصحابة كعائشة وأبو طلحة:

أولاً: أنه موقوف لا يعارض به المرفوع.

ثانياً: وصح عن بعض السلف أنهم كانوا يمنعون من يصوم الدهر.

ثالثاً: نصوص المنع أقوى من نصوص الجواز.

والراجح المنع من صومه.

فائدة:

قال ابن رجب: الحكمة من النهي عن استدامة الصيام:

قد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحكمة في ذلك من وجوه:

منها: قوله صلى الله عليه وسلم في صيام الدهر (لا صام ولا أفطر) يعني أنه لا يجد مشقة الصيام ولا فقْدَ الطعام والشراب والشهوة، لأنه صار الصيام له عادة مألوفة، فربما تضرر بتركه، فإذا صام تارة وأفطر تارة حصل له بالصيام مقصوده بترك هذه الشهوات، وفي نفسه داعية إليها، وذلك أفضل من أن يتركها ونفسه لا تتوق إليها.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حق داود عليه السلام (كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى) يشير إلى أنه كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه ومجاهدته في سبيل الله.

ص: 487

ومنها: ما أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو (لعله أن تطول بك حياة) يعني أن من تكلّف الاجتهاد في العبادة فقد تحمِلُه قوة الشباب ما دامت باقية، فإذا ذهب الشباب وجاء المشيب والكِبَر عجز عن حمل ذلك، فإن صابر وجاهد واستمرّ فربما هلك بدنه، وإن قطع فقد فاته أحب الأعمال إلى الله تعالى، وهو المداومة على العمل الصالح.

(وَيَحْرُمُ صَوْمُ العِيدَيْنِ وَلَوْ فِي فَرْضٍ)

أي: من الصيام المحرّم صوم العيدين. (يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى).

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ: الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ) متفق عليه.

وعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ - قَالَ: (شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْيَوْمُ الآخَرُ: تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ) متفق عليه.

ففي هذين الحديثين تحريم صيام يومي العيد.

قال النووي: أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواء صامهما عن نذر، أو تطوع، أو كفارة.

وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم أن صوم يومي العيد منهي عنه، محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة.

ص: 488

‌فائدة: 1

ما الحكم لو نذر صيامهما، فهل يصح نذره؟

لا يصح نذره، ولا ينعقد، ولا يجوز الوفاء به.

لأنه نذر معصية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يعص الله فلا يعصه). متفق عليه

‌فائدة: 2

الحكمة من النهي عن صيامهما:

هو الأكل من النسك في عيد الأضحى تقربا إلى الله تعالى، وتمييز الصوم من الفطر في عيد الفطر.

قال الشوكاني: والحكمة في النهي عن صوم العيدين: أن فيه إعراضاً عن ضيافة الله تعالى لعباده، كما صرح بذلك أهل الأصول.

‌فائدة: 3

عيد الفطر هو يوم واحد فقط، وهو اليوم الأول من شوال.

وأما ما اشتهر عند الناس من أن عيد الفطر ثلاثة أيام، فهذا مجرد عرف اشتهر بين الناس لا يترتب عليه حكم شرعي.

قال البخاري رحمه الله: بَاب صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ

ثم روى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَالنَّحْرِ.

فعلى هذا فيوم الفطر يوم واحد فقط، وهو الذي يحرم صومه، أما اليوم الثاني أو الثالث من شوال فلا يحرم صومهما، فيجوز صومهما

عن قضاء رمضان أو تطوعاً.

ص: 489

(وَصِيَامُ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، إلاَّ عَنْ دَمِ مُتْعَةٍ وَقِرَانٍ).

أي: ومن الصيام المحرم، صوم أيام التشريق إلا عن دم متعة وقران.

وأيام التشريق: هي الأيام التي بعد يوم النحر، وهي [11، 12، 13] من ذي الحجة.

وسميت بذلك: لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي تنشر في الشمس.

وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.

وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس.

فصوم هذه الأيام: لا يصح إلا للمتمتع والقارن إذا لم يجدا الهدي.

وهو قول مالك والشافعي في القديم.

ونسبه ابن حجر لابن عمر، وعائشة، وعبيد بن عمير.

أ- عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ قَالا (لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ اَلْهَدْيَ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.

وقد أخرجه الدار قطني والطحاوي بلفظ (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق).

فهذا الحديث صريح في الترخيص للمتمتع الذي لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق، وهو مقيِّد لما جاء من النهي عن صوم هذه الأيام مطلقاً.

ورجحه الشوكاني وقال: وهو أقوى المذاهب.

وهذا القول هو الصحيح.

وذهب بعض العلماء: إلى المنع مطلقاً.

وهذا قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد وابن حزم.

قال في الفتح: وعن علي وعبد الله بن عمرو المنع مطلقاً، وهو المشهور عن الشافعي.

أ-عنْ نُبَيْشَةَ اَلْهُذَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَيَّامُ اَلتَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ) رَوَاهُ مُسْلِم.

قال الخطابي: فيه دليلٌ على أنّ صوم أيام التشريق غير جائز؛ لأنه قد وسمها بالأكل والشرب كما وسم يوم العيد بالفطر ثم لم يجز صيامه، فكذلك أيام التشريق، وسواء كان تطوعًا من الصائم أو نذرًا أو صامها الحاج عن التمتع.

ب-وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام منى أيام أكل وشرب). رواه مسلم

ج-عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدُنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) رواه أحمد.

ص: 490

قال الخطابي: وهذا كالتعليل في وجوب الإفطار فيها وأنها مستحقة لهذا المعنى، فلا يجوز صيامها ابتداءً تطوعًا ولا نذرًا، ولا عن صوم التمتع إذا لم يكن المتمتع صام الثلاثة الأيام في العشر.

والصحيح الأول، وهو تحريم صومها إلا للمتمتع الذي لم يجد الهدي.

‌فائدة:

(وَمنْ دخلَ في تطوعٍ لم يجب إتمامه).

أي: أنه يجوز للصائم نفلاً أن يقطع صومه ولو من غير عذر.

أ- عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ (دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ». فَقُلْنَا لَا. قَالَ «فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ». ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِىَ لَنَا حَيْسٌ. فَقَالَ «أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَأَكَلَ) رواه مسلم.

ب- عَن أَبِى جُحَيْفة. قَالَ (آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً. فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً. فَقَالَ كُلْ. قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ: فَأَكَلَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ. قَالَ: نَمْ. فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ. فَقَالَ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ. فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ سَلْمَانُ). رواه البخاري

ج- وعن أبي سعيد الخدري أنه قال (صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فأتاني هو وأصحابه فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلف لكم ثم قال له أفطر وصم مكانه يوماً إن شئت) رواه البيهقي.

د- وعن أم هانئ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر). رواه الحاكم وحسنه العراقي

ج- ولأنه نفل فهو إلى خيرة الإنسان في الابتداء، وكذا في الدوام. [قاله النووي]

ص: 491

فائدة: لكن هؤلاء اتفقوا على استحباب إتمامه.

وذهب بعض العلماء: أنه لا يجوز قطعه.

وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

أ-لقوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم).

ب- ولحديث عائشة قالت: (كنت أنا وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة وكانت ابنة أبيها، فقالت: يا رسول الله! إنا كنا صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، قال اقضيا يوماً آخر مكانه) رواه الترمذي.

والراجح القول الأول.

وأما الجواب عن أدلة القول الثاني:

أما الآية (ولا تبطلوا أعمالكم) فيجاب عنها؛ بأن الخروج من صيام التطوع ليس إبطالاً للعمل، لأن إبطال العمل يكون بالردة، وقد يكون بالرياء والسمعة.

وأما حديث عائشة وحفصة؛ فهو حديث ضعيف لا يصح.

(وفي فرضٍ يجب).

أي: وفي صوم الفرض - كقضاء رمضان، أو نذر، أو كفارة - يجب إتمامه ولا يجوز قطعه.

قال ابن قدامة: وَمِنْ دَخَلَ فِي وَاجِبٍ، كَقَضَاءِ رَمَضَان، أَوْ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ، أَوْ صِيَامِ كَفَّارَةٍ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَيِّنَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِيهِ، وَغَيْرَ الْمُتَعَيِّنِ تَعَيَّنَ بِدُخُولِهِ فِيهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ الْمُتَعَيِّنِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ.

فلا يجوز قطع الفرض من صلاة أو صيام، إلا في مسألتين:

الأولى: للضرورة، كما لو كان في ذلك إنقاذ نفس معصومة من الهلاك.

كمن شرع في صلاة فريضة، ورأى طفلاً يريد أن يقع في هلكة، فهنا يجب أن يقطعها لينقذه.

ص: 492

الثانية: إذا قطع الفرض ليفعله على وجه أكمل.

مثال: إنسان دخل في الصلاة لوحده، وفي أثناء صلاته دخل جماعة وشرعوا في الفريضة، فهنا يجوز أن يقطع الفريضة ليدخل معهم. (فهو قطعها ليفعلها على وجه أكمل).

والدليل على هذه المسألة: حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (أَنَّ رَجُلاً، قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ، أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: شَأْنُكَ إِذَنْ) رواه أبو داود.

(وَتُرْجَى لَيْلَةُ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأواخِرِ مِنْ رَمَضان وأوتاره آكد، وَلَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أبلَغُ ويَدْعُوا فِيها بِمَا وَرَدْ).

أي: أن ليلة القدر ترجي وتتحرى في العشر الأواخر من رمضان، وآكد العشر أوتاره، وآكد هذه الأوتار ليلة سبع وعشرين.

ص: 493

‌مباحث تتعلق بليلة القدر:

‌المبحث: 1

سبب تسميتها بليلة القدر:

فقيل: لأن الله يقدر فيها الأرزاق والآجال وحوادث العام، كما قال تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم).

وعزاه النووي للعلماء حيث صدر كلامه فقال: قال العلماء: سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار.

قال الشنقيطي: قَوْلُهُ تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) مَعْنَى قَوْلِهِ: يُفْرَقُ، أَيْ يُفْصَلُ وَيُبَيَّنُ، وَيُكْتَبُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أَيْ ذِي حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَكِيمٌ، أَيْ مُحْكَمٌ، لَا تَغْيِيرَ فِيهِ وَلَا تَبْدِيلَ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حَقٌّ; لِأَنَّ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ.

وَإِيضَاحُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ يُبَيِّنُ لِلْمَلَائِكَةِ وَيَكْتُبُ لَهُمْ بِالتَّفْصِيلِ وَالْإِيضَاحِ جَمِيعَ مَا يَقَعُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ السَّنَةِ الْجَدِيدَةِ، فَتَبَيَّنَ فِي ذَلِكَ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ، وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى، وَالْخِصْبُ وَالْجَدْبُ وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، وَالْحُرُوبُ وَالزَّلَازِلُ، وَجَمِيعُ مَا يَقَعُ فِي تِلْكَ السَّنَّةِ كَائِنًا مَا كَانَ. (أضواء البيان).

وقيل: سميت بذلك لأنها ليلة عظيمة وذات شرف، من قولهم لفلان قدر عند فلان، أي: منزلة وشرف، ويدل لذلك قوله تعالى (ليلة القدر خير من ألف شهر).

وقيل: سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

ص: 494

‌مبحث: 2

وهي ليلة شريفة وفاضلة، ومن فضائلها:

‌أولاً: قيامها سبب لمغفرة الذنوب.

قال صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.

‌ثانياً: أنزل فيها القرآن.

قال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر).

‌ثالثاً: أنها مباركة.

قال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة).

قال الشنقيطي: قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة) أَبْهَمَ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هُنَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي قَوْلِهِ تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وَبَيَّنَ كَوْنَهَا (مُبَارَكَةٍ) الْمَذْكُورَةَ هُنَا فِي قَوْلِهِ تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَقَوْلُهُ (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) أَيْ كَثِيرَةِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ لَيْلَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، إِلَى آخِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا فِي سُورَةِ «الْقَدْرِ» - كَثِيرَةُ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ جِدًّا.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي قَوْلِهِ تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن). (أضواء البيان).

ص: 495

‌رابعاً: نزول الملائكة والروح فيها.

قال تعالى (تنزل الملائكة والروح فيها).

قال ابن كثير: أي: يكثر تنزّل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزّل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَقِ الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدقٍ تعظيماً له.

‌خامساً: أنها سلام إلى مطلع الفجر.

قال تعالى (سلام هي حتى مطلع الفجر).

عن مجاهد في قوله (سَلَامٌ هي) قال: سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى.

قال ابن الجوزي:

وفي معنى السلام قولان:

أحدهما: أنه لا يحدث فيها داء ولا يُرسَل فيها شيطان، قاله مجاهد.

والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة، قاله قتادة.

ص: 496

‌مبحث: 3

اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر على أقوال كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري.

ويمكن تقسيم هذه الأقوال إلى:

هناك أقوال مرفوضة. كالقول بإنكارها من أصلها أو رفعها.

هناك أقوال ضعيفة. كالقول بأنها ليلة النصف من شعبان.

هناك أقوال مرجوحة. كالقول بأنها في رمضان في غير العشر الأخيرة منه.

القول الراجح. أنها في العشر الأواخر من رمضان، وآكدها أوتارها.

قال ابن حجر: وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.

‌الدليل على أن أوتار العشر آكد:

حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان). رواه البخاري ومسلم وفي رواية: (في الوتر من العشر الأواخر).

ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها). رواه مسلم

وآكد هذه الأوتار ليلة سبع وعشرين، الأدلة:

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه[المحدث الملهم] وحذيفة بن اليمان [صاحب السر] لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين.

ص: 497

وروى مسلم: عَنْ زِرٍّ قَالَ سَمِعْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ - وَقِيلَ لَهُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ - فَقَالَ أُبَىٌّ: وَاللَّهِ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ - يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِى - وَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ. هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا).

قال ابن رجب: ومما استدل به من رجح أنها ليلة سبع وعشرين الآيات والعلامات التي رؤيت فيها قديماً وحديثاً.

قال الحافظ ابن حجر: لَيْلَةُ الْقَدْرِ مُنْحَصِرَةٌ فِي رَمَضَان، ثُمَّ فِي الْعَشْر الْأَخِيرِ مِنْهُ، ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ، لَا فِي لَيْلَةٍ مِنْهُ بِعَيْنِهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَجْمُوع الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِيهَا.

وقال النووي رحمه الله: "حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ كَانَ يَحْلِف أَنَّهَا لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ، وَهَذَا أَحَد الْمَذَاهِب فِيهَا، وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهَا لَيْلَة مُبْهَمَة مِنْ الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان، وَأَرْجَاهَا أَوْتَارُهَا، وَأَرْجَاهَا لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ وَثَلَاث وَعِشْرِينَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَأَكْثَرهمْ أَنَّهَا لَيْلَة مُعَيَّنَة لَا تَنْتَقِل، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهَا تَنْتَقِل فَتَكُون فِي سَنَة: لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ، وَفِي سَنَة: لَيْلَة ثَلَاث، وَسَنَة: لَيْلَة إِحْدَى، وَلَيْلَة أُخْرَى وَهَذَا أَظْهَر، وَفِيهِ جَمْع بَيْن الْأَحَادِيث الْمُخْتَلِفَة فِيهَا. (شرح مسلم).

‌مبحث: 4

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر، ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها لاقتصر عليها.

‌مبحث: 5

سبب رفع علمها:

جاء في حديث عبادة (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ «إِنِّي خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْس) رواه البخاري.

ص: 498

فهذا يفيد أنها رفعت بسبب المخاصمة.

وجاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ).

والجمع: إما أنه يحمل على التعدد، أو يكون المعنى: أيقظني بعض أهلي فسمعت تلاحي الرجلين فقمت لأحجز بينهما فنسيتها للاشتغال بهما.

قوله (فرفعت) قال ابن كثير: أي رفع علم تعيينها لكم، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود، لأنه قال بعد هذا: فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة.

وقوله (وعسى أن يكون خيراً) أي وإن كان عدم الرفع أزيد خيراً وأولى منه، لأنه متحقق فيه، لكن في الرفع خير مرجو لاستلزامه مزيد الثواب، لكونه سبباً لزيادة الاجتهاد في التماسها.

وقال ابن كثير: وعسى أن يكون خيراً: يعني عدم تعيينها لكم، فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محالِّ رجائها فكان أكثر للعبادة، بخلاف ما إذا علموا عينها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط. وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها، ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده. [تفسير ابن كثير. 4/ 534]

قال القاضي عياض: فيه أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان.

ص: 499

‌مبحث: 6

بعض علامات ليلة القدر:

جاء في صحيح مسلم عن أبي بن كعب (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر من أماراتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع

لها).

ما جاء في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة). رواه ابن خزيمة

وذكر بعض العلماء علامات أخرى: زيادة النور في تلك الليلة، طمأنينة القلب وانشراح الصدر من المؤمن

‌مبحث: 7

بعض العلامات التي لا أصل لها:

قال الحافظ: وذكر الطبري عن قوم أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها وأن كل شيء يسجد فيها.

ذكر بعضهم أن المياه المالحة تصبح في ليلة القدر حلوة، وهذا لا يصح.

وذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها ولا ترى نجومها، وهذا لا يصح.

‌مبحث: 8

هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء، أو يتوقف ذلك على كشفها؟

ذهب إلى الأول الطبري وابن العربي وجماعة.

وإلى الثاني ذهب الأكثر، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ (من يقم ليلة القدر فيوافقها).

وفي حديث عبادة بن الصامت عند أحمد (من قامها إيماناً واحتساباً ثم وفقت له).

قال النووي: معنى يوافقها: أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها.

ص: 500

‌مبحث: 9

يسن أن يقول لمن علمها:

ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت (قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) رواه الترمذي.

‌مبحث: 10

قال النووي في المجموع: ويسن لمن رآها كتمها.

وقال في شرح مسلم: وَاعْلَمْ أَنَّ لَيْلَة الْقَدْر مَوْجُودَة كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي أَوَّل الْبَاب، فَإِنَّهَا تُرَى، وَيَتَحَقَّقهَا مَنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَنِي آدَم كُلّ سَنَة فِي رَمَضَان كَمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الأَحَادِيث السَّابِقَة فِي الْبَاب، وَإِخْبَار الصَّالِحِينَ بِهَا وَرُؤْيَتهمْ لَهَا أَكْثَر مِنْ أَنْ تُحْصَر، وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض: عَنْ الْمُهَلَّب بْن أَبِي صُفْرَة لا يُمْكِن رُؤْيَتهَا حَقِيقَة، فَغَلَط فَاحِش، نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلا يُغْتَرّ بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.

وقال شيخ الإسلام: وَقَدْ يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ أَوْ الْيَقَظَةِ. فَيَرَى أَنْوَارَهَا أَوْ يَرَى مَنْ يَقُولُ لَهُ هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ يُفْتَحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الأَمْرُ.

روى عبد الرزاق في مصنفه أن التابعي الجليل مكحول الدمشقي كان يرى ليلة القدر ثلاث وعشرين.

قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة أبو زيد الأنصاري: يقال أنه كان يرى ليلة القدر.

قال النووي: ليلة القدر مختصة في هذه الأمة زادها الله شرفاً لم تكن لمن كان قبلنا. (المجموع).

وقال أيضاً رحمه الله: إنه الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء.

وقيل: بل كانت موجودة في الأمم الماضية.

لحديث أبي ذر أنه قال: (يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر في رمضان أو في غيره؟ فقال: بل هي في رمضان، قال: قلت: يا رسول الله، تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبض الأنبياء رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: لا بل هي إلى يوم القيامة). رواه النسائي

تخصيص ليلة القدر بعمرة فليس بمشروع، وقد نبه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله على أن تحرى العمرة في ليلة القدر قد يكون بدعة؛ لأنه تخصيص بما لم يأت دليل من الشارع على تخصيصه.

والعمرة خصت في رمضان كله، لقوله صلى الله عليه وسلم "عمرة في رمضان تقضى حجة" أو قال: "حجة معي.

ص: 501

‌باب الاعتكاف

الاعتكاف لغة: الإقامة، يقال: عكف بالمكان إذا أقام فيه، ومنه قوله تعالى:(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون).

وشرعاً: لزوم المسجد بنية مخصوصة لطاعة الله وتفرغاً لعبادته.

‌فائدة:

الحكمة من الاعتكاف:

التفرغ للعبادة، والانقطاع عن العوائق والشواغل.

قال ابن تيمية: ولما كان المرء لا يلزم ويواظب إلا من يحبُّه ويعظِّمه، كما كان المشركون يعكفون على أصنامهم وتماثيلهم، ويعكف أهل الشهوات على شهواتهم شرع الله لأهل الإيمان أن يعكفوا على ربهم سبحانه وتعالى.

وذلك: لكي ينأى بنفسه عن الشَّواغل التي تحول بين المرء وبين أن يتفرَّغ لعبادة ربّه سبحانه وتعالى!

وهذه الشواغل تتمثل في الفضول الأربعة:

فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام!

فالقدر المناسب من هذه المضرّات الأربعة، ليس مضرّاً، ولكن الزيادة فيها عن حدّ الاعتدال!

وقال ابن رجب: فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال.

ص: 502

(وهو سنة).

أي: أن الاعتكاف سنة للرجل والمرأة.

قال ابن قدامة: ومما يدل على أنه سنةٌ، فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه، تقرباً إلى الله تعالى، وطلباً لثوابه، واعتكاف أزواجه معه وبعده، ويدل على أنه غير واجبٍ أن أصحابه لم يعتكفوا، ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به إلا من أراده.

وقال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضاً إلا أن يوجبه المرء على نفسه، فيجب عليه.

وقال النووي: فالاعتكاف سنةٌ بالإجماع ولا يجب إلا بالنذر بالإجماع.

(المجموع).

أ-قال تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

ب- وَعَنْ عائشة (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ اَلْعَشْرَ اَلْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اَللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ج- قوله صلى الله عليه وسلم (

فمن أحب أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر) رواه مسلم.

د - وعَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِيَ لَهَا

) متفق عليه.

نقل عن الإمام مالك أنه قال (تأملت أمر الاعتكاف وما ورد فيه كيف أن المسلمين تركوه مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه، فرأيت أنهم إنما تركوه لمشقة ذلك عليهم).

قال الزهري: عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله.

ص: 503

‌فائدة:

وهو سنة في رمضان وغير رمضان، لكن الأفضل والسنة في رمضان في العشر الأواخر.

(ويصِحُّ بِلا صومٍ).

أي: يصح الاعتكاف بلا صوم.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من شوال.

فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ أَرَادَ الاِعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الأَخْبِيَةُ فَقَالَ «آلْبِرَّ تُرِدْنَ» . فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الاِعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ) رواه مسلم.

قال البغوي: وفي اعتكافه في أوَّل شوال دليلٌ على أنّ الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف؛ لأنّ يوم العيد غير قابل للصوم.

ب-ولحديث ابن عمر: (أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك). متفق عليه.

قال الخطابي: وفيه دليل على أنّ الاعتكاف جائز بغير صوم؛ لأنه كان نذرَ اعتكافَ ليلة، والليل ليس بمحل للصوم.

وهذا الحديث أيضًا قد بوّب له ابن خزيمة بقوله: باب الخبر الدال على إجازة الاعتكاف بلا مقارنة للصوم، إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر باعتكاف ليلة، ولا صوم في الليل.

ص: 504

ج- حديث ابن عَبَّاسٍ - أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَيْسَ عَلَى اَلْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ) وهو ضعيف.

د-ولأنه عبادة تصح في الليل، فلم يشترط له الصيام كالصلاة، ولأنه عبادة تصح في الليل، فأشبه سائر العبادات.

هـ-ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع، ولم يصح فيه نص، ولا إجماع، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يشترط للاعتكاف صوم.

وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.

قال ابن القيم: القول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.

أ- لقوله تعالى (

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

وجه الاستدلال: أنّ الله تعالى ذكر الاعتكاف إثر الصوم فوجب أن لا يكون الاعتكاف إلا بصوم.

ب- وعن عائشة. قَالَتْ: (اَلسُّنَّةُ عَلَى اَلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ

) رواه أبو داود.

ج-ما روته عائشة مرفوعاً (لا اعتكاف إلا بصوم) رواه الدارقطني.

ص: 505

(ويجبُ بالنذرِ).

أي: الاعتكاف لا يجب إلا إذا نذره الإنسان على نفسه.

قال الحافظ: وليس واجباً إجماعاً إلا على من نذره.

لحديث عمر أنه قال (يا رسول الله إني نذرت أني أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك) متفق عليه.

ولحديث عائشة (من نذر أن يطيع الله فليطعه) رواه البخاري، والاعتكاف طاعة.

(وآكده في رمضان في العشر الأواخر).

أي: وآكد الاعتكاف وأفضله في رمضان في العشر الأواخر منه، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

أ- عن عائشة (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ اَلْعَشْرَ اَلْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اَللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

ب- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ قَالَ مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا) رواه البخاري.

‌فائدة:

الحكمة من تخصيص الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؟

لالتماس ليلة القدر.

عنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ .... ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ: إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ) متفق عليه.

(ولا حدّ لأكثره).

أي: لا حد لأكثر الاعتكاف.

قال ابن حجر: اتفقوا على أنه لا حد لأكثره.

وقال ابن الملقن: أجمع العلماء على أن لا حدَّ لأكثره.

ص: 506

‌فائدة:

اختلف العلماء في أقل الاعتكاف على أقوال:

‌القول الأول: أن أقله لحظة.

وهذا مذهب الجمهور، فهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.

قال النووي: وَأَمَّا أَقَلُّ الاعْتِكَافِ فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لُبْثٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الْكَثِيرُ مِنْهُ وَالْقَلِيلُ حَتَّى سَاعَةٍ أَوْ لَحْظَة.

أ-أن الاعتكاف في اللغة هو الإقامة، وهذا يصدق على المدة الطويلة والقصيرة ولم يرد في الشرع ما يحدده بمدة معينة.

قال ابن حزم: والاعتكاف في لغة العرب الإقامة .. فكل إقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب إليه اعتكاف .. مما قل من الأزمان أو كثر، إذ لم يخص القرآن والسنة عدداً من عدد، ووقتاً من وقت.

ب-روى ابن أبي شيبة عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف. احتج به ابن حزم في المحلى (5/ 179) وذكره الحافظ في الفتح وسكت عليه. والساعة هي جزء من الزمان وليست الساعة المصطلح عليها الآن وهي ستون دقيقة.

ج-أن الاعتكاف في اللغة يقع على القليل والكثير.

قال الشيخ ابن باز: الاعتكاف هو المكث في المسجد لطاعة الله تعالى سواء كانت المدة كثيرة أو قليلة، لأنه لم يرد في ذلك فيما أعلم ما يدل على التحديد لا بيوم ولا بيومين ولا بما هو أكثر من ذلك، وهو عبادة مشروعة إلا إذا نذره صار واجباً بالنذر وهو في المرأة والرجل سواء.

ص: 507

‌القول الثاني: أن أقل مدته يوم.

وقال به بعض المالكية.

القول الثالث: أن أقل مدته يوم وليلة.

وهذا مذهب المالكية.

لحديث عمر أنه قال (يا رسول الله إني نذرت أني أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك). متفق عليه.

والراجح القول الأول.

(ولا يَصِح إلا في مسجدٍ).

أي: لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد.

لقوله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

قال ابن عبد البر: وأجمعوا أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد.

وقال القرطبي: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد.

وقال في المغني: لا نعلم فيه خلافاً.

(يُجمعُ فيه).

أي: في مسجد تقام فيه الجماعة.

وهذا مذهب الحنفية والحنابلة.

لقوله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

ص: 508

وجه الدلالة: أن الآية تعم كل مسجد، وخص منها ما تقام فيه الجماعة لأدلة وجوب الجماعة.

قال ابن قدامة في المغني: وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، وَاعْتِكَافُ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ:

الأول: إمَّا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ - وَإِمَّا خُرُوجُهُ إلَيْهَا، فَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ كَثِيرًا مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ، إذْ هُوَ لُزُومُ الْمُعْتَكَفِ وَالْإِقَامَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيهِ.

وذهب بعض العلماء: أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة.

لحديث حذيفة مرفوعاً (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) رواه سعيد بن منصور.

وذهب بعضهم: إلى أنه يصح في كل مسجد سواء تقام فيه الجماعة أم لا.

وهذا مذهب الشافعية.

لقوله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). قالوا: وهذا عام يشمل كل المساجد ولا يقبل تخصيصها ببعض المساجد إلا بدليل.

والراجح المذهب، وأنه يصح في كل مسجد جماعة.

ص: 509

‌فائدة:

الجواب عن حديث حذيفة (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة):

أولاً: أنه لا يثبت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أنه لو كان ثابتاً مرفوعاً لاشتهر ذلك بين الصحابة، وقد خالفه جمع من الصحابة.

قال علي بن أبي طالب: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. أخرجه ابن أبي شيبة.

وقالت عائشة: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. أخرجه البيهقي.

وقال ابن عباس: لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة. أخرجه البيهقي

ثالثاً: أنه لو قيل: بموجب هذا الحديث لكان حملاً للآية على النادر، وهذا من معايب الاستدلال.

رابعاً: على فرض ثبوته، فالمراد: لا اعتكاف كامل لما تقدم من أدلة الرأي الأول.

(إلا المرأةُ ففي كلِ مسجدٍ سِوَى مسجدَ بيتِها).

أي: أن المرأة يشرع لها الاعتكاف كالرجل كما تقدم، في الحديث (

ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ).

ويصح اعتكافها في كل مسجد ولو لم تقم فيه الجماعة، سوى مسجد بيتها.

وهذا مذهب الجمهور. (خلافاً لمن قال يجوز في مسجد بينها وهو مصلاها).

وقد ذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز لها أن تعتكف في مسجد بيتها (وهو مصلاها).

والراجح مذهب الجمهور، وأنه لا يصح في مسجد بيتها.

ص: 510

قال ابن قدامة:

أ- وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ فِيهَا، وَمَوْضِعُ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِنْ سُمِّيَ مَسْجِدًا كَانَ مَجَازًا، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْمَسَاجِدِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا).

ب-وَلِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَّهُ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَذِنَ لَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِاعْتِكَافِهِنَّ، لَمَا أَذِنَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ أَفْضَلَ لَدَلَّهُنَّ عَلَيْهِ، وَنَبَّهَهُنَّ عَلَيْهِ.

ج-وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ يُشْتَرَطُ لَهَا الْمَسْجِدُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، فَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، كَالطَّوَافِ. (المغني).

د- وعن عائشة. (أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضةٌ ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم) أخرجه البخاري.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكَّن امرأته أن تعتكف في المسجد وهي مستحاضةٌ، إذ لا تفعل ذلك إلا بأمره، ولو كان الاعتكاف في البيت جائزاً لما أمرها بالمسجد، ولأمرها بالبيت؛ فإنه أسهل وأيسر وأبعد عن تلويث المسجد بالنجاسة، وعن مشقة حمل الطست ونقله، وهو صلى الله عليه وسلم لم يُخيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فعُلِمَ أن الجلوس في غير المسجد ليس باعتكاف.

ص: 511

‌فائدة:

شروط اعتكاف المرأة:

أولاً: إذن الزوج.

ثانياً: إذا أمنت الفتنة. ثالثاً: أن تكون طاهرة.

(ويشترط لاعتكاف المرأة إذا وليها).

أي: يشترط لاعتكاف المرأة إذا وليها من زوج أو غيره، فلا يجوز للمرأة أن تعتكف إلا بإذن زوجها، لأن اعتكافها في المسجد يفوت حق الزوج، فإن أذن لها فله الرجوع في الإذن وإخراجها من الاعتكاف.

ففي عائشة وقد تقدم (

فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ

).

قال ابن قدامة: وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ إلا بِإِذْنِ زَوْجِهَا فَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَها، ثُمَّ أَرَادَ إخْرَاجَها مِنْهُ بَعْدَ شُرُوعِها فِيهِ، فَلَه ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ كَانَ مَا أُذِنَ فِيهِ مَنْذُورًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيلُهُا مِنْهُ; لأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَيَجِبُ إتْمَامُهُ، فَيَصِيرُ كَالْحَجِّ إذَا أَحْرَمَت بِهِ اهـ بتصرف.

وقد دلت السنة على جواز منع الرجل امرأته من الاعتكاف إلا بإذنه.

ففي حديث عائشة - وقد تقدم - قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ أَرَادَ الاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الأَخْبِيَةُ فَقَالَ آلْبِرَّ تُرِدْنَ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّال) متفق عليه.

وفي رواية للبخاري (فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَة فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَة عَائِشَة أَنْ تَسْتَأْذِن لَهَا فَفَعَلَت).

قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَغَيْرُهُ: فِي الْحَدِيث إِنَّ الْمَرْأَة لا تَعْتَكِف حَتَّى تَسْتَأْذِن زَوْجهَا وَأَنَّهَا إِذَا اِعْتَكَفَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَلَهُ أَنَّ يَرْجِعَ فَيَمْنَعَهَا. وَعَنْ أَهْل الرَّأْي إِذَا أَذِنَ لَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ مَنَعَهَا أَثِمَ بِذَلِكَ وَامْتَنَعَتْ، وَعَنْ مَالِك لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيث حُجَّةٌ عَلَيْهِم. (فتح الباري).

ص: 512

(ويبطل بالخروج من المسجد لغير عذر).

أي: ويبطل الاعتكاف بالخروج من المسجد بجميع بدنه بلا عذر. (كالبيع والشراء).

وهذا باتفاق الأئمة.

عن عائشة قَالَتْ: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ -وَهُوَ فِي اَلْمَسْجِدِ- فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ اَلْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وعنها قالت (السنة للمعتكف أن لا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له) رواه أبو داود.

‌فائدة:

ويمكن أن يُقسم خروج المعتكف من المسجد إلى أقسام:

أولاً: خروج بعض جسد المعتكف.

فهذا لا يبطل الاعتكاف بالاتفاق.

لحديث عائشة السابق (إِنْ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ -وَهُوَ فِي اَلْمَسْجِدِ- فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ اَلْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفاً) متفق عليه.

وعنها قالت (كَان صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهْوَ مُعْتَكِفٌ فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ) متفق عليه.

ثانياً: الخروج بجميع بدنه بلا عذر. (كالبيع والشراء).

فهذا يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة.

لحديث عائشة السابق (

وَكَانَ لَا يَدْخُلُ اَلْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفاً) متفق عليه.

ثالثاً: الخروج لما لا بد منه.

(كالبول والغائط، وخروجه للوضوء إذا لم يكن فعله في المسجد).

عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا) متفق عليه.

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن للمعتكف أن يخرج عن معتكفه للغائط أو البول.

قال ابن قدامة: وَالْمُرَادُ بِحَاجَةِ الإِنْسَانِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، كَنَّى بِذَلِكَ عَنْهُمَا; لأنَّ كُلَّ إنْسَانٍ يَحْتَاجُ إلَى فِعْلِهِمَا، وَفِي مَعْنَاهُ الْحَاجَةُ إلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ

وَكُلُّ مَا لا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ، وَلا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُطِلْ اهـ. (المغني).

ص: 513

‌فائدة: 1

إذا وجد من يأتيه بالأكل فهل له الخروج من المسجد إلى منزله للأكل؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ليس له الخروج من المسجد في هذه الحال فإن خرج بطل اعتكافه.

وإليه ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية، والحنابلة.

أ- واستدل هؤلاء بحديث عائشة السابق (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ).

فقولها (إلا لحاجة الإنسان) كناية عن البول والغائط فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لا يخرج للأكل والشرب مع قرب بيته من المسجد.

ب-ولأن الأصل في الاعتكاف لزوم المسجد والمكث فيه وعدم الخروج منه إلا لحاجةٍ ملحة، ومادام المعتكف يوجد من يأتي له بالأكل فقد أمكن قضاء حاجة الأكل في المسجد، فيكون خروجه في هذه الحال خروجاً لغير حاجة، والخروج لغير حاجة ينافي الاعتكاف.

القول الثاني: له الخروج من المسجد إلى منزله للأكل وإن أمكنه ذلك في المسجد.

وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي.

والراجح قول الجمهور.

تنبيه: وأما خروج المعتكف من المسجد لشرب الماء في منزله مع إمكان ذلك في المسجد فلا يجوز في قول أكثر الفقهاء.

ص: 514

‌فائدة: 2

الخروج لصلاة الجمعة.

إذا تخلل الاعتكاف جمعة في مسجد غير جامع وجب على المعتكف الخروج إلى صلاة الجمعة إذا كان من أهلها.

ولكن هل يبطل اعتكافه؟

قيل: لا يبطل اعتكافه.

وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، وبه قال ابن حزم.

أ-واستدلوا بالأدلة الدالة على مشروعية الاعتكاف في مسجد الجماعة.

وجه الدلالة: أن الشارع أذن بالاعتكاف في مسجد الجماعة مع إيجاب صلاة الجمعة، فدل ذلك على إذنه للخروج لصلاة الجمعة، وما ترتب على المأذون غير مضمون.

ب- أدلة وجوب صلاة الجمعة كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ).

وجه الدلالة: دلت هذه الأدلة على عدم بطلان الاعتكاف بالخروج إلى صلاة الجمعة، لأن إيجاب الشارع لها يقتضي استثناءها من عدم البطلان بالخروج.

وقيل: يبطل اعتكافه.

وهذا مذهب المالكية والشافعية.

قالوا: بأنه يمكنه الاحتراز من الخروج بأن يعتكف في مسجد جامع.

والراجح القول الأول، وهو عدم البطلان. (فقه الاعتكاف للمشيقح).

ص: 515

(إلا أن يشترط).

الاشتراط في الاعتكاف معناه: أن يشترط في ابتداء اعتكافه الخروج من المسجد لأمرٍ لا ينافي الاعتكاف.

أي: إذا اشترط في اعتكافه أن يزور مريضاً، أو شهود جنازة فإنه يجوز له الخروج لذلك.

وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة. (يجوز له الخروج إذا اشترط).

أ- عن عائشة قَالَتْ: (اَلسُّنَّةُ عَلَى اَلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ، إِلَّا أَنَّ اَلرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ.

ب-وعنها قَالَتْ (إِنْ كُنْتُ لأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلاَّ وَأَنَا مَارَّةٌ) رواه مسلم.

ولقولها (كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه) رواه مسلم.

عموم قوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).

ولحديث ضباعة بنت الزبير، وفيه قال لها النبي صلى الله عليه وسلم (حجي واشترطي) متفق عليه.

وجه الدلالة: أنه إذا كان الشرط يؤثر في الإحرام، وهو ألزم العبادات بالشروع فيه، فالاعتكاف من باب أولى.

(وبالوطء في الفرج).

أي: ويبطل الاعتكاف بالجماع في الفرج، وهذا بالإجماع.

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه من جامع امرأته وهو معتكف عامداً لذلك في فرجها أنه يفسد اعتكافه.

وقال ابن حجر: واتفقوا على فساده بالجماع.

قال تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع.

ص: 516

‌فائدة:

حكم مباشرة الزوجة حال الاعتكاف:

إذا باشر المعتكف زوجته لا يخلو من حالين:

الحال الأولى: إن كان لغير شهوة فلا يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة الأربعة.

والحال الثانية: وإن كانت المباشرة لشهوة حرم ذلك عليه باتفاق العلماء.

أ-لحديث الباب (وَكَانَ لَا يَدْخُلُ اَلْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ).

ب- ولمنافاته حال الاعتكاف.

•‌

‌ وهل يبطل اعتكافه؟

قولان للعلماء:

جماهير العلماء أنه لا يبطل اعتكافه إلا بالإنزال، إبقاء على الأصل، وهو صحة الاعتكاف، ولم يرد ما يدل على بطلانه.

وأما الآية (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) فالمراد بالمباشرة هنا الجماع في قول جمهور المفسرين، وهو اختيار ابن جرير. (فقه الاعتكاف للمشيقح).

(ويدخل معتكفه قبل غروب شمس من ليلة إحدى وعشرين).

أي: أن من أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فإنه يدخل المسجد الذي يريد أن يعتكف فيه: قبل غروب الشمس من ليلة

إحدى وعشرين.

وهذا مذهب الأئمة الأربعة. (الفتح).

ص: 517

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:

والعشر الأواخر من رمضان تدخل من ليلة إحدى وعشرين وليس من فجر إحدى وعشرين.

أ-أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. متفق عليه، وهذا يدل على أنه كان يعتكف الليالي لا الأيام، لأن العشر تمييز لليالي، قال الله تعالى (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) والعشر الأواخر تبدأ من ليلة إحدى وعشرين.

2 -

قالوا: إن من أعظم ما يقصد من الاعتكاف التماس ليلة القدر، وليلة إحدى وعشرين من ليالي الوتر في العشر الأواخر فيحتمل أن تكون ليلة القدر، فينبغي أن يكون معتكفاً فيها.

قال ابن تيمية: لأنه لا يكون معتكفًا جميع العشر إلا باعتكاف أول ليلة منه، لا سيما وهي إحدى الليالي التي يلتمس فيها ليلة القدر.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يدخل من بعد صلاة الصبح من يوم إحدى وعشـ 21 ـرين.

قال ابن حجر: وهو قول الأوزاعي والليث والثوري.

ومال إليه الصنعاني.

لحديث عائشة قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى اَلْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قال الخطابي: وفيه من الفقه: أن المعتكف يبتدئ اعتكافه من أول النهار، ويدخل في معتكفه بعد أن يصلي الفجر.

وقال الصنعاني: فيه دليلٌ على أنّ أول وقت الاعتكاف بعد صلاة الفجر، وهو ظاهر في ذلك.

لكن الصحيح قول الجمهور.

والجواب عن حديث عائشة (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى اَلْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ) من وجهين:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً قبل غروب الشمس ولكنه لم يدخل المكان الخاص بالاعتكاف إلا بعد صلاة الفجر.

قال النووي: (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِف صَلَّى الْفَجْر ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفه) اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُول: يَبْدَأ بِالاعْتِكَافِ مِنْ أَوَّل النَّهَار، وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْث فِي أَحَد قَوْلَيْهِ، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد: يَدْخُل فِيهِ قَبْل غُرُوب الشَّمْس إِذَا أَرَادَ اِعْتِكَاف شَهْر أَوْ اِعْتِكَاف عَشْر، وَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ الْمُعْتَكَف، وَانْقَطَعَ فِيهِ، وَتَخَلَّى بِنَفْسِهِ بَعْد صَلَاته الصُّبْح، لا أَنَّ ذَلِكَ وَقْت اِبْتِدَاء الاعْتِكَاف، بَلْ كَانَ مِنْ قَبْل الْمَغْرِب مُعْتَكِفًا لابِثًا فِي جُمْلَة الْمَسْجِد، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْح اِنْفَرَدَ.

ص: 518

وقال ابن حجر: وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح.

وسئل الشيخ ابن عثيمين: متى يبتدئ الاعتكاف؟

فأجاب: جمهور أهل العلم على أن ابتداء الاعتكاف من ليلة إحدى وعشرين لا من فجر إحدى وعشرين، وإن كان بعض العلماء ذهب إلى أن ابتداء الاعتكاف من فجر إحدى وعشرين مستدلاًّ بحديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري:(فلما صلى الصبح دخل معتكفه) لكن أجاب الجمهور عن ذلك بأن الرسول عليه الصلاة والسلام انفرد من الصباح عن الناس، وأما نية الاعتكاف فهي من أول الليل، لأن العشر الأواخر تبتدئ من غروب الشمس يوم عشرين.

الجواب الثاني: أَجَابَ به الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَة بِحَمْلِ الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَل ذَلِكَ فِي يَوْم الْعِشْرِينَ. قال السندي: وَهَذَا الْجَوَاب هُوَ الَّذِي يُفِيدهُ النَّظَر، فَهُوَ أَوْلَى وَبِالاعْتِمَادِ أَحْرَى.

‌فائدة:

متى يخرج المعتكف من معتكفه؟

ذهب بعض العلماء إلى أنه يستحب أن يكون خروجه من معتكفه عند خروجه إلى صلاة العيد.

لكي يصل عبادة بعبادة.

وقيل: يخرج إذا غربت الشمس ليلة العيد.

وهذا القول هو الصحيح، لأن العشر الأواخر تنتهي بانتهاء الشهر، والشهر ينتهي بغروب الشمس من ليلة العيد.

(ومن نذرَ الاعتكاف في مسجدٍ، فله فعل ذلك في غيرهِ إلا المسجدَ الثلاثةَ).

المراد بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.

أي: من نذر أن يعتكف في مسجد - غير هذه الثلاثة - فله فعل ذلك فيه وفي غيره من المساجد، إلا المساجد الثلاثة إذا نذر الاعتكاف بها تعين الوفاء به.

ص: 519

فمن نذر الصلاة في أحد المساجد الثلاثة أو الاعتكاف بها لزمه الوفاء بنذره، ولو لزم من ذلك شد الرحال، لأن هذه المساجد تشد إليها الرحال.

أ-لعموم ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من نذر أن يطيع الله فليطعه).

فالوفاء بنذر الطاعة واجبٌ.

ب- وعن ابن عمر (أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام. قال: فأوف بنذرك) متفق عليه.

ج- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تُشَدُّ اَلرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِد اَلْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

ومن نذر إتيان غير هذه المساجد لصلاة أو غيرها لا يلزمه الوفاء به.

لأنه لا فضل لبعضها على بعض، فتكفي صلاته في أي مسجد كان، ويدل لذلك:

أولاً: بأن الشارع الحكيم لم يعين موضعاً خاصاً للعبادات فلا تتعين.

ثانياً: أنه لو ألزمناه بما نذر للزم من ذلك أن تشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فلو نذر أن يعتكف في مسجد خارج بلدته للزمه أن يشد الرحال إلى هذا المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).

جاء في (الموسوعة الفقهية) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَسْجِدِ الأْقْصَى، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

الاِتِّجَاهُ الأْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ مَسْجِدًا غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ لاِعْتِكَافِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ.

إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ لَهُمْ أَنَّهُ يُخَيَّرُ سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَى شَدِّ الرِّحَال أَوْ لَمْ يَحْتَج.

ص: 520

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (لَا تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأْقْصَى).

فَالْمَسْجِدُ الْمُعَيَّنُ فِي النَّذْرِ لَوْ كَانَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَلَزِمَ النَّاذِرَ الْمُضِيُّ إِلَيْهِ وَاحْتَاجَ إِلَى شَدِّ الرِّحَال إِلَيْهِ؛ لِقَضَاءِ نَذْرِهِ فِيهِ، وَقَدْ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ شَدِّ الرِّحَال وَالسَّفَرِ إِلاَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا عَدَمُ تَعَيُّنِ غَيْرِهَا بِالنَّذْرِ، لِلنَّهْيِ عَنْ شَدِّ الرِّحَال إِلَيْهَا

وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْ لِعِبَادَتِهِ مَكَانًا مُعَيَّنًا، فَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الْمَوْضِعُ بِتَعْيِينِ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ عَلَى بَعْضٍ بِاسْتِثْنَاءِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ بَعْضُهَا بِالتَّعْيِينِ.

وَأَضَافُوا: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَدْخُل تَحْتَ النَّذْرِ إِلاَّ مَا كَانَ قُرْبَةً، وَعَيْنُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ الْقُرْبَةُ لَيْسَ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَدْخُل فِي النَّذْرِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ النَّذْرُ.

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَلَا يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ.

وَهَذَا قَوْل زُفَرَ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَة. (الموسوعة).

‌فائدة:

لو نذر الصلاة في المسجد الأقصى جاز أن يصليها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي.

ولو نذر الصلاة في المسجد النبوي جاز أن يصليها في المسجد الحرام ولم يجز أن يصليها في المسجد الأقصى.

لو نذر أن يصلي في المسجد الحرام فإنه لا يجوز له أداؤها إلا فيه لعدم جواز الانتقال من الأفضل إلى المفضول.

ويدل لذلك:

حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (أَنَّ رَجُلاً، قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ، أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: شَأْنُكَ إِذَنْ) رواه أبو داود.

ص: 521

قال ابن تيمية: وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ: قَالُوا: إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَجْزَأَهُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَجْزَأَهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ.

فمسألة نقل النذر لها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن ينقله من المفضول إلى الفاضل: فهذا لا بأس به.

مثال: لو نذر أن يصوم يوم الثلاثاء، ثم صام يوم الإثنين، فهنا لا يحنث، لأنه نقل نذره من مفضول إلى فاضل، فهو أتى بالمفضول وزيادة.

الحالة الثانية: أن ينقله من مساوٍ إلى مساو: فهذا تلزمه كفارة يمين.

مثال: لو نذر أن يصوم يوم الأربعاء فصام يوم الثلاثاء.

الحالة الثالثة: أن ينقل من فاضل إلى مفضول.

مثال: لو نذر صيام يوم الإثنين، ثم صام يوم الثلاثاء، فليس له ذلك، وعليه أن يصوم يوم الإثنين، لأن النذر لم يقع موقعه.

(وأفضلُها المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم الأقصى).

أي: وأفضل هذه المساجد: المسجد الحرام.

لأن له من الخصائص ما ليس لغيره:

فهو أول مسجد وضع في الأرض.

كما قال تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين).

ص: 522

وعن أبي ذَر. قال (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ قَالَ «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ «الْمَسْجِدُ الأَقْصَى». قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ «أَرْبَعُونَ عَامًا ثُمَّ الأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَل) متفق عليه.

وهو مبارك.

كما قال تعالى (مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين).

والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه، ولا أكثر خيراً منه، ولا أدوم منه، ولا أنفع للخلائق.

وأنه أحد المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها.

كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم (لَا تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأْقْصَى).

وأن الله تعالى أضافه إلى نفسه.

كما قال تعالى (وطهر بيتيَ)، فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته.

وجعل الله قصده مكفراً لما سلف من الذنوب.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّه) متفق عليه.

والصلاة فيه مضاعفة، فالصلاة فيه بمائة ألف صلاة.

عَنِ اِبْنِ اَلزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي بِمِائَةِ صَلَاةٍ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.

وقد جاء عند ابن ماجه (وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه).

ص: 523

‌فائدة: 1

وقد اختلف العلماء: هل هذا الفضل يشمل جميع الحرام أم فقط خاص بمسجد الكعبة على قولين:

‌القول الأول: أن المضاعفة خاصة بالمسجد الذي فيه الكعبة.

وهذا مذهب المالكية، وإلى هذا ذهب جماعة من العلماء منهم النووي والمحب الطبري، وابن مفلح، وابن حجر الهيتمي واختاره ابن عثيمين رحمهم الله.

أ- لقوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ).

وجه الدلالة: أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان من مسجد الكعبة، كما يدل على ذلك حديث أنس قال (أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة) فدل ذلك على أن المراد بالمسجد الحرام في مضاعفة الصلاة، مسجد الكعبة.

ب- ولقوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام) والمقصود أن الاستقبال في هذه الآية للكعبة.

ج-ولحديث ميمونة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواها من المساجد إلا مسجد الكعبة) رواه مسلم.

وجه الدلالة: قوله (إلا مسجد الكعبة) وهذا نص، حيث فسرت هذه الرواية، الروايات الأخرى التي فيها ذكر المسجد الحرام.

‌القول الثاني: أن المضاعفة عامة في جميع الحرم.

وهو مذهب الحنفية، والشافعية، وقول للحنابلة، واختاره ابن القيم والشيخ ابن باز.

أ- لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذا).

فهذه الآية تدل على أن المقصود بالمسجد الحرام هو الحرم كله وليس المسجد فقط، قال ابن حزم بلا خلاف.

ب-أن النبي صلى الله عليه وسلم - عندما كان في صلح الحديبية - (أخرجه أحمد مطولاً 4/ 323) كان يصلي في الحرم مع أن إقامته في الحديبية بالحل وذكر الشافعي أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم.

وهذا من أصرح الأدلة على أن مضاعفة الصلاة تتعلق بجميع الحرم وليس مسجد الجماعة فقط.

ص: 524

قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذا دلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف

‌فائدة: 2

اختلف العلماء: هل المضاعفة تختص بالفريضة أم تشمل حتى النافلة على قولين:

‌القول الأول: إن المضاعفة تختص بالفريضة فقط.

وهذا مذهب أبي حنيفة والمالكية ورجحه الطحاوي.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة).

‌القول الثاني: أن المضاعفة تعم صلاة الفريضة والنفل.

وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة ورجحه النووي.

قال النووي في شرح صحيح مسلم: اعلم أن مذهبنا أنه لا يختص هذا التفضيل بالصلاة في هذين المسجدين بالفريضة؛ بل يعم الفرض والنفل جميعاً، وبه قال مطرف من أصحاب مالك. وقال الطحاوي: يختص بالفرض، وهذا مخالف إطلاق هذه الأحاديث الصحيحة. والله اعلم.

لإطلاق الأحاديث الصحيحة.

قال الشيخ ابن باز: المضاعفة عامة للفرض والنفل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفي المسجد الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الفريضة بل قال (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).

وقال صلى الله عليه وسلم (صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)، وهذا يعم النفل والفرض، لكن النفل في البيت أفضل، ويكون له أجر أكثر، والمرأة في بيتها أفضل ولها أجر أكثر، وإذا صلى الرجل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فرضاً أو نفلاً فله هذه المضاعفة، ومع هذا فالمشروع له أن يصلي النافلة في البيت، سنة الظهر سنة المغرب سنة العشاء سنة الفجر أفضل، وتكون له المضاعفة أكثر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: قال للناس: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ويخاطبهم وهو في المدينة عليه السلام، فدل ذلك على أن صلاتهم في بيوتهم صلاة النافلة أفضل وتكون مضاعفتها أكثر، وهكذا في المسجد الحرام.

وهذا القول هو الراجح.

ص: 525

فائدة: قال الحافظ ابن حجر: ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء باتفاق العلماء كما نقله الثوري وغيره.

(ثم المسجد النبوي).

أي: ويلي المسجد الحرام في الأفضلية والتضعيف المسجد النبوي، الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَام) متفق عليه.

واختلف العلماء: هل المضاعفة خاص بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بناه أو يشمل الزيادة التي طرأت على المسجد بعد وفاته على قولين:

القول الأول: أن الصلاة تضاعف فيها كما تضاعف في أصل المسجد.

وهذا مذهب الجمهور.

قال ابن رجب رحمه الله: وحكم الزيادة حكم المزيد فيه في الفضل أيضاً، فما زيد في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم كله سواء في المضاعفة والفضل.

وقد قيل: إنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف، إنما خالف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا، منهم ابن عقيل وابن الجوزي، وبعض الشافعية.

القول الثاني: أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده.

ورجح هذا النووي.

والراجح الأول.

والله أعلم.

ص: 526

ومما جاء في فضله:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) متفق عليه.

قال ابن حجر: قوله (روضة من رياض الجنة) أي: كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة، وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيهًا بغير أداة، أو المعنى: أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة، فيكون مجازًا، أو هو على ظاهره، وأن المراد أنه روضة حقيقة، بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة. هذا محصل ما أوله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوة. انتهى. (الفتح).

(ثم المسجد الأقصى).

فهو أفضل المساجد بعد الحرمين.

فهو أول القبلتين، وثاني مسجد وضع في الأرض.

وسمي بذلك: قيل: لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل: في الزمان، وفيه نظر، لأنه ثبت في الصحيح أن بينهما أربعين سنة.

واختلف في مقدار الصلاة فيه:

قيل: عن [500] صلاة.

جاء ذلك عند الطبراني.

والذي يظهر من كلام ابن تيمية وابن القيم ترجيح هذا القول.

وقيل: بألف صلاة.

جاء عند ابن ماجه، وهو ضعيف.

وقيل: بخمسين ألف صلاة.

جاء عند ابن ماجه.

ص: 527

قال ابن القيم تعليقاً على هذه الرواية: وهذا محال، لأن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل منه، والصلاة فيه تفضل على غيره بألف صلاة.

وقال الذهبي: هذا منكر جداً.

وقيل: بمائتين وخمسين صلاة.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال (تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مِثْل شطن فرسه من الأرض حيث يَرى منه بيت المقدس خيراً له من الدنيا جميعاً) رواه الحاكم (4/ 509) وصححه ووافقه الذهبي والألباني كما في " السلسلة الصحيحة " في آخر الكلام على حديث رقم (2902).

ص: 528

‌كتاب الحج

‌تعريف الحج:

لغة: القصد، يقال: حج كذا بمعنى قصد.

وشرعاً: التعبد لله بأداء المناسك على صفة مخصوصة في وقت مخصوص.

والعمرة لغة: الزيارة.

وشرعاً: التعبد لله بالطواف والسعي والحلق أو التقصير.

‌فائدة: 1

حكم الحج.

الحج واجب بالكتاب والسنة والإجماع، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة.

أ- قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).

وجه الدلالة من وجهين:

الأول: قوله (على) فإن هذا الحرف موضوع في خطاب الشرع للدلالة على الأمر.

الثاني: قوله (ومن كفر) فإن الكفر لا يذكر إلا على ترك مأمور به واجب.

ب- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس:

وذكر منها: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).

ج- وصح عن عمر أنه قال (من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً) رواه البيهقي، وإسناده صحيح كما ذكر ابن كثير وابن حجر.

والإجماع، قال ابن المنذر: أجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة.

ص: 529

‌فائدة: 2

اختلف العلماء في فرض الحج:

فقيل: قبل الهجرة.

قال في الفتح: هو شاذ.

وقيل: بعدها، واختلف في أي سنة:

فالجمهور أنه فرض في السنة السادسة لأنه نزل فيه قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله).

ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر.

وقيل سنة تسع، ورجحه ابن القيم وقال:

فإن فرض الحج تأخر سنة تسع أو عشر، وأما قوله تعالى: (وأتموا

) فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فرض الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقضي وجوب الابتداء.

وهذا القول هو الراجح.

فإن قيل: لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة؟

فالجواب:

أ-لكثرة الوفود في تلك السنة، ولهذا تسمى السنة التاسعة سنة الوفود.

ب-ولأن في السنة التاسعة كان من المتوقع أن يحج المشركون.

ج-وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ذلك لبيان أن إمامة المسلمين في غيبته لأبي بكر رضي الله عنه، فكما كان إماماً لهم في الصلاة يكون إماماً لهم أيضاً في الحج.

د-ذكر بعضهم قال: كون النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر الحج يدل على أن الحج ليس بواجب على الفور، ولكن هذا القول ضعيف.

ص: 530

‌فائدة: 3

حكم تارك الحج تهاوناً وكسلاً:

اختلف العلماء فيمن ترك الحج تهاوناً وكسلاً هل يكفر أم لا على قولين:

‌القول الأول: أنه يكفر.

وهذا مذهب ابن عمر، وسعيد بن جبير وهو أحد القولين عن ابن عباس.

أ- واستدلوا بقوله تعالى ( .. ومن كفر .. ) والكفر هنا الكفر الأكبر.

ب- وبحديث علي. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من ملك زاداً وراحلة فلم يحج، مات يهودياً أو نصرانياً). رواه الترمذي وهو ضعيف

‌القول الثاني: أنه لا يكفر.

وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الصحيح.

فإن قيل: ما الجواب عن قوله تعالى (ومن كفر

قال الشنقيطي: الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ أَوْجُهٌ لِلْعُلَمَاءِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ كَفَرَ) أَيْ: وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، فَقَدْ كَفَرَ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ كَفَر) أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ الْبَالِغِ فِي الزَّجْرِ عَنْ تَرْكِ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ كَقَوْلِهِ لِلْمِقْدَادِ الثَّابِتِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» حِينَ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ فِي الْحَرْبِ (لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ

قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَال).

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ فَقَدْ كَفَرَ.

ص: 531

‌فائدة: 4

حكم من حج بمال حرام:

الذي عليه جمهور أهل العلم أن من حج بمال حرام سقط عنه وجوب الحج مع ارتكابه لإثم تناول ذلك المال الحرام.

قال النووي: إذا حج بمال حرام أو راكباً دابة مغصوبة أثم وصح حجه وأجزأه عندنا، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وبه قال أكثر الفقهاء.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) فَإِنْ حَجَّ بِمَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْ بِمَالٍ مَغْصُوبٍ صَحَّ حَجُّهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، لَكِنَّهُ عَاصٍ وَلَيْسَ حَجًّا مَبْرُورًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لا يُجْزِيهِ الْحَجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَصِحُّ مَعَ الْحُرْمَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم: ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمُشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ أ. هـ.

وقال الشيخ ابن باز: الحج صحيح إذا أداه كما شرعه الله، ولكنه يأثم لتعاطيه الكسب الحرام، وعليه التوبة إلى الله من ذلك ويعتبر حجه ناقصاً بسبب تعاطيه الكسب الحرام، لكنه يسقط عنه الفرض أ. هـ. فتاوى ابن باز (16/ 387).

وفي فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 43) كون الحج من مال حرام لا يمنع من صحة الحج، مع الإثم بالنسبة لكسب الحرام، وأنه ينقص أجر الحج، ولا يبطله. ا. هـ (موقع الإسلام سؤال وجواب).

‌فائدة: 5

قال ابن القيم: ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر.

ص: 532

(فضله عظيم).

أي: فضل الحج كبير وعظيم.

أ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْعُمْرَةُ إِلَى اَلْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ اَلْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا اَلْجَنَّةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ب- وعن أبي هُرَيْرَةَ. قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّه) رواه البخاري.

ج- وعن عمرو بن العاص. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أما علمت أن الحج يهدم ما قبله) رواه مسلم.

‌فائدة: 1

قوله (الحج المبرور.

. .).

قيل: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي.

قال النووي: الأصح والأشهر أن المبرور هو الذي لا يخالطه إثم.

وقال الشيخ ابن باز: الحج المبرور هو الذي لا يرتكب فيه صاحبه معصية لله، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه:(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).

وقال ابن عبد البر: الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق وخرج بمال حلال.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الحج المبرور هو الذي جمع أوصافاً:

أولاً: أن يكون خالصاً لله.

ثانياً: أن يكون بمال حلال.

ثالثاً: أن يقوم فيه الإنسان بفعل ما يجب ليكون عبادة.

ومن الحج المبرور أن لا تحج المرأة إلا بمحرم، فإن حجت بغير محرم لم يكن حجها مبرور.

ص: 533

• تنبيه: لو اقتصر الحاج على الواجبات دون المستحبات مع تركه المحرمات والمكروهات فهل يكون حجه مبروراً؟

الجواب: نعم، لكن يزداد براً بفعل المستحبات.

‌فائدة: 2

(فَلَمْ يَرْفُثْ) الرفث الجماع ومقدماته، (وَلَمْ يَفْسُقْ) أي: لم يأت بسيّئة، ولا معصية.

وإنما صرّح بنفي الفسق في الحجّ، مع كونه ممنوعًا في كلّ حال، وفي كلّ حين؛ لزيادة التقبيح، والتشنيع، ولزيادة تأكيد النهي عنه في الحجّ، وللتنبيه على أن الحجّ أبعد الأعمال عن الفسق. واللَّه تعالى أعلم.

‌فائدة: 3

قوله (اَلْعُمْرَةُ إِلَى اَلْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا).

استدل به جماهير العلماء على استحباب تكرار العمرة في العام الواحد أكثر من مرة.

ولحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة) رواه الترمذي.

قال ابن قدامة: وَلا بَأْسَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّافِعِيِّ لأَنَّ عَائِشَةَ اعْتَمَرَتْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وقال النووي: مذهبنا أنه لا يكره ذلك بل يستحب، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء من السلف والخلف.

للحديث السابق (تابعوا بين الحج والعمرة).

ص: 534

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع تكرار العمرة في العام الواحد أكثر من مرة.

وهذا قول جماعة من العلماء.

والراجح القول الأول.

وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في السنة أكثر من مرة فهذا لا يعني عدم مشروعية الاعتمار أكثر من مرة في السنة.

(الحَجُّ والعُمْرَةُ وَاجِبَان).

أي: أن حكم الحج والعمرة الوجوب.

أما الحج فتقدم أنه واجب فرض بإجماع المسلمين.

وأما العمرة: فهي واجبة أيضاً.

وهذا مذهب الإمام أحمد، والشافعي.

وروي هذا القول عن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والثوري.

أ- لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! عَلَى اَلنِّسَاءِ جِهَادٌ? قَالَ: " نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: اَلْحَجُّ، وَالْعُمْرَة) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَصْلُهُ فِي اَلصَّحِيحِ.

وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرن العمرة مع الحج، فدل على الاتفاق في الحكم وهو الوجوب.

ولقوله (عليهن) تدل على الوجوب، (وعلى من صيغ الوجوب).

ب- ولحديث أبي رزين (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، قال: حج عن أبيك واعتمر) رواه أبو داود والترمذي.

قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة لعاجز بلغة الأمر.

ج-ولحديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله ما الإسلام؟ قال: (تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج وتعتمر) وهذه عند الدارقطني

وصححها (والحديث في الصحيح دون ذكر العمرة).

ص: 535

د- ولحديث جَابِرٍ مَرْفُوعاً (اَلْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَان) وهو ضعيف.

هـ-هو قول جماعة من الصحابة؛ منهم: ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.

قال جابر: لَيْسَ مُسْلِم إِلا عَلَيْهِ عُمْرَة. قال الحافظ: رَوَاه اِبْن الْجَهْم الْمَالِكِيّ بِإِسْنَادٍ حَسَن.

وقال البخاري رحمه الله: بَاب وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رضي الله عنهما: لَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وقوله: (لَقَرِينَتُهَا) أي: قرينة فريضة الحج.

قال الشيخ العصيمي: الأحاديث الواردة في وجوب العمرة لا يصح منها شيء، لكن العمدة في إيجاب العمرة ما صح من الآثار عن الصحابة، كجابر (عند ابن خزيمة) وابن عباس (عند ابن أبي شيبة).

وذهب بعض العلماء: إلى عدم وجوبها.

وهذا مذهب مالك وأبو حنيفة، واختاره ابن تيمية.

قال ابن تيمية: والعمرة في وجوبها قولان للعلماء، هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد، والمشهور عنهما وجوبها، والقول الآخر لا تجب، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وهذا القول هو الراجح، فإن الله إنما أوجب الحج بقوله:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) لم يوجب العمرة؛ وإنما أوجب إتمامها، فأوجب إتمامها لمن شرع فيهما، وفي الابتداء إنما أوجب الحج.

أ-لحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: (أَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنْ اَلْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ? فَقَال: لَا. وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ.

ب-ولحديث: (الحج والعمرة تطوع) رواه الدارقطني وهو ضعيف.

ص: 536

قال الشوكاني مؤيداً هذا القول: والحق عدم الوجوب، لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك لا سيما مع اعتضادهما بما تقدم من الأحاديث القاضية بعدم الوجوب.

وقال الصنعاني: والأدلة لا تنهض عند التحقيق على الإيجاب الذي الأصل عدمه.

والراجح عدم الوجوب.

تنبيه: إذا قلنا بوجوب العمرة، فإن عمرة المتمتع تجزئ عن عمرة الإسلام.

‌فائدة: 1

عدد عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم

-:

قال الشنقيطي: إن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط، لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر:

أ-عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام عام 6 هـ.

ب-عمرة القضاء التي وقع عليها الصلح في الحديبية، وهي عام 7 هـ.

ج-عمرة الجعرانة بعد فتح مكة، عام 8 هـ.

ثم قال رحمه الله: وكل هذه العمر في شهر ذي القعدة بالإجماع والروايات الصحيحة.

د-عمرته مع حجه في حجة الوداع.

قال ابن القيم: وَلَا خِلَافَ أَنّ عُمَرَهُ لَمْ تَزِدْ عَلَى أَرْبَع.

وقال: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قط.

وقال: عمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في أشهر الحج، مخالفة لهدي المشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج، ويقولون: هي من أفجر الفجور.

ص: 537

قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا اِعْتَمَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْعُمْرَة فِي ذِي الْقَعْدَة لِفَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْر، وَلِمُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّة فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا

يَرَوْنَهُ مِنْ أَفْجَر الْفُجُور كَمَا سَبَقَ، فَفَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّات فِي هَذِهِ الْأَشْهُر لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي بَيَان جَوَازه فِيهَا، وَأَبْلَغ فِي إِبْطَال مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.

‌فائدة: 2

المفاضلة بين الاعتمار في ذي القعدة والاعتمار في رمضان.

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

‌القول الأول: الاعتمار في رمضان أفضل.

وهذا قول الجمهور.

لقوله صلى الله عليه وسلم لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ: مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّى مَعَنَا؟ قَالَتْ لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلاَّ نَاضِحَانِ فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضِحُ عَلَيْهِ قَالَ: فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً) متفق عليه.

‌القول الثاني: أن العمرة في ذي القعدة أفضل.

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة ولم يعتمر في رمضان، وما كان الله ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل.

ب- لم يثبت عن صحابي قط أنه اعتمر في رمضان.

ص: 538

‌القول الثالث: أن العمرة في رمضان - لغير النبي صلى الله عليه وسلم أفضل.

وهذا اختيار ابن حجر.

قال ابن حجر: لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أشهر الحج كما تقدم وقد ثبت فضل العمرة في رمضان فأيهما أفضل؟

الذي يظهر أن العمرة في رمضان لغير النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأما في حقه فما صنعه هو أفضل لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه فأراد الرد عليهم بالقول والفعل وهو لو كان مكروها لغيره لكان في حقه أفضل والله أعلم.

(مَرةً في العُمُرِ).

أي: أن الحج يجب على المسلم مرة في العمُر وكذا العمرة.

قال النووي: أجمعوا على أنه لا يجب الحج ولا العمرة في عمر الإنسان إلا مرة واحدة إلا أن ينذر فيجب الوفاء بالنذر بشرطه.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ -ثُمَّ قَالَ- ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوه) رواه مسلم

وعند أبي داود (

لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، اَلْحَجُّ مَرَّةٌ، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ).

ص: 539

(عَلَى الفَوْر).

أي: أن الحج واجب على الفور.

والمراد بالفورية: المبادرة إلى فعله عند أول التمكن منه.

فالحج واجب على الفور.

وهذا قول المالكية والحنابلة.

قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج، وأمكنه فعله، وجب عليه على الفور، ولم يجز له تأخيره.

وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك.

أ- لقوله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا).

والأمر على الفور.

ج- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه. وفي رواية أحمد وابن ماجه (فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَة).

د- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله؛ ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً) رواه الترمذي وفيه ضعف.

هـ_وقال صلى الله عليه وسلم (من أراد الحج فليتعجل) رواه أحمد وفيه ضعف.

وما جاء في قصة الحديبية، وفيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا

فوالله ما قام منهم رجل

فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس).

ووجه الدلالة: أنه لو لم يكن الأمر للفور ما دخل على أم سلمة مغضباً.

و- ولأن المبادرة بالفعل أحوط وأبرأ للذمة.

ز- ولأن وجوبه بصفة التوسع يخرجه عن رتبة الواجبات.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه على التراخي وليس على الفور.

ص: 540

وهذا مذهب أكثر الشافعية.

قال النووي: مذهبنا أنه على التراخي، وبه قال الاوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس رضي الله تعالى عنهم.

أ- قالوا: إن الحج فرض عام ست من الهجرة، ولا خلاف أن آية (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع في الحديبية من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهم محرومون بعمرة، وذلك في ذي القعدة من عام ست بلا خلاف وإذا كان الحج فرض عام ست، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر، فذلك دليل على أنه على التراخي.

ب-ومن أدلتهم أيضاً: أَنه إن أَخر الحج من سنة إلى أَخرى، أَو إلى سنين ثم فعله فإنه يسمى مؤدياً للحج لا قاضياً له بالإجماع، قالوا: ولو حرم تأخيره لكان قضاء لا أداء.

ج-ومنها: أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونهما على التراخي، بجامع أن كليهما واجب، ليس له وقت معين، قالوا: ولكن ثبتت آثار: أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة.

د- إن الله أوجب الحج على المستطيع مرة في العمر-وعلى هذا الإجماع- فهو وظيفة العمر، فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة.

(علَى المُسْلِمِ الحُرِّ المُكَلَّفِ القَادِر).

أي: أن الحج يجب على المسلم، فلا يجب على الكافر.

فكل عبادة لا تصح من كافر.

قال ابن قدامة: أما الكافر فغير مخاطب بفروع الدين خطابا يلزمه أداء، ولا يوجب قضاء. (المغني).

وهو شرط للوجوب وللصحة وللإجزاء.

ص: 541

‌فائدة:

من حج الفريضة، ثم ارتد ثم تاب وأسلم فهل يجب عليه الحج من جديد؟

الراجح من أقوال العلماء: لا تجب عليه حجة الإسلام مجدداً بعد التوبة عن الردة.

وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وقول ابن حزم.

أ- لقوله تعالى (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون).

وجه الدلالة: أن الآية دلت على أن إحباط الردة للعمل مشروط بالموت كافراً، فشرط لحبوط الأعمال استمرار الإنسان على الردة إلى

أن يموت، فدلت الآية بمفهومها على أنه لو تاب قبل الوفاة فإن أعماله التي أداها قبل الردة تكون صحيحة، ومجزئة إن شاء الله.

ب- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام (أسلمت على ما أسلفت عليه من خير).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت له ثواب ما قدم من أعمال صالحة حال كفره، بعد أن أسلم، فمن باب أولى ثبوت الأعمال التي قدمها المرء حال إسلامه قبل ارتداده إذا عاد إلى الإسلام. (المجموع).

قال النووي: ومن حج ثم ارتد ثم أسلم لم يلزمه الحج بل يجزئه حجته السابقة عندنا، وقال أبو حنيفة وآخرون: يلزمه الحج ومبنى الخلاف على أن الردة متى تحبط العمل فعندهم تحبطه في الحال سواء أسلم بعدها أم لا فيصير كمن لم يحج، وعندنا لا تحبطه إلا إذا اتصلت بالموت لقوله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم). (المجموع).

ص: 542

وقال رحمه الله: إذا صلى المسلم ثم ارتد ثم أسلم ووقت تلك الصلاة باق لم يجب اعادتها، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنه يجب، والمسألة مبنية علي أصل سبق وهو أن عندنا لا تبطل الاعمال بالردة الا أن يتصل بالموت وعندهم يبطل بنفس الارتداد احتجوا بقول الله تعالى (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله).

واحتج أصحابنا:

بقول الله تعالي (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) فعلق الحبوط بشرطين الردة والموت عليها والمعلق بشرطين لا يثبت بأحدهما والآية التي احتجوا بها مطلقة وهذه مقيدة فيحمل المطلق علي المقيد. (المجموع).

وقال الشنقيطي: قَوْلُهُ تَعَالَى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ بِرِدَّتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ زَائِدٍ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِر) وَمُقْتَضَى الْأُصُولِ حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، فَيُقَيِّدُ إِحْبَاطَ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ الْقَائِلِ بِإِحْبَاطِ الرِّدَّةِ الْعَمَل. (أضواء البيان).

(الحُرّ).

أي: أن الحج يجب على الحر فلا يجب على الرقيق.

قال الشنقيطي: وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ: فَهِيَ شَرْطُ وُجُوبٍ، فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْعَبْدِ، وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْعَبْدِ بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِذَا حَجَّ صَحَّ حَجُّهُ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ عُتِقَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ.

ص: 543

قَالَ النَّوَوِي:: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ; لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مُسْتَحَقَّةٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَطِيعًا.

الْأَمْرُ الثَّانِي: حَدِيثٌ جَاءَ عَن صلى الله عليه وسلم.

عن ابن عباس. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ اَلْحِنْثَ، فَعَلَيْهِ [أَنْ يَحُجَّ] حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ [أَنْ يَحُجَّ] حَجَّةً أُخْرَى) رَوَاهُ اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَات.

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ وَهُوَ مَمْلُوكٌ، ثُمَّ أُعْتِقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَتْهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أَجْزَأَهُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. (أضواء البيان).

تنبيه: حديث ابن عباس اختلف العلماء في رفعه ووقفه.

فروي مرفوعاً، وصححه مرفوعاً البيهقي والشيخ ابن باز، ومال إلى تصحيحه مرفوعاً الحافظ في التلخيص وصححه الألباني.

قال الحافظ في التلخيص: ويؤيد صحة رفعه ما رواه بن أبي شيبة في مصنفه، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن بن عباس قال (احفظوا عني ولا تقولوا قال بن عباس. . . فذكره) وهذا ظاهره أنه أراد أنه مرفوع فلذا نهاهم عن نسبته إليه.

وروي موقوفاً وهو الصحيح.

‌فائدة: 1

فالعبد إذا حج قبل عتقه فحجه صحيح، لكن لا يجزئه عن حجة الإسلام.

فالحرية شرط للوجوب وللإجزاء.

قال ابن قدامة: فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ صَحَّ حَجُّهُمَا، وَلَمْ يُجْزِئْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.

ص: 544

‌فائدة: 2

ذهب بعض العلماء إلى أن العبد إذا حج وهو بالغ أنه يصح حجه ويجزئه عن حجة الإسلام لأنه مكلف.

وهذا قول ابن حزم ورجحه السعدي وقال: إنه إذا حج (أي العبد) بعد بلوغه-ولو قبل حريته-أن حجته هي حجة الإسلام، كما أن الفقير معفو عنه الحج، ولا يجب عليه، فإذا تيسر له وفعله أجزأه ذلك، ولم يلزمه إعادته إذا استغنى، فكذلك هذا الرقيق إذا أدى فريضته فإن ذلك يجزئه.

وأيضاً: فإن الحج لم يوجبه الله ورسوله في العمر إلا مرة واحدة وذلك مجمع عليه، فلزم على قول من يقول: إن حج الرقيق لا يجزئه، أنه يجب في العمر مرتين، وهذا واضح.

(العاقل)

أي: أن الحج يجب على العاقل، فلا يجب على المجنون، ولو حج فإنه لا يجزئه.

أ- عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) رواه أبو داود.

ب- أن المجنون ليس من أهل العبادات، فلا يتعلق التكليف به كالصبي.

ج- أن الحج لابد فيه من نية وقصد، ولا يمكن وجود ذلك في المجنون.

قال النووي: أجمعت الأمة على أنه لا يجب الحج على المجنون.

وقال المرداوي: لا يجب الحج على المجنون إجماعاً.

• العقل شرطٌ في وجوب الحج وإجزائه، فلا يجب على المجنون، ولا تجزئ عن حجة الإسلام إن وقعت منه.

ص: 545

(البالغ)

أي: أن الحج يجب على البالغ، فلا يجب على الصغير.

لحديث عائشة السابق (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم).

قال الترمذي: وقد أجمع أهل العلم أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك لا تجزئ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام.

وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المجنون إذا حج ثم أفاق أو الصبى ثم بلغ أنه لا يجزئهما عن حجة الإسلام.

فائدة:

البلوغ شرط وجوبٍ وشرط إجزاء، فلا يجب الحج على الصبي، فإن حج لم يجزئه عن حجة الإسلام، وتجب عليه حجة أخرى إذا بلغ.

لكن لو حج فيصح حجه:

عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَنِ اَلْقَوْمُ? قَالُوا: اَلْمُسْلِمُونَ. فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ? قَالَ: رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ اِمْرَأَةٌ صَبِيًّا. فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ? قَالَ: نَعَمْ: وَلَكِ أَجْرٌ) رَوَاهُ مُسْلِم.

(أَلِهَذَا حَجٌّ?) أي: أيحصل لهذا الصبي ثواب حج.

ففي هذا الحديث صحة حج الصبي، وقد نقل الإجماع على ذلك الطحاوي.

قال النووي: فِيهِ حُجَّة لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء أَنَّ حَجّ الصَّبِيّ مُنْعَقِد صَحِيح يُثَاب عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُجْزِيه عَنْ حَجَّة

الْإِسْلَام، بَلْ يَقَع تَطَوُّعًا، وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِيهِ.

ومما يدل على صحة حج الصبي:

ما رواه البخاري عن السائب بن يزيد قال (حج بي أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين).

ص: 546

(المستطيع).

أي: أن الحج يجب على المستطيع، فلا يجب على غير المستطيع.

وهذا شرط بالإجماع.

قال ابن قدامة: أجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة.

وقال القرطبي: الحج إنما فرضه على المستطيع إجماعاً.

وقال النووي: الاستطاعة شرط لوجوب الحج بإجماع المسلمين.

لقوله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

‌فائدة:

الاستطاعة ليست شرط إجزاء في الحج، فإذا تجشم غير المستطيع المشقة، فحج بغير زاد وراحلة، فإن حجه يقع صحيحاً مجزئاً عن حج الفريضة.

ويدل لذلك ما يلي:

أ- أن خلقاً من الصحابة رضي الله عنهم حجوا ولا شيء لهم، ولم يؤمر أحدٌ منهم بالإعادة.

ب- أن سقوط الوجوب عن غير المستطيع إنما كان لدفع الحرج، فإذا تحمله وقع عن حجة الإسلام، كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام مَنْ يسقط عنه، وكما لو تكلف المريض حضور الجمعة، أو الغني خطر الطريق وحج، فإنه يجزئ عنهم جميعاً.

ص: 547

(والاستطاعة: مِلْكُ اَلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ).

هذا تفسير الاستطاعة، وهي ملك الزاد والراحلة.

قال اين قدامة: وَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُشْتَرَطَةُ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. (المغني).

الزاد: وهو ما يتزود به في السفر من طعام وشراب وغير ذلك من حوائج السفر.

الراحلة: وهي ما يرتحله الإنسان من مركوب من إبل وحُمر وسيارات وطائرات وسفن وغيرها.

وهذا ما عليه جمهور العلماء.

لحديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها لما قيل له ما السبيل يا رسول الله؟ قال: الزاد والراحلة) رواه الدارقطني والحاكم.

وهذا الحديث ضعيف، لكن يتقوى بشواهده.

قال الشوكاني: ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج بها.

وقال الشنقيطي: حديث الزاد والراحلة لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج.

وقد ذكر الترمذي أن أكثر أهل العلم على العمل بها، وقد روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في تفسير السبيل أنه قال: أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زادٍ وراحلة من غير أن يجحف به، وسنده صحيح.

وذهب بعض العلماء: إلى أن المراد بالاستطاعة على قدر الطاقة.

واختار هذا ابن جرير في تفسيره.

ص: 548

فيدخل في ذلك الزاد والراحلة وأمن الطريق ووجود مكانٍ صالحٍ للمبيت بالمشاعر وزوال الموانع من أداء الحج أياً كانت، ونحو ذلك.

قال ابن جرير الطبري في تفسيره: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إن ذلك على قدر الطاقة

؛ لأن السبيل في كلام العرب الطريقُ. فمن كان واجداً طريقاً إلى الحج لا مانع له منه، من زَمانة، أو عجز، أو عدو، أو قلة ماء في طريقه، أو زادٍ، أو ضعفٍ عن المشي، فعليه فرضُ الحج، لا يجزئه إلا أداؤه) إلى أن قال:(وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها؛ لأن الله عز وجل لم يخصص -إذ ألزم الناسَ فرضَ الحج- بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلاً بعموم الآية. فأما الأخبار التي رُويَت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه الزاد والراحلة فإنها أخبار في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين).

ص: 549

‌فائدة:

قال الشنقيطي: وبِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ سُؤَالَ النَّاسِ لَيْسَ اسْتِطَاعَةً عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لَا يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً، هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ اهـ.

قَالَهُ النَّوَوِيُّ.

(أضواء البيان).

وقال أيضاً: والَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَعِيشُ فِي طَرِيقِهِ بِتَكَفُّفِ النَّاسِ، وَأَنَّ سُؤَالَ النَّاسِ لَا يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً. (أضواء البيان).

(بَعْدَ قَضَاءِ الواجِبَات، والنَّفَقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، والحَوَائِجِ الأَصْلِية).

‌أي: أن تكون الراحلة والزاد فاضلةً وزائدة عن هذه الامور الثلاثة:

‌أولاً: بعد قضاء الواجبات.

من الديون، حالة أَو مؤجلة، والزكوات، والكفارات، والنذور، فلا بد أن يقضي هذه الديون.

لأن ذمته مشغولة به، وهو محتاج لبراءتها، فتجب مقدمة على الحج، وإن ترك حقًا يلزمه من دين وغيره حرم وأجزأه، لتعلقه بذمته.

ص: 550

‌فائدة: 1

حج المدين له أحوال:

أولاً: أن تكون قيمة الحج تغطي ديونه فيجب عليه والحالة هذه أن يقضي الديون، فيكون في هذه الحالة غير مستطيع للحج فيسقط عنه.

ثانياً: أن تكون قيمة الحج لا تغطي الديون ولكنها تخفف شيئاً كثيراً، فالأولى أن يدفع قيمة الحج للغرماء.

ثالثاً: أن تكون قيمة الحج لا تغطي شيئاً بالنسبة للديون.

فقيل: إنه يحج لأن الحج مجلبة للرزق كما في حديث [تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب

].

وقيل: بل يسدد دينه ولا يحج لخطر الدين ولو كان قليلاً.

‌فائدة: 2

إذا تُبرع له بمال هل يلزمه أخذه؟ الجواب: لا يلزمه لأنه قد يكون فيه منَّة من الناس، وإن أخذه جاز ولكن لا يجب عليه.

‌ثانياً: والنَّفَقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.

له ولعياله.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول).

وقال صلى الله عليه وسلم (كفى بالمرء إثماً أن يُضيعَ من يقوت).

ولأن ذلك مقدم على الدين، فلأن يقدم على الحج بطريق الأولى.

(حاشية الروض).

ثالثاً: والحَوَائِجِ الأَصْلِية.

أي: وبعد الحوائج الأصلية، من كتب، ومسكن، وخادم، ولباس مثله وغطاء، ووطاء، ونحوها ولا يصير مستطيعًا ببذل غيره له.

ص: 551

‌فائدة:

يقدم الحج أم الزواج.

إذا كان الرجل يحتاج إلى الزواج، ويشق عليه تأخيره فإنه يقدم الزواج على الحج.

أما إذا كان لا يحتاج إلى الزواج فإنه يقدم الحج.

قال ابن قدامة: وَإِنْ احْتَاجَ إلَى النِّكَاحِ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ (أي المشقة)، قَدَّمَ التَّزْوِيجَ، لأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلا غِنَى بِهِ عَنْهُ، فَهُوَ كَنَفَقَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ، قَدَّمَ الْحَجَّ; لأَنَّ النِّكَاحَ تَطَوُّعٌ، فَلا يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجَّ الْوَاجِبِ.

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يجوز تأجيل الحج إلى ما بعد الزواج للمستطيع، وذلك لما يقابل الشباب في هذا الزمن من المغريات والفتن صغيرة كانت أم كبيرة؟

فأجاب:

لا شك أن الزواج مع الشهوة والإلحاح أولى من الحج لأن الإنسان إذا كانت لديه شهوة ملحة فإن تزوجه حينئذٍ من ضروريات حياته، فهو مثل الأكل والشرب، ولهذا يجوز لمن احتاج إلى الزواج وليس عنده مال أن يدفع إليه من الزكاة ما يُزوج به، كما يعطى الفقير ما يقتات به وما يلبسه ويستر به عورته من الزكاة.

وعلى هذا فنقول: إنه إذا كان محتاجاً إلى النكاح فإنه يقدم النكاح على الحج لأن الله سبحانه وتعالى اشترط في وجوب الحج الاستطاعة فقال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) آل عمران/ 97.

أما من كان شاباً ولا يهمه أن يتزوج هذا العام أو الذي بعده فإنه يقدم الحج لأنه ليس في ضرورة إلى تقديم النكاح. (فتاوى منار الإسلام)

(وَإِنْ أعْجَزَهُ كِبَرٌ، أوْ مَرَضٌ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَحُجُّ ويَعَتَمِرُ عَنْهُ).

أي: من لا يستطيع الحج لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، أَوْ كَانَ نِضْوَ الْخَلْقِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ، وَالشَّيْخُ الْفَانِي، وهو قادر بماله، فإنه يجب عليه أن يقيم من يحج عنه.

عن ابن عباس قَالَ: (كَانَ اَلْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتِ اِمْرَأَةٌ مَنْ خَثْعَمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اَللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي اَلْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى اَلرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ? قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وفي لفظ لمسلم (فَحُجِّي عَنْهُ).

ص: 552

(أَفَأَحُجُّ عَنْهُ?) أي: أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه، (قَالَ: نَعَمْ) وفي حديث أبي هريرة (احججي عن أبيك).

فالإنسان إذا كان قادراً بماله لكنه غير قادر ببدنه (لا يرجى زوال مرضه) فهذا يجب عليه أن ينيب أحداً عنه لهذا الحديث.

والقدرة قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:

أولاً: قدرة بالمال والبدن، فهذه توجب حج الإنسان بنفسه.

ثانياً: قدرة بالبدن دون المال، فهذه توجب حج الإنسان بنفسه إذا كان قادراً على المشي، سواء من بلده أم من مكة، فإن كان لا يقدر على المشي وليس عنده راحلة، فإنه لا يجب عليه الحج، لأنه غير مستطيع.

ثالثاً: قدرة بالمال دون البدن، فهذا يقسمه العلماء إلى قسمين:

قسم يرجى زوال عجزه، فهذا لا يجب أن يقيم من يحج عنه، بل لا يصح، لأن عجزه مؤقت.

وقسم لا يرجى زوال عجزه، فهذا يجب أن ينيب عنه أحداً، لحديث الباب.

قال النووي: والجمهور على أن النيابة في الحج جائزة عن الميت والعاجز الميئوس من برئه.

وقال ابن حجر: واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضَب -أي: شلل-، فلا يدخل المريض؛ لأنه يرجى برؤه، ولا المجنون؛ لأنه ترجى إفاقته، ولا المحبوس؛ لأنه يرجى خلاصه، ولا الفقير؛ لأنه يمكن استغناؤه.

قال ابن قدامة: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالًا يَسْتَنِيبُ بِهِ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَحُجُّ بِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَالْمَرِيضُ

أَوْلَى.

ص: 553

‌فائدة: 1

قال ابن قدامة: وَمَتَى أَحَجَّ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ عُوفِيَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ.

وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَلْزَمُهُ.

لِأَنَّ هَذَا بَدَلُ إيَاسٍ، فَإِذَا بَرَأَ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ، فَلَزِمَهُ الْأَصْلُ، كَالْآيِسَةِ إذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ، ثُمَّ حَاضَتْ، لَا تُجْزِئُهَا تِلْكَ الْعِدَّةُ.

وَلَنَا: أَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ، أَوْ نَقُولُ: أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ ثَانٍ، كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ.

وَلِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى إيجَابِ حَجَّتَيْنِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ عَلَيْهِ إلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً.

وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ.

قُلْنَا: لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ، لَمَا أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ. (المغني).

‌فائدة: 2

قال ابن قدامة: مَنْ يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ.

فَإِنْ فَعَلَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ.

وَيَكُونُ ذَلِكَ مُرَاعًى، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ لَزِمَهُ، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، أَشْبَهَ الْمَيْئُوسَ مِنْ بُرْئِهِ.

ص: 554

وَلَنَا: أَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ، وَلَا تُجْزِئُهُ إنْ فَعَلَ، كَالْفَقِيرِ، وَفَارَقَ الْمَأْيُوسَ مِنْ بُرْئِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، آيِسٌ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، فَأَشْبَهَ الْمَيِّتَ.

وَلِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَجِّ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ.

فَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَنَابَ مَنْ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَالٍ لَا تَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا، فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ.

(المغني).

‌فائدة: 3

أنه لا يجوز الحج عن القادر المستطيع ببدنه.

قال ابن قدامة: لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعاً.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه. (المغني)

‌فائدة: 4

أن من كان قادراً بماله، عاجزاً ببدنه عجزاً لا يرجى برؤه، فإنه يجب عليه أن ينيب من يحج عنه.

‌فائدة: 5

يشترط في هذا النائب أن يكون قد حج عن نفسه.

وقد ذهب إلى هذا جماهير العلماء، فالواجب أن يبدأ بنفسه، ثم يحج عن غيره.

لحديث ابن عباس (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: " مَنْ شُبْرُمَةُ? " قَالَ: أَخٌ [لِي]، أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: " حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ? " قَالَ: لَا. قَالَ: "حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ.

ص: 555

ورجح بعض العلماء وقف هذا الحديث.

وما دل عليه هذا الموقوف هو الصحيح لوجوه:

أولاً: أنه قول صحابي لم يثبت خلافه.

ثانياً: أنه الأصل، فالأصل أن يحج الإنسان عن نفسه قبل أن يحج عن غيره.

ثالثاً: أن الله قد خاطب هذا المكلف وأمره أن يؤدي هذا الفرض، فكيف يذهب يؤدي فرض غيره، والله قد خاطبه بنفسه: (ولله على الناس حج

).

‌فائدة: 6

إن حج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه، فإن هذه الحجة تكون عن نفسه، ويرد المال لصاحبه.

وقد جاء في رواية عند ابن ماجه لهذا الحديث (فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة).

قال الشيخ ابن عثيمين: لو فرضنا أن هذا الذي أقيم وهو لم يؤد فريضة الحج، حج وقال: لبيك عن فلان الذي وكله، يكون الحج لهذا الذي حج ويرد النفقة التي أعطاها لمن وكله، لأن ذلك العمل الذي وكله فيه لم يصح، فيرد عوضه. (الشرح الممتع)

وهذا القول هو مذهب الشافعي وأحمد.

قال النووي: لَا يَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةُ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا لِمَنْ عَلَيْهِ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ إذَا أَوْجَبْنَاهَا أَوْ عُمْرَةُ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْ غَيْرِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، فَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ الْغَيْرِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وبه قال ابن عباس.

(المجموع).

وذهب بعض العلماء: إلى أن من حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه فإن الحج يقع عن الغير.

وهذا قول الحنفية، والمالكية.

واستدلوا بحديث المرأة الخثعمية - وقد تقدم - ولم يسألها هل حججتِ عن نفسك أم لا؟

ولكن الراجح القول الأول، وأما حديث الخثعمية فالجواب عنه بأن يقال: أن المرأة سألت وهي متلبسة بالحج (تحج عن نفسها) فهي تسأل عن المستقبل.

ص: 556

‌فائدة: 7

الحج والعمرة عن الغير لا يشترط فيهما ذكر اسم الشخص المنوي عنه الحج أو العمرة، ولا التلفظ بذلك، بل تكفي النية عنه، والنية محلها القلب.

ولكن الأفضل أن يقول عند أول تلبية: لبيك اللهم عن فلان - كما في حديث شبرمة.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: الحج عن الغير يكفي فيه النية عنه، ولا يلزم فيه تسمية المحجوج عنه، لا باسمه فقط ولا باسمه واسم أبيه أو أمه، وإن تلفظ باسمه عند بدء الإحرام أو أثناء التلبية أو عند ذبح دم التمتع إن كان متمتعاً أو قارناً - فحسن؛ لما روى أبو داود وابن ماجه، وصححه ابن حبان، عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال:" من شبرمة "؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال:" حججت عن نفسك "؟ قال: لا. قال: " حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة ".

وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: رجل حج عن امرأة وعندما أراد الإحرام من الميقات نسي اسمها ماذا يصنع؟

فأجاب: إذا حج عن امرأة أو عن رجل ونسي اسمه فإنه يكفيه النية ولا حاجة لذكر الاسم، فإذا نوى عند الإحرام أن هذه الحجة عمن أعطاه الدراهم أو عمن له الدراهم كفى ذلك، فالنية تكفي؛ لأن الأعمال بالنيات، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يشرع الجهر بالتلبية، فالرجل إذا حج عن غيره فإنه يصرح بذكره فيقول: لبيك عن فلان لكن لو قال: لبيك عمن استنابني فإنه جائز.

إذا نسي اسم من وكله فإنه يقول: لبيك عمن استنابني.

‌فائدة: 8

إذا كان الرجل فقير لم يحج عن نفسه لفقره، هل يصح أن ينوب عن غيره؟

قيل: لا يصح.

وقيل: يصح لإنسان الذي لم يؤدِ الفريضة عن نفسه أن يحج عن غيره، إذا كان الحج لا يجب عليه، كالفقير.

مثال: رجل فقير ليس عنده شيء، فأنابه شخص وقال: حج عني، فإنه يصح.

ص: 557

والسبب قالوا: الحج لا يجب على هذا الفقير، فهو لم يسقط فرض غيره قبل فرض نفسه، لأن الفريضة هنا غير واجبة.

وهذا القول هو الصحيح.

القاعدة: من وجب عليه الحج لم يصح أن يحج عن غيره قبل نفسه، وأما من لم يجب عليه الحج فيصح.

‌فائدة: 9

يجوز للمرأة أن تحج عن الرجل والعكس كذلك.

للحديث السابق.

قال ابن قدامة: يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ الرَّجُلُ عَنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ عَنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فِي الْحَجِّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ، فَإِنَّهُ كَرِهَ حَجَّ الْمَرْأَةِ عَنْ الرَّجُلِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذِهِ غَفْلَةٌ عَنْ ظَاهِرِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا، وَعَلَيْهِ؛ يَعْتَمِدُ مَنْ أَجَازَ حَجَّ الْمَرْءِ عَنْ غَيْرِهِ وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ، وَأَحَادِيثُ سِوَاهُ. (المغني).

‌فائدة: 10

إن من اعتمر عن غيره أو حج عنه، فهو مأجور، وقد اختلف أهل العلم في أجره، هل ينال أجر أعمال الحج أو العمرة، أو يختص أجرهما بالشخص الذي ناب عنه، ويكون للنائب أجر الطاعات التي يؤديها في الحرم على قولين:

فقيل: إن النائب ينال أجر الحج إن كان متطوعا به - أي يؤديه بغير أجرة -

وقيل: إن النائب لا ينال أجر الحج وإنما ينال أجر القربات التي عملها في الحج أما أجر الحج فيختص فقط بالمسستنيب.

ص: 558

‌فائدة: 11

لا يجوز لمن يحج عن غيره أن يكون قصده المال، فليست العبادة عرضة للتجارة، ولا من مجالات الربح، والأفضل لمن أراد أن يحج عن غيره أن يتبرع بها كاملة من غير أن يأخذ مالاً، وهذا له أجر عظيم، وهو في أعلى المراتب، كما يجوز أن يطلب من أهل من سيحج عنهم تكاليف السفر وأداء المناسك، دون أن يستوفي زيادة على قدر تلك التكاليف، إلا أن يعطوه شيئاً منهم عن طيب نفسٍ منهم، وله أجر على فعله ذاك، وهو في أوسط المراتب، وأما من قصد بالحج عن غيره المال والدنيا: فلا ثواب له على عمله ذلك ..

قال ابن تيمية: الحاجَّة عن الميت: إن كان قصدها الحج، أو نفع الميت: كان لها في ذلك أجرٌ، وثواب، وإن كان ليس مقصودها إلا أخذ الأجرة: فما لَها في الآخرة مِن خلاق [أي: نصيب]. (مجموع الفتاوى).

وقال رحمه الله: أَمَّا الْحَاجُّ عَنْ الْغَيْرِ لِأَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّرْكُ. فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَحُجُّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَفْضِلَ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ يَحُجُّ عَنْ أَحَدٍ بِشَيْءِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا عَمَلًا صَالِحًا لَكَانُوا إلَيْهِ مُبَادِرِينَ وَالِارْتِزَاقُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الصَّالِحِينَ. أَعْنِي إذَا كَانَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْعَمَلِ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَهَذَا الْمَدِينُ يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يُوَفِّي بِهِ دَيْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ دَرَاهِمَ يُوَفِّي بِهَا دَيْنَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: إمَّا رَجُلٌ يُحِبُّ الْحَجَّ وَرُؤْيَةَ الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ. فَيَأْخُذُ مَا يَقْضِي بِهِ وَطَرَهُ الصَّالِحَ وَيُؤَدِّي بِهِ عَنْ أَخِيهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ. أَوْ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يُبَرِّئَ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ عَنْ الْحَجِّ إمَّا لِصِلَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ لِرَحْمَةِ عَامَّةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ مَا يَأْخُذُ لِيُؤَدِّيَ بِهِ ذَلِكَ. وَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ لِيَحُجَّ لَا أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ، وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأَرْزَاقِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ فَمَنْ ارْتَزَقَ لِيَتَعَلَّمَ أَوْ لِيُعَلِّمَ أَوْ لِيُجَاهِدَ فَحَسَنٌ. كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي. وَيَأْخُذُونَ أُجُورَهُمْ. مَثَلُ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ ابْنَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا) شَبَّهَهُمْ بِمَنْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِرَغْبَةِ فِيهِ

كَرَغْبَةِ أُمِّ مُوسَى فِي الْإِرْضَاعِ بِخِلَافِ الظِّئْرِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الرِّضَاعِ إذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً. وَأَمَّا مَنْ اشْتَغَلَ بِصُورَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَرْتَزِقَ فَهَذَا مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ الدِّينُ مَقْصُودَهُ وَالدُّنْيَا وَسِيلَةٌ وَمَنْ تَكُونُ الدُّنْيَا مَقْصُودَهُ وَالدِّينُ وَسِيلَةٌ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. (مجموع الفتاوى)

ص: 559

(من حيثُ وجَبَا).

أي: من المكان الذي وجب على المستنيب أن يحج منه.

فإن كان هذا المريض الذي لا يستطيع الحج من الرياض فإنه يجب أن يخرج نائباً من الرياض.

قال البهوتي: ويحج النائب من حيث وجبا على الميت، لأن القضاء يكون بصفة الأداء. (كشاف القناع)

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يلزم ذلك.

أولاً: أن السفر إلى مكة ليس مقصوداً لذاته.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز النيابة في الحج ولم يشترط أن يكون من بلده، ولو كان شرطاً لبيّنه.

(ويُجزئُ عنه وإنْ عُوفي بعد الإحرام).

أي: أن النائب بعدما أحرم بالحج عوفي المنيب (وهو المريض الذي لا يرجى برؤه) فإنه يجزئ عنه الحج.

• قوله (بعد الإحرام) مفهومه أنه لو عوفي (المنيب) قبل الإحرام فإنه لا يجزئه ولا تصح النيابة.

‌الخلاصة:

أ- أن يبرأ المنيب بعد الفراغ من أعمال الحج، فهذا يجزئه، لأنه أتى بما أمر به.

ب- أن يبرأ المنيب قبل إحرام النائب، فلا يجزئه.

ج- أن يبرأ المنيب بعد الإحرام وقبل الفراغ من النسك.

فهذه وقع فيها خلاف بين العلماء:

فقيل: يجزئه لك.

وهذا قول الحنابلة.

أ- أنه أتى بما قدر عليه.

ب- وبالقياس على المكفّر إذا قدر على الأصل بعد الشروع في البدل، وكالمتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي، لم يلزمه الهدي، بل يكمل صومه، فكذلك هنا.

ص: 560

وقيل: لا يجزئه ذلك.

وهذا قول الشافعية، واختاره ابن تيمية.

أ- لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَدَلِ، فيلزمه الأصل.

ب- وبالقياس على المتيمم إذا رأى الماء في صلاته، فإنه يقطع صلاته لبطلان التيمم، ويجب عليه الوضوء، فكذلك هنا.

والراجح القول الأول.

(وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهِ عَلَى المَرْأةِ: وَجُودُ مَحْرَمِهَا)

أي: يشترط لوجوب الحج على المرأة وجود محرم لها، فإن لم يكن لها محرم فلا يجب عليها الحج لأنها غير مستطيعة.

أ- لأن الله يقول (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً). قال الإمام أحمد: المحرَم من السبيل.

ب- وَعَن ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِاِمْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ اَلْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ " فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّ اِمْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اِكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: اِنْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ اِمْرَأَتِكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

ج- وعنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تحجّن امرأة إلا ومعها ذو محرَم) رواه الدارقطني، قال ابن حجر: إسناده صحيح.

وجه الاستدلال: أن هذين الحديثين نصان صريحان في المسألة.

د- عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثاً إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَم).

هـ-وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَم). رواه البخاري ومسلم

هـ-وعنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ). رواه البخاري ومسلم

ص: 561

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز إذا كان مع نساء ثقات.

وهذا مذهب الشافعية.

أ-لما رواه البخاري معلقاً: (أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، وبعث معهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف).

ب- وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ (بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ، فَشَكَا قَطْعَ السَّبِيلِ. فَقَالَ «يَا عَدِىُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ». قُلْتُ لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا. قَالَ «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، لَا تَخَافُ أَحَداً إِلاَّ اللَّه) رواه البخاري.

والراجح المذهب: التحريم مطلقاً.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس - لم يستفصل هل معها نساء أم لا، أو صغيرة أو كبيرة، أو آمنة أو غير آمنة.

قال الشيخ محمد بن عثيمين: هذا العمل وهو الحج بدون مَحرم: مُحرَّم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإنني قد اكتُتِبتُ في غزوة كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك).

فلا يجوز للمرأة السفر بدون محرم، والمحرم: من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح، ويشترط أن يكون بالغاً عاقلاً، وأما الصغير فلا يكون محرماً، وغير العاقل لا يكون محرماً أيضاً، والحكمة من وجود المحرم مع المرأة حفظها وصيانتها، حتى لا تعبث بها أهواء مَن لا يخافون الله عز وجل ولا يرحمون عباد الله.

ص: 562

ولا فرق بين أن يكون معها نساء أو لا، أو تكون آمنة أو غير آمنة، حتى ولو ذهبت مع نساء من أهل بيتها وهي آمنة غاية الأمن، فإنه لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الرجل بالحج مع امرأته لم يسأله ما إذا كان معها نساء وهل هي آمنة أم لا، فلما لم يستفسر عن ذلك دل على أنه لا فرق، وهذا هو الصحيح.

وقد تساهل بعض الناس في وقتنا الحاضر فسوَّغ أن تذهب المرأة في الطائرة بدون محرم، وهذا لا شك أنه خلاف النصوص العامة الظاهرة، والسفر في الطائرة كغيره تعتريه الأخطار.

‌فائدة: 1

المحرم بالنسبة للمرأة.

ضابط المحرم الذي يجوز السفر معه والخلوة به: هو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح.

(على التأبيد) احترازاً من أخت الزوجة وعمتها وخالتها.

(بنسب) كالأب، والابن، والأخ، والعم، وابن الأخ ....

(مباح) كالرضاع: الأب من الرضاع، والأخ من الرضاع ....

والمحرم بالمصاهرة: أبو زوجها، ابن زوجها، زوج أم المرأة، زوج بنت المرأة.

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم (إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَم) فِيهِ دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ جَمِيع الْمَحَارِم سَوَاء فِي ذَلِكَ، فَيَجُوز لَهَا الْمُسَافَرَة مَعَ مَحْرَمهَا بِالنَّسَبِ كَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَابْن أَخِيهَا وَابْن أُخْتهَا وَخَالهَا وَعَمّهَا، وَمَعَ مَحْرَمهَا بِالرَّضَاعِ كَأَخِيهَا مِنْ الرَّضَاع وَابْن أَخِيهَا وَابْن أُخْتهَا مِنْهُ وَنَحْوهمْ، وَمَعَ مَحْرَمهَا مِنْ الْمُصَاهَرَة كَأَبِي زَوْجهَا وَابْن زَوْجهَا، وَلَا كَرَاهَة فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا يَجُوز لِكُلِّ هَؤُلَاءِ الْخَلْوَة بِهَا وَالنَّظَر إِلَيْهَا مِنْ غَيْر حَاجَة، وَلَكِنْ لَا يَحِلّ النَّظَر بِشَهْوَةِ لِأَحَدِ مِنْهُمْ، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور، وَوَافَقَ مَالِك عَلَى ذَلِكَ كُلّه إِلَّا اِبْن

زَوْجهَا، فَكَرِهَ سَفَرهَا مَعَهُ لِفَسَادِ النَّاس بَعْد الْعَصْر الْأَوَّل، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاس لَا يَنْفِرُونَ مِنْ زَوْجَة الْأَب نَفْرَتهمْ مِنْ مَحَارِم النَّسَب، قَالَ: وَالْمَرْأَة فِتْنَة إِلَّا فِيمَا جَبَلَ اللَّه تَعَالَى النُّفُوس عَلَيْهِ مِنْ النَّفْرَة عَنْ مَحَارِم النَّسَب، وَعُمُوم هَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَى مَالِك.

ص: 563

‌فائدة: 2

شروط المحرم:

أولاً: أن يكون بالغاً، فالصغير لا يكفي أن يكون محرماً، لأن المقصود من المحرم حماية المرأة وصيانتها، ومن دون البلوغ لا يحصل فيه ذلك.

ثانياً: عاقلاً، فالمجنون لا يصح أن يكون محرماً، لأنه لا يحصل للمجنون حماية المرأة وصيانتها.

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الولد متى يكون محرماً لأمه؟ هل هو بالبلوغ أو بالتمييز؟ فأجاب: المحرم بارك الله فيك! يكون مَحْرَماً إذا كان بالغاً عاقلاً، فمن لم يبلغ فليس بمحرم، ومن كان في عقله خلل فليس بمحرم. (لقاءات الباب المفتوح)

ثالثاً: الذكورية، فالمرأة لا تكون محرماً للمرأة.

‌فائدة: 3

اختلف العلماء: هل يجب على الزوج أن يحج مع زوجته؟

قولان:

القول الأول: يجب إذا لم يكن لها غيره.

لحديث ابن عباس السابق (انطلق فحج مع امرأتك).

قال ابن حزم: ففرض عليه أن يحج معها.

القول الثاني: لا يلزمه.

وهذا القول أقوى.

وأما الحديث: (انطلق. . .) فهنا أمره بالحج مع امرأته لأن المرأة قد شرعت في السفر، ولا طريق إلى خلاص من ذلك إلا أن يسافر معها.

لكن ليس للزوج أن يمنعها عن حج فرض باتفاق العلماء.

ص: 564

‌فائدة: 4

خروج المرأة للحج من غير محرم في حج التطوع:

لا يجوز لها ذلك.

وهذا مذهب أغلب الفقهاء، فيه قال الحنفية والمالكية وهو المذهب الراجح عند الشافعية وقال به الحنابلة.

(وَإِنْ مَاتَ مَنْ لَزِمَاهُ أُخْرِجَا مِن تَرِكَتِهِ).

أي: من تمت الشروط في حقه، ثم مات، فإنهما يخرجان من تركته قبل الإرث والوصية.

لأن الحج دين في ذمته، ودين الله أحق بالقضاء.

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ).

قال ابن قدامة: مَتَى تُوُفِّيَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَمْ يَحُجَّ، وَجَبَ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ وَيُعْتَمَرُ، سَوَاءٌ فَاتَهُ بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.

وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّافِعِيُّ.

‌فائدة: 1

حكم من مات ولم يحج وكان قادراً:

اختلف العلماء في هذا:

فمنهم من قال: إنه يحج عنه وأن ذلك ينفعه، ويكون كمن حج لنفسه.

ومنهم من قال: لا يحج عنه، وأنه لو حج عنه ألف مرة لم تقبل. يعني لم تبرأ بها ذمته.

وهذا القول هو الحق، لأن هذا الرجل ترك عبادة واجبة عليه مفروضة على الفور بدون عذر، فكيف يرغب عنها، ثم نلزمه إياها بعد الموت، ثم التركة الآن تعلق بها حق الورثة، كيف نحرمهم من ثمن هذه الحجة وهي لا تجزئ عن صاحبها، وهذا هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن"، وبه أقول: إن من ترك الحج تهاوناً مع قدرته عليه لا يجزئ عنه الحج أبداً، لو حج عنه الناس ألف مرة.

ص: 565

‌فائدة: 2

إن كان في حياته لا يملك نفقة الحج الفاضلة عن نفقته ونفقته عياله، فالحج لم يجب عليه، ولا يجب الحج عنه، إلا إن تبرع أحد بذلك.

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لي ابن أخ أصيب بمرض السرطان -أعيذكم بالله من ذلك وجميع المسلمين- وتوفي هذا العام وعمره تسع عشرة سنة ولم يؤد فريضة الحج، علماً بأنه أصيب بهذا المرض منذ خمس سنوات، فهل نحج عنه؟

فأجاب:

" لابد أن نسأله: هل هذا الشاب عنده مال يستطيع أن يحج به؟ إن كان الأمر كذلك فلا بد أن يحج عنه، وإذا لم يكن عنده مال فالحج ليس بواجب عليه وقد مات بريئاً من الفريضة، لكن إن أرادوا أن يتطوعوا ويحجوا عنه فلا حرج.

‌فائدة: 3

سئل أيضاً: رجل جاء من بلده للحج ثم تحطمت الطائرة قبل أن يصل هل يعتبر حاجاً؟

فأجاب:

" إذا هلك من سافر للحج قبل أن يخرج فليس بحاج، لكن الله عز وجل يثيبه على عمله، أما إذا أحرم وهلك فهو حاج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة فقال:(اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً). ولم يأمرهم بقضاء حجه، وهذا يدل على أنه يكون حاجاً.

ص: 566

‌باب المواقيت

المواقيت جمع ميقات: وهو الموضع من الأرض الذي يحرم منه مريد النسك بحج أو عمرة.

‌(يجب على الحاج أو المعتمر أن يحرم من المواقيت التي عيّنها النبي صلى الله عليه وسلم

-).

أي: يجب لمن أراد الحج أو العمرة أن يحرم من الميقات المعتبر له.

والمواقيت المكانية عينها النبي صلى الله عليه وسلم:

أ- عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما; (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ اَلشَّامِ: اَلْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ اَلْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اَلْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ اَلْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

ب-وفي حديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة

) متفق عليه.

ج- وفي حديث ابن عمر - عند البخاري - قال (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْناً، وَلأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَة).

(ذَا الْحُلَيْفَةِ) مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين.

قال النووي: وهي أبعد المواقيت من مكة، بينهما نحو عشر مراحل، وهي قريبة من المدينة.

(الْجُحْفَةَ) قال الحافظ: هي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ستة.

قال النووي: سميت بذلك لأن السيل اجتحفها.

(يَلَمْلَمَ) وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة.

(قَرْنَ اَلْمَنَازِلِ) على نحو مرحلتين من مكة، وهو أقرب المواقيت إلى مكة.

قال ابن قدامة بعد ما ذكر المواقيت: أجمع أهل العلم على أربعة منها، وهي: ذو الحليفة، وقرن، والجحفة ويلملم، واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن رسول الله فيها.

ص: 567

‌فائدة: 1

يجب الإحرام من هذه المواقيت لمن أراد الحج أو العمرة.

أ- لقوله (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ

).

ب-وفي حديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة

).

ج- وفي حديث ابن عمر - عند البخاري - قال (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْناً، وَلأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَة).

‌فائدة: 2

أبعد هذه المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة.

قال الحافظ: فقيل في الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة، وقيل: رفقاً بأهل الآفاق، لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة، أي ممن له ميقات معين.

‌فائدة: 3

ميقات أهل العراق: ذات عرق.

وهذا قول أكثر العلماء.

قال ابن قدامة: فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم.

وقد اختلف العلماء من الذي وقّته: على أقوال:

القول الأول: الذي وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْق) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

ص: 568

القول الثاني: أن الذي وقته عمر.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما قَالَ (لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْناً، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْناً شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْق) رواه البخاري.

ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدده لاشتهر ذلك كما اشتهر تحديد المواقيت الأخرى، وأيضاً لو وقع تحديدها لما احتاج عمر إلى تحديدها لأهل العراق.

وضعف هؤلاء الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق.

وممن قال بهذا أبو الشعثاء جابر بن زيد، وطاووس، ومحمد بن سيرين، ومسلم، وأبو داود، وابن المنذر، وابن خزيمة، والخطابي، والبغوي، وابن الجوزي، والنووي.

قال مسلم: فأما الأحاديث التي ذكرناها من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق فليس واحد منها يثبت.

قال ابن المنذر: ولا يثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة.

قال ابن خزيمة: وقد روي في ذات عرق أنه ميقات أهل العراق أخبار عن غير ابن جريج لا يثبت عند أهل الحديث شيء منها.

قال البغوي: والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت لهم شيئاً.

قال النووي: وَأَمَّا (ذَات عِرْق) بِكَسْرِ الْعَيْن فَهِيَ مِيقَات أَهْل الْعِرَاق، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ صَارَتْ مِيقَاتهمْ بِتَوْقِيتِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمْ

بِاجْتِهَادِ عُمَر بْن الْخَطَّاب؟ وَفِي الْمَسْأَلَة وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيّ: أَصَحّهمَا: وَهُوَ نَصّ الشَّافِعِيّ رضي الله عنه فِي الْأُمّ: بِتَوْقِيتِ عُمَر رضي الله عنه، وَذَلِكَ صَرِيح فِي صَحِيح الْبُخَارِي.

ص: 569

القول الثالث: أن الذي وقته النبي صلى الله عليه وسلم وعمر لم يبلغه النص فجاء توقيته على وفق توقيت النبي صلى الله عليه وسلم.

وعمر معروف بموافقاته الكثيرة.

وبهذا قال ابن حزم، وابن قدامة، وابن تيمية، والعيني.

قال ابن قدامة: ويجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق فقال برأيه فأصاب، ووافق قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان كثير الإصابة.

والقول الثاني أصح.

‌فائدة: 3

حكم من تجاوز هذه المواقيت من غير إحرام وهو مريد النسك.

لا يجوز للمسلم إذا أراد الحج أو العمرة أن يتجاوز الميقات الذي يمر به إلا بإحرام، فإن تجاوزه بدون إحرام لزمه الرجوع إليه والإحرام منه، فإن ترك ذلك وأحرم من مكان دونه أو أقرب منه إلى مكة فعليه دم عند الكثير من أهل العلم، يذبح في مكة ويوزع بين الفقراء؛ لكونه ترك واجباً وهو الإحرام من الميقات الشرعي.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ، إنْ أَمْكَنَهُ، سَوَاءٌ تَجَاوَزَهُ عَالِمًا بِهِ أَوْ جَاهِلًا، عَلِمَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَوْ جَهِلَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ، فَأَحْرَمَ مِنْهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.

وَبِهِ يَقُولُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ.

وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، سَوَاءٌ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ.

وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ.

ص: 570

‌فائدة: 4

من مرّ بميقات ليس ميقاته فإنه يجب عليه أن يحرم منه، فهذه المواقيت لأهلها ولمن مرّ عليها من غير أهلها ممن أراد الحج أو العمرة.

فمن سلك طريقاً فيها ميقات فهو ميقاته، فإذا مرّ أحد من أهل نجد ميقات أهل الشام فإنه يحرم منه، ولا يكلف أن يذهب إلى ميقات أهل نجد.

‌فائدة: 5

حكم المرأة الحائض إذا كانت تريد الحج أو العمرة وحاضت بالميقات:

المرأة التي تريد العمرة لا يجوز لها مجاوزة الميقات إلا بإحرام، حتى لو كانت حائضاً فإنها تحرم وهي حائض وينعقد إحرامها ويصح؛ والدليل لذلك أن أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر رضي الله عنهما ولدت - والنبي صلى الله عليه وسلم نازل في ذي الحليفة يريد حجة الوداع - فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ فقال (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي).

ودم الحيض كدم النفاس، فنقول للمرأة الحائض: إذا مررت بالميقات وأنت تريدين العمرة أو الحج فاغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ".

والاستثفار معناه: أنها تشد على فرجها خرقة وتربطها ثم تحرم، سواء بالحج أو بالعمرة ".

ولكنها إذا أحرمت ووصلت إلى مكة لا تأتي إلى البيت ولا تطوف به حتى تطهر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت في أثناء العمرة قال لها (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي في البيت حتى تطهري) هذه رواية البخاري ومسلم، وفي صحيح البخاري أيضاً ذكرت عائشة أنها لما طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، فدل هذا على أن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وهي حائض أو أتاها الحيض قبل الطواف فإنها لا تطوف ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، أما لو طافت وهي طاهرة وبعد أن انتهت من الطواف جاءها الحيض؛ فإنها

تستمر وتسعى ولو كان عليها الحيض وتقص من رأسها وتنهي عمرتها، لأن السعي بين الصفا والمروة لا يشترط له الطهارة. (الشيخ ابن عثيمين).

ص: 571

‌فائدة: 6

اختلف العلماء: في حكم إذا مر الشامي بميقات أهل المدينة، هل له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة والتي هي الأصل أو يجب أن يحرم من ذي الحليفة على قولين:

القول الأول: يجب أن يحرم من ذي الحليفة.

وهذا قول الشافعي وأحمد.

لقوله صلى الله عليه وسلم (هنّ لهنّ ولمن مرّ عليهنّ من غير أهلهنّ).

وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد ذا الحليفة ميقاتاً من ضمن هذه المواقيت، فلم يجز تجاوزه بغير إحرام كسائر المواقيت.

القول الثاني: يجوز ذلك تجاوز ذي الحليفة إلى الجحفة ويحرم من الأخير.

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وهو اختيار شيخ الإسلام.

أ-واستدلوا بالحديث (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ اَلشَّامِ: اَلْجُحْفَةَ).

قالوا: لأن هذا الرجل مرّ بميقاتين، يجب عليه الإحرام منهما، أحدهما فرع، والثاني أصل، والأصل الجحفة وميقات المدينة فرع، فله أن يدع الإحرام من الفرع إلى الأصل.

ب- وقالوا: إن أهل الشام بنص الحديث ميقاتهم الجحفة.

والأول أحوط.

ص: 572

‌فائدة: 7

من كان منزله دون الميقات يكون ميقاته من مكانه الذي هو ساكن فيه.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ).

وقال الشيخ ابن باز: جدة ليست ميقاتاً للوافدين، وإنما هي ميقات لأهلها ولمن وفدوا إليها غير مريدين الحج ولا العمرة، ثم أنشئوا الحج والعمرة منها.

‌فائدة: 8

حكم مَن سافر مِن بلده إلى جدة ثم أراد العمرة فهل يحرم من جدة:

لا يخلو الأمر مِن حالين:

أ- الإنسان قد سافر إلى جدة بدون نية العمرة، ولكن طرأت له العمرة وهو في جدة: فإنه يُحرم من جدة، ولا حرج في ذلك؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما حين ذكر المواقيت قال:(ومَن كان دون ذلك: فمِن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة).

ب- يكون سافر من بلده بنية العمرة عازماً عليها: فإنه يجب في هذه الحالة أن يُحرم من الميقات الذي يمر به، ولا يجوز الإحرام من جدة؛ لأنها دون الميقات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقَّت المواقيت فقال:(هنَّ لهنَّ ولمن مرَّ عليهن مِن غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة).

فإن أحرم من جدة ونزل إلى مكة في هذه الحال: فإن عليه عند أهل العلم فدية، دماً يذبحه في مكة، ويتصدق به على الفقراء، وعمرته صحيحة، فإن لم يحرم من جدة بعد وصوله إليها، وهو ناوٍ العمرة قبل وصوله: فإنه يرجع إلى الميقات، ويحرم منه، ولا شيء عليه. (الشيخ ابن عثيمين)

ص: 573

‌فائدة: 9

من تجاوز هذه المواقيت بلا نية النسك، ثم طرأ عليه نية العزم على النسك فإنه يحرم من حيث أراد النسك.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) أي: ومن كان منزله دون هذه المواقيت، بأن كان بينها وبين مكة، فميقاته من حيث أنشأ السفر أو أنشأ النية للحج أو العمرة.

‌فائدة: 10

حكم من لا يمر بميقات:

الذي لا يمر بميقات فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، واعتبار المحاذاة أصل بنى عليه عمر حين قرر ذات عرق ميقاتاً لأهل العراق.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما قَالَ (لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْناً، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْناً شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْق). رواه البخاري

فنستفيد من قول عمر (قَالَ فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْق) أن من لا يمر بشيء من هذه المواقيت فإنه ينظر إلى حذو الميقات الأقرب إليه (فيحرم منه).

ص: 574

فإذا مر في طريق بين يلملم وقرن المنازل ينظر أيهما أقرب إليه، فإذا حاذى أقربهما إليه أحرم من محاذاته فعمر قال لهم: انظروا إلى حذوها من طريقكم).

فأمرهم أن ينظروا إلى محاذاة قرن المنازل ويحرموا.

‌فائدة: من أين يحرم من جاء بالطائرة.

قال ابن عثيمين:

وفي حكم عمر رضي الله عنه هذا فائدة جليلة، وهي أن الذين يأتون عن طريق الطائرات وقد نووا الحج أو العمرة ويمرون بهذه المواقيت إما فوقها أو عن يمينها أو يسارها يجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا هذه المواقيت، ولا يحل لهم أن يؤخروا الإحرام حتى ينزلوا في جدة، كما يفعله كثير من الناس، فإن هذا خلاف ما حدده النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

وقال الله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

فعلى الإنسان إذا جاء عن طريق الجو وهو يريد الحج أو العمرة أن يكون متهيئاً للإحرام في الطائرة، فإذا حاذى أول ميقات يمر به وجب عليه أن يحرم، أي أن ينوي الدخول في النسك ولا يؤخر هذا حتى يدخل في مطار جدة. (الشيخ ابن عثيمين)

‌فائدة: 11

الإحرام قبل الميقات:

ذهب عامة أهل العلم على أن الإحرام من وراء الميقات صحيح معتد به، وأن من أحرم قبل بلوغ الميقات فإحرامه صحيح، وحكاه ابن المنذر إجماعاً.

والقائلون بأن الإحرام قبل الميقات منعقد اختلفوا هل هو أفضل، أو هو جائز أو مكروه؟

قال ابن بطال في شرح البخاري حكاية عن ابن المنذر بعد حكاية الإجماع المشار إليه ما عبارته:

غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، واستحبه آخرون.

فممن رأى ذلك ابن عمر أحرم من إيلياء، وسئل علي وابن مسعود عن قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّه) فقالا: أن تحرم من دويرة أهلك.

ص: 575

وأجاز ذلك علقمة والأسود، وهو قول أبى حنيفة، والثوري، والشافعي.

وكره الإحرام قبل المواقيت عمر بن الخطاب، وأنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة.

وأنكر عثمان بن عفان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات.

وهو قول عطاء، والحسن، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وقال أحمد: المواقيت أفضل؛ لأنها سنة النبي عليه السلام. ا. هـ

والصواب قول من كره الإحرام قبل الميقات، لأنه قول عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولموافقته لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يختار إلا الأفضل، وإحرام من أحرم قبل الميقات منعقد لأن من أنكره من الصحابة لم يلزم من فعله بتجديد الإحرام، ولأنه قول عامة العلماء، والذاهبون إلى عدم الصحة قليل من أهل العلم.

قال ابن قدامة مبيناً وجه كراهة الإحرام قبل الميقات: ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل.

قال الشيخ ابن عثيمين: الإحرام قبل هذه المواقيت المكانية مكروه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقتها، وكون الإنسان يحرم قبل أن يصل إليها فيه شيء من تقدم حدود الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) يدل على أنه ينبغي لنا أن نتقيد بما وقته الشرع من الحدود الزمانية والمكانية، ولكنه إذا أحرم قبل أن يصل إليها فإن إحرامه ينعقد.

وهنا مسألة أحب أن أنبه عليها، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وقت هذه المواقيت قال (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) فمن كان من أهل نجد فمر بالمدينة فإنه يحرم من (ذو الحليفة) ومن كان من أهل الشام، ومر بالمدينة، فإنه يحرم من (ذو الحليفة) ولا يحل له أن ينتظر حتى يصل إلى ميقات الشام الأصلي على القول الراجح من قولي أهل العلم.

ص: 576

‌فائدة: 12

اختلف العلماء: هل الإنسان إذا مر بالميقات وهو لا يريد نسكاً وكان قد أدى فرضه، هل يلزمه الإحرام أم لا على قولين:

القول الأول: إنه يجب عليه الإحرام، ولا يتجاوز الميقات إلا محرماً، لأداء عمرة أو حج.

وممن قال بهذا القول جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، إلا إن الحنفية قيدوه فيما إذا كان منزله خارج المواقيت، وهو قول عند الشافعية.

أ-عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يتجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم).

بالنسبة للفظ الأول: قال ابن حجر: رواه ابن عدي مرفوعاً من وجهين ضعيفين.

وفي لفظ آخر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تجوزوا الوقت إلا بإحرام).

قال الهيثمي: وفيه خصيف، وفيه كلام وقد وثقَّه جماعة.

وقال الذهبي عنه: صدوق سيء الحفظ، ضعفه أحمد، ووصفه أبو حاتم بالاختلاط.

ب-عن ابن عباس رضي الله عنه قال (لا يدخل أحد مكة إلا محرماً) رواه البيهقي، قال الحافظ: إسناده جيد.

ج-عن علي قال (لا يدخلها إلا بإحرام، يعني مكة) أخرجه ابن أبي شيبة.

القول الثاني: أنه لا يجب.

وهذا مذهب الشافعي.

قال النووي: أن الأصح عندنا أنه يستحب له الإحرام ولا يجب.

واختار هذا القول ابن حزم، والشوكاني، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ الشنقيطي.

أ-لقوله: (ممن أراد الحج والعمرة) فمفهومه أن من لم يرد النسك لا يجب عليه.

ب- حديث جابر - مرفوعاً - (الحج مرة وما زاد فهو تطوع).

ص: 577

وجه الدلالة: إن الحج والعمرة لا يجبان في العمر إلا مرة واحدة، وأن ما زاد كان تطوعاً، والتطوع لا يجب وإنما يستحب، فإذا أوجبنا على الداخل إلى مكة الإحرام وهو لا يريد الحج، أو العمرة فكأننا قد أوجبنا عليه شيء لم يوجبه الشرع.

• الخلاصة: أن من مر بالميقات فله 3 أحوال:

الحال الأول: أن يكون مريداً للنسك، فيجب عليه الإحرام من الميقات.

الحال الثانية: أن يكون غير مريد للنسك، فلا يجب عليه.

الحال الثالثة: أن يكون متردداً (كأن يقول: لا أدري هل أتمكن من العمرة أم لا) فهنا لا يجب عليه الإحرام لقوله (ممن أراد الحج أو العمرة) وهذا متردد وليس بعازم.

‌فائدة: 13

ميقات أهل مكة للحج من مكة.

لقوله (حتى أهل مكة من مكة).

فمن حج من مكة فمنها حتى لو من غير أهلها.

فائدة: 14

ميقات أهل مكة للعمرة من الحل. (كالتنعيم أو عرفة). وهذا مذهب الأئمة الأربعة.

قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافاً.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلى الحل لتحرم منه.

ص: 578

‌بَابُ الإِحْرَامِ

(الإِحْرَامُ: نِيَّةُ النُّسُكِ).

أي: أن الإحرام المراد به أن ينوي الدخول في النسك.

وسميت نية الدخول في النسك إحراماً، لأنه إذا نوى الدخول في النسك حرم على نفسه ما كان مباحاً قبل الإحرام، فيحرم عليه مثلاً: الرفث، والطيب، وحلق الرأس وغير ذلك.

‌فائدة:

قال ابن حجر: قال العلماء: والحكمة في منع المحرم من اللباس والطيب البعد عن الترفه والاتصاف بصفة الخاشع وليتذكر بالتجرد القدوم على ربه فيكون أقرب إلى مراقبته وامتناعه من ارتكاب المحظورات.

(سُنَّ لِمُرِيدِهِ غُسْلٌ).

أي: يسن لمن أراد الدخول في الإحرام أن يغتسل.

قال النووي: وهو مجمعٌ على الأمر به، لكن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور أنه مستحب، وقال الحسن: وأهل الظاهر هو واجب.

وقال ابن قدامة:

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ طَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَاب الرأي.

وقال ابن رشد: واتفق جمهور العلماء على أن الغسل للإهلال سنة، وأنه من أفعال المحرم.

أ- عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

ب- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَقَالَ: اِغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي) رواه مسلم.

ص: 579

ج-وجاء عن ابن عمر أنه قال: (من السنة أن يغتسل عند إحرامه وعند دخوله مكة) رواه الحاكم وصححه الحافظ ابن حجر

د- وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ، فَسُنَّ لَهَا الِاغْتِسَالُ، كَالْجُمُعَةِ.

وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ جَائِزٌ بِغَيْرِ اغْتِسَالٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.

‌فائدة:

هل يجزئ الغسل لو اغتسل في بلده ثم لم يغتسل عند الإحرام؟

الجواب: في هذا تفصيل، إذا كان لا يمكنه الاغتسال عند الميقات كالذي يسافر بالطائرة فلا شك أن ذلك يجزئه لكن يجعل الاغتسال عند خروجه إلى المطار.

وإن كان في سيارة نظرنا فإن كانت المدة وجيزة كالذين يسافرون إلى مكة عن قرب أجزأه وإن كانت بعيدة لا يجزئه، لكن لا حرج عليه أن يغتسل في بيته، ويقول: إن تهيأ لي الاغتسال عند الميقات فعلت، وإلا اكتفيت بهذا. (الشرح الممتع).

(أَوْ تيمُّمٌ لِعَدَمٍ).

أي: يسن لمن أراد الإحرام أن يغتسل فإن لم يستطع فإنه يسن له أن يتيمم.

لأن الشارع الحكيم أقام التيمم بدلاً عن الاغتسال، فإذا لم يتمكن من الاغتسال تيمم.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يتيمم.

واختار هذا القول ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية.

لأن المراد من الغسل التنظف، والتراب لا ينظف.

• قال ابن قدامة: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً، لَمْ يُسَنَّ لَهُ التَّيَمُّمُ.

وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهُ غُسْلٌ مَشْرُوعٌ، فَنَابَ عَنْهُ التَّيَمُّمُ، كَالْوَاجِبِ.

وَلَنَا: أَنَّهُ غُسْلٌ مَسْنُونٌ، فَلَمْ يُسْتَحَبَّ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِهِ، كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مُنْتَقَضٌ بِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَسْنُونِ، أَنَّ الْوَاجِبَ يُرَادُ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، وَالتَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْنُونُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَقَطْعِ الرَّائِحَةِ، وَالتَّيَمُّمُ لَا يُحَصِّلُ هَذَا، بَلْ يَزِيدُ شُعْثًا وَتَغْيِيرًا، وَلِذَلِكَ افْتَرَقَا فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، فَلَمْ يُشْرَعْ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ، وَلَا تَكْرَارُ الْمَسْحِ بِهِ.

ص: 580

(وَتَنَظُّفٌ).

أي: ويسن أن يتنظف، والمراد بالتنظف هنا: تقليم الأظفار إذا كانت طويلة، وكذا الشعر المأمور بإزالته إذا كان طويلاً، كشعر العانة، والإبط، والشارب.

وهذه ليست سنة مستقلة، وإنما ذكرها العلماء إذا كانت طويلة، حتى لا يضطر إلى أخذها بعد إحرامه.

قال ابن قدامة: لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ قَطْعَ الشَّعْرِ وَقَلْمَ الْأَظْفَارِ، فَاسْتُحِبَّ فِعْلُهُ قَبْلَهُ؛ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَيْهِ فِي إحْرَامِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ.

(وتَطَيُّبٌ)

أي: ويسن الطيب عند الإحرام.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

قال النووي: وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى اِسْتِحْبَاب الطِّيب عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام، وَأَنَّهُ لَا بَأْس بِاسْتِدَامَتِهِ بَعْد الْإِحْرَام، وَإِنَّمَا يَحْرُم اِبْتِدَاؤُهُ فِي الْإِحْرَام، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ خَلَائِق مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَجَمَاهِير الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء، مِنْهُمْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص، وَابْن عَبَّاس وَابْن الزُّبَيْر وَمُعَاوِيَة وَعَائِشة وَأُمّ حَبِيبَة وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُف وَأَحْمَد وَدَاوُد وَغَيْرهمْ.

وقال في الفتح: وهو قول الجمهور.

وقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت (كأني أنظر إلى وبيض المسك في مفرق رأسه)(الوبيض) هو البريق.

وقد جاء عند أبي داود بسند قوي عن عائشة قالت (كنا نضمخ جباهنا بالمسك المطيب، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيرانا النبي ولا ينهانا).

ص: 581

‌فائدة: 1

لا يجوز للمحرِم أن يطيّب ملابس الإحرام قبل إحرامه.

وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، واختيار ابن باز، وابن عثيمين.

لحديث ابن عمر السابق (

وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنْ اَلثِّيَابِ مَسَّهُ اَلزَّعْفَرَانُ وَلَا اَلْوَرْسُ

).

ولأن الرخصة جاءت إنما جاءت في البدن.

قال الشيخ ابن باز: لا يجوز للمحرم أن يضع الطيب على الرداء والإزار، وإنما السنة تطييب البدن كرأسه ولحيته وإبطيه ونحو ذلك، أما الملابس فلا يطيبها عند الإحرام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران أو الورس) فالسنة أنه يتطيب في بدنه فقط، أما ملابس الإحرام فلا يطيبها ولا يلبسها حتى يغسلها أو يغيرها.

‌فائدة: 2

ما الحكم لو انتقل الطيب إلى ملابس الإحرام؟

يجب غسله.

‌فائدة: 3

نستفيد من قولها (وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) استحباب الطيب بعد التحلل الأول وقبل الطواف، وهذه سنة قليل من يعمل بها.

ص: 582

(فِي إِزارٍ وَرِدَاءٍ أَبْيَضينِ).

أي: ويسن أن يحرم في إزار وداء أبيضين.

الإزار: اسم لما يستر به أسفل البدن، والرداء: اسم لما يستر به أعلى البدن.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، وَنَعْلَيْنِ) رواه أحمد.

قالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا، فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ).

وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِي شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَا يُخَاطُ عَلَى قَدْرِ الْمَلْبُوسِ عَلَيْهِ، كَالْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ.

‌وأما دليل استحباب كونهما بيضاً:

فلقوله صلى الله عليه وسلم (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم).

فإن أحرم بثوب لونه آخر فلا حرج في ذلك.

‌فائدة: 1

يجوز للمحرِم الذي لا يجد الإزار أن يلبس السراويل.

قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن للمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار، والخفين إذا لم يجد نعلين.

أ- لحديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخطب بعرفات (من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل) متفق عليه.

ب- وعَنْ جَابِر. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيل) رواه مسلم.

ج- ولحديث ابن عمر الآتي (وَلا الْخِفَافَ، إلاَّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ).

ص: 583

‌فائدة: 2

اختلف العلماء: هل يجب على المحرم الذي لا يجد نعلين ولبس خفين هل يجب عليه قطعهما أم لا على قولين:

‌القول الأول: أنه يجب عليه قطعهما من أسفل من الكعبين.

وهو قول عروة، ومالك، والثوري، والشافعي وإسحاق وابن المنذر.

لحديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إلاَّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ) متفق عليه.

قالوا: يحمل المطلق على المقيد، فحديث ابن عباس مطلق ليس فيه قطع، فيحمل على حديث ابن عمر المقيد بالقطع.

‌القول الثاني: أنه لا يجب قطعهما.

وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.

لحديث عَبَّاسٍ السابق قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ خُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَاراً فَلْيَلْبَسْ سَّرَاوِيلَ) متفق عليه.

قالوا: فهو يعتبر ناسخاً لحديث ابن عمر، لأن حديث ابن عباس كان في عرفات، ولأن المقام مقام تعليم، والناس متوافرون، ولو قصد

النبي صلى الله عليه وسلم تقييد هذا الخبر بحديث ابن عمر لبينه ووضحه.

ولأن في القطع إضاعة للمال.

وهذا القول هو الراجح، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 584

(وَإِحْرامٌ عَقِبَ رَكْعتَينِ).

أي: ويسن لمريد الإحرام، أن يحرم عقب ركعتين، فيسن أن يصلي ركعتين ليحرم بعدهما.

وهذا قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ- لحديث جابر (أنه صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليْفة ركعتين ثم أحرم) رواه مسلم.

ب- واستدلوا أيضاً بفعل ابن عمر (أنه كان يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب، وإذا استوت به راحلته قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) رواه البخاري.

ج- واستدلوا بحديث عمر. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أتاني آتٍ من ربي وقال لي: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين، وقل: لبيك بعمرة وحجة) رواه البخاري.

وهذا القول أرجح والله أعلم.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، فإن كان في وقت فريضة استحب أن يحرم عقيب الصلاة المكتوبة.

وهو روايةٌ عن أحمد واختيار ابن تيمية، والألباني وابن عثيمين وزاد: أو عقب صلاة مشروعة من عادته أنه يصليها.

قالوا: إنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة خاصة بالإحرام، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عقب الفريضة.

وقول الجمهور أصح.

‌فائدة:

أ-اتفق العلماء على مشروعية الإحرام بعد صلاة الفريضة أو نافلتها إذا كان وقت فريضة.

ب- واتفقوا على أن من لم يصل للإحرام فلا شيء عليه.

ص: 585

(وَنِيته شَرْطٌ).

أي: نية الدخول في النسك شرط.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه.

فلو لبى بدون نية الدخول، فإنه لا يكون محرماً بمجرد التلبية، ولو لبس ثياب الإحرام بدون نية الدخول، فإنه لا يكون محرماً بلبس ثياب الإحرام، فإن التلبية تكون للحاج وغيره، ولبس الإزار والرداء يكون للمحرم وغيره.

(ويستحب الاشتراط).

أي: يستحب عند الإحرام أن يشترط.

والاشتراط: أن يقول المحرم: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.

فالاشتراط عند الإحرام سنة لكل أحد.

وهذا مذهب الحنابلة، ورجحه ابن حزم.

لحديث عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ اَلزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رضي الله عنها، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي أُرِيدُ اَلْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُجِّي وَاشْتَرِطِي: أَنَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(حُجِّي) أي: أحرمي بالحج. (وَاشْتَرِطِي) أي: واجعلي شرطاً في حجك عند الإحرام، وهو اشتراط التحلل متى احتاجتِ إليه. (أَنَّ مَحَلِّي) بكسر الحاء، أي: محل خروجي من الإحرام. (حَيْثُ حَبَسْتَنِي) أي: المكان والزمان الذي يحصل لي فيه الحبس.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشرع مطلقاً.

وهو قول الحنفية والمالكية.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولم ينقل عنه.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يستحب للخائف فقط.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية،

ص: 586

وهو الصحيح جمعاً بين الأدلة.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك كل من حج.

قال ابن تيمية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنة عمه ضباعة بنت الزبير أن تشترط على ربها لما كانت شاكية، فخاف أن يصدها المرض عن البيت، ولم يكن يأمر بذلك كل من حج.

وقال الشيخ ابن عثيمين:

فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بعمره كلها، حتى في الحديبية أحرم، ولم يقل: إن حبسني حابس، وحبس، وكذلك في عمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، وحجة الوداع، ولم ينقل عنه أنه قال: وإن حبسني حابس، ولا أمر به أصحابه أمراً مطلقاً، بل أمر به من جاءت تستفتي، لأنها مريضة تخشى أن يشتد بها المرض فلا تكمل النسك.

‌فائدة: 1

فائدة الاشتراط:

قال ابن قدامة: ويفيد هذا الشرط بشيئين:

أحدهما: أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه، أنه له التحلل.

الثاني: أنه متى حل بذلك فلا دم عليه ولا صوم.

‌فائدة: 2

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: بالنسبة للاشتراط في الحج، هل هناك حالات معينة يَشْتَرِط فيها الحاج ويقول: إن حَبَسَنِي حابسٌ فمحلي حيث حَبَسْتَنِي؟

فأجاب: الاشتراط في الحج أن يقول عند عقد الإحرام: إن حَبَسَنِي حابسٌ فمحلي حيث حَبَسْتَنِي.

ص: 587

وهذا الاشتراط لا يُسَنُّ إلا إذا كان هناك خوف مِن مرض أو امرأة تخاف من الحيض، أو إنسان متأخر يخشى أن يفوته الحج، ففي هذه الحالة ينبغي أن يشترط، وإذا اشترط وحصل ما يمنع من إتمام النسك، فإنه يتحلل وينصرف ولا شيء عليه.

أما إذا كان الإنسان غير خائف فالسنة أن لا يشترط، بل يعزم ويتوكل على الله.

‌فائدة: 3

قال الشيخ ابن عثيمين: وهنا عبارتان:

العبارة الأولى: أن يقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، «محلي» أي: مكان إحلالي من النسك، أو وقت إحلالي منه.

العبارة الثانية: أن يقول: إن حبسني حابس فلي أن أحل.

والفرق بينهما:

إذا قال: فمحلي حيث حبستني، حل بمجرد وجود المانع؛ لأنه علق الحل على شرط فوجد الشرط، فإذا وجد الشرط وجد المشروط، وأما إذا قال: إن حبسني حابس فلي أن أحل، فإنه إذا وجد المانع فهو بالخيار إن شاء أحل، وإن شاء استمر.

(وهو مخيرٌ بين التمتعِ، والإفرادِ، والقرانِ، وأفضلُهَا التمتعُ، ثم الإفراد، ثم القران).

أي: أن من أراد الحج فإنه يخير بين هذه الأنساك الثلاثة، فكلها جائزة.

وقد ذكر غير واحد من أهل العلم الإجماع على أنه يجوز الحج بكل نسك من الأنساك الثلاثة لكل مكلف على الإطلاق.

فقد قال ابن هبيرة: وأجمعوا على أنه يصح الحج بكل نسك من أنساك ثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، لكل مكلف على الإطلاق.

ص: 588

وقال النووي: مذهبنا جواز الثلاثة وبه قال العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

وقال ابن عبد البر: وفي حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة من الفقه: أن التمتع جائز وأن الإفراد جائز وأن القران جائز وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.

وقال ابن قدامة: وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، واختلفوا في الأفضل.

وقال الماوردي: لا اختلاف بين الفقهاء في جواز الإفراد، والتمتع، والقران، وإنما اختلفوا في الأفضل.

ويدل لذلك:

أ- حديث عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ (خَرَجْنَا مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ اَلْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمَ اَلنَّحْر) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(خَرَجْنَا مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يعني من المدينة، وكان خروجه يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة.

(حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ) سنة عشر من الهجرة، سميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع بها الناس.

(فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ) هؤلاء هم المتمتعون، فالمتمتع يهل من الميقات بالعمرة، فإذا فرغ منها حل وجوباً، ثم أهل بالحج يوم التروية.

(مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ) أي: حج مع عمرة، وهؤلاء القارنون.

(ومنا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) وهؤلاء المفردون.

ب- وعنها رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل).

ص: 589

قال النووي - بعدما أورد الحديثين- فيه دليل لجواز الأنواع الثلاثة، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وإنما اختلفوا في الأفضل كما سيأتي إن شاء الله.

(وأفضلُهَا التمتعُ).

أي: وأفضل هذه الأنساك: التمتع.

وبه قال الإمام أحمد في الصحيح من المذهب، والشافعي في قول، وهو مروي عن ابن عباس، وابن عمر، وعائشة وعلي، وبه قال الحسن وعطاء وطاووس ومجاهد.

أ- استدلوا بالأحاديث الصحيحة عن ابن عباس وجابر وأبي موسى وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا، أن يحلوا ويجعلوها عمرة، وذلك في أحاديث صحيحة متفق عليها.

كقوله صلى الله عليه وسلم (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) متفق عليه.

فهو صلى الله عليه وسلم تأسف على فواته، وأمر أصحابه أن يفعلوه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، لهذا لما قال سلمة بن شبيب لأحمد: يا أبا عبد الله، قويت قلوب الرافضة لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة -أي متعة الحج- فقال: يا سلمة كان يبلغني عنك أنك أحمق، وكنت أدافع عنك، والآن فقد تبين لي أنك أحمق. عندي أحد عشر حديثاً صحيحاً عن رسول صلى الله عليه وسلم أدعها لقولك؟

ب- أن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج، مع كمالها وكمال أفعالها على وجه اليسر والسهولة، مع زيادة لنسك هو الدم، فكان ذلك هو الأولى.

ج- أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى، بقوله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وذلك دون سائر الأنساك.

د- أنه أيسر للمكلف.

ص: 590

وذهب بعض العلماء: إلى أن القران أفضل.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

ورجحه النووي، والمزني.

واستدلوا بالأحاديث الصحيحة، التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً. قالوا: فلما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، وهو إنما يختار لنفسه الأفضل، دل على أن القران أفضل الأنساك.

ونوقش هذا الاستدلال: بأنه وإن كان الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، لكن هذا لا يدل على أنه الأفضل؛ إذ لو كان القران هو الأفضل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان قارناً ولم يسق الهدي أن يفسخ حجه إلى عمرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نقل أصحابه من الحج إلى المتعة، وتأسف كيف لم يمكنه ذلك، ولو كان القران هو الأفضل لكان الأمر بالعكس.

وذهب بعض العلماء: إلى أن التمتع أفضل الأنساك إلا لمن ساق الهدي فإن القران في حقه أفضل.

ودليل هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي، ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه.

وهذا اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح.

(وَصِفَتُهُ: أنْ يُحْرِمَ بِالعُمْرَةِ فِي أشْهُرِ الحَجِّ، وَيَفْرغ مِنْهَا ثُمَّ يُحْرِمَ بالحَجِّ فِي عَامِ).

أي وصفة التمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج من عامه.

فلا يكون متمتعاً إلا إذا جمع هذه الأوصاف:

أ- أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. (وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة) على القول الراجح.

فمن أحرم بالعمرة في رمضان وأتمها في شوال لم يكن متمتعاً، لأنه لم يحرم بها في أشهر الحج.

ص: 591

ب- أن يفرغ من العمرة بالطواف والسعي والتقصير.

وهنا التقصير أفضل من الحلق لسببين:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في قوله: ومن لم يسق الهدي فليقصر.

ثانياً: من أجل أن يبقى للحج ما يُحلق أو يقصر، ولو أنه حلق، والمدة قصيرة لم يتوفر الشعر للحج.

ففي حديث ابن عمر السابق قال صلى الله عليه وسلم (

وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ).

قال النووي: .... وَإِنَّمَا أَمَرَهُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِالتَّقْصِيرِ وَلَمْ يَأْمُر بِالْحَلْقِ مَعَ أَنَّ الْحَلْق أَفْضَل لِيَبْقَى لَهُ شَعْر يَحْلِقهُ فِي الْحَجّ، فَإِنَّ الْحَلْق فِي تَحَلُّل الْحَجّ أَفْضَل مِنْهُ فِي تَحَلُّل الْعُمْرَة. وَأَمَّا قَوْله صلى الله عليه وسلم:(وَلْيَحْلِلْ) فَمَعْنَاهُ وَقَدْ صَارَ حَلَالًا فَلَهُ فِعْل مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَام مِنْ الطِّيب وَاللِّبَاس وَالنِّسَاء وَالصَّيْد وَغَيْر ذَلِكَ. (شرح مسلم).

ج- أن يحرم بالحج من عامه.

(والإفراد: أن يُحرِمَ بالحج وحدَه).

أي وصفة الإفراد: أن يحرم بالحج مفرداً فيقول: لبيك حجاً.

(والقِرانُ: أن يُحرمَ بهما)

أي وصفة القران: أن يحرم بالحج والعمرة معاً ويقول: لبيك عمرة وحجاً.

جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال (صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حج).

فالقارن لا يتحلل إلا يوم النحر.

أ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى. فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي

الْحُلَيْفَةِ .... فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ) متفق عليه.

ص: 592

ب- وعَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَت (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ فَقَالَ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ) متفق عليه.

وفي حديث حفصة (

إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ).

(أو يُحرمَ بالعمرة ثم يدخل عليها الحج).

هذه صورة أخرى للقران: أن يحرم بالعمرة أولاً (على أنه متمتع) ثم يدخل الحج عليها.

مثال: أن يحرم بالعمرة أولاً (على أنه متمتع) ثم يحدث له عذر لا يتمكن بسببه من إكمال العمرة، فحينئذ يدخل الحج ليكون قارناً.

مثل ما حصل لعائشة حينما أحرمت بالعمرة، لكنها قبل أن تصل إلى مكة حاضت بسرف،

فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت.

‌فائدة: 1

واختلفوا لو أحرم بالحج (مفرداً) ثم أدخل العمرة عليه على قولين:

فقيل: لا يجوز.

لأن فيه إدخالاً للأصغر على الأكبر.

وقيل: يجوز، وهذا الصحيح.

‌فائدة: 2

اختلف في حج النبي صلى الله عليه وسلم، هل كان قارناً أم متمتعاً على أقوال:

القول الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً.

وبه قال الإمام مالك، والشافعي في قول من أقواله، واختاره البيهقي، وابن عبد البر، والقاضي عياض.

أ-عن عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج) رواه البخاري.

ب-وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال (أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً).

وفي رواية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفرداً) رواهما مسلم.

ص: 593

ج-عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج) رواه مسلم.

القول الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً.

وهو قول للشافعي.

أ-عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال (تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل فيه القرآن، قال رجل برأيه ما شاء

) متفق عليه.

ب- وعنه قال (تمتع نبي الله وتمتعنا معه) رواه مسلم.

ج-وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدموا مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وليقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج وليهد

) متفق عليه.

القول الثالث: أنه حج قارناً.

وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق، واختاره الطحاوي، وابن حزم، وابن الجوزي، وابن قدامة، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر.

قال الإمام أحمد: لا شك أنه كان قارناً.

وقال ابن حزم: صح لنا بلا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً.

وقال النووي: والصواب الذي نعتقده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً.

وقال ابن تيمية: أما حجه صلى الله عليه وسلم فالصحيح أنه كان قارناً.

ص: 594

وقال ابن القيم: ومن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب حق التأمل جزم جزماً لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته قارناً.

وقال ابن حجر: والذي تجتمع به الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً.

أ-عن نافع عن ابن عمر (أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم

ب-عن ابن عباس (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، والثانية حين تواطئوا على عمرة من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي قرن مع حجته) رواه أبو داود.

ج-عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة) رواه البخاري.

قال ابن حجر: وهذا دال أنه صلى صلى الله عليه وسلم كان قارناً.

د-عن حميد بن هلال، قال: سمعت مطرفاً، قال: قال لي عمران بن حصين: أحدثك حديثاً ينفعك الله به (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل قرآن يحرمه) رواه مسلم.

هـ- عن حفصة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم (ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أحل من الحج) متفق عليه.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّها على كونه معتمراً، وأخبرها أنه ساق الهدي، وأنه لن يحل من عمرته حتى يحل من الحج يوم النحر، وهذه صفة القران.

و-وعن أنس. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لبيك عمرة وحجاً) رواه مسلم.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 595

(والسنة لمن أرادَ نسكاً أن يُعينَه).

أي: أن السنة لمن أراد الإحرام أن يعيّن نسكه.

أ-عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة) رواه البخاري.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِرَ أن يُعيِّن نسكه.

ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أصحابه بالإحرام بنسك معين فقال (من شاء منكم أن يهل بالحج أو عمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل) متفق عليه.

(وعلى المتمتع هدْيٌ).

أي: يجب على المتمتع هدي.

أ-لقوله تعالى (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي).

قال ابن كثير: أي: إذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما (أي القران) أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها أحرم بالحج، وهذا هو التمتع الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء .... (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي: فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة.

ب- ولحديث ابن عمر السابق وفيه (

ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر ثم ليهل بالحج وليهدي) متفق

عليه.

وكذلك يجب على القارن.

ودم التمتع والقران دم نسك وعبادة، فهو دم شكر حيث حصل للعبد نُسُكان في سفر واحد ودم واحد. ولهذا كان دم المتعة والقران مما يؤكل منه ويهدى ويتصدق - فليس هو دم جبران -، وأما دم المحظور لا يؤكل منه ولا يهدى، فهو يصرف على الفقراء.

ص: 596

‌فائدة: 1

أن المفرد ليس عليه هدي بالإجماع كما حكاه النووي.

‌فائدة: 2

يشترط لوجوب الهدي على المتمتع والقارن أن لا يكونا من حاضري المسجد الحرام بالإجماع.

قال تعالى (

ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام).

واختلف ما المراد بحاضري المسجد الحرام بعد الاتفاق على أن أهل الحرم داخلون في ذلك:

فقيل: المراد بهم أهل الحرم خاصة دون غيرهم.

وقيل: هم أهل الحرم ومن بينه وبين مكة مسافة دون القصر.

وقيل: هم أهل الحرم ومن كان داخلاً في مسمى مكة.

والراجح أنهم أهل الحرم وأهل مكة.

‌فائدة: 3

يشترط في الهدي ما يشترط في الأضحية من اعتبار السن، والسلامة من العيوب، وهذا قول أكثر العلماء.

‌فائدة: 4

يشترط في هدي المتعة أن يذبح في الوقت الذي يذبح فيه الأضاحي وهو يوم العيد وأيام التشريق.

ومما يدل على أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر:

بحديث حفصة قَالَتْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ فَقَالَ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ).

ص: 597

‌فائدة: 5

يشترط أن يذبح في الحرم، فلو ذبحه خارج الحرم كعرفة لم يجزئ حتى لو دخل به إلى منى، وكذلك تفريقه لا بد أن يكون في الحرم.

قال ابن العربي: ولا خلاف في أن الهدي لا بد له من الحرم.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) اتفق الفقهاء على أن دماء الهدي -عدا الإحصار- يختص جواز إراقتها بالحرم، ولا يجوز ذبح شيء منها خارجه؛ لقوله تعالى في جزاء الصيد:(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) وقوله تعالى: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل فجاج مكة طريق ومنحر).

قال الشيخ ابن باز: هدي التمتع والقران لا يجوز ذبحه إلا في الحرم، فإذا ذبحه في غير الحرم، كعرفات وجدة وغيرهما: فإنه لا يجزئه، ولو وزع لحمه في الحرم، وعليه هدي آخر يذبحه في الحرم، سواء كان جاهلاً أو عالماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم، وقال:(خذوا عني مناسككم) وهكذا أصحابه رضي الله عنهم إنما نحروا هديهم في الحرم تأسياً به صلى الله عليه وسلم.

‌فائدة: 6

من لم يجد الهدي كأن لم يوجد هدي في الأسواق، أو يوجد بهيمة لكن لا يكون معه ثمن، فإنه يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.

قال تعالى (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ

عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

ص: 598

‌لكن متى يصوم الثلاثة أيام؟

يبتدئ صومها من حين إحرامه بالعمرة.

لكن الأفضل أن تصام في أيام التشريق [11، 12، 13] من ذي الحجة.

لقول عائشة وابن عمر (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) رواه البخاري.

فظاهر هذا النص أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق، وصومها في أيام التشريق صوم لها في أيام الحج لأن أيام التشريق من أيام الحج.

•‌

‌ هل يلزم التتابع؟

إذا ابتدأها في أول يوم من أيام التشريق لزم أن تكون متتابعة، لأنه لا يجوز أن يؤخرها عن أيام التشريق.

وأما إذا صامها قبل أيام التشريق فيجوز أن يصومها متفرقة ومتتابعة.

‌(وَإِذا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ قالَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمْ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْك، لَا شَرِيكَ لَكَ»

).

أي: يسن أن يلبي إذا استوى على راحلته.

وهذا القول هو الصحيح: أن أول وقت التلبية عندما يركب فيه مركوبه عند إرادة ابتداء السير، لصحة الأحاديث في ذلك:

أ- عنِ ابن عُمَر. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ فَقَالَ «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك

) متفق عليه.

وفي رواية (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِى الْغَرْزِ وَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ).

ب- وعنه. قال (مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ حِينَ قَامَ بِهِ بَعِيرُهُ) رواه مسلم.

ج- وعنه. قال (وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته) رواه مسلم.

د- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رضي الله عنه، قَالَ (صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلّ) متفق عليه.

ص: 599

قال النووي بعد ذكره لروايات حديث الباب: هذه الروايات كلها متفقة في المعنى، وانبعاثها هو: استواؤها قائمة، وفيها دليل لمالك والشافعي والجمهور، أن الأفضل أن يحرِم إذا انبعثت به راحلته.

وقال رحمه الله: هذه أحاديث صحيحة قاطعة بترجح الإحرام عند ابتداء السير. (المجموع).

‌فائدة: 1

فإن قيل: ما الجواب عما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: أهل لما استوت به دابته على البيداء.

أ-ففي حديث جابر الطويل (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ

فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لبيك اللهم لبيك

) رواه مسلم.

ب-وفي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الأَيْمَنِ وَسَلَتَ الدَّمَ وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَج) متفق عليه.

وكذا ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: أحرم بعد الصلاة.

عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل في دُبُر الصلاة) رواه أحمد والنسائي.

فالجواب:

وأما حديث جابر -أنه لبى على البيداء- فيحمل على أن جابراً لم يسمع التلبية إلا حين استوت راحلة النبي صلى الله عليه وسلم على البيداء.

قال الشنقيطي: وَجْهُ الْجَمْعِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ابْتَدَأَ إِهْلَالَهُ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً فَسَمِعَهُ قَوْمٌ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَعَادَ تَلْبِيَتَهُ فَسَمِعَهُ آخَرُونَ لَمْ يَسْمَعُوا تَلْبِيَتَهُ الْأُولَى فَحَدَّثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا سَمِعَ.

ص: 600

‌فائدة: 2

قوله (لبيك اللهم لبيك. . .) هذه تلبيىة رسول الله صلى الله عليه وسلم

-.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ). قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ.

(لَبَّيْكَ) إجابة لك بعد إجابة، وإقامة على طاعتك دائمة، والمراد بالتثنية التأكيد.

(لَا شَرِيكَ لَكَ) أي: في كل شيء، فلا شريك لك في ملكك، ولا شريك لك في ألوهيتك، ولا شريك لك في أسمائك وصفاتك.

(إِنَّ اَلْحَمْدَ) أي: لك الحمد على كل حال، والحمد وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً.

(وَالنِّعْمَةَ) أي: الفضل والإحسان، كله لك، لأن الله وحده المحمود والمنعم.

(وَالْمُلْكَ) أي ملك الخلائق وتدبيرها لك وحدك.

ففي هذا الحديث دليل على مشروعية التلبية، وقد سماها جابر بالتوحيد فقال (فأهل بالتوحيد).

‌فائدة: 3

اختلف العلماء في حكم التلبية على أقوال:

قال ابن حجر في فتح الباري: وفيها مذاهب أربعة يمكن توصيلها إلى عشرة.

القول الأول: أنها سنة لا يجب بتركها شيء وهو قول الشافعي وأحمد.

القول الثاني: واجبة يجب بتركها دم. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.

القول الثالث: أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها. وهذا مروي عن الثوري وأبي حنيفة وأهل الظاهر، وقالوا: هي نظير تكبيرة الإحرام للصلاة.

ص: 601

قال الشنقيطي في أضواء البيان: وإذا عرفت مذاهب أهل العلم في حكم التلبية فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى وقال (لتأخذوا عني مناسككم) فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا التلبية، وهذا القدر هو الذي قام عليه الدليل، أما كونها مسنونة أو مستحبة أو واجبة بدونها وتجبر بدم، فكل ذلك لم يرد فيه دليل خاص، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم والعلم عند الله تعالى.

‌فائدة: 4

الأفضل الاقتصار على تلبية الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال جابر (ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته).

وتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر السابق (لَبَّيْكَ اَللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ اَلْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك).

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ). قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ) متفق عليه.

وكان من تلبيته صلى الله عليه وسلم: لبيك إله الحق.

قال القاضي: قال أكثر العلماء: المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال مالك والشافعي.

لكن يجوز الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أ-لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع الناس يزيدون فأقرهم ولم ينكر ذلك، فدل على جواز ذلك.

ب-وبعضهم يقول: لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواصل.

ج- (وكان ابن عمر يزيد فيها: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) رواه مسلم.

د-وروى أحمد في مسنده عن جابر قال (أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكر تلبية النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والناس يزيدون: ذا المعارج).

ص: 602

(ويستحب للرجلِ أن يرفعَ صوتَه بها).

أي: يسن للرجل أن يرفع صوته بالتلبية.

أ-عن خَلَّادِ بْنِ اَلسَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَة.

ب-عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ فقال: العج والثج) رواه ابن ماجه.

العج: رفع الصوت بالتلبية، الثج: إسالة دماء الهدايا. قال تعالى (وأنزلنا من السماء ماء ثجاجاً) أي: سيالاً.

ج-وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما على يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر) رواه الترمذي.

د- وعن أنس قال (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين سمعتهم يصرخون بهما جميعاً) رواه البخاري

قال ابن حجر: فيه حجة للجمهور في استحباب رفع الأصوات بالتلبية.

هـ- وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا) رواه مسلم.

قال النووي: فِيهِ اِسْتِحْبَاب رَفْع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ، وَهُوَ مُتَّفَق عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُون رَفْعًا مُقْتَصَدًا بِحَيْثُ لَا يُؤْذِي نَفْسه. وَالْمَرْأَة لَا تَرْفَع بَلْ تُسْمِع نَفْسهَا لِأَنَّ صَوْتهَا مَحَلّ فِتْنَة. وَرَفْع الرَّجُل مَنْدُوب عِنْد الْعُلَمَاء كَافَّة. وَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: هُوَ وَاجِب.

هـ- عن بكر بن عبد الله المزني قال (كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين) قال الحافظ: إسناده صحيح.

وجمهور العلماء على أن رفع الصوت بالتلبية مستحب، وذهب ابن حزم إلى وجوب رفع الصوت بالإهلال

‌تنبيه:

رفع الصوت خاص بالرجال، أما المرأة فالمستحب عدم رفع صوتها إلا عند محارمها فلا مانع حينئذ أن ترفع الصوت.

وأما ابن حزم فيرى أن المرأة ترفع صوتها بالتلبية كالرجل تماماً، وقال: لم يرد دليل على التخصيص.

ص: 603

‌فائدة: 1

قال النووي: وَيُسْتَحَبّ الْإِكْثَار مِنْهَا لَا سِيَّمَا عِنْد تَغَايُر الْأَحْوَال، كَإِقْبَالِ اللَّيْل وَالنَّهَار، وَالصُّعُود وَالْهُبُوط، وَاجْتِمَاع الرِّفَاق، وَالْقِيَام وَالْقُعُود وَالرُّكُوب وَالنُّزُول، وَأَدْبَار الصَّلَوَات.

‌فائدة: 2

لا تشرع التلبية لغير المحرم في الأمصار، لعدم الدليل، فيكره أن يلبي غير المحرم وهذا قول مالك وهو الصحيح، لأن التلبية من شعائر الحج وليست بعبادة مستقلة بنفسها، وقد قال بعض العلماء باستحباب التلبية للحلال، لكنه قول ضعيف.

قال ابن قدامة: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُلَبِّيَ الْحَلَالُ.

وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

وَكَرِهَهُ مَالِكٌ.

وَلَنَا، أَنَّهُ ذِكْرٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ، فَلَمْ يُكْرَهْ لِغَيْرِهِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ.

‌فائدة: 3

يستحب للمحرم إذا فرغ من التلبية: صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ودعاء بما أحب.

وقد جاء في ذلك حديث لا يصح:

عن خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سَأَلَ اَللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ اَلنَّارِ) رَوَاهُ

اَلشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

قال النووي: يستحب إذا فرغ من التلبية أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يسأل الله تعالى رضوانه والجنة، ويستعيذ به من النار، ثم يدعو بما أحب.

(المجموع).

وقال ابن قدامة: وَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا بِمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

ص: 604

وقال ابن قاسم: ويسن الدعاء بعد التلبية بما أحب بلا نزاع، لأنه مظنة إجابة الدعاء، ويسأل الله الجنة، ويعوذ به من النار. (حاشية الروض).

وقال الشيخ ابن عثيمين: وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية، خصوصاً عند تغير الأحوال والأزمان، مثل أن يعلو مرتفعاً، أو ينزل منخفضاً، أو يقبل الليل أو النهار، وأن يسأل الله بعدها رضوانه والجنة، ويستعيذ برحمته من النار.

‌فائدة: 4

حكم التلبية الجماعية:

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قول أنس رضي الله عنه (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا المُكبِّر ومنا المُهل) - متفق عليه - يدل على أنهم ليسوا يلبون التلبية الجماعية، ولو كانوا يلبون التلبية الجماعية لكانوا كلهم مهلين أو مكبّرين، لكن بعضهم يكبر، وبعضهم يهل، وكل يذكر ربه على حسب حاله.

وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: ما حكم التلبية الجماعية للحجاج؟ حيث أحدهم يلبي والآخرين يتبعونه؟

فأجابت: لا يجوز ذلك، لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم، بل هو بدعة.

ص: 605

‌باب محظورات الإحرام

مَحْظُورَاتُ اَلْإِحْرَامِ: هي ما يمنع منه المحرم بحج أو عمرة، وقد عرفت بالتتبع والاستقراء.

(وهيَ تسعةٌ).

أي: أن عدد محظورات الإحرام تسعة، عرف ذلك بالتتبع والاستقراء.

‌فائدة:

المحظورات ثلاثة أقسام:

‌القسم الأول: ما يحرم على الرجال والنساء وهو:

إزالة الشعر، وتقليم الأظفار، واستعمال الطيب، والجماع ودواعيه، ولبس القفازين باليدين، وقتل الصيد.

‌القسم الثاني: ما يحرم على الرجال دون النساء وهو:

لبس المخيط، وتغطية الرأس.

‌القسم الثالث: ما يحرم على النساء دون الرجال وهو: النقاب.

(حَلْقَ اَلشَّعْر).

هذا المحظور الأول من محظورات الإحرام، لا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئاً من شعر رأسه.

قال النووي: أجمع المسلمون على تحريم حلق شعر الرأس، وسواء في تحريمه الرجل والمرأة.

أ- قال تعالى (ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ).

ب- وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له (لعلك يؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة) متفق عليه.

وجه الدلالة: أنه رتب فدية الأذى على حلق الرأس مع كونه للعذر، فدل على أنه من محظورات الإحرام.

ص: 606

‌فائدة:

ألحق جمهور العلماء شعر بقية الجسم الذراع والساق والإبط بشعر الرأس، ونقل ابن عبد البر الإجماع عليه.

بجامع أن الكل يحصل بحلقه الترفه، والتنظف، وهو ينافي الإحرام لكون المحرم أشعث أغبر.

(وَتَقْلِيمَ اَلْأَظْفَارِ).

هذا هو المحظور الثاني، لا يجوز للمحرم أن يقص أظافره سواء الرجلين أو اليدين المرأة أو الرجل.

قال ابن قدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَلْمِ أَظْفَارِهِ، إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأَظْفَارِ إزَالَةُ جُزْءٍ يَتَرَفَّهُ بِهِ.

أ- جاء عن ابن عباس أنه قال (لا بأس للمحرِم إذا انكسر ظفره أن يقصه) رواه ابن أبي شيبة.

فقوله (لا بأس للمحرم .. ) مشعر أنه إن لم يحتج إليه كان في قصه بأس.

ب- عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال في تفسير آية الحج (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُم).

التفث: الرمي، والذبح، والحلق والتقصير، والأخذ من الشارب، والأظفار، واللحية.

ج-قياساً على حلق الرأس.

‌فائدة:

قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المحرم ممنوعٌ من أخذ أظفاره.

قال الشنقيطي: لم يعتبر ابن المنذر في حكايته الإجماع قول داود الظاهري: إن المحرم له أن يقص أظفاره، ولا شيء عليه لعدم النص، وفي اعتبار داود في الإجماع خلاف معروف، والأظهر عند الأصوليين اعتباره في الإجماع والله تعالى أعلم.

ص: 607

(ففي ثلاثةٍ منها دمٌ).

أي: متى حلق المحرِم ثلاث شعرات فعليه دم، أو قلم ثلاثة أظفار فعليه دم.

لأن أقل الجمع ثلاثة.

وقد اختلف العلماء متى تجب الفدية؟

فقيل: إذا حلق ثلاث شعرات.

وقيل: إذا حلق أربع.

والصحيح أنه إذا حلق من شعر رأسه ما يحصل به إماطة الأذى.

وهو مذهب المالكية، واختاره ابن حزم، وابن عبد البر، وابن عثيمين.

لقوله تعالى (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

وجه الدلالة: أنَّ حلق شعر الرأس من أذىً به، لا يكون إلا بمقدار ما يماط به الأذى.

ب- وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال (أتى عليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟. قلت: نعم. قال: فاحلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة) متفق عليه.

وجه الدلالة: أن الكفارة إنما تجب في حلق الرأس في مثل ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على كعب بن عجرة، وهو حلق ما يماط به الأذى.

ج- عن ابن عباس. (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرمٌ في رأسه).

وجه الدلالة: أن الحجامة في الرأس من ضرورتها أن يُحلَق الشعر من مكان المحاجم، ولا يمكن سوى ذلك، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتدى؛ لأن الشعر الذي يزال من أجل المحاجم لا يماط به الأذى، فهو قليلٌ بالنسبة لبقية الشعر.

• فلو حلق شعرة واحدة متعمداً من غير عذر فهو آثم لكن ليس عليه فدية.

ص: 608

(وإنْ خرجَ في عينهِ شعَرٌ فقلَعهُ، أو نزل شعَرُه فغطَّى عينيْهِ، أو انكسرَ ظُفْرٌ فقصّه، فلا شيء فيه).

لأنه معذور.

قال ابن قدامة: فَإِنْ انْكَسَرَ، فَلَهُ إزَالَتُهُ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ تَلْزَمُهُ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُزِيلَ ظُفْرَهُ بِنَفْسِهِ إذَا انْكَسَرَ، وَلِأَنَّ مَا انْكَسَرَ يُؤْذِيهِ وَيُؤْلِمُهُ، فَأَشْبَهَ الشَّعْرَ النَّابِتَ فِي عَيْنِهِ، وَالصَّيْدَ الصَّائِلَ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قَصَّ أَكْثَرَ مِمَّا انْكَسَرَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِذَلِكَ الزَّائِدِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ مِنْ الشَّعْرِ أَكْثَرِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. (المغني).

(وَلُبْسَ اَلْمِخْيَطِ، إِنْ كَانَ رَجُلاً).

هذا هو المحظور الثالث، لا يجوز للمحرم أن يلبس مخيطاً.

والمراد بالمخيط: هو ما خيط على قدر البدن أو على جزء منه أو عضو من أعضائه، كالقميص، والسراويل، والفنايل، والخفاف، والجوارب وشراب اليدين و الرجلين.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إلاَّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ).

وَلِلْبُخَارِيِّ (وَلا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ. وَلا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ).

فالحديث دليل على أن المحرِم ممنوع عليه لبس هذه الملابس (الملابس المعتادة التي خيطت للبدن) وبعضهم يعبر بلبس المخيط.

ص: 609

قال النووي: لا يتوقف التحريم والفدية على المخيط، بل سواء المخيط وما في معناه، وضابطه: أنه يحرم كل ملبوس معمول على قدر البدن أو قدر عضو منه بحيث يحيط به بخياطة أو غيرها.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القميص والعمائم والسراويلات والخفاف والبرانس.

قال المجد ابن تيمية: واتفقوا على أن التحريم هنا على الرجال المحرمين خاصة دون النساء.

‌فائدة: 1

عبر بعض الفقهاء رحمهم الله عن هذا المحظور باسم (لبس المخيط).

قال الشيخ ابن عثيمين: وهذه الأشياء الخمسة صار العلماء يعبرون عنها بلبس المخيط، وقد توهم بعض العامة أن لبس المخيط هو لبس ما فيه خياطة، وليس الأمر كذلك، وإنما قصد أهل العلم بذلك أن يلبس الإنسان ما فصل على البدن، أو على جزء منه كالقميص والسراويل، هذا هو مرادهم، ولهذا لو لبس الإنسان رداءً مرقعاً، أو إزاراً مرقعاً فلا حرج عليه، ولو لبس قميصاً منسوجاً بدون خياطة كان حراماً.

‌فائدة: 2

يقاس على هذه المحرمات غيرها مما يشبهها:

فالقمص: ويشمل ما كان بمعناه كالفنيلة، والكوت.

والبرانس: يشمل المشلح، والفروة، والبشت.

والعمائم: وتشمل كل ما غطى الرأس بملاصق، كالغترة، والطاقية.

والخفاف: يشمل كل ما ستر القدم كالجوارب.

السراويلات: يشمل كل ما ستر بعض البدن، مثل السراويل القصيرة.

الورس والزعفران: يشمل كل أنواع الطيب، وهذا عام في حق الرجال والنساء.

ما عدا ذلك فهو حلال: الساعة، والنظارة، والخاتم، والعلاقية.

ص: 610

‌فائدة: 3

قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي تَحْرِيم اللِّبَاس الْمَذْكُور عَلَى الْمُحْرِم وَلِبَاسه الْإِزَار وَالرِّدَاء أَنْ يَبْعُد عَنْ التَّرَفُّه وَيَتَّصِف بِصِفَةِ الْخَاشِع الذَّلِيل؛ وَلْيَتَذَكَّرْ أَنَّهُ مُحْرِم فِي كُلّ وَقْت، فَيَكُون أَقْرَب إِلَى كَثْرَة أَذْكَاره، وَأَبْلَغ فِي مُرَاقَبَته وَصِيَانَته لِعِبَادَتِهِ، وَامْتِنَاعه مِنْ اِرْتِكَاب الْمَحْظُورَات؛ وَلِيَتَذَكَّرَ بِهِ الْمَوْت وَلِبَاس الْأَكْفَان، وَيَتَذَكَّر الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة، وَالنَّاس حُفَاة عُرَاة مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي. (شرح مسلم).

ولأجل أن يتساوى المحرمون في هذا اللباس فلا يبقى بينهم مكان للتباهي والتفاخر.

ولأجل أن يتذكر المحرم كلما لاح له إزاره ورداؤه أنه في نسك وعبادة، فيبتعد عن المعاصي.

ولأجل أن يتذكر بهذا اللباس أيضاً يوم القيامة.

‌فائدة: 4

هذا المحظور خاص بالرجل، فللمرأة أن تلبس من الثياب ما تشاء غير أن لا تتبرج بالزينة، ولا تلبس القفازين وهما شراب اليدين، ولا تتنقب لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا تتنقب المحرمة ولا تلبس القفازين).

(وَتَغْطِيَةَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ رَجُلاً).

هذا هو المحظور الرابع، لا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه بملاصق، كالعمامة، والطاقية.

قال ابن عبد البر: أجمعوا أن إحرام الرجل في رأسه، وأنه ليس له أن يغطي رأسه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس البرانس والعمائم.

وقال ابن رشد: اختلفوا في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم على أنه لا يخمر رأسه.

وقال النووي: وأما تخمير الرأس في حق المحرم الحي فمجمعٌ على تحريمه.

أ- للحديث السابق (

لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعَمَائِمَ).

ب- لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ. وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ .... ) متفق عليه.

ص: 611

‌فائدة: 1

ستر الرأس للمحرم ينقسم إلى أقسام:

أولاً: أن يغطي رأسه بما يلبس عادة كالطاقية والغترة والعمامة.

فهذا حرام للأحاديث السابقة.

ثانياً: أن يستظل بالشجرة أو الحائط أو السقف أو الخيمة، فهذا لا بأس به.

فقد قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم (وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فنزل بها .... ) رواه مسلم.

قال ابن قدامة: ولا بأس أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء، وإن نزل تحت شجرة، فلا بأس أن يطرح عليها ثوباً يستظل به، عند جميع أهل العلم.

وقال النووي: وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز.

ثالثاً: أن يغطي رأسه بالحناء والكتم، فهذا جائز.

حديث ابن عمر قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً) متفق عليه.

رابعاً: أن يظلل رأسه بتابع له كالشمسية ومحمل البعير فهذا محل خلاف، والصحيح جوازه.

وهو مذهب الحنفية، والشافعية، واختاره ابن المنذر.

خامساً: أن يغطيه بما يحمله على رأسه ولا يقصد به التغطية.

فهذا جائز، باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو اختيار ابن حزم.

وذلك لأنه لا يقصد به الستر؛ ولا يستر بمثله عادةً.

ص: 612

قال ابن باز: حمل بعض المتاع على الرأس لا يعد من التغطية الممنوعة إذا لم يفعل ذلك حيلة، وإنما التغطية المحرمة هي: ما يغطى بها الرأس عادة كالعمامة والقلنسوة، ونحو ذلك مما يغطى به الرأس، وكالرداء والبشت ونحو ذلك، أما حمل المتاع فليس من الغطاء المحرم كحمل الطعام ونحوه إذا لم يفعل ذلك المحرم حيلة؛ لأن الله سبحانه قد حرم على عباده التحيل لفعل ما حرم.

وقال ابن عثيمين: أن يغطيه بما لا يقصد به التغطية والستر كحمل العفش ونحوه، فهذا لا بأس به؛ لأنه لا يقصد به الستر، ولا يستر بمثله غالباً.

‌فائدة: 2

هل تغطية الوجه من المحظورات؟ قولان للعلماء:

قيل: من المحظورات.

لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ. وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ. فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّياً).

وَفِي رِوَايَةٍ لمسلم (وَلا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلا رَأْسَهُ).

وقيل: إنه ليس من المحظورات، فيباح للمحرم أن يغطي وجهه.

روى ذلك عن عثمان، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص.

وهذا المذهب.

ص: 613

وبه قال الشافعي، وابن حزم.

أ- لحديث ابن عباس السابق (ولا تخمروا رأسه).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تغطية رأس المحرم فقط، فدل على جواز ستر الوجه لأنه لو كان حراماً لنهى عنه.

ب-ولما روي عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن الزبير يخمرون وجوههم وهم محرمون.

ج- وقالوا إن زيادة (ولا وجهه) زيادة شاذة أعرض عنها البخاري، وكذلك ورد عن بعض الصحابة تغطية الوجه.

(والطيب).

هذا هو المحظور الخامس، لا يجوز للمحرم أن يتطيب وهو محرم.

قال النووي: يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب، وهذا مجمعٌ عليه.

وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب.

أ-للحديث السابق وفيه (لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعَمَائِمَ

وَلا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ).

[الزعفران] طيب [الورس] نبت أصفر يصبغ الثياب وله رائحة طيبة.

ب- وقال صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ. وَلا تُحَنِّطُوهُ

).

وفي لفظ (

اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ وَلَا تُمِسُّوهُ بِطِيبٍ).

والطيب يشمل الطيب في رأسه وفي لحيته وفي صدره وفي ثوبه وغيره من الأماكن.

ص: 614

‌فائدة: 1

قال النووي: وَالْحِكْمَة فِي تَحْرِيم الطِّيب وَالنِّسَاء: أَنْ يَبْعُد عَنْ التَّرَفُّه وَزِينَة الدُّنْيَا وَمَلَاذّهَا، وَيَجْتَمِع هَمّه لِمَقَاصِد الْآخِرَة.

وقال أيضاً: وَسَبَب تَحْرِيم الطِّيب أَنَّهُ دَاعِيَة إِلَى الْجِمَاع؛ وَلِأَنَّهُ يُنَافِي تَذَلُّل الْحَاجّ، فَإِنَّ الْحَاجّ أَشْعَث أَغْبَر، وَسَوَاء فِي تَحْرِيم الطِّيب الرَّجُل وَالْمَرْأَة.

‌فائدة: 2

شم الطيب له أحوال:

الحال الأولى: أن يشمه بقصد التلذذ [فهذا من محظورات الإحرام].

الحال الثانية: أن يشمه بغير قصد، كما لو مر بسوق العطارين وشم الطيب [هذا ليس من محظورات الإحرام].

الحال الثالثة: شم الطيب ليرى جودته من عدمها [المذهب أنه من المحظورات، واختار ابن القيم أنه ليس من المحظورات].

(وقتلُ الصيد: وهو البري، اَلْوَحْشِيِّ، اَلْمَأْكُولِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى قَتْلِه)

هذا هو المحظور السادس: لا يجوز للمحرم أن يقتل الصيد حال إحرامه.

‌مباحث تتعلق بهذا المحظور:

‌مبحث: 1

الأدلة على تحريم قتل الصيد للمحرِم:

أ-قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).

قال ابن كثير: وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه.

ب- وقال تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا).

ج- وعن الصَّعب بن جثامة الليثي (أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشيًّا، فَرَدَّه عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنَّا لم نردُّه عليك إلا أنَّا حرم) متفق عليه.

قال ابن قدامة: لا خلاف بين أهل العلم، في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم.

وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم الصيد في الإحرام.

ص: 615

‌مبحث: 2

قوله (وهو البري، اَلْوَحْشِيِّ، اَلْمَأْكُولِ.

. .) أن الصيد المحرّم على المحرِم: هو الحيوان البري - المتوحش - المأكول اللحم.

أن يكون مأكولاً: فإذا كان غير مأكول فليس عليه فدية.

أن يكون برياً: وضده البحري، فلا يحرم على المحرِم.

أن يكون وحشياً: فما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم أكله ولا ذبحه كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج.

إذاً الشروط: أن يكون الصيد: مأكولاً - برياً - متوحشاً.

(كالحمامة، والضبع، والغزال، والأرنب).

• فيجوز للمحرم صيد البحر.

قال تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ).

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن صيد البحر مباحٌ للمحرم اصطياده، وأكله وبيعه وشراؤه.

• ويجوز للمحرم ذبح بهيمة الأنعام والدجاج ونحوها.

قال ابن قدامة: ما ليس بوحشيٍّ لا يحرم على المحرم ذبحه ولا أكله، كبهيمة الأنعام كلها، والخيل، والدجاج، ونحوها، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً.

ص: 616

‌مبحث: 3

المحرِم لا يجوز له أن يُعِيْنَ على قتل الصيد، ولا يجوز له أن يدلّ عليه.

لحديث أبي قتادة رضي الله عنه في "الصحيحين" حينا صاد حماراً وحشياً وهو محل - وفيه قال صلى الله عليه وسلم (

هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ». قَالَ قَالُوا لَا، قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا.

إذًا: المحرِم يجوز له أن يأكل الصيد بشرط:

أن لا يكون هذا الصيد صاده مُحْرِمٌ آخر، أو أعانه مُحْرِمٌ، أو أشار إليه مُحْرِمٌ، أو صِيد لأجله.

أما إذا كان هناك شخص ليس مُحْرِمًا وصاد صيدًا وقدّم منه شيئًا إلى مُحْرِم؛ فلا بأس أن يأكل، النبي صلى الله عليه وسلم قال (فكلوه).

‌مبحث: 4

إذا اصطاد المحرم صيداً:

فقد عصى الله بذلك، كما تبين مما سبق، وحرم عليه أيضاً أن يأكل منه، باتفاق العلماء.

ويحرم كذلك على غيره أن يأكل من هذا الصيد الذي اصطاده المحرم، عند أكثر العلماء ـ

قال النووي: إذا ذبح المحرم صيداً حرم عليه بلا خلاف.

وفي تحريمه على غيره قولان: الجديد: تحريمه وهو الأصح عند الجمهور. (المجموع).

وقال ابن قدامة: وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة، يحرم أكله على جميع الناس، وهذا قول الحسن، والقاسم، وسالم، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وقال الحكم، والثوري، وأبو ثور: لا بأس بأكله، قال ابن المنذر: وهو بمنزلة ذبيحة السارق.

وقال الشنقيطي: وقد أجمع جميع العلماء على أن ما صاده محرِم: لا يجوز أكله للمحرم الذي صاده، ولا لمحرم غيره، ولا لحلال غير محرم لأنه ميتة.

ص: 617

‌مبحث: 5

اختلف العلماء في حكم: إذا صاد المحل صيداً وأطعمه المحرم، فهل يكون حلالاً للمحرم أم لا على قولين:

‌القول الأول: أنه حرام على المحرِم.

وهذا مذهب ابن عباس وابن عمر وإسحاق والثوري.

أ-لقوله تعالى (وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً).

ب- ولحديث الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه (أَنَّهُ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِمَاراً وَحْشِيَّاً، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي، قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ).

‌القول الثاني: يجوز أكل المحرم مما صاده المُحِل مطلقاً ولو صاده لأجله.

وهذا مذهب أبي حنيفة وعطاء ومجاهد.

لحديث أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حَاجَّاً. فَخَرَجُوا مَعَهُ. فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ - وَقَالَ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، حَتَّى نَلْتَقِيَ. فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ، إلاَّ أَبَا قَتَادَةَ، فَلَمْ يُحْرِمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ. فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ. فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانَاً. فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا. ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ قَالُوا: لا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا) متفق عليه.

وَفِي رِوَايَةٍ: (قَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ، فَأَكَلَ مِنْهَا).

ص: 618

القول الثالث: القول بالجمع: فما صاده الحلال لأجل المحرم حرم على المحرم فقط، وما لم يصد لأجله فهو حلال له.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأصحابهما، وأحمد وإسحاق وأبو ثور، ورجحه ابن حبان، وابن عبد البر، والبغوي، والقاضي عياض، والنووي، وابن القيم، وابن حجر وغيرهم.

واحتجوا لمسلكهم بأن فيه توفيقاً وجمعاً بين الأحاديث المختلفة وعملاً بجميعها.

ويؤيد هذا الجمع ما رواه أحمد وأبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم).

قال الترمذي بعد هذا الحديث: والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بأكل الصيد للمحرم بأساً إذا لم يصده أو يصد من أجله.

قال الشوكاني: والحق ما ذهب إليه الجمهور من الجمع بين الأحاديث.

وهذا القول هو الراجح.

‌مبحث: 6

لو استأنس البري فلا يجوز للمحرم اصطياده،

لأنه باعتبار أصله هو بري، فمتى استأنس الظباء أو الأرانب أو البط أو الحمام فلا يحل للمحرم اصطياده.

‌مبحث: 7

إذا صاد السمك داخل حدود الحرم،

كأن تكون بحيرة بها أسماك، فالصحيح أنه يجوز، لأن المحرّم صيد البر.

ص: 619

و‌

‌ مبحث: 8

من اضطر إلى الأكل فذبح الصيد لذلك فإنه يحل له، لأنه لا تحريم مع الضرورة.

‌مبحث: 8

قوله (صَيْدِ اَلْبَرِّ اَلْوَحْشِيِّ اَلْمَأْكُولِ. . .) فإن كان غير مأكول فليس قتله من محظورات الإحرام.

ولكن هل يقتل أم لا:

‌ينقسم الحيوان من حيث القتل وعدمه إلى أقسام:

‌القسم الأول: قسم أمر بقتله.

كالخمس التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على قتلها:

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الحلِ والْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) متفق عليه، وعند مسلم (والحية).

(اَلْغُرَابُ) وفي صحيح مسلم تقييده (بالأبقع) وهو الذي في ظهره وبطنه بياض. (العقرب) دويبة ذات سم تلسع. (الحدأة) طائر

معروف يختطف الأموال الثمينة. (وَالْكَلْبُ اَلْعَقُورُ) أي: الجارح المفترس.

تنبيه: لماذا سميت هذه بالفواسق؟

قال النووي: تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإن أصل الفسق لغة الخروج، ومنه سمي الرجل الفاسق لخروجه عن أمر الله وطاعته، فوصفت هذه الخمس بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله أو حل أكله أو خروجها بالإيذاء أو الإفساد.

وقال ابن حجر: وأمّا المعنى في وصف الدّوابّ المذكورة بالفسق.

فقيل: لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله.

ص: 620

وقيل: ثم ذكر القول الثاني

، ثم قال:

وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع.

ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن ماجه: قيل له: لِمَ قيل للفأرة فويسقة؟ فقال: لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت.

فهذا يومئ إلى أنّ سبب تسمية الخمس بذلك لكون فعلها يشبه فعل الفسّاق، وهو يرجّح القول الأخير. (الفتح).

تنبيه: قوله (والغراب) هل الغراب يقتل مطلقاً أم هناك غراب معين؟

في الحديث السابق الإذن في قتل الغراب مطلقاً ولم يخص نوعاً فيها من نوع.

وجاء في صحيح مسلم عن عائشة أيضاً. قال صلى الله عليه وسلم (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم .... وذكر منها: والغراب الأبقع)، وكذلك في حديث ابن عمر.

فاختلف العلماء في ذلك.

فذهب بعض العلماء بحمل الأحاديث المطلقة في الإذن بقتل كل غراب على المقيدة بالغراب الأبقع.

وممن سلك هذا المسلك أبو حنيفة وصاحباه محمد بن الحسن وأبو يوسف والطحاوي، وحكاه ابن المنذر عن بعض أصحاب الحديث، وبه أخذ ابن خزيمة، وابن حجر، العيني.

وذهب بعض العلماء إلى تقديم الروايات المطلقة على المقيدة.

وممن سلك هذا المسلك ابن عبد البر، وابن قدامة.

قال ابن قدامة: الروايات المطلقة أصح.

واعتذر بعضهم بأن رواية (الأبقع) شاذة.

وذكر بعض العلماء أن التقييد بالأبقع أنه خرج مخرج الغالب فلا يختص الحكم به.

قال القرطبي: قوله (الغراب الأبقع) تقييد لمطلق الروايات الأخرى التي ليس فيها الأبقع، وبذلك قالت طائفة، فلا يجيزون إلا قتل الأبقع، وغير هذه الطائفة رأوا جواز قتل الأبقع وغيره من الغربان، ورأوا أن ذكر الأبقع إنما جرى لأنه الأغلب عندهم.

ص: 621

‌تنبيه: اختلف العلماء هل يتعدى القتل إلى غيرها من المؤذيات أم لا على قولين:

‌القول الأول: أنه لا يتعدى إلى غيرها.

وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر.

لأنها هي التي ورد بها النص.

‌القول الثاني: بل يتعدى إلى غيرها من كل مؤذ.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

وأن ما جاء في الحديث على سبيل المثال.

قال ابن القيم: إنما اختصت هذه بالذكر لينبه بها على ما في معناها، وأنواع الأذى مختلفة، فيكون ذكر نوع منها منبهاً على جواز قتل ما فيه ذلك النوع.

وقال الشيخ ابن عثيمين: والتنبيه بهذه الأمثلة يدل على أن ما كان مثلها في الحكم وما كان أشد منها فهو أولى منها بالحكم، ولهذا أخذوا قاعدة من ذلك، وقالوا: يسن قتل كل مؤذٍ.

‌القسم الثاني: قسم منهي عن قتله.

كالنملة، والنحلة، والهدهد، والصرد.

لحديث ابن عباس قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدد، والصُّرد) رواه أبو داود.

‌القسم الثالث: قسم سكت عنه.

كالذباب، والصراصير، والجعلان.

فهذه إن آذت قتلت، وإن لم تؤذ: فقيل يجوز قتلها، وقيل يكره، وهذا الأقرب.

لأن الله خلقها لحكمة، فلا ينبغي أن تقتل.

ص: 622

‌مبحث: 9

لو دلّ المُحرِم غير المحرِم، أو أعانه، فإنه يضمن.

قال الشنقيطي: إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءٌ; لِتَسَبُّبِهِ فِي قَتْلِ الْحَلَالِ لِلصَّيْدِ بِدَلَالَتِهِ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ:

فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ الدَّالَّ يَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ كَامِلًا.

وَيُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَبَكْرٍ الْمُزَنِيِّ، وَإِسْحَاقَ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ سُؤَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ: هَلْ أَشَارَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى أَبِي قَتَادَةَ عَلَى الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ؟.

فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُمْ لَوْ دَلُّوهُ عَلَيْهِ كَانَ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ صَادُوهُ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ; وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ لُزُومُ الْجَزَاءِ، وَالْقَاعِدَةُ لُزُومُ الضَّمَانِ لِلْمُتَسَبِّبِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَضْمِينُ الْمُبَاشِرِ، وَالْمُبَاشِرُ هُنَا لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ الصَّيْدَ; لِأَنَّهُ حَلَالٌ، وَالدَّالُّ مُتَسَبِّبٌ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ.

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ.

قَالُوا: لِأَنَّ الصَّيْدَ يُضْمَنُ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ لَمْ يَقْتُلْهُ.

(أضواء البيان).

ورجح هذا القول ابن قدامة فقال:

فَإِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى الصَّيْدِ فَأَتْلَفَهُ، فَالْجَزَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُحْرِمِ.

رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَبَكْرٍ الْمُزَنِيّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

لقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ (هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟) وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إتْلَافِ الصَّيْدِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ نَصَبَ أُحْبُولَةً.

وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ. (المغني).

ص: 623

‌مبحث: 10

وَأَمَّا إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا آخَرَ عَلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ:

فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ.

وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَيْضًا صَاحِبُ «الْمُغْنِي» .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْجَزَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْمُبَاشِرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ الدَّالِّ شَيْءٌ.

وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ فِي الضَّمَانِ، وَالْمُبَاشِرُ هُنَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ; لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ: فَعَلَى الدَّالِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ. (أضواء البيان).

(وعقدُ نكاح).

هذا المحظور السابع من محظورات الإحرام: وهو عقد الإحرام.

لحديث عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَنْكِحُ اَلْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ) رَوَاهُ مُسْلِم.

(لَا يَنْكِحُ اَلْمُحْرِمُ) أي: لا يتزوج. (وَلَا يُنْكِحُ) أي: يعقد النكاح لغيره.

ذهب جمهور العلماء إلى أن المحرِم محرّم عليه أن يَنكح - بفتح الياء - أي: يتزوج، أو يُنكِح - بضم الياء - أي: يعقد النكاح لغيره، أو يخطب، أي: يطلب زواج المرأة من نفسها أو من أهلها.

فيحرم عقد النكاح على الذكور والإناث، سواء كان المحرم الولي أو الزوج أو الزوجة، فالحكم يتعلق بهؤلاء الثلاثة.

لو عقد لرجل محرم على امرأة حلال فالنكاح لا يصح، ولو عقد لرجل محل على امرأة والولي محرم لا يصح.

ص: 624

‌فائدة: 1

فإن قيل: ما الجواب عن حديث ابْن عَبَّاس. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ) رواه مسلم.

الجواب:

أولاً: أن ابن عباس وهِم إذ نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوج ميمونة محرماً.

قال سعيد بن المسيب: وهِم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرِم.

ثانياً: أن ميمونة وهي صاحبة القصة قالت (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً) رواه مسلم.

ثالثاً: أن أبا رافع كان الرسول بينهما حيث قال (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما) رواه الترمذي.

رابعاً: أن الرواة بأنه صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً كثيرون، منهم ميمونة نفسها، ومنهم أبو رافع، وسليمان بن يسار، ومنهم صفية بنت شيبة.

قال ابن عبد البر: وما أعلم أحداً من الصحابة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم إلا عبد الله بن عبد الله، ورواية من ذكرنا معارضة لروايته، والقلب إلى رواية الجماعة أميل، لأن الواحد أقرب إلى الغلط.

وقال: والرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال متواترة عن ميمونة بعينها، وعن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وعن سليمان بن يسار مولاها، وعن يزيد بن الأصم وهو ابن أختها.

وقال عياض: الذي صححه أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً، وهو قول كبراء الصحابة ورواياتهم، ولم يأت عن أحد منهم أنه تزوجها محرماً إلا ابن عباس وحده.

ص: 625

‌فائدة: 2

اختلف العلماء في الخطبة للمحْرِم على قولان:

القول الأول: تكره الخطبة للمحرم، والمحرمة، ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين.

وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، واختيار ابن قدامة.

القول الثاني: أنه تحرم خطبة المحرم.

وهو مذهب المالكية، واختيار ابن حزم وابن تيمية، والصنعاني، والشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.

أ-لحديث عثمان السابق: (

ولا يخطب).

فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجميع نهياً واحداً ولم يفصل وموجب النهي التحريم وليس لنا ما يعارض ذلك من أثر ولا نظر.

ب-أن الخطبة مقدمة النكاح وسبب إليه كما أن العقد سبب للوطء، والشرع قد منع من ذلك كله حسماً للمادة.

قال الشنقيطي: الأظهر عندي أن المحرِم لا يجوز له أن يخطب امرأة، وكذلك المحرمة لا يجوز للرجل خطبتها لما تقدم من حديث عثمان، وبه تعلم أن ما ذكره كثير من أهل العلم من أن الخطبة لا تحرم في الإحرام وإنما تكره أنه خلاف الظاهر من النص.

‌فائدة: 3

قال العلامة العثيمين: أما الشاهدان فلا تأثير لإحرامهما، لكن يكره أن يحضرا عقده إذا كانا محرمين، فإن عقد النكاح في حق المحرم منهما حرام.

ص: 626

(ولا يصح).

أي: ولا يصح العقد لو وقع حال الإحرام.

قال ابن قدامة: وَمَتَى تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ، أَوْ زَوَّجَ، أَوْ زُوِّجَتْ مُحْرِمَةٌ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْكُلُّ مُحْرِمِينَ أَوْ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا.

وقال النووي: وَاعْلَمْ أَنَّ النَّهْي عَنْ النِّكَاح وَالْإِنْكَاح فِي حَال الْإِحْرَام نَهْي تَحْرِيم، فَلَوْ عَقَدَ لَمْ يَنْعَقِد سَوَاء كَانَ الْمُحْرِم هُوَ الزَّوْج وَالزَّوْجَة أَوْ الْعَاقِد لَهُمَا بِوِلَايَةٍ أَوْ وَكَالَة، فَالنِّكَاح بَاطِل فِي كُلّ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ وَالْوَلِيّ مُحِلِّينَ، وَوَكَّلَ الْوَلِيّ أَوْ الزَّوْج مُحْرِمًا فِي الْعَقْد لَمْ يَنْعَقِد.

(ولا فِدية).

أي: ليس فدية.

أولاً: لعدم الدليل على وجوب الفدية، والأصل براءة الذمة.

ثانياً: أنه وسيلة لم يترتب عليها الانتفاع بالمقصد المحرم، والذي يجبر إنما هو المقاصد.

ثالثاً: أنه فَسَدَ لأجل الإحرام، فلم يجب به فدية، كشراء الصيد.

(وتَصِحُّ الرجعَةُ).

أي: يصح أن يراجع الإنسان المحرِم مطلقته التي له الرجعة عليها.

مثال: رجل أحرم بعمرة أو حج، وكان قد طلق زوجته طلاقاً رجعياً، فأراد أن يراجعها فإنه يجوز.

قال ابن قدامة: فَأَمَّا الرَّجْعَةُ، فَالْمَشْهُورُ إبَاحَتُهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهَا لَا تُبَاحُ؛ لِأَنَّهَا اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ مَقْصُودٍ بِعَقْدٍ، فَلَا تُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ، كَالنِّكَاحِ.

وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ، وَالرَّجْعَةُ إمْسَاكٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

فَأُبِيحَ ذَلِكَ كَالْإِمْسَاكِ قَبْلَ الطَّلَاقِ.

ص: 627

وقال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ الْمُحْرِمَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَ مُطَلَّقَتَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ; لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ مُؤْتَنَفٍ; لِأَنَّهَا لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى عَقْدٍ، وَلَا صَدَاقٍ، وَلَا إِلَى إِذْنِ الْوَلِيِّ وَلَا الزَّوْجَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» وَجَوَازُ الرَّجْعَةِ فِي الْإِحْرَامِ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَأَصْحَابُهُم: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا رِوَايَةً عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

(المُباشرةُ لشهوةٍ فيما دون الفرج).

هذا المحظور الثامن: أن يباشر المحرِم زوجته فيما دون الفرج.

قال تعالى (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ).

قال النووي: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يحرم على المحرم المباشرة بشهوة كالمفاخذة والقبلة واللمس باليد بشهوة

وأما اللمس بغير شهوة فليس بحرام بلا خلاف.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) يحرم على المحرِم باتفاق العلماء وإجماع الأمة الجماع ودواعيه الفعلية أو القولية وقضاء الشهوة بأي طريق.

قال الشنقيطي: اعلم أنهم متفقون على مقدمات الجماع كالقبلة، والمفاخذة، واللمس بقصد اللذة حرام على المحرم، ولكنهم اختلفوا فيما يلزمه لو فعل شيئاً من ذلك.

‌فائدة: 1

من باشر ولم ينزل فعليه دم أو بدله من الإطعام أو الصيام، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وقال به طائفة من السلف وهو اختيار ابن عثيمين.

ص: 628

‌فائدة: 2

ذهب بعض العلماء: إلى أن المباشرة إذا أنزل بها فعليه بدنة، قياساً على الجماع.

واختار الشيخ ابن عثيمين: أن المباشرة دون الفرج مع الإنزال كسائر المحظورات، فيها الفدية على التخيير.

(الوطء في الفرج وهو أعظمها).

هذا هو المحظور التاسع: وهو الجماع في الفرج، وهو أعظم المحظورات وأشدها خطراً.

قال ابن رشد: أجمع المسلمون على أن وطء النساء على الحاج حرام من حين يحرم.

وقال النووي: أجمعت الأمة على تحريم الجماع في الإحرام.

قال تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق).

فسر ابن عباس الرفث بالجماع.

قال ابن كثير: وقوله (فلا رفث) أي من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث، وهو الجماع.

‌فائدة: 1

يحصل الجماع بإيلاج الحشفة في قُبُل أو دُبر.

(فإنْ كان قبلَ التحلل الأول فسد الحج).

فإن كان الجماع قد وقع قبل التحلل الأول (كأن يجامع في عرفة مثلاً - أو ليلة مزدلفة). فإنه يترتب عليه أولاً: فساد الحج.

لقضاء الصحابة بذلك.

ص: 629

(ووجبَ المضيٌّ في فاسدهِ).

هذا الأمر الثاني مما يترتب على الجماع قبل التحلل الأول: وجوب المضي في فاسده.

فعليه إتمامه وليس له الخروج منه.

أ- لقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله).

فالله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة، وأطلق، ولم يُفرِّق بين صحيحها وفاسدها.

ب- أفتى بذلك جمع من الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف.

(والحَجّ من قابلٍ).

هذا الأمر الثالث مما يترتب على الجماع قبل التحلل الأول: وجوب الحج من قابل.

أي: يجب القضاء على الفور، سواء كان الحج نفلاً أو فرضاً.

وهذا مروي عن جماعة من الصحابة.

قال ابن المنذر: أجمعوا على أن من جامع عامدًا في حجه قبل وقوفه بعرفة أن عليه حج قابل.

وقال النووي: يجب على مفسد الحج أو العمرة القضاء بلا خلاف سواء كان الحج أو العمرة فرضاً أو نفلاً.

(وعليهِ بدنةٌ).

هذا الأمر الرابع مما يترتب على الجماع قبل التحلل الأول: عليه فدية بدنة.

وهذه البدنة تذبح في القضاء ويوزعها على المساكين في مكة أو في مكان الجماع.

قال ابن قدامة: يجب على المجامع بدنة، روي ذلك عن ابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، ومالك، والشافعي، وأبي ثور.

ص: 630

وقال النووي: مذهبنا أنه يلزم من أفسد حجه بدنة، وبه قال ابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، ومالك، والثوري، وأبو ثور وإسحق.

وقال الشنقيطي: وهو قول جماعات من الصحابة وغيرهم منهم ابن عباس، وطاوس، ومجاهد، والثوري، وأبو ثور، وإسحاق، وغيرهم.

(وإن كان بعد التحلل الأول: ففيه شاة).

أي: وإن وقع الجماع بعد التحلل الأول (كأن يجامع بعد الحلق والرمي) فعليه شاة.

(ويُحرِمُ من التنعيمِ ليطوفَ محرِماً).

أي: يفسد الإحرام فقط.

فيجب عليه أن يخرج إلى الحل ليحرم منه (يعني يخلع ثيابه (ثياب الحل) ويلبس إزاراً ورداءاً ليطوف طواف الإفاضة محرماً، لماذا؟ لأنه فسد ما تبقى من إحرامه فوجب عليه أن يجدده.

‌فائدة:

(التحلل الأول يحصل بعد الرمي والحلق ورجحه الشيخ ابن عثيمين، وقيل: يحصل التحلل الأول بالرمي وحده).

(وإنْ وَطئَ بالعمرةِ أفسدها وعليه شاةٌ).

أي: وإن جامع في أثناء العمرة أفسدها وعليه قضاؤها، ويلزمه شاة.

(وإحرامُ المرأةِ كالرجلِ إلا في اللباس).

أي: أنه يحرم عليها ما يحرم على الرجال، إلا في اللباس، فليست كالرجل، لأن الرجل لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا العمائم، ولا الخفاف، والمرأة تلبس ذلك.

ص: 631

فمحظور (لبس المخيط) خاص بالرجل، كما تقدم.

(وتجتنب النقاب والقفازين).

أي: يحرم على المحرِمة أن تنتقب أو تلبس القفازين لليدين.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعَمَائِمَ وَلا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ. وَلا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ) رواه البخاري.

• ولها أن تلبس جوارب الرجلين.

‌فائدة:

ذهب كثير من العلماء إلى أن إحرام المرأة في وجهها، وأنه ليس لها أن تغطيه حال الإحرام، ولكنهم يرون أن لها أن تسدل عليه ما يستره أمام الأجانب، وبعضهم شرط أن لا يمس الوجه وبعضهم لم يشرطه.

وابن القيم له كلام متين عظيم في هذه المسألة يقول:

وَأَمَّا نَهْيه فِي حَدِيث اِبْن عُمَر الْمَرْأَة أَنْ تَنْتَقِب. وَأَنْ تَلْبَس الْقُفَّازَيْنِ، فَهُوَ دَلِيل عَلَى أَنَّ وَجْه الْمَرْأَة كَبَدَنِ الرَّجُل، لَا كَرَأْسِهِ، فَيَحْرُم عَلَيْهَا فِيهِ مَا وُضِعَ وَفُصِّلَ عَلَى قَدْر الْوَجْه كَالنِّقَابِ وَالْبُرْقُع، وَلَا يَحْرُم عَلَيْهَا سَتْره بِالْمِقْنَعَةِ وَالْجِلْبَاب وَنَحْوهمَا وَهَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَوَّى بَيْن وَجْههَا وَيَدَيْهَا، وَمَنَعَهَا مِنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَاب، وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَا يَحْرُم عَلَيْهَا سَتْر يَدَيْهَا، وَأَنَّهُمَا كَبَدَنِ الْمُحْرِم يَحْرُم سَتْرهمَا

بِالْمُفَصَّلِ عَلَى قَدْرهمَا وَهُمَا الْقُفَّازَانِ، فَهَكَذَا الْوَجْه إِنَّمَا يَحْرُم سَتْره بِالنِّقَابِ وَنَحْوه، وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَرْف وَاحِد فِي وُجُوب كَشْف الْمَرْأَة وَجْههَا عِنْد الْإِحْرَام، إِلَّا النَّهْي عَنْ النِّقَاب، وَهُوَ كَالنَّهْيِ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ فَنِسْبَة النِّقَاب إِلَى الْوَجْه كَنِسْبَةِ الْقُفَّازَيْنِ إِلَى الْيَد سَوَاء. وَهَذَا وَاضِح بِحَمْدِ اللَّه. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَسْمَاء أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّي وَجْههَا وَهِيَ مُحْرِمَة، وَقَالَتْ عَائِشَة (كَانَتْ الرُّكْبَان يَمُرُّونَ بِنَا، وَنَحْنُ مُحْرِمَات مَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابهَا عَلَى وَجْههَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَا) ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَاشْتِرَاط الْمُجَافَاة عَنْ الْوَجْه كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْره ضَعِيف لَا أَصْل لَهُ دَلِيلًا وَلَا مَذْهَبًا.

ص: 632

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي المرأة [المحرمة] عن تغطية وجهها، وإنما ورد النهي عن النقاب، والنقاب أخص من تغطية الوجه، لكون النقاب لباس الوجه، فكأن المرأة نهيت عن لباس الوجه، كما نهي الرجل عن لباس الجسم. (الشرح الممتع).

وبهذا يظهر أن القول بأن المرأة المحرمة أُمرت بكشف وجهها، غير صحيح.

(فمن فعلَ محظوراً جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء عليه).

فاعل المحظور له ثلاث أحوال:

أولاً: أن يفعل المحظور عالماً متعمداً ذاكراً غير معذور.

فهذا آثم، وعليه الفدية.

فلو لبس طاقية متعمداً عالماً من غير حاجة، فهذا آثم لارتكابه المحظور، وعليه الفدية.

ثانياً: أن يفعله عالماً مختاراً ذاكراً معذوراً.

فهذا عليه الفدية ولا إثم عليه.

فلو احتاج الإنسان إلى تغطية رأسه من أجل برد أو حر يخاف منه، جاز له تغطيته وعليه الفدية.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ (جَلَسْتُ إلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. فَسَأَلَتْهُ عَنِ الْفِدْيَةِ؟ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً. وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً. حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي. فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَتَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لا. فَقَالَ: صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ).

ثالثاً: أن يفعله معذور بجهل أو نسيان.

فهذا لا شيء عليه لأنه جاهل أو ناسي.

قال تعالى (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).

وقال تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).

وفي الحديث (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

ص: 633

(ومتى زالَ عُذرُه أزالَه في الحالِ وإلا فدَى).

أي: يجب على من فعل محظوراً لعذر من الأعذار، أن يزيل هذا المحظور فور زوال العذر، فإن لم يفعل واستمر مع زوال العذر فعليه الفدية.

لاستدامة المحظور من غير عذر.

‌فائدة: 1

تكرار المحظور:

أ- إذا كرر محظوراً من جنسٍ واحد، كلبس قميص، ولبس سراويل، ولم يفد فإنه يفدي مرةً واحدة.

وهو مذهب الحنابلة، وبه قال محمد بن الحسن الشيباني، واختاره ابن باز.

لقوله تعالى (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

وجه الدلالة: أن الله تعالى أوجب لحلق الرأس فديةً واحدة، ولم يفرق بين ما وقع في دفعةٍ أو دفعات، ثم إن الحلق لا يكون إلا شيئاً بعد شيء، فهو ارتكاب محظوراتٍ متتاليةٍ من جنسٍ واحد، ومع ذلك لم يوجب فيه إلا فدية واحدة.

قال ابن عثيمين: إذا كرر الإنسان المحظور من جنسٍ واحد، ففعله أكثر من مرة ولم يفد، فإنه يفدي مرةً واحدة، لكن بشرط ألا يؤخر الفدية؛ لئلا تتكرر عليه، بحيث يفعل المحظور مرةً أخرى، فيعاقب بنقيض قصده، لئلا يتحيل على إسقاط الواجب، مثاله: أن يقلم مرتين، أو يلبس مخيطاً مرتين، أو يحلق مرتين، أو يباشر مرتين أو أكثر، وهو من جنسٍ واحد، فإن عليه فدية واحدة إذا لم يفد؛ قياساً على ما إذا تعددت أحداثٌ من جنسٍ واحد فيكفيه وضوءٌ واحد.

ب- إن كفّر عن الأول ثم ارتكب المحظور أنه يلزمه فديةٌ أخرى:

لأنه بالمحظور الثاني صادف إحراماً؛ فوجبت فيه الفدية، كما وجبت على المحظور الأول، وقياساً على الحدود والأيمان.

ولأنه لما كفر للأول فقد التحق المحظور الأول بالعدم؛ فيعتبر الثاني محظوراً آخر مبتدأ، كما إذا جامع في يومين من شهر رمضان.

‌فائدة: 2

إذا كان المحظور صيداً، فإن الفدية تتعدد بتعدد الصيد.

لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ).

وجه الدلالة: أن الآية تدل على أن من قتل صيداً لزمه مثله، ومن قتل أكثر لزمه مثل ذلك.

ص: 634

‌بَابُ الفِدِيَةِ

الفدية ما يعطى لفداء شيء، وهي ما افتدى الإنسان نفسه بفعل محظور أو ترك واجب.

وسميت فدية؛ لقوله تعالى (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

(وَأَمَّا فِدْيَةُ اَلْأَذَى: إِذَا غَطَّى رَأْسَهُ، أَوْ لَبِسَ اَلْمَخِيطَ، أَوْ غَطَّتْ اَلْمَرْأَةُ وَجْهَهَا، أَوْ لَبِسَتِ اَلْقُفَّازَيْنِ، أَوْ اِسْتَعْمَلَا اَلطِّيبَ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ ذَبْحِ شَاة).

‌فدية محظورات الإحرام تنقسم إلى أقسام:

القسم الأول: ما لا فدية فيه [وهو عقد النكاح].

القسم الثاني: ما فديته فدية أذى وهي صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة.

وهي: تغطية الرأس، أو حلق الرأس، أو لبس المخيط، أو تغطية المرأة وجهها أو لبست قفازين، أو استعمال الطيب، والمباشرة.

قال تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

وقد جاءت السنة بتوضيح هذه الآية:

(فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) وضحته السنة أنه ثلاثة أيام.

(أَوْ صَدَقَةٍ) وضحته السنة أنه إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.

(أَوْ نُسُكٍ) وضحته السنة أن النسك شاة.

عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ له (لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ قَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم احْلِقْ رَأْسَكَ: وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ) متفق عليه.

‌فائدة: 1

يشترط أن توزَّع الصدقة على مساكين الحرم، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره الشنقيطي.

قال الشنقيطي: التحقيق أن الهدي والإطعام يختص بهما فقراءُ الحرم المكي.

وقال ابن باز: يوزَّع الهدي على الفقراء والمساكين المقيمين في الحرم من أهل مكة وغيرهم.

ص: 635

‌فائدة: 2

يجوز الصيام في أي موضعٍ مفرَّقاً أو متتابعاً.

قال الشنقيطي: ولا خلاف بين أهل العلم أن صيام الفدية له أن يصومه حيث شاء.

(وَبِجَزَاءِ صَيْدٍ بَيْنَ مِثْلٍ إِنْ كَانَ، أَوْ تَقْوِيْمِهِ بِدَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامَاً، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِيْنٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْماً - وَبِمَا لَا مِثْلَ لَهُ بَيْنَ إِطْعَامٍ وَصِيْامٍ).

أي: ويخير بجزاء صيد بين مِثْلٍ إن كان، أي: مثلٍ للصيد إن كان له مثل، وإن لم يكن له مثل فله حكم آخر.

‌فالصيد الذي قتله المحرِم نوعان:

‌النوع الأول: أن يكون له مِثل من النعم.

فهذا يخيّر بين ثلاثة أمور:

أن يخرج مثله إن كان له مِثل - أو يقوّم عليه الصيد ويشتري بقيمته طعاماً - أو يصوم عدد المساكين أياماً.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ).

مثال: المحرم إذا قتل حمامة فإن مثلها شاة، فنقول المحرم مخير:

إما أن يذبح شاة ويتصدق بها على فقراء الحرم لقوله تعالى (هدياً بالغ الكعبة).

أو يقوّم الشاة بدراهم [يقومها في محل الإتلاف مثلاً الشاة قيمتها 300] ويشتري بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مداً من البر، وإذا كان الطعام من غير البر يعطي الفقير مدين [يعني نصف صاع].

أو يصوم عن كل مسكين يوماً. ال 300 يطعم بها 100 مسكين، يصوم 100 يوم.

ومثل ذلك النعامة قضى بها الصحابة بعير.

ص: 636

‌النوع الثاني: أن لا يكون له مثل من بهيمة الأنعام.

فهذا يخيّر بين أمرين:

تقويمه بطعام لكل مسكين مد من الطعام.

أو يصوم عن كل طعام مسكين يوماً.

مثاله: الجراد صيد لا مثل له، فإذا قتل المحرِم جراداً فعليه: إما قيمته يشتري بها طعاماً يطعم كل مسكين مداً، وإما أن يصوم عن كل مد يوماً.

‌فائدة: 1

يشترط أن المثل للصيد يذبح بالحرم ويوزع على فقراء الحرم. وأما الصيام ففي أي مكان.

‌فائدة: 2

في الحمامة: شاة - وفي حمار الوحش بقرة - والضبع فيه شاة - والغزال عنز - والوبر والضب جدي - والأرنب عناق - النعامة: بدنة.

‌فصل

(وَيَجبُ على المُتمتّعِ والقَارنِ دمٌ، إنْ لم يَكُونَا من حَاضِرِي مَكَّةَ، فَمن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثةِ أيامٍ فِي الحَجِّ، وسَبعةٍ إذَا رَجَعَ).

أي: يجب على من حج متمتعاً أو قارناً دم، بشرط: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام.

قال تعالى (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

وقد تقدمت المسألة قريباً.

ومحل ذبح هذا الهدي هو الحرم المكي.

قال ابن العربي: ولا خلاف في أن الهدي لا بد له من الحرم.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) اتفق الفقهاء على أن دماء الهدي - عدا الإحصار - يختص جواز إراقتها بالحرم، ولا يجوز ذبح شيء منها خارجه؛ لقوله تعالى في جزاء الصيد:(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)، وقوله تعالى:(ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، ولقوله صلى الله عليه وسلم (نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم)، وقوله صلى الله عليه وسلم (كل فجاج مكة طريق ومنحر). انتهى.

ص: 637

والواجب في لحمه: أن يوزع منه على فقراء الحرم ومساكينه، ويجوز نقل شيء منه لخارج الحرم للأكل والإهداء.

فعن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال: " كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:(كُلُوا وَتَزَوَّدُوا) فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا) متفق عليه.

قال الشيخ ابن عثيمين: هدي المتعة والقران هدي شكران، فلا يجب أن يصرف لمساكين الحرم، بل حكمه حكم الأضحية، أي: أنه يأكل منه، ويهدي، ويتصدق على مساكين الحرم.

فلو ذبح الإنسان هدي التمتع والقران في مكة، ثم خرج بلحمه إلى الشرائع، أو إلى جدة أو غيرها، فلا بأس، لكن يجب أن يتصدق منه على مساكين الحرم.

(ويَلزمُ المُحصَر دم).

الإحصار في اللغة: المنع.

وفي الشرع: هو منع المحرمين من المضي للحج أو العمرة أو كليهما من جميع الطرق.

• وقد أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره العدو من المشركين وغيرهم فمنعوه الحج ولم يجد طريقاً آمناً يوصله إليه جاز له التحلل من إحرامه.

وإلى هذا ذهب الإمام مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد رحمهم الله جميعاً.

وقد روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأنس.

وذلك لأن الله تعالى قد نص على جواز التحلل عند الحصر بقوله (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم أحصروا بالحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا.

ص: 638

وسواء كان الإحرام بالعمرة فقط أو بالحج أو بهما معاً لا خلاف فيه بين علماء الأمصار سوى ما نسب إلى ابن سيرين أنه قال: لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة ولا يخشى فواتها.

• الواجب على المحصر: دم.

لقوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

قال الشنقيطي: هذه الآية نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء.

وجمهور العلماء على أن المراد به شاة فما فوقها، وهو مذهب الأئمة الأربعة.

‌فائدة: 1

ما الحكم إذا لم يكن مع المحصر هدي؟

إذا كان مع المحصر هدي لزمه نحره إجماعاً، واختلف العلماء إذا لم يكن مع المحصر هدي، هل يلزمه شراؤه أو لا على قولين؟

القول الأول: وجوب الهدي عليه، وأنه يلزمه شراؤه.

وهذا قول الجمهور.

القول الثاني: أنه لا هدي على المحصر إن لم يكن ساقه معه قبل الإحصار.

وهذا قول مالك واختيار ابن القيم.

لأن الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ألفاً وأربعمائة، ولم يكن معهم كلهم هدي، بل كان هديهم سبعين بدنة، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالهدي، وإنما أمرهم بالتحلل مطلقاً.

وهذا أرجح.

ص: 639

‌فائدة: 2

ومما يجب على المحصر: الحلق.

وهذا مذهب مالك وأصحابه.

لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه حلق لما صده المشركون عام الحديبية وهو محرم وأمر أصحابه أن يحلقوا.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا حلق عليه ولا تقصير، لأنه لم تذكر الآية.

والأول أصح.

‌فائدة: 3

اختلف العلماء هل يجب عليه القضاء أم لا (إذا كان حجه تطوعاً)؟

القول الأول: يجب عليه القضاء.

لحديث (من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل).

القول الثاني: لا يلزمه القضاء إلا إذا كان الحج الذي أحصر فيه فريضة الإسلام، أو واجباً بنذر، فإنه يلزمه القضاء السابق.

أ-أن القرآن لم يذكر.

ب-أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبينه.

ج-أن هذا النسك ليس واجب ابتداء، وإنما الواجب إتمامه، وإتمامه معذور بالعجز عنه.

د-وأيضاً الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء أقل من الذين كانوا معه في عمرة الحديبية، فهو لم يأمرهم بالقضاء.

وهذا أرجح.

ص: 640

‌فائدة: 4

ذهب بعض العلماء: إلى أن المحصر إذا لم يجد الهدي يصوم عشرة أيام بنية التحلل.

قال بذلك بعض العلماء: قياساً على من عجز عما استيسر من الهدي في التمتع.

والصحيح أنه لا يجب.

وهو مذهب مالك.

فإنه لم يكن مع كل المحصرين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هدي، ولم يأمرهم ولم يوجبه عليهم، وبذلك أمرهم بالتحلل مطلقاً.

(وكُلُّ هَدْيٍ أو إطعامٍ لمسَاكينِ الحَرَمِ، إلاَّ فِدْيَةُ الأَذى والإِحْصَارِ فَحيثُ وُجِدَا).

هذا مكان الهدي:

أي: كل هديٍ أو إطعام، مثل جزاء الصيد، وهدي التطوع، وهدي المتمتع والقران، فإنه يصرف لمساكين الحرم.

قال تعالى (هدياً بالغ الكعبة).

وقال تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق).

والمراد بمساكين الحرم: المقيم في الحرم والمجتاز من حاج وغيره ممن له أخذ الزكاة لحاجته كالفقراء والمساكين.

فالهدي الذي لترك واجب، يجب أن يتصدق بجميعه على مساكين الحرم.

(إلاَّ فِدْيَةُ الأَذى والإِحْصَارِ فَحيثُ وُجِدَا).

أي: إلا فدية الأذى، وهي فدية حلق الرأس، وكذا هدي الإحصار فحيث وجدا، أي: حيث وجد السبب في حلٍ أو حرم.

فيذبح الهدي حيث وجد سبب الحلق أو سبب الإحصار.

لقوله تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي).

ولأنه صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه بالحديبية، وهي من الحل.

ولو ذبحه في الحرم أجزأ.

‌ودليل جوازه في محل المحظور:

أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة رضي الله عنه أن يفدي بشاة في محل فعل المحظور.

ولأن هذا الدم وجب لانتهاك النسك في مكان معين، فجاز أن يكون فداؤه في ذلك المكان، وما جاز أن يذبح ويفرق خارج الحرم حيث وجد السبب، فإنه يجوز أن يذبح ويفرق في الحرم، ولا عكس.

(الشرح الممتع).

ص: 641

‌باب دخول مكة

(يُسَنُّ مِنْ أعْلَاهَا)

أي: أن السنة للحاج في دخول مكة أن يدخلها من أعلاها.

لحديث عَائِشَة رضي الله عنها: (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

قال النووي: وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ دُخُول مَكَّة مِنْ الثَّنِيَّة الْعُلْيَا، وَالْخُرُوج مِنْهَا مِنْ السُّفْلَى لِهَذَا الْحَدِيث، وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ تَكُون هَذِهِ الثَّنِيَّة عَلَى طَرِيقه كَالْمَدَنِيِّ وَالشَّامِيّ أَوْ لَا تَكُون كَالْيَمَنِيِّ، فَيُسْتَحَبّ لِلْيَمَنِيِّ وَغَيْره أَنْ يَسْتَدِير وَيَدْخُل مَكَّة مِنْ الثَّنِيَّة الْعُلْيَا، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: إِنَّمَا فَعَلَهَا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى طَرِيقه، وَلَا يُسْتَحَبّ لِمَنْ لَيْسَتْ عَلَى طَرِيقه كَالْيَمَنِيِّ، وَهَذَا ضَعِيف وَالصَّوَاب الْأَوَّل.

وذهب بعض العلماء: إلى أن هذا لا يسن.

لأن هذا الفعل لم يقع قصطاً، وإنما وقع من غير قصد.

والصحيح الأول لمن قدر وسهل عليه، لأن الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التأسي.

‌فائدة:

الحكمة في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه ودخوله:

قال في فتح الباري: اختلف في المعنى الذي من أجله خالف النبي صلى الله عليه وسلم بين الطريقين:

فقيل: ليتبرك به كل من في طريقه.

ص: 642

وقيل: لمناسبة العلو عند الدخول، لما فيه من تعظيم المكان.

وقيل: لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلاً للبيت.

وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم خرج منها مختفياً في الهجرة، فأراد أن يدخلها ظافراً غالباً.

(فَإِذَا رَأى البَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ مَا وَرَدَ).

أي: يسن إذا رأى البيت أن يرفع يديه ويقول: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً، أو: اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام.

لورود ذلك في بعض الآثار.

منها: ما رواه ابن جريج (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمر تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً، وبراً) أخرجه الشافعي في «المسند» ، والبيهقي، وقال: هذا منقطع.

وذهب بعض العلماء: إلى عدم سنية ذلك.

لأن هذه الآثار كلها لا تصح، فلا يعتمد عليها في إثبات حكم شرعي (فلا يصح ذكر ولا دعاء عند رؤية البيت) وجابر الذي نقل حجة

النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر شيء من هذه الأذكار.

• وإنما يسن دخول البيت كبقية المساجد: بالرجل اليمنى قائلاً الدعاء الوارد عند دخول المسجد.

عَنْ أَبِى حُمَيْدٍ - أَوْ عَنْ أَبِى أُسَيْدٍ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِك) رواه مسلم.

ص: 643

وعند أبي داود (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ) رواه أبو داود.

وعنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) رواه مسلم.

(ثُمَّ يَطُوفُ مُضْطَبعاً).

أي: يبدأ الطواف وقد اضطبع.

والاضطباع: أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على منكبه الأيسر، ويكون منكبه الأيمن مكشوف.

‌فائدة: 1

حكمه: سنة.

وهذا قول جماهير العلماء.

أ-لحديث يَعْلَى بْن أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: (طَافَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ) رَواه أبو داود.

ب- وعن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى) رواه أبو داود.

جاء في (الموسوعة الفقهية) الاضطباع في طواف القدوم مستحبٌّ عند جمهور الفقهاء.

لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً وعليه بردٌ» وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه: «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثمّ قذفوها على عواتقهم اليسرى» فإذا فرغ من الطّواف سوّاه فجعله على عاتقيه.

ص: 644

‌فائدة: 2

الحكمة منه:

أنه يعين على إسراع المشي.

‌فائدة: 3

يكون الاضطباع في طواف القدوم في الأشواط السبعة كلها.

‌فائدة: 4

لا يشرع الاضطباع في غير الطواف،

وما يفعله كثير من الحجيج حيث يضطبعون من الإحرام إلى أن يحلوا، خطأ وخلاف السنة.

ولهذا قال العلماء: يستحب له أن يزيل الاضطباع مباشرة قبل ركعتي الطواف.

وذكر ابن قدامة في (المغني) استحباب الرمل والاضطباع في طواف العمرة وفي طواف القدوم ثم قال:

وَلا يُسَنُّ الرَّمَلُ وَالاضْطِبَاعُ فِي طَوَافٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ; لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ إنَّمَا رَمَلُوا وَاضْطَبَعُوا فِي ذَلِكَ.

‌فائدة: 5

من ترك الاضطباع في كل الأشواط أو في بعضها فطوافه صحيح ولا شيء عليه،

لأن الاضطباع سنة مستحبة وليس بواجب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. اهـ.

وهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم، وذهب البعض إلى أن من ترك الاضطباع قضاه في طواف الإفاضة.

ص: 645

(يَبْتَدِئُ المُعْتَمِرُ بِطَوافِ الْعمْرةِ، وَالقَارِنُ والمُفْرِدُ لِلْقُدُومِ).

لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم بدأ بالطواف.

عن عائشة. (أن النبي صلى الله عليه وسلم أَوَّل شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ) متفق عليه.

(يَبْتَدِئُ المُعْتَمِرُ بِطَوافِ الْعمْرةِ) وهذا يشمل المعتمر عمرة تمتع، والمعتمر عمرة مفردة.

(وَالقَارِنُ والمُفْرِدُ لِلْقُدُومِ) أي: بطواف القدوم، وهو ليس بواجب.

جاء في (الموسوعة الفقهية) طواف القدوم: ويسمى طواف القادم، وطواف الورود، وطواف التحية؛ لأنه شرع للقادم والوارد من غير مكة، لتحية البيت، ويسمى أيضا طواف اللقاء، وأول عهد بالبيت.

وطواف القدوم سنة للآفاقي القادم إلى مكة، عند الحنفية والشافعية والحنابلة، تحية للبيت العتيق، لذلك يستحب البدء به دون تأخير.

‌فائدة: 1

أن من دخل المسجد الحرام للطواف فإنه يبتدئ به، ولا يصلي تحية المسجد.

فمن دخل الحرم محرماً، فإنه لا يشرع له أن يصلي ركعتين، بل يبدأ مباشرة بالطواف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إن دخل الحرم لغير الطواف، لصلاة أو حضور درس أو غيره، فإنه يشرع له أن يصلي ركعتين كغيره من المساجد، وأما حديث (تحية البيت الطواف) فلا يصح.

قال الألباني: تحية المسجد الحرام هي ركعتان كغيره من المساجد لعموم الأدلة الآمرة بالتحية دون تخصيص مسجد عن آخر، فمن دخل المسجد الحرام وأراد القعود لانتظار الصلاة أو لحضور درس أو لقراءة القرآن فإنه يصلي ركعتي المسجد، أما من دخل المسجد الحرام يريد الطواف فإنه يطوف ويجزئ الطواف عن التحية لتضمنه الركعتين، وأما القول بأن تحية المسجد الحرام الطواف لكل داخل ففيه نظر:

أولاً: لضعف الحديث الوارد وهو (من أتى البيت فليحييه بالطواف) ضعفه ابن حجر.

ص: 646

ثانياً: لما فيه من حرج عظيم على المسلمين لاسيما إذا تكرر دخول المسجد وخصوصًا أيام المواسم كرمضان والحج.

وقال الشيخ ابن عثيمين: اشتهر عند كثير من الناس أن تحية المسجد الحرام الطواف، وليس كذلك، ولكن تحية الطواف لمن أراد أن يطوف، فإذا دخلت المسجد الحرام تريد الطواف فإن طوافك يغني عن تحية المسجد، لكن إذا دخلت المسجد الحرام بنية انتظار الصلاة، أو حضور مجلس العلم، أو ما أشبه ذلك فإن تحيته أن تصلي ركعتين كغيره من المساجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) وهذا يشمل المسجد الحرام، وأما إذا دخلت للطواف فإن الطواف يغني عن التحية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد الحرام للطواف فلم يصل التحية.

‌فائدة: 2

القارن هو من أحرم بالعمرة والحج جميعاً، والقارن ليس عليه إلا سعي واحد فقط، وهذا السعي يكفيه للحج والعمرة. والأفضل أن يسعى بعد طواف القدوم كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وله تأخيره حتى يكون مع طواف الإفاضة.

وقد دل على أن القارن ليس عليه إلا سعي واحد عدة أدلة، منها:

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، ولم يسع بين الصفا والمروة إلى سعياً واحداً فقط بعد طواف القدوم.

عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال: لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلا طَوَافًا وَاحِدًا، طَوَافَهُ الأَوَّلَ.

قال النووي: قوله (لَمْ يَطُفْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَلا أَصْحَابه) يَعْنِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابه قَارِنًا، فَهَؤُلاءِ لَمْ يَسْعَوْا بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلا مَرَّة وَاحِدَة، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ سَعَى سَعْيَيْنِ، سَعْيًا لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ سَعْيًا آخَر لِحَجِّهِ يَوْم النَّحْر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلالَة ظَاهِرَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ الْقَارِن لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا طَوَاف وَاحِد لِلإِفَاضَةِ وَسَعْي وَاحِد اهـ.

ص: 647

وقال الشيخ ابن عثيمين: إذا حج الإنسان قارناً فإنه يجزئه طواف الحج، وسعي الحجّ عن العمرة والحج جميعاً، ويكون طواف القدوم طواف سنّة وإن شاء قدم السعي بعد طواف القدوم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن شاء أخره إلى يوم العيد، بعد طواف الإفاضة، ولكن تقديمه أفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يوم العيد فإنه يطوف طواف الإفاضة فقط، ولا يسعى لأنه سعى من قبل.

(ويبدأُ بالحَجَرِ الأسودِ فيستلِمُه ويقبّلُه، فإنْ شَقَّ قبّل يدَه، فإن شقَّ اللمسُ أشارَ إليه).

(فيستلمه) الاستلام هو اللمس باليد.

أي: يسن للمحرِم أن يبدأ الطواف من الحجر الأسود، فيستلمه ويقبله.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ -في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال (

حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا اَلْبَيْتَ اِسْتَلَمَ اَلرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا

). رواه مسلم

والمراد بالركن: أي الحجر الأسود، وسمي ركناً لأنه في ركن الكعبة.

فنستفيد: أنه يسن للمحرم أن يبدأ طوافه بالحجر الأسود فيقصده ويبدأ الشوط منه.

ص: 648

• قوله (فيستلِمُه ويقبّلُه .... ) أحوال استلام الحجر الأسود.

أ- أن يستلم الحجر ويقبله، وهذا أعلاها [والمسح يكون باليد اليمنى لأن اليد اليمنى تقدم للتعظيم].

عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَبَّلَ اَلْحَجَرَ اَلْأَسْوَدَ: فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [هذا من فقه عمر: أن تقبيل الحجر اتباعاً لله ولرسوله].

ب- إن لم يتمكن، استلمه بيده وقبل يده.

عَنْ نَافِعٍ قَالَ (رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ) متفق عليه.

قال ابن حجر: ويستفاد منه استحباب الجمع بين التّسليم والتّقبيل بخلاف الرّكن اليمانيّ فيستلمه فقط، والاستلام المسح باليد والتّقبيل بالفم.

ج-أن يستلمه بشيء في يده، ويقبل ذلك الشيء.

عَنْ أَبِي اَلطُّفَيْلِ رضي الله عنه قَالَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ اَلرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقْبِّلُ اَلْمِحْجَنَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

[المحجن] هو عصا محنية الرأس.

د- إن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك.

ص: 649

‌فائدة: 1

استلام الحجر الأسود وتقبيله تعظيماً لله تعالى واتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم لا لكونه حجراً أو محبة له.

‌فائدة: 2

ورد في استلام الحجر فضل عظيم.

قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مَسْحَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ يَحُطَّانِ الْخَطَايَا حَطًّاً) رواه أحمد عن ابن عمر.

وقال صلى الله عليه وسلم (والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق) رواه الترمذي عن ابن عباس.

‌فائدة: 3

هل يشرع تقبيل الحجر الأسود واستلامه في غير نسك من حج أو عمرة؟ الجمهور على المنع.

وصح عند ابن أبي شيبة (أن ابن عمر كان إذا كان في المسجد الحرام، فأراد أن يخرج قصد الحجر فقبّله).

‌فائدة: 4

قال ابن حجر: وفي قول عمر هذا التّسليم للشّارع في أمور الدّين وحسن الاتّباع فيما لَم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتّباع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لَم يعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهّال من أنّ في الحجر الأسود خاصّة ترجع إلى ذاته.

وفيه بيان السّنن بالقول والفعل، وأنّ الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاده أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضّح ذلك. (الفتح).

‌فائدة: 5

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم، وحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت

المقدس، فالطواف بها واستلامها وتقبيلها من أعظم البدع المحرمة باتفاق الأئمة الأربعة.

ص: 650

‌فائدة: 6

يشرع استلام الركن اليماني.

لحديث ابنِ عُمَر قَالَ (لَمْ أَرَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ اَلْبَيْتِ غَيْرَ اَلرُّكْنَيْنِ اَلْيَمَانِيَيْن) رواه مسلم.

قال النووي: أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفقت الجماهير على أنه لا يمسح الركنين الآخرين.

قال شيخ الإسلام: لا يستلم إلا الركنيين اليمانيين دون الشاميين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استلم اليمانيين خاصة لأنها على قواعد إبراهيم.

‌فائدة: 7

عند استلام الركن اليماني لا يقل شيئاً لا تكبير ولا غيره، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

‌فائدة: 8

إن لم يتمكن من استلام الركن اليماني، لم تشرع الإشارة إليه بيده.

قال في المغني: الركن اليماني قبلة أهل اليمن، ويلي الركن الذي فيه الحجر الأسود، وهو آخر ما يمر عليه من الأركان في طوافه، وذلك أنه يبدأ بالركن الذي فيه الحجر الأسود وهو قبلة أهل خراسان، فيستلمه ويقبله، ثم يأخذ على يمين نفسه، ويجعل البيت على يساره، فإذا انتهى إلى الركن الثاني، وهو العراقي، لم يستلمه، وهذان الركنان يليان الحجر، فإذا وصل إلى الرابع وهو الركن اليماني، استلمه.

ثم قال رحمه الله: والصحيح أنه لا يقبله، وهو قول أكثر أهل العلم.

(ويقولُ ما ورد).

أي: يسن أن يقول عند استلام الحجر ما ورد، وهو قول: الله أكبر.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ (طَافَ النَّبِيُّ صلى صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ) رواه البخاري.

ص: 651

‌فائدة: 1

الإشارة تكون باليد اليمنى دون اليدين جميعاً.

‌فائدة: 2

هل يشرع قول بسم الله؟

لم ينقل في ذكر صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول (بسم الله).

لكن ثبت عن ابن عمر أنه كان إذا استلم الحجر قال: باسم الله والله أكبر، أخرجه البيهقي وغيره بإسناد صحيح، كما قال النووي والحافظ.

(ثم يأخذُ على يمينهِ، ويجعلُ البيتَ على يساره).

وهو شرط لصحة الطواف، فإن عكسه بأن جعل الكعبة عن يمينه في الطواف ومر من الحجر الأسود إلى الركن اليماني لم يصح طوافه.

وبهذا قال جمهور العلماء منهم: مالك، والشافعي، وأحمد، وداود، وأبو ثور.

لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه جعل البيت على يساره في الطواف، وقال: لتأخذوا مناسككم.

وذلك تعليم منه صلى الله عليه وسلم مناسك الحج.

ولأن الطواف عبادة متعلقة بالبيت، فكان الترتيب شرطاً لصحتها كالصلاة.

(فيطوفُ سبعاً).

لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

أ- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا مناسككم). رواه مسلم

ب-وعن جابر بن عبدالله -في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال (حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً). رواه مسلم

ص: 652

• قوله (سبعاً) أي: لابد من سبعة أشواط كاملة، من الحجَر إلى الحجَر، فلو ترك شيئاً يسيراً من شوط من السبعة لم يصح طوافه، لأنه لم يأت بالعدد المعتبر.

قال النووي: شرط الطواف أن يكون سبع طوفات، كل مرة من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، ولو بقيت خطوة من السبع لم يحسب طوافه، سواء كان باقياً في مكة أو انصرف عنها وصار في وطنه، ولا ينجبر شيء منه بالدم، ولا بغيره. (المجموع)

جاء في (الموسوعة الفقهية) الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ أَقَل مِنْهَا.

وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

وَقَدْ جَاءَ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنًا الْقَدْرَ الَّذِي يَحْصُل بِهِ امْتِثَال قَوْلِهِ: (وَلْيَطَّوَّفُوا) وَهُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ، فَتَكُونُ هِيَ الْفَرْضَ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالاِجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ، أَيِ التَّعْلِيمِ مِنَ الشَّارِعِ، وَالرَّسُول صلى الله عليه وسلم طَافَ سَبْعًا، وَفِعْلُهُ هَذَا بَيَانٌ لِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، كَمَا قَال: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم.

فَالْفَرْضُ طَوَافُ سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا.

(الموسوعة).

‌فائدة: 1

الطواف داخل الحِجر.

ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يشترط لصحة الطواف أن يكون بجميع البيت (الكعبة)، وأن من طاف من داخل الحِجر لم يعتد بطوافه؛ لأنه لم يطف بالبيت كله كما أمر الله سبحانه بقوله:(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

والطائف من داخل الحِجر، طائف ببعض البيت؛ لأن الحِجر جزء من الكعبة، وعليه فلا يعتد بالشوط الذي وقع فيه الطواف من داخل الحجر.

ص: 653

قال ابن قدامة رحمه الله: مسألة: قال: (ويكون الحجر داخلاً في طوافه; لأن الحجر من البيت) إنما كان كذلك لأن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت جميعه، بقوله (وليطوفوا بالبيت العتيق) والحِجر منه، فمن لم يطف به، لم يعتد بطوافه. وبهذا قال عطاء، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر. وقال أصحاب الرأي: إن كان بمكة، قضى ما بقي، وإن رجع إلى الكوفة، فعليه دم.

‌فائدة: 2

إذا شك في عدد الأشواط فإنه يبني على اليقين.

فلو شك هل طاف خمساً أو ستاً بنى على الأقل "خمساً"، لأن هذا هو المتيقن والزيادة "ستاً" مشكوك فيها.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ) رواه مسلم.

قال ابن قدامة: وإن شك في عدد الطواف، بنى على اليقين. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك. ولأنها عبادة فمتى شك فيها وهو فيها، بنى على اليقين كالصلاة.

‌تنبيه:

جاء في (الموسوعة الفقهية) أَمَّا إِذَا شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّوَافِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

قال الشيخ ابن عثيمين: الشك بعد الفراغ من العبادة لا عبرة به، ومثل ذلك: لو شك في أشواط الطواف هل طاف ستة أو طاف خمسة، نقول: إذا كان في أثناء الطواف فليأت بما شك فيه، وينتهي الموضوع، وإذا كان بعد أن فرغ من الطواف وانصرف، قال: والله ما أدري هل طفت ستة أو سبعة؟ فلا عبرة بهذا الشك، يلغي هذا الشك، ويجعلها سبعة.

وهذه قاعدة مفيدة للإنسان: إذا كثرت الشكوك معه فلا يلتفت إليها، وإذا وقع الشك بعد الفراغ من العبادة فلا يلتفت إليه، إلا أن يتيقن، فإذا تيقن وجب عليه أن يأتي بما نقص" انتهى من فتاوى "نور على الدرب".

ص: 654

(يَرملُ في الثلاثةِ الأُوَل من الحجَر إلى الحجَر، ويمشي في الأربعة الأخرى).

هذا هو الأمر الثاني الذي يسن فعله في طواف القدوم، وهو الرمل، وقد تقدم الأمر الأول وهو الاضطباع.

والرمل: هو إسراع المشي مع تقارب الخطا. (قاله النووي).

فيسن للمحرِم أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأول.

أ- لحديث جابر - في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال (حتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا) رواه مسلم

ب- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا: إلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ) متفق عليه.

ج- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ -أَوَّلَ مَا يَطُوفُ- يَخُبُّ ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ) متفق عليه.

ص: 655

‌فائدة: 1

يكون في طواف القدوم.

وذكر ابن قدامة في (المغني) استحباب الرمل والاضطباع في طواف العمرة وفي طواف القدوم ثم قال: وَلا يُسَنُّ الرَّمَلُ وَالاضْطِبَاعُ فِي طَوَافٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ; لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ إنَّمَا رَمَلُوا وَاضْطَبَعُوا فِي ذَلِك.

‌فائدة: 2

يستحب في الأشواط الثلاثة الأول، والمشي في الأربعة الباقية.

قال في المغني: وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل ثلاثاً ومشى أربعاً.

وقال النووي: لَكِنْ يَفْتَرِقُ الرَّمَلُ وَالاضْطِبَاعُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الاضْطِبَاعَ مَسْنُونٌ فِي جَمِيعِ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ، وَأَمَّا الرَّمَلُ إنَّمَا يُسَنُّ فِي الثَّلَاثِ الأُوَلِ وَيَمْشِي فِي الأَرْبَعِ الأَوَاخِرِ.

‌فائدة: 3

الحكمة منه:

إظهار القوة والجلد للمشركين.

لحديث ابن عباس السابق (

فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ

).

فإن قيل: ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها؟

الجواب: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف.

ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة.

ص: 656

‌فائدة: 4

الرمل يكون من الحَجَر إلى الحَجَر.

لحديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحَجَر إلى الحجر).

وهذا يقدم على حديث ابن عباس:

لأن حديث ابن عباس السابق كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع، وأما حديث ابن عمر:(أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر) كان في حجة الوداع، فيكون هذا ناسخاً للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس، لأنه متأخر عنه.

قال النووي في شرح حديث ابن عمر (رمل من الحجَر إلى الحجر) فِيهِ: بَيَان أَنَّ الرَّمَل يُشْرَع فِي جَمِيع الْمَطَاف مِنْ الْحَجَر إِلَى الْحَجَر، وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عَبَّاس الْمَذْكُور بَعْد هَذَا بِقَلِيلٍ (قَالَ: وَأَمَرَهُمْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَة أَشْوَاط وَيَمْشُوا مَا بَيْن الرُّكْنَيْنِ) فَمَنْسُوخ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّل؛ لِأَنَّ حَدِيث اِبْن عَبَّاس كَانَ فِي عُمْرَة الْقَضَاء سَنَة سَبْع قَبْل فَتْح مَكَّة، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْف فِي أَبْدَانهمْ، وَإِنَّمَا رَمَلُوا إِظْهَارًا لِلْقُوَّةِ وَاحْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ فِي غَيْر مَا بَيْن الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا جُلُوسًا فِي الْحِجْر، وَكَانُوا لَا يَرَوْنَهُمْ بَيْن هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَيَرَوْنَهُمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَلَمَّا حَجَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَجَّة الْوَدَاع سَنَة عَشْر رَمَلَ مِنْ الْحَجَر إِلَى الْحَجَر، فَوَجَبَ الْأَخْذ بِهَذَا الْمُتَأَخِّر.

وقال ابن تيمية بعد ذكر حديث ابن عباس: وكان هذا في عمرة القضية، ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عمرة الجعرانة ومكة دار إسلام، ثم حج حجة الوداع وقد نفى الله الشرك وأهله ورمل من الحَجَر إلى الحجر.

ص: 657

‌فائدة: 5

الذين لا يشرع لهم الرمل:

‌أولاً: أهل مكة.

قال ابن عبد البر: واختلفوا في أهل مكة إذا حَجوا هل عليهم رَمَل أم لا؟ فكان ابن عمر لا يرى عليهم رَملاً إذا طافوا بالبيت.

وقال ابن قدامة: وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَرْمُلْ.

والسبب أنه ليس لهم طواف قُدُوم؛ لأنهم مِن حاضري المسجد الحرام.

‌الثاني: النساء فلا يشرع لهن الرمل.

قال النووي: اتفق العلماء على أن الرَّمَل لا يُشرع للنساء، كما لا يُشرع لهن شِدّة السعي بين الصفا والمروة. ولو ترك الرَّجُل الرَّمَل حيث شُرع له فهو تارك سُنة، ولا شيء عليه.

‌فائدة: 6

إذا لم يرمل في الأشواط الثلاثة الأول فهل يشرع له قضاء في الأربعة الباقية؟

لا يشرع قضاؤه، لأنه سنة فات محلها.

قال النووي: قَالَ أَصْحَابنَا: فَلَوْ أَخَلَّ بِالرَّمَلِ فِي الثَّلَاث الْأُوَل مِنْ السَّبْع لَمْ يَأْتِ بِهِ مِنْ الْأَرْبَع الْأَوَاخِر؛ لِأَنَّ السُّنَّة فِي الْأَرْبَع الْأَخِيرَة الْمَشْي عَلَى الْعَادَة فَلَا يُغَيِّرهُ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنهُ الرَّمَل لِلزَّحْمَةِ أَشَارَ فِي هَيْئَة مَشْيه إِلَى صِفَة الرَّمَل، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنهُ الرَّمَل بِقُرْبِ الْكَعْبَة لِلزَّحْمَةِ وَأَمْكَنَهُ إِذَا تَبَاعَدَ عَنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَبَاعَد وَيَرْمُل؛ لِأَنَّ فَضِيلَة الرَّمَل هَيْئَة لِلْعِبَادَةِ فِي نَفْسهَا، وَالْقُرْب مِنْ الْكَعْبَة هَيْئَة فِي مَوْضِع الْعِبَادَة لَا فِي نَفْسهَا، فَكَانَ تَقْدِيم مَا تَعَلَّقَ بِنَفْسِهَا أَوْلَى.

وقال ابن حجر: لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاثة لم يقضه في الأربعة الباقية.

ص: 658

(يستلمُ الحَجَرَ والركنَ اليماني كلَّ مرةٍ).

أي: كلما حاذى الحجر الأسود فإنه يستلمه ويكبر.

ففي سنن أبي داود (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ وَالْحَجَرَ، فِي كُلِّ طَوْفَةٍ) وحسنها الألباني

قد سئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: ذكرتم أن الطائف يشرع له في طوافه أن يقبل الركن الأسود إن أمكن، وإلا يلمس أو يكبر، وهذا في الشوط الأول، فما حكم بقية الأشواط؟ وما الحكم لو لم يفعل؟

فأجاب: جميع الأشواط حكمها واحد، وإن لم يفعل فليس عليه شيء، لأن التكبير والتقبيل والمسح سنة، والمقصود الطواف.

(ويقولُ بين الركنينِ: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).

أي: مما يشرع فيما بين الركن اليماني والحجر الأسود أن يدعو الحاج أو المعتمر بهذا الدعاء.

عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ رضي الله عنه قَال (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْن: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً

وَقِنَا عَذَابَ النَّار) رواه أبو داود.

فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم أدعية أو أذكار تقال في الطواف:

إلا فيما بين الركن اليماني والحجر الأسود (ربنا آتنا في الدنيا حسنة

).

والتكبير كلما حاذى الحجر الأسود.

أما في باقي الطواف فهو مخير بين الذكر والدعاء وقراءة القرآن.

ص: 659

قال ابن قدامة: ويستحب الدعاء في الطواف، والإكثار من ذكر الله تعالى; لأن ذلك مستحب في جميع الأحوال، ففي حال تلبسه بهذه العبادة أولى، ويستحب أن يَدَعَ الحديثَ [الكلام] إلا ذكرَ الله تعالى، أو قراءةَ القرآن، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو ما لا بد منه " انتهى.

وقال ابن تيمية: وليس فيه - يعني الطواف - ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب، ونحو ذلك فلا أصل له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بين الركنين بقوله:(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، كما كان يختم سائر دعائه بذلك، وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق الأئمة.

وقال الشيخ ابن عثيمين: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر الله تعالى كلما أتى على الحجر الأسود، وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود:(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف دعاء مخصص لكل شوط، وعلى هذا: فيدعو الطائف بما أحب من خيري الدنيا والآخرة ويذكر الله تعالى بأي ذكر مشروع من تسبيح أو تحميد أو تهليل أو تكبير أو قراءة قرآن.

‌مباحث تتعلق بالطواف:

‌مبحث: 1

لو ترك شيئاً ولو يسيراً من الطواف لم يصح.

لأنه يشترط أن يكون مستوعباً لجميع الأشواط. (وقد تقدمت المسألة).

قال النووي: شرط الطواف أن يكون سبع طوفات، كل مرة من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، ولو بقيت خطوة من السبع لم يحسب طوافه، سواء كان باقيا في مكة أو انصرف عنها وصار في وطنه، ولا ينجبر شيء منه بالدم، ولا بغيره.

ص: 660

‌مبحث: 2

لو طاف عريان لم يصح.

اتفق جمهور الفقهاء وهم: المالكية، والشافعية، والحنابلة، على أن ستر العورة شرط في الطواف.

قال النووي: ستر العورة شرط لصحة الطواف عندنا وعند مالك وأحمد والجمهور. (المجموع).

أ-لقوله تعالى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).

ومن الزينة التي أمروا بأخذها عند كل مسجد: لبسهم الثياب عند المسجد الحرام للطواف؛ لأنه هو صورة سبب النزول، فدخولها في حكم الآية قطعي عند الجمهور، فالأمر في الآية: شامل لستر العورة للطواف وهو أمر محتم أوجبه الله مخاطباً به بني آدم، وهو السبب الذي نزل فيه الأمر.

ب-قوله صلى الله عليه وسلم (ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) متفق عليه.

فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن علة المنع اتصاف الطائف بالعري، وهو دليل على اشتراط سترة العورة.

قال الشيخ ابن عثيمين: فإن طاف وهو عريان لم يصح؛ لأنه طواف منهي عنه، وإذا كان منهياً عنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.

‌مبحث: 3

يشترط لصحة الطواف طهارة الحدث.

‌وهذه المسألة اختلف العلماء فيها: هل يشترط الوضوء لصحة الطواف أم لا على قولين:

‌القول الأول: لا بد من الوضوء.

وهذا قول جماهير العلماء.

فمن طاف محدثاً، لم يصح طوافه، ولا يعتد به.

ص: 661

وإلى هذا القول ذهب: مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وجمهور العلماء.

قال النووي: حكاه الماوردي عن جمهور العلماء، حكاه ابن المنذر عن عامة العلماء في طهارة الحدث.

أ- لحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت) متفق عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم).

وجه الاستدلال منه من وجهين:

أولاً: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف بيان لمجمل القرآن، لأن الله عز وجل أمر بالطواف في كتابه العزيز ولم يبين كيفيته، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم إذ توضأ قبل طوافه، والفعل إن جاء بياناً لأمر واجب دل على وجوبه، فدل ذلك على وجوب الطهارة من الحدث قبل الطواف.

ثانياً: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته رضي الله عنهم بأخذ مناسكه، والاقتداء به في ذلك دليل على وجوب جميع ما صدر منه في بيان أفعال المناسك- إلا ما دل الدليل على استثنائه- ومن ذلك الطهارة من الحدث قبل الطواف.

ب-حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه المنطق فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير). (الصحيح أنه موقوف على ابن عباس).

ص: 662

‌وجه الاستدلال منه من وجهين:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الطواف بالصلاة وليس المراد التشبيه في الأفعال والهيئة لتباينهما، وإنما المراد التشبيه بها في الحكم، فدل ذلك على أن للطواف جميع الأحكام المتعلقة بالصلاة- إلا ما استثناه الدليل- ومن ذلك اشتراط الطهارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الله صلاة بغير طهور).

ثانياً: من قوله (إلا أن الله أباح فيه المنطق) فاستثناؤه صلى الله عليه وسلم إباحة المنطق في الطواف، دليل على اشتراط ما عداه كما يشترط في الصلاة، ومن ذلك اشتراط الطهارة من الحدث.

ج- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت وهي محرمة (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) متفق عليه. وفي رواية لمسلم (حتى تغتسلي).

وجه الاستدلال منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعائشة أن تفعل وهي حائض جميع ما يفعله الحاج، ولم يمنعها إلا من الطواف، وجعل ذلك مقيداً باغتسالها وتطهرها، فدل ذلك على ترتب منع الطواف على انتفاء الطهارة، وعلى أن الطهارة شرط لصحة الطواف، وعلى عدم صحته بدونها، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد.

د-قوله صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن صفية حاضت (أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: فلا إذاً) متفق عليه.

وجه الاستدلال: إخباره صلى الله عليه وسلم بانحباسه- وانحباس من كان معه لانحباسه- لحيض صفية، لو لم تكن قد أفاضت، مع ما في ذلك من المشقة العامة، دليل ظاهر- إن لم يكن نصاً صريحاً- على اشتراط الطهارة لصحة الطواف.

‌القول الثاني: الطهارة للطواف من الحدث سنة.

وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية.

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر عام تسع لما أمره على الحج ينادي (ألا يطوف بالبيت عريان).

وجه الاستدلال منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طواف العراة بالبيت، ولم يثبت أنه أمر بالطهارة للطواف، فدل ذلك على أن الطهارة ليست واجبة إذ لو كانت واجبة لأمر بها.

ص: 663

ب-وقالوا: إن الأصل براءة الذمة، وعدم وجوب الطهارة إلا بدليل ولا دليل صريح صحيح على وجوبها.

ج- ولحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت) وهذا فعل والفعل يدل على الاستحباب. (بحث في مجلة البحوث الإسلامية 56).

وأجاب أصحاب هذا القول عن أدلة من قال باشتراط الطهارة للطواف:

أما حديث (الطواف بالبيت صلاة) فقالوا: لا يصح من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول ابن عباس رضي الله عنهما.

قال النووي في المجموع: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ أ. هـ.

وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه طاف متطهراً فقالوا: هذا لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب فقط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولم يَرِد أنه أمر أصحابه بذلك.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة (افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي) فإنما منعها النبي صلى الله عليه وسلم من الطواف لأنها حائض، والحائض ممنوعة من دخول المسجد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلاً؛ فإنه لم يَنقل أحدٌ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف، مع العلم بأنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر عمَراً متعددة والناس يعتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضاً للطواف لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عامّاً، ولو بيَّنه لنَقل ذلك المسلمون عنه ولم يهملوه، ولكن ثبت في الصحيح أنه لما طاف توضأ، وهذا وحده لا يدل على الوجوب؛ فإنه قد كان يتوضأ لكل صلاة، وقد قال: إني كرهتُ أن أذكر الله إلا على طهر. (مجموع الفتاوى 21).

والله أعلم.

ص: 664

‌تنبيه:

الطهارة شرط لصحة الطواف عند جمهور العلماء كما تقدم.

لكنهم اختلفوا فيما إذا أحدث في الطواف ثم توضأ، هل يكمل الأشواط أم يستأنف الطواف؟ على قولين:

فذهب الحنفية والشافعية إلى أنه يبني على طوافه، ولو طال الفصل بينهما.

لأن الموالاة بين الأشواط ليست شرطاً في الطواف.

وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يستأنف الطواف من أوله.

لأن الحدث يبطل الطواف، ويلزمه الاستئناف من جديد، وكذلك الحكم فيما لو طال الفصل بين الأشواط، لأن الموالاة بين أشواط الطواف شرط لصحته.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز: إذا أحدث الإنسان في الطواف انقطع طوافه كالصلاة، يذهب فيتطهر ثم يستأنف الطواف، هذا هو الصحيح، والمسألة فيها خلاف، لكن هذا هو الصواب في الطواف والصلاة جميعاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، وليتوضأ، وليعد الصلاة) رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، والطواف من جنس الصلاة في الجملة.

‌مبحث: 4

أن يطوف ماشياً مع القدرة على المشي.

أجمع العلماء على أن طواف الماشي أولى وأفضل من طواف الراكب والمحمول، لأن طواف الراكب أو المحمول يزاحم الطائفين، وربما حصل منه أذى لهم، أو كان فيه تمييز للأغنياء عن الفقراء.

قال ابن قدامة: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الطَّوَافَ رَاجِلًا- أي ماشياً- أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَافُوا مَشْيًا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ حَجَّةِ

الْوَدَاعِ طَافَ مَشْياً. (المغني).

ص: 665

واتفقوا على أن المعذور يجوز له الطواف والسعي راكباً، سواء كان العذر مرضا أو عجزا أو مشقة أو كِبَراً في السن، ونحو ذلك.

لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت (شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي فَقَال: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ). متفق عليه

قال الحافظ: وفيه جواز الطواف للراكب إذا كان لعذر، وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها، ولا تقطع صفوفهم أيضا، ولا يتأذون بدابتها.

وقال ابن تيمية: يَجُوزُ الطَّوَافُ رَاكِبًا وَمَحْمُولًا لِلْعُذْرِ بِالنَّصِّ، وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء.

‌واختلف العلماء فيمن طاف راكباً من غير عذر على أقوال:

‌القول الأول: أن ذلك يجزئه.

أ- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير) رواه مسلم.

والنبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لمصلحة وهي أن يراه الناس ويسألوه.

ففي صحيح مسلم: عَنْ جَابِرٍ، قَالَ (طَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ؛ لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ، وَلِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوه) أي ازدحموا عليه.

قال النووي: " هذا بيان لعلة ركوبه صلى الله عليه وسلم.

ب- ولأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقاً فكيفما أتى به أجزأه راكباً أو ماشياً؛ لأنه لا يجوز تقييد المطلق بغير دليل.

‌تنبيه:

وأما ما جاء في "سنن أبي داود"(من طريق يزيد بن أبي زياد، عن عكرمة عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته).

فهي رواية ضعيفة لا يعتمد عليها في تعليل ركوبه بالمرض.

ص: 666

وممن ضعفها: البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(7/ 258)، وابن كثير في "البداية والنهاية"(5/ 142)، والشوكاني في "نيل الأوطار"(5/ 122)، والمباركفوري في "تحفة الأحوذي"(3/ 298).

قال الشافعي: فَأَخْبَرَ جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ لِيَرَاهُ النَّاسُ.

وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ مِنْ شَكْوَى وَلَا أَعْلَمُهُ اشْتَكَى صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ تِلْك. (الأم).

‌القول الثاني: من طاف محمولاً أو راكباً لغير عذر لا يجزئ طوافه ولا يصح.

وهذا القول مروي عن الإمام أحمد بن حنبل، وهو ظاهر كلام الخرقي.

وعلى هذا فالمشي شرط لصحة الطواف، فإذا طاف راكباً أو محمولاً لغير عذر لم يجزئه طوافه.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه أنه قال (الطواف بالبيت صلاة).

ولأن الطواف عبادة تتعلق بالبيت، فلم يجز فعلها راكباً لغير عذر كالصلاة.

القول الثالث: يجزئه طوافه راكباً ويجبره بدم إذا لم يستطع إعادته.

وبهذا قال أبو حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل.

ودليل هذا: أنه ترك صفة واجبة في الحج، أشبه ما لو دفع من عرفة قبل الغروب.

وعند المالكية يلزمه دم إذا كان الطواف واجباً، وأما غيره فسنة ولا دم عليه. (بحث في مجلة البحوث الإسلامية).

ص: 667

‌مبحث: 5

أن يكون الطواف داخل المسجد الحرام.

لأن الواجب على المسلم أن يطوف بالبيت، وإذا طاف خارج المسجد فقد طاف بالمسجد وليس بالبيت.

أ- لقوله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

وجه الدلالة: أن الله عز وجل، أمر بالطواف بالبيت، فمن طاف خارج البيت لم يكن طائفاً به.

ب- ولفعله صلى الله عليه وسلم، فقد طاف عليه الصلاة والسلام داخل المسجد الحرام، وقال (لتأخذوا مناسككم).

ج- أنه إذا طاف خارج المسجد لم يكن طائفاً بالبيت، وإنما طاف حول المسجد.

قال الشيخ ابن عثيمين: قال العلماء: يشترط لصحة الطواف أن يكون في المسجد الحرام، وأنه لو طاف خارج المسجد ما أجزأه؛ فلو أراد الإنسان ــــ مثلا ــــ أن يطوف حول المسجد الحرام من خارج فإنه لا يجزئ؛ لأنه يكون حينئذ طائفا بالمسجد لا بالكعبة؛ أما الذين يطوفون في نفس المسجد سواء فوق أو تحت، فهؤلاء يجزئهم الطواف؛ وعلى هذا يجب الحذر من الطواف في المسعى، أو فوقه؛ لأن المسعى ليس من المسجد.

ص: 668

‌مبحث: 6

الموالاة بين الأشواط.

فالموالاة بين أشواط الطواف شرط في صحته، على الراجح من أقوال أهل العلم، فإن فصل بينها بفاصل يسير فلا بأس.

أ-لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد والى بين طوافه وقال: «خذوا عني مناسككم» .

ب- والطواف صلاة، فاشترطت له الموالاة، كسائر الصلوات والموالاة بين ركعاتها.

ج-و الطواف عبادة تعلقت بالبيت فاشترطت لها الموالاة، كالصلاة.

قال الشيخ ابن عثيمين: من شروط صحة الطواف: الموالاة بين أشواطه.

• لكن رخص أهل العلم للطائف إذا حضرت الجنازة أو أقيمت الصلاة أن يصلي ثم يكمل طوافه ولا يستأنفه.

جاء في (الموسوعة الفقهية) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الطَّوَافُ، وَيُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى طَوَافِهِ؛ لأِنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ فَلَمْ يَقْطَعْهُ، كَالْفِعْل الْيَسِير.

وقال الشيخ ابن عثيمين: الموالاة بين أشواط الطواف شرط لا بد منه، لكن رخص بعض العلماء بمثل صلاة الجنازة أو التعب ثم يستريح قليلا ثم يواصل وما أشبه ذلك.

• وسئل رحمه الله: رجل طاف من الطواف شوطين ولكثرة الزحام خرج من الطواف وارتاح لمدة ساعة أو ساعتين، ثم رجع للطواف ثانية فهل يبدأ من جديد أو يكمل طوافه من حيث انتهى؟

فأجاب:

إذا كان الفصل طويلا كالساعة والساعتين: فإن الواجب عليه إعادة الطواف، وإذا كان قليلا فلا بأس، وذلك لأنه يشترط في الطواف وفي السعي: الموالاة، وهي تتابع الأشواط، فإذا فصل بينها بفاصل طويل: بطل أول الأشواط، ويجب عليه أن يستأنف الطواف من جديد، أما إذا كان الفصل ليس طويلا جلس لمدة دقيقتين أو ثلاث ثم قام وأكمل فلا بأس.

ص: 669

(ثم يصلي ركعتينِ خلفَ المَقام).

أي: يسن للطائف أن يصلي بعد فراغه ركعتين خلف المقام لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد).

قال النووي: أجمع المسلمون على أنه ينبغي لمن طاف أن يصلي بعده ركعتين عند المقام. (المجموع).

أ- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ -في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (

حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَقَرَأَ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ

) رواه مسلم.

ب- وعن عبدالله بن أبي أوفى قال (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، وصلى خلف المقام ركعتين) رواه البخاري.

‌فائدة: 1

اختلف العلماء في هاتين الركعتين على أقوال:

‌القول الأول: أنهما سنتان سنة مؤكدة، غير واجبة، فلو تركهما أساء، وليس عليه شيء لتركهما.

وإلى هذا ذهب: أحمد، ومالك في إحدى الروايتين عنه، والشافعي في الأصح.

أ- لحديث: طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه (أن أعرابياً قال: يا رسول الله، ماذا فرض الله على عباده من الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع) متفق عليه.

ص: 670

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن الصلوات التي افترضها الله على عباده إنما هي الصلوات الخمس، فدل ذلك على أن ما عداها ليس بفرض ولا واجب، وأكد ذلك بقوله: إلا أن تطوع فدل ذلك على أن ما عدا الصلوات الخمس تطوع وليس بواجب.

ب- ولحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خمس صلوات كتبهن الله على العباد

الحديث) رواه أبو داود.

وجه الدلالة: كسابقه، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصلوات التي كتبهن الله على عباده، وافترضهن عليهم إنما هي خمس صلوات، فدل ذلك على أن ما عداهن ليس بفرض، ومن ذلك ركعتا الطواف.

ج- وقالوا: إنها صلاة لم تشرع لها جماعة، فلم تكن واجبة كسائر النوافل.

‌القول الثاني: أنهما واجبتان،

وليستا شرطاً لصحة الطواف، فإن تركهما عقب الطواف، وجب عليه أداؤهما بعد ذلك، فلا يتقيد أداؤهما بزمان ولا مكان.

وإلى هذا ذهب: أبو حنيفة.

أ- لقوله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).

وجه الدلالة: إن الله جل وعلا أمر بالصلاة عند مقام إبراهيم بعد الفراغ من الطواف، والأمر للوجوب، فدل ذلك على وجوب ركعتي الطواف.

ص: 671

ب- ولحديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ( .. حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقرأ: فجعل المقام بينه وبين البيت

).

ولحديث ابن عمر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين

).

وجه الدلالة من أوجه:

أحدها: أن فعله عليه السلام لهما متصل بالطواف دليل على أنهما من الطواف، وفعله بيان لمجمل الكتاب.

الثاني: أنه عليه السلام نبه أن ما فعله امتثالاً للأمر في الآية، والأمر للوجوب، فدل على وجوبهما.

الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب عليهما بعد الطواف، فدل ذلك على وجوبهما.

القول الثالث: أنهما واجبتان، يجب أداؤهما عقيب الطواف بطهره، فإن أخرهما لكراهة الصلاة في ذلك الوقت، فلا بأس بذلك ما لم تنتقض طهارته، فإن انتقضت وكان الطواف واجباً، وجب عليه إعادة الطواف، إلا إن تباعد، فله أن يصليهما وعليه دم.

وإلى هذا ذهب: مالك في المشهور. (بحث في مجلة البحوث الإسلامية).

ص: 672

‌فائدة: 2

هل يلزم أداء هاتين الركعتين خلف المقام؟

لا يلزم أداء هاتين الركعتين خلف المقام، فلو صلاهما في أي مكان من الحرم أو خارجه جاز.

قال ابن قدامة: وحَيْثُ رَكَعَهُمَا وَمَهْمَا قَرَأَ فِيهِمَا، جَازَ؛ فَإِنَّ عُمَرَ رَكَعَهُمَا بِذِي طُوًى.

أ- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَهْوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ

وَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ) متفق عليه.

وجه الدلالة: الإخبار بأنها لم تصل حتى خرجت، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها دليل صريح على عدم اشتراط الصلاة داخل المسجد أو خلف المقام.

ب- وثبت (أن عمر رضي الله عنه طاف بالبيت بعد صلاة الصبح، فركب حتى أناخ بذي طوى، فصلى ركعتين) رواه مالك.

ج- وعن ابن عمر (أنه كان يطوف بالبيت سبعاً، ثم يدخل البيت، فيصلى فيه ركعتي الطواف) رواه عبد الرزاق.

ص: 673

‌فائدة: 3

المشروع في هاتين الركعتين التخفيف وليس قبلهما دعاء ولا بعدهما دعاء.

‌فائدة: 4

إذا دار الأمر بين أن يصلي قريباً من المقام مع كثرة حركته،

كرد المارين بين يديه، وبين أن يصلي بعيداً عن المقام ولكن بطمأنينة، فما الأفضل؟

فالأفضل الثاني، لأن ما يتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة بما يتعلق بمكانها.

‌فائدة: 5

ما حكم الموالاة بين الطواف والركعتين؟

اختلف الفقهاء في حكم الموالاة بين الطواف والركعتين، على قولين:

الصحيح أن الموالاة سنة، فلو فصل بين الطواف وركعتيه بوقت طويل، جاز.

وهو قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

أ-أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف بالبيت بعد صلاة الصبح، فلما قضى طوافه، نظر فلم ير الشمس طلعت، فركب حتى أناخ بذي طوى فصلى ركعتين).

ب-عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو بمكة، وأراد الخروج ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وأرادت الخروج - فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أقيمت صلاة الصبح، فطوفي على بعيرك والناس يصلون، ففعلت ذلك، فلم تصل حتى خرجت).

ص: 674

‌فائدة: 6

يستحب إذا جاء المقام أن يقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).

‌فائدة: 7

الحكمة من قراءة هذه الآية:

أولاً: بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، إبلاغ الناس أنه فعل ذلك امتثالاً لأمر الله.

ثانياً: أن يشعر نفسه أنه يفعل ذلك امتثالاً لأمر الله.

‌فائدة: 8

هل تجزئ سنة راتبة عنهما أو صلاة مكتوبة؟

هذا موضع خلاف والصحيح أنها لا تجزئ، لأنهما سنة مستقلة بنفسهما.

(ثمّ يعودُ إلى الركنِ فيستلمُه).

أي: بعد أن يصلي ركعتي الطواف يسن أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه.

لحديث جابر -في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال (

فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى اَلرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ

) رواه مسلم.

قال النووي: فِيهِ دَلَالَة لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلطَّائِفِ طَوَاف الْقُدُوم إِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَاف وَصَلَاته خَلْف الْمَقَام أَنْ يَعُود إِلَى الْحَجَر الْأَسْوَد فَيَسْتَلِمهُ، ثُمَّ يَخْرُج بَاب الصَّفَا لِيَسْعَى. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِلَام لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّة لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَلْزَمهُ دَم. (شرح مسلم).

وقال ابن قدامة: وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الصَّفَا، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَعُودَ فَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ.

نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ.

ص: 675

ذَكَرَهُ جَابِرٌ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.

وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. (المغني).

وقال ابن عبد البر: وأما استلام الركن فسنةٌ مسنونةٌ عند ابتداء الطواف، وعند الخروج بعد الطواف، والرجوع إلى الصفا، لا يختلف أهل العلم في ذلك قديماً وحديثاً والحمد لله. (التمهيد).

قال بعض العلماء: وظاهر ذلك أنه لا يسن تقبيله ولا الإشارة إليه.

قال الشيخ ابن عثيمين: بعد أن يصلي ركعتين يستلم الركن مرة ثانية كالمودع للبيت في هذا العمل.

ولم ترد السنة بالتقبيل في هذا الموضع ولم ترد أيضاً بالإشارة.

وعلى هذا فلا تقبيل ولا إشارة، فان تيسر لك أن تستلمه فهو سنة وإلا فدعه.

وهذا فيمن خرج ليسعى، أما من طاف ولا يريد السعي [كطواف الوداع مثلاً أو طواف الإفاضة لمن سعى بعد طواف القدوم] فإنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى الركن فاستلمه.

‌فائدة: 1

قوله (الركن) المراد بالركن هنا الحَجَر الأسود، وسمي ركناً، لأنه في ركن البيت.

‌فائدة: 2

جاء عند الإمام أحمد (ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه) فيسن بعد صلاة الركعتين أن يذهب إلى زمزم ويشرب ويصب على رأسه.

(ثم يشرب من ماء زمزم).

أي: يستحب للحاج وللمعتمر خصوصاً وللمسلم عموماً أن يشرب من ماء زمزم.

لماء جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم. رواه البخاري.

وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم (إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ إِنَّهَا طَعَامُ طُعْم) رواه مسلم.

وزاد الطيالسي (وشفاء سقم).

ص: 676

أي شرب مائها يغني عن الطعام ويشفي من السّقام لكن مع الصدق كما ثبت عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه أقام شهراً بمكة لا قوت له إلا ماء زمزم.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ماء زمزم لما شرب له) رواه أحمد.

قال شيخ الإسلام: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَيَتَضَلَّعَ مِنْهُ وَيَدْعُوَ عِنْدَ شُرْبِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ الأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ اهـ.

وقال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ زَمْزَمَ، فَيَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا لِمَا أَحَبَّ، وَيَتَضَلَّعَ مِنْهُ. قَالَ جَابِرٌ، فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ أَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُمْ يَسْقُونَ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا، فَشَرِبَ مِنْهُ اهـ.

ومعنى (يَتَضَلَّعَ) أي يكثر من الشرب حتى يمتلئ جنبه وأضلاعه. حاشية السندي على ابن ماجه.

وقال النووي: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ، وَأَنْ يَتَضَلَّعَ مِنْهُ -أَيْ يَتَمَلَّى- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَهُ لِمَطْلُوبَاتِهِ مِنْ أُمُورِ الآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَهُ لِلْمَغْفِرَةِ أَوْ الشِّفَاءِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ ذَكَرَ اسْمَ

اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ (اللَّهُمَّ إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَك صلى الله عليه وسلم قَالَ:(مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ) اللَّهُمَّ إنِّي أَشْرَبُهُ لِتَغْفِرَ لِي، اللَّهُمَّ فَاغْفِرْ لِي أَوْ اللَّهُمَّ إنِّي أَشْرَبُهُ مُسْتَشْفِيًا بِهِ مِنْ مَرَضٍ، اللَّهُمَّ فَاشْفِنِي) وَنَحْوَ هَذَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَفَّسَ ثَلاثًا كَمَا فِي كُلِّ شُرْبٍ، فَإِذَا فَرَغَ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى. اهـ.

ص: 677

‌فائدة: 1

وقد ذكر الفقهاء آداباً تستحب لشرب ماء زمزم، منها استقبال الكعبة، والتسمية، والتنفس ثلاثاً، والتضلع منها، وحمد الله بعد الفراغ، والجلوس عند شربه كغيره، واستحبوا أيضاً لمن يشرب من زمزم نضح الماء على رأسه ووجهه وصدره، والإكثار من الدعاء عند شربه، وشربه لمطلوبه من أمر الدنيا والآخرة لما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ماء زمزم لما شرب له.

‌فائدة: 2

استحب بعض الفقهاء التزود من ماء زمزم وحمله إلى البلاد لأنه شفاء لمن استشفى، وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنها حملت من ماء زمزم في القوارير، وقالت: حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وكان يصبّ على المرضى ويسقيهم.

‌فائدة: 3

يذكر على بعض الألسنة أن فضيلته ما دام في محله فإذا نقل يتغيّر وهو شيء لا أصل له.

فقد كتب صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو: إن وصل كتابي ليلاً فلا تصبحن أو نهاراً فلا تمسين حتى تبعث إليّ بماء زمزم، وفيه أنه بعث بمزادتين وكان حينئذ بالمدينة قبل أن يفتح مكة، وهو حديث حسن لشواهده.

وكذا كانت عائشة رضي الله عنها تحمل وتخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله وأنه كان يحمله في الأداوي والقرب فيصب منه على المرضى ويسقيهم.

وكان ابن عباس إذا نزل به ضيف أتحفه بماء زمزم.

وسئل عطاء عن حمله فقال: قد حمله النبي صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين.

ص: 678

‌فائدة: 4

قال ابن القيم: وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعاً ويطوف مع الناس كأحدهم وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً وكان له قوة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مراراً.

(زاد المعاد).

‌(ثم يخرجُ إلى الصفا فيرقاه حتى يرى البيت.

. .).

أي: بعد ذلك يذهب إلى الصفا ليسعى بين الصفا والمروة.

كما في حديث جابر - في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال (

ثُمَّ خَرَجَ مِنَ اَلْبَابِ إِلَى اَلصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ اَلصَّفَا قَرَأَ:" إِنَّ اَلصَّفَا وَاَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ "" أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اَللَّهُ بِهِ " فَرَقِيَ اَلصَّفَا، حَتَّى رَأَى اَلْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ اَلْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اَللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ:" لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ اَلْمُلْكُ، وَلَهُ اَلْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ [وَحْدَهُ] أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ اَلْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ". ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى اَلْمَرْوَةِ، حَتَّى اِنْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ اَلْوَادِي [سَعَى] حَتَّى إِذَا صَعَدَتَا مَشَى إِلَى اَلْمَرْوَةِ فَفَعَلَ عَلَى اَلْمَرْوَةِ، كَمَا فَعَلَ عَلَى اَلصَّفَا

).

•‌

‌ مباحث الصفا:

‌مبحث: 1

السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة،

وستأتي أدلة المسألة إن شاء الله في أركان الحج.

ص: 679

‌مبحث: 2

الحكمة من السعي بين الصفا والمروة.

قال ابن دقيق العيد:

مثاله: السعي بين الصفا والمروة إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه: قصة هاجر مع ابنها وترك الخليل لهما في ذلك المكان الموحش منفردين منقطعي أسباب الحياة بالكلية مع ما أظهره الله تعالى لهما من الكرامة والآية في إخراج الماء لهما - كان في ذلك

مصالح عظيمة أي في التذكر لتلك الحال وكذلك رمي الجمار إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه: رمي إبليس بالجمار في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبح ولده: حصل من ذلك مصالح عظيمة النفع في الدين.

وقال الشنقيطي: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا» ، فِيهِ الْإِشَارَةُ الْكَافِيَةُ إِلَى حِكْمَةِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ; لِأَنَّ هَاجَرَ سَعَتْ بَيْنَهُمَا السَّعْيَ الْمَذْكُورَ، وَهِيَ فِي أَشَدِّ حَاجَةٍ، وَأَعْظَمِ فَاقَةٍ إِلَى رَبِّهَا، لِأَنَّ ثَمَرَةَ كَبِدِهَا، وَهُوَ وَلَدُهَا إِسْمَاعِيلُ تَنْظُرُهُ يَتَلَوَّى مِنَ الْعَطَشِ فِي بَلَدٍ لَا مَاءَ فِيهِ، وَلَا أَنِيسَ، وَهِيَ أَيْضًا فِي جُوعٍ، وَعَطَشٍ فِي غَايَةِ الِاضْطِرَارِ إِلَى خَالِقِهَا جَلَّ وَعَلَا، وَهِيَ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ تَصْعَدُ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ فَإِذَا لَمْ تَرَ شَيْئًا جَرَتْ إِلَى الثَّانِي فَصَعِدَتْ عَلَيْهِ لِتَرَى أَحَدًا، فَأُمِرَ النَّاسُ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ لَيَشْعُرُوا بِأَنَّ حَاجَتَهُمْ وَفَقْرَهُمْ إِلَى خَالِقِهِمْ وَرَازِقِهِمْ كَحَاجَةِ وَفَقْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الضَّيِّقِ، وَالْكَرْبِ الْعَظِيمِ إِلَى خَالِقِهَا وَرَازِقِهَا، وَلِيَتَذَكَّرُوا أَنَّ مَنْ كَانَ يُطِيعُ اللَّهَ كَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا عليه السلام لَا يُضَيِّعُهُ، وَلَا يُخَيِّبُ دُعَاءَهُ وَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ظَاهِرَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ الْمَذْكُورِ حِكْمَةَ الرَّمْيِ أَيْضًا فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ حِكْمَةَ السَّعْيِ، وَالرَّمْيِ مَعْرُوفَةٌ ظَاهِرَةٌ خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 680

‌مبحث: 3

يستحب إذا دنا من الصفا أن يقرأ هذه الآية (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).

إذ دنا من الصفا وليس إذا صعد، ولا يشرع إكمال الآية وإنما يقتصر فقط على (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).

‌مبحث: 4

الحكمة من قراءة هذه الآية:

أولاً: اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: امتثالاً لأمر الله.

ثالثاً: وليشعر نفسه أنه إنما سعى لأنه من شعائر الله.

‌تنبيه:

ولا يقال هذا الذكر إلا إذا أقبل على الصفا من بعد الطواف -فلا يقال بعد ذلك- لا عند المروة ولا عند الصفا في المرة الثانية، لأنه ليس ذكراً يختص بالصعود وإنما هو ذكر يبين أن ابتداء الإنسان من الصفا إنما هو بتقديم الله له.

‌مبحث: 5

البداءة بالسعي من الصفا،

فلو بدأ بالمروة لم يعتد بالشوط الأول، والبدء بالصفا هو تفسير لقوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) فقد بدأ بما قدم الله ذكره.

قال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَشْتَرِطُونَ فِي السَّعْيِ التَّرْتِيبَ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمَ بِالْمَرْوَةَ، فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةَ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ.

ص: 681

‌مبحث: 6

ما يفعله الحاج على الصفا:

يستحب أن يصعد الصفا وأن يستقبل القبلة حينما يطلع عليه (وليس هو واجب، الواجب هو حدود العربيات).

ويستحب رفع اليدين عند الصعود على الصفا، وصفة رفعهما كصفة رفعهما عند الدعاء.

ويستحب على الصفا أن يوحد الله ويكبره ويقول (لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ». ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).

[أنجز وعده] أي: بإظهار هذا الدين، وكون العاقبة للمتقين. [ونصر عبده] أي: نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم[وهزم الأحزاب] أي: غلبهم

وكسرهم [وحده] أي: بلا قتال من الناس.

• قوله: يستحب الدعاء فيما بين ذلك، وصفة هذا: أن يذكر الله أولاً، ثم يدعو، ثم يذكر الله ثانياً، ثم يدعو، ثم يذكر الله ثالثاً، ثم ينزل من الصفا.

ص: 682

‌مبحث: 7

بعد الذكر والدعاء يتجه إلى المروة،

إذا حاذى العلم الأخضر هرول حتى العلم الثاني، والهرولة خاصة بالرجال.

قال ابن قدامة: وهو يذكر صفة السعي بين الصفا والمروة:

وَهُوَ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ الصَّفَا، فَيَمْشِيَ حَتَّى يَأْتِيَ الْعَلَمَ، مَعْنَاهُ يُحَاذِي الْعَلَمَ، وَهُوَ الْمِيلُ الْأَخْضَرُ الْمُعَلَّقُ فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا كَانَ مِنْهُ نَحْوًا مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ، سَعَى سَعْيًا شَدِيدًا، حَتَّى يُحَاذِيَ الْعَلَمَ الْآخَرَ، ثُمَّ يَتْرُكُ السَّعْيَ، وَيَمْشِي حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ، فَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَدْعُوَ بِمِثْلِ دُعَائِهِ عَلَى الصَّفَا، وَمَا دَعَا بِهِ فَجَائِزٌ، وَلَيْسَ فِي الدُّعَاءِ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ.

ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَمْشِي فِي مَوْضِعِ مَشْيِهِ، وَيَسْعَى فِي مَوْضِعِ سَعْيِهِ، وَيُكْثِرُ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ. (المغني).

‌مبحث: 8

الهرولة خاصة بالرجال دون النساء.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا رَمَل على النساء حول البيت، ولا بين الصفا والمروة، وليس عليهن اضطباع؛ وذلك لأن الأصل فيهما إظهار الجَلَد [القوة]، ولا يقصد ذلك في النساء؛ ولأن النساء يقصد فيهن الستر، وفي الرمل والاضطباع تعرض للكشف. انتهى.

فالرمل بين العَلَمينِ الأخضرينِ أثناء السعي بين الصفا والمروة سنة في حق الرجال وليس بواجب. أما النساء فلا يسن لهن الرمل أثناء السعي وإن كان هذا الرمل قد حصل من هاجر أثناء سعيها بين الصفا والمروة، والذي هو أصل مشروعية السعي عموماً،

ففي صحيح البخاري أثناء الحديث عن سعي هاجر بين الصفا والمروة:

(

فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا).

ص: 683

‌مبحث: 9

لا تشترط الطهارة للسعي.

قال النووي: مذهبنا ومذهب الجمهور أن السعي يصح من المحدث والجنب والحائض.

وقال ابن قدامة: أكثر أهل العلم يرون أن لا يشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة، وممن قال ذلك عطاء ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.

وقال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ طَهَارَةُ الْحَدَثِ، وَلَا الْخَبَثِ، وَلَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَلَوْ سَعَى، وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ، أَوْ سَعَتِ امْرَأَةٌ وَهِيَ حَائِضٌ، فَالسَّعْيُ صَحِيحٌ، وَلَا يُبْطِلُهُ ذَلِكَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْم.

وقال رحمه الله: وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ: هِيَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: أَنْ تَفْعَلَ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ، وَهِيَ حَائِضٌ إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ خَاصَّةً. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ طَوَافٍ، وَالْحَيْضُ مَانِعٌ مِنَ الطَّوَافِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ نَصٌّ فِي أَنَّ غَيْرَ الطَّوَافِ يَصِحُّ مِنَ الْحَائِضِ وَيَدْخُلُ فِيهِ السَّعْيُ.

‌مبحث: 10

السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط،

الذهاب شوط والرجوع شوط آخر.

قال النووي: قوْله: (حَتَّى إِذَا كَانَ آخِر طَوَاف عَلَى الْمَرْوَة) فِيهِ دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ الذَّهَاب مِنْ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَة يُحْسَب مَرَّة وَالرُّجُوع إِلَى الصَّفَا ثَانِيَة وَالرُّجُوع إِلَى الْمَرْوَة ثَالِثَة وَهَكَذَا، فَيَكُون اِبْتِدَاء السَّبْع مِنْ الصَّفَا، وَآخِرهَا بِالْمَرْوَةِ.

ص: 684

وقال ابن قدامة: حتَّى يُكْمِلَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، يَحْتَسِبُ بِالذَّهَابِ سَعْيَةً، وَبِالرُّجُوعِ سَعْيَةً.

وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: ذَهَابُهُ وَرُجُوعُهُ سَعْيَةٌ.

وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ، رَمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إذَا صَعِدْنَا مَشَى، حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت، لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتهَا عُمْرَةً).

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ آخِرُ طَوَافِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عِنْدَ الصَّفَا، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ.

وَلِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ طَائِفٌ بِهِمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَسِبَ بِذَلِكَ مَرَّةً، كَمَا أَنَّهُ إذَا طَافَ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ احْتَسَبَ بِهِ مَرَّةً. (المغني).

‌مبحث: 11

يقول في سعيه ما أحب من ذكر ودعاء وقرآن،

وإن دعا في السعي بقوله (رب اغفر وارحم، إنك أنت الأعز الأكرم) فلا بأس لثبوت ذلك عن ابن مسعود وابن عمر.

‌مبحث: 12

إذا كان في آخر شوط من السعي أتمه بصعوده المروة،

ولا يقف للدعاء ولا للذكر، لأن العبادة قد انتهت.

‌مبحث: 13

حكم الموالاة بين الطواف والسعي:

اختلف الفقهاء في حكم الموالاة بين الطواف والسعي على قولين:

القول الأول: أن الموالاة بينهما سنة، فلا يضر الفصل بزمن طويل.

وهو قول الحنفية، وقول عند المالكية، والمذهب عند الشافعية، وقول الحنابلة.

أ - أن كل واحد من الطواف والسعي ركن، والموالاة بين أركان الحج لا تجب، كالوقوف بعرفة وطواف الإفاضة.

ب - ب-أن الموالاة إذا لم تجب في السعي نفسه، ففيما بينه وبين الطواف أولى.

القول الثاني: أن الموالاة بين الطواف والسعي شرط، فلو فرق بينهما كثيراً لزم إعادة الطواف والسعي.

وهو قول عند المالكية، ووجه عند الشافعية.

ص: 685

واستدلوا له: بأن السعي لما افتقر إلى تقدم الطواف عليه ليمتاز عما لغير الله تعالى، افتقر إلى الموالاة بينه وبينه ليقع به الامتياز، ولا يحصل الميز إذا أخل بالموالاة.

والراجح الأول.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: لا حرج في الفصل بين السعي والطواف عند أهل العلم، فلو سعى بعد الطواف بزمن أو في يوم آخر فلا بأس بذلك ولا حرج فيه، ولكن الأفضل أن يتوالى السعي مع الطواف، فإذا طاف بعمرته سعى بعد ذلك من دون فصل، وهكذا في حجه ولو فصل فلا حرج في ذلك؛ لأن السعي عبادة مستقلة، فإذا فصل بينهما بشيء فلا يضر، ولهذا لو قدم الحاج أو القارن وطاف فقط وأجل السعي إلى ما بعد نزوله من عرفات فلا حرج في ذلك، وإن قدمه فلا حرج في ذلك.

‌مبحث: 14

لا يشرع التطوع بالسعي بين الصفا والمروة لغير الحاج والمعتمر.

قال ابن حجر: إجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع.

وقال الشنقيطي: إجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع، والعلم عند الله تعالى.

وقال الشيخ ابن عثيمين: لا يجوز التطوع بالسعي، لأن السعي إنما يُشرع في النُّسك، الحج والعمرة، لقول الله تعالى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم).

ص: 686

‌مبحث: 15

يشترط في صحة السعي أن يقع بعد الطواف.

عن ابن عمر رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم، سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة) متفق عليه.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدِّم الطواف على السعي بدلالة كلمة (ثم) وقد قال (لتأخذوا مناسككم) وفعلُهُ في المناسك يفيد الوجوب.

ب- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال (حاضت عائشة رضي الله عنها، فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت، قالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجةٍ وعمرة، وأنطلق بحج! فأمر عبدالرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج).

وفي روايةٍ عن عائشة رضي الله عنها (فقدمتُ مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة).

وجه الدلالة: أنه لولا اشتراط تقدم الطواف على السعي؛ لفعلت في السعي مثل ما فعلت في غيره من المناسك؛ فإنه يجوز لها السعي من غير طهارة.

قال الماوردي: فإذا ثبت وجوب السعي فمن شرط صحته أي السعي أن يتقدمه الطواف، وهو إجماعٌ ليس يُعرَف فيه خلافٌ بين الفقهاء.

وقال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَا يَصِحُّ، إِلَّا بَعْدَ طَوَافٍ، فَلَوْ سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَطَاءٍ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَحَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ عَطَاءٍ، وَدَاوُدَ.

وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْعَ فِي حَجٍّ، وَلَا عُمْرَةٍ إِلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ، وَقَدْ قَالَ «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ ذَلِكَ عَنْه. (أضواء البيان).

ص: 687

‌تنبيه:

اختلف العلماء في صحة السعي إذا وقع بعد طواف نفل، فعند الشافعية والحنابلة لا يصح، وإنما يشترط لصحته أن يقع بعد طواف ركن أو قدوم.

‌تنبيه:

اعلم أن القارِن والمُفْرِد يَكْفِيه هذا السَّعْي، فلا يَلْزَمه أن يَسْعَى مرَّة أخرى بعد طواف الإفاضة.

أما المتمتِّع، فإنه يَلْزَمه أن يسعى سعيًا آخر بعد طواف الإفاضة.

ثم يحِل المتمتِّع من إحرامه بالحلق أو التقصير، والمقصود: أنه إذا كان متمتعًا فإنه يحِل من إحرامه بالحَلق أو التقصير، وبهذا يكون قد انتهى من مناسك العمرة.

وأما القارِن والمُفْرِد؛ فإنهما يَظَلان على إحرامهما، فلا يحلقان ولا يقصِّران حتى يوم التروية -الثامن من ذي الحجة - ليُكْمِلوا بقية المناسك، كما سيأتي بيانه.

(ثم يُقصّر من شَعرهِ إن كان معتمراً وقد حلّ).

أي: إن كان متمتعاً وقد انتهى من عمرته فالأفضل أن يقصر من شعره دون الحلق.

وهنا التقصير أفضل من الحلق لسببين:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في قوله (ومن لم يسق الهدي فليقصّر).

ثانياً: من أجل أن يبقى للحج ما يُحلق أو يقصر، ولو أنه حلق، والمدة قصيرة لم يتوفر الشعر للحج.

ففي حديث ابن عمر السابق قال صلى الله عليه وسلم (

وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ).

قال النووي:

وَإِنَّمَا أَمَرَهُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِالتَّقْصِيرِ وَلَمْ يَأْمُر بِالْحَلْقِ مَعَ أَنَّ الْحَلْق أَفْضَل لِيَبْقَى لَهُ شَعْر يَحْلِقهُ فِي الْحَجّ، فَإِنَّ الْحَلْق فِي تَحَلُّل الْحَجّ أَفْضَل مِنْهُ فِي تَحَلُّل الْعُمْرَة. وَأَمَّا قَوْله صلى الله عليه وسلم:(وَلْيَحْلِلْ) فَمَعْنَاهُ وَقَدْ صَارَ حَلَالًا فَلَهُ فِعْل مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَام مِنْ الطِّيب وَاللِّبَاس وَالنِّسَاء وَالصَّيْد وَغَيْر ذَلِكَ. (شرح مسلم).

وقال ابن قدامة: وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (قَصَّرَ مِنْ شَعْرِهِ، ثُمَّ قَدْ حَلَّ).

ص: 688

يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ عِنْدَ حِلِّهِ مِنْ عُمْرَتِهِ التَّقْصِيرُ؛ لِيَكُونَ الْحَلْقُ لِلْحَجِّ.

قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: وَيُعْجِبُنِي إذَا دَخَلَ مُتَمَتِّعًا أَنْ يُقَصِّرَ؛ لِيَكُونَ الْحَلْقُ لِلْحَجِّ.

وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ إلَّا بِالتَّقْصِيرِ:

فَقَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ بِطَوَافٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا).

وَفِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَصَّرُوا).

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ (مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلِيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَإِنْ حَلَقَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَجَازَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ التَّقْصِيرِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ نُسُكٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِهِ. (المغني)

• وأما إذا كان معتمراً فقط دون حج فالأفضل في حقه الحلق.

(وتحلل).

أي: من عمرته، فحل له كل شي حتى النساء.

(إلا القارن والمفرد فإنه لا يحل).

أي: فإن كان الحاج قارناً أو مفرداً، فإنه لا يحل، بل يستمر على إحرامه حتى يرميا جمرة العقبة يوم العيد.

صفة الحج

ص: 689

(يُسَنُّ لِلْمُحلِّينَ بِمَكَّةَ الإِحْرَامُ بالحَجِّ يَومَ التَّرْويَةِ قَبْلَ الزَّوالِ مِنْهَا).

أي: في هذا اليوم - وهو يوم التروية - يسن لمن كان حلالاً أن يحرم بالحج ضحى.

والمحل هو المتمتع، لأنه حل من إحرامه، أو كان من أهل مكة.

عن جابر قال (

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ) رواه مسلم.

قال النوويّ: فيه دليل للشافعيّ وموافقيه أن المتمتّع، وكلّ من بمكة، وأراد الإحرام بالحجّ، فالسنّة له أن يُحرم يوم التروية.

ويوم التروية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة.

قال النووي: وسمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي يحملونه معهم من مكة إلى عرفات ليستعملوه في الشرب وغيره. [توجهوا إلى منى] توجهوا من الأبطح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل هناك.

‌فائدة: 1

ويحرم من مكانه.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى. قَالَ فَأَهْلَلْنَا مِنَ الأَبْطَح). رواه مسلم

وإنما أهلوا من الأبطح لأنه مكان نزولهم، والأبطح: هو مسيل فيه دقاق الحصى يقع شرقي مكة، فأحرم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان ومعه أصحابه قبل الزوال، ثم توجهوا إلى منى وكان ذلك يوم الخميس.

تنبيه: قال بعض الفقهاء: أنه يحرم من الحرم تحت الميزاب، وهذا غلط وبدعة، فلم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عهد عن أحد من الصحابة أنه فعله.

ص: 690

‌فائدة: 2

أعمال الحج تبتدئ من اليوم الثامن.

‌فائدة: 3

يسن أن يفعل الحاج عند إحرامه هذا ما يفعله عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظف والتجرد من المخيط ويهل بالحج بعدها قائلاً: لبيك حجاً.

(ويبيتُ بمنى).

أي: يسن أن يخرج إلى منى ويبيت بها ليلة التاسع، ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً بلا جمْع.

ففي حديث جابر -في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال (فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ اَلتَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنَى، وَرَكِبَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا اَلظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَالْفَجْرَ

) رواه مسلم.

قال النووي: والسنة أن يبيتوا بمنى ليلة التاسع، وهذا المبيت سنةٌ ليس بركنٍ ولا واجب، فلو تركه فلا شيء عليه، لكن فاتته الفضيلة وهذا الذي ذكرناه من كونه سنة لا خلاف فيه.

(المجموع).

‌فائدة: 1

الأفضل أن تكون صلاة الظهر في اليوم الثامن في منى.

‌فائدة: 2

أن الصلاة في منى تكون قصراً من غير جمع.

‌فائدة: 3

أنه يسن المكث في منى حتى تطلع الشمس.

ص: 691

‌فائدة: 4

أن الذين يذهبون إلى عرفات من ليلتها قد خالفوا السنة،

وكذلك من لم يحرم اليوم الثامن، وهو وإن كان جائزاً لكنهم حرموا أنفسهم السنة.

‌فائدة: 5

فإذا صادف يوم التروية يوم جمعة، فأيهما أفضل،

أن يصلي الحاج في المسجد الحرام ثم يخرج إلى منى، أو أن يخرج إلى منى (ضحى) ويصلي الظهر في منى؟ الثاني أفضل، لأن بقاءك في منى عبادة، وأنت أيها الحاج لم تأت من بلادك إلا لأجل هذه العبادة.

(فَإِذَا طَلَعَت الشَّمْسُ سَارَ إِلَى عَرَفَةَ وَكُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَة).

أي: فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سار إلى عرفة وينزل أولاً بنمرة.

لحديث جابر -في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال (

ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتْ اَلشَّمْسُ، فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ اَلْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا. حَتَّى إِذَا زَاغَتْ اَلشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ اَلْوَادِي، فَخَطَبَ اَلنَّاسَ

).

(حتى أتى عرفة) قال النووي: "المراد قارب عرفات، فإن نمرة ليست من عرفات". [القبة] قال ابن الأثير: "القبة من الخيام بيت صغير مستدير.

‌فائدة: 1

عرفة: مشعر خارج حدود الحرم،

لأنها واقعة في الحل، وهي اسم لمكان الوقوف في الحج.

‌سميت بذلك:

قيل: لأن الناس يتعارفون فيها.

وقيل: لأن أمين الوحي جبريل طاف بإبراهيم عليه السلام وكان يريه المشاهد فيقول له "أَعَرَفْتَ؟ أَعَرَفْتَ؟ "، فيرد إبراهيم "عَرَفْتُ، عَرَفْتُ.

ص: 692

وقيل: لأن آدم وحواء عندما هبطا من الجنة التقيا فعرفها وعرفته في هذا المكان.

وقيل: لأنها مرتفعة على غيرها؛ والشيء المرتفع يسمى عُرْفاً، ومنه: أهل الأعراف، كما قال تعالى (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً)، ومنه: عُرْف الديك؛ لأنه مرتفع؛ وكل شيء مرتفع يسمى بهذا الاسم.

‌فائدة: 2

إن تيسر له النزول بنمرة نزل إلى زوال الشمس

[ونمرة قرية قرب عرفة وليست من عرفة] وهذا النزول نزول نسك، بناءً على أن الأصل التعبد في جميع أعمال الحج إلا ما قام الدليل على أنه ليس كذلك، وإلا ذهب إلى عرفات واستقر بها ولو قبل الزوال.

‌فائدة: 3

عرفة كلها موقف إلا بطن عُرنة.

عَنْ جَابِر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (نَحَرْتُ هَا هُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ وَوَقَفْتُ هَا هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَوَقَفْتُ هَا هُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِف) رواه مسلم.

‌إلا بطن عرنة:

قال صلى الله عليه وسلم (كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنة).

قال القاضي عياض: اتفق العلماء على أنه لا موقف فيه [يعني بطن عرنة].

ص: 693

‌فائدة: 4

قوله (حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة) نمرة ليست من عرفة، فاختلف الشراح في معنى قوله (حتى أتى عرفة فوجد القبة

بنمرة) لأنها توهم أن نمرة من عرفة.

فقيل: المعنى أي قد قارب عرفة.

وقيل: أن مراد جابر أن منتهى سيره عرفة، وأنه لم يفعل كما تفعل قريش في الجاهلية، فتنتهي بمزدلفة وتقف فيه يوم عرفة، وفي طريقه إلى عرفة نزل بنمرة، وهذا أصح.

(فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذانٍ واحد وإقامتين).

وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

ففي حديث جابر -في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال (حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ

ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا).

[القصواء] لقب لناقته التي حج عليها [فرحلتْ له] أي جعل عليها الرحل [بطن الوادي] وادي عرنة الذي فيه مقدمة المسجد، لأن المسجد بعضه في عرفة وبعضه خارج عرفة، وبطن الوادي موضع متسع، ولذا خصه النبي صلى الله عليه وسلم بخطبته.

ففي هذا استحباب الخطبة للإمام ليعلم الناس صفة الوقوف ويذكرهم بعظم هذا اليوم، وقد خطب صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها أحكام مهمة وعظيمة.

ص: 694

‌فائدة: 1

فيه: استحباب جمع العصر مع الظهر في عرفات وهذا الجمع مجمع عليه، بأذان واحد وإقامتين.

لقول جابر (ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى اَلظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى اَلْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا).

‌فائدة: 2

حكم القصر والجمع لأهل مكة في عرفة ومزدلفة:

‌اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

‌القول الأول: يشرع لهم الجمع والقصر كغيرهم.

وهذا مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية، وابن القيم.

أ-قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة بمنى، وجمع وقصر بعرفة ومزدلفة، وصلى معه جميع المسلمين من أهل مكة وغيرهم، ولم يأمر أهل مكة بالإتمام، ولا بتأخير العصر في عرفة، أو تقديم المغرب في المزدلفة، وكذا خلفاؤه من بعده، فدل ذلك على مشروعية الجمع والقصر لأهل مكة في المشاعر.

ب- أن خروج أهل مكة إلى منى وعرفات ومزدلفة، يعتبر سفراً، فشرع لهم الجمع والقصر كغيرهم.

‌القول الثاني: لا يجوز الجمع والقصر لهم.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

قالوا: إن خروج أهل مكة إلى منى وعرفة ومزدلفة لا يعد سفراً لعدم المسافة، وهم في اعتبار المسافة كغيرهم، فلم يجز لهم الجمع والقصر.

والراجح: الأحوط عدم الجمع والقصر.

ص: 695

‌فائدة: 3

الحكمة من جمع التقديم هنا: ليتفرغ الناس للدعاء، وأيضاً لو تفرقوا لفاتت الجماعة، وصلى كل إنسان لوحده.

‌فائدة: 4

أن الخطبة يوم عرفة قبل الأذان، لقوله:(ثم أذن ثم أقام).

‌فائدة: 5

أنه لا تشرع للمسافر أن يصلي راتبة الظهر، لقوله:(ولم يصلّ بينهما).

‌فائدة: 6

بداية الوقوف بعرفة:

‌اختلف العلماء في ذلك على قولين:

‌القول الأول: أن بداية الوقوف

من زوال الشمس.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه لم يقفوا إلا بعد الزوال.

‌القول الثاني: أن بداية الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة.

وهذا مذهب الحنابلة، وستأتي المسألة إن شاء الله.

لحديث عروة بن المضرس قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف - يعني بجمْع - قلت: جئت يا رسول الله من جبلي طي، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، قالوا: فقوله (أو نهاراً) يشمل ما قبل الزوال وما بعده.

ص: 696

والراجح قول الجمهور، والجواب عن حديث عروة بن مضرس بأن المراد بـ (بالنهار) فيه خصوص ما بعد الزوال، بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه من بعده.

•‌

‌ ما نهاية وقت الوقوف بعرفة؟

نهاية وقته: طلوع الفجر يوم النحر.

لقوله صلى الله عليه وسلم (الحج عرفات - ثلاثاً - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك) رواه أبو داود.

قال جابر: (لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع). [قاله في المغني]

(وَيَقِفُ رَاكِباً).

المراد بالوقوف هنا المكث.

أي: يسن أن يقف بعرفة واقفاً.

أ- لقول جابر (

فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفَاً حَتَّى غَرُبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرْصُ).

ب- وعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ (أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ) متفق عليه.

وجه الدلالة من الحديثين: أن هذين الحديثين دلا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة راكباً، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الأفضل.

وذهب بعض العلماء: أن الأفضل ترك الركوب.

لأن ترك الركوب أشبه بالتواضع والخضوع.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يختلف باختلاف الناس.

وهذا اختيار ابن تيمية.

ص: 697

(عِنْدَ الصَّخَرَاتِ وَجَبَل الرَّحْمَةِ)

لقول جابر (ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى اَلْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ اَلْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ حَبْلَ اَلْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ اَلْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفَاً حَتَّى غَرُبَتِ الشَّمْسُ.

‌فائدة:

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الصعود على جبل عرفات ليس من الأمور المشروعة، بل هو إن اتخذه الإنسان عبادة بدعة، لا يجوز للإنسان أن يعتقده عبادة، ولا أن يعمل به على أنه عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على فعل الخير، وأبلغ الناس في تبليغ الرسالة، وأعلم الناس بدين الله، لم يصعده ولم يأمر أحداً بصعوده، ولا أقر أحداً بصعوده فيما أعلم، وعلى هذا فإن صعود هذا الجبل ليس بمشروع، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف خلفه من الناحية الشرقية قال:(وقفت هاهنا، وعرفة كله موقف) وكأنه صلى الله عليه وسلم يشير بهذا إلى أن كل إنسان يقف في مكانه ولا يزدحمون على هذا المكان الذي وقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.

(وَيُكْثِرُ الدُّعَاء، ممَّا وَرَدَ).

يستحب للحاج أن يتفرغ للدعاء في يوم عرفة.

وينبغي أن يكون حال الدعاء مستقبل القبلة وإن كان الجبل خلفه أو يمينه أو شماله، لأن السنة استقبال القبلة، ويرفع اليدين، ولا يزال هكذا ذاكراً ملبياً داعياً راجياً من الله أن يجعله من عتقائه الذين يباهي بهم الملائكة كما في الحديث:(ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وأنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: (ماذا أرادوا هؤلاء).

قال شيخ الإسلام: لم يعين النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة دعاء خاصاً ولا ذكراً خاصاً، بل يدعو بما شاء من الأدعية.

ص: 698

(وَمَنْ وَقَفَ وَلَو لَحْظَةً مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهو أَهْلٌ لَهُ صَحَّ حَجُّهُ وَإِلاَّ فَلَا).

أي: أن وقت الوقوف بعرفة يبدأ من طلوع الفجر.

وهذا مذهب الحنابلة.

لحديث عروة بن المضرس قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف - يعني بجمْع - قلت: جئت يا رسول الله من جبلي طيء، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي:

بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ.

قالوا: فقوله (أو نهاراً) يشمل ما قبل الزوال وما بعده.

وهذا مذهب الحنابلة.

وذهب بعض العلماء: إلى أن بداية الوقوف يكون من زوال الشمس يوم التاسع من ذي الحجة.

ص: 699

وهو قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية ورواية عن أحمد.

وحكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر، وابن حزم، والقرطبي.

قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال، ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يُعتدُّ بوقوفه ذلك قبل الزوال. (التفسير).

لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعد الزوال، وكذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم إلى اليوم، وما نُقِلَ أن أحدًا وقف قبل الزوال.

والراجح قول الجمهور.

والجواب عن حديث عروة بن مضرس بأن المراد بـ (بالنهار) فيه خصوص ما بعد الزوال، بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه من بعده.

‌فائدة:

من وقف مغمى عليه:

نقول ابتداء: إن الإغماء لا يؤثر على الإحرام، فمن أحرم ثم أغمي عليه فحجه صحيح.

جاء في (الموسوعة الفقهية) الإْغْمَاءُ بَعْدَ الإْحْرَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ، بِاتِّفَاقِ الأْئِمَّةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا حَمْلُهُ مُتَعَيِّنٌ عَلَى رُفَقَائِهِ، وَلَا سِيَّمَا لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَلَوْ كَانَ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ عَلَى تَفْصِيلٍ. هـ.

لكنه إذا حمل إلى عرفة ولم يفق جزءاً من الوقت، فقد اختلف الفقهاء هل يصح حجه أم لا؟ على قولين:

جاء في (الموسوعة الفقهية) أمّا بالنّسبة للوقوف بعرفة، فالكلّ مجمعٌ على أنّه لو أفاق المغمى عليه في زمن الوقوف ولو لحظةً أجزأه، وإن لم يفق من إغمائه إلاّ بعد الوقوف:

فمذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه فاته الحجّ في ذلك العام.

وللشّافعيّة قولان في إجزاء وقوف المغمى عليه أو عدمه.

ص: 700

والحنفيّة يكتفون بالكينونة في محلّ الوقوف وزمنه مع سبق الإحرام، فوقوف المغمى عليه مجزئٌ.

ورجح الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ في الشرح الممتع صحة وقوفه، فقال:

مثال المغمى عليه: أن يحصل له حادث وهو متجه إلى عرفة، فأغمي عليه قبل أن يصل إلى عرفة، وبقي مغمى عليه حتى انصرف الناس وانصرفوا به، فنقول: هذا الرجل لم يصح وقوفه، لأنه مغمى عليه، ونقول: إنه فاته الحج، فإذا أفاق تحلل بعمرة، ثم قضاه إذا كان فرضاً من العام القادم، هذا هو المشهور من المذهب،

والقول الثاني: أن وقوفه صحيح، لأن عقله باق لم يزل، وهذا هو الراجح. هـ.

ولا شك أن الأحوط والأبرأ للذمة أن لا يعتد بتلك الحجة ويعيدها إن تيسر له ذلك.

(وَمَنْ وَقَفَ نَهَاراً وَدَفَع قَبلَ الغُروب وَلَمْ يَعُدْ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ).

أي: من وقف نهاراً في عرفة، فإن دفع قبل الغروب ولم يعد فعليه دم،

لأنه ترك واجباً من واجبات الحج، وهو الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس.

هو قول جماهير أهل العلم، فقد قال بهذا القول الحنفية، والشافعية في إحدى الروايتين، والحنابلة في الصحيح من المذهب.

أ-لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

قال جابر (

فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى غَرَبَتِ اَلشَّمْسُ

).

ب- ولأن الدفع قبل الغروب من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بمخالفتها.

• فإن عاد فلا دم عليه.

ص: 701

(وَمَنْ وَقَفَ لَيْلاً فَقَطْ فَلَا).

أي: بأن أتى إلى عرفة بعد غروب الشمس، فإنه يجزئه ولا دم عليه.

قال العلامة الشنقيطي:: وَالْحَاصِلُ:

أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ إِجْمَاعاً.

وَأَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ، فَوُقُوفُهُ تَامٌّ إِجْمَاعًا.

وَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، فَوُقُوفُهُ تَامٌّ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الدَّمِ.

وَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، لَمْ يَصِحَّ وُقُوفُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: حَجُّهُ صَحِيحٌ. مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ، فَقَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ. قِيلَ وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِنَانًا، وَقِيلَ: نَدْبًا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ. وَأَنَّمَا قِبلَ الزَّوَالُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله.

(ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ الغُرُوبِ إِلَى مُزْدَلفَةَ بِسَكِيْنةٍ وَيُسْرِعُ فِي الفَجْوَةِ).

أي: يسن الدفع من عرفة إلى مزدلفة بعد غروب الشمس (وهذا من واجبات الحج).

ففي حديث جابر (حَتَّى غَابَ القُرْصُ وَأَرْدًفَ أُسَامَةُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ اَلزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ اَلْيُمْنَى: (أَيُّهَا اَلنَّاسُ، اَلسَّكِينَةَ، اَلسَّكِينَةَ) كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنْ اَلْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى اَلْمُزْدَلِفَة).

ص: 702

‌فائدة: 1

يستحب أن يكون الدفع إلى مزدلفة بسكينة وهدوء.

لقول جابر (حَتَّى غَابَ القُرْصُ وَأَرْدًفَ أُسَامَةُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ اَلزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ اَلْيُمْنَى: (أَيُّهَا اَلنَّاسُ، اَلسَّكِينَةَ، اَلسَّكِينَةَ) كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنْ اَلْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ).

[شنق للقصواء الزمام] هو الخيط الذي يشد إلى الحلقة التي في أنف البعير. [مَورِك رحله] هو الموضع الذي يجعل عليه الراكب رجله إذا مل من الركوب. [كلما أتى حبلاً] هو التل اللطيف من الرمل الضخم، والمعنى إذا أتى حبلاً من حبال الرمل أرخى لناقته قليلاً من أجل أن تصعد [المزدلفة] وتسمى جمعاً.

‌فائدة: 2

سبب تسمية مزدلفة في ذلك:

قيل: لأنهم يقربون فيها من منى، والازدلاف القرب.

وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها، والاجتماع الازدلاف.

وقيل: لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى؛ أي يتقربون بالوقوف، ويقال للمزدلفة: جمع لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب، وهذا قول قتادة، وقيل إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها أي دنا منها.

(وَيَجْمَعُ بِهَا بَيْنَ العِشَاءَين وَيَبيِتُ بِهَا).

يسن أن يجمع بين المغرب والعشاء إذا وصل إلى مزدلفة، وأن يصليهما بأذان واحد وإقامتين.

لحديث جابر (فَصَلَّى بِهَا اَلْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا).

وأيضاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة.

ص: 703

‌فائدة: 1

ما الحكم لو صلى في الطريق؟

لو صلى في الطريق أجزأه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).

وذهب ابن حزم إلى أنه لو صلى في الطريق لم يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة بن زيد (الصلاة أمامك) لكن هذا قول ضعيف، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة (الصلاة أمامك) لأنه لو وقف ليصلي وقف الناس، ولو أوقفهم في هذا المكان لكان في ذلك مشقة عليهم.

‌فائدة: 2

متى يجب أن يصلي في الطريق؟

يجب أن يصلي في الطريق إذا خشي خروج وقت العشاء بمنتصف الليل.

‌فائدة: 3

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال وتوضأ وضوءاً خفيفاً،

لحديث أسامة بن زيد قال (دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ، فقلت له الصلاة يا رسول الله؟ قال: الصلاة أمامك) متفق عليه، فهل يسن للإنسان أن ينزل في أثناء الطريق وفي المكان الذي نزل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان سار معه ويبول ويتوضأ وضوءاً خفيفاً؟

الجواب: لا يسن هذا، لأن هذا وقع اتفاقاً، بمقتضى الطبيعة حيث احتاج أن يبول فنزل فبال.

ص: 704

‌فائدة: 4

ما الحكم إذا وصل مزدلفة في وقت المغرب؟

قيل: يؤخر الصلاة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: يقدم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من حين وصل إلى مزدلفة صلى.

قال الشيخ ابن عثيمين: قد يقال: روى البخاري عن ابن مسعود أنه قدم مزدلفة العشاء أو قريباً من العشاء، فأذّن وصلى المغرب، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أذن فصلى العشاء، وهذا يدل على أنه رضي الله عنه لما وصل في هذا الوقت رأى أن لا يجمع، وبناء على هذا نقول: من وصل مبكراً فليصل ثم لينتظر حتى يأتي العشاء فيؤذن ويصلي العشاء، فإن قال الحاج: الراحة لي والأسهل عليّ أن أصلي المغرب من حين أن أصِل وأصلي معها العشاء وأستريح، نقول: ذلك جائز ولا بأس به.

‌فائدة: 5

ماذا نستفيد من قول جابر (ثُمَّ اِضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ اَلْفَجْرُ)؟

نستفيد: أنه يسن أن ينام حتى يصبح.

‌فائدة: 6

هل يصلي الوتر أم لا؟

يستثنى الوتر فإنه يصليه ولا يتركه لأسباب:

أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه لا سفراً ولا حضراً، حتى كان صلى الله عليه وسلم يوتر على راحلته في السفر.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أمراً عاماً بدون استثناء.

ثالثاً: أن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فإما أن يكون جابر سكت عن ذكره لأنه لا يدري، ولهذا لم ينف الوتر كما نفى التنفل في قوله [ولم يسبح بينهما].

رابعاً: أن يكون ترك ذكره للعلم به، ولأنه ليس من المناسك، والحديث في سياق المناسك.

ص: 705

‌فائدة: 7

هل يشرع قيام الليل؟

قال بعض العلماء يشرع قيام الليل، لأنه قد ثبت عن أسماء، فقد ثبت عنها (أنها نزلت ليلة جمع بالمزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: ارتحلوا، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة

) متفق عليه.

‌فائدة: 8

هل يجوز أن يدفع من مزدلفة قبل الفجر؟

قال بعض العلماء: يجوز بعد منتصف الليل للضعفة من النساء والصبيان والكبار والعاجزين والمرضى.

وقال بعض العلماء: إن المعتبر غروب القمر، ولذلك كان من فقه أسماء أنها تنتظر حتى إذا غاب القمر دفعت، وغروب القمر يكون بعد مضي ثلثي الليل تقريباً.

لحديث عائشة قالت (كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمْع بليل فأذن لها). متفق عليه

وعن ابن عباس قال (أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) متفق عليه.

• أما غير الضعفاء والعاجزين فالجمهور على أنه يجوز أن يدفع آخر الليل، وقال بعض العلماء لا يجوز ورجحه بعض المحققين، لكن الصحيح الجواز، والأحوط البقاء حتى صلاة الصبح.

• والمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، إذا تركه عمداً فحجه صحيح مع الإثم وعليه دم.

ص: 706

(فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَتَى المَشْعَر الحَرام فَيَرْقَاه، أَوْ يَقِفُ عَنْدَه، وَيَحْمَدُ اللهَ، وَيُكَبِّرهُ، وَيَقْرَأُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الآيَتَيْنِ ويَدْعُو حَتَّى يُسْفِرَ).

[المشعر الحرام] هو جبل صغير بمزدلفة والآن المسجد المبني في مزدلفة على المشعر الحرام.

أي: يسن أن يصلي الصبح في مزدلفة، ويبادر بها مبادرة تكون غير معتادة، ولعل هذه المبادرة ليتسع وقت الذكر والدعاء بعد الصلاة.

لحديث جابر وفيه (ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ - حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ - بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ).

ففي هذا: أنه يسن للحاج في مزدلفة بعد صلاة الصبح أن يأتي المشعر الحرام فيرقي عليه ويستقبل القبلة ويذكر الله ويهلله ويدعو كما قال تعالى (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه لقوله صلى الله عليه وسلم (وقفت ههنا وجمع كل موقف) رواه مسلم.

على الحاج أن يحذر من تضييع هذه الدقائق الغالية.

يبقى للدعاء والذكر حتى يسفر جداً.

‌فائدة:

قال النووي: السُّنَّة أَنْ يُبَالِغ بِتَقْدِيمِ صَلَاة الصُّبْح فِي هَذَا الْمَوْضِع وَيَتَأَكَّد التَّبْكِير بِهَا فِي هَذَا الْيَوْم أَكْثَر مِنْ تَأَكُّده فِي سَائِر السَّنَة لِلِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ وَظَائِف هَذَا الْيَوْم كَثِيرَة فَسُنَّ الْمُبَالَغَة بِالتَّبْكِيرِ بِالصُّبْحِ لِيَتَّسِع الْوَقْت لِلْوَظَائِف.

(ثم يدفع قبل طلوع الشمس).

يسن للحاج أن يدفع من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس من يوم العيد.

قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في أن السنة الدفع قبل طلوع الشمس.

قال ابن القيم: أجمع المسلمون على أن الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة.

ص: 707

لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة لأهل الجاهلية.

أ- عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ (إِنَّ اَلْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ وَأَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ

تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.

ب- وفي حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: (

فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس). رواه مسلم

[لا يفيضون] أي من جمع كما جاء في رواية [أشرق] أي من الإشراق، أي أدخل في الشروق، والمعنى: لتطلع عليه الشمس، [ثبير] جبل معروف هناك، وهو على يسار الذاهب إلى منى، وهو أعظم جبال مكة، [ثم أفاض] أي النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء في رواية أبي داود الطيالسي: (فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض) وفي حديث جابر عند مسلم: (

فدفع قبل أن تطلع الشمس).

ففي هذا الحديث أن السنة في الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس.

لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة المشركين، فإنهم كانوا يبقون في مزدلفة صبح يوم النحر حتى تشرق الشمس، ثم يفيضون إلى منى، ففي هذا الحديث تأكد الإفاضة من مزدلفة وقت الإسفار قبل طلوع الشمس.

ص: 708

‌فائدة: 1

أن من تأخر عامداً فقد أساء وخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من تعذر عليه ذلك بعد أن أخذ في الإفاضة ولكن عاقه المسير لشدة زحام، أو خلل في مركوبه، أو نحو ذلك فهو معذور.

‌فائدة: 2

أنواع إفاضات الحج:

حصل بالتتبع والاستقراء أن إفاضات الحج ثلاثة:

الأولى: من عرفة إلى مزدلفة ليلة عيد النحر.

وهذه هي المذكورة في قوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس).

الثانية: من مزدلفة إلى منى.

وهي المذكورة في حديث عمر السابق (ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس).

الثالثة: الإفاضة من منى إلى مكة لأداء طواف الحج.

وهي المشار إليها في حديث جابر السابق وفيه: (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض بالبيت).

(فَإِذَا بَلَغَ مُحَسِّراً أَسَرَعَ رَمْيَةَ حَجَرٍ).

لحديث جابر - في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال (وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ

حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً).

في هذا كيفية الدفع من مزدلفة، وأنه إذا مر بوادي محسر حرك دابته قليلاً، وهذه هي السنة فيمن أتى بطن محسر، وكذا سيارته إن أمكن، وإن كان ماشياً أسرع.

ووادي محسر هو وادٍ بين مزدلفة ومنى لا من هذه ولا من هذه.

واختلف العلماء لماذا أسرع في وادي محسر:

قيل: هذا أمر تعبدي.

ص: 709

وقيل: لأن الله أهلك فيه أصحاب الفيل فينبغي للإنسان أن يسرع إذا مرّ بأراضي العذاب.

وهذا تعليل عليل لأمرين:

أ- لأن أصحاب الفيل لم يهلكوا هنا، بل في مكان يقال له [المُغَمّس] حول الأبطح.

ب- أنه لا يشرع الإسراع للذاهب، ولا يشرع الإسراع لغير القادم من مزدلفة، فلو كان على ما ذكروا لشرع الإسراع لكل من مرّ به، وهم لا يقولون بهذا.

وقيل: لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم، كما خالفهم في الخروج من عرفة

، وفي الإفاضة من مزدلفة. والله أعلم.

(حتى يأتي منى، فيبدأ بجمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة).

أي: السنة للحاج إذا وصل إلى منى: أن يبدأ برمي جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات.

ففي حديث جابر (ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْف).

وقد سماها جابر الكبرى، وسماها بذلك باعتبار ما قبلها من الجمرتين الصغرى والوسطى، ولأنها تنفرد بالرمي يوم العيد.

ص: 710

‌فائدة: 1

أول أعمال يوم العيد للحاج: رمي جمرة العقبة.

‌فائدة: 2

عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ (أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَرَآهُ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صلى الله عليه وسلم متفق عليه.

(فَرَآهُ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى) وهي جمرة العقبة.

في هذا الحديث ذكر صفة رمي جمرة العقبة المفضل وهو جعل مكة عن اليسار ومنى عن اليمين.

قال النووي: وأجمعوا على أنه من حيث رمى جمرة العقبة جاز، سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو عن يساره، أو رماها من فوقها أو أسفلها، أو وقف وسطها ورماها.

‌فائدة: 3

الأفضل في رميها يوم النحر ضحى.

عن جابر (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) رواه مسلم.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا رَمَاهَا ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ.

• وأما أهل الأعذار إذا وصلوا في آخر الليل ووصلوا إلى منى فإنهم يرمون، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، فكل من جاز له الدفع من مزدلفة جاز له الرمي وإلا لما استفاد شيئاً.

ص: 711

‌فائدة: 4

ترمى لوحدها بسبع حصيات.

أ- لحديث جابر (فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلَ حَصَى اَلْخَذْف) رواه مسلم.

ب- وفي حديث ابن مسعود السابق ( .. بسبع حصيات).

‌فائدة: 5

يسن التكبير مع كل حصاة.

أ- ففي حديث جابر السابق ( .. فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا) رواه مسلم.

ب- وعن اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي اَلْجَمْرَةَ اَلدُّنْيَا، بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ

هكذا رأيت رسول الله يفعله) متفق عليه.

فلو ترك التكبير فلا شيء عليه.

‌فائدة: 6

لا يشرع الدعاء بعدها.

وقد علل بعض العلماء بعدم الدعاء بعد جمرة العقبة بعدة علل:

قيل: لضيق المكان في ذلك الوقت.

وقيل: لانتهاء العبادة.

وقيل: لأنها ليست من منى.

قال ابن القيم: فَقِيلَ لِضِيقِ الْمَكَانِ بِالْجَبَلِ، وَقِيلَ وَهُوَ أَصَحّ: إنّ دُعَاءَهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَلَمّا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَرَغَ الرّمْيُ وَالدّعَاءُ فِي صُلْبِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا أَفْضَلُ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، وَهَذَا كَمَا كَانَتْ سُنّتُهُ فِي دُعَائِهِ فِي الصّلَاةِ إذْ كَانَ يَدْعُو فِي صُلْبِهَا، فَأَمّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَلَمْ يَثْبُت عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَعْتَادُ الدّعَاءَ وَمَنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ وَإِنْ رُوِيَ فِي غَيْرِ الصّحِيحِ أَنّهُ كَانَ أَحْيَانًا يَدْعُو بِدُعَاءٍ عَارِضٍ بَعْدَ السّلَامِ وَفِي صِحّتِهِ نَظَرٌ، ولا رِيبَ أَنّ عَامّةَ أَدْعِيَتِهِ الّتِي كَانَ يَدْعُو بِهَا، وَعَلّمَهَا الصّدّيقَ إنّمَا هِيَ فِي صُلْبِ الصّلَاةِ وَأَمّا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: لَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلّ صَلَاةٍ: اللّهُمّ أَعِنّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِك، وَحُسْنِ عِبَادَتِك فَدُبُرُ الصّلَاةِ يُرَادُ بِهِ آخِرُهَا قَبْلَ السّلَامِ مِنْهَا، كَدُبُرِ الْحَيَوَانِ وَيُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَ السّلَامِ كَقَوْلِهِ تُسَبّحُونَ اللّهَ وَتُكَبّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلّ صَلَاةٍ الْحَدِيثُ.

ص: 712

‌فائدة: 7

المقصود من رمي الجمار.

عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، قال ابن عباس: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون) رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح على شرطهما.

وقد ذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: أن حكمة الرمي معقولة المعنى وذكر هذا الحديث وقال: وعلى هذا الذي ذكره البيهقي فَذِكْرُ الله الذي شرع الرمي لإقامته هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان ورميه وعدم الانقياد إليه.

‌فائدة: 8

قوله (فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَات)

دليل على أنه لا بد من الرمي، فلو وضع الحصى وضعاً لم يجزئ.

‌فائدة: 9

قوله (بسبح حصيات)

دليل على أنه لا يجزئ الرمي بغير الحصى ولو كان ثميناً كالجواهر.

‌فائدة: 10

قوله (يكبر مع كل حصاة)

دليل على أنه يشترط رمي الجمرات الواحدة بعد الأخرى، وهذا مذهب جماهير العلماء، فلو رمى الحصيات دفعة واحدة فإنه لا يجزئه إلا عن واحدة.

قال ابن قدامة: وَإِنْ رَمَى الْحَصَيَاتِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ.

نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

ص: 713

‌فائدة: 11

لا يستحب غسل الحصى.

‌فائدة: 12

لم يذكر جابر من أين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حصى جمرة العقبة،

وهذا يدل على أنه ليس لذلك مكان معين.

بعضهم قال أن النبي صلى الله عليه وسلم التقطها من منى، وبعضهم قال إنه التقطها من موقفه الذي رمى فيه، وبعضهم قال إنه التقطها من طريقه لحديث الفضل وفيه (حتى إذا دخل محسراً وهو من منى، قال: عليكم بحصى الخذف

) وبهذا جزم ابن القيم، والمقصود أنه ليس للحصى مكان معين، وأما ما يعتقده بعض العوام أن المستحب أن يُلتقط الحصى من مزدلفة فهذا لا أصل له فضلاً على أن يكون واجباً

‌فائدة: 13

يكون الحصى بمثل حصى الخذف - وهي بالخاء المعجمة

- وقدر حصى الخذف أكبر من حبة الحمص قليلاً.

لحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه (

فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف). رواه مسلم

فلا يجوز أن يرمي بالحجر الكبير فيؤذي المسلمين، ولا بالصغير الذي لا يمكن رميه.

ص: 714

‌فائدة: 14

يشترط أن يكون المرمي به حجراً.

وهذا قول الجمهور (المالكية، والشافعية، والحنابلة)، فلا يصح الرمي بالطين والمعادن والتراب.

وقد استدل الجمهور بما ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما رمى جمرة العقبة؛ فعن جابر يصف رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمرة العقبة، فيقول:(فرماها بسبع حصيات - يكبر مع كل حصاة منها - مثل حصى الخذف).

‌فائدة: 15

ما حكم الرمي بالحجر مرة ثانية؟

قال بعض العلماء: لا يجزئ الرمي بحصاة رمي بها.

وقيل: يجزئ ذلك، وهذا أصح.

واختاره الشيخ الشنقيطي، والشيخ ابن عثيمين.

‌فائدة: 16

قال الشيخ ابن عثيمين: من شرط الرمي أن تقع الحصاة في الحوض،

وإذا وقعت الحصاة في الحوض، فقد برئت بهذا الذمة، سواء بقيت في الحوض أو تدحرجت منه، ومن الأخطاء أيضا في الرمي: أن بعض الناس يظن أنه لا بد أن تصيب الحصاة الشاخص، أي: العمود، وهذا ظن خطأ؛ فإنه لا يشترط لصحة الرمي أن تصيب الحصاة هذا العمود، فإن هذا العمود إنما جعل علامة على المرمى الذي تقع فيه الحصى، فإذا وقعت الحصاة في المرمى، أجزأت سواء أصابت العمود أم لم تصبه.

ص: 715

(ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي).

أي: أن الحاج يستمر في التلبية حتى ابتداء الرمي.

عنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهم قَالَا: (لَمْ يَزَلِ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ اَلْعَقَبَةِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد.

قال النووي: يبدأ وقت التلبية من حين الإحرام إلى يوم النحر حتى يرمي جمرة العقبة لما أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس أنه قال (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة) وهذا قول الشافعي وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأبي ثور وأحمد وإسحاق وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.

قال ابن عبد البر: فقال الثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأبور ثور: يقطعها في أول حصاة يرميها من جمرة العقبة.

قال الشنقيطي: فاعلم أن الصحيح الذي قام عليه الدليل: أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة لما جاء عند مسلم عن الفضل بن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة) وقوله في هذا الحديث (حتى بلغ الجمرة) هو حجة من قال يقطع التلبية عند الشروع في الرمي لأن بلوغ الجمرة هو وقت الشروع في الرمي.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يلبي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة.

وهو قول إسحاق، وابن خزيمة، واختاره بن حزم.

لحديث الفضل قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية مع آخر حصاة). رواه ابن خزيمة

لكن هذه اللفظة: (ثم قطع التلبية مع آخر حصاة) منكرة، لم ترد في الحديث.

قال البيهقي في سننه: هذه الزيادة غريبة، وليست في الروايات المشهورة عن ابن عباس عن الفضل.

ص: 716

والراجح القول الأول.

ومن القرائن الدالة على ذلك، ما ثبت في الروايات الصحيحة من التكبير في كل حصاة، فظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير مع الحصاة لتتابع رمي الحصيات.

• فإن قيل: ما الجواب عن حديث عَنْ نَافِعٍ قَالَ (كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) رواه البخاري؟

الجواب: أن يقال: إن المراد بقطع التلبية عند دخول الحرم الإمساك عنها - للحاج - إمساكاً مؤقتاً ينتهي بالطواف والسعي، ثم يعاودها بعد الخروج من مكة إلى عرفة.

قال ابن خزيمة: وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة دالة على أنه لم يقطع التلبية عند دخوله الحرم قطعاً لم يعاود لها.

ويدل لهذا الجمع: ما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة، فإذا غدا ترك التلبية، وكان يترك التلبية في العمرة إذا دخل الحرم.

‌فائدة:

متى يقطع المعتمر التلبية؟

‌اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

‌القول الأول: يقطعها عند دخول أدنى الحرم.

ص: 717

وهو قول ابن عمر وعروة بن الزبير والحسن ومالك والنسائي وابن خزيمة.

عَنْ نَافِعٍ قَالَ (كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) رواه البخاري.

‌القول الثاني: يقطعها إذا استلم الركن.

قال في المغني: وبهذا قال ابن عباس، وعطاء، وعمرو بن ميمون، وطاوس، والنخعي، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

قال الترمذي بعدما خرج حديث ابن عباس الآتي قال: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قالوا: لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر.

أ- عن ابن عباس قال (يمسك صلى الله عليه وسلم عن التلبية في العمرة، إذا استلم الحجر). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ب- وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم (اعتمر ثلاث عمر، ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر) رواه أحمد وإسناده ضعيف وضعفه ابن حزم.

ج-ولأن التلبية إجابة إلى العبادة، وإشعار للإقامة عليها، وإنما يتركها إذا شرع فيما ينافيها، وهو التحلل منها، والتحلل يحصل بالطواف والسعي، فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل، فينبغي أن يقطع التلبية، كالحج إذا شرع في رمي جمرة العقبة، لحصول التحلل بها. وأما قبل ذلك، فلم يشرع فيما ينافيها، فلا معنى لقطعها. (المغني).

(ولا يقف عندها).

أي: إذا انتهى من رمي جمرة العقبة يوم العيد، فإنه لا يقف عندها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك.

ص: 718

(ويرمي بعد طلوع الشمس، ويجزئ بعد نصف الليل).

وقد تقدم دليل ذلك.

(ثمّ ينحرُ هديَهُ).

هذا العمل الثاني من أعمال يوم العيد: وهو نحر الهدي.

لقول جابر ( .. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ).

والهدي على المتمتع والقارن، أما المتمتع بنص القرآن قال تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وأما القارن فوجوب الهدي عليه هو مذهب جمهور العلماء، قياساً على المتمتع.

ودم التمتع والقران دم نسك وعبادة، فهو دم شكر حيث حصل للعبد نُسُكان في سفر واحد ودم واحد. ولهذا كان دم المتعة والقران مما يؤكل منه ويهدى ويتصدق -فليس هو دم جبران-، وأما دم المحظور لا يؤكل منه ولا يهدى، فهو يصرف على الفقراء.

فإن عدم الهدي فقد قال تعالى (فإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). فعليه -كما أخبر الله- صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم.

ومعنى لا يجد الهدي: أن لا يوجد هدي في الأسواق، أو أن يوجد بهيمة أنعام لكنه لا يملك الثمن. (وقد تقدمت المسألة)

ص: 719

(ويَحْلقُ أو يقصّر من جميع شعَرهِ، وتُقصّرُ المرأة منه قدْرَ أنْمُلةٍ).

هذا العمل الثالث من أعمال يوم العيد: الحلق أو التقصير.

لم يذكر جابر الحلق في هذه الرواية، لكن جاء عند أحمد من حديث جابر (

نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق).

وفي حديث أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس).

وهذا يدل على أن السنة أن يكون الحلق بعد النحر (رمي، نحر، حلق).

•‌

‌ والحلق أفضل من التقصير:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ) متفق عليه.

وقد قال تعالي (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون).

فقدم الله عز وجل الحلق علي التقصير، وهذا يدل على أن الحلق أفضل لتقدمه.

ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته) متفق عليه.

وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل.

‌فائدة: 1

وجه كون الحلق أفضل من التقصير.

قال في الفتح: وجه كون الحلق أفضل من التقصير أنه أبلغ في العبادة، وأبين للخضوع والذلة، وأدل على صدق النية، فالذي يقصّر يُبقي على نفسه شيئاً مما يتزين به، بخلاف الحالق، فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى.

وقال النووي: ووجه فضيلة الحلق على التقصير أنه أبلغ في العبادة، وأدل على صدق النية في التذلل لله تعالى، ولأن المقصر مبق على نفسه الشعر الذي هو زينة، والحاج مأمور بترك الزينة، بل هو أشعث أغبر.

ص: 720

‌فائدة: 2

الإنسان مخير بين الحلق والتقصير.

قال ابن قدامة: في قول أكثر أهل العلم.

قال النووي: وذكر الأحاديث في دعائه صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرات، وللمقصرين مرة بعد ذلك، هذا كله تصريح بجواز الاقتصار على

أحد الأمرين إن شاء اقتصر على الحلق، وإن شاء على التقصير، وتصريح بتفضيل الحلق، وقد أجمع العلماء على أن الحلق أفضل من التقصير، وعلى أن التقصير يجزي إلا ما حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري أنه كان يقول: يلزمه الحلق في أول حجة، ولا يجزئه التقصير، وهذا إن صح عنه مردود بالنصوص وإجماع من قبله.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ.

ص: 721

‌فائدة: 3

الحلق أو التقصير في الحج واجب من واجبات الحج في قول جمهور العلماء.

أ-لقوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ).

وجه الدلالة: أنَّ الله تعالى جعل الحلق والتقصير وصفاً للحج والعمرة، والقاعدة أنه إذا عبر بجزءٍ من العبادة عن العبادة، كان دليلاً على وجوبه فيها.

ب- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية). أخرجه البخاري

ج-عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع) أخرجه البخاري ومسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم)، مع كون فعله وقع بياناً لمجمل الكتاب.

‌فائدة: 4

اختلف العلماء: ماذا يفعل من كان أصلع الرأس على أقوال:

‌القول الأول: يجب أن يمر الموسى على رأسه إمراراً.

وبهذا قال الحنفية والمالكية.

واستدلوا على ذلك بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في الأصلع (يمر الموسى على رأسه) وهو أثر لا تقوم به حجة لضعفه.

ص: 722

‌القول الثاني: استحباب إمرار الموسى على الرأس.

وبه قال الشافعية والحنابلة.

واستدلوا بما استدل به أصحاب القول الأول، وبالإجماع.

قال النووي رحمه الله: ونقل ابن المنذر إجماع العلماء على أن الأصلع يمر الموسى على رأسه.

القول الثالث: أنه لا شيء عليه.

وبه قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله، قال: وهذا في الحقيقة لا فائدة له (أي: إمرار الموسى على رأس الأصلع)؛ لأنَّ إمرار الموسى على الشَّعر ليس مقصوداً لذاته حتى يُقال: لمّا تعذَّر أحد الأمرين شُرع الأخذ بالآخر؛ لأن المقصود من إِمرار الموسى إزالة الشَّعر، وهذا لا شعر له، لقوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) وهذا لم يؤته الله شعراً فلا يكلَّف عمل شيء.

‌فائدة: 5

الحلق أفضل من التقصير لعموم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- إلا في حالة واحدة فإن التقصير أفضل، وذلك للمتمتع إذا كان الإنسان متمتعاً بالعمرة إلى الحج، فإن التقصير أفضل لأجل أن يتوفر الشعر للحلق في الحج، ولهذا لمّا قدم النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الرابع من ذي الحجة وأمر أصحابه بالتحلل أمرهم بالتقصير، فقال:(وليقصّر ثم ليُحل).

‌فائدة: 6

اختلف العلماء في أقل المجزئ في حلق الرأس على أقوال:

‌القول الأول: أن أقل ما يجزئ حلق أو تقصير ثلاث شعرات.

وهذا مذهب الشافعية.

قالوا: الشعر جمع، وأقل الجمع ثلاثة.

ص: 723

‌القول الثاني: أن الواجب حلق ربع الرأس.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

واستدلوا بالقياس على قولهم في مسح الرأس في الوضوء، فقد أوجبوا مسح ربع الرأس فأكثر.

‌القول الثالث: أن الحلق أو التقصير لا بد أن يعم جميع الرأس.

وهذا مذهب الإمامين: مالك وأحمد.

أ-لأن الله تعالى قال (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) ومن المعلوم أن الإنسان إذا قصر ثلاث شعرات من جانب الرأس ما أحس الناس أنه مقصّر.

ب-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه تفسيراً منه لمطلق الأمر، فيجب الرجوع إليه، ولأنه نسك تعلق بالرأس، فوجب استيعابه به كالمسح.

‌فائدة: 7

أن المرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة،

فالمشروع للمرأة التقصير دون الحلق.

قال ابن قدامة: لا خلاف في ذلك.

قال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل العلم.

‌فائدة: 8

محل الحلق أو التقصير هو شعر الرأس خاصة دون بقية شعور البدن.

واستحب بعض العلماء ومنهم: المالكية والحنابلة، الأخذ من الشعور المستحب إزالتها أو تخفيفها، كالعانة والشارب وكذلك تقليم الأظافر، وكان ابن عمر يفعله.

ص: 724

‌فائدة: 9

قال البخاري في صحيحه: وزعموا أن الذي حلق النبي صلى الله عليه وسلم معمر بن عبد الله.

قال ابن القيم: وحلق كثير من الصحابة، بل أكثرهم، وقصر بعضهم.

(ثمّ قد حلّ له كلَّ شيءٍ إلا النساءِ).

أي: بعد حلقه يكون قد حل له كل شيء إلا النساء.

‌وقد اختلف العلماء بما يكون التحلل الأول على قولين:

‌القول الأول: برمي جمرة العقبة.

وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، ونصره ابن قدامة.

وهو أحد القولين عن أمير المؤمنين عمر، وأفتى به جمع غفير من الصحابة والتابعين.

فإذا رمى حل له كل شيء إلا النساء.

لما رواه أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) رواه أحمد مرفوعاً، وهذا الحديث مختلف فيه، ورواه البيهقي موقوفاً.

وجاء عن عمر أنه يحل بمجرد الرمي، رواه مالك في الموطأ بسند صحيح.

وثبت هذا عن عائشة قالت (إذا رمى حل له كل شيء إلا النساء، حتى يطوف بالبيت، فإذا طاف بالبيت حل له النساء). إسناده صحيح، رجاله ثقات رواه ابن أبي شيبة في المصنف.

وعن ابن الزبير قال (إذا رميت الجمرة من يوم النحر، فقد حل لك ما وراء النساء). إسناده صحيح، رجاله ثقات. رواه ابن أبي خزيمة في صحيحه.

قال ابن قدامة: وهو الصحيح إن شاء الله.

ص: 725

‌القول الثاني: حصول التحلل الأول بفعل اثنين من الثلاثة:

الرمي، والحلق أو التقصير، والطواف بالبيت.

هذا مذهب الشافعية، والصحيح المشهور في مذهب الحنابلة.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ، إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ حَلَقَ، حَلَّ لَهُ كُلُّ مَا كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ، إلَّا النِّسَاءُ.

هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رحمه الله.

نَصَّ عَلَيْهِ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، فَيَبْقَى مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ مِنْ النِّسَاءِ، مِنْ الْوَطْءِ، وَالْقُبْلَةِ، وَاللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ، وَعَقْدِ النِّكَاحِ، وَيَحِلُّ لَهُ مَا سِوَاهُ.

هَذَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَعَلْقَمَةَ، وَسَالِمٍ، وَطَاوُسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. (المغني).

أ-لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها) متفق عليه.

وجه الدليل من الحديث يتبين من تراجم أهل العلم، وشروحهم له:

فقد ترجم الإمام البخاري له بقوله (باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة).

وترجم له إمام الأئمة ابن خزيمة بقوله (باب إباحة التطيب يوم النحر بعد الحلق، وقبل زيارة البيت ضد قول من زعم أن التطيب محظور حتى يزور البيت).

وترجم الإمام ابن حبان له بقوله (باب ذكر الإباحة للمحرم إذا أراد طواف الزيارة أن يتطيب بمنى قبل إفاضته).

وترجم الإمام الترمذي له بقوله (باب ما جاء في الطيب عند الإحلال، قبل الزيارة

" ثم ساقه.

وقال ابن خزيمة موجها لذلك: " وفي أخبار عائشة (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت) دلالة على أنه إذا رمى الجمرة، وذبح، وحلق، كان حلالا، قبل أن يطوف بالبيت، خلا ما زجر عنه من وطء النساء، الذي لم يختلف العلماء فيه أنه ممنوع من وطء النساء، حتى يطوف طواف الزيارة.

ص: 726

قال الحافظ ابن حجر: فدل ذلك على أن تطييبها له وقع بعد الرمي، وأخذه من حديث الباب من جهة التطيب، فإنه لا يقع إلا بعد التحلل، والتحلل الأول يقع بأمرين من ثلاثة: الرمي، والحلق، والطواف. فلولا أنه حلق بعد أن رمى لم يتطيب.

وقال الشنقيطي في دلالة الحديث على المسألة: " وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق

إلى أن قال: والتحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول؛ لحديث عائشة المتفق عليه، الذي هو صريح بذلك.

قلت: ومما يوضح دلالة الحديث على أن التحلل الأول حصل بالرمي والحلق معاً وجوه:

الأول: أن أعمال الحج التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجته تلك أنه رمى جمرة العقبة، ثم نحر، ثم حلق، ثم طاف بالبيت، كما ثبت ذلك عنه عليه السلام من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ولفظه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونحر، ثم قال للحلاق: " خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس).

وفي رواية (لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة، ونحر نسكه، ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: " احلق " فحلق فأعطاه أبا طلحة، فقال: "اقسمه بين الناس) أخرجه مسلم.

وقد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها التصريح بأنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت، وتقييدها الإحلال بقبلية طواف الزيارة يدل على أن الرمي، والحلق، قد تحقق فعلهما قبل الطواف، وأن الحل حصل بهما.

ص: 727

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويؤخذ ذلك من كونه صلى الله عليه وسلم في حجته رمى، ثم حلق، ثم طاف. فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: " قبل أن يطوف.

وقال زين الدين أبو الفضل العراقي رحمه الله في شرحه للحديث: فيه دليل على إباحة التطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق وقبل طواف الإفاضة، وهو المراد بالطواف هنا. وإنما قلنا: بعد رمي جمرة العقبة والحلق؛ لأنه عليه السلام رتب هذه الأفعال يوم النحر هكذا: فرمى، ثم حلق، ثم طاف.

فلولا أن التطيب كان بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: قبل أن يطوف بالبيت.

وقال النووي: وقولها في الرواية الأخرى (ولحله قبل أن يطوف بالبيت) فيه تصريح بأن التحلل الأول يحصل بعد رمي جمرة العقبة والحلق، قبل الطواف. وهذا متفق عليه

ص: 728

(ثُمَّ يُفِيضُ إِلى مَكَّةَ، فيطوف للزيارة).

هذا العمل الرابع من أعمال يوم العيد: وهو طواف الإفاضة (ثم يسعى إن كان متمتعاً).

ففي حديث جابر (

ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى البَيْت).

وهذا الطواف ركن من أركان الحج بالإجماع قال تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

السنة أن يكون هذا الطواف يوم العيد اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

‌فائدة: 1

يشترط لطواف الإفاضة أن يكون مسبوقاً بوقوف عرفة،

فلو طاف للإفاضة قبل الوقوف فلا يسقط به فرض الطواف.

‌فائدة: 2

اختلف العلماء في بداية وقت الطواف على قولين:

فقيل: أول وقت طواف الإفاضة بعد منتصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبله.

وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.

وقيل: يبدأ من طلوع فجر اليوم الثاني.

وهذا مذهب الحنفية، والمالكية.

والراجح الأول.

‌فائدة: 3

فإن كان متمتعاً أتى بالسعي بعد الطواف،

لأن سعيه الأول كان للعمرة، فالمتمتع عليه طوافين وسعيين، فيطوف طواف العمرة ويسعى، ويطوف طواف الحج ويسعى.

وأما القارن والمفرد: فإن كانا قد سعيا بعد طواف القدوم (وهو أفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يعيدا السعي مرة أخرى، لحديث جابر قال (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين بقوا على إحرامهم

)

فالقارن يكفيه سعي واحد وطواف واحد لعمرته وحجه جميعاً، اذا سعى عند قدومه أجزأ ذلك عن سعي الحج.

ص: 729

فالقارن ليس عليه إلا سعي واحد ويدل لذلك:

أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، ولم يسع بين الصفا والمروة إلى سعياً واحداً فقط بعد طواف القدوم.

روى مسلم عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال (لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلا طَوَافًا وَاحِدًا، طَوَافَهُ الأَوَّل)

قال النووي رحمه الله: (لَمْ يَطُفْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَلا أَصْحَابه) يَعْنِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابه قَارِنًا، فَهَؤُلاءِ لَمْ يَسْعَوْا بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلا مَرَّة وَاحِدَة، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ سَعَى سَعْيَيْنِ، سَعْيًا لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ سَعْيًا آخَر لِحَجِّهِ يَوْم النَّحْر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلالَة ظَاهِرَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ الْقَارِن لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا طَوَاف وَاحِد لِلإِفَاضَةِ وَسَعْي وَاحِد.

ب-وروى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (

فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ (وهم المتمتعون) بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ (وهم القارنون) فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا).

ومرادها رضي الله عنها بالطواف الواحد السعي بين الصفا والمروة، فإن السعي يطلق عليه طواف.

قال ابن القيم: وَفِي الْحَدِيث دَلِيل عَلَى تَعَدُّد السَّعْي عَلَى الْمُتَمَتِّع، فَإِنَّ قَوْلهَا (ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَر بَعْد أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِم) تُرِيد بِهِ الطَّوَاف بَيْن الصَّفَّا وَالْمَرْوَة، وَلِهَذَا نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِنِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد بِهِ الطَّوَاف بِالْبَيْتِ لَكَانَ الْجَمِيع فِيهِ سَوَاء فَإِنَّ طَوَاف الإِفَاضَة لا يَفْتَرِق فِيهِ الْقَارِن وَالْمُتَمَتِّع.

وسئل الشيخ ابن عثيمين: هل يكفي طواف واحد وسعي واحد للقارن؟

فأجاب:

إذا حج الإنسان قارناً فإنه يجزئه طواف الحج، وسعي الحجّ عن العمرة والحج جميعاً، ويكون طواف القدوم طواف سنّة وإن شاء قدم السعي بعد طواف القدوم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن شاء أخره إلى يوم العيد، بعد طواف الإفاضة، ولكن تقديمه أفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يوم العيد فإنه يطوف طواف الإفاضة فقط، ولا يسعى لأنه سعى من قبل، والدليل على أن الطواف والسعي يكفيان للعمرة والحج جميعاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وكانت قارنة (طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجِك وعمرتك) فبيّن النبي عليه السلام أن طواف القارن وسعي القارن يكفي للحج والعمرة جميعاً.

ص: 730

‌فائدة: 4

اختلف العلماء: كم سعي على المتمتع،

هل يكفيه سعي واحد أم لا على قولين:

‌القول الأول: أنه لا يكفيه،

بل عليه سعيان، سعي لعمرته، وسعي لحجته بعد إفاضته من عرفات.

أ- لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث، وفيه فقالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم) رواه البخاري ومسلم.

وقولها رضي الله عنها عن الذين أهلوا بالعمرة - (ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم) تعني به: الطواف بين الصفا والمروة، على أصح الأقوال في تفسير هذا الحديث.

وأما قول من قال: أرادت بذلك طواف الإفاضة، فليس بصحيح؛ لأن طواف الإفاضة ركن في حق الجميع وقد فعلوه، وإنما المراد بذلك: ما يخص المتمتع، وهو الطواف بين الصفا والمروة مرة ثانية بعد الرجوع من منى لتكميل حجه، وذلك واضح بحمد الله، وهو قول أكثر أهل العلم.

ويدل على صحة ذلك أيضاً ما رواه البخاري في الصحيح تعليقاً مجزوماً به، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل عن متعة الحج، فقال: أَهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي)، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال:(من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله)، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة). انتهى المقصود منه، وهو صريح في سعي المتمتع مرتين.

ص: 731

‌القول الثاني: أن المتمتع يكفيه سعي واحد.

وبهذا قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله.

لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافهم الأول) رواه مسلم

قال ابن القيم: من تمسك بهذا الحديث، هذا نص صحيح، صرح فيه جابر بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن، وهو من كان معه الهدي، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي، ففي هذا الحديث الصحيح الدليل على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد.

لكن الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:

الجواب الأول: بحمل حديث جابر هذا على أن المراد بأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يطوفوا إلا طوافاً واحداً للعمرة والحج، خصوص

القارنين منهم، كالنَّبي صلى الله عليه وسلم.

قال النووي: قَوْله: (لَمْ يَطُفْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابه بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَهُوَ طَوَافه الْأَوَّل) يَعْنِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابه قَارِنًا، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْعَوْا بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلَّا مَرَّة وَاحِدَة، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ سَعَى سَعْيَيْنِ، سَعْيًا لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ سَعْيًا آخَر لِحَجِّهِ يَوْم النَّحْر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة ظَاهِرَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ الْقَارِن لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَاف وَاحِد لِلْإِفَاضَةِ وَسَعْي وَاحِد.

الجواب الثاني: أن يقال: إن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه، وقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي، فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة، لأنهما مثبتان على حديث جابر النافي.

ص: 732

الجواب الثالث: أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح ابن عباس، وعائشة، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد.

‌(وأعمال يوم العيد الأفضل ترتيبها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم

-).

أي: أن الأفضل والأكمل ترتيب أعمال يوم العيد فعل النبي صلى الله عليه وسلم:

رمي، ثم نحر، ثم حلق، ثم طواف، ثم سعي.

• فإن أخل بترتيبها ولو متعمداً فلا شيء عليه، وهذا قول جمهور العلماء.

لحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ اَلْعَاصِ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. قَالَ: " اِذْبَحْ وَلَا حَرَجَ " فَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: " اِرْمِ وَلَا حَرَجَ " فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: " اِفْعَلْ وَلَا حَرَجَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فإن أخل بترتيبها ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه.

قال في المغني: وهو قول كثير من أهل العلم.

وإن قدم بعضها على بعض في حق العامد العالم، اختلف العلماء في ذلك:

والصحيح من أقوال أهل العلم، وهو قول الإمام أحمد وجمهور التابعين وفقهاء الحديث أنه يجوز تقديم بعضها على بعض في حق العامد.

مستدلين بأحد طرق هذا الحديث التي رواها البخاري ومسلم عن ابن عمرو (قال السائلون: يا رسول الله، حلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج. وقال آخر: ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج. فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج). ولم يقيده بالناسي والجاهل.

ص: 733

‌فائدة: 1

اختلف العلماء: هل يجوز تقديم سعي الحج على الطواف في يوم النحر؟

ذهب بعض العلماء إلى جواز ذلك.

أ- لحديث أسامة بن شريك قال (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً، وكان الناس يأتونه، فمن قائل يقول: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو أخرت شيئاً أو قدمت شيئاً، فكان يقول: لا حرج لا حرج، إلا رجلٌ اقترض عِرْضَ رجل مسلم وهو ظالم فذاك الذي حرِج وهلك) رواه أبو داود.

ب- ويؤيد ذلك قوله (ما سئل عن شيء في ذلك اليوم قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج).

قال الشيخ ابن عثيمين: لو قدم السعي على الطواف في يوم النحر جاز، خلافاً لأكثر أهل العلم.

وممن صحح حديث (سعيت قبل أن أطوف) ابن خزيمة حيث أورده في صحيحه وابن جماعة حيث قال: إسناده صحيح، وكذا قال النووي كما في المجموع.

وقد حكم بعض العلماء على رواية (سعيت قبل أن أطوف أو أخرت

) بالشذوذ.

قال ابن القيم: وقوله (سعيت قبل أن أطوف) ليس بمحفوظ والمحفوظ تقديم الرمي والنحر والحلق، بعضها على بعض.

وجماهير أهل العلم على عدم جواز تقديم السعي على الطواف، وجعلوا الترتيب بينهما شرطاً.

‌فائدة: 2

قال جابر في - صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ).

وجاء في الصحيحين عن ابن عمر (أنه صلاها بمنى).

عن نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى، قَالَ نَافِعٌ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّى الظُّهْرَ بِمِنًى وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ) متفق عليه.

والجمع: أن يقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، ثم خرج إلى منى فوجد بعض أصحابه لم يصلّ، فصلى بهم إماماً، فتكون صلاته في منى معادة، كما وقع له في بعض حروبه.

ص: 734

قال النووي: وَوَجْه الْجَمْع بَيْنهمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْل الزَّوَال، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْر بِمَكَّة فِي أَوَّل وَقْتهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْر مَرَّة أُخْرَى بِأَصْحَابِهِ حِين سَأَلُوهُ ذَلِكَ، فَيَكُون مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَة الَّتِي بِمِنًى، وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي صَلَاته صلى الله عليه وسلم بِبَطْنِ نَخْل أَحَد أَنْوَاع صَلَاة الْخَوْف فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابه الصَّلَاة بِكَمَالِهَا وَسَلَّمَ بِهِمْ، ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى تِلْكَ الصَّلَاة مَرَّة أُخْرَى، فَكَانَتْ لَهُ صَلَاتَانِ، وَلَهُمْ صَلَاة.

وقال الشوكاني: ويمكن الجمع بأن يقال إنه صلى بمكة ثم رجع إلى منى فوجد أصحابه يصلون الظهر فدخل معهم متنقلاً لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك لمن وجد جماعة يصلون وقد صلى.

وقال الشنقيطي: وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ، كَمَا قَالَ جَابِرٌ وَعَائِشَةُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِطَائِفَةٍ، وَمَرَّةً بِطَائِفَةٍ أُخْرَى فِي بَطْنِ نَخْلٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ سَابِقًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَرَأَى جَابِرٌ وَعَائِشَةُ صَلَاتَهُ فِي مَكَّةَ فَأَخْبَرَا بِمَا رَأَيَا وَقَدْ صَدَقَا. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ صَلَاتَهُ بِهِمْ فِي مِنًى فَأَخْبَرَ بِمَا رَأَى، وَقَدْ صَدَقَ وَهَذَا وَاضِحٌ، وَبِهَذَا الْجَمْعِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِد.

‌فصل

(ثمّ يرجعُ إلى منى، ولا يبيت لياليَها إلا بها).

أي: يرجع الحاج بعد الطواف والسعي إلى منى فيمكث فيها بقية يوم العيد وأيام التشريق ولياليها.

والمبيت بمنى أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ: من واجبات الحج.

وهو قول الجمهور فقد ذهب إليه المالكية، والشافعية، والحنابلة وبه قال الشوكاني.

أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمنى، وقال:(خذوا عني مناسككم).

ص: 735

ب- ولحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رضي الله عنه اِسْتَأْذَنَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفي رواية (رخص).

ووجه الدلالة: أن تخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره من الحجاج.

ج-ورود بعض الآثار عن عمر بن الخطاب وابنه عبدالله وابن عباس رضي الله عنهم بمنع الحجاج من المبيت خارج منى.

‌فائدة: 1

اختلف العلماء في مقدار المبيت المجزئ على ثلاثة أقوال:

‌القول الأول: أن القدر المجزئ هو أن يكون موجوداً بمنى عند طلوع الفجر.

وهو أحد القولين في مذهب الشافعية.

ودليل هذا القول: القياس على المبيت ليلة المزدلفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلتها في حديث عروة بن المضرِّس (من شهد صلاتنا هذه -يعني

صلاة الصبح- ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه).

وقد أجيب عن هذا: أن عروة كان معذوراً في عدم مبيته بمزدلفة.

‌القول الثاني: أنه لا فرق بين المبيت أكثر الليل أو أقله.

وبه قال ابن حزم.

ودليل هذا القول: إن لم يرد دليل على التحديد فلا يصار إلى شيء من ذلك إلا بدليل.

ص: 736

‌القول الثالث: أن المقدار المجزئ هو أكثر الليل.

وهذا مذهب الجمهور من المالكية وهو الأظهر عند الشافعية وهو مذهب الحنابلة.

أ-ومن أدلتهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للضعفة من أهله أن يدفعوا بعد منتصف الليل.

ووجه الدلالة: أن الترخيص للضعفة إنما كان لعذرهم فيدل هذا على أن من عداهم يبقون أكثر الليل.

ب- أن أكثر الشيء يقوم مكانه ممن بات أكثر الليل صار في حكم من بات جميعه.

وهذا القول هو الراجح.

‌فائدة: 2

هل يجوز لأهل الأعذار المبيت خارج منى؟

نعم.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أرخص للعباس أن يبيت بمكة، وأرخص لرعاة الإبل.

وهل يعذر غير هؤلاء؟

قال الشيخ ابن عثيمين: ومثل ذلك في وقتنا الحاضر رجال المرور، والأمن، ومن ذلك الأطباء، فإنه يسمح لهم في ترك المبيت، فكل من يشتغل بمصلحة عامة يعذر في ترك المبيت قياساً على السقاية والرعاية.

‌فائدة: 3

إن كان لمصلحة خاصة،

مثل: مرض أو خوف، أو ضياع مال، هل يرخص له؟

نعم.

قال ابن القيم: وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص لأهل السقاية، وللرعاة في ترك البيتوتة، فمن له مال يخاف ضياعه أو مريض يخاف من تخلفه عنه، أو كان مريضاً لا تُمكنه البيتوتة سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء.

قال في المغني: وأهل الأعذار كالمرض ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم، كالرعاة في ترك البيتوتة.

ص: 737

•‌

‌ الخلاصة:

ترك المبيت بمنى ليال أيام التشريق على تفصيل:

‌الحالة الأولى: إذا كان ترك المبيت بمنى لعذر.

سئل الشيخ ابن باز عن حكم من لم يستطع المبيت في منى أيام التشريق فقال:

لا شيء عليه لقول الله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) سواء كان تركه المبيت لمرض أو عدم وجود مكان أو نحوهما من الأعذار الشرعية كالسقاة والرعاة ومن في حكمهما.

‌الحالة الثانية: إذا ترك المبيت ليال أيام التشريق لغير عذر.

قال الشيخ رحمه الله: من ترك المبيت بمنى أيام التشريق بدون عذر فقد ترك شيئاً شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وبدلالة ترخيصه لبعض أهل الأعذار مثل الرعاة وأهل السقاية. والرخصة لا تكون إلا مقابل العزيمة، ولذلك اعتبر المبيت بمنى أيام التشريق من واجبات الحج في أصح قولي أهل العلم، ومن تركه بدون عذر شرعي فعليه دم، لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (من ترك نسكاً أو نسيه

فليرق دماً) ويكفيه دم واحد عن ترك المبيت أيام التشريق.

تنبيه: المراد بالمبيت: الإقامة بمنى أكثر الليل.

قال الحافظ ابن حجر: ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل.

ص: 738

(فيرمي الجمرات بعد الزوال من أيامِها).

(فَيرمي الجَمْرَةَ الأولى، التي مَسْجِدَ الخِيفِ بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ، وَيَتَأخر قَلِيلاً، ويَدْعُو طَويلاً، ثُمَّ الوُسْطَى مِثْلَهَا، ثُمَّ جَمَرَةَ العَقَبَة، وَيَجْعَلُهَا عَن يَمِيِنِه، وَيَستَبْطِنُ الوَادِي، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا).

هذه صفة الرمي أيام التشريق: أن يرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم يتقدم فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو رافعاً يديه، ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيدعو وهو رافع يديه، ثم يرمي جمرة العقبة فينصرف ولا يقف للدعاء.

عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي اَلْجَمْرَةَ اَلدُّنْيَا، بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ، ثُمَّ يُسْهِلُ، فَيَقُومُ فَيَسْتَقْبِلُ اَلْقِبْلَةَ، فَيَقُومُ طَوِيلاً، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي اَلْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ اَلشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ اَلْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ اَلْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ اَلْوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

‌فائدة: 1

لا يقف للدعاء بعد جمرة العقبة.

وقد علل بعض العلماء بعدم الدعاء بعد جمرة العقبة بعدة علل:

قيل: لضيق المكان في ذلك الوقت.

وقيل: لانتهاء العبادة.

وقيل: لأنها ليست من منى.

قال ابن القيم: فَقِيلَ لِضِيقِ الْمَكَانِ بِالْجَبَلِ، وَقِيلَ وَهُوَ أَصَحّ: إنّ دُعَاءَهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَلَمّا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَرَغَ الرّمْيُ وَالدّعَاءُ فِي صُلْبِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا أَفْضَلُ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا. (وقد تقدمت المسألة).

‌فائدة: 2

لا خلاف في مشروعية الترتيب في رمي الجمرات (الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى)

واختلف العلماء في حكم هذا الترتيب على أقوال:

‌القول الأول: أنه شرط.

وهو قول مالك والشافعي وأحمد.

فلو نسي ورمى العقبة، ثم الوسطى، ثم الأولى، حسبت الأولى فقط، ووجب عليه أن يرمي الثانية والثالثة.

أ- واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها كما جاء في حديث ابن عمر.

ب- وبقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

ص: 739

‌القول الثاني: سنة.

وهو قول أبي حنيفة والحسن وعطاء. واحتجوا:

أن الجمار مناسك متكررة، في أمكنة متفرقة، في وقت واحد، ليس بعضها تابعاً لبعض، فلم يشترط الترتيب بها كالرمي والذبح.

‌القول الثالث: أنه واجب ليس بشرط.

والرأي الأول أحوط.

‌فائدة: 3

يجوز للنائب أن يرمي الجمرة عن نفسه

ثم عن مستنيبه كل جمرة من الجمار الثلاث وهو في موقف واحد، هذا هو القول الصحيح من أقوال العلماء.

وأنه لا يلزم أن يرمي عن نفسه أولاً الثلاث، فيرمي الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، ويرجع مرة أخرى فيرمي مثلما رمى لنفسه رمياً عن غيره.

ص: 740

(يَفْعَلُ هَذَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ)

أي: أن رمي الجمرات أيام التشريق يكون بعد الزوال، فلا يجوز قبله.

وهذا مذهب الجمهور.

قال ابن قدامة: ولا يرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال، فإن رمى قبل الزوال أعاد. نصّ عليه [أي الإمام أحمد]. وروي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وروي عن الحسن، وعطاء، إلا أن إسحاق وأصحاب الرأي، رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال، ولا ينفر إلا بعد الزوال.

وقال النووي: ومذهبنا من الشافعية ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء أنه لا يجوز الرمي في الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال لهذا الحديث الصحيح.

أ- عن جابر قال (رَمَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلْجَمْرَةَ يَوْمَ اَلنَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا زَادَتْ اَلشَّمْسُ) رواه مسلم.

ب-ولحديث ابن عمر قال: (كنا نتحين زوال الشمس، فإذا زالت رمينا) رواه البخاري.

ج-وعن ابن عباس قال: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما زالت الشمس) رواه الترمذي.

‌قال الشيخ ابن عثيمين: ومما يدل على أنه لا يجزئ الرمي قبل الزوال:

لو كان الرمي جائزاً قبل الزوال لفعله النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من فعل العبادة في أول وقتها من وجه، ولما فيه من التيسير على العباد من وجه آخر، ولما فيه من تطويل الوقت من وجه ثالث، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعمد أن يؤخر حتى تزول الشمس مع أنه أشق على الناس، دلّ على أنه قبل الزوال لا يجزئ.

ص: 741

‌القول الثاني: يجوز.

وهو قول عطاء وطاووس.

‌القول الثالث: يجوز قبل الزوال يوم النفر الأول.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

درءاً للمشقة، وتيسيراً للناس.

والأول هو الصحيح.

‌فائدة:

اختلف العلماء في جواز الرمي ليلاً على قولين:

‌القول الأول: الجواز.

وهو قول مالك والشافعي.

لحديث ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج

الحديث وفيه: فسأله رجل: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: لا حرج). رواه البخاري قالوا: واسم المساء يصدق بجزء من الليل.

‌القول الثاني: عدم الجواز.

وهو قول أبي حنيفة وابن المنذر. قالوا في الجواب عن دليل أصحاب القول الأول:

أن مراد السائل بالإمساء: يعني بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل، ودليل ذلك قول ابن عباس في أول الحديث:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر) فبتصريحه بقوله: يوم النحر، يدل على أن السؤال وقع في النهار.

ص: 742

والراجح الأول وهو الجواز. ويدل لذلك:

أن النبي صلى الله عليه وسلم بين بداية الرمي، ولم يبين نهايته، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.

وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن جريج عن ابن سايط قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون حجاجاً فيدعون ظهرهم فيجيئون فيرقون بالليل).

(وَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَينِ خَرجَ قَبْلَ الغُروب، وإِلاَّ لَزِمَه المَبِيتُ والرَّميُ مِن الغَدِ)

المراد باليومين: 11، 12

قال تعالى (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى

).

أي: فمن تعجل في يومين من هذه الأيام الثلاثة (أيام التشريق) فلا بد أن يخرج من منى قبل الغروب.

فإذا غربت الشمس في اليوم الثاني عشر قبل نفره من منى فلا يتعجل حينئذ.

لأن الله قال: (فمن تعجل في يومين

) فقيد التعجيل في اليومين ولم يطلقه، فإذا انتهت اليومان فقد انتهى وقت التعجيل، واليوم ينتهي بغروب شمسه، فيجب عليه أن يبيت بمنى ويرمي من الغد.

‌فائدة: 1

إذا تأخر الحاج إلى الغروب يوم الثاني عشر بغير اختياره، مثل: أن يتأهب للسفر ويشد رحله فيتأخر خروجه من منى بسبب زحام السيارات أو نحو ذلك فإنه ينفر ولا شيء عليه لو غربت عليه الشمس قبل أن يخرج من منى.

‌فائدة: 2

يخطئ بعض الناس في قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه

) حيث ظنوا أن يوم الثاني عشر هو اليوم الحادي عشر وظنوا أن اليوم الأول هو يوم العيد، وليس الأمر كذلك، إنما اليومان هما: الحادي عشر والثاني عشر).

ص: 743

‌فائدة: 3

التأخر أفضل.

لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أكثر عملاً.

(فَإِذَا أرادَ الخُرُوج مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَخْرُج حَتَى يَطُوف لِلوَدَاعِ).

أي: إذا انتهى الحاج من أعمال وأراد الخروج من مكة، فإنه لا يخرج حتى يطوف طواف الوداع.

‌فطواف الوداع للحاج واجب:

أ-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ) متفق عليه.

ووجه الدلالة من وجهين:

الأول: الأمر بطواف الوداع، بقوله (أمِر) وفي رواية لمسلم (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت).

الثاني: أنه قال (خفف عن الحائض) والتخفيف لا يقال إلا في مقابل الإلزام.

قال الحافظ في الفتح: فِيهِ دَلِيل عَلَى وُجُوب طَوَاف الْوَدَاع لِلأَمْرِ الْمُؤَكَّد بِهِ وَلِلتَّعْبِيرِ فِي حَقّ الْحَائِض بِالتَّخْفِيفِ، وَالتَّخْفِيف لا يَكُون إِلا مِنْ أَمْر مُؤَكَّد " انتهى. ونحوه قاله النووي في "شرح مسلم".

ب- ولحديث ابن عباس قال (كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) رواه مسلم.

وجه الدلالة: أن النهي عن النفر قبل طواف الوداع دليل على الوجوب.

قال النووي: وهو الصحيح من مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء، منهم: الحسن البصري، والحكم، وحماد، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق

، وأبو ثور.

ص: 744

‌فائدة: 1

يسقط طواف الوداع عن الحائض.

لقوله (إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ) ففيه دليل على سقوط طواف الوداع عن الحائض.

قال في المغني: هو قول عامة الفقهاء.

قال النووي: هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت.

وهل يسقط عن النفساء أم لا؟ الصحيح نعم، أنه يسقط عن النفساء خلافاً لابن حزم.

‌فائدة: 2

اختلف العلماء في حكم طواف الوداع للمعتمر على قولين:

‌القول الأول: أنه سنة.

وهذا قول جمهور العلماء، وحكاه ابن عبد البر إجماعاً.

أ- أن الصحابة رضي الله عنهم لما حلوا من عمرتهم في حجة الوداع، خرجوا إلى منى وعرفة، ولم يؤمروا بطواف الوداع، ولو كان واجباً لأمروا به.

ب- ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يطف للوداع عند خروجه من مكة بعد عمرة القضاء والجعرانة.

ج-ولأن الأحاديث لم تأت إلا بأمر الحاج به، ففي حديث ابن عمر المخرّج عند ابن خزيمة (أمر الحاج .. ) وكذلك رواية ابن عباس عند الشافعي، فتخصيصه بالحاج يدل على أن المعتمر على خلافه.

وحديث (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) أمر للحجاج بدليل قرينة الحال، لأنه صلى الله عليه وسلم قاله عند الفراغ من الحج إرشاداً للحجاج.

قال الشيخ ابن باز: المعتمر لا وداع عليه في أصح قولي العلماء.

ص: 745

‌القول الثاني: أنه يجب على المعتمر وداع.

وبه قال الثوري.

قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا القول هو الراجح،. . . وقال: طواف الوداع واجب على كلِّ إنسان مغادر مكة وهو حاج أو معتمر، للأدلة التالية:

أ- عموم قوله: (لا ينفر واحد حتى يكون آخر عهده بالبيت).

وهذا شامل (واحدٌ) نكرة في سياق النفي، أو في سياق النهي، فتعم كل من خرج.

ب- أن العمرة كالحج، سماها النبي صلى الله عليه وسلم حجاً أصغر، كما في حديث عمرو بن حزم المشهور الذي تلقته الأمة بالقبول:(والعمرة هي الحج الأصغر).

ج-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليعلى بن أمية (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).

فإذا كنت تصنع طواف الوداع في حجك، فاصنعه في عمرتك، ولا يخرج من ذلك إلا ما أجمع العلماء على خروجه، مثل: الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فإن هذا بالإجماع ليس مشروعاً في العمرة. (انتهى كلام الشيخ)

د- حديث الحارث بن عبد الله بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت) رواه الترمذي، لكنه ضعيف.

والراجح أن طواف الوداع للعمرة سنة.

لكن ينبغي للإنسان أن يفعله خروجاً من الخلاف وأبرأ للذمة. والله أعلم.

ص: 746

‌تنبيه:

أجمع العلماء على أن المعتمر إذا اعتمر ثم خرج مباشرة، أنه لا يجب عليه طواف وداع، كأن يقدم مكة فيطوف ويسعى ويحلق ثم يخرج مباشرة، فهذا لا طواف عليه.

‌فائدة: 3

أهل مكة ليس عليهم أن يطوفوا للوداع؛ لأن الطواف وجب توديعا للبيت، وهذا المعنى لا يوجد في أهل مكة لأنها وطنهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في بيانه أن طواف الوداع ليس من أركان الحج التي لا بد منها: ولهذا لم يكن على أهل مكة طواف قدوم، ولا طواف وداع؛ لانتفاء معنى ذلك في حقهم، فإنهم ليسوا بقادمين إليها ولا مودعين لها ما داموا فيها.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ليس على أهل مكة طواف وداع.

وهذا الأمر يشمل كل من كان داخل حدود الحرم.

قال ابن قدامة: ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي، لا وداع عليه.

لكن إذا أراد شخص من أهل مكة أن يسافر منها بعد أداء المناسك فإنه يلزمه طواف الوداع قبل الخروج من مكة.

قال النووي رحمه الله: قال أصحابنا: من فرغ من مناسكه، وأراد المقام بمكة، ليس عليه طواف الوداع، وهذا لا خلاف فيه، سواء كان من أهلها، أو غريباً، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا كان الرجل من أهل مكة، وحج وسافر بعد الحج، فليطف للوداع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت) مسلم، وهذا عام، فنقول لهذا المكي: ما دمت سافرت في أيام الحج، وقد حججت، فلا تسافر حتى تطوف.

ص: 747

‌فائدة: 4

من ترك طواف الوداع لزمه أن يرجع فيطوف،

فإن شق أو لم يرجع فعليه دم.

لأنه ترك واجباً من واجبات الحج.

أما الحائض فإن طهرت قبل مفارقة بنيان مكة فإنه يلزمها الرجوع، وأما إذا طهرت بعد مفارقة البنيان ولو بيسير، فإنه لا يلزمها أن ترجع. . . . (الشرح الممتع).

(فإنْ أقامَ أو اتّجرَ بعدَه أعاده).

أي: فإن أقام الحاج في مكة بعد طواف الوداع، أو اتجر فإنه يعيده.

قال في المغني: إذا طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة، فعليه إعادته.

وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور.

‌فائدة: 1

رخص العلماء له في الأشياء التي يفعلها وهو عابر وماش، مثلاً يشتري حاجة في طريقه، أو أن ينتظر رفقته متى جاءوا ركب ومشى، ومثله لو تغدى أو تعشى.

‌فائدة: 2

قول بعض الفقهاء: تقف الحائض والنفساء على باب المسجد

، هذا فيه نظر، فقد انعقد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يندب إليه، فلما حاضت صفية قال:(فلتنفر) فقد خفف عنها النبي صلى الله عليه وسلم طواف الوداع، ولم يشرع لها الدعاء عند الباب.

ص: 748

‌فائدة: 3

بعض الناس إذا طاف للوداع ثم انصرف ووصل إلى باب المسجد الحرام اتجه إلى الكعبة وكأنه يودّعها، فيدعو أو يُسلِّم أو ما أشبه ذلك، وهذا من البدع أيضاً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولو كان خيراً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم.

(وَإِنْ أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَة فَطَافَهُ عِنْدَ الخُرُوجِ أَجْزَأ عَن الوَدَاعِ).

أي: إن أخر الحاج طواف الإفاضة فطافه عند الخروج أجزأه عن الوداع.

لأن طواف الوداع ليس مقصودًا لِذاته، وإنما المقصود أن يَكونَ آخِرَ العهدِ بالبيتِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْت.

‌وهذه المسألة لها 3 أحوال:

أن ينوي طواف الإفاضة: فيجزئ.

أن ينويهما جميعاً: فيجزئ أيضاً.

أن ينوي طواف الوداع فقط: فإن ذلك لا يجزئ.

قال البهوتي: وإن أخر طواف الزيارة. . . أو القدوم فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عنهما لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف وقد فعل، ولأن ما شرع مثل تحية المسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه؛ كإجزاء المكتوبة عن تحية المسجد، وكإجزاء المكتوبة أيضاً عن ركعتي الطواف وعن ركعتي الإحرام، فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: وإنما لكل امرئ ما نوى.

ص: 749

(ويستحبُ إذا طافَ أن يقفَ في الملتزمِ بين الركنِ والباب).

الملتزم: ما بين باب الكعبة والحجر الأسود.

قال ابن عباس: الملتزم ما بين الركن والباب.

ومعنى التزامه أي: وضع الداعي صدره ووجهه وذراعيه وكفيه عليه ودعاء الله تعالى بما تيسر له مما يشاء.

والدعاء عند الملتزم: جاء ذلك عن ابن عباس وغيره من السلف.

ولم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْمُوَدِّعُ فِي الْمُلْتَزَمِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَيَلْتَزِمَهُ، وَيُلْصِقَ بِهِ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ، وَيَدْعُوَ اللَّهَ عز وجل.

وقال المرداوي: وإذا فرغ من الوداع، وقف في الملتزم، بين الركن والباب.

ص: 750

‌باب أركان الحج وواجباته.

(الإحرام).

هذا الركن الأول من أركان الحج: وهو نية الدخول في النسك.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).

(والوقوف).

هذا الركن الثاني من أركان الحج: وهو الوقوف بعرفة.

قال ابن عبد البر: أجمع العلماء في كل عصر وبكل مصر - فيما علمت - أنه فرض لا ينوب عنه شيء، وأنه من فاته الوقوف بعرفة في وقته الذي لا بد منه فلا حج له.

وقال النووي: الوقوف بعرفات ركن من أركان الحج، وهو أشهر أركان الحج للأحاديث الصحيحة (الحج عرفة) وأجمع المسلمون على كونه ركن.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة).

ب- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ.

‌فائدة:

أي: ومن واجبات الحج المبيت بمنى ليالي أيام التشريق.

‌متى ينتهي الوقوف بعرفة؟

لا خلاف في أن آخر الوقوف طلوع فجر يوم النحر.

وقال ابن قدامة رحمه الله: ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر.

أ- قال جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جَمْع. [قاله في المغني]

ب- ولحديث عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّس السابق (مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ).

ص: 751

(وطواف الإفاضة).

هذا الركن الثالث من أركان الحج: وهو طواف الإفاضة.

قال ابن قدامة: وهو ركن لا يتم الحج إلا به لا نعلم فيه خلافاً.

قال تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

• السنة أن يكون هذا الطواف يوم العيد اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

(والسعي).

هذا الركن الرابع من أركان الحج: وهو السعي.

وهو ركن عند جمهور العلماء.

أ- لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).

ب- وقال صلى الله عليه وسلم: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي). رواه أحمد

(وواجباته)

أي: الحج.

(اَلْإِحْرَامُ مِنْ اَلْمِيقَاتِ).

فيجب على الحاج أو المعتمر أن يحرم من الميقات، ولا يجوز أن يتجاوزه بغير إحرام إذا أراد الحج أو العمرة.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم: (يهل أهل المدينة

) وهذا خبر بمعنى الأمر.

ب-وقال ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة

). رواه البخاري.

ص: 752

(وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى اَلْغُرُوبِ).

لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لو دفع بالناس قبل الغروب لكان أرفق ومع ذلك وقف إلى الغروب.

ولأن الدفع قبل الغروب فيه مشابهة لأهل الجاهلية لأنهم يدفعون قبل الغروب. [الممتع: 7].

فتأخير النبي صلى الله عليه وسلم الدفع إلى ما بعد غروب الشمس ثم مبادرته به قبل أن يصلي المغرب مع أن وقت المغرب قد دخل، يدل على أنه لا بد من البقاء إلى هذا الوقت، وكأنه عليه السلام ممنوع حتى تغرب الشمس.

(وَالْمَبِيتُ لَيْلَةَ اَلنَّحْرِ بِمُزْدَلِفَة).

فالمبيت بمزدلفة من واجبات الحج، وهذا قول الأكثر.

لقوله تعالى (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ).

وقال صلى الله عليه وسلم (وقفت ههنا وجمْع كلها موقف) رواه مسلم.

وذهب بعض العلماء إلى أن ذلك سنة، وذهب بعضهم إلى أنه ركن، وتقدم ذلك كله.

(والمبيت بمنى أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ).

لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رضي الله عنه اِسْتَأْذَنَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفي رواية (رخص).

فالعباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له، ولو لم يكن واجباً ما احتاج إلى الاستئذان.

(وَرَمْيُ اَلْجِمَارِ).

لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) رواه الترمذي.

لأنه عمل يترتب عليه الحل فكان واجباً ليكون فاصلاً بين الحل والإحرام.

ص: 753

(وَالْحَلْقُ أَوْ اَلتَّقْصِير).

لأن الله جعله وصفاً في الحج والعمرة فقال: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ).

(وطواف الوداع).

عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (أُمِرَ اَلنَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ الْحَائِضِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وفي رواية (لا ينصرفنّ أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت).

(وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ اَلرُّكْنِ فِي اَلْحَجِّ وَتَرْكِ اَلْوَاجِبِ: أَنَّ تَارِكِ الرُّكْنِ لَا يَصِح حَجَّهُ حَتَّى يَفْعَلْهُ عَلَى صِفَتِهِ الشَّرْعِيَةِ، وَتَارِكِ الوَاجِبِ حَجَّهُ صَحِيح وَعَلِيهِ إِثم وَدَم لِتَرْكِهِ).

إذا ترك الحاج ركن من أركان الحج:

فإن كانت الإحرام - وهي النية -لم ينعقد نسكه لحديث (إنما الأعمال بالنيات).

وإن ترك ركناً من أركان الحج - غير النية - لم يتم حجه حتى يأتي به، فإذا كان الركن مما يفوت فالحج لاغ، كما لو ترك الوقوف بعرفة حتى خرج فجر يوم العيد.

فإن ترك واجباً فعليه دم.

عن ابن عباس قال: (من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً). رواه مالك

هذا الدم جبران لا شكران، وعليه فيجب أن يتصدق بجميعه على فقراء الحرم ويذبح في الحرم ويوزع في الحرم. (وهذا ما عليه جماهير العلماء).

(وأركان العمرة: إحرامُ، وطوافٌ، وسعيٌ، وواجباتها: الحلقُ، والإحرام من ميقاتها).

وقد تقدم أدلة ذلك.

ص: 754

‌باب الفوات.

الفوات: أن يفوت الحج، كأن يفوته الوقوف بعرفة، حيث لم يصلها إلا بعد مضي وقتها.

(ومنْ لمْ يقفْ بعرفةَ حتى طلع الفجر يوم النحر، فقد فاتَه الحج).

تقدم أن بداية الوقوف بعرفة - على مذهب الجمهور - يبدأ من زوال الشمس يوم التاسع.

وأما انتهاء وقت الوقوف: فينتهي بطلوع فجر يوم النحر، وهذا بالاتفاق.

أ- لحديث عُرْوَة بْن مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ.

ب - قال جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جَمْع.

قال ابن قدامة: ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر.

وقال النووي: فإذا أحرم بالحج فلم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج بالإجماع.

وقال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ يَنْتَهِي وَقْتُهُ بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ طَلَعَ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ لَمْ يَأْتِ عَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ إِجْمَاعاً.

فمن لم يأت عرفة قبل طلوع فجر يوم النحر، ولو لحظة، ولو ماراً، فاته الحج بإجماع العلماء.

قال النووي رحمه الله في (المجموع): فإذا أحرم بالحج، فلم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج بالإجماع.

ولذلك سمي الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، لأنه بفوته يفوت الحج، وليس هناك ركن من أركان الحج إلا ويمكن تداركه إلا الوقوف بعرفة، ومن ثم قال النبي (الحج عرفة)، بخلاف الطواف لأنه ليس له وقت محدود.

ص: 755

(فيتحلل بطوافٍ وسعيٍ، وينحر هدياً إن كان معه، وعليه القضاء).

هذا بيان ما يلزم من فاته الحج:

أي: يلزم من فاته الحج: أن يتحلل بطواف وسعي - وأن ينحر هدياً - وعليه القضاء.

الأمر الأول: أن يحول هذا الحج إلى عمرة، فيأتي إلى الكعبة ويطوف بالسعي ويقصر.

لأنه ليس بإمكانه إتمام الحج الآن، ولأن الحج عرفة.

لما رواه مالك في الموطأ أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه (خَرَجَ حَاجًّا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالنَّازِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ أَضَلَّ رَوَاحِلَهُ، وَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ، ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ، فَإِذَا أَدْرَكَكَ الْحَجُّ قَابِلًا، فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي) وصحح إسناده النووي رحمه الله.

قال ابن قدامة: أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلَّاقٍ.

هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

ولأنه قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ فَكَانَ إجْمَاعًا.

الأمر الثاني: وجوب الهدي.

وهذا قول جماهير العلماء.

أ- لقول عمر لأبي أيوب رضي الله عنهما (فَإِذَا أَدْرَكَكَ الْحَجُّ قَابِلًا، فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ).

ب- وروى مالك عن نافع عن سليمان بن يسار (أَنَّ هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ جَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْحَرُ هَدْيَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْطَأْنَا الْعِدَّةَ، كُنَّا نَرَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ فَطُفْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، وَانْحَرُوا هَدْيًا، إِنْ كَانَ مَعَكُمْ، ثُمَّ احْلِقُوا أَوْ قَصِّرُوا، وَارْجِعُوا، فَإِذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ فَحُجُّوا وَأَهْدُوا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ).

قال ابن قدامة: الهدي يلزم من فاته الحج في أصح الروايتين. وهو قول من سمينا من الصحابة، والفقهاء، إلا أصحاب الرأي، فإنهم قالوا: لا هدي عليه

، ولنا، حديث عطاء، وإجماع الصحابة

" انتهى.

ص: 756

الأمر الثالث: وجوب القضاء.

من فاته الحج وكان حجه فرضاً، فعليه إعادته بغير خلاف.

قال ابن رشد: لا خلاف أن من فاته الحج بعد أن شرع فيه إما بفوت ركن من أركانه وإما من قبل غلطه في الزمان أو من قبل جهله أو نسيانه أو إتيانه في الحج فعلاً مفسداً له، فإن عليه القضاء إذا كان حجا واجباً. (بداية المجتهد).

وأما من فاته الحج وكان حجه نفلاً، فهل يلزمه إعادته أم لا؟

جماهير العلماء: يلزمه إعادته.

فهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمذهب عند الحنابلة.

قال ابن قدامة: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْفَائِتُ وَاجِبًا، أَوْ تَطَوُّعًا.

رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَرْوَانَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. (المغني).

أ- عن الأسود بن يزيد (أن رجلاً فاته الحج، فأمره عمر بن الخطاب أن يحل بعمرة، وعليه الحج من قابل).

وفي رواية: قال الأسود: مكثت عشرين سنة ثم سألت زيد بن ثابت عن ذلك؟ فقال: مثل قول عمر. رواه البيهقي

ب- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال (من لم يدرك عرفة حتى طلع الفجر فقد فاته الحج، فليأت البيت فليطف به سبعاً، وليطوَّف بين الصفا والمروة سبعاً، ثم ليحلق أو يقصر إن شاء، وإن كان معه هدي فلينحره قبل أن يحلق، فإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو يقصر، ثم ليرجع إلى أهله، فإن أدركه الحج من قابل فليحج إن استطاع، وليهد في حجه، فإن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) رواه البيهقي.

وجه الدلالة من هذه الآثار: أن عمومها يشمل الفرض والنفل.

وذهب الظاهرية إلى أنه لا يلزمه إعادته.

والأول أصح.

ص: 757

‌باب الإحصار

الإحصار في اللغة: المنع.

وفي الشرع: هو منع المحرمين من المضي للحج أو العمرة أو كليهما من جميع الطرق.

قال النووي: ويجوز للمحرم بالعمرة التحلل عند الاحصار بلا خلاف ودليل التحلل واحصار العدو نص القرآن والاحاديث الصحيحة المشهورة في تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وكانوا محرمين بعمرة وإجماع المسلمين على ذلك.

•‌

‌ حكمة مشروعية التحلل عند الإحصار:

شرع الله التحلل لحاجة المحصر إليه، ورفعاً للحرج والضرر عنه، حتى لا يظل محرما إلى أن يندفع عنه المانع من إتمام الحج أو العمرة

قال الشافعي في حكمة مشروعية التحلل: جعل الله على الناس إتمام الحج والعمرة وجعل التحلل للمحصر رخصة.

وقال الكاساني: المحصر محتاج إلى التحلل لأنه منع عن المضي في موجب لإحرام على وجه لا يمكنه الدفع، فلو لم يجز له التحلل لبقي محرماً لا يحل له ما حظره الإحرام إلى أن يزول المانع، فيمضي في موجب الإحرام، وفيه من الضرر والحرج ما لا يخفى، فمست الحاجة إلى التحلل والخروج من الإحرام دفعاً للضرر والحرج، وسواء كان الإحصار عن الحج أو عن العمرة أو عنهما عند عامة العلماء.

(ومن صدّهُ عدوٌ عن البيتِ أهدَى ثم حلّ).

أي: من منِعَ عن الوصول إلى البيت بعدو، فإنه يهدي ثم يحل.

وقد أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره العدو من المشركين وغيرهم فمنعوه الحج ولم يجد طريقاً آمناً يوصله إليه جاز له التحلل من إحرامه.

ص: 758

وإلى هذا ذهب الإمام مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد رحمهم الله جميعاً.

وقد روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأنس.

أ- وذلك لأن الله تعالى قد نص على جواز التحلل عند الحصر بقوله (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي).

ب- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم أحصروا بالحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا.

وسواء كان الإحرام بالعمرة فقط أو بالحج أو بهما معاً لا خلاف فيه بين علماء الأمصار سوى ما نسب إلى ابن سيرين أنه قال: لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة ولا يخشى فواتها.

‌فائدة: 1

والواجب على المحصر: هدي.

لقوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

قال الشنقيطي: هذه الآية نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء

وجمهور العلماء على أن المراد به شاة فما فوقها، وهو مذهب الأئمة الأربعة.

• والمحصر يذبح الهدي في المكان الذي أحصر فيه، سواء كان في الحل أو في الحرم.

وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة (وهو قول أكثر أهل العلم، واختيار ابن باز، وابن عثيمين).

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية حيث أحصر، وهي خارج الحرم.

ب- لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل، لتعذر وصول الهدي إلى محله.

ص: 759

‌تنبيه:

حكم إذا لم يكن مع المحصر هدي:

إذا كان مع المحصر هدي لزمه نحره إجماعاً، واختلف العلماء إذا لم يكن مع المحصر هدي، هل يلزمه شراؤه أو لا على قولين؟

القول الأول: وجوب الهدي عليه، وأنه يلزمه شراؤه.

وهذا قول الجمهور.

القول الثاني: أنه لا هدي على المحصر إن لم يكن ساقه معه قبل الإحصار.

وهذا قول مالك واختيار ابن القيم.

لأن الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ألفاً وأربعمائة، ولم يكن معهم كلهم هدي، بل كان هديهم سبعين بدنة، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالهدي، وإنما أمرهم بالتحلل مطلقاً.

وهذا أرجح.

‌فائدة: 2

ومما يجب على المحصر: الحلق.

وهذا مذهب مالك وأصحابه.

لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه حلق لما صده المشركون عام الحديبية وهو محرم وأمر أصحابه أن يحلقوا.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا حلق عليه ولا تقصير، لأنه لم تذكر الآية.

والأول أصح.

ص: 760

‌فائدة: 3

اختلف العلماء في وجوب القضاء عليه.

(إذا حجه تطوعاً) على قولين:

‌القول الأول: يجب عليه القضاء.

لحديث (من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل).

‌القول الثاني: لا يلزمه القضاء إلا إذا كان الحج الذي أحصر فيه فريضة الإسلام،

أو واجباً بنذر، فإنه يلزمه القضاء السابق.

أ-أن القرآن لم يذكر.

ب-أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبينه.

ج-أن هذا النسك ليس واجب ابتداء، وإنما الواجب إتمامه، وإتمامه معذور بالعجز عنه.

د-وأيضاً الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء أقل من الذين كانوا معه في عمرة الحديبية، فهو لم يأمرهم بالقضاء.

وهذا أرجح.

قال ابن عثيمين: إن كانت هذه الحجة هي الفريضة، أداها فيما بعد بالخطاب الأول لا قضاء، وإن كانت غير الفريضة فإنه لا شيء عليه على القول الراجح.

‌فائدة:

الإحصار يقع في الحج،

ويقع في العمرة أيضاً. والدليل ما يلي:

أ- قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) عقيب قوله عز وجل (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّه) فالمراد أن الإحصار يقع في الحج ويقع في العمرة.

ب- وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم حصروا بالحديبية فحال كفار قريشٍ بينهم وبين البيت وكانوا معتمرين فنحروا هديهم وحلقوا رؤوسهم.

ج- ولأن التحلل بالهدي في الحج لمعنًى هو موجودٌ في العمرة وهو التضرر بامتداد الإحرام.

ص: 761

(ولا إحصار بغيرِ عدو).

أي: أن الإحصار خاص بمن حصره ومنعه العدو فقط.

وهذا لا خلاف فيه: أن المحصر بعدو له التحلل.

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدو من المشركين، أو غيرهم، فمنعوه الوصول إلى البيت، ولم يجد طريقا آمنا، فله التحلل.

وقال ابن تيمية: فالمحصر بعدو له أن يتحلل باتفاق العلماء.

‌لكن وقع الخلاف بين العلماء: هل يقع الإحصار بغير عدو، كمرض، أو ذهاب نفقة، ونحو ذلك على قولين:

‌القول الأول: لا إحصار بغير عدو.

وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهو المشهور من المذهب.

أ- لقوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

وهذه نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية.

ب- ولقول ابن عباس: لا حصر إلا من عدو. أخرجه البيهقي.

وعلى هذا القول: فالمحصر بمرض ونحوه لا يتحلل من إحرامه، بل يبقى محرماً إلى أن يبرأ من مرضه، ثم يكمل النسك، فإن فاته الوقوف تحلل بعمرة.

ص: 762

‌القول الثاني: إلى أن الإحصار يتحقق بكل ما يمنع المحرم من المضي في نسكه،

من عدو، أو مرض، أو ذهاب نفقة ونحو ذلك.

وبهذا قال بعض الصحابة كابن مسعود.

وبه قال مجاهد وعطاء.

وهو قول أبي حنيفة.

ورجح هذا القول ابن تيمية، وابن القيم، وابن عثيمين.

أ- لقوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي).

وجه الدلالة: أنَّ لفظ الإحصار عام يدخل فيه العدو والمرض ونحوه.

ب- ولحديث الْحَجَّاج بْن عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا: صَدَقَ) رواه أبو داود.

وفي لفظ: (مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ أَوْ مَرِضَ).

(أو عَرَجَ) بفتح الراء، أي: أصابه شيء في رجله وليس بخلقة، فإن كان خلقة قيل: عَرِجَ بكسر الراء.

ج- أن المعنى الذي لأجله ثبت حق التحلل للمحصر بالعدو موجود كذلك في المرض.

قال الشيخ عبد العزيز ابن باز: والصواب أن الإحصار يكون بالعدو ويكون بغير العدو فيهدي ويحلق ويقصر ويتحلل هذا هو حكم المحصر يذبح ذبيحة في محله ولو كان خارج الحرم فإن لم يتيسر حوله أحد نقلت إلى فقراء الحرم أو إلى من حوله من الفقراء أو إلى فقراء بعض القرى ثم يحلق أو يقصر ويتحلل.

وقال الشيخ ابن عثيمين: والصحيح في هذه المسألة أنه إذا حصر بغير عدو فكما لو حصر بعدو؛ لعموم قول الله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُم) أي: عن إتمامهما، ولم يقيد الله تعالى الحصر بعدو.

ص: 763

‌فائدة:

الفرق بين الإحصار والفوات:

الإحصار: هو عجز الحاج عن فعل النسك بعد الإحرام بأي سببٍ من الأسباب.

والفوات: هو أن يذهب وقت الوقوف بعرفة، دون أن يدرك الحاج الوقوف بها، سواء كان ذلك بعذر أم بغير عذر.

الفوات يختص بالحج، أما العمرة: فإنها لا تفوت، لأنها غير مؤقتة بوقت.

‌فائدة: 1

يستحب للحاج أذا رمى الجمرات وخرج من منى أن ينزل المحصب، وهو الأبطح.

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى اَلظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى اَلْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

(بِالْمُحَصَّبِ) على وزن محمد، وهو اسم مكان متسع بين جبلين، وهو إلى منى أقرب من مكة، سمي بذلك لكثرة ما به من الحصى.

(بِالْأَبْطَحِ) وهو المحصب. قال النووي: وَ (الْمُحَصَّبُ) بِفَتْحِ الْحَاء وَالصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ (وَالْحَصْبَة) بِفَتْحِ الْحَاء وَإِسْكَان الصَّاد، وَ (الْأَبْطَح) وَالْبَطْحَاء وَخَيْف بَنِي كِنَانَة اِسْم لِشَيْءِ وَاحِد، وَأَصْل الْخَيْف كُلّ مَا اِنْحَدَرَ عَنْ الْجَبَل وَارْتَفَعَ عَنْ الْمِيل.

فنزول المحصب للحاج سنة.

وهو مذهب جمهور العلماء.

ص: 764

قال النووي:. . . فَحَصَل خِلَاف بَيْن الصَّحَابَة رضي الله عنهم. وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور اِسْتِحْبَابه اِقْتِدَاء بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ وَغَيْرهمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يُصَلِّي بِهِ الظُّهْر وَالْعَصْر وَالْمَغْرِب وَالْعِشَاء وَيَبِيتُ بِهِ بَعْض اللَّيْل أَوْ كُلّه اِقْتِدَاء بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال في طرح التثريب: وهو قول الأئمة الأربعة.

أ-لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أنس.

ب- عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِمِنًى (نَحْنُ نَازِلُونَ غَداً بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ إِنَّ قُرَيْشاً وَبَنِي كِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِى بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ) متفق عليه.

فالمحصب والأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة أسماء للموضع الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة يوم النفر قبل أن يودع، وهو موضع بين مكة ومنى.

وهذا يدل على أن نزوله صلى الله عليه وسلم بالمحصب كان قصداً، لهذه المصلحة، شكراً لله تعالى.

قال النووي: قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَكَانَ نُزُوله صلى الله عليه وسلم هُنَا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الظُّهُور بَعْد الِاخْتِفَاء، وَعَلَى إِظْهَار دِين اللَّه تَعَالَى

ج- وعن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا ينزلون الأبطح) رواه مسلم.

د- ولفعل الصحابة، فعن سالم:(أن أبا بكر وعمر وابن عمر كانوا ينزلون بالأبطح).

وذهب بعض العلماء: إلى أنه ليس بسنة.

ص: 765

وهذا مروي عن ابن عباس وعائشة.

أما عائشة (أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ -أَيْ: اَلنُّزُولَ بِالْأَبْطَحِ- وَتَقُولُ: إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلاً أَسْمَحَ لِخُرُوجِه).

وأما ابن عباس فقال (التحصيب ليس بشيء، وإنما منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.

والصحيح الأول.

فإن قيل: ما الجواب عن ما ورد عن عائشة وابن عباس؟

قال الحافظ: والحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك، فلا يلزم بتركه دم، ومن أثبته كابن عمر أراد

دخوله في عموم التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم لا الإلزام بذلك.

‌فائدة: 2

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَلَمَّا فَتَحُوا: كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ. فَلَقِيتُ بِلالاً، فَسَأَلَتْهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ) متفق عليه.

قوله (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ) كان ذلك في عام الفتح كما وقع مبيّناً من رواية يونس بن يزيد عن نافع عن ابن عمر عند البخاري بزيادة فوائد. ولفظه: أقبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من أعلى مكّة على راحلته.

فهذا الدخول كان في عام الفتح لا في حجة الوداع، كما في رواية: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح

).

ص: 766

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن دخول الكعبة من سنن الحج، وهذا غلط.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت في الحج.

وقد قال ابن عباس: (يا أيها الناس، إن دخولكم البيت ليس في حجكم من شيء) رواه ابن أبي شيبة.

وجاء عند البخاري تعليقاً (وكان ابن عمر يحج كثيراً ولا يدخل).

قال الحافظ ابن حجر: كأنه - أي البخاري - أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم أن دخولها من مناسك الحج، واقتصر المصنف - أي البخاري - على الاحتجاج بفعل ابن عمر لأنه أشهر من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة، فلو كان دخولها من المناسك لما أخل به مع كثرة اتباعه.

‌فائدة: 3

الجمع بين حديث ابن عمر السابق الدال على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، وحديث ابن عباس الدال على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة.

ولفظ حديث ابن عباس عند مسلم: قال رضي الله عنه: أخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ فِي قُبُلِ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ «هَذِهِ الْقِبْلَةُ». قُلْتُ لَهُ: مَا نَوَاحِيهَا أَفِي زَوَايَاهَا؟ قَالَ: بَلْ فِي كُلِّ قِبْلَةٍ مِنَ الْبَيْتِ).

فقيل: أن تحمل الأحاديث على دخولين مختلفين، صلى في أحدهما في البيت، ولم يصل في الآخر.

وهذا مسلك ابن حبان.

وقيل: تحمل الصلاة المثبتة في حديث ابن عمر عن بلال على الصلاة اللغوية وهي الدعاء، والصلاة المنفية في حديث ابن عباس عن أسامة الصلاة الشرعية ذات الركوع والسجود.

وهذا المسلك مردود بما تقدم أنه جاء في بعض طرق حديث ابن عمر أنه قال (ونسيت أن أسأله كم صلى).

وقيل: يحمل إثبات بلال على صلاة التطوع، ونفي أسامة على صلاة الفرض.

وهذا ضعيف.

ص: 767

وقيل: بترجيح حديث ابن عمر الدال على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة على حديث أسامة الدال على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة.

وهذا مسلك أكثر العلماء، إليه ذهب أبو حنيفة، والثوري، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وابن خزيمة، وابن المنذر، واختاره ابن عبد البر.

وسبب الترجيح: أن بلالاً أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ونفاها أسامة، وإذا تعارض الإثبات والنفي قدم قول المثبت، لأن معه زيادة علم، لا سيما إذا تساويا في العدالة والإتقان كما هاهنا.

قال النووي: وَأَجْمَع أَهْل الْحَدِيث عَلَى الْأَخْذ بِرِوَايَةِ بِلَال، لِأَنَّهُ مُثْبَت، فَمَعَهُ زِيَادَة عِلْم فَوَاجِب تَرْجِيحه، وَالْمُرَاد الصَّلَاة الْمَعْهُودَة ذَات

الرُّكُوع، وَالسُّجُود، وَلِهَذَا قَالَ اِبْن عُمَر: وَنَسِيت أَنْ أَسْأَلهُ: كَمْ صَلَّى؟ وَأَمَّا نَفْي أُسَامَة فَسَبَبه أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْكَعْبَة أَغْلَقُوا الْبَاب، وَاشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ، فَرَأَى أُسَامَة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو، ثُمَّ اِشْتَغَلَ أُسَامَة بِالدُّعَاءِ فِي نَاحِيَة مِنْ نَوَاحِي الْبَيْت، وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي نَاحِيَة أُخْرَى، وَبِلَال قَرِيب مِنْهُ، ثُمَّ صَلَّى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَرَآهُ بِلَال لِقُرْبِهِ، وَلَمْ يَرَهُ أُسَامَة لِبُعْدِهِ وَاشْتِغَاله، وَكَانَتْ صَلَاة خَفِيفَة فَلَمْ يَرَهَا أُسَامَة لِإِغْلَاقِ الْبَاب مَعَ بُعْده وَاشْتِغَاله بِالدُّعَاءِ، وَجَازَ لَهُ نَفْيهَا عَمَلًا بِظَنِّهِ، وَأَمَّا بِلَال فَحُقِّقَهَا فَأَخْبَرَ بِهَا.

ص: 768

‌باب الأضحية

الأضحية: ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد تقرباً إلى الله.

سميت بذلك: لأنها تذبح ضُحًى بعد صلاة العيد.

‌الحكمة من مشروعيتها:

أولاً: تعظيم الله بذبح الأضاحي تقرباً إليه. (اراقة الدماء بنية الأضحية هذا من تعظيم الله).

ثانياً: إظهار شعائر الله تعالى.

ثالثاً: التوسعة على الأهل والفقراء والإهداء للجيران والأقرباء.

جاء في (الموسوعة الفقهية) أَمَّا حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا، فَهِيَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَإِحْيَاءُ سُنَّةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيل عليه الصلاة والسلام حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ بِذَبْحِ الْفِدَاءِ عَنْ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيل عليه الصلاة والسلام فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ صَبْرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل عليهما السلام وَإِيثَارَهُمَا طَاعَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَالْوَلَدِ كَانَا سَبَبَ الْفِدَاءِ وَرَفْعَ الْبَلَاءِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ ذَلِكَ اقْتَدَى بِهِمَا فِي الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عز وجل عَلَى هَوَى النَّفْسِ وَشَهْوَتِهَا.

(وهي سنة مؤكدةٌ).

أي: أن حكم الأضحية سنة مؤكدة.

والأضحية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي من شعائر الدين.

قال تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ).

قال ابن كثير: الصحيح أن المراد بالنحر ذبح المناسك، وهو ذبح البدن ونحوها.

وقال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) المنسك المراد به هنا هو الذبح الذي يتقرب به إلى الله تعالى.

ص: 769

وقد ذكر ابن كثير عند هذه الآية أن هذه الآية تدل على أن ذبح المناسك مشروعة في جميع الملل.

وأما السنة:

فالأحاديث كثيرة وسيأتي بعضها في الشرح ومنها:

أ- عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، أَقْرَنَيْنِ، وَيُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ، وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا) وَفِي لَفْظٍ (ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، وَيَقُولُ (بِسْمِ اَللَّهِ. وَاَللَّهُ أَكْبَرُ).

ب- وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ; لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ: "اِشْحَذِي اَلْمُدْيَةَ، ثُمَّ أَخَذَهَا، فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، وَقَالَ: بِسْمِ اَللَّهِ، اَللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمّةِ مُحَمَّدٍ) رواه مسلم.

ج- وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، رضي الله عنهما، قَالَ (خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا نُسُكَ لَه) متفق عليه.

وأجمع المسلمون على مشروعيتها.

قال ابن قدامة: أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية.

وقال ابن دقيق العيد: لا خلاف أن الأضحية من شعائر الدين.

قال ابن القيم: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الأضحية.

وقال ابن حجر: ولا خلاف في كونها من شرائع الدين.

ص: 770

•‌

‌ واختلف العلماء في وجوبها - بعد إجماعهم على مشروعيتها - على قولين:

‌القول الأول: أنها واجبة.

وهذا مذهب أبي حنيفة واختيار ابن تيمية رحمه الله.

أ- لقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالنحر، والأمر يفيد الوجوب.

ب- ولحديث أبي هريرة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) رواه أحمد وابن ماجه. صححه الحاكم وحسنه الألباني، وروي موقوفاً على أبي هريرة، ورجحه الترمذي والطحاوي والبيهقي وابن عبد الهادي والحافظ ابن حجر في الفتح

وجه الدلالة: أنه قد خرج مخرج الوعيد على ترك الأضحية، والوعيد إنما يكون على ترك الواجب، مما يدل على أن الأضحية واجبة.

ج- ولحديث جندب قال: قال صلى الله عليه وسلم (من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن يذبح فليذبح على اسم الله) متفق عليه، فلو لم تكن الأضحية واجبة لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الذبح لمن ذبح قبل الصلاة.

‌القول الثاني: أنها غير واجبة.

وهذا مذهب الجمهور. [وقد قال كثير من أصحاب القول يقولون: يكره للقادر تركها].

أ- لحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ شيئاً من شعره وأظفاره). رواه مسلم

ص: 771

قال الإمام الشافعي: هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم (وأراد)، فجعله مفوضاً إلى إرادته ولو كان واجباً لقال صلى الله عليه وسلم (فلا يمس من شعره وبشره حتى يضحي).

وقال ابن قدامة: علقه على الإرادة، والواجب لا يعلق على الإرادة، فلو كانت واجبة لاقتصر على قوله: إذا دخل العشر فلا يمس من شعره وبشره شيئاً.

ب- وعن جابر رضي الله عنهم قال (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى فلما انصرف أتي بكبش فذبحه و قال: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)

فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن أمته فهي تجزئ عمن تمكن منها ومن لم يتمكن منها.

ج- ما أخرجه البيهقي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أنهما كانا لا يضحيان السنة والسنتين مخافة أن يرى ذلك واجباً، مما يدل على أنهما لم يكونا يريان الوجوب.

والراجح مذهب الجمهور.

‌وأما أدلة أصحاب القول الأول:

أما الآية فهي محتملة لوجوب النحر يوم العيد، وتحتمل معنى آخر كوضع اليدين عند النحر في الصلاة، ولو سلم أن المقصود بالنحر الذبح فالآية تدل على وقت النحر لا وجوبه.

وقيل: المراد بالآية تخصيص الرب سبحانه وتعالى بالنحر له لا لغيره.

وأما الحديث، فقال عنه ابن قدامة: ضعفه أصحاب الحديث، ولو صح فيحمل على تأكيد الاستحباب كقوله صلى الله عليه وسلم (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).

أما الحديث الآخر فلا يدل على وجوب الأضحية ابتداء، بل يدل على وجوب الأضحية إذا نوى أن يضحي وذبح قبل الصلاة فقد انقلب التطوع إلى فرض.

ص: 772

فبهذا يظهر رجحان مذهب الجمهور.

‌فائدة:

تجب الأضحية بالنذر.

جاء في (الموسوعة الفقهية) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَذْرَ التَّضْحِيَةِ يُوجِبُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّاذِرُ غَنِيًّا أَمْ فَقِيرًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا لِمُعَيَّنَةٍ نَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا فِي الذِّمَّةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لِمَضْمُونَةٍ، كَأَنْ يَقُول: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ، أَوْ يَقُول: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِشَاةٍ. فَمَنْ نَذَرَ التَّضْحِيَةَ بِمُعَيَّنَةٍ لَزِمَهُ التَّضْحِيَةُ بِهَا فِي الوقت.

‌فائدة: 2

ليس من شرط الأضحية الذكورية.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وليست الذكورة من شروط الوجوب ولا السنية، فكما تجب على الذكور تجب على الإناث، لأن أدلة الوجوب أو السنية شاملة للجميع.

‌فائدة: 3

يشترط لوجوب الأضحية أو سنيتها:

غنى المضحي، بأن يكون ثمن الأضحية فاضلاً عن كفايته وكفاية من ينفق عليهم.

ودل على اشتراط الغنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان له سَعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) رواه ابن ماجه.

والسعة هي الغنى.

ص: 773

(والتضحيةُ أفضلُ من الصدقةِ بثمنِها).

أي: أن ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها.

وهذا مذهب جماهير العلماء، لأمور:

‌أولاً: أن إراقة الدم والذبح عبادة مقصودة،

فإخراج القيمة فيه تعطيل لهذه الحكمة العظيمة.

‌ثانياً: أن الأضحية سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل المسلمين إلى يومنا هذا،

ولم ينقل أن أحداً منهم أخرج القيمة.

‌ثالثاً: اقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام

-.

قال الحافظ ابن عبد البر: الضحية عندنا أفضل من الصدقة. وذكر أن هذا هو الصحيح من مذهب مالك وأصحابه.

قال ابن قدامة: وَالْأُضْحِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِقِيمَتِهَا.

نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ.

وَرُوِيَ عَنْ بِلَالٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أُضَحِّيَ إلَّا بِدِيكٍ، وَلَأَنْ أَضَعَهُ فِي يَتِيمٍ قَدْ تَرِبَ فُوهُ، فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ.

وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى وَالْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ، لَعَدَلُوا إلَيْهَا.

وَلِأَنَّ إيثَارَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ يُفْضِي إلَى تَرْكِ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام النووي: مذهبنا أن الأضحية أفضل من صدقة التطوع، للأحاديث الصحيحة المشهورة في فضل الأضحية، ولأنها مختلف في وجوبها، بخلاف صدقة التطوع، ولأن الأضحية شعار ظاهر.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، فإذا كان معه مال يريد التقرب إلى الله كان له أن يضحي به، والأكل من الأضحية أفضل من الصدقة. انتهى.

ص: 774

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان حريصا على الأضحية، حتى إنه ضحى، لما أدركه الأضحى في سفره.

روى مسلم عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِيَّتَهُ، ثُمَّ قَالَ:(يَا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ)، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ

قال النووي: فِيهِ أَنَّ الضَّحِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُسَافِرِ، كَمَا هِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُقِيمِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ " انتهى.

وهذا دليل على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الأضحية.

(أَفْضَلُهَا: إِبلٌ، ثُمَّ بَقرٌ، ثُمَّ غَنَمٌ).

أي: الأفضل في الأضحية أن تكون من الإبل، ثم من البقر، ثم من الغنم.

هذا هو الشرط الأول من شروط الأضحية: أن تكون من بهيمة الأنعام.

لقوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَام).

قال القرطبي: والأنعام هنا هي الإبل والبقر والغنم.

ولم تنقل الأضحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير بهيمة الأنعام.

قال ابن رشد: أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع بهيمة الأنعام، واختلفوا في الأفضل من ذلك.

وقال النووي: فشرط المجزئ في الأضحية أن يكون من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم.

• قوله (أَفْضَلُهَا: إِبلٌ، ثُمَّ بَقرٌ، ثُمَّ غَنَمٌ).

وهذا قول الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وبه قال بعض المالكية.

قال ابن قُدامة: وأفضل الأضاحي البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، ثم شرك فِي بقرة، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، والشافعي.

أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً

) متفق عليه.

قال النووي: وفيه أن التضحية بالإبل أفضل من البقرة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدَّمَ الإبل، وجعلَ البقرة في الدرجة الثانية.

ب- قال ابن قدامة: ولأنه ذبح يتقرب به إلى الله تعالى، فكانت البدنةُ فيه أفضل، كالهدي فإنه قد سلَّمَه.

ج- ولأنها أكثر ثمناً ولحماً وأنفع.

ص: 775

القول الثاني: أن الأفضل الجذع من الضأن.

وهذا قول مالك.

لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بكبشين، ولا يفعل إلا الأفضل، ولو علم الله خيراً منه، لَفَدَى إسحاق به.

قال ابن دقيق العيد: وقد يستدل للمالكية باختيار النبي صلى الله عليه وسلم في الأضاحي للغنم، وباختيار الله تعالى في فداء الذبيح.

والراجح الأول.

‌فائدة: 1

الأفضل في لونها: البياض.

قال الإمام النووي: أفضلها، البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء، وهي التي لا يصفو بياضها ثم البلقاء، وهي التي بعضها أبيض وبعضها أسود ثم السوداء.

وقال ابن قدامة: والأفضل في الأضحية من الغنم في لونها البياض.

للحديث السابق (بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ).

قال الحافظ ابن حجر: الأملح: هو الذي فيه سواد وبياض والبياض أكثر، ويقال هو الأغبر وهو قول الأصمعي.

وزاد الخطابي: هو الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات سود. ويقال الأبيض الخالص قاله ابن الأعرابي، وبه تمسك الشافعية في تفضيل الأبيض في الأضحية.

‌فائدة: 2

هل الأفضل في الأضحية السمينة أو من هي أكثر ثمناً؟

رجح ابن تيمية الثاني.

‌فائدة: 3

أيهما أفضل التضحية بواحدة غالية الثمن، أو بأعداد لكنها رخيصة الثمن؟

الجواب: غالية الثمن أفضل، ورجحه ابن تيمية.

ص: 776

‌فائدة: 4

أن الذكَر في الأضحية أفضل من الأنثى،

لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، ولأن لحمه أطيب، مع جواز التضحية بالأنثى بالإجماع.

(ولا يُجزئُ إلا الجّذعُ من الضأنِ، وهو ما كَمُلَ له ستةُ أشهرٍ، والثّنيّ مما سواه، وثَنيُّ الإبلِ ما كمل له خمسَ سنين، ومنَ البقرِ ما له سنتان، ومن المعزِ: ما له سنةٌ).

هذا هو الشرط الثاني من شروط الأضحية: أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً.

بأن يكون ثنياً إن كان من الإبل أو البقر أو المعز، وجذعاً إن كان من الضأن.

عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ اَلضَّأْنِ) رَوَاهُ مُسْلِم.

o الثني من الإبل: ما تم له خمس سنين.

o الثني من البقر: ما تم له سنتان.

o الثني من الغنم: ما تم له سنة.

o الجذع: ما تم له ستة أشهر.

جاء في (الموسوعة الفقهية) في ذكر شروط الأضحية: الشرط الثاني: أن تبلغ سن التضحية، بأن تكون ثنية أو فوق الثنية من الإبل والبقر والمعز، وجذعة أو فوق الجذعة من الضأن، فلا تجزئ التضحية بما دون الثنية من غير الضأن، ولا بما دون الجذعة من الضأن. . . وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء، ولكنهم اختلفوا في تفسير الثنية والجذعة " انتهى.

ص: 777

قال النووي: أجمعت الأمة على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني، ولا من الضأن إلا الجذع، وأنه يجزئ هذه المذكورات إلا ما حكاه بعض أصحابنا ابن عمر والزهري أنه قال: لا يجزئ الجذع من الضأن. وعن عطاء والأوزاعي أنه يجزئ الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن. (المجموع).

ونقل ابن قدامة عن أئمة اللغة: إذا مضت الخامسة على البعير ودخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني

وأما البقرة فهي التي لها سنتان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تذبحوا إلا مسنة) ومسنة البقر التي لها سنتان.

وقال النووي: قال العلماء المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال وهذا مجمع عليه. (شرح مسلم).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في (أحكام الأضحية) فالثني من الإبل: ما تم له خمس سنين، والثني من البقر: ما تم له سنتان. والثني من الغنم: ما تم له سنة، والجذع: ما تم له نصف سنة، فلا تصح التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز، ولا بما دون الجذع من الضأن " انتهى

‌فائدة:

هل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (. . . إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ اَلضَّأْنِ) على ظاهره؟

ظاهر الحديث أنه لا يجوز التضحية بالجذع من الضأن إلا إذا عسُر على المضحي وجود المسنة، لكن الجمهور أن هذا الحديث على الاستحباب.

قال النووي: وَأَمَّا الْجَذَع مِنْ الضَّأْن فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة يُجْزِي سَوَاء وَجَدَ غَيْره أَمْ لَا، وَحَكَوْا عَنْ اِبْن عُمَر وَالزُّهْرِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُجْزِي، وَقَدْ يُحْتَجّ لَهُمَا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث.

ص: 778

قَالَ الْجُمْهُور: هَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالْأَفْضَل، وَتَقْدِيره يُسْتَحَبّ لَكُمْ أَلَّا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّة فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَجَذَعَة ضَأْن، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِمَنْعِ جَذَعَة الضَّأْن، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِي بِحَالٍ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِره؛ لِأَنَّ الْجُمْهُور يُجَوِّزُونَ الْجَذَع مِنْ الضَّأْن مَعَ وُجُود غَيْره وَعَدَمه، وَابْن عُمَر وَالزُّهْرِيّ يَمْنَعَانِهِ مَعَ وُجُود غَيْره وَعَدَمه، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل الْحَدِيث عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحْبَاب.

وَاللَّهُ أَعْلَم. (نووي).

وقال الحافظ في (التلخيص) ظاهر الحديث يقتضي أن الجذع من الضأن لا يجزئ إلا إذا عجز عن المسنة، والإجماع على خلافه، فيجب تأويله بأن يحمل على الأفضل، وتقديره: المستحب ألا يذبحوا إلا مسنة " انتهى.

وقال في "عون المعبود: هذا التَّأْوِيل هُوَ الْمُتَعَيِّن.

ويدل على جواز الجذع من الضأن ولو مع وجود الثنية:

أ-عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِي جَذَعَةٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَارَتْ لِي جَذَعَةٌ، فَقَالَ: ضَحِّ بِهَا) متفق عليه.

ب-وعنه صلى الله عليه وسلم قال (ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِجِذَعٍ مِنْ الضَّأْن) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، قَالَ الْحَافِظ سَنَده قَوِي.

ج- وعَنِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ (كُنَّا فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ الأَضْحَى، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَشْتَرِي الْمُسِنَّةَ بِالْجَذَعَتَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ لَنَا رَجُلٌ، مِنْ مُزَيْنَةَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ هَذَا الْيَوْمُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْمُسِنَّةَ بِالْجَذَعَتَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْجَذَعَ يُوفِي مِمَّا يُوفِي مِنْهُ الثَّنِيُّ) رواه أبو داود.

ص: 779

(وَتُجْزِئُ الشَّاةُ عَن وَاحِدٍ)

أي: تجزئ الشاة الواحدة عن الشخص وعن أهل بيته. (من حيث الثواب).

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، وعنده تسع نسوة.

أ- ففي حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ; لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ: "اِشْحَذِي اَلْمُدْيَةَ، ثُمَّ أَخَذَهَا، فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، وَقَالَ: بِسْمِ اَللَّهِ، اَللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمّةِ مُحَمَّدٍ).

فهذا يدل على أن الأضحية بالشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته.

قال النووي: واستدل بهذا من جوَّز تضحية الرجل عنه وعن أهل بيته واشتراكهم معه في الثواب، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور.

وقال الخطابي: وفي قوله (تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا، وروي عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد.

ب- وعن أبي رافع رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أحدهما عنه وعن آل محمد والآخر عن أمة محمد).

ج- وعن أبي أيوب قال (كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون). رواه ابن ماجه

ص: 780

قال النووي: هذا حديث صحيح. والصحيح أن هذه الصيغة تقتضي أنه حديث مرفوع.

قال ابن القيم: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الشاة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته ولو كثر عددهم، ثم ذكر حديث أبي أيوب السابق.

وقال الشوكاني: قوله (يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته) فيه دليل على أن الشاة تجزئ عن أهل البيت، لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم والظاهر اطلاعه فلا ينكر عليهم

والحق أنها تجزئ عن أهل البيت، وإن كانوا مئة نفس أو أكثر كما قضت بذلك السنة.

‌فائدة:

لو كان عنده أكثر من بيت كما لو كان له زوجتان أو ثلاث وعنده بيوت متعددة فإن ظاهر السنة أنه يكتفي بشاة واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده تسعة أبيات ومع ذلك لم يعدد النبي صلى الله عليه وسلم الأضحية.

(والبَدَنَةُ والبَقَرَة عَنْ سَبْعَةٍ).

أي: عن سبع شياه.

فلو اشترك ثمانية في بعير، فإن هذا لا يجوز.

عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (نَحَرْنَا مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ اَلْحُدَيْبِيَةِ: اَلْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ) رَوَاهُ مُسْلِم.

ففي هذا الحديث: جواز الاشتراك في البدنة والبقرة وأنهما يجزيان عن سبعة أشخاص.

وروى أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْجَزُورُ - أي: البعير - عَنْ سَبْعَةٍ).

ص: 781

قال النووي: فِي هَذِهِ الأَحَادِيث دَلالَة لِجَوَازِ الِاشْتِرَاك فِي الْهَدْي، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّاة لا يَجُوز الاشْتِرَاك فِيهَا. وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيث أَنَّ الْبَدَنَة تُجْزِئ عَنْ سَبْعَة، وَالْبَقَرَة عَنْ سَبْعَة، وَتَقُوم كُلّ وَاحِدَة مَقَام سَبْع شِيَاه، حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى الْمُحْرِم سَبْعَة دِمَاء بِغَيْرِ جَزَاء الصَّيْد، وَذَبَحَ عَنْهَا بَدَنَة أَوْ بَقَرَة أَجْزَأَهُ عَنْ الْجَمِيع. (شرح مسلم).

وقال ابن قدامة: وهذا قول أكثر أهل العلم.

روي ذلك عن علي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء، وطاووس، وسالم، والحسن وعمرو بن دينار، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.

(وَلَا تُجزئُ العَوْرَاءُ البيّن عورُها، ولا العَجْفَاءُ التي لا تُنقي، ولا العَرْجَاءُ البيّن ظلَعُها)

هذا هو الشرط الثالث من شروط الأضحية: أن تكون الأضحية سالمة من العيوب.

‌والعيوب تنقسم إلى قسمين:

عيوب غير مجزئة - وعيوب مجزئة لكنها مكروهة.

العيوب الغير المجزئة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء.

عَنِ اَلْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي اَلضَّحَايَا: اَلْعَوْرَاءُ اَلْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ اَلْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ اَلْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ اَلَّتِي لَا تُنْقِي) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ. وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّان.

(اَلْعَوْرَاءُ اَلْبَيِّنُ عَوَرُهَا) وهي التي انخسفت عينها أو برزت.

(وَالْمَرِيضَةُ اَلْبَيِّنُ مَرَضُهَا) هي التي ظهر عليها آثار المرض، مثل: الحمى التي تقعدها عن المرعى، والجرب الظاهر المفسد للحمها، أو المؤثر على صحتها.

ص: 782

(إن كان فيها فتور أو كسل يمنعها من المرعى والأكل، أجزأت لكن السلامة منها أولى).

(وَالْعَرْجَاءُ اَلْبَيِّنُ ظَلْعُهَا) وهي التي لا تستطيع معانقة السليمة في المشي.

(فإن كان فيها عرج يسير لا يمنعها من معانقة السليمة أجزأت والسلامة منها أولى).

(وَالْكَسِيرَةُ اَلَّتِي لَا تُنْقِي) يعني الهزيلة التي لا مخ فيها.

(فإن كانت هزيلة فيها مخ أو كسيرة فيها مخ أجزأت).

هذه الأربع المنصوص عليها وعليها أهل العلم.

قال في المغني: لا نعلم خلافاً في أنها تمنع الإجزاء.

وقال ابن عبد البر: أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث فمجتمع عليها لا أعلم خلافاً بين العلماء فيها، ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز فالعمياء أحرى ألا تجوز، وإذا لم تجز العرجاء فالمقطوعة الرجل أو التي لا رجل لها المقعدة أحرى ألا تجوز، وهذا كله واضح لا خلاف فيه.

‌فائدة: 1

ويلحق بهذه الأربع ما كان في معناها أو أولى:

العمياء: فهي أولى بعدم الإجزاء من العوراء البين عورها.

الزمنى: وهي العاجزة عن المشي لعاهة، لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين عرجها.

مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين: لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين عرجها.

‌فائدة: 2

ما حكم لو طرأ على الذبيحة عيب مخل بها بعد تعيينها أضحية؟

ص: 783

‌اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأول: يذبحها وتجزئ.

نقل هذا القول عن عطاء، والحسن، والنخعي، والزهري، والثوري، والشافعي، وأحمد، واسحق.

‌القول الثاني: لا تجزؤه، ولا بد أن يذبح بدلها.

وهو قول الحنفية، والمالكية.

‌فائدة: 3

من فوائد الحديث:

أن العوراء الذي لا يبين عورها تجزئ، وأن المريضة التي مرضها خفيف تجزئ.

(وتجزئُ البَتْرَاء خِلقَةً).

الأبتر مقطوع الذنب.

أي: يجوز الأضحية بالتي ليس لها ذنب خلقة. (يعني خلقت بلا ذنب).

وأما لو قطع ذنبها فإنها لا تجزئ.

واختار الشيخ ابن عثيمين جواز الأمرين.

(والجَمّاءُ).

أي: ويجزئ الأضحية بالجماء، وهي التي لم يخلق لها قرن أصلاً.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى إِجْزَاءِ الْجَمَّاءِ.

لكن الأفضل التضحية بذات قرن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أقرنين.

(والخَصِيّ).

أي: ويجزئ التضحية بالخصي. (وهو مقطوع الخصيتين).

قال الشيخ ابن عثيمين: يجوز الأضحية بالخصي؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بكبشين موجوءين - يعني: مقطوعي الخصيتين- ووجه ذلك أن الخصي يكون لحمه أطيب، فالخصاء لن يضره شيئاً.

ص: 784

‌فائدة:

إذا قطع مع الخصيتين الذّكَر فلا يجزئ، ويسمى الخصي المجبوب.

(وَمَا بِأذُنِهِ أوْ قَرنِهِ قَطْعٌ أقَلُّ مِن النِّصْفِ).

فتجزئ الأضحية بها.

فإن زاد على النصف فإنه لا يجزئ.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَاخْتَلَفَتْ فِي مَكْسُورَةِ الْقَرْنِ.

فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تُجْزِئُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ الْكَسْرِ دَامِيًا، وَفَسَّرُوا الدَّامِيَ بِمَا لَمْ يَحْصُل الشِّفَاءُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ دَمٌ.

وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ وَإِنْ أَدْمَى مَوْضِعُ الْكَسْرِ، مَا لَمْ يُؤَثِّرْ أَلَمُ الاِنْكِسَارِ فِي اللَّحْمِ، فَيَكُونُ مَرَضًا مَانِعًا مِنَ الإْجْزَاءِ.

وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَا تُجْزِئُ إِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنَ الْقَرْنِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ، وَتُسَمَّى عَضْبَاءَ الْقَرْنِ.

‌فائدة:

القسم الثاني: عيوب مجزئة لكنها مكروهة. (ووقع في بعضها خلاف).

الشرقاء: وهي مشقوقة الأذن وتسمى عند أهل اللغة أيضاً عضباء.

وهذه تجزئ مع الكراهة عند المالكية والشافعية والحنابلة وهو الأولى. وقال الحنفية تجزئ بلا كراهة.

الخرقاء: وهي التي في إذنها خرق وهو ثقب مستدير.

وهذه تجزئ مع الكراهة عند المالكية والشافعية والحنابلة.

وقال الحنفية تجزئ بلا كراهة، والنهي الوارد في الحديث عن الخرقاء، يحمل على الخرق الكثير دون القليل. وقول الجمهور أولى أيضاً.

ص: 785

قال ابن قدامة: وتكره المشقوقة الأذن والمثقوبة وما قطع شيء منها لما روي عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء. قال زهير: قلت لأبي إسحاق: ما المقابلة؟ قال: تقطع طرف الأذن، قلت: فما المدابرة؟ قال: تقطع من مؤخرة الأذن، قلت: ما الخرقاء؟ قال: تشق الأذن، قلت: فما الشرقاء؟ قال: تشق أذنها للسمة. رواه أبو داود والنسائي، قال القاضي: الخرقاء التي انثقبت أذنها، وهذا نهي تنزيه ويحصل الإجزاء بها ولا نعلم فيه خلافاً ولأن اشتراط السلامة من ذلك يشق إذ لا يكاد يوجد سالم من هذا كله. انتهى.

وقال القرطبي رحمه الله: والخرقاء التي تخرق أذنها السمة. والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء، قال مالك والليث: المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ، والشق للميسم يجزئ، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء. انتهى.

مقطوعة الأذن:

مقطوعة الأذنين أو مقطوعة الأذن لا تجزئ عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

هذا إذا كان القطع لجميع الأذن.

وأما إذا قُطِعَ بعضُ الأذن، فقال الحنفية والحنابلة إذا قطع أكثر الأذن لا تجزئ، ويؤيد قولهم حديث علي السابق:

(نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن. وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب ما الأعضب؟ قال: النصف فما فوقه).

قال الشوكاني في نيل الأوطار عند كلامه على حديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب القرن. . . إلخ فيه دليل على أنها لا تجزئ التضحية بأعضب القرن والأذن وهو ما ذهب نصف قرنه أو أذنه، وذهب أبو حنيفة والشافعي والجمهور إلى أنها تجزئ التضحية بمكسور القرن مطلقاً، وكرهه مالك إذا كان يدمي، وجعله عيباً. انتهى

ص: 786

الحولاء: وهي التي في عينها حول، وهذه تجزئ لأن الحول لا يؤثر عليها ولا يمنعها من الرعي.

التي في عينها بياض: تجزئ في الأضحية نص على ذلك المالكية والحنابلة.

• المخلوقة بلا ألية أصلاً: تجزئ عند أبي حنيفة والشافعية والحنابلة ولا تجزئ عند المالكية.

وأما مقطوعة الألية وهي التي كانت لها ألية فقطعت، فلا تجزئ عند الفقهاء، لأنها فقدت عضواً مأكولاً.

وأما إن قطع بعض أليتها فاختلف الفقهاء فيها.

الهتماء: قال ابن تيمية: والهتماء التي سقط بعض أسنانها، فيها قولان: هما وجهان في مذهب أحمد، أصحهما أنها تجزئ.

(وَوَقْتُ الذَّبحِ بَعْدَ صَلَاةِ العِيدِ أوْ قَدْره إِلى يَوْمَينِ بَعْدَه).

هذا الشرط الرابع من شروط الأضحية: أن تكون في الوقت المحدد لها، وهو بعد صلاة العيد.

أ- عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ رضي الله عنه قَالَ (شَهِدْتُ اَلْأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ، نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ اَلصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اَللَّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

ب-وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا نُصَلِّى ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ ذَبَحَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ) متفق عليه.

ج- وعنْ جُنْدَبٍ قَالَ (صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ ذَبَحَ فَقَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ) رواه البخاري.

• قوله (

إِلى يَوْمَينِ بَعْدَه) فيه أن وقت الذبح ينتهي بانتهاء اليوم الثاني من أيام التشريق، فتكون أيامه ثلاثة.

وهذا قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة. (أيام التضحية ثلاثة: يوم العيد واليومان الأولان من أيام التشريق).

أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث.

ص: 787

وجه الدلالة: أنه لا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، فمن ذبح في اليوم الرابع وقع في هذا المحظور بحصول اللحم زمن النهي عن أكله.

ب- أن اليوم الرابع لا يجب فيه الرمي فيه، فلم تجز الأضحية فيه كالذي بعده.

ج- أنه قول عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس.

قال الإمام أحمد: أيام النحر ثلاثة، عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أخرى عنه قال: خمسة من أصحاب رسول الله.

قال ابن قدامة: ولا مخالف لهم إلا رواية عن علي رضي الله عنه، وقد روي عنه مثل مذهبنا.

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَيَّامَ التَّضْحِيَةِ ثَلَاثَةٌ، وَهِيَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَالْيَوْمَانِ الأْوَّلَانِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيَنْتَهِي وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الأْخِيرِ مِنَ الأْيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

وَاحْتَجُّوا: بِأَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَنَسًا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهم أَخْبَرُوا أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهَا بِالرَّأْيِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ سَمَاعًا.

وذهب بعض العلماء: أن النحر خاص بيوم العيد.

وهو قول ابن سيرين.

وذهب بعض العلماء: أن أيام الذبح أربعة، يوم العيد، وأيام التشريق الثلاثة.

وهو قول الشافعية، واختيار ابن تيمية، فينتهي بغروب شمس اليوم 13 من ذي الحجة.

ص: 788

قال ابن القيم: وقد قال علي بن أبي طالب: أيام النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده، وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن، وإمام أهل الكوفة عطاء بن أبي رباح، وإمام أهل الشام الأوزاعي، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي، واختاره ابن المنذر، ولأن الثلاثة تختص بكونها: أيام منى، وأيام النحر، وأيام التشريق، ويحرم صيامها، فهي إخوة في هذه الأحكام، فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع. [زاد المعاد 2/ 291]

أ- جاء في حديث (كل أيام التشريق ذبح) لكن مختلف في صحته.

ب-حديث نبيْشة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله) رواه مسلم.

وهذا الراجح.

‌فائدة: 1

إذا كان المضحي في مكان لا يُصلى فيه العيد كالبادية،

فإن وقت الأضحية يبدأ فيما يمضي من قدر صلاة العيد.

‌فائدة: 2

في قوله (من ذبح قبل الصلاة.

. .) نستفيد أنه لا يشترط أن يكون الذبح بعد خطبة الإمام، وإنما العبرة بالصلاة.

ونستفيد: أن من ذبح قبل الصلاة وجب عليه أن يضمن بدلها.

ونستفيد: أن العبادة إذا فعلت قبل وقتها فإنها لا تقبل.

ص: 789

‌فائدة: 3

يجوز الذبح ليلاً من غير كراهة.

وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهته.

واستدلوا بحديث رواه الطبراني.

والصحيح أنه لا يكره وهو قول الجماهير لعدم الدليل على الكراهة، وأما الحديث الوارد فهو لا يصح، وقد عزاه الهيثمي للطبراني وقال:

فيه راوٍ متروك.

‌فائدة: 4

ما حكم إذا اجتمعت الأضحية والعقيقة؟

‌اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأول: لا تجزئ الأضحية عن العقيقة.

وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد رحمهم الله.

وحجة أصحاب هذا القول: أن كلاً منهما - أي: العقيقة والأضحية - مقصود لذاته فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى.

ولأن كل واحدة منهما لها سبب مختلف عن الآخر، فلا تقوم إحداهما عن الأخرى، كدم التمتع ودم الفدية.

‌القول الثاني: تجزئ الأضحية عن العقيقة.

وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب الأحناف، وبه قال الحسن البصري ومحمد بن سيرين وقتادة رحمهم الله.

وحجة أصحاب هذا القول: أن المقصود منهما التقرب إلى الله بالذبح، فدخلت إحداهما في الأخرى، كما أن تحية المسجد تدخل في صلاة الفريضة لمن دخل المسجد.

ص: 790

(وَالسُّنَّةُ نَحْرُ الإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولةً يَدُهَا اليُسْرَى).

هذا هو السنة، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم،

عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ (رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ، فَنَحَرَهَا. فَقَالَ ابْعَثْهَا قِيَاماً مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. متفق عليه

في هذا الحديث بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الإبل: هو أن ينحرها وهي قائمة قد عقلت يده اليسرى ويطعنه في الوهدة تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم

كراهة ذبحها باركة، لأن فيه تطويلاً في إزهاق روحها.

قال ابن قدامة: السُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى، فَيَضْرِبُهَا بِالْحَرْبَةِ فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ.

وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَاسْتَحَبَّ عَطَاءٌ نَحْرَهَا بَارِكَةً.

وَجَوَّزَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ كُلَّ ذَلِكَ.

وَلَنَا، مَا رَوَى دِينَارُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ (رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ لِيَنْحَرَهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى، قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا).

ص: 791

وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فَإِذَا وَجَبَتْ جَنُوبُهَا) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُنْحَرُ قَائِمَةً.

وَيُرْوَى فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) أَيْ قِيَامًا.

وَتُجْزِئُهُ كَيْفَمَا نَحَرَ.

(وذبحُ غيرِها).

أي: ويسن ذبح غير الإبل: كالغنم والبقر.

عَنْ أَنَسٍ قَالَ (ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا) متفق عليه.

(ويجوزُ عكسُهُا).

أي: يجوز نحر ما يذبح وذبح ما ينحر.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) ولم يفرق بين النحر والذبح.

(وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ، واللهُ أكْبَرُ اللَّهُمَ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ).

أي: بسم الله، وهذا واجب.

ويسن أن يزيد: الله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل مني، اللهم هذا عني وعن أهل بيتي.

لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

عنْ أَنَسٍ قَال (ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا) متفق عليه.

وعنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ فَقَالَ لَهَا يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي الْمُدْيَةَ (يعني السكين) ثُمَّ قَالَ اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ ضَحَّى بِه) رواه مسلم.

ص: 792

وعنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الأَضْحَى بِالْمُصَلَّى فَلَمَّا قَضَى خُطْبَتَهُ نَزَلَ عَنْ مِنْبَرِهِ فَأُتِيَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي) رواه الترمذي.

وجاء في بعض الروايات زيادة (اللهم إن هذا منك ولك) رواه أبو داود.

(اللَّهُمَّ مِنْك): أَيْ هَذِهِ الأُضْحِيَّة عَطِيَّة ورزق وصل إِلَيَّ مِنْك (وَلَك): أَيْ خَالِصَة لَك.

‌فائدة:

التسمية في الذكاة تكون على الحيوان المذبوح لا على الآلة،

وفي الصيد تقع على الآلة.

فلو أمسك سكيناً يريد أن يذبح شاة، فقال: باسم الله، ثم بدا له أن يذبح شاة غيرها، فلا بد من إعادة التسمية.

لان الله قال (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليها). والشاة الثانية لم يذكر اسم الله عليها.

بخلاف الصيد: التسمية تقع على الآلة:

فلو أن إنساناً أراد أن يصيد غزالاً فصاد أرنباً، يحل الأرنب.

ولو أراد أن يرمي طائراً فوق الشجرة (في ظنه أنه طائر واحد) فوقع عشرة، فإنها تحل، لأنه سمّ على الآلة.

قال صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت سهمك وذكرت اسم الله عليه).

فلو أراد أن يصيد ببندقيته وسم، ثم غير البندقية فلا بد أن يعيد التسمية.

ص: 793

(وَيَتَولاّهَا صَاحِبُهَا).

أي: أن الأفضل أن يتولى الإنسان ذبح أضحيته بنفسه ولو امرأة.

أ- لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

فالنبي صلى الله عليه وسلم ذبح ثلاث وستين بيده، ثم أمر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن يكمل الباقي.

ب- ولأِنَّهُ قُرْبَةٌ، وَمُبَاشَرَةُ الْقُرْبَةِ أَفْضَل مِنْ تَفْوِيضِ إِنْسَانٍ آخَرَ فِيهَا.

‌الخلاصة: فائدة ذلك:

الفائدة الأولى: الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الفائدة الثانية: فعل هذه العبادة.

الفائدة الثالثة: أنه يطمئن إلى فعل هذه العبادة بشروطها الشرعية.

قال ابن قدامة: إِنْ ذَبَحَهَا بِيَدِهِ كَانَ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا.

وَنَحَرَ الْبَدَنَاتِ السِّتَّ بِيَدِهِ.

وَنَحَرَ مِنْ الْبُدْنِ الَّتِي سَاقَهَا فِي حِجَّتِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ.

وَلِأَنَّ فِعْلَهُ قُرْبَةٌ، وَفِعْلُ الْقُرْبَةِ أَوْلَى مِنْ اسْتِنَابَتِهِ فِيهَا فَإِنْ اسْتَنَابَ فِيهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَنَابَ مَنْ نَحَرَ بَاقِيَ بُدْنِهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ

وقال النووي: قوله (ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) نستفيد: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَان ذَبْح أُضْحِيَّته بِنَفْسِهِ، وَلَا يُوَكِّل فِي ذَبْحهَا إِلَّا لِعُذْرٍ، وَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبّ أَنْ يَشْهَد ذَبْحهَا، وَإِنْ اِسْتَنَابَ فِيهَا مُسْلِمًا جَازَ بِلَا خِلَاف، وَإِنْ اِسْتَنَابَ كِتَابِيًّا كُرِهَ كَرَاهِيَة تَنْزِيه وَأَجْزَأَهُ وَوَقَعَتْ التَّضْحِيَة عَنْ الْمُوَكِّل، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَالِكًا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْه. (نووي).

ص: 794

(أَوْ يُوكِّل مُسْلِماً وَيَشْهَدَهَا).

أي: أو يوكل صاحبها مسلماً ليذبحها، ويحضر هو ذبحها.

وقوله (أَوْ يُوكِّل مُسْلِماً

) علم منه أنه يكره أن يُوّكل كتابياً - مع أنه تحل ذبيحته - ليذبحها، لأن ذبح الأضحية عبادة، والكتابي ليس من أهل العبادة.

قال ابن قدامة: وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَهَا إلَّا مُسْلِمٌ، وَإِنْ ذَبَحَهَا بِيَدِهِ كَانَ أَفْضَلَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَذْبَحَ الْأُضْحِيَّةَ إلَّا مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ، فَلَا يَلِيهَا غَيْرُ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ اسْتَنَابَ ذِمِّيًّا فِي ذَبْحِهَا، جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.

لأنَّ مَنْ جَازَ لَهُ ذَبْحُ غَيْرِ الْأُضْحِيَّةِ، جَازَ لَهُ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ، كَالْمُسْلِمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ مَا كَانَ قُرْبَةً لِلْمُسْلِمِ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَلَا نُسَلِّمُ تَحْرِيمَ الشُّحُومِ عَلَيْنَا بِذَبْحِهِمْ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَهَا الْمُسْلِمُ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ.

(المغني).

وقال النووي: وَإِنْ اِسْتَنَابَ فِيهَا مُسْلِمًا جَازَ بِلَا خِلَاف، وَإِنْ اِسْتَنَابَ كِتَابِيًّا كُرِهَ كَرَاهِيَة تَنْزِيه وَأَجْزَأَهُ وَوَقَعَتْ التَّضْحِيَة عَنْ الْمُوَكِّل، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَالِكًا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنه.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) ذهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ التَّضْحِيَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ النَّائِبُ كِتَابِيًّا؛ لأِنَّهُ مِنْ أَهْل الذَّكَاةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ -وَهُوَ قَوْلٌ مَحْكِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ إِنَابَتِهِ، فَإِنْ ذَبَحَ لَمْ تَقَعِ التَّضْحِيَةُ وَإِنْ حَل أَكْلُهَا.

وجاء في المجموع: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ ذَكَرًا مُسْلِمًا، فَإِنْ اسْتَنَابَ امْرَأَةً أَوْ كِتَابِيًّا جَازَ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَة.

ص: 795

‌فصل

(وتتَعينُ الأضحيةُ بقوله: هذه أضحيةٌ).

أي: أن الأضحية تتعين بالقول، فلا تتعين بالنية ولا بالشراء.

وذهب بعض العلماء: إلى أنها تتعين أيضاً بالشراء مع النية.

وهو مذهب الحنفية، وقول للحنابلة، واختاره ابن تيمية، واللجنة الدائمة.

فجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) الأضحية تتعين بشرائها بنية الأضحية أو بتعيينها " انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما إذا اشترى أضحية فتعيبت قبل الذبح، ذبحها في أحد قولي العلماء " انتهى.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه.

ب- أنه مأمور بشراء أضحية، فإذا اشتراها بالنية وقعت عنه كالوكيل.

وهذا الراجح.

(وَإِذَا تَعَيَّنت لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، ولَا هِبَتُهَا إِلاَّ أن يُبْدِلَهَا بِخَيرٍ مِنْهَا).

هذا ما يترتب على تعيينها:

أ- أنه لا يجوز التصرف بها بما يمنع التضحية بها من بيع، وهبة، ورهن وغيرها إلا أن يبدلها بخير منها لمصلحة الأضحية، لا لغرض في نفسه، فلو عين شاة أضحية ثم تعلقت بها نفسه لغرض من الأغراض فندم وأبدلها بخير منها ليستبقيها لم يجز له ذلك؛ لأنه رجوع فيما أخرجه لله تعالى لحظ نفسه لا لمصلحة الأضحية.

ب- أنه إذا مات بعد تعيينها لزم الورثة تنفيذها، وإن مات قبل التعيين فهي ملكهم يتصرفون فيها بما شاءوا.

ج- أنه لا يستغل شيئاً من منافعها فلا يستعملها في حرث ونحوه، ولا يركبها إلا إذا كان لحاجة وليس عليها ضرر، ولا يحلب من لبنها ما ينقصها أو يحتاجه ولدها المتعين معها، ولا يجز شيئاً من صوفها ونحوه إلا أن يكون أنفع لها فيجزه ويتصدق به أو يهديه أو ينتفع به ولا يبيعه.

ص: 796

(وَلَا يُعْطِي جَازِرَهَا أجرَتَه مِنْهَا).

أي: لا يجوز أن يعطى الجزار شيئاً من الأضحية مقابل ذبحها وسلخها.

أ- لحديث عَلِي بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ (أَمَرَنِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَقْوَمَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أُقَسِّمَ لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا عَلَى اَلْمَسَاكِينِ، وَلَا أُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئاً) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

جاء في رواية (نحن نعطيه من عندنا).

(أَنَّ أَقْوَمَ عَلَى بُدْنِهِ) بضمتين، أو بضمة فسكون، جمع بدنة، أي: إبله التي أهداها إلى البيت وكانت مائة. (وَأَنْ أُقَسِّمَ لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا عَلَى اَلْمَسَاكِينِ) جلالها بكسر الجيم: ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه، وقاية له. (وَلَا أُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئاً) أي: وأمرني بعدم إعطاء أجرة الجزار منها.

ب- وقال ابن قدامة: وَلِأَنَّ دَفْعَ جُزْءٍ مِنْهَا عِوَضًا عَنْ الْجِزَارَةِ كَبَيْعِهِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا.

قال القرطبي: (ولا أعطي الجازر منها) يدل على أنه لا تجوز المعاوضة على شيء منها، لأن الجزار إذا عمل عمله استحق الأجرة على عمله، فإن دفع له شيء منها كان ذلك عوضًا على فعله، وهو بيع ذلك الجزء منها بالمنفعة التي عملها، وهي الجزر.

والجمهور: على أنه لا يعطى الجازر منها شيئًا، تمسُّكًا بالحديث. وكان الحسن البصري، وعبدالله بن عبيد بن عمير لا يريان بأسًا أن يعطى الجزار الجلد. (المفهم).

جاء في رواية (نحن نعطيه من عندنا) مبالغة في سد الذريعة، وتحقيق للجهة التي تجب عليها أجرة الجازر؛ لأنه لما كان الهدي منفعته له تعينت أجرة الذي تتم به تلك المنفعة عليه. (المفهم).

ص: 797

‌فائدة:

يجوز أن يعطى الجزار منها كهدية أو صدقة.

قال ابن قدامة: وَإِنْ كَانَ الْجَازِرُ فَقِيرًا، فَأَعْطَاهُ لِفَقْرِهِ سِوَى مَا يُعْطِيهِ أَجْرَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْأَخْذِ مِنْهَا لِفَقْرِهِ، لَا لِأَجْرِهِ، فَجَازَ كَغَيْرِه.

وقال ابن حجر: قال ابن خزيمة: والنهي عن إعطاء الجزار المراد به أن لا يعطى منها عن أجرته وكذا قال البغوي في شرح السنة قال: وأما إذا أعطي أجرته كاملة ثم تصدق عليه إذا كان فقيرا كما يتصدق على الفقراء فلا بأس بذلك وقال غيره إعطاء الجزار على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة وأما إعطاؤه صدقة أو هدية أو زيادة على حقه فالقياس الجواز. (الفتح).

(وَإِنْ تَعَيَّبَتْ ذَبَحَهَا وَأجْزَأتْه).

مثال ذلك: اشترى شاة للأضحية ثم انكسرت رجلها، وصارت لا تستطيع المشي مع الصحاح بعد أن عينها، فإنه في هذه الحال يذبحها وتجزئه، لأنه لم يحصل منه تعد ولا تفريط.

فإذا عيَّن الإنسان الأضحية، ثم حصل لها عيب من غير تعدٍّ منه ولا تفريط، ثم ذبحها في وقت الذبح، فإنها تجزئ، وتكون أضحية.

قال ابن قدامة: إذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً صَحِيحَةً سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ، ثُمَّ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، ذَبَحَهَا، وَأَجْزَأَتْهُ.

رُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. (المغني).

ودليل ذلك:

ما رواه البيهقي عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه أُتِي في هداياه بناقة عوراء، فقال: (إن كان أصابها بعد ما اشتريتموها فأمضوها، وإن كان أصابها قبل

أن تشتروها فأبدلوها). قال النووي في (المجموع) إسناده صحيح.

ص: 798

وقال الشيخ ابن عثيمين في رسالة (أحكام الأضحية) في ذكر الأحكام المترتبة على تعيين الأضحية:

قال: إذا تعيبت عيباً يمنع من الإجزاء فلها حالان:

إحداهما: أن يكون ذلك بفعله أو تفريطه فيجب عليه إبدالها بمثلها على صفتها أو أكمل؛ لأن تعيبها بسببه فلزمه ضمانها بمثلها يذبحه بدلاً عنها، وتكون المعيبة ملكاً له على القول الصحيح يصنع فيها ما شاء من بيع وغيره.

الثانية: أن يكون تعيبها بدون فعل منه ولا تفريط فيذبحها وتجزئه، لأنها أمانة عنده وقد تعيبت بدون فعل منه ولا تفريط فلا حرج عليه ولا ضمان " انتهى.

قال ابن قدامة: فَأَمَّا إنْ تَعَيَّبَتْ بِفِعْلِهِ، فَعَلَيْهِ بَدَلُهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

(وَيُسَنُّ أنْ يَأكُلَ وَيَهْدِي وَيَتَصدَّقَ أثْلَاثاً).

هذا السنة في تفريق الأضحية: أن يأكل من أضحيته ثُلُثَها، ويُهدي ثُلُثَها، ويتصدق بِثلُثِها.

قال ابن قدامة: وَالِاسْتِحْبَابُ أَنْ يَأْكُلَ ثُلُثَ أُضْحِيَّتِهِ، وَيُهْدِيَ ثُلُثَهَا، وَيَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا، وَلَوْ أَكَلَ أَكْثَرَ جَازَ.

قَالَ أَحْمَدُ: نَحْنُ نَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ: يَأْكُلُ هُوَ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ مَنْ أَرَادَ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِالثُّلُثِ.

أ- لما روي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي صِفَةِ أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يُطْعِمُ أَهْلَ بَيْتِهِ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ فُقَرَاءَ جِيرَانِهِ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى السُّؤَّالِ بِالثُّلُثِ) رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْفَهَانِيُّ، فِي الْوَظَائِفِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

ب- وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا.

ج- وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ).

ص: 799

وَالْقَانِعُ: السَّائِلُ يُقَالُ: قَنِعَ قَنُوعًا، إذَا سَأَلَ وَقَنِعَ قَنَاعَةً إذَا رَضِيَ.

وَالْمُعْتَرُّ: الَّذِي يَعْتَرِيك، أَيْ يَتَعَرَّضُ لَك لِتُطْعِمَهُ، فَلَا يَسْأَلُ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. (المغني)

فالقانع: الفقير الذي يسأل، والمعتر: الذي يعتريك ويتعرض لك رجاء أن تهديه دون سؤال منه.

وذهب الشافعية إلى أفضلية التصدق بجميعها إلا شيئا يسيراً يأكله.

وذهب المالكية إلى عدم التحديد فيأكل ما شاء ويهدي ويتصدق بما شاء.

أ- لما روى مسلم في صحيحه عن ثوبان قال (ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِيَّتَهُ ثُمَّ قَالَ «يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ». فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَة).

ب-ولعموم قوله تعالى: (فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ).

ج- وقوله صلى الله عليه وسلم (فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا) رواه مسلم.

فالأمر في ذلك واسع إن شاء ثلث لوروده عن الصحابة، وإن شاء ترك ذلك لمصلحة راجحة المهم يستحب له أن يجمع بين الأكل والإهداء والصدقة على حسب وسعه واستطاعته.

‌فائدة: 1

الفرق بين الهدية والصدقة:

ما قصد به التودد والألفة فهو هدية، وما قصد به التقرب إلى الله فهو صدقة.

‌فائدة: 2

الأمر من الأكل من لحم الأضحية

في قوله تعالى (فكلوا منها. .) للاستحباب، وهذا قول جماهير العلماء.

‌فائدة: 3

حكم الصدقة من الأضحية:

اختلف الفقهاء في حكم ذلك:

فذهب الشافعية والحنابلة إلى الوجوب.

لقوله تعالى (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).

ص: 800

فيجب على المضحي أن يتصدق بشيء منها فإن أكلها جميعا ولم يتصدق ضمن أوقية وإلا لم تجزئه أضحيته.

وذهب الحنفية والمالكية إلى استحباب الصدقة وعدم الوجوب.

وهذا هو الصحيح.

لأن الأمر الوارد في الآية والحديث محمول على الاستحباب والإرشاد كالأكل والإهداء.

ولأن المقصود من الأضحية إراقة الدم تقرباً لله وشكراً له وليس انتفاع الفقراء خلافاً لمصرف الزكاة.

ولأن إلزام المضحي بالصدقة فيه تضييق عليه ولا يصار إليه إلا بدليل ثابت سالم من المعارض وقولهم بتحديد أوقية تحكم من غير دليل لأن الشارع لم يحدد شيئاً فعلم أن الأمر واسع في هذا فلو أكلها جميعا لحاجته للتوسعة على عياله ولم يتصدق بشيء منها أجزأه ذلك على الصحيح ولم يلزمه شيء.

(صيد الفوائد: البليهد).

(وَيَحْرُمُ عَلَى مَن يُضَحِّي أن يَأخُذَ فِي العَشْرِ مِن شَعْرِهِ أوْ بَشَرتِهِ شيئاً).

أي: من أراد أن يضحي، فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره أو ظفره إذا دخلت العشر.

لحديث أُمّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّىَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ) وفي رواية (فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا) رواه مسلم.

‌وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

‌القول الأول: يجب أن يمسك ويحرم عليه أن يأخذ.

قال النووي: فَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَرَبِيعَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ: إِنَّهُ يَحْرُم عَلَيْهِ أَخْذ شَيْء مِنْ شَعْره وَأَظْفَاره حَتَّى يُضَحِّي فِي وَقْت الْأُضْحِيَّة.

وَاحْتَجَّ مَنْ حَرَّمَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث.

ص: 801

‌القول الثاني: أنه مكروه.

قال النووي: وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه: هُوَ مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه وَلَيْسَ بِحَرَامٍ.

أ-وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَالْآخَرُونَ بِحَدِيثِ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ (كُنْت أَفْتِل قَلَائِد هَدْي رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُقَلِّدهُ، وَيَبْعَث بِهِ وَلَا يَحْرُم عَلَيْهِ شَيْء أَحَلَّهُ اللَّه حَتَّى يَنْحَر هَدْيه) رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم. قَالَ الشَّافِعِيّ: الْبَعْث بِالْهَدْيِ أَكْثَر مِنْ إِرَادَة التَّضْحِيَة، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُم ذَلِكَ وَحَمَلَ أَحَادِيث النَّهْي عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه.

ب- ويرى الإمام الخطابي: أن من صوارف وجوب ترك أخذ الشعر والظفر في حديث أم سلمة، إلى استحباب ذلك ما قاله: وأجمعوا أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب، كما يحرمان على المحرم، فدلَّ ذلك أنه على سبيل الندب والاستحباب، دون الحتم والإيجاب.

ويقول الإمام الفقيه المالكي الحطاب: وحديث أم سلمة رضي الله عنها فيه نهي، والنهي إذا لم يقتض التحريم، حُمل على الكراهة.

ج- وقال الشيخ خالد البليهد: ولأنه لا يمكن إلزام الناس بأمر والتشديد عليهم وتأثيمهم بحديث مختلف في ثبوته ودلالته، فالحديث أعله الدارقطني بالوقف، وأشار مسلم لعلته، واستشكل متنه الأئمة كالليث وابن مهدي وغيرهما، والقول بالكراهة قول وسط بين من يحرمه وهم قلة كأحمد، وبين من يبيحه وهم أكثر الفقهاء كمالك وأبي حنيفة، وفيه توسعة على الخلق لا سيما من احتاج لذلك وشق عليه تركه، وهو قول الشافعي ووجه عند الحنابلة وقال في الإنصاف لما حكى الكراهة: قلت وهو أولى وأطلق أحمد الكراهة.

فعلى هذا يكره للمضحي أخذ ظفره وشعره ولا يأثم بذلك لكن لا ينبغي له فعل ذلك إلا عند الحاجة اتباعاً للحديث وآثار الصحابة.

ص: 802

‌القول الثالث: الجواز.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

والله أعلم.

‌فائدة: 1

الحكمة من النهي.

لم يرد في السنة الصحيحة ذكر للحكمة من النهي عن قص الأظفار والشعور على المضحي. وقد حاول بعض الفقهاء التماس الحكمة.

فمنهم من قال نهي المضحي عن ذلك تشبيهاً بالمحرم بالحج فكما شارك المحرم في ذبح القربان ناسب أن يشاركه في شيء من خصائص الإحرام.

وقال بعضهم الحكمة توفير الشعر والظفر ليأخذه مع الأضحية فيكون ذلك من تمام الأضحية عند الله.

وقيل لتشمل المغفرة والعتق من النار جميع أجزاءه.

وأصل الحكمة التعبد لله بالإمساك وتعظيم الله وإظهار التذلل له والله أعلم.

قال النووي: قَالَ أَصْحَابنَا: وَالْحِكْمَة فِي النَّهْي أَنْ يَبْقَى كَامِل الْأَجْزَاء لِيُعْتِق مِنْ النَّار.

وَقِيلَ: التَّشَبُّه بِالْمُحْرِمِ، قَالَ أَصْحَابنَا: هَذَا غَلَط؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَزِل النِّسَاء وَلَا يَتْرُك الطِّيب وَاللِّبَاس وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَتْرُكهُ الْمُحْرِم.

النهي عن ذلك يشمل شعر الرأس والعانة والشارب والإبط وغيره من جميع شعور الجسم وكذلك يشمل أظافر اليدين والرجلين وجميع البشرة خلافا لمن خصه بشعر الرأس أو غيره.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَالْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الإْمْسَاكِ عَنِ الشَّعْرِ وَالأَظْفَارِ وَنَحْوِهِمَا قِيل: إِنَّهَا التَّشَبُّهُ بِالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْحِكْمَةَ أَنْ يَبْقَى مُرِيدُ التَّضْحِيَةِ كَامِل الأْجْزَاءِ رَجَاءَ أَنْ يُعْتَقَ مِنَ النَّارِ بِالتَّضْحِيَةِ.

ص: 803

‌فائدة: 2

هذا الحكم خاص بالشخص العازم على شراء الأضحية من ماله فقط

سواء تولى الذبح بنفسه أو بنائبه ولا يثبت في باقي أهل بيته ممن يضحى عنهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بالمضحي، ولأنه لم ينقل أنه أمر أهله بذلك.

‌فائدة: 3

ولا يمسك الوكيل الذي وكل بذبح الأضحية

ولا يتعلق الحكم به لأنه غير مخاطب به.

‌فائدة: 4

من كان متردداً عند دخول العشر في ذبح الأضحية

لم يثبت له الحكم ولم يشرع له الإمساك، لأنه غير عازم على الأضحية، فإن عزم في أثناء العشر أمسك لما بقي ولا شيء عليه فيما مضى من المدة، لأنه لم يكن مكلفاً حينئذ.

‌فائدة: 5

إذا كان الإنسان ناوياً للأضحية في أول العشر

ثم حلق شيئاً من ظفره أو شعره أو جلده كان مخالفاً للأولى بفعله على الصحيح وليس عليه كفارة لأنه لم يرد في الشرع تعيين كفارة لذلك.

قال ابن قدامة: ولا فدية فيه إجماعاً سواء فعله عمداً أو نسياناً.

أما إذا أخذ شيئاً من شعره ناسياً أو جاهلاً أو مضطراً فلا كراهة فيه وأضحيته صحيحة لا يتأثر حكمها بذلك.

قال ابن عثيمين: وأما ما اشتهر عند العوام أنه إذا أخذ الإنسان من شعره أو ظفره أو بشرته في أيام العشر فإنه لا أضحية له فهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا علاقة بين صحة التضحية والأخذ من هذه الثلاثة.

ص: 804

‌فائدة: 6

لا يشرع للمضحي أن يمسك عن شيء آخر غير ظفره وشعره وجلده

ولا ينهى عن الطيب أو مباشرة النساء أو غيره لأنه لم يرد، وما شاع عن بعض العامة تحريم النساء وغيره على المضحي قياساً على المحرم بالحج قول محدث ليس له أصل في الشرع ولا علاقة في الأحكام بين المضحي والمحرم بالحج.

‌فائدة: 7

لا فرق بين الرجل والمرأة في هذا الحكم،

فلو أرادت امرأة أن تضحي عن نفسها، سواء كانت متزوجة أم لم تكن فإنها تمتنع عن أخذ شيء من شعر بدنها وقص أظفارها، لعموم النصوص الواردة في المنع من ذلك.

ص: 805

‌باب العقيقة

‌تعريفها:

هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعَقِيقَة اسْم الشَّاة الْمَذْبُوحَة عَنْ الْوَلَد، سُمِّيتْ بِذَلِكَ؛ لِأنَّها تُعَقّ مَذَابِحهَا: أَيْ تُشَقّ، وَتَقْطَع.

•‌

‌ الحكمة من العقيقة:

قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ ما ملخصه:

ومن فوائد العقيقة: أنها قربان يقرب به المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا.

ومن فوائدها: أنها تفك رهان المولود، فإنه مرتهن بعقيقته حتى يشفع لوالديه.

ومن فوائدها: أنها فدية يفدى بها المولود كما فدى الله سبحانه إسماعيل بالكبش. (تحفة المودود).

(وَتُسَنُّ اَلْعَقِيقَةُ).

أي: أن حكم العقيقة سنة.

وقد جاءت نصوص كثيرة تدل على مشروعيتها:

أ- عن سَلْمَان بْن عَامِرٍ الضَّبِّي قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى) رواه البخاري

(أميطوا الأذى: المقصود بإماطة الأذى هنا حلق الرأس وتطييبه بطيب طيب).

ب- ولحديث سَمُرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى) رَوَاه أبو داود.

ج- وعَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ) قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْت أَحْمَدَ قَالَ: مُكَافِئَتَانِ: أَيْ مُسْتَوِيَتَانِ أَوْ مُقَارِبَتَانِ.

د-وعن عائشة (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُمْ; أَنْ يُعَقَّ عَنْ اَلْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنْ اَلْجَارِيَةِ شَاةٌ).

هـ_ وعنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ. قال صلى الله عليه وسلم (

مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَنْسُكْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ) رواه أبو داود.

ص: 806

‌فائدة: 1

ذهب بعض العلماء: إلى وجوبها.

وهو قول الحسن البصري، وهو قول الظاهرية.

أ- لحديث سَلْمَان بْن عَامِرٍ السابق (مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى) رواه أبو داود.

ب- ولحديث سَمُرَةَ السابق (كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى).

فقوله مرتهن يدل على الوجوب لأن الرهن شيء لازم.

والراجح عدم وجوبها.

وهذا مذهب الجمهور.

قال ابن قدامة: وَالْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَفُقَهَاءُ التَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ، إلَّا أَصْحَابَ الرَّأْيِ، قَالُوا لَيْسَتْ سُنَّةً، وَهِيَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.

لحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أُرَاهُ عَنْ جَدِّهِ -السابق- (مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَنْسُكْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ

مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاة).

قال الشوكاني: احتج الجمهور بقوله (من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل) وذلك يقتضي عدم الوجوب لتفويضه في الاختيار.

ص: 807

‌فائدة: 2

هل يكره تسمية العقيقة بهذا الاسم؟

ذهب بعض أهل العلم إلى كراهة تسمية العقيقة بهذا الاسم - عقيقة - وقالوا الأولى أن تسمى نسيكة أو ذبيحة.

واستدلوا بحديث:

عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أُرَاهُ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ (سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ العَقِيقَةِ؟ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ. كَأَنَّهُ كَرِهَ الاِسْمَ، وَقَالَ: مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَنْسُكْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ).

قال الإمام الباجي: قوله (لا أحب العقوق) ظاهره كراهية الاسم لما فيه من مشابهة لفظ العقوق وآثر أن يسمى نسكاً.

وذهب بعض العلماء: إلى عدم كراهة ذلك، وأن ذلك مباح.

ففي حديث سمرة السابق (الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى).

وفي حديث سلمان بن عامر السابق (مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى).

ففي هذين الحديثين لفظ العقيقة، فدل ذلك على الإباحة لا على الكراهة في الاسم.

وهذا الراجح.

ورجح ابن القيم - وجماعة من العلماء - أن المكروه هو هجر الاسم الشرعي.

قال بكر أبو زيد في (معجم المناهي اللفظية).

قد جرى الخلاف أيضاً لدى العلماء في حكم إطلاقها على أقوال ثلاثة:

الأول: كراهته.

لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: لا يحب الله العقوق، وكأنه كره الاسم.

الثاني: جوازه بلا كراهة. واحتجوا بأحاديث كثيرة منها: حديث سمرة (الغلام مرتهن بعقيقته). وغيره من الأحاديث الصحيحة التي فيها إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم لهذا اللفظ عليها.

ص: 808

الثالث: ما حققه الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بعد ذكره الخلاف بقوله (قلت: ونظير هذا اختلافهم في تسمية العشاء بالعتمة، وفيه روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق في الموضعين: كراهة هجر الاسم المشروع من العشاء والنسيكة، والاستبدال به اسم العقيقة والعتمة، فأما إذا كان المستعمل هو الاسم الشرعي، ولم يهجر، وأُطلق الاسم الآخر أحياناً فلا بأس بذلك.

وعلى هذا تتفق الأحاديث. وبالله التوفيق) اهـ.

قال الشيخ حمد الحمد في شرح زاد المستقنع: في قوله (إن الله لا يحب العقوق) يدل على أن هذا الاسم (العقيقة): يستحب ألا يداوم عليه، والمداومة عليه مكروهة، وإنما قلنا أن المكروه هو المداومة عليه دون إطلاق التسمية هكذا من غير مداومة - إنما قلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح:(كل غلام رهينة بعقيقته) فسماها - أي هذه الذبيحة - عقيقة، فدل على أن المكروه هو أن تغلب هذه التسمية على أسمائها الأخرى فتكون هي التسمية السائدة الغالبة أما إن تسمى بهذا الاسم من غير أن تكون هذه التسمية غالبة فلا حرج في هذا.

(فِي حَقِّ اَلْأَبِ).

الأصل أن العقيقة مشروعة في مال والد المولود، وليس في مال أمه، ولا في مال المولود نفسه، إذ الأب هو المخاطب الأول في الأحاديث الواردة في مشروعية العقيقة.

قال المرداوي: لا يَعقُّ غيرُ الأب على الصحيح في المذهب ونص عليه أكثر الأصحاب.

وقال البهوتي رحمه الله: والعقيقة سنة مؤكدة

في حق أب لا غيره.

ص: 809

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: العقيقة سنة مؤكدة للذكر اثنتان وللأنثى واحدة، وإذا اقتصر على واحدة للذكر فلا حرج، وهي سنة في حق الأب، فإذا جاء وقت العقيقة وهو فقير فليس عليه شيء؛ لقول الله تعالى:(فاتقوا الله ما استطعتم)، وإذا كان غنياً فهي باقية على الأب وليس على الأم ولا على الأولاد شيء منها. (الباب المفتوح).

أ- ويستدل لذلك: بالحديث السابق (

من وُلِد له ولدٌ فأحب أن ينسك عنه فليفعل).

قالوا هذا يقتضي أن العقيقة في مال الأب عن ابنه ولذلك قال: (فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل) فأثبت ذلك في جهة الأب عن الابن.

ب- واحتجوا أيضاً بأن الأب هو المأمور بها في الأحاديث كما في قوله (فأهريقوا عنه دماً).

لكن يجوز لغير الأب أن يعق عن المولود في الحالات الآتية:

أولاً: إذا قصر الأب وامتنع عن ذبح العقيقة.

ثانياً: أو إذا استأذن من الأب أن ينوب عنه في ذبح العقيقة فأذن له.

واستدلوا بحديث الباب (عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهما بِكَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ).

قالوا: فتولي النبي صلى الله عليه وسلم العقيقة عن حفيده الحسن والحسين رضي الله عنهما دليل على جواز تولي العقيقة قريب غير الأب إذا كان بإذنه ورضاه.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث (كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى) - قوله: (يذبح) بالضم على البناء للمجهول، فيه أنه لا يتعين الذابح، وعند الشافعية يتعين من تلزمه نفقة المولود، وعن الحنابلة يتعين الأب إلا أن تعذر بموت أو امتناع.

ص: 810

قال ابن القيم: فصل: أَن التَّسْمِيَة حق للْأَب لَا للْأم.

هَذَا مِمَّا لَا نزاع فِيهِ بَين النَّاس وَأَن الْأَبَوَيْنِ إِذا تنَازعا فِي تَسْمِيَة الْوَلَد فَهِيَ للْأَب وَالْأَحَادِيث الْمُتَقَدّمَة كلهَا تدل على هَذَا وَهَذَا كَمَا أَنه يدعى لِأَبِيهِ لَا لأمه فَيُقَال فلَان ابْن فلَان قَالَ تَعَالَى (ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أقسط عِنْد الله) وَالْولد يتبع أمه فِي الْحُرِّيَّة وَالرّق وَيتبع أَبَاهُ فِي النّسَب وَالتَّسْمِيَة تَعْرِيف النّسَب والمنسوب وَيتبع فِي الدّين خير أَبَوَيْهِ ديناً فالتعريف كالتعليم والعقيقة وَذَلِكَ إِلَى الْأَب لَا إِلَى الْأُم وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ولد لي اللَّيْلَة مَوْلُود فسميته باسم أبي إِبْرَاهِيم وَتَسْمِيَة الرجل ابْنه كتسمية غُلَامه. (التحفة)

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يعق عن المولود من تلزمه نفقته من مال العاق لا من مال المولود.

وهو مذهب الشافعية.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يعق عن المولود غير الأب وغير من تلزمه نفقة المولود.

وبه قال الحافظ ابن حجر، والصنعاني، والشوكاني.

وحجة هؤلاء ما ورد في حديث سَمُرة (تُذبح عنه يوم سابعه).

قال الحافظ ابن حجر: وقوله (تُذبح) بالضم على البناء للمجهول فيه أنه لا يتعين الذابح.

وقال الشوكاني: قوله (تُذبح عنه يوم سابعه) وفيه دليل على أنه يصح أن يتولى ذلك الأجنبي كما يصح أن يتولاه القريب عن قريبه.

ص: 811

(عَن الغُلَامِ شَاتَان، وَعَن الجَارِيَةِ شَاةٌ).

وهذا ما عليه جمهور العلماء.

للأحاديث السابقة:

أ- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيقة (من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل: عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة).

ب- وحديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم: أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة).

ج- وحديث أم كرز (عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ).

قال الحافظ ابن حجر: وهذِهِ الأحادِيث حُجَّة لِلجُمهُورِ، فِي التَّفْرِقَة بين الغُلامِ والْجَارِية.

فإن قيل:

ما الجواب عَنِ حديث اِبْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ اَلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

قال الحافظ: ولا حُجَّة فِيهِ، فَقَدْ أخرجهُ أبُو الشَّيْخ مِن وَجْه آخر، عن عِكْرِمة، عن ابن عَبَّاس بِلفظِ:"كَبْشَيْنِ، كَبْشَينِ". وأخرج أيْضًا منْ طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدّه مِثله.

وعلى تَقْدِير ثُبُوت رِواية أبِي دَاوُد، فَلَيْسَ فِي الحدِيث مَا يُرَدّ بِهِ الأحَادِيث المُتَوَارِدة فِي التَّنْصِيص عَلَى التَّثنِية لِلْغُلامِ، بَلْ غَايته أن يَدُلّ عَلَى جَوَاز الِاقْتِصَار، وهُوَ كَذَلِك، فإِنَّ العَدَد لَيْسَ شَرطًا، بل مُستَحَبّ.

ص: 812

وقال النووي: السنة أن يعق عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة، فإن عق عن الغلام شاة حصل أصل السنة.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يستحب أن يعق عن الذكر بشاتين متماثلتين، وعن الأنثى بشاة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية بشاة) ويجوز العق عن الذكر بشاة واحدة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما.

‌فائدة: 1

هذا أحد المواضع التي يكون فيها الأنثى على النصف من الرجل، وهناك مواضع أخرى:

الثاني: العتق.

وَالثّالِثُ: الشّهَادَةُ فَإِنّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ.

وَالرّابِعُ: الْمِيرَاثُ.

وَالْخَامِسُ: الدّيَةُ.

‌فائدة: 2

قال ابن القيم: والتفضيل تابع لشرف الذكر، وما ميزه الله به على الأنثى، ولما كانت النعمة به على الوالد أتم، والسرور والفرحة به أكمل، فكان الشكران عليه أكثر، فإنه كلما كثرت النعمة كان شكرها أكثر.

‌فائدة: 3

قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: ولو ذبح واحدة اليوم، والثانية ذبحها بعد أيام .. فلا مانع، وليس اللازم أن تكون الشاتان مجتمعتين في وقت واحد.

ص: 813

(تُذْبَحُ يَوْمَ سَابِعِهِ).

أي: يسن أن تذبح في اليوم السابع.

لحديث سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى).

قال الإمام الترمذي بعد أن ساق حديث سَمُرة: والعمل على هذا عند أهل العلم يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع. . .

‌فائدة: 1

كيفية معرفة اليوم السابع:

قال الشيخ ابن عثيمين: يسن أن تذبح في اليوم السابع، فإذا ولد يوم السبت فتذبح يوم الجمعة يعني قبل يوم الولادة بيوم هذه هي القاعدة، وإذا ولد يوم الخميس فهي يوم الأربعاء وهلم جرا.

‌فائدة: 2

الحكمة من ذبحها في اليوم السابع:

قال ابن القيم: وحكمة هذا - والله اعلم - أن الطفل حين يولد يكون أمره متردداً بين السلامة والعطب ولا يدرى هل هو من أمر الحياة أو لا؟ إلى أن تأتي عليه مدة يستدل بما يشاهد من أحواله فيها على سلامة بنيته وصحة خلقته وأنه قابل للحياة وجعل مقدار تلك المدة أيام الأسبوع فإنه دور يومي كما أن السنة دور شهري

والمقصود أن هذه الأيام أول مراتب العمر فإذا استكملها المولود انتقل إلى المرتبة الثانية وهي الشهور فإذا استكملها انتقل إلى الثالثة وهي السنين فما نقص عن هذه الأيام فغير مستوف للخليقة وما زاد عليها فهو مكرر يعاد عند ذكره اسم ما تقدم من عدده فكانت السنة غاية لتمام الخلق وجمع في آخر اليوم السادس منها فجعلت تسمية المولود وإماطة الأذى عنه وفديته وفك رهانه في اليوم السابع.

ص: 814

وقال ابن عثيمين: أن اليوم السابع تختم به أيام السنة كلها فإذا ولد يوم الخميس مرَّ عليه الخميس والجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء فبمرور أيام السنة يُتفاءل أن يبقى هذا الطفل ويطول عمره. (ابن عثيمين).

‌فائدة: 3

حكم ذبح العقيقة قبل اليوم السابع؟ في المسألة قولان:

‌القول الأول: أنه يجوز.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

قال ابن القيم: والظاهر أن التقييد بذلك -السابع- استحباب وإلا فلو ذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت.

‌القول الثاني: لا يجوز ذبح العقيقة قبل اليوم السابع.

وهو قول المالكية.

وهو قول ابن حزم الظاهري.

لأنه خلاف النص لأن قوله (تُذبح عنه يوم سابعه) فيه تحديد لوقتها فلا تشرع قبله.

والراجح الجواز.

‌فائدة: 4

حكم العقيقة إذا مات قبل اليوم السابع؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

‌القول الأول: تستحب العقيقة عن المولود إذا مات قبل اليوم السابع.

وهذا قول الشافعية.

‌القول الثاني: تجب.

وهذا قول ابن حزم.

‌القول الثالث: لا تستحب.

وهذا قول المالكية والحنابلة.

ورجح الشيخ ابن عثيمين أن العقيقة تسن ولو مات المولود قبل اليوم السابع.

والله أعلم.

ص: 815

‌فائدة: 5

قوله صلى الله عليه وسلم (كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ)؟ اختلف العلماء في معناه على أقوال:

قيل: الإمساك عن تفسيرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسرها ولا يجوز القول على الله بغير علم فهو مرتهن فالله أعلم بكيفية هذا الارتهان، اختاره ابن باز رحمه الله.

وقيل: إن نشأة المولود الصحيحة وكمال الانتفاع به رهينة بالعقيقة كما أن الرهن لا ينتفع به كمال الانتفاع إلا بعد فكه، قالوا: هكذا

المولود لا يتم الانتفاع به كمال الانتفاع حتى يفك عنه هذه الرهينة التي هي العقيقة.

وقيل: أن المولود مرهون ومحبوس لا يشفع لوالديه يوم القيامة حتى يعق عنه وهذا مروي عن الإمام أحمد.

وقد قال به قبله عطاء الخُراساني ومحمد بن مطرف.

وضعف ابن القيم هذا المعنى، وضعفه كذلك الشيخ ابن باز رحم الله الجميع.

والراجح هو الإمساك.

ص: 816

قال ابن القيم: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَعْنَاهُ أَنّهُ مَحْبُوسٌ عَنْ الشّفَاعَةِ فِي أَبَوَيْهِ وَالرّهْنُ فِي اللّغَةِ الْحَبْسُ قَالَ تَعَالَى (كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنّهُ رَهِينَةٌ فِي نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ مَحْبُوسٌ عَنْ خَيْرٍ يُرَادُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ حُبِسَ بِتَرْكِ أَبَوَيْهِ الْعَقِيقَةَ عَمّا يَنَالُهُ مَنْ عَقّ عَنْهُ أَبَوَاهُ وَقَدْ يَفُوتُ الْوَلَدَ خَيْرٌ بِسَبَبِ تَفْرِيطِ الْأَبَوَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا أَنّهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ إذَا سَمّى أَبُوهُ لَمْ يَضُرّ الشّيْطَانُ وَلَدَهُ وَإِذَا تَرَكَ التّسْمِيَةَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَلَدِ هَذَا الْحِفْظُ. وَأَيْضًا فَإِنّ هَذَا إنّمَا يَدُلّ عَلَى أَنّهَا لَازِمَةٌ لَا بُدّ مِنْهَا، فَشَبّهَ لُزُومَهَا وَعَدَمَ انفكاك المولود عنها بالرهن، وقد يستدل بهذا من يرى وجوبها كَاللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ، وَأَهْلِ الظّاهِرِ. وَاَللّهُ أَعْلَمُ. (زاد المعاد).

وقال الحافظ ابن حجر -نقلاً عن الخطابيّ-: "اخْتَلفَ النَّاس في هذا، وأجودُ ما قيل فيه: ما ذَهَب إليه أحمد بن حنبل، قال: هذا في الشفاعة؛ يريد: أنه إذا لم يُعقَّ عنه فمات طِفلاً، لم يشفعْ في أبويه، وقيل: معناه: أنَّ العقيقة لازمةٌ لا بدَّ منها، فشبَّه المولود في لزومها، وعدم انفكاكه منها بالرَّهْن في يدِ المرتهن، وهذا يُقوِّي قولَ مَن قال بالوجوب، وقيل: المعنى: أنَّه مرهون بأذَى شَعْرِه؛ ولذلك جاء: "فأميطوا عنه الأذى.

‌فائدة: 6

قوله صلى الله عليه وسلم (تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُسَمَّى) دليل على استحباب تسمية المولود في اليوم السابع.

وجاء ما يدل على التسمية في أول يوم الولادة:

أ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (ولد لي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ) رواه مسلم.

ب- وعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ (وُلِدَ لِي غُلَامٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ) متفق عليه.

ص: 817

وذهب جمهور العلماء إلى أن الأَوْلَى التسمية في اليوم السابع، قالوا: وحديث أنس بن مالك وأبي موسى تدل على جواز التسمية في يوم الولادة فقط، وليس على الاستحباب. (المغني).

وقال بعض المالكية والنووي ووجه عند الحنابلة باستحباب التسمية في أول يوم، وكذا استحبابها في اليوم السابع.

يقول النووي في (الأذكار) السنة أن يُسَمَّى المولودُ في اليوم السابع من ولادته، أو يوم الولادة.

وذهب البخاري إلى أنَّ من يريد أن يَعُقَّ أَخَّرَ التسميةَ إلى حينِ العقيقةِ في اليومِ السابع، أما من لم يكن يريد العقيقة فَيُسَمِّي في أول يوم

قال ابن حجر: وهو جمع لطيف لم أره لغير البخاري.

يقول العراقي في "طرح التثريب"وَبِهَذَا (يعني باستحباب اليوم السابع) قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَمَّى قَبْلَهُ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إذَا وُلِدَ وَقَدْ تَمَّ خَلْقُهُ سَمَّى فِي الْوَقْتِ إنْ شَاءُوا.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: تَسْمِيَتُهُ يَوْمَ السَّابِعِ حَسَنٌ، وَمَتَى شَاءَ سَمَّاهُ.

وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: يُسَمَّى يَوْمَ وِلَادَتِهِ، فَإِنْ أُخِّرَتْ تَسْمِيَتُهُ إلَى السَّابِعِ فَحَسَنٌ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُهَلِّبِ: يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ حِينَ يُولَدُ وَبَعْدَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْعَقِيقَةَ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، فَالسُّنَّةُ تَأْخِيرُهَا إلَى السَّابِعِ، وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي تَبْوِيبِهِ (بَابُ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ) " انتهى.

وعلى كل حال، فإن جميع ما سبق يدل على أن الأمر يدور بين الاستحباب والجواز، وليس ثمة ما يفرض ويوجب التسمية في اليوم

السابع، فلو أخر التسمية عن السابع فلا بأس ولا حرج في ذلك.

ص: 818

يقول النووي رحمه الله في (المجموع) قال أصحابنا وغيرهم: يستحب أن يسمى المولود في اليوم السابع، ويجوز قبله، وبعده، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في ذلك " انتهى.

• وهناك جمع ذكره الشيخ ابن عثيمين قال:

المولود إذا كان اسمه قد هيئ من قبل فالأفضل أن يسمى من حين الولادة، وإن كان لم يهيأ فالأفضل أن يكون يوم السابع.

دليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين ولد ولده إبراهيم رضي الله عنه قال لأهله ولد لي الليلة ولد فسميته إبراهيم، فسماه حين ولادته عليه الصلاة والسلام، أما في السابع فقال (كل غلامٍ مرتهنٌ بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق ويسمى).

والجمع بين الحديثين: إن كان اسمه قد هيئ فيسمى من حين الولادة، وإن لم يهيأ قبل الولادة ينتظر حتى يكون اليوم السابع. . . . (فتاوى نور على الدرب).

‌فائدة: 8

قوله صلى الله عليه وسلم (تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ).

نستفيد أنه يستحب حلق رأس الصبي يوم سابعه.

عنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَال (عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الحَسَنِ بِشَاةٍ، وَقَالَ: (يَا فَاطِمَةُ، احْلِقِي رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً)، قَالَ: فَوَزَنَتْهُ فَكَانَ وَزْنُهُ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضَ دِرْهَم) رواه الترمذي.

قال ابن قدامة: ويستحب أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ويسمى لحديث سمرة وإن تصدق بزنة شعره فضة فحسن.

وقال النووي: يستحب حلق رأس المولود يوم سابعه قال أصحابنا ويستحب أن يتصدق بوزن شعره ذهباً فإن لم يفعل ففضة.

ص: 819

وقال الشيخ ابن عثيمين: شعر المولود يحلق في اليوم السابع إذا كان ذكراً، وأما الأنثى فلا يحلق رأسها، وإذا حلق شعر الرأس، فإنه يتصدق بوزنه فضة، كما جاء في الحديث.

جاء في (الموسوعة الفقهية) هَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اسْتِحْبَابِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ السَّابِعِ، وَالتَّصَدُّقِ بِزِنَةِ شَعْرِهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِضَّةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ: تَحَرَّى، وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَيَكُونُ الْحَلْقُ بَعْدَ ذَبْحِ الْعَقِيقَة

‌فائدة: 9

حكم تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث إلى كراهة تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة، لأن ذلك من عادة أهل الجاهلية، وهو قول الزهري وإسحاق وابن المنذر وداود.

القول الثاني: ذهب الحسن البصري وقتادة من التابعين وابن حزم الظاهري إلى أن ذلك مستحب فيلطخ رأس المولود بدم العقيقة ثم يغسل بعد ذلك، ونقله ابن حزم عن ابن عمر وهو قول عند الحنابلة.

واحتج هؤلاء برواية (غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق ويدمَّى).

وقد أجاب الجمهور على هذا الاستدلال وبينوا أن هذا القول شاذ وأن الرواية المحفوظة لحديث سمرة (يسمَّى) وليست (يدمَّى):

قال أبو داود صاحب السنن بعد روايته للحديث المذكور: خولف همام في هذا الكلام وهو وهْم من همام وإنما قالوا: يسمَّى. فقال: همام: يدمَّى. قال أبو داود وليس يؤخذ بهذا.

ص: 820

وأكد الجمهور قولهم بأن التدمية منسوخة أنها كانت من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أبطلها ويدل على نسخها وإبطالها ما يلي:

أ- حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: سمعت أبي - بريدة - يقول (كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران).

ب- عن عائشة رضي الله عنها في حديث العقيقة قالت: (وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي فأمر

رسول الله (أن يجعل مكان الدم خلوقاً) رواه البيهقي وهذا لفظه، وقال النووي بإسناد صحيح. وقال الحافظ ابن

(فَإِنْ فَاتَ فَفِي أربَعَةَ عَشَرَ، فَإِنْ فَاتَ فِفِي إِحْدَى وَعِشْرين).

أي: فإن فات وقتها في السابع سن ذبحها في الرابع عشر، فإن فات ذبحها فيه انتقلت إلى الحادي والعشرين.

قال ابن قدامة: أمَّا كَوْنُهُ فِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ، ثُمَّ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، فَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهَذَا تَقْدِيرٌ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَقُولُهُ إلَّا تَوْقِيفًا.

ص: 821

‌فائدة:

فإن فات الحادي والعشرين ففي أي يوم تيسر للإنسان فيه الذبح.

قال ابن قدامة: وَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ.

وَإِنْ تَجَاوَزَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، احْتَمَلَ أَنْ يُسْتَحَبَّ فِي كُلِّ سَابِعٍ، فَيَجْعَلَهُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعُشْرِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَفِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَعَلَى هَذَا، قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّ هَذَا قَضَاءُ فَائِتٍ، فَلَمْ يَتَوَقّت، كَقَضَاءِ الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا وقال في الكافي: فإن أخرها عن إحدى وعشرين ذبحها بعده، لأنه قد تحقق سببها.

وقال المرداوي: مَفْهُومُ قَوْلِهِ (فَإِنْ فَاتَ) يَعْنِي لَمْ يَكُنْ فِي سَبْعٍ (فَفِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ. فَإِنْ فَاتَ فَفِي إحْدَى وَعِشْرِينَ) أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْأَسَابِيعَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَيَعُقُّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيِّ يَوْمٍ أَرَادَ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ. وَهُوَ ظَاهِرُهُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ رَزِينٍ فِي شَرْحِهِ. قُلْت: وَهُوَ الصَّوَابُ.

(تُنْزَعُ جُدُولاً وَلَا يُكْسَرُ عَظْمُهَا).

قال صاحب القاموس: (الجَدْلُ: كل عظم مُوفّر لا يُكسر، ولا يخلط به غيره).

أي: تنزع اليد، والرجِل، والرقبة وهكذا عضواً عضواً.

أ- قالوا: لأن هذا ورد عن عائشة، قالت (تطبخ جُدُولاً، ولا يكسر لها عظم).

ب- ومن باب التفاؤل.

قال ابن قدامة:. . . لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: السُّنَّةُ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ عَنْ الْغُلَامِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، تُطْبَخُ جُدُولًا، وَلَا يُكْسَرُ عَظْمٌ، يَأْكُلُ، وَيُطْعِمُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَذَلِكَ يَوْمُ السَّابِعُ.

وَإِنَّمَا فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ ذَبِيحَةٍ ذُبِحَتْ عَنْ الْمَوْلُودِ، فَاسْتُحِبَّ فِيهَا ذَلِكَ تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ. (المغني).

وذهب بعض العلماء: إلى جواز ذلك.

ص: 822

لأنه لم يصح في المنع من ذلك ولا كراهته سنة يجب المصير إليها.

وقد جرت العادة بكسر عظام اللحم وفى ذلك مصلحة أكله وتمام الانتفاع به ولا مصلحة تمنع من ذلك.

وهذا أرجح.

(وحُكمُهَا كَالأضْحِيَةِ).

أي: أن العقيقة كالأضحية في أكثر الأحكام.

فلا بد أن تكون من بهيمة الأنعام، وأن تكون سليمة من العيوب، وأن تبلغ السن المعتبرة.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حُكْمَ الْعَقِيقَةِ حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ؛ فِي سَنِّهَا، وَأَنَّهُ يُمْنَعُ فِيهَا مِنْ الْعَيْبِ مَا يُمْنَعُ فِيهَا، وَيُسْتَحَبُّ فِيهَا مِنْ الصِّفَةِ مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا. . . فَلَا يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ، وَلَا تَجُوزُ فِيهَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى، وَالْعَضْبَاءُ الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا.

(إِلاَّ أنَّه لَا يُجْزِئ فِيها شرِك فِي دَم).

أي: مما تخالف فيها العقيقة الأضحية:

‌أولاً: أنه لا يجزئ فيها شرك في دم.

فلا يجزئ البعير عن اثنين، ولا البقر عن اثنين.

أ- لأنه لم يرد التشريك فيها.

ب- أنها فداء، والفداء لا يتبعض. (الشرح الممتع).

‌ثانياً: أن طبخها أفضل من توزيعها نيئة، لأن ذلك أسهل لمن أطعمت له.

‌ثالثاً: أنه لا يكسر عظمها عند بعض العلماء، وقد تقدم ذلك.

ص: 823

(وَلَا تُسَنُّ الفَرَعَةُ، وَلَا العَتَيِرةُ).

والعتيرة هي ذبيحة كان يذبحها أهل الجاهلية في شهر رجب.

والفرع: ذبح أول ولد الناقة، وكان أهل الجاهلية يذبحونها لآلهتهم.

فلا تسن الفرع ولا العتيرة:

وقد اختلف العلماء في حكم العتيرة:

وسبب اختلافهم: اختلاف الأحاديث الواردة فيها، فمنها ما أمر بها ورخص فيها، ومنها ما نهى عنها.

والصحيح من أقوالهم - كما سيأتي - أن أحاديث الأمر بها والترخيص في فعلها كانت في أول الأمر، ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.

‌وقد اختلف العلماء في حكمها على عدة أقوال:

‌القول الأول: أنها سنة مستحبة.

وهذا قول الإمام الشافعي رحمه الله.

قال ابن رجب: وحكاه الإمام أحمد عن أهل البصرة ورجحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين.

أ- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنَ الْعَتِيرَةُ فقَالَ: (الْعَتِيرَةُ حَقٌّ) رواه أحمد.

ب- وعن مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: كُنَّا وُقُوفًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ. هَلْ تَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ؟ هِيَ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّةَ) رواه أبو داود.

ص: 824

قال ابن رجب رحمه الله: وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث، وبين حديث أبي هريرة (لا فَرَع ولا عتيرة) بأنَّ المنهي عنه هو: ما كان يَفعله أهل الجاهليَّة من الذَّبح لغير الله، وحمله سفيان بن عُيينة على أنَّ المراد به نفي الوجوب. (اللطائف).

قال الشيخ مشهور بن حسن: والعتيرةُ: الذَّبيحة في رجَب، وهذه الذَّبيحة قال أهلُ العلم: منسوخة، والرَّاجح نسخ الوجوب فقط وليس نسخ الأصل، فمِن السُّنَّة أنَّ كل أهل بيت يَذبحون ذبيحةً في رجب، وهذه سُنَّة مهجورة.

‌القول الثاني: أنها لا تستحب ولا تكره.

وقال بهذا القول بعض الشافعية، كما حكاه النووي عنهم في "المجموع".

القول الثالث: أنها مكروهة، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وقال بعضهم: هي حرام باطلة.

وقالوا: أحاديث الترخيص فيها والأمر بها كانت في أول الأمر، ثم نسخت بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها.

نقل النووي في (شرح مسلم) عن القاضي عياض قوله: إن الأمر بالعتيرة منسوخ عند جماهير العلماء.

واستدلوا على تحرمها بـ:

أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لا فَرَعَ وَلا عَتِيرَة) متفق عليه.

والفرع هو أول ولدٍ للناقة كانوا يذبحونه لأصنامهم.

ب- أن العتيرة من شأن أهل الجاهلية، ولا يجوز التشبه بهم في عباداتهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم).

وقال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر بعض الأحاديث الدالة على مشروعية العتيرة:

وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر - بعد أن ذكر بعض الأحاديث في العتيرة - قال: وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَل ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَفَعَلَهُ بَعْض أَهْل الإِسْلام، فَأَمَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهِمَا ثُمَّ نَهَى عَنْهُمَا رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:(لا فَرَع وَلا عَتِيرَة) فَانْتَهَى النَّاس عَنْهُمَا لِنَهْيِهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُمَا، وَمَعْلُوم أَنَّ النَّهْي لا يَكُون إِلا عَنْ شَيْء قَدْ كَانَ يُفْعَل، وَلا نَعْلَم أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلْم يَقُول: إِنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ نَهَاهُمْ عَنْهُمَا ثُمَّ أَذِنَ فِيهِمَا، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْفِعْل كَانَ قَبْل النَّهْي قَوْله فِي حَدِيث نُبَيْشَة:(إِنَّا كُنَّا نَعْتِر عَتِيرَة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَإِنَّا كُنَّا نُفْرِع فَرَعًا فِي الْجَاهِلِيَّة) وَفِي إِجْمَاع عَوَامّ عُلَمَاء الأَمْصَار عَلَى عَدَم اِسْتِعْمَالهمْ ذَلِكَ وُقُوف عَنْ الأَمْر بِهِمَا، مَعَ ثُبُوت النَّهْي عَنْ ذَلِكَ بَيَان لِمَا قُلْنَا. انتهى.

ص: 825

قال ابن قدامة: قلَ أَصْحَابُنَا: لَا تُسَنُّ الْفَرَعَةُ وَلَا الْعَتِيرَةُ.

وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى ابْنِ سِيرِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ الْعَتِيرَةَ فِي رَجَبٍ، وَيَرْوِي فِيهَا شَيْئًا.

ثم قال: وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا فَرَعَ، وَلَا عَتِيرَةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْأَمْرِ بِهَا، فَيَكُونُ نَاسِخًا، وَدَلِيلُ تَأَخُّرِهِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَاوِيَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ إسْلَامَهُ فِي سَنَةِ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَهِيَ السَّنَةُ السَّابِعَةُ مِنْ الْهِجْرَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَرَعَ وَالْعَتِيرَةَ كَانَ فِعْلُهُمَا أَمْرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُمْ عَلَيْهِ إلَى حِينِ نَسْخِهِ، وَاسْتِمْرَارُ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لَهُ، وَلَوْ قَدَّرْنَا تَقَدُّمَ النَّهْيِ عَلَى الْأَمْرِ بِهَا، لَكَانَتْ قَدْ نُسِخَتْ ثُمَّ نُسِخَ نَاسِخُهَا، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ.

وقال ابن رجب: و العتيرة اختلف العلماء في حكمها في الإسلام، فالأكثرون على أن الإسلام أبطلها، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا فرع ولا عتيرة).

ص: 826

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة

دروس فقهية

كتاب البيوع

شروط البيع - موانع البيع - البيوع المحرمة

الشروط في البيع - باب الخيار - باب الربا - باب بيع الاصول والثمار

باب السلم - باب القرض - باب الرهن - باب الضمان والكفالة - باب الحوالة - باب الصلح - باب أحكام الجوار

باب الحجر - باب الوكالة - باب الشركة - باب المساقاة والمزارعة - باب الإجارة - باب السبق - باب العارية

باب الغصب - باب الشفعة - باب الوديعة - باب احياء الموات - باب الجعالة - باب اللقطة - كتاب الوقف -

باب الهبة والعطية- كتاب الوصايا - كتاب النكاح

بقلم

سليمان بن محمد اللهيميد

السعودية - رفحاء

الموقع/ رياض المتقين

www.almotaqeen.net

ص: 827