الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب البيوع
تعريفه:
لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، وسمي بيعاً من الباع، لأن كلاً من الآخذ والمعطي يمد يده.
واصطلاحاً: هو مبادلة مال بمال على التأبيد غير ربا وقرض.
فقوله (على التأبيد) احترازاً من الإجارة، فالإجارة مبادلة مال بمال ولكن ليس على سبيل التأبيد.
مثال: كأن أشتري منك هذا البيت لمدة سنة، هذا ليس بيعاً لكن إجارة.
وقوله (غير ربا) فإنه ليس من البيع لقوله تعالى (وحرم الربا)، مع أنه مبادلة.
مثال: كأن أعطيك ريال بريالين.
وقوله (وقرض) فالقرض لا يسمى بيعاً، وإن كان فيه مبادلة، لأن القصد من القرض الإرفاق والإحسان، والبيع القصد منه المعاوضة.
• والأصل في البيع الحل.
أي: أن الأصل في البيع الحل، فكل صورة من صور البيع يدعى أنها حرام فعلى المدعي البينة أي الدليل، فإذا شككنا في بيع هل هو حلال أو حرام، فالأصل أنه حلال. (وهذا ضابط مهم).
لقوله تعالى (وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا).
فائدة:
جاء في الحديث (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا).
البيع المبرور ما جمع الصدق والبيان.
الصدق: في الوصف.
والبيان: في العيب.
قال الشيخ السعدي في شرح حديث (
…
فإن صدقا وبينا بورك .. ).
هذا الحديث أصل في بيان المعاملات النافعة، والمعاملات الضارة، وأن الفاصل بين النوعين: الصدق والبيان.
فمن صدق في معاملته، وبيّن جميع ما تتوقف عليه المعاملة من الأوصاف المقصودة، ومن العيوب والنقص، فهذه معاملة نافعة في العاجل: بامتثال أمر الله ورسوله، والسلامة من الإثم، ونزول البركة في معاملته، وفي الآجلة: بحصول الثواب، والسلامة من العقاب.
ومن كذب وكتم العيوب، وما في المعقود عليه من الصفات، فهو - مع إثمه - معاملته ممحوقة البركة.
ومتى نزعت البركة من المعاملة خسر صاحبها دنياه وأخراه.
(البيعُ جائزٌ بالكتابِ والسنة والإجماع والقياس).
أ-قال تعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ).
ب- وقال تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) فهذا دليل على مشروعيته، لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بالإشهاد إلا على أمر مباح.
ج- وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فمنع سبحانه من البيع قبل الصلاة بعد الأذان للجمعة وفي أثنائها، ثم أذِنَ فيه بعد الصلاة، والأمر إذا جاء بعد نهي فهو إباحة.
د-وقال صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار) متفق عليه.
هـ-وقال صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) رواه البخاري.
و-عن رفاعة. (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) رواه البزار.
ز-وعن حكيم بن حزام (أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه يأتيني الرجل يريد البيع ليس عندي فأذهب إلى السوق فأشتريه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عند) رواه الترمذي، فدل بمفهومه على جواز بيع ما عنده.
وأجمع المسلمون على جوازه.
قال ابن قدامة: وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة.
والحكمة تقتضيه: وذلك لأن مصالح الناس تحتاج إلى البيع، فقد يكون عند رجل دراهم وليس عنده لباس أو طعام، أو صاحب طعام ونحوه في حاجة إلى دراهم، فيتوصل كل منهم إلى مقصوده بواسطة البيع، وهذا من رحمة الله بعباده.
فائدة:
اختلف العلماء أي المكاسب أفضل، مع اتفاقهم على أن العمل كله فاضل إذا كان مشروعاً.
فمنهم من ذهب إلى أن أفضل المكاسب الزراعة.
ومنهم من رأى أن أفضلها كسب اليد أي الصناعة.
وذهب آخرون إلى تفضيل التجارة على غيرها.
وفريق آخر رأى أن أفضل المكاسب على الإطلاق ما يكتسب من أموال الكفار المحاربين عن طريق الجهاد في سبيل الله.
وقال الحافظ: أفضل ما يكسب من الأموال من الجهاد (أي الغنيمة) فهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم ولما فيه من إعلاء كلمة الله.
ورجحه ابن القيم، وقال: والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كسب الغانمين وما أبيح لهم على لسان
الشارع، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره، وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم، ولهذا اختاره الله لخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، حيث يقول:(بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري) وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله وجعل أحب شيء إلى الله فلا يقاومه كسب غيره. (زاد المعاد: 5/ 793).
وقال النووي: والصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد، فإن كان زراعة فهو أطيب الكسب لما يشمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي والدواب، ولأنه لا بد فيه في العادة أن يؤكل منه بغير عوض.
وقد ورد في فضل العمل في التجارة حديث لكنه لم يثبت، وهو ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (تسعة أعشار الرزق في التجارة) وأما ورد في تفضيل العمل من كسب اليد (الصنائع) والتجارة:
فهو ما رواه رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: (عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ).
وعَنْ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) رواه البخاري.
(وينعقد بالقول الدال على البيع والشراء، وبالمعاطاة).
هذا ما ينعقد به البيع.
فالبيع له صيغتان: صيغة قولية _ وصيغة فعلية.
الصيغة القولية (وهي الإيجاب والقبول).
الإيجاب: اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه كالوكيل.
والقبول: اللفظ الصادر من المشتري.
مثال: يقول البائع بعتك هذه السيارة {هذا إيجاب} ، فيقول المشتري قبلت {هذا قبول} .
• الصيغة الفعلية (وتسمى المعاطاة).
وهي أن يدفع المشتري الثمن ويدفع البائع السلعة بدون لفظ بينهما.
(كما يحصل في الأسواق الحديثة حيث تأتي وتأخذ السلعة وتعطيه الثمن).
وقد اختلف العلماء في صحة البيع بهذه الصيغة على أقوال:
والراجح أنه يصح البيع بهذه الصيغة.
وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، واختاره النووي.
أ-لأن الله قال (وأحل الله البيع) فأطلق الله، ولم يقل أحل البيع بصورة كذا، أو بصورة كذا.
ب- ولأن الشرع ورد بالبيع، وعلق عليه أحكاماً، ولم يبين كيفيته، فيجب الرجوع فيه إلى العرف.
وهناك أقوال أخرى في المسألة:
فقيل: لا يصح البيع بهذه الصيغة.
وهذا مذهب الشافعي.
وقيل: يصح في الأشياء اليسيرة دون الأشياء النفيسة.
قال الزحيلي في حكم بيع المعاطاة:
فقال الحنفية، والمالكية، والحنابلة في الأرجح عندهم: يصح بيع المعاطاة متى كان هذا معتاداً دالاً على الرضا.
وقال الشافعية: يشترط أن يقع العقد بالألفاظ الصريحة أو الكنائية، بالإيجاب والقبول، فلا يصح بيع المعاطاة، سواء أكان المبيع نفيساً أم حقيراً.
وقد اختار جماعة من الشافعية منهم النووي، والبغوي، والمتولي صحة انعقاد بيع المعاطاة في كل ما يعده الناس بها بيعاً، لأنه لم يثبت اشتراط لفظ، فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة.
قال النووي: وهذا هو المختار للفتوى، وبعض الشافعية كابن سريج، والروياني خصص جواز بيع المعاطاة بالمحقرات، أي: غير النفيسة، وهي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة كرطل خبز وحزمة بقل. (الفقه الإسلامي وأدلته).
(وشروطه سبعة).
أي: شروط البيع سبعة، عرفت بالتتبع والاستقراء.
(أحدها: التراضي).
والمعنى: أن يأتيا بالبيع اختياراً.
أ-قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).
ب- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنه) رواه مسلم.
ج- وعن أبي سعيد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما البيع عن تراض) رواه ابن حبان.
ج-وعَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيٍّ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَلَا وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ، إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) رواه أحمد.
ومن المعلوم أنه إذا لم يحصل رضا لم يحصل طيب نفس
د-ومن النظر: لأنه لو قلنا لا يشترط الرضا لأدى ذلك إلى العدوان والفوضى، فكل من أراد مال غيره يأخذه قهراً ويعطيه ثمنه، وهذا فتح لباب الفوضى والعدوان.
فائدة: 1
فإن أكره البائع أو المشتري على البيع لم يصح، لعموم الأدلة الدالة على أن المكره لا يؤاخذ ولا يترتب على عقوده شيء كما قال تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ).
مثال: لو أن سلطاناً أرغم شخصاً على أن يبيع هذه السلعة لفلان فباعها فإن البيع لا يصح لأنها صدرت عن غير تراض.
فائدة: 2
لو كان الإكراه بحق فإنه يجوز، مثال: كمن كان مديناً وطالبه الغرماء بالسداد وعنده سلع، فيجبره القاضي على البيع لسداد ديونه، فإن أبى أن يبيع باع الحاكم أمواله وسدد.
مثال آخر: أن يضطر رجل إلى طعام وهو عند هذا الشخص ولا يريد بيعه فإنه يجبر على أن يبيعه.
فائدة: 3
بيع الهازل.
وهو الذي يتكلم بكلام البيع لا على إرادة حقيقته.
هذا البيع: ذهب بعض العلماء إلى عدم صحته.
لعدم الرضا بالبيع. (فهو لم يقصد البيع).
(الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف)
وجائز التصرف هو: الحر، البالغ، العاقل، الرشيد.
الحر: فالمملوك لا يجوز بيعه ولا شراؤه (أي أنه لا يبيع ولا يشتري) إلا بإذن سيده، لأن العبد لا يملك، فما في يد العبد ملك لسيده.
البالغ: فالصغير دون التمييز لا يصح بيعه بالإجماع لأنه لا يتأتى منه القصد.
وأما المميز دون البلوغ فمحل خلاف بين العلماء على قولين:
قيل: يصح تصرفه، وقيل: لا يصح، لكن لوليه أن يأذن له بالتصرف في الأشياء اليسيرة ليتدرب وهذا القول هو الصحيح.
العاقل: فالمجنون لا يصح بيعه لعدم العقل الذي يحصل به التراضي والقصد.
الرشيد: وهو الذي يحسن التصرف في ماله، وضده السفيه فلا يصح تصرفه.
والدليل على هذا الشرط قوله تعالى (وابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).
(وابْتَلُوا الْيَتَامَى) أي اختبروهم، كأن يعطيه مال وينظر كيف يتصرف فيه (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) هذا الشرط الأول وهو البلوغ (فَإِنْ آنَسْتُمْ) علمتم (مِنْهُمْ رُشْداً) هذا الشرط الثاني، والرشد حسن التصرف (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وأما قبل البلوغ وقبل الرشد لا يدفع إليهم أموالهم، ولا يدفع إليهم أموالهم لأنه غير نافذ التصرف.
(الثالث: أن تكون العين مباحة النفع).
أي: أن تكون العين التي وقع العقد عليها بالشراء مباحة النفع.
فأولاً: أن يكون فيها نفع.
ثانياً: أن يكون النفع مباحاً.
كبيع النحل، ودودة القز والجراد.
- فقوله (نفع) خرج ما لا نفع فيه كالحشرات، فإنه لا يجوز بيعها.
أ- لأن بذل المال فيما لا نفع فيه يعتبر سفه.
ب- ولأن في ذلك إضاعة للمال.
فلو أن شخصاً جمع صراصير في إناء، وقال لإنسان: أبيع عليك هذه الصراصر فلا يجوز بيعها، لأنها ليس فيها نفع، لكن لو جمع جراداً في إناء، وقال: أبيع عليك هذا الجراد فهنا يجوز البيع؛ لأن فيها نفعاً مباحاً؛ إذاً الحشرات لا يجوز بيعها، لأنها ليس فيها نفع. (الشرح الممتع)
- وقوله (مباحة) خرج به محرمة النفع، مثل: آلات اللهو، فإنه لا يجوز بيعها وكذلك الخمر لأن منفعته محرمة.
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) متفق عليه.
الميتة: كل ما لم يمت بذكاة شرعية.
الخمر: كل ما أسكر، كما قال صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر).
والأصنام: جمع صنم وهو كل ما عبد من دون الله من أشجار أو أحجار أو نحو ذلك، ومثل ذلك الوثن.
فائدة: 1
بيع الخمر حرام،
وهذا بالإجماع، وكذلك شربها واقتنائها.
وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على تحريم بيعها كابن المنذر، والنووي.
عن أنس قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له) رواه أبو داود.
• والحكمة من تحريم بيعها، لأن بها تزول عن الإنسان نعمة العقل التي كرَّمهْ الله بها، ويأتي في حال سكره ولهوه بأنواع المنكرات والعظائم، وإشاعة العداوة والبغضاء بين المسلمين، والصد عن الخير وعن ذكر الله.
فائدة: 2
بيع الميتة حرام، وهذا بالإجماع.
قال النووي: وأما الميتة والخمر والخنزير: فأجمع المسلمون على تحريم بيع كل واحد منها.
- الحكمة من تحريم بيع الميتة، لأن فيها مضرة كبيرة على البدن، وهدم للصحة، ومع هذا فهي جيفة خبيثة نتنة نجسة، تعافها النفوس، ولو أكلت مع إكراهها والتقزز منها، لصارت مرضاً على مرض، وبلاء مع بلاء.
• يستثنى من بيع الميتة: السمك والجراد.
أ - لحديث (أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد).
ب - إنما حرم بيع الميتة لأنه لا ينتفع بها، والميتة الحلال ينتفع بها.
فائدة: 3
بيع الخنزير حرام.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الخنزير وشراؤه محرم.
وقال ابن القيم: وأما تحريم بيع الخنزير، فيتناول جملته، وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة.
وقال: والخنزير أشد تحريماً من الميتة.
• الحكمة من تحريم بيع الخنزير، لضرره على البدن والعقل عظيم؛ لأنه يسمم الجسد بأمراضه، ويورث آكله من طباعه الخبيثة، وهو مشاهد في الأمم التي تأكله، فقد عرفوا بالبرودة.
فائدة: 4
بيع الأصنام حرام.
قال ابن القيم: تحريم بيع الأصنام أعظم تحريماً وإثماً وأشد منافاة للإسلام من بيع الميتة والخنزير.
• الحكمة من تحريم بيع الأصنام، لأنه ذريعة للشرك ومفسدة للأديان.
(إلا الكلب فإنه لا يجوزُ بيعُه).
أي: أن الكلب يباح نفعه في بعض الأمور (كالحرث والصيد والزراعة) لكن لا يصح بيعه.
ولذلك ذهب جماهير العلماء إلى تحريم بيع الكلب مطلقاً المعلم أو غير المعلّم.
قال النووي: وبهذا قال جماهير العلماء منهم: أبو هريرة، والحسن، والبصري، وربيعة، والأوزاعي، والحكم، وحماد والشافعي، وأحمد، وداود، وابن المنذر، وغيرهم.
وقال الحافظ: ظَاهِر النَّهْي تَحْرِيم بَيْعه، وَهُوَ عَامّ فِي كُلّ كَلْب مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْره مِمَّا يَجُوز اِقْتِنَاؤُهُ أَوْ لا يَجُوز، وَمِنْ لازِم ذَلِكَ أَنْ لا قِيمَة عَلَى مُتْلِفه، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُور " انتهى.
الأدلة على تحريم بيعه:
أ-عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ اَلْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ اَلْكَاهِنِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ب- ولحديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ). متفق عليه
ج- ولحديث أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْب) رواه البخاري.
د- ولحديث ابن عباس مرفوعاً (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كَفَّهُ تراباً) رواه أبو داود وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر.
هـ- ولحديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلا مَهْرُ الْبَغِيِّ) رواه أبو داود، قال الحافظ: إسناده حسن.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز بيع كلب الصيد لرواية (إلا كلب صيد) لكن هذا القول ضعيف وهذه الزيادة غير ثابتة.
قالَ النسائي بعد روايته للحديث: هَذَا مُنْكَرٌ.
وقال السندي في (حاشية النسائي) ضعيف باتفاق المحدثين.
وقال النووي: وَأَمَّا الأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَنْ ثَمَن الْكَلْب إِلا كَلْب صَيْد، وَأَنَّ عُثْمَان غَرَّمَ إِنْسَانًا ثَمَن كَلْب قَتَلَهُ عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَعَنْ اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِ التَّغْرِيم فِي إِتْلافه فَكُلّهَا ضَعِيفَة بِاتِّفَاقِ أَئِمَّة الْحَدِيث. (شرح مسلم).
فائدة:
اختلف العلماء في حكم بيع السّنور على قولين:
القول الأول: تحريم بيعه.
وهو قول الظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله.
وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه ومجاهد وجابر بن زيد.
وجزم ابن القيم بتحريم بيعه في (زاد المعاد) وقال: وكذلك أفتى أبو هريرة رضي الله عنه وهو مذهب طاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وجميع أهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب لصحة الحديث بذلك، وعدم ما يعارضه فوجب القول به.
قال الشوكاني: وهو يتكلم عن فقه الحديث: وفيه دليل على تحريم بيع الهر، وبه قال أبو هريرة، ومجاهد، وجابر وابن زيد حكى ذلك عنهم ابن المنذر وحكاه المنذري عن طاووس.
أ-عَنْ أَبِي اَلزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ اَلسِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ? فَقَالَ (زَجَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ب- وروى أبو داود والترمذي عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ).
القول الثاني: جوزا بيعه.
وهو قول جمهور العلماء. (كما حكاه النووي عنهم).
قال النووي: هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة.
وأجاب هؤلاء عن حديث النهي بأجوبة:
الجواب الأول: أنه ضعيف.
وأشار إلى هذا الإمام الخطابي، وعزاه النووي لابن المنذر.
والرد عليهم:
قال النووي: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيّ وَأَبُو عَمْرو بْن عَبْد الْبَرّ مِنْ أَنَّ الْحَدِيث فِي النَّهْي عَنْهُ ضَعِيف فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، بَلْ الْحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسْلِم وَغَيْره. (شرح مسلم).
وقال رحمه الله: أما ما ذكره الخطابي وابن المنذر أن الحديث ضعيف فغلط منهما، لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح. (المجموع)
الجواب الثاني: أنه محمول على كراهة التنزيه.
والرد عليهم:
قال الشوكاني في (نيل الأوطار) ولا يخفى أن هذا إخراج للنهي عن معناه الحقيقي بلا مقتضٍ.
الجواب الثالث: أن المراد بالنهي: الهرة الوحشية التي لا يملك قيادها فلا يصح بيعها لعدم الانتفاع بها.
قال النووي: وأما النهي عن ثمن السنور فهو محمول على أنه لا ينفع، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْفَع وَبَاعَهُ صَحَّ الْبَيْع.
الجواب الرابع: أن ذلك كان في ابتداء الإسلام.
والرد عليهم:
قال البيهقي في السنن رداً على الجمهور أيضاً: وقد حمله بعض أهل العلم على الهر إذا توحش فلم يقدر على تسليمه، ومنهم من زعم أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكوماً بنجاسته، ثم حين صار محكوماً بطهارة سؤره حل ثمنه، وليس على واحد من هذين القولين دلالة بينة.
(الرابع: أن يكون مقدوراً على تسليمهِ).
أي: يشترط أن يكون المبيع أو الثمن مقدوراً على تسليمه، فلا يجوز بيع معجوز عن تسليمه.
أ-لحديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أن ما لا يقدر على تسليمه هو بيع مجهول العاقبة، وما كان مجهول العاقبة فهو غرر. (لأنه لا يدرى هل يتمكن من إمساكه أم لا).
ب- قبض المبيع واستيلاء العاقد عليه هو المقصود من البيع، وعلى هذا لا يجوز بيع غير المقدور على تسليمه لفوات الغرض المقصود، ولأنه غرر، فالمشتري قد يحصل عليه فيكون غانماً، وقد لا يحصل عليه فيكون غارماً.
(فلا يصح بيعُ عبد آبق).
أي: فلا يجوز بيع عبد هارب من سيده، لأنه غير مقدور على تسليمه.
أ- لأنه غرر، لأنه لا يدرى هل يتمكن من إمساكه أم لا.
ب- وأيضاً هو داخل في الميسر أيضاً [لأنه دائر بين المغنم والمغرم]، لأن البائع لن يبيعه بسعر مثله، لأنه آبق، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يباع الآبق بمثل سعر غير الآبق، وكذلك المشتري إذا حصل على العبد فهو غانم، وان لم يحصل فهو غارم، وهذا هو الميسر.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ؛ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ الْآبِقِ لَا يَصِحُّ، سَوَاءٌ عَلِمَ مَكَانَهُ، أَوْ جَهِلَهُ، وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالْفَرَسِ الْعَائِرِ، وَشِبْهِهِمَا.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ بَعْضِ وَلَدِهِ بَعِيرًا شَارِدًا.
وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْآبِقِ، إذَا كَانَ عِلْمُهُمَا فِيهِ وَاحِدًا.
وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُهُ.
أ-وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذَا بَيْعُ غَرَرٍ.
ب-وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ إنْسَانٍ، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ.
(وجمل شارد).
أي: ولا يجوز بيع البعير الشارد.
لأنه غرر كما تقدم في العلة السابقة.
(وطيرٍ في هواء).
أي: وكذلك لا يجوز بيع الطير في الهواء.
لأنه غير مقدور على تسليمه.
فائدة:
لكن إذا كان يألف المكان والرجوع إليه فهل يجوز بيعه؟ قولان:
القول الأول: المنع مطلقاً.
وهذا المذهب.
والقول الثاني: الجواز،
واختاره ابن عقيل، وهو الأظهر، فإن رجع إلى مكانه فذاك، وإلا فللمشتري الفسخ.
(والسمك في الماء).
أي: لا يجوز بيع السمك في الماء، لأنه لا يقدر على تسليمه.
قال ابن قدامة: وَلَا السَّمَكِ فِي الْآجَامِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ، قَالَ: إنَّهُ غَرَرٌ.
وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ.
وَالْمَعْنَى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْمَاءِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ رَقِيقًا، لَا يَمْنَعُ مُشَاهَدَتَهُ وَمَعْرِفَتَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُمْكِنَ اصْطِيَادُهُ وَإِمْسَاكُهُ.
فَإِنْ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَعْلُومٌ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ فَجَازَ بَيْعُهُ، كَالْمَوْضُوعِ فِي الطَّسْتِ.
وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِمَّا ذَكَرْنَا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِذَلِكَ. (المغني).
(ولا بيع المغصوب).
أي: ولا يجوز بيع المغصوب.
المغصوب: هو ما أخذ من مالكه قهراً، فهذا لا يجوز بيعه.
أ-لأنه غير مقدور على تسليمه.
ب- ولأن الإنسان غالباً لا يبيع المغصوب إلا بدون ثمنه، فان حصله المشتري فهو غانم، وإن لم يحصله فهو غارم، وهذا هو الميسر.
(إلا لغاصبه أو من يقدر على أخذه منه).
أي: لا يجوز بيع المغصوب إلا لواحد من اثنين:
الأول: الغاصب.
لكن بشرط الرضا من قبل صاحبه، فيقول المالك للغاصب اشتري مني ما غصبتني، فاشتراه، فهذا يصح.
الثاني: من يقدر على أخذه منه.
كأن يبيع المالك المغصوب إلى أحد أقارب الغاصب، كأبيه أو عمه، فهذا البيع يجوز، لإمكان القدرة على التسليم.
فائدة:
تعريف الغرر:
قال ابن تيمية: هو ما تردد بين السلامة والعطب، ومعنى هذا: ما كان متردداً بين أن يسلم للمشتري فيحصل المقصود بالعقد، وبين أن يعطب فلا يحصل المقصود بالعقد.
وقال ابن القيم: الغرر ما تردد بين الحصول والفوات. (الذي لا يدري حصوله، هل يحصل أم لا) كبيع جمل شارد.
- الجهالة: هو ما علم حصوله وجهلت صفته. مثال: قال المشتري: أشتري منك هذا الكتاب بالمال الذي في جيبي (هذا يسمى جهالة لأننا علمنا حصوله لكننا لا ندري مقدار الدراهم).
- والنهي عن بيع الغرر أصل عظيم في باب البيع يدخل تحته مسائل كثيرة.
قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الآبق والمعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه.
• قاعدة مهمة: كل معاملة محرمة إنما تحرم لواحد من أمور أربعة: إما لوجود الربا فيها، وإما لما فيها من الميسر [إما غانماً أو غارماً] وإما لما فيها من الظلم والتغرير والخداع، وإما هذا العقد يتضمن ترك واجب أو فعل محرم [مثل البيع بعد نداء الجمعة الثاني، أو باع سلاحاً في فتنة، أو باع عنباً لمن يتخذه خمراً].
(الخامس: وأن يكون العاقد [البائع والمشتري] مالكاً للشيء أو مأذوناً فيه).
فلا يجوز للإنسان أن يبيع ملك غيره، فلو باع إنسان سيارة غيره، فإن البيع لا يصح.
أ-لحديث حكيم بن حزام. (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: إنه يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق. فقال: لا تبع ما ليس عندك) رواه أحمد، أي لا تبع ما ليس في ملكك أو تحت تصرفك.
ب-ولأن بيع ما لا يملك تصرف في مال الغير، والتصرف في مال الغير حرام وظلم ومن أكل المال بالباطل وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).
ج-ولأننا إذا قلنا بجواز بيع الإنسان لملكِ غيره أدى ذلك إلى أن يستحل المال فيأكل المال المدفوع في مقابل ذلك المملوك بدون وجه حق.
• إذا كان المبيع ليس عنده وقت العقد فإن البيع لا يصح (كما يفعله بعض التجار يبيع السلعة قبل أن يملكها، فهذا لا يجوز، وكذلك يفعله كثير من البنوك).
(فإن باعَ ملكَ غيره لم يصح).
لأنه ليس بمالك لهذا الشيء.
(ولا يصح بيع الفضولي ولو أجيز بعد).
الفضولي عند الفقهاء: هو من يتصرف في حق الغير بغير إذن شرعي أو ولاية.
فتصرف الفضولي وبيعه لا يصح ولو أجازه المالك.
وهذا مذهب الشافعي في الجديد، ومذهب الحنابلة، وبه قال الظاهرية.
أ- لحديث حكيم بن حزام مرفوعاً (لا تبع ما ليس عندك) رواه الترمذي.
وجه الدلالة: أن الفضولي ليس بمالك، فكان ممنوعاً من البيع والشراء لعدم الملك.
ب-ولحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً (لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن فيه النهي عن بيع ما لا يملك، وهذا الفضولي لا يملك، والنهي يقتضي الفساد فيبطل.
ج- ولحديث أبي بكرة مرفوعاً (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن تصرف الفضولي في مال الغير حرام، لأنه تصرف في مال أخيه المسلم بلا إذن فيحرم.
د- ولأنه تمليك مالا يملك، وبيع مالا يقدر على تسيلمه، فأشبه بيع الطير في الهواء.
وذهب بعض العلماء: أن تصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإن أجازه المالك صح وإلا فلا.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.
أ-لحديث عُرْوَة الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي بِهِ أُضْحِيَّةً، أَوْ شَاةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، فَكَانَ لَوْ اِشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ ضِمْنَ حَدِيثٍ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَه.
وجه الدلالة: أن عروة قد أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بشراء شاة واحدة، ولم يأذن له في البيع، فاشترى شاة أخرى، وباع، وكل ذلك كان من قبيل تصرف الفضولي، فأجازه الرسول ودعا له بالبركة.
ب-أن عقد الفضولي إذا أجازه المالك جاز قياساً على الوصية بأكثر من الثلث، فإنها تصح وتكون موقوفة على إجازة الورثة.
وهذا القول هو الصحيح.
فائدة:
إذا لم يجز المالك تصرف الفضولي فلا ينفذ تصرفه بلا خلاف.
(السادس: أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة).
أي: أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة، أي: عند البائع والمشتري، فلا يكفي علم أحدهما.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وإذا لم يكن معلوماً كان فيه غرر وجهالة.
فالرؤية فيما يعلم بالرؤية، والشم فيما يعلم بالشم.
(فلا يُباعُ حملٌ في بطْنٍ).
أي: لا يجوز بيع الحمل في البطن.
مثال: قال بعتك ما بطني هذه الشاة.
لا يجوز لأنه غرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، فإنه لا يدرى هل هو ذكر أو أنثى، وهل هو حي أو ميت، وقد يكون واحداً أو أكثر.
- وكذلك لا يجوز بيع ما في بطن أَمَته.
فلو كان عنده أمَة يطأها فقال بعتك حمل هذه الأَمَة، هذا لا يجوز لأنه بيع معدوم، لو قدرنا أنه سيوجد فهو مجهول العاقبة: لا ندري هل متعدد أولا، وهل هو ذكر أم أنثى.
(ولبن في ضرع).
أي: لا يجوز بيع اللبن في الضرع منفرداً.
لأنه مجهول.
فائدة: 1
لا يجوز بيع عبد من عبيده،
مثال: عندي عشرة عبيد، فقلت: بعت عليك واحداً منهم بمائة، فلا يصح، لأن فيه غرر، لأن العبيد يختلفون، ومثل ذلك الغنم.
- لكن لو قال: خذ ما تشاء من هؤلاء العبيد أو من هذه الغنم بمائة، فالمذهب لا يجوز، والصحيح أن هذه الصورة جائزة، فإن أخذ المشتري شيئاً غالياً فنقول: إن البائع هو الذي فرط.
فائدة: 2
كل بيع يتضمن الغرر أو الجهالة فهو حرام لأمرين:
الأمر الأول: إبعاد الناس عن أكل الأموال بالباطل، والثاني: إبعاد الناس عن الشقاق والنزاع.
فائدة: 3
يستثنى من ذلك: حمل الشاة وهي حامل،
فإنه هذا يجوز، لأن الحمل ثبت تبعاً (ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً).
- الجهالة مفضية إلى النزاع، والشريعة راعت سد مفسدة النزاع.
(السابع: أن يكون الثمن معلوماً قدره وصفته للطرفين).
أي: يشترط أن يكون الثمن (وهو المال) معلوماً قدره، وهل هو حال أو مؤجل.
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وإذا كان الثمن مجهولاً حصل الغرر والخداع، والثمن أحد العوضين، فالجهل به غرر كالجهل بالمبيع.
مثال: لو قال اشتريت منك هذه السلعة بما في جيبي من الدراهم، فهذا لا يجوز.
فائدة:
اختلف العلماء: في بيع بما ينقطع به السعر،
وهو ما تقف عليه المساومة:
فقيل: لا يصح.
لأنه مجهول، فقد يقف السعر على ثمن كثير أو قليل فيحصل الغرر.
وقيل: يصح البيع بما ينقطع به السعر.
واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، لأن الإنسان يطمئن ويقول: لي أسوة بالناس آخذه بما يأخذ به غيري.
موانع البيع
المانع: هو ما يلزم من وجوده العدم.
والأشياء لا تتم إلا بوجود شروطها وانتفاء موانعها وهذا في كل شيء.
مثال: قد يدعو الإنسان ربه ويأتي بأسباب الإجابة لكن لا يستجاب له؟ لأنه قد يكون هناك مانع من الإجابة من أكل للحرام أو غيره.
(يحرمُ بيع وشراء في المسجد).
أ- لحديث أبي هريرة. أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال (إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ، أَوْ يَبْتَاعُ فِي اَلْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اَللَّهُ تِجَارَتَكَ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
ب- ولحديث عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ) رواه الترمذي.
قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على البائع والمشتري في المسجد بعدم الربح، وهذا عقوبة لهم.
وذهب بعض العلماء: إلى كراهة ذلك.
وهذا قول جماهير العلماء.
للأحاديث السابقة.
وجه الدلالة: أن هذا الدعاء عليه يدل على كراهة البيع، ولو كان محرماً لبين النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وهذا الراجح.
قال ابن رجب: وحكى الترمذي في جامعه قولين لأهل العلم من التابعين في كراهة البيع في المسجد، والكراهة قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو عند أصحابنا كراهة تحريم، وعند كثير من الفقهاء كراهة تنزيه. (الفتح).
فائدة:
واختلف العلماء: هل إذا وقع البيع يصح أم لا؟
والذي عليه جمهور العلماء: أن العقد صحيح مع الكراهة.
قال ابن هبيرة: وَاخْتلفُوا فِي البيع وَالشِّرَاء فِي الْمَسْجِد: فَمنع صِحَّته وجوازه: أَحْمد،
…
وَأَجَازَهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ مَعَ الْكَرَاهَة. (اختلاف الأئمة العلماء)
وقال البهوتي: فَإِنْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى فِي الْمَسْجِدِ: فَبَاطِلٌ، قَالَ أَحْمَدُ: وَإِنَّمَا هَذِهِ بُيُوتُ اللَّهِ لَا يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبَيْعَ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ مَعَ الْكَرَاهَة.
…
(كشاف القناع).
وهذا الأقرب وهو صحة البيع.
لأن النهي يرجع إلى سبب خارج عن ماهية البيع وشروطه.
وقد رجح هذا القول: ابن قدامة من الحنابلة، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
قال الجصاص: وَلَوْ بَاعَ فِيهِ: جَازَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي غَيْرِ العقد. (أحكام القرآن).
وقال ابن قدامة: فَإِنْ بَاعَ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ، وَشُرُوطِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ وُجُودُ مُفْسِدٍ لَهُ، وَكَرَاهَةُ ذَلِكَ لَا تُوجِبُ الْفَسَادَ، كَالْغِشِّ فِي الْبَيْعِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ.
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ)، مِنْ غَيْرِ إخْبَارٍ بِفَسَادِ الْبَيْعِ: دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِه. (المغني).
وقال ابن خزيمة: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ) مَعْنى.
وقال المرداوي: وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَة.
بل قال ابن بطال: وقد أجمع العلماء أن ما عُقد من البيع في المسجد: أنه لا يجوز نقضه، إلا أن المسجد ينبغي أن يُجنب جميع أمور الدنيا.
(ولا ممن تلزمه الجمعة بعد النداء الثاني).
أي: لا يصح البيع ولا الشراء بعد النداء الثاني للجمعة لأي واحد تجب عليه الجمعة.
فالبيع عند نداء الجمعة الثاني: حرام.
وهذا قول عامة الفقهاء.
لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ).
قال القرطبي: قوله تعالى (وَذَرُوا الْبَيْعَ) منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة وحرَّمه في وقتها على من كان مخاطباً بفرضها، والبيع لا يخلو من شراء فاكتفى بذكر أحدهما
…
وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق.
…
(تفسير القرطبي).
• قوله (ولا يصح البيع
…
) هذا القول الأول في المسألة: أن البيع - حرام كما تقدم - ولا يصح بل هو باطل.
قال الشيخ ابن عثيمين: إن البيع بعد نداء الجمعة الثاني حرام وباطل أيضاً، وعليه فلا يترتب عليه آثار البيع، فلا يجوز للمشتري التصرف في المبيع؛ لأنه لم يملكه، ولا للبائع أن يتصرف في الثمن المعين؛ لأنه لم يملكه، وهذه مسألة خطيرة؛ لأن بعض الناس ربما يتبايعون بعد نداء الجمعة الثاني ثم يأخذونه على أنه ملك لهم " انتهى.
وذهب بعض العلماء: إلى أن البيع حرام لكنه إذا وقع فهو صحيح.
قالوا: لأن النهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ليس لعين البيع، وإنما لأمر خارج مقارن له، وهو تفويت الجمعة، وتعطيل السعي إليها.
وهذا قول قوي.
فائدة: 1
المراد بالنداء هو النداء الثاني الذي يكون بعد جلوس الخطيب على المنبر،
فلو باع بعد النداء الأول واشترى لكان صحيحاً.
فمذهب الجمهور: أن التحريم متعلق بالأذان الثاني - الذي يكون عقب جلوس الإمام على المنبر - لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أذان واحد للجمعة - بعد أن يجلس الإمام على المنبر -، فيتعين أن يكون هذا الأذان هو المراد في الآية (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) حين نزلت، ولأن البيع عند هذا الأذان يشغل عن الصلاة، ويكون ذريعة إلى فواتها، أو فوات بعضها.
قال ابن قدامة: والنداء الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النداء عَقِيْب جلوس الإمام على المنبر، فتعلق الحكم به دون غيره. ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الزوال أو بعده.
فائدة: 2
قوله (ممن تلزمه الجمعة)
فمن لا تلزمه الجمعة: كالمرأة - والمسافر - والصبي - والمريض، لهم البيع والشراء.
لأن النهي معلل بوجوب السعي لذكر الله، والعلة اذا نص عليها الدليل فان الحكم يدور معها وجوداً وعدماً، فكل من لم يخاطب بالسعي لا يخاطب بالنهي.
قال ابن قدامة: وَتَحْرِيمُ الْبَيْعِ، وَوُجُوبُ السَّعْيِ، يَخْتَصُّ بِالْمُخَاطَبِينَ بِالْجُمُعَةِ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمُسَافِرِينَ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ.
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَهَى عَنْ الْبَيْعِ مَنْ أَمَرَهُ بِالسَّعْيِ، فَغَيْرُ الْمُخَاطَبِ بِالسَّعْيِ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ مُعَلَّلٌ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِمْ. (المغني).
فائدة: 3
إذا كان الأذان يقع في أوقات مختلفة
لاختلاف المساجد التي تقام فيها الجمعة، فهل يعتبر في وجوب ترك البيع الأذان الذي يكون في أول مسجد، أو يعتبر الأذان في المسجد الذي تراد الصلاة فيه؟
في هذا خلاف بين العلماء.
فقيل: الانكفاف عن البيع يكون من أذان أول هذه الجوامع المختلفة.
لعموم الآية.
وقيل: إن ترك البيع إنما يلزم بأذان المسجد الذي يريد الصلاة فيه، فإذا لم يكن يريد الصلاة في أول مسجد أذن في لم يلزمه ترك البيع.
قال الشيخ ابن عثيمين: إنه لا يحل لرجل تلزمه الجمعة إذا سمع النداء الثاني من المسجد الذي يريد أن يصلي فيه الجمعة لا يحل له أن يتلهى عن الحضور بل يجب عليه المبادرة فوراً إلى المسجد، ويجب عليه أيضاً أن يدع البيع والشراء فمن باع أو اشترى بعد أذان يوم الجمعة الثاني من المسجد الذي يريد الصلاة فيه فإن بيعه محرم وهو آثم به. انتهى.
فائدة: 4
جاء في (الموسوعة الفقهية) أما لو وجبت على أحدهما دون الآخر: فمذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، أنهما يأثمان جميعاً، لأن الأول الذي وجبت عليه ارتكب النهي، والآخر الذي لم تجب عليه أعانه عليه.
(ويصحُ النكاحُ وسائرُ العقود).
أي: يصح النكاح - وكذا سائر العقود كالضمان والإجارة ونحوها - بعد نداء الجمعة الثاني.
لأن النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْبَيْعِ، وَغَيْرُهُ لَا يُسَاوِيهِ فِي الشَّغْلِ عَنْ السَّعْيِ؛ لِقِلَّةِ وُجُودِهِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْبَيْعِ. (المغني)
وذهب بعض العلماء: إلى النهي عام لجميع العقود النكاح وسائر العقود.
وهذا قول الجمهور.
جاء في الموسوعة الفقهية: النَّهْيُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ شَامِلٌ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَسَائِرَ الْعُقُودِ.
وروى الإمام البخاري عن عطاء أحد أئمة التابعين أنه قال: تحرم الصناعات كلها - أي وقت النداء للجمعة.
وذكر الحافظ ابن حجر رواية أخرى عن عطاء بلفظ آخر: إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتاباً.
وقال الحافظ: وبهذا قال الجمهور أيضاً. . . . (فتح الباري).
(ولا يصح بيعُ عصيرٍ على من يتخذُه خمراً).
أي: لا يجوز بيع عصير لرجل يُعلم أنه يتخذه خمراً.
وهذا قول الجمهور.
أ- لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
ب- لأنه إعانة على الإثم والعدوان.
قال ابن قدامة: لقَوْل اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً.
فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ، وَشَارِبَهَا وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَسَاقِيَهَا) وَأَشَارَ إلَى كُلِّ مُعَاوِنٍ عَلَيْهَا، وَمُسَاعِدٍ فِيهَا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَنَس.
وَلِأَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَيْهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهَا لِلْمَعْصِيَةِ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ أَمَتِهِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِيَزْنِيَ بِهَا.
فائدة: 1
وهذا التحريم مقيد بعلم البائع قصد المشتري.
فالجمهور اشترطوا للمنع من هذا البيع: أن يعلم البائع بقصد المشتري اتخاذ الخمر من العصير، فلو لم يعلم لم يكره بلا خلاف.
قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ، إذَا عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، إمَّا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا بِقَرَائِنَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمِلًا، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ، أَوْ مَنْ يَعْمَلُ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ مَعًا، وَلَمْ يَلْفِظْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْخَمْرِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ. (المغني).
فائدة: 2
ومثله بيع السلاح لمن يقتل مسلماً، فكل ما يتوصل به إلى محرم فهو حرام.
قال ابن قدامة: وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْحَرَامُ، كَبَيْعِ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الْفِتْنَةِ، وَبَيْعِ الْأَمَةِ لِلْغِنَاءِ، أَوْ إجَارَتِهَا كَذَلِكَ، أَوْ إجَارَةِ دَارِهِ لِبَيْعِ الْخَمْرِ فِيهَا، أَوْ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ فَهَذَا حَرَامٌ.
(ولا يصح بيع عبد مسلم لكافر).
لأن فيه إذلالاً للعبد المسلم.
يستثنى من ذلك مسألتين:
الأولى: إذا كان هذا العبد ابناً لهذا الكافر، أو أباً له، فإنه يعتق بمجرد الشراء.
الثانية: أن يقول الكافر: إذا اشتريت هذا العبد فهو حر.
ووجه استثناء هذه المسائل:
لأن فيها مصلحة للعبد.
البيوع المحرمة
(بيع المسلم على أخيه المسلم).
يحرم أن يبيع المسلم على بيع أخيه.
أ- عَنْ أبي هريرة. قال قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ اَلرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ) متفق عليه.
ب- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ) رواه مسلم.
ج- وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَنَاجَشُوا وَلَا يَبِعِ الْمَرْءُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَاد) متفق عليه.
د- وعن عقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ. قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَر) رواه مسلم.
- مثاله: أن يشتري شخص من إنسان سلعة بـ (10) ثم يأتيه آخر ويقول: أعطيك مثلها بـ (9) أو يقول أعطيك أحسن منها بـ (10).
- ومثله: الشراء على شراء الرجل، فإنه حرام.
قال ابن قدامة: كَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَجِيءَ إلَى الْبَائِعِ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ، فَيَدْفَعَ فِي الْمَبِيعِ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اُشْتُرِيَ بِهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ أَيْضًا.
أ- لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
ب-وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُسَمَّى بَيْعًا، فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ.
ج-وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْخَاطِبِ. (المغني).
مثال ذلك: علمتُ أن زيداً باع على عمر بيته بـ 100، فذهبت إلى زيد وقلت له: يا فلان، أنت بعت بيتك على عمر بـ 100، أنا سأعطيك 120.
• الحكمة من النهي: قطع العدوان على الغير، واجتناب ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء.
قال ابن قدامة: فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ، وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِ.
•
اختلف العلماء في حكم هذا البيع على قولين:
القول الأول: أنه صحيح مع الإثم.
وهذا مذهب الجمهور كما ذكر ذلك الشوكاني.
القول الثاني: أنه باطل.
وهذا مذهب المالكية، والحنابلة ورجحه ابن حزم وابن تيمية.
لأن النهي عائد إلى العقد نفسه.
-
اختلف العلماء: هل يجوز البيع على بيع الكافر على قولين:
القول الأول: يجوز.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا يبع الرجل على بيع أخيه) والكافر ليس أخاً.
القول الثاني: لا يجوز.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قالوا: وأما قوله (لا يبع الرجل على بيع أخيه) فهذا قيد أغلبي لا مفهوم له.
- مثال ذلك: اشترى مسلم من كافر سلعة، فلا يجوز أن يذهب البائع المسلم ويقول له: أنا أعطيك السلعة بأقل
- يجوز بيع الرجل على بيع الرجل إذا أذِن له البائع.
لحديث ابْن عُمَرَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ) متفق عليه.
قال الحافظ: قوله (إلا أن يأذن له) يحتمل أن يكون استثناء من الحكمين كما هو قاعدة الشافعي.
ويحتمل أن يختص بالأخير.
ويؤيد الثاني رواية المصنف في النكاح من طريق بن جريج عن نافع بلفظ (نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب).
ومن ثم نشا خلاف للشافعية هل يختص ذلك بالنكاح أو يلتحق به البيع في ذلك والصحيح عدم الفرق، وقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ (لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر).
(بيع الملامسة والمنابذة والحصاة).
وهذه بيوع محرمة.
أ-عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُنَابَذَةِ - وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ - وَنَهَى عَنْ الْمُلامَسَةِ. وَالْمُلامَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ وَلا يُنْظَرُ إلَيْهِ) متفق عليه.
ب- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
•
تفسير الملامسة:
أن يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا.
•
تفسير المنابذة:
أن يقول البائع للمشتري: أي ثوب نبذته فهو لك بعشرة.
قد يكون هذا الثوب الذي نبذه إليه لا يساوي عشرة، وقد يساوي أكثر، وقد يساوي أقل.
فالمشتري و البائع أحدهما غانم والآخر غارم.
هذه البيوع كانت موجودة في الجاهلية ونهى عنها الإسلام لما فيها من الغرر والجهالة
•
الحكمة من النهي:
اشتمالها على الغرر والجهالة، ولدخولهم تحت الميسر فيكون: أحدهما إما غانماً أو غارماً.
- البيع لا يصح.
وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو أن البيع لا يصح، لأن النهي منصب على نفس الفعل.
إذاً بيع المنابذة والملامسة والحصاة يترتب عليه أمران: إثم العاقدان - فساد العقد.
(بيع الغَرر).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اَلْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ اَلْغَرَرِ) رَوَاهُ مُسْلِم.
تعريفه:
قال ابن تيمية: هو مجهول العاقبة.
وقال: هو ما تردد بين السلامة والعطب، ومعنى هذا: ما كان متردداً بين أن يسلم للمشتري فيحصل المقصود بالعقد، وبين أن يعطب فلا يحصل المقصود بالعقد.
وقال ابن القيم: الغرر ما تردد بين الحصول والفوات. (الذي لا يدري حصوله، هل يحصل ام لا) كبيع جمل شارد.
- وبيع الغرر يدخل تحته مسائل كثيرة.
قال النووي: أَمَّا النَّهْي عَنْ بَيْع الْغَرَر فَهُوَ أَصْل عَظِيم مِنْ أُصُول كِتَاب الْبُيُوع، وَلِهَذَا قَدَّمَهُ مُسْلِم وَيَدْخُل فِيهِ مَسَائِل كَثِيرَة غَيْر مُنْحَصِرَة كَبَيْعِ الْآبِق وَالْمَعْدُوم وَالْمَجْهُول وَمَا لَا يَقْدِر عَلَى تَسْلِيمه وَمَا لَمْ يَتِمّ مِلْك الْبَائِع عَلَيْهِ وَبَيْع السَّمَك فِي الْمَاء الْكَثِير وَاللَّبَن فِي الضَّرْع وَبَيْع الْحَمْل فِي الْبَطْن وَبَيْع بَعْض الصُّبْرَة مُبْهَمًا وَبَيْع ثَوْب مِنْ أَثْوَاب وَشَاة مِنْ شِيَاه وَنَظَائِر ذَلِكَ، وَكُلّ هَذَا بَيْعه بَاطِل لِأَنَّهُ غَرَر مِنْ غَيْر حَاجَة.
• يعفى عن اليسير من الغرر الذي لابد منه.
قال القرطبي: كل بيع لابد فيه من نوع من الغرر، لكنه لما كان يسيراً غير مقصود لم يلتفت الشرع إليه.
وقال النووي: .... وَقَدْ يَحْتَمِل بَعْض الْغَرَر بَيْعًا إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَة كَالْجَهْلِ بِأَسَاسِ الدَّار وَكَمَا إِذَا بَاعَ الشَّاة الْحَامِل وَاَلَّتِي فِي ضَرْعهَا لَبَن فَإِنَّهُ يَصِحّ لِلْبَيْعِ، لِأَنَّ الْأَسَاس تَابِع لِلظَّاهِرِ مِنْ الدَّار، وَلِأَنَّ الْحَاجَة تَدْعُو إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِن رُؤْيَته. وَكَذَا الْقَوْل فِي حَمْل الشَّاة وَلَبَنهَا. وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز أَشْيَاء فِيهَا غَرَر حَقِير، مِنْهَا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّة بَيْع الْجُبَّة الْمَحْشُوَّة وَإِنْ لَمْ يُرَ حَشْوهَا، وَلَوْ بِيعَ حَشْوهَا بِانْفِرَادِهِ لَمْ يَجُزْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز إِجَارَة الدَّار وَالدَّابَّة وَالثَّوْب وَنَحْو ذَلِكَ شَهْرًا مَعَ أَنَّ الشَّهْر قَدْ يَكُون ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُون تِسْعَة وَعِشْرِينَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز دُخُول الْحَمَّام بِالْأُجْرَةِ مَعَ اِخْتِلَاف النَّاس فِي اِسْتِعْمَالهمْ الْمَاء وَفِي قَدْر مُكْثهمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز الشُّرْب مِنْ السِّقَاء بِالْعِوَضِ مَعَ جَهَالَة قَدْر الْمَشْرُوب وَاخْتِلَاف عَادَة الشَّارِبِينَ وَعَكْس هَذَا.
قَالَ الْعُلَمَاء: مَدَار الْبُطْلَان بِسَبَبِ الْغَرَر. وَالصِّحَّة مَعَ وُجُوده عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِنْ دَعَتْ حَاجَة إِلَى اِرْتِكَاب الْغَرَر وَلَا يُمْكِن الِاحْتِرَاز عَنْهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَكَانَ الْغَرَر حَقِيرًا جَازَ الْبَيْع وَإِلَّا فَلَا. (شرح مسلم).
وقال ابن القيم: ليس كل غرر سبباً للتحريم، والغرر إذا كان يسيراً أو لا يمكن الاحتراز منه لم يكن مانعاً من صحة العقد.
(بيع الحصاة).
أي: ومن البيوع المحرمّة: البيع الذي استعملت فيه الحصاة. (أو البيع المنسوب إلى الحصاة).
وهو بيع حرام، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اَلْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ اَلْغَرَرِ) رَوَاهُ مُسْلِم.
-
معناه:
أن يقول البائع للمشتري: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا.
أو يقول له: ارم هذه الحصاة، فحيث وقعت من الأرض فهي لك بكذا.
وهذه أقوال بعض العلماء في تفسير الحصاة:
قال النووي: أَمَّا بَيْع الْحَصَاة فَفِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَات:
أَحَدهَا: أَنْ يَقُول: بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَاب مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحَصَاة الَّتِي أَرْمِيهَا، أَوْ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَرْض مِنْ هُنَا إِلَى مَا اِنْتَهَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاة.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُول: بِعْتُك عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ أَرْمِي بِهَذِهِ الْحَصَاة.
وَالثَّالِث: أَنْ يَجْعَلَا نَفْس الرَّمْي بِالْحَصَاةِ بَيْعًا، فَيَقُول: إِذَا رَمَيْت هَذَا الثَّوْب بِالْحَصَاةِ فَهُوَ مَبِيع مِنْك بِكَذَا.
وقال القرطبي: اختُلف فيه على أقوال:
أولها: أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة.
وثانيها: أيُّ ثوب وقعت عليه الحصاة فهو المبيع.
وثالثها: أن يقبض على الحصى، فيقول: ما خرج كان لي بعدده دراهم أو دنانير.
ورابعها: أيُّ زمان وقعت الحصاة من يده وجب البيع. فهذا إيقاف لزوم على زمن مجهول.
وهذه كلها فاسدة لما تضمنته من الخطر، والجهل، وأكل المال بالباطل.
•
الحكمة من النهي:
أ-لماذا ذلك من الجهالة والغرر.
ب-ولأنه أكل لأموال الناس بالباطل.
ج-ولأنه يوقع العداوة والبغضاء بين الناس.
(بيع العِينة).
العينة مشتقة من العيْن، لأن صاحبها محتاج إلى العين، وهي النقد وما يقوم مقامه، وقيل: مشتقة من العَون، لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده.
واصطلاحاً: أن يقوم البائع ببيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها ممن باعها عليه بأقل من ذلك الثمن نقداً.
مثالها: أن يكون محتاج إلى دراهم فلا يجد من يقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها على صاحبها الذي اشتراها منه بثمن أقل منه نقداً.
مثال آخر: بعت عليك هذا البيت بمائة ألف لمدة سنة نسيئة {مؤجل} ثم رجعت إليك من الغد واشتريته منك نقداً بثمانين ألف.
حكمها:
حرام عند جماهير العلماء.
جاء في (الموسوعة الفقهية) ولظهور الحيلة الربوية في هذا النوع من البيوع، ذهب جماهير أهل العلم من السلف والخلف إلى تحريمه والمنع منه. حتى قال محمد بن الحسن الشيباني في إحدى صور العينة - كما في "فتح القدير" (7/ 213): هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال، اخترعه أَكَلَةُ الربا.
قال ابن قدامة: أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ ثَمَنٌ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهَا فَجَازَ مِنْ بَائِعِهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا. (المغني).
أ- عَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ اَلْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ اَلْجِهَادَ، سَلَّطَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
ب- أن القول بالتحريم هو المنقول عن عدد من الصحابة، كعائشة، وابن عباس، وأنس.
ج- سئل ابن عباس عن حريرة بيعت إلى أجل، ثم اشتريت بأقل. فقال: دراهم بدراهم، دخلت بينهما حريرة. رواه سعيد وغيره، وجاء نحوه عند عبد الرزاق في مصنفه.
د-ولأنه ذريعة إلى الربا، ليستبيح بيع ألف بنحو خمسمائة إلى أجل، والذريعة معتبرة في الشرع بدليل منع القاتل من الإرث. (المغني)
هـ- أن الله تعالى حرم الربا، والعينة وسيلة إلى الربا، بل هي من أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام، ولهذا نقل عن ابن عباس أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة.
فائدة:
عكس مسألة العينة.
وهي أن يبيع السلعة نقداً بثمن ثم يشتريها منه بأكثر من الثمن الأول نسيئة، كأن يبيع عليك سيارة بعشرة آلاف نقداً ثم يشتريها منه بخمسة عشر ألفاً إلى سنة.
فقيل: كالعينة في الحرمة.
وقيل: تجوز بلا حيلة.
(تلقي الركبان).
الركبان: هم من يقدمون للبلد لبيع سلعهم، والتعبير بالركبان خرج مخرج الغالب، وإلا فهو شامل للمشاة.
حكمه: حرام.
أ- عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. وَلا تَنَاجَشُوا. وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ. . .) متفق عليه.
ب-وعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (لَا تَلَقَّوْا اَلرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ ". قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: " وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ? " قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
ج- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَلَقَّوا اَلْجَلَبَ، فَمَنْ تُلُقِّيَ فَاشْتُرِيَ مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ اَلسُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
•
الحكمة من النهي:
لأن فيه ضرراً على الركبان، وعلى أهل البلد.
أما الركبان فإن المتلقي لهم سيأخذ السلعة بثمن أقل من ثمن السوق، فيحصل لهم الخديعة والغبن.
وأما أهل البلد فإن من تلقى هؤلاء فسوف يشتري منهم برخص، ويكون شراؤه سبب لرفع الأسعار، بخلاف ما لو هبطوا بها الأسواق، فإنه سوف يحصل منهم تنشيط لأهل البلد وربما نزلت الأسعار مع كثرة ما جلب.
قال النووي: سبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته عن الخديعة.
- إذا وقع البيع فالبيع صحيح.
وهذا مذهب الجمهور، ورجحه الشوكاني.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (
…
فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار).
قالوا: ثبوت الخيار للسيد فرع عن صحة البيع.
ب- ولأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد.
- إذا قدم الراكب السوق، وعلم أنه قد غبن فإن له الخيار.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تلقوا الجلب، فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) رواه مسلم.
(فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ اَلسُّوقَ) المراد بالسيد المُتَلَّقَىَ.
(بيع الحاضر للبادي).
الحاضر هو المقيم في المدن والقرى، والباد هو ساكن البادية.
وقد عبر بعض أهل العلم عن البادي بأعم من ذلك، كما قال ابن قدامة: البادي ها هنا من يدخل البلدة من غير أهلها سواء كان بدوياً أو من قرية أو بلدة أخرى.
- إذاً يكون ذكر البادي مثالاً لا قيداً.
- جاء في رواية أن طاووس سأل ابن عباس: ما معنى لا يبع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمساراً.
[السمسار هو الذي يبيع لغيره بأجرة].
•
حكمه: حرام.
عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (لَا تَلَقَّوْا اَلرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ ". قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: " وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ? " قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
•
الحكمة من النهي.
قال ابن قدامة: المعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص، ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد، ضاق على البلد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في تعليله إلى هذا المعنى.
جاء في رواية (لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض).
• إذا وقع البيع فهو صحيح لكن مع الإثم.
(النجش).
النجش: هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها.
•
حكمه: حرام.
أ- عن ابن عمر. قَالَ (نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّجْشِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ب- وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. وَلا تَنَاجَشُوا
…
) متفق عليه.
• هدف الناجش:
أ-أن ينفع البائع.
ب-أن يضر المشتري.
ج-أو الأمرين جميعاً.
هـ-أو مجرد العبث.
(وهو حرام مطلقاً سواء كان بمواطئة صاحب السلعة أو بغيرها).
• إذا وقع البيع فإن البيع صحيح عند أكثر العلماء.
لأن المنهي عنه هو الفعل لا العقد.
• من وقع عليه النجش فإن له الخيار إذا زاد الثمن عن العادة.
الخيار بين: أن يرد السلعة ويأخذ الثمن (الفسخ)، أو يبقيها بثمنها الذي استقر عليه العقد.
فائدة: 1
حكم قول البائع أعطيت بالسلعة كذا وكذا، وهو كاذب:
يجب على البائع أن يصدق في بيعه، ولا يكذب، حتى يبارك الله له في بيعه، فإن كذب محق الله البركة من بيعه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَالَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) رواه البخاري ومسلم
وقول البائع: إنه أُعطي في السلعة كذا، وهو لم يُعْطَ هذا المبلغ كذبٌ بلا شك، وأكل لمال المشتري بالباطل، لأن المشتري إذا صَدَّق البائع أنه أُعطي في السلعة 105 فسوف يزيده بلا شك، فيكون البائع قد خدعه، وكذب عليه، ليزيد السعر، فيكون أكل ماله بالباطل، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التناجش فقال (وَلَا تَنَاجَشُوا).
والنَّجْش هو أن يأتي شخص لا يريد شراء سلعة فيزيد في ثمنها حتى يغر المشتري ويجعله يزيد في الثمن.
قال ابن قدامة: ولو قال البائع: أعطيت بهذه السلعة كذا وكذا، فصدقه المشتري، واشتراها بذلك، ثم بان كاذباً .. فهو في معنى النجش.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين: ومن المناجشة: أن يقول البائع للمشتري: أعطيت في السلعة كذا، وهو يكذب، والمشتري سوف يقول: إذا كانت سِميت بمائتين فأشتريها بمائتين وعشرة، وفعلاً، اشتراها بمائتين وعشرة، وتبين أن قيمتها مائة وخمسون، فإن له الخيار، لأنه غُبِن (خُدِع) على وجه يشبه النجش. (الإسلام سؤال وجواب).
فائدة: 2
ومن صور النجش أن يتفق أهل السوق الذين لهم رغبة في السلعة ألا يحضر أحد عند بيع السلعة، ويحضر أحدهم ولا يزيد عليه أحد حتى يأخذها بثمن رخيص ويكونون شركاء فيها، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على تحريم ذلك، وإذا تبين للبائع أنه غبن غبناً فاحشاً فإن له الخيار.
(حبل الحبلة).
عن ابن عمر (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ اَلْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعاً يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ اَلرَّجُلُ يَبْتَاعُ اَلْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ اَلنَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ اَلَّتِي فِي بَطْنِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(حَبَلِ اَلْحَبَلَةِ) بفتح الباء، والحبل: الحمل. (اَلْجَزُورَ) هو البعير.
•
اختلف العلماء في تفسيره على تفسيرين:
التفسير الأول: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها.
قال النووي: وقد ذكر مسلم في هذا الحديث هذا التفسير عن ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي ومن تابعهم.
التفسير الثاني: وهو بيع ولد الناقة الحامل في الحال.
قال النووي: وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبي عبيد القاسم بن سلام، وآخرين من أهل اللغة، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية، وهذا أقرب إلى اللغة، لكن الراوي هو ابن عمر وقد فسره بالتفسير الأول وهو أعرف.
قال النووي: وهذا البيع باطل على التفسيرين.
وقال: أجمع العلماء على بطلان بيع الجنين للجهالة.
•
الحكمة في النهي عن هذا البيع:
أما على التفسير الأول: فللجهالة في الأجل.
مثال: باع عليه شخص شيء، وأجل الثمن فقال: لا تسلمني الثمن إلا أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها.
وأما على التفسير الثاني: فلأنه بيع معدوم ومجهول وغير مملوك وغير مقدور على تسليمه.
وقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على عدم جواز هذه الصورة من البيوع.
فقد يكون الجنين الذي في بطن الناقة ذكراً، وقد يكون أنثى، وقد يخرج حياً وقد يخرج ميتاً، وقد يكون واحداً، وقد يكون متعدداً.
• لا يقاس عليه بيع الحامل.
لأن الحمل حينئذ تبع والقاعدة (يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً).
ومثله: لو باع اللبن في الضرع، فإنه لا يصح، لكن لو باع شاة فيها لبن صح.
(بيع فضل الماء).
أي: يحرم بيع فضل الماء.
لحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ فَضْلِ اَلْمَاءِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
معناه: النهي عن بيع الماء الفاضل عن حاجة الإنسان وحاجة عياله وماشيته، وأن الواجب بذل الزائد منه لمحتاجه، والمراد بذلك: ما كان في الفلاة من مورد ونحوه، وكذا نقع البئر والعين الجارية، لأن الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار.
قال القرطبي: وأما ماء الأنهار، والعيون، وآبار الفيافي، التي ليست بمملوكة: فالاتفاقُ حاصلٌ: على أن ذلك لا يجوزُ منعه، ولا بيعه، ولا يشك في تناول أحاديث النهي لذلك.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ).
قال الخطابي: معناه الْكَلَأ الَّذِي يَنْبُت فِي مَوَات الْأَرْض يَرْعَاهُ النَّاس لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصّ بِهِ دُون أَحَد أَوْ يَحْجُرهُ عَنْ غَيْره،
…
وَأَمَّا الْكَلَأ إِذَا كَانَ فِي أَرْض مَمْلُوكَة لِمَالِك بِعَيْنِهِ فَهُوَ مَال لَهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُشْرِكهُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِه.
فائدة:
أما بيع الماء إذا حازه الإنسان في خزانه أو في قربة فهذا جائز، قياساً على جواز بيع الحطب إذا أحرزه الحاطب.
كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لأن يَأخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتي بحُزْمَةِ حَطَبٍ على ظَهْرِهِ فيبيعها فَيكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهَ خَيْرٌ لَهُ منْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ) رواه البخاري
قال ابن قدامة: وأما ما يحوزه من الماء في إنائه فإنه يملكه بذلك وله بيعه بلا خلاف بين أهل العلم
…
وعلى ذلك مضت العادة في الأمصار ببيع الماء في الروايا من غير نكير، وليس لأحد أن يشرب منه ولا يتوضأ ولا يأخذ إلا بإذن مالكه. (المغني).
الخلاصة: بيع الماء لا يخلو من حالتين:
الحال الأولى: أن يكون الماء في بئر أو نهر عام ليس ملكاً لأحد، فهذا لا يجوز بيعه.
لما روى أبو داود أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال (الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ).
قال في "عون المعبود: الْمُرَاد الْمِيَاه الَّتِي لَمْ تَحْدُث بِاسْتِنْبَاطِ أَحَد وَسَعْيه كَمَاءِ الْآبَار وَلَمْ يُحْرَز فِي إِنَاء أَوْ بِرْكَة أَوْ جَدْوَل مَأْخُوذ مِنْ النَّهَر، وَالْكَلَأ: وَهُوَ النَّبَات رَطْبه وَيَابِسه.
الحال الثانية: أن يكون الماء في ملك الشخص، وهو الذي أخرجه وحازه في ملكه، فهذا يجوز له أن يبعه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع: أما إذا ملكه وحازه وأخرجه ووضعه في البركة، فإنه يجوز بيعه؛ لأنه صار ملكاً له بالحيازة " انتهى.
(بيع الثمر قبل بدو صلاحها).
حكمه: حرام.
لحديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري) متفق عليه.
الحكمة من النهي:
هو أنها قبل بدو صلاحها معرضة لكثير من الآفات، فإذا تلفت أو تضررت صار ذلك في ملك المشتري الذي لم ينتفع منها.
وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم المنع فقال (أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه؟).
أي لو حصلت آفة أتت عليها، أو على بعضها، فبما يحل لك _ أيها البائع _ مال أخيك المشتري، تأخذه بلا عوض تنتفع به؟
وكذلك في منع ذلك قطع للتخاصم والتنازع بين المتعاملين.
(بيع الأشياء قبل قبضها).
حكمه: حرام.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَهُ. متفق عليه.
وعن ابن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ وَيَقْبِضَه) متفق عليه.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ) رواه مسلم.
وعن زيد بن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) رواه أبو داود.
قوله (مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا) الطعام اسم لسائر المطعومات من القمح والأرز والشعير والتمر.
في هذه الأحاديث نهي من اشترى طعاماً أن يبيعه حتى يستوفيه. (والاستيفاء يكون بكيله).
مثال: اشتريت من صاحب هذه المزرعة هذه الكومة من الحب كل صاع بدرهم، فجاءني شخص وقال: بع عليّ هذا البر الذي اشتريته، فهذا لا يجوز حتى يستوفيه ويقبضه ويكيله.
• واختلف العلماء: هل يقاس عليه غيره أم لا على أقوال:
القول الأول: لا يجوز بيع أي شيء قبل قبضه، سواء مطعوم أو معدود أو عقار أو سيارات.
وهذا مذهب الشافعية، وهو قول محمد وزفر من الحنفية، ورجحه ابن القيم.
أ-لحديث ابن عباس السابق (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه).
قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله.
ب-ولحديث حكيم بن حزام قال: (قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعاً، فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه). لكنه حديث ضعيف رواه أحمد.
فقوله (بيعاً) نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم من طعام وغيره.
ج- عن زيد بن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) رواه أبو داود.
فقوله (نهى أن تباع السلع
…
) يفيد العموم، وهذا القول رجحه ابن القيم وأطال في نصرته.
د- ولحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن) رواه أبو داود
وجه الدلالة: أن السلعة قبل قبضها من ضمان البائع، لأن من شرط انتقال الضمان للمشتري قبضه للمبيع، فإذا باع المشتري السلعة قبل قبضها فيكون قد ربح في شيء لم يدخل في ضمانه، وهذا لا يجوز حتى يقبضه فيكون من ضمانه.
القول الثاني: يجوز بيع كل شيء قبل قبضه إلا الطعام المكيل أو الموزون، فلا يجوز حتى يقبضه.
أ- للحديث السابق (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه). وفي رواية: (حتى يستوفيه).
قالوا: الأحاديث الواردة جاءت خاصة بالطعام، فدل هذا على أن غير الطعام ليس كذلك في الحكم.
وهذا مذهب المالكية.
القول الثالث: لا يجوز بيع أي شيء قبل قبضه، لكن يستثنى العقار [الأراضي، المزارع].
وهذا مذهب أبي حنيفة.
والراجح القول الأول، وهو عدم جواز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه.
•
الحكمة من النهي:
لعدم استيلاء المشتري على السلعة.
وعدم انقطاع علاقة البائع عنها، فإنه يطمع في الفسخ، وقد يمتنع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح.
وربما أمضاه إلى التحيل على فسخ العقد ولو ظلماً، وجرّ ذلك إلى الخصام والمعاداة.
• يختلف القبض من سلعة إلى أخرى:
بالنسبة للطعام يكون بالوزن، فإذا وزنه فإنه يعتبر قبضه، فيجوز بيعه.
أما بقية المبيعات فيرجع إلى العرف.
فمن الأشياء ما يكون قبضه بالتخلي (كالأراضي) ومن الأشياء ما يكون بنقله (كالسيارات) ومنها ما يكون باليد (كالذهب والمجوهرات) ومن الأشياء ما يكون قبضه بالتخلي عنه (كالبطيخ).
فلو بعت أقلام على شخص، فالقبض يكون باستلامها بيده.
(بيع التورق).
صورتها: أن يحتاج الإنسان إلى دراهم ولا يوجد من يقرضه فيشتري سلعة بثمن مؤجل ثم يبيع السلعة على شخص آخر غير الذي اشتراها منه، فهو قصده الدراهم لحاجته إليها.
وَالتَّوَرُّقُ فِي الاِصْطِلَاحِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً نَسِيئَةً، ثُمَّ يَبِيعَهَا نَقْدًا - لِغَيْرِ الْبَائِعِ - بِأَقَل مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ؛ لِيَحْصُل بِذَلِكَ عَلَى النقد.
وقد اختلف العلماء في هذه الصورة على قولين:
القول الأول: أنها حرام.
وهذا اختيار ابن تيمية.
أ- أن هذا من بيع المضطر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر.
ب-أن الله حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وهو في حقيقته أخذ دراهم بدراهم، وهذا المعنى موجود في التورق، لأنه يريد الدراهم، والنية معتبرة في الأحكام.
القول الثاني: أنها جائزة.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وهو مذهب الحنابلة.
جاء في (الموسوعة الفقهية) جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِبَاحَتِهِ.
أ- لِعُمُومِ قَوْله تَعالى (وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ).
ب- وَلأِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الرِّبَا وَلَا صُورَتُهُ.
قال الشيخ ابن باز: وأما مسألة التورق فليست من الربا، والصحيح حلها، لعموم الأدلة، ولما فيها من التفريج والتيسير وقضاء الحاجة الحاضرة، أما من باعها على من اشتراها منه، فهذا لا يجوز بل هو من أعمال الربا، وتسمى مسألة العينة، وهي محرمة لأنها تحايل على
الربا.
فائدة: 1.
حكم تعجيل الدين المؤجل مقابل إسقاط بعضه حالاً.
هذه المسألة تسمى مسألة (ضَع وتَعجَّل)، وهي أنْ يُصالِح عَن الدَّين المُؤجَّل بِبَعضِه حَالاً.
وقد اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على قولين:
القَول الأول: تَحريم ذلك وهو قَول أبي حَنيفَة ومَالِك والشَّافِعيّ والمَشهور عن أحمَد.
ووَجه ذلك: أنَّه شَبِيه بالزِّيادَة مع الإِنظار المُجمَع على تَحريمها؛ لأنَّه جَعل لِلزمان مِقدارًا مِن الثَّمن بَدلاً منه في المَوضِعَين جَميعًا، فَهو في الصُّورتَين جَعل للزَّمان ثَمنًا لِزيادَته ونَقصه.
وعَلَّل صَاحِب المُبدِع مِن الحَنابِلة بِقَوله: لأنه يَبذِل القَدر الذي يَحطَه عِوضًا عن تَعجِيل ما في ذِمَّته وبَيع الحِلول والتَّأجِيل لا يَجوز.
وهذا التَّعلِيل بمعنى ما علَّل به صاحِب فَتح القَدير مِن الحَنفيَّة حَيث يَقول: وذلك اعتِياض عن الأَجَل وهو حَرام)، وهما يَتَّفِقان مَع قول ابن رُشد: لأنَّه جَعل لِلزَّمان مِقدارًا مِن الثَّمَن) فاتَّفَقتْ كَلِمتهم على أن بَيع الأَجَل لا يَجوز وهو الذي مِن أَجلِه مَنعوا مَسألة: (ضَع وتَعجَّل):
قال ابن القَيِّم في إِغاثَة اللَّهفان: واحتَجّ المَانِعون بِالأَثَر والمَعنى؛ أَمَّا الآثار فَفي سُنَن البّيهَقي عن المِقْدَاد بن الأَسوَد قال: (أَسلفْتُ رَجُلاً مَائة دِينار فقُلْتُ له: عَجِّل تِسعين دِينارًا وأَحطُّ عَشرة دَنانير)
فقال: نَعم، فَذَكرْتُ ذلك لِرسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أَكلْتَ رِبا مِقْداد وأَطعَمتَه وفي سَنَده ضَعف.
وصحَّ عن ابن عُمر رضي الله عنهما أنَّه قد سُئِل عن الرَّجُل يَكون له الدَّين على رَجُل إلى أَجَل فَيَضَع عنه صَاحِبه ويُعجِّل له الآخَر، فَكرِه ذلك ابن عُمر ونَهى عنه.
وصحَّ عن أبي المِنهال أنَّه سأل ابن عُمر رضي الله عنهما فَقال لِرَجُل: علَيّ دَين، فَقال لي: عَجِّل لي لِأضَع عَنك، قال: فَنَهاني عنه. وقال: نَهى أمير المؤمنين - يَعني عُمر - أنْ يَبيع العَين بالدَّين. وقال أبو صَالِح مَولى السَّفاح واسمه عُبَيد: بِعْتُ برًّا مِن أهل السُّوق إلى أَجَل ثم أَردتُ الخُروج إلى الكوفَة فعَرضوا علَيّ أنْ أضَع عَنهم ويَنقِدوني
فَسَألتُ عن ذلك زَيد بن ثابِت فقال: (لا آمُرك أنْ تَأكُل هذا ولا تُوكِله) رَواه مَالِك في المُوطّأ.
وأمَّا المَعنى فَإنَّه إذا تَعجَّل البَعض وأَسقَط البَاقي فَقد باع الأَجَل بالقَدر الذي أَسقَط وذلك عَين الرِّبا، كما لو باع الأَجَل بالقَدر الذي يُزيده إذا حَلَّ عليه الدَّين، فَقال: زِدني في الدَّين وأَزِيدك في المُدَّة، فَأيّ فَرق بين أَنْ تَقول حُط من الأَجَل وأَحُط من الدَّين، أو تَقول:
زِد في الأَجَل وأَزِيد في الدَّين
…
قالوا: فنَقَص الأَجَل في مُقابَلة نَقص العِوض كزِيادَته في مُقابَلة زِيادَته، فكما أن هذا رِبا فَكَذلك الآخَر.
القَول الثَّاني: جَواز الوَضع والتَّعجُّل.
وهو رِوايَة عن أحمَد، ونَسَب ابن رُشد وابن القَيِّم القَول بجَوازه إلى ابن عبَّاس وزَفر من الحَنَفيّة.
والقَول بِالجَواز هو اختيار شَيخ الإسلام ابن تَيميَة رحمه الله.
قال في الاختيارات: ويَصِحّ الصُّلح عن المُؤجَّل بِبعضِه حَالاًّ، وهو رِوايَة عن أحمَد وحَكَي قَولاً لِلشَّافعيّ) واختار هذا القَول أيضًا ابن القَيّم وقال:
لِأنَّ هذا عَكس الرِّبا فإنَّ الرِّبا يَتَضَمَّن الزِّيادَة في أَحد العِوضَين في مُقابَلة الأَجَل، وهذا يَتَضمَّن بَراءة ذِمَّته من بَعض العِوَض في مُقابَلة سُقوط الأَجَل فَسقَط بَعض العِوضِ في مُقَابَلة سُقوط بَعض الأَجَل فانتَفَع به كُلّ واحِد مِنهما، ولم يَكن هنا رِبا لا حَقِيقَة ولا لُغة ولا عُرفا، فَإنَّ الرِّبا الزِّيادَة، وهي مُنتَفِية هاهنا، والذين حَرَّموا ذلك قاسوه على الرِّبا ولا يَخفى الفَرق الوَاضِح بين قوله:(إمَّا أنْ تُربي وإمَّا أنْ تَقضي) وبين قوله (عَجِّل لي وأَهب لَك مَائة) فَأين أَحَدهما من الآخَر فَلا نَصّ في تَحريم ذلك ولا إِجماع ولا قِياس صَحيح.
قال ابن رُشد وقال وعُمدَة مَنْ أَجازه ما رُوي عن ابن عبَّاس أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لمَّا أَمَر بإخْرَاج بَني النَّضير جَاء نَاس مِنهم فَقالوا: يَا نَبيّ اللَّه إنَّك
أَمرْتَ بِإخراجِنا ولنا على النَّاس دِيون لم تَحِل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ضَعوا وتَعجَّلوا.
القَول الثَّالث: يَجوز ذلك في دَين الكِتابَة ولا يَجوز في غَيره.
لِأنَّ ذلك يَتَضمَّن تَعجيل العِتق المحَبوب إلى اللَّه، والمُكاتِب عَبد ما بَقِي عليه دِرهم، ولا رِبا بين العَبد وبين سَيده، فالمُكاتِب وكَسبه لِلسَّيد فَكأنَّه أَخَذ بَعض كَسبه وتَرك بَعضه.
والرَّاجِح: هو القَول الثَّاني وهو جَواز ذلك مُطلقًا، لِأنَّه ليس مع مَنْ مَنَعه دَليل صَحيح، والأَصل في المُعامَلات الصِّحَة والجَواز ما لم يَدلّ دَليل على التَّحريم، وقياسهم مَنع ذلك على مَنع زِيادَة الدَّين وتَمديد أجَلِه قِياس مع الفارِق؛ لِأنَّ مَنع الزِّيادَة في مُقابَلة التَّمدِيد مُلاحَظ فيه مَنع إِثقال كَاهِل المَدين مِن غَير استِفادَة تَحصِل له، بِخِلاف هذه المَسأَلة فإنَّ فيها تَخفِيفًا عنه
فائدة: 2
الوساطة مشروعة في بيع الأراضي وغيرها، وهي عقد سمسرة وجعالة.
جاء في (الموسوعة الفقهية) والسمسرة اصطلاحاً: هي التوسط بين البائع والمشتري، والسمسار هو: الذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطاً لإمضاء البيع، وهو المسمى الدلال، لأنه يدل المشتري على السلع، ويدل البائع على الأثمان" انتهى.
إذا تم البيع استحق الوسيط العمولة، أو الجُعل، ولم يكن مطالباً بعد ذلك بشيء.
فلو فُسخ البيع، لم يكن مسئولاً عن رد الثمن إلى المشتري، ولا عن رد السلعة إلى البائع؛ لأن عمله هو التقريب بين
المشتري والبائع حتى تتم الصفقة، وليس مسئولا عن تبعات البيع.
لكن: هل يستحق الوسيط عمولته في حال الفسخ؟
وفي ذلك تفصيل:
أ- فإن كان الفسخ باختيار العاقدين، كالفسخ بالإقالة، فلا تسقط أجرة الوسيط، لأن أجرته استقرت بانتهاء عمله.
ب- وإن كان الفسخ بسبب معتبر، كوجود عيب ترد به السلعة، أو تبين أن لها مستحقاً آخر،
فللفقهاء في استحقاق الوسيط الأجرة قولان:
القول الأول: أنه لا يستحق الأجرة.
وإليه ذهب المالكية والحنابلة.
وذلك لأن البيع انتقض، فلم يحصل تمام العمل الذي يستحق به الوسيط الأجر.
القول الثاني: أنه يستحق الأجرة،
إلا إن تبين أن العقد لم ينعقد أصلاً، كأن يكون المبيع وقفاً، أو نحو ذلك.
وهذا مذهب الحنفية.
وذلك لأن أجرته مقابل عمله، وقد تم العمل، فاستحق الأجرة.
والراجح هو القول الأول، لأن السمسرة مقابل حصول البيع، وقد نُقض البيع، ونقضه كان بسبب قديم قبل العقد فلم يتم البيع.
فائدة: 3
اختلف العلماء: إذا تبين أن المبيع به عيب، أو مستحق للغير، فعلى من تكون العهدة؟
فقيل: لا عهدة على السمسار بل على البائع.
وقيل: العهدة على السمسار.
وقيل: العهدة عليه إذا كان يعلم ذلك.
والراجح أنه لا عهدة عليه إلا إذا وجد شرط أو عرف بأن العهدة على الوسيط، كما لو شرط ولي الأمر على السماسرة أن يتأكدوا من ملك البائع للسلعة، ومن سلامتها من العيوب، أو كانوا على علم بالعيب، أو بما في المبيع، فغروا المشتري به.
فائدة: 4
بيع التصريف.
صورة بيع التصريف: أن يشتري البضاعة ويتفق مع من باعها له أنه إن لم يتمكن من بيعها فإنه سيعيدها للبائع، وما باعه منها يكون قد اشتراه.
وهذه الصورة من صور البيع قد صرح العلماء بمنعها، لأن فيها جهالة وغرراً، فكل من البائع والمشتري لا يدري قدر الكمية التي سيشتريها، وهل سيعيد كل البضاعة أو بعضها أو لا يعيد منها شيئاً؟
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بَيْعِ الْغَرَرِ.
وبيع الغرر هو كل بيع مجهول العاقبة.
قال ابن قدامة: إذا اشترط إن نَفَقَ المبيع وإلا رده فهو شرط فاسد. وهل يفسد به البيع؟ على روايتين; قال القاضي: المنصوص عن أحمد أن البيع صحيح. وهو قول الحسن، والشعبي والنخعي والحكم وابن أبي ليلى، وأبي ثور. والثانية: البيع فاسد. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأنه شرط فاسد، فأفسد البيع. انتهى
ومعنى (نفق المبيع) أي إن باعه، وهو صورة البيع على التصريف.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن بيع التصريف فقال:
" صورته أن يقول: بعت عليك هذه البضاعة فما تصرف منها فهو على بيعه، ولما لم يتصرف فردّه إليَّ، وهذه المعاملة حرام، وذلك لأنها تؤدي إلى الجهل ولا بد، إذ إن كل واحد من البائع والمشتري لا يدري ماذا سيتصرف من هذه البضاعة، فتعود المسألة إلى الجهالة، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه (نهى عن بيع الغرر) وهذا لا شك من الغرر.
ولكن إذا كان لا بد أن يتصرف الطرفان هذا التصرف فليعط صاحب السلعة بضاعته إلى الطرف الآخر ليبيعها بالوكالة وليجعل له أجراً على وكالته فيحصل بذلك المقصود للطرفين، فيكون هذا الثاني وكيلاً عن الأول بأجرة ولا بأس بذلك (لقاءات الباب المفتوح).
فائدة: 5
عن أبي هريرة قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ) رَوَاهُ أَحْمَد.
اختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال:
القول الأول: أن يقول البائع أبيعك هذه السلعة نقداً بعشرة، ونسيئة بأحد عشرة، ويعقدان العقد من غير تحديد لأحد الثمنين
وقد قال بهذا القول ابن مسعود.
وهو قول الحنفية، والمالكية.
واستدلوا:
أ- أنه هذا التفسير مما لا يختلف فيه الناس.
ب-أن هذا التفسير يصدق عليه أنه بيعتين في بيعة، لأن هناك بيعاً بثمن مؤجل وبيعاً بثمن معجل، ولم يحددا أحد البيعتين، كما أنه
يصدق على أن من فعل ذلك فله أوكسهما أو الربا.
قالَ البغوي رحمه الله فِي شَرْحِ السُّنَّةِ -عن هذه الصورة-: هُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لأَنَّهُ لا يُدْرَى أَيُّهُمَا جُعِلَ الثَّمَنَ اهـ
وقال الترمذي بعد إخراجه للحديث: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِنَقْدٍ بِعَشَرَةٍ وَبِنَسِيئَةٍ بِعِشْرِينَ، وَلا يُفَارِقُهُ عَلَى أَحَدِ الْبَيْعَيْنِ، فَإِذَا فَارَقَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَا بَأْسَ، إِذَا كَانَتْ الْعُقْدَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا اهـ
وقال النسائي في السنن: بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا وَبِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً.
وَقَالَ الشوكاني فِي نيْلِ الأوطار: وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ عَدَمُ اِسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ فِي صُورَةِ بَيْعِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِثَمَنَيْنِ.
القول الثاني: أن (بيعتين في بيعة) يراد به: اشتراط عقد في عقد، كأن يقول له: لا أبيعك هذه السلعة حتى تؤجرني بيتك.
وقال بهذا الحنابلة.
القول الثالث: أن المراد بـ (بيعتين في بيعة) بيع العينة، وهو أن يبيع الشيء نسيئة ثم يشتريه بأقل من الثمن الذي باعه به نقداً (عاجلاً).
وقال بهذا القول ابن تيمية، وابن القيم.
ووجه القول: أن البائع جمع بين بيعتين في بيعة واحدة، وذلك لأنه باع السلعة، ثم اشتراها، وقصده من ذلك بيع دراهم بدراهم، بزيادة مقابل النسيئة، فليس له في هذه الحال إلا الأوكس (الأقل) أو فإنه سيقع في الربا.
وهذا القول هو الراجح.
فائدة: 6
بيع العربون.
قال ابن الأثير: العربون هو أن يشتري السلعة ويدفع إلى صاحبها شيئاً على أنّه إن أمضى البيع حُسب من الثمن، وإن لم يمض البيع كان لصاحب السلعة ولم يرتجعه المشتري.
وقالت اللجنة الدائمة: هو أن يدفع المشتري للبائع أو وكيلاً مبلغاً من المال أقل من ثمن المبيع بعد تمام عقد البيع، لضمان المبيع؛ لئلا يأخذه غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فللبائع أخذه وتملكه.
اختلف العلماء رحمهم الله في حكم بيع العربون على قولين:
القول الأول: التحريم.
ذهب إليه جمهور علماء الأمصار إلى أنّه غير جائز بل هو باطل ولا يصحّ.
وهو قول مالك، والشافعيّ، والليث ابن سعد، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحنفية، وحكى ابن المنذر بطلانه عن ابن عباس، والحسن البصري.
أ-لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قَال (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اَلْعُرْبَانِ) رَوَاهُ مَالِك.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع) رواه الخمسة.
قال الشوكاني: فاشتمل العربون على شرطين فاسدين.
ج-قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأكُلُواْ أَموَالَكُم بَينَكُم بالباطل).
قال القرطبي في تفسيره: ومن أكْل أموال الناس بالباطل بيع العربان .. فهذا لا يصلح، ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين، والعراقيين، لأنه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة وأكل المال بالباطل، بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بالإجماع.
د-أن في بيع العربان معنى الميسر، قاله الدهلوي في الحجة.
هـ-أنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة، كما لو قال: ولي الخيار، متى شئت رددت السلعة ومعها درهم.
القول الثاني: الجواز.
وهو مذهب الإمام أحمد، وفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن ابن عمر أنه أجازه.
وقال ابن المسيب: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها، ويرد معها شيئاً. قال أحمد: هذا في معناه.
أ- لما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وعلقه البخاري: عن عبد الرحمن بن فروخ (أن نافع بن عبد الحارث اشترى داراً للسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر فالبيع له، وإن عمر لم يرض فأربعمائة لصفوان).
ومما يقوي هذا الحديث أيضا أن قصة شراء عمر بن الخطاب داراً للسجن بمكة من صفوان بن أمية قد اشتهرت بين أهل العلم، وبين من كتب في تاريخ مكة، مثل: الأزرقي، والفاكهي، وابن شبة، حتى إنها كانت موجودة في عصر الفاكهي، وكانت لا تزال سجن مكة، فليراجع، والله أعلم.
ب-ومن المعقول: قالوا: إنّ ذلك الثمن في صفقة العربان إنّما استحقّه البائع في مقابل الزمن وتأخير بيعه وتفويت الفرصة على البائع.
قال الشيخ محمد بن عثيمين: الجهالة في بيع العربون ليست جهالة ميسر، لأن جهالة الميسر يكون فيه المتعاملان بين الغنم والغرم، أما هذه فإن البائع ليس بغارم، بل البائع غانم، وغاية ما هنالك أن ترد إليه سلعته، ومن المعلوم أن المشتري لو شرط الخيار لنفسه مدة يوم أو يومين كان ذلك جائزاً، وبيع العربون يشبه شرط الخيار، إلا أنه يعطى للبائع جزء من الثمن إذا رد إليه السلعة، لأن قيمتها قد تنقص إذا علم الناس بهذا، ولو على سبيل التقديم، ففيه مصلحة.
وفيه أيضاً مصلحة للبائع من وجه آخر، أن المشتري إذا سلم العربون فإن في هذا دافع لتتميم البيعة.
وفيه كذلك مصلحة للمشتري، لأنه يكون بالخيار في رد السلعة إذا دفع العربون، بينما لو لم يدفعه للزمه البيع. (بحث للأخ عدنان الأحمدي)
الشروط في البيع
تعريف الشرط.
الشرط لغة: العلامة ومنه قوله تعالى {فقد جاء أشراطها} أي علاماتها.
واصطلاحاً: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود.
• الفرق بين شروط البيع (التي سبقت في أول الباب وهي سبع) والشروط في البيع من وجوه أربعة:
الأول: أن شروط البيع من وضع الشارع، والشروط في البيع من وضع المتعاقدين.
الثاني: شروط البيع يتوقف عليها صحة البيع، والشروط في البيع يتوقف عليها لزوم البيع، فهو صحيح، لكن ليس بلازم؛ لأن من له الشرط إذا لم يوف له به فله الخيار.
الثالث: أن شروط البيع لا يمكن إسقاطها، والشروط في البيع يمكن إسقاطها ممن له الشرط.
الرابع: أن شروط البيع كلها صحيحة معتبرة؛ لأنها من وضع الشرع، والشروط في البيع منها ما هو صحيح معتبر، ومنها ما ليس بصحيح ولا معتبر؛ لأنه من وضع البشر، والبشر قد يخطئ وقد يصيب (الشرح الممتع).
• هل المعتبر من الشروط في البيع ما كان في صلب العقد، أو ما بعد العقد، أو ما قبل العقد؟
المذهب: أن المعتبر ما كان في صلب العقد، أو في زمن الخيارين: خيار المجلس، وخيار الشرط.
مثال: بعتك هذه السيارة واشترطت أن أسافر عليها إلى مكة، فهذا محله في نفس العقد وهو صحيح.
مثال آخر: بعتك هذه السيارة، وبعد أن تم العقد بالإيجاب والقبول، قلت: أنا أشترط عليك أن أسافر بها إلى مكة يصح؛ لأنه في زمن الخيار؛ لأنك لو قلت: لا، قلتُ: فسخت الآن؛ لأن بيدي الخيار ما دمنا لم نتفرق فلنا أن نزيد الشرط.
مثال آخر: بعتك هذه السيارة ولي الخيار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني جئت إليك، وقلت: أشترط أن أسافر بها إلى مكة يصح؛ لأنه في زمن الخيارين.
وأما ما كان قبل ذلك مما اتفق عليه قبل العقد، فالمذهب أنه غير معتبر.
مثاله: اتفقت أنا وأنت على أن أبيع عليك السيارة، واشترط: أن أسافر عليها إلى مكة، وعند العقد لم نذكر هذا الشرط إما نسياناً وإما اعتماداً على ما تقدم، فهل يعتبر هذا أو لا؟ الجواب: لا يعتبر على المذهب.
والصحيح: أنه يعتبر لما يلي:
أولاً: لعموم الحديث (المسلمون على شروطهم)، وأنا لم أدخل معك في العقد إلا على هذا الأساس.
ثانياً: أنهم جوزوا في النكاح تقدم الشرط على العقد، فيقال: أي فرق بين هذا وهذا؟ وإذا كان النكاح يجوز فيه تقدم الشرط على العقد، فالبيع مثله، ولا فرق.
إذاً الشروط في البيع معتبرة سواء قارنت العقد، أو كان بعده في زمن الخيارين، أو كانت متفقاً عليها من قبل. (الشرح الممتع)
(الواجب في الشروط ألا تخالف الشرع).
فإن خالفته فهي باطلة.
لحديث عائشة - في قصة بريرة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه.
(منها صحيح).
أي: من هذه الشروط: شروط صحيحة، وهذه يجب الوفاء بها.
أ-لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).
ب- ولقوله سبحانه (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً).
ج- ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) رواه أحمد.
(كطلب رهن).
هذا مثال للشروط الصحيحة، أن يطلب البائع رهناً على المشتري.
مثال: أن أبيع على هذا الرجل شيئاً بثمن مؤجل، فلا أثق به فأقول ارهني شيئاً.
(وتأجيل الثمن).
وهذا من أمثلة الشروط الصحيحة، أن يطلب المشتري من البائع أن يكون الثمن مؤجلاً.
مثال: أن يقول أريد أن اشتري السيارة بثمن كذا وكذا لمدة سنة.
(الذي يطلبه غالباً المشتري).
ويشترط في الأجل - كما هو معلوم - أن يكون معلوماً.
(ومن الأمثلة كون العبد كاتباً قوياً، أو خصياً).
(وكأن يشترط البائع في المبيع نفعاً كسكنى الدار شهراً).
أي: إذا اشترط البائع سكنى الدار شهراً، فإن هذا شرط صحيح.
لحديث جابر (أنه كان يسير على جمل له فأعيا، فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بعنيه .. فبعته واستثنيت حُملانه إلى أهلي) متفق عليه.
- لكن بشرط أن يكون هذا النفع معلوماً:
إما بزمن مثال: كسكنى الدار شهراً.
أو بالمكان: كما لو بعت سيارة واشترطت عليك أن أسافر بها إلى مكة وأرجع.
أو بالعمل: كما لو بعت عبداً واشترطت أن يخيط لي ثوباً.
- فإن كان النفع مجهولاً فإنه لا يصح:
مثال: أبيعك بيتي واستثنيت سكناه حتى يقدم زيد، فهذا لا يصح.
مثال آخر: أبيعك بيتي واستثنيت سكناه حتى أجد بيتاً، فهذا لا يصح لجهالة المدة.
مثال آخر: بعتك هذه السيارة بألف على أن أطلب عليها ضالتي، فلا يصح للجهالة
(أو شَرَط المشتري على البائع حملَ الحطبِ، أو تكسيره، أو خياطة الثوب).
هذه كلها شروط صحيحة.
حمل الحطب:
مثال: اشترى منه حطباً، وقال: بشرط أن تحمله إلى بيتي في المكان الفلاني، فيصح.
لعموم (المسلمون على شروطهم).
أو تكسيره:
يعني اشترط المشتري على البائع أن يكسر الحطب.
(وإن جمعَ بين شرطين بطل البيع).
أي: لو اشترط البائع أو المشتري على الآخر شرطين فالشرط غير صحيح ويبطل البيع.
فلو شرط البائع سكنى الدار شهراً، وسكنى الدكان شهراً، فلا يصح.
ولو اشترط المشتري على البائع حمل الحطب وتكسيره جميعاً، فلا يصح.
وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة.
لحديث عَمْرِوِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْع) رواه أبو داود.
قالوا: لأن ذلك يفضي إلى النزاع والشقاق.
وذهب بعض العلماء: إلى صحة اشتراط شرطين في بيع، بل يجوز ولو زاد عن شرطين ما لم تكن الشروط محرمة.
وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن تيمية، وابن القيم.
أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).
وجه الدلالة من الآية والحديث: أنهما دلا على وجوب الوفاء بالشروط، والخروج عن هذا الأصل يحتاج إلى دليل صريح
ج- أن الأصل في المعاملات كلها: أصلها وشروطها الصحة والإباحة ما لم يدل دليل صريح على المنع.
وهذا هو الصحيح.
وأما الجواب عن حديث (
…
ولا شرطان في بيع) فالمقصود به بيع العينة كما رجحه ابن القيم رحمه الله.
فائدة:
يجوز أن يشترط النفع في غير المبيع.
مثال: لو قال بعتك بيتي على أن تسكنني بيتك شهراً.
- (ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يصح لحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة).
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية الجواز والشيخ السعدي إلا إذا تضمن محظوراً شرعياً:
مثال: لو قلت أقرضتك ألف ريال بشرط أن تسكنني بيتك لمدة شهر، لأنه قرض جر منفعة.
أما حديث (نهى عن بيعتين في بيعة) فقد قال بعض العلماء إن المقصود بها: مسألة العينة.
(ومنها: شروط فاسدة تبطل العقد).
كأن يشترط أحدهما على الآخر عقداً آخر كقرض.
كأن يجمع بين بيع وقرض فهذا شرط فاسد مبطل للعقد.
مثال: بعتك بيتي بـ (100) على أن تقرضني (100).
لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا.
فائدة:
ذهب بعض العلماء إلى أن من الشروط الفاسدة التي تبطل العقد أن يشترط أحدهما عقداً آخر غير القرض، مثال: بعتك هذا البيت على أن تؤجرني بيتك لمدة سنة، أو بعتك هذا البيت على أن تبيعني بيتك لحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة).
والصحيح في هذه المسألة أنه يصح أن يشترط عليه عقداً آخر {غير القرض} لأن ليس فيه محظور شرعي ولعموم قوله تعالى {وأحل الله البيع} وأما حديث (نهى عن بيعتين في بيعة) فإن من العلماء من قال إن المراد بها مسألة العينة كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
مثالها: لو بعت عليك هذا البيت بـ {100} إلى سنة (هذه بيعة) واشتريته منك بـ {80} نقداً، هذه بيعة ثانية، والمبيع واحد، فهما بيعتان في بيعة.
(ومنها شروط فاسدة غير مفسدة للبيع).
هذا القسم الثالث: وهي شروط فاسدة لكن لا تبطل العقد.
(كأن يشترط أن لا خسارة عليه).
فهذا يبطل الشرط والعقد صحيح.
مثال: اشترى إنسان شيئاً من شخص وقال: بشرط ليس عليّ خسارة إن بعته ونقصت قيمته.
هذا شرط فاسد لكن لا يبطل العقد.
لأن هذا مخالف لمقتضى العقد، لأن مقتضى العقد أن الإنسان إذا ملك شيئاً صار له غنمه وغرمه.
(أو أن يشترط أن لا يبيعه مطلقاً).
أي: شرط البائع على المشتري ألا يبيعه، فهذا شرط فاسد غير مفسد للعقد على المذهب.
لأنه يخالف مقتضى العقد. إذ أن مقتضى العقد أن يبيع المالك ملكه لمن يشاء وإن شاء لم يبعه.
وهذه المسألة: اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أنه يبطل البيع والشرط.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي.
أ- لحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط).
لكن هذا الحديث ضعيف، ضعفه الإمام أحمد، وابن تيمية، واستغربه النووي.
ب- لأنه مناف لمقتضى العقد، لأن العقد يقتضي التمليك، والتصرف في المبيع بيعاً أو هبة.
القول الثاني: أنه يبطل الشرط ويصح البيع.
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
لحديث بريرة حيث دل على صحة العقد وبطلان الشرط، فالشرط إذا نافى مقتضى العقد بطل في نفسه، ولا يلزم منه بطلان العقد.
القول الثالث: يصح العقد والشرط.
وبهذا قال جماعة من السلف، منهم الحسن البصري، والنخعي، وابن أبي ليلى، وابن المنذر، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم.
أ- لحديث (المسلمون على شروطهم)
ب- أن الأصل في العقود والشروط الصحة، والخروج عن هذا الأصل يحتاج إلى دليل.
والراجح - والله أعلم - القول الثاني، أنه يبطل الشرط ويصح البيع.
فائدة
اختلف العلماء في مسألة: إذا باعة واشترط البائع البراءة من كل عيب مجهول.
والصحيح في هذه المسألة التفصيل:
أنه إذا أبرأه من العيوب المجهولة:
فإما أن يكون عالماً بها ولكنه كتمها، فهذا لا يبرأ، لأنه خدعه وغشّه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا).
وقال صلى الله عليه وسلم في المتبايعين (إن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).
وإما أن يكون جاهلاً بالعيوب - فهذا يبرأ - لأن هذا هو الذي يقدر عليه، وهو أن يريد أن يسلم.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
قال شيخ الإسلام مرجحاً هذا التفصيل:
(والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب والذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم، أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري).
وقال ابن القيم: هذا الذي جاء عن الصحابة.
باب الخيار
تعريفه:
الخيار: هو طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ.
(وهو أقسام).
أي: أقسام سبعة، وحصرت الأقسام بسبعة بناءً على التتبع والاستقراء.
(منها: خيار المجلس، ويثبت للمتعاقدين ما لم يتفرقا).
هذا النوع الأول من أنواع الخيار، وهو خيار المجلس.
وهو الخيار الذي يثبت للمتعاقدين ما داما في المجلس.
والمراد بالمجلس هنا مكان الجلوس، وإن لم يكن متخذاً للجلوس بل موضع التبايع كائناً ما كان.
- ودليل ثبوت هذا الخيار.
عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إِذَا تَبَايَعَ اَلرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعاً، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا اَلْآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا اَلْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدَ وَجَبَ اَلْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا اَلْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ اَلْبَيْعُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
مثاله: إذا بعت على إنسان سيارة، فما دمنا بالمجلس فلكل واحد منا الخيار.
- وإلى ثبوت خيار المجلس ذهب جماهير العلماء، كالشافعي وأحمد.
قال ابن قدامة: وهو مذهب أكثر أهل العلم.
وقال النووي: وبهذا قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وهو مروي عن ابن عمر، وأبي برزة الأسلمي من الصحابة رضي الله عنهم.
وقال ابن رشد: ولا مخالف لهما من الصحابة.
وقال البخاري: به قال ابن عمر، وشريح، والشعبي، وطاوس، وعطاء، وابن أبي مليكة.
أ-لحديث ابن عمر السابق.
ب- ولحديث حكيم بن حزام. قال: قال صلى الله عليه وسلم (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) متفق عليه.
وجه الدلالة: هذان الحديثان، وما في معناها ـ يدلان دلالة صريحة على ثبوت خيار المجلس، بما يعطي الحق للمتبايعين ـ ومن في معناهما في كل عقد فيه معارضة في إمضاء البيع أو فسخه مدة المجلس.
فائدة:
الحكمة من خيار المجلس:
هي أن الإنسان قد يتعجل في بيع الشيء أو شرائه ويقع ذلك منه من غير تروٍّ، فيحتاج إلى أن يعطى هذه الفسحة، وإنما أعطي هذه الفسحة لأنه إذا وقع الشيء في ملك الإنسان فإن الرغبة التي كانت عنده قبل أن يتملكه تقل فجعل الشارع له الخيار، وهذا من حكمة الشارع، ولم يكن طويلاً لانتفاء الضرر. (الشرح الممتع).
(يَنْتهي خيارَ المجلس بالتفرق).
أي: يثبت البيع في خيار بالمجلس إذا تفرقا.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ما لم يتفرقا)، فإذا تفرقا بأبدانهما ثبت البيع.
ففي حديث ابن عمر (
…
وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا اَلْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ اَلْبَيْعُ).
والمقصود بالتفرق هو التفرق بالأبدان، فإذا تفرقا بأبدانهما بعد التبايع فقد ثبت البيع.
وقال بعض العلماء: المراد بالتفرق، تفرق الأقوال، وهذا ضعيف.
والصحيح أن المراد التفرق بالأبدان.
أ- لرواية البيهقي (حتى يتفرقا من مكانهما).
ب- أن راوي الحديث ابن عمر فسره بذلك.
ففي رواية البخاري (وكان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه).
ج- أن ذلك خلاف الظاهر.
وقال صاحب المغنى حمل التفرق على الأقوال باطل لوجوه:
أولاً: أنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ مَا قَالُوهُ؛ إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَفَرُّقٌ بِلَفْظٍ وَلَا اعْتِقَادٍ، إنَّمَا بَيْنَهُمَا اتِّفَاقٌ عَلَى الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا يُبْطِلُ فَائِدَةَ الْحَدِيثِ؛ إذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ قَبْلَ الْعَقْدِ فِي إنْشَائِهِ وَإِتْمَامِهِ، أَوْ تَرْكِهِ.
الثَّالِث: أَنَّهُ يَرُدُّهُ تَفْسِيرُ ابْنِ عُمَرَ لِلْحَدِيثِ بِفِعْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا مَشَى خُطُوَاتٍ؛ لِيَلْزَمَ الْبَيْعُ، وَتَفْسِيرُ أَبِي بَرْزَةَ لَهُ، بِقَوْلِهِ عَلَى مِثْلِ قَوْلِنَا، وَهُمَا رَاوِيَا الْحَدِيثِ، وَأَعْلَمُ بِمَعْنَاهُ.
فائدة:
ضابط التفرق:
اختلف العلماء في حد هذا التفرق.
قيل: التفرق أن يغيب عن صاحبه.
وقيل: بأن يمشي أحدهما مستديراً لصاحبه خطوات.
وقيل: هو أن يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذي يتكلم به في العادة.
والراجح من أقوال العلماء هو عرف الناس وعاداتهم فيما يعدونه تفرقاً، فما عده العرف تفرقاً فهو كذلك وإلا فلا، والقاعدة: كل ما ورد مطلقاً في لسان الشارع، ولم يحدد، فإنه يرجع إلى تحديده إلى العرف.
ولأن التفرق في الشرع مطلق فوجب أن يحمل على التفرق المعهود.
ولأن الشارع علق عليه حكماً ولم يبينه، فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والاحراز.
فمتى تفرقا بأبدانهما تفرقاً يعتد به العرف انقطع خيارهما ولزم العقد، ولو أقاما في مجلسهما مدة متطاولة أو قاما وتماشيا مراحل أو حجز بينهما حاجز من جدار أو غيره فهما على خيارهما وبه قطع جمهور القائلين بالخيار.
أمثلة:
إذا كانا في بيت، فبخروج أحدهما منه.
إذا كانا في غرفة، فبخروج أحدهما منها.
(ما لمْ يَتَبايَعَا على أن لا خيار).
فيلزم البيع بمجرد العقد.
مثال: بعتك هذا الشيء على أنه لا خيار بيننا.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ) رواه أبو داود.
والصفقة لغة: اسم المرة من الصفق، وهو الضرب باليد على يد أخرى.
والمعنى: أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا، إلا إذا قال أحدهما للآخر: اختر إمضاء البيع أو فسخه، فاختار الإمضاء، تم البيع وإن لم يتفرقا.
قال الشوكاني: إلا أن تكون صفقة خيار: المراد أن المتبايعين إذا قال أحدهما لصاحبه اختر إمضاء البيع أو فسخه فاختار أحدهما تم البيع وإن لم يتفرقا. اهـ
(أو يسقطاهُ بعدَ العقد).
فيسقط، لأن الخيار حق للعاقد، فسقط بإسقاطه.
مثال: بعد أن تم البيع، ألغيا الخيار فلا بأس لأن الحق لهما.
(وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر).
فإن قال: أسقطت خياري، فإنه يبقى خيار الآخر.
لأنه لم يحصل منه إسقاط لخياره بخلاف صاحبه.
وفي حديث ابن عمر السابق (إِذَا تَبَايَعَ اَلرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعاً، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا اَلْآخَرَ).
(وإذا تفرقا لزم البيع).
أي: إذا تفرقا بأبدانهما فقد لزم وثبت البيع - كما تقدم - وهذا بالإجماع.
لحديث ابن عمر السابق (
…
وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا اَلْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ اَلْبَيْعُ).
(وينقطع الخيار بموت أحدِهما).
لأن الموت أعظم الفرقتين.
وذهب بعض العلماء - وهو مذهب الشافعي - إلى أنه لا ينقطع بالموت، وينتقل للورثة.
(وتحرم الفرقة من المجلس خشية الاستقالة).
يعني: لا يجوز للإنسان مفارقة صاحبه لإسقاط خياره، لأن هذا من التحيل لإسقاط حق الغير.
لحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْبَائِعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ) رَوَاه أبو داود.
والمعني: لا يحل له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع، فالمراد بالاستقالة فسخ النادم منهما للبيع، وعلى هذا حمله الترمذي، وغيره من العلماء.
• فإن قيل: ما الجواب عن فعل ابن عمر: أنه كان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيّة ثم رجع إليه؟
الجواب:
أولاً: هذا اجتهاد منه، مدفوع بالحديث المتقدم الذي ينهى عن ذلك.
ثانياً: أو يحمل على أنه لم يبلغه الخبر.
قال ابن قدامة: لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَدَّمُ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا، وَلَوْ عَلِمَهُ لَمَا خَالَفَهُ.
فائدة:
يثبت خيار المجلس بالإجارة مثال: إذا اتفقت أنا وأنت على أن أؤجرك بيتي لمدة، فما دمنا في المجلس فلكل واحد منا الخيار).
(ومنها: خيار الشرط، وهو أن يشرطا، أو أحدهما الخيار إلى مدة معلومة ولو طويلة).
هذا النوع الثاني من أنواع الخيار: وهو خيار الشرط.
وهو أن يشترطا المتبايعان في العقد مدة معلومة ولو طويلة.
مثاله: بعتك هذه السيارة على أن الخيار بيننا عشرة أيام.
قال النووي: يصح شرط الخيار في البيع بالإجماع إذا كانت مدته معلومة.
- وهذا الشرط دل عليه:
عموم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).
وحديث: (المسلمون على شروطهم).
مثاله: بعتك هذا الشيء على أن لنا الخيار لمدة (5) أيام.
فائدة: 1
قوله (إلى مدة معلومة)
أي: لا بد أن تكون المدة معلومة، كإلى شهر صفر مثلاً.
فلو كانت مجهولة لم تصح.
مثال: بعتك بيتي على أن لي الخيار حتى أشتري بيتاً.
هذا فيه جهالة ويحصل فيه نزاع.
فائدة: 2
قوله (ولو طويلة) فيه دليل على أن المدة تصح ولو كانت طويلة إذا كانت محددة.
وهذا قول الحنابلة.
لحديث (المسلمون على شروطهم).
ولأنه حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ، فَرُجِعَ فِي تَقْدِيرِهِ إلَى مُشْتَرِطِهِ، كَالْأَجَلِ، أَوْ نَقُولُ: مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ، فَكَانَتْ إلَى تَقْدِيرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالْأَجَلِ.
وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ خِلَافُهُ.
وذهب بعض العلماء: إن المدة التي تحدد ثلاثة أيام.
وهذا قول الحنفية، والشافعية.
لحديث ابن عمر. قال: (سمعت رجلاً من الأنصار وكانت بلسانه لوْثة يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يزال يغبن في البيع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بايعت فقل لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال) رواه البيهقي
قال ابن قدامة: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ.
لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَا أَجِدُ لَكُمْ أَوْسَعَ مِمَّا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحِبَّانَ، جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إنْ رَضِيَ أَخَذَ، وَإِنْ سَخِطَ تَرَكَ.
وَلِأَنَّ الْخِيَارَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمِلْكَ وَاللُّزُومَ وَإِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا جَازَ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَجَازَ الْقَلِيلُ مِنْهُ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ ثَلَاثٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) بَعْدَ قَوْلِهِ (فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}.
وقيل: أن المدة ثلاثة أيام ولا بأس بالزيادة اليسيرة مدة يوم أو يومين للحاجة إذا كانت البلد بعيدة.
والراجح مذهب الحنابلة.
(لكن يحرم تصرفهما في الثمن والمثمن مدة الخيار).
لأن تصرف أحدهما في المبيع يستلزم سقوط حق الآخر لكن يستثنى من ذلك:
أ- إذا أذن صاحب الحق.
ب- أن يكون الخيار للمشتري وحده فينفذ تصرفه، ويبطل خياره كالمعيب.
(وإذا مضت مدته، أو أسقطاه لزم البيع).
أي: يلزم البيع في خيار الشرط بأمرين:
الأول: إذا مضت مدته.
الثاني: إذا أسقطاه:
مثال: إذا قدر أنهما تبايعا على أن يكون الخيار لمدة (10) أيام، وبعد مضي (5) أيام اتفقا على إلغاء الشرط، فإن هذا يجوز ويسقط الشرط لأن الحق لهما.
(وإن شَرَطاهُ لأحدِهِما دون صاحبهِ صح).
قوله (صح) أي: صح الشرط.
أي: وسقط خيار الآخر، وثبت له الخيار وحده.
أ- لأن الحق لهما فكيفما تراضيا به جاز.
ب- وفي حديث ابن عمر السابق (إِذَا تَبَايَعَ اَلرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعاً، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا اَلْآخَرَ).
(ولمنْ له الخيارُ الفسخُ ولو مع غَيْبةِ الآخرِ وسَخطهِ).
أي: أن الذي له الخيار سواء كان البائع أو المشتري أو كليهما، فله الفسخ، سواء كان بحضور الآخر أو غيبته، أو رضاه أو كراهته.
لأن القاعدة: أن من لا يشترط رضاه لا يشترط علمه.
ولذلك يجوز للرجل أن يطلق زوجته وإن لم تعلم، لأنه لا يشترط رضاها. (الشرح الممتع).
(وتَصرف المشتري فسخٌ لخيارهِ).
أي: وتصرف المشتري في المبيع - الذي اشترط فيه الخيار له وحده - فسخ لخياره.
لأنه دليل الرضى به، فكأنه يقول: أسقطت خياري: وأمضيت البيع.
(وللمشتري النماء المنفصل زمن الخيار).
النماء المنفصل (أي من المبيع) للمشتري.
مثال: باع إنسان شاة واشترط هذا المشتري الخيار (7) أيام، اللبن نماء منفصل، فهو للمشتري.
- وأما النماء المتصل: (وهو ما لا يمكن انفكاكه عن الأصل، مثل السِمَن، وتعلم الصنعة، والصحة بعد المرض).
فقيل: للبائع زمن الخيار.
مثل: اشترى شاة، هذه الشاة سمنت وصارت ذات لحم وشحم، فهذا الشحم واللحم للبائع، لأنه نماء متصل، لا يمكن تخليصه من الأصل، فيكون تبعاً له.
وقيل: النماء المتصل للمشتري أيضاً.
لأنه حصل بسببه.
مثال: اشتريت عبداً واشترطت الخيار لمدة {6} أشهر، فعلمته الكتابة والقراءة في هذه المدة، فقال البائع رجعت عن بيع العبد {العبد الآن يكتب وقد زادت قيمته والكتابة نماء متصل} فيأخذ البائع العبد وتقدر قيمته وهو لا يعرف القراءة والكتابة، وقيمته وهو متصف بهذه الزيادة، والفرق بين القيمتين للمشتري.
(وإذا مات أحدهما زمن الخيار فإنه يبطل خياره).
أي: إذا مات أحد المتبايعين زمن خيار الشرط بطل خياره، ولا ينتقل للورثة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يبطل خيار من مات منهما وينتقل إلى ورثته
لأن الوارث قائم مقام المورث.
(ومنها: خيار الغبن، هو أن يغبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة).
هذا النوع الثالث من أنواع الخيار: وهو خيار الغبن.
وهو أن يغبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة، فإذا غبن فله الخيار.
- لا بد أن يكون الغبن يخرج عن العادة.
- قيده بعضهم بالخمس وبعضهم بالثلث والصحيح أنه راجع للعرف.
جاء في (الموسوعة الفقهية) وَالْمُرَادُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَقْدِيرِ الْغَبْنِ عَلَى عَادَةِ التُّجَّارِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فَإِنَّهَا كُلَّهَا تُؤَدِّي إِلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي الْعُيُوبِ وَنَحْوِهَا مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تَقْتَضِي الْخِبْرَةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْغَبْنِ الثُّلُثُ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِلْمَالِكِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُث.
فائدة: 1
قوله (يخرج عن العادة) أما الغبن اليسير فلا يضر، وهو واقع لا محالة في البيوع، ولا أثر له في صحة العقد باتفاق الفقهاء.
فائدة: 2
يثبت الخيار بالغبن في ثلاثة مواضع:
الأولى: الغبن بزيادة الناجش.
(وقد تقدم مباحث النجش).
مثال: رجل اشترى سلعة وزاد ثمنها بسبب النجش هي تساوي {10} ووصلت {15} بسبب النجش.
فللمشتري الخيار، لأنه زيد عليه على وجه محرم.
الثانية: تلقي الركبان.
(وقد تقدم مبحث تلقي الركبان).
وأنه لا يجوز أن يتلقاهم ويشتري منهم.
هؤلاء إن غبنوا فلهم الخيار.
الثالث: بيع المسترسل.
وهو لغة: من الاسترسال، وهو الاطمئنان.
والمراد به: الجاهل بقيمة السلعة الذي لا يحسن المبايعة ولا يُماكس، فينقاد للبائع ويأخذ السلعة بأكثر من قيمتها، فيغبن غبناً فاحشاً، ففي هذه الحالة يثبت له الخيار.
قال ابن قدامة: الْمُسْتَرْسِلُ إذَا غُبِنَ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ.
لأَنَّهُ غَبْنٌ حَصَلَ لِجَهْلِهِ بِالْمَبِيعِ، فَأَثْبَتِ الْخِيَارَ، كَالْغَبْنِ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ.
فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَرْسِلِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِالْغَبْنِ، فَهُوَ كَالْعَالِمِ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَعْجَلَ، فَجَهِلَ مَا لَوْ تَثَبَّتَ لَعَلِمَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ انْبَنَى عَلَى تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ.
وَالْمُسْتَرْسِلُ هُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ، وَلَا يُحْسِنُ الْمُبَايَعَةَ.
قَالَ أَحْمَدُ: الْمُسْتَرْسِلُ، الَّذِي لَا يُحْسِنُ أَنْ يُمَاكِسَ.
وَفِي لَفْظٍ، الَّذِي لَا يُمَاكِسُ.
فَكَأَنَّهُ اسْتَرْسَلَ إلَى الْبَائِعِ، فَأَخَذَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاكَسَةٍ، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِغَبْنِهِ.
فَأَمَّا الْعَالِمُ بِذَلِكَ، وَاَلَّذِي لَوْ تَوَقَّفَ لَعَرَفَ، إذَا اسْتَعْجَلَ فِي الْحَالِ فَغُبِنَ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا. (المغني).
(ومنها: خيار التدليس).
هذا النوع الرابع من أنواع الخيار: وهو خيار الغبن.
تعريفه: هو عدم إخراج الشيء على حقيقته.
وله صورتان:
أ- أن يظهر الشيء على وجه أكمل مما كان عليه.
ب- أو أن يظهر الشيء على وجه كامل وفيه عيب.
وهذا النوع من التدليس حرام.
قال صلى الله عليه وسلم (لا تُصَرُّوا اَلْإِبِلَ وَالْغَنَمَ) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا) متفق عليه.
أمثلة:
كتسويد شعر الجارية ليظن من رآها أنها شابة (فهنا للمشتري الخيار بين الرد أو الإمساك).
وتصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام.
فائدة: 1
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تُصَرُّوا اَلْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ اِبْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ اَلنَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّام).
ففي هذا الحديث تحريم تصرية الإبل والغنم، وكانوا يجمعون لبنها في ضرعها ليظن من رآها أنها كثيرة اللبن، فيشتريها بزيادة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: مَعْنَاهُ لَا تَجْمَعُوا اللَّبَن فِي ضَرْعهَا عِنْد إِرَادَة بَيْعهَا حَتَّى يَعْظُم ضَرْعهَا فَيَظُنّ الْمُشْتَرِي أَنَّ كَثْرَة لَبَنهَا عَادَة لَهَا مُسْتَمِرَّة، وَمِنْهُ قَوْل الْعَرَب: صَرَيْت الْمَاء فِي الْحَوْض أَيْ جَمَعْته وَصَرَّى الْمَاء فِي ظَهْره أَيْ حَبَسَهُ فَلَمْ يَتَزَوَّج.
فائدة: 2
الحكمة من التحريم:
أولاً: لأن ذلك غش وخداع وتدليس وإيذاء للحيوان، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(من غشنا فليس منّا).
ثانياً: أن في ذلك ضرراً على الحيوان.
فائدة: 3
وهل مثل الإبل والغنم البقر وغيرها؟
نعم.
قال ابن قدامة: جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التَّصْرِيَةِ بَيْنَ الشَّاةِ وَالنَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ، وَشَذَّ دَاوُد، فَقَالَ: لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِتَصْرِيَةِ الْبَقَرَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ (لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا بِخِلَافِهِمَا، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِيهِمَا بِالنَّصِّ، وَالْقِيَاسُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ.
وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ (مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (مَنْ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً).
وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَلِأَنَّهُ تَصْرِيَةٌ بِلَبَنٍ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، أَشْبَهَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، وَالْخَبَرُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَصْرِيَةِ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّ لَبَنَهَا أَغْزَرُ وَأَكْثَرُ نَفْعًا.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ. (المغني).
وقال ابن حجر: لكن لم يذكر البقر لغلبتهما عندهم، وإلا فحكمهما سواء خلافاً لداود الظاهري (قاله في الفتح).
وقال ولي الدين: الظاهر أن ذكر الإبل والغنم دون غيرهما، خرج مخرج الغالب فيما كانت العرب تصريه، وتبيعه، تدليساً وغشاً، فإن البقر قليل ببلادهم، وغير الأنعام لا يقصد لبنها غالباً، فلم يكونوا يصرون غير الإبل والغنم، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له.
فائدة: 4
فمن اشتراها ووجدها مصراة:
هو بالخيار ثلاثة أيام إذا علم بالتصرية بين أمرين:
إما أن يمسكها بلا أرش. (لأن هذا ليس عيباً ولكنه فوات صفة).
وإن شاء ردها إلى البائع وصاعاً من تمر.
وقد ذهب إلى ذلك عامة أهل العلم.
قال في الفتح: وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم، وأفتى به ابن مسعود، وأبو هريرة، ولا مخالف لهما من الصحابة، وقال
به من التابعين، ومن بعدهم من لا يحصى عدده، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتُلب قليلاً أو كثيراً، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا.
فائدة: 5
إن ردها يرد معها صاعاً من تمر.
وهذا مذهب الشافعي وأحمد.
لوروده في الحديث: (وصاعاً من تمر).
قال النووي: ثُمَّ إِذَا اِخْتَارَ رَدّ الْمُصَرَّاة بَعْد أَنْ حَلَبَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْر سَوَاء كَانَ اللَّبَن قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، سَوَاء كَانَتْ نَاقَة أَوْ شَاة أَوْ بَقَرَة، هَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَابْن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو ثَوْر وَفُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ الصَّحِيح الْمُوَافِق لِلسُّنَّةِ.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَرُدّ صَاعًا مِنْ قُوت الْبَلَد وَلَا يَخْتَصّ بِالتَّمْرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَطَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِرَاق وَبَعْض الْمَالِكِيَّة وَمَالِك فِي رِوَايَة غَرِيبَة عَنْهُ: يَرُدّهَا وَلَا يَرُدّ صَاعًا مِنْ تَمْر لِأَنَّ الْأَصْل أَنَّهُ إِذَا أَتْلَفَ شَيْئًا لِغَيْرِهِ رَدّ مِثْله إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلَّا فَقِيمَته. وَأَمَّا جِنْس آخَر مِنْ الْعُرُوض فَخِلَاف الْأُصُول، وَأَجَابَ الْجُمْهُور عَنْ هَذَا بِأَنَّ السُّنَّة إِذَا وَرَدَتْ لَا يُعْتَرَض عَلَيْهَا بِالْمَعْقُولِ.
فائدة: 7
الحكمة من تقييده بالتمر:
أ- قال النووي: وَأَمَّا الْحِكْمَة فِي تَقْيِيده بِصَاعِ التَّمْر، لِأَنَّهُ كَانَ غَالِب قُوتهمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْت فَاسْتَمَرَّ حُكْم الشَّرْع عَلَى ذَلِكَ. (نووي)
ب- ولأن التمر أشبه باللبن أو الحليب من غيره، لكونه غذاء وقوتاً، ولا يحتاج إلى كلفة ومؤنة حين الانتفاع به.
فائدة: 8
هذا التمر عوض عن اللبن الذي كان في ضرعها.
فائدة: 9
لماذا قدره النبي صلى الله عليه وسلم بصاع؟
قدر النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع، مع أن اللبن قد يكون كثيراً، وقد يكون قليلاً قطعاً للنزاع.
قال النووي: وَإِنَّمَا لَمْ يَجِب مِثْله وَلَا قِيمَته بَلْ وَجَبَ صَاع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير لِيَكُونَ ذَلِكَ حَدًّا يَرْجِع إِلَيْهِ وَيَزُول بِهِ التَّخَاصُم. وَكَانَ صلى الله عليه وسلم حَرِيصًا عَلَى رَفْع الْخِصَام وَالْمَنْع مِنْ كُلّ مَا هُوَ سَبَب لَهُ.
فائدة: 10
ما صحة البيع؟
البيع صحيح لقوله (إن رضيها أمسكها)، وهو مجمع عليه.
وأنه يثبت للمشتري الخيار إذا علم بالتصرية، وبه قال الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة فقال: لا يردها، بل يرجع بنقصان العيب.
فائدة: 11
إن علم بالتصرية قبل حلبها؟
قال ابن قدامة: وَإِنْ عَلِمَ بِالتَّصْرِيَةِ قَبْلَ حَلْبِهَا، مِثْلُ أَنْ أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ، أَوْ شَهِدَ بِهِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَلَهُ رَدُّهَا، وَلَا شَيْءَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ التَّمْرَ إنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا لِلَّبَنِ الْمُحْتَلَبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا، فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ) وَلَمْ يَأْخُذْ لَهَا لَبَنًا هَاهُنَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ شَيْءٍ مَعَهَا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
فائدة: 12
ما الحكم لو احتلبها وترك اللبن بحاله، هل يرد اللبن أم صاعاً من تمر؟
قال ابن قدامة: وَأَمَّا لَوْ احْتَلَبَهَا وَتَرَك اللَّبَنَ بِحَالِهِ ثُمَّ رَدَّهَا، رَدَّ لَبَنهَا، وَلَا يُلْزِمُهُ أَيْضًا بِشَيْءٍ.
لِأَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ مَوْجُودًا فَرَدَّهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ.
فَإِنْ أَبَى الْبَائِعُ قَبُولَهُ، وَطَلَبَ التَّمْرَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، إذَا كَانَ بِحَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ.
لِظَاهِرِ الْخَبَرِ.
وَلِأَنَّهُ قَدْ نَقَصَ بِالْحَلْبِ، وَكَوْنُهُ فِي الضَّرْعِ أَحْفَظَ لَهُ.
وَلَنَا، أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى رَدِّ الْمُبْدَلِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْبَدَلُ، كَسَائِرِ الْمُبْدَلَاتِ مَعَ أَبْدَالِهَا.
وَالْحَدِيثُ الْمُرَادُ بِهِ رَدُّ التَّمْرِ حَالَةَ عَدَمِ اللَّبَنِ؛ لِقَوْلِهِ (فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ).
وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُمْ إنَّ الضَّرْعَ أَحْفَظُ لَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ إبْقَاؤُهُ فِي الضَّرْعِ عَلَى الدَّوَامِ، وَبَقَاؤُهُ يَضُرُّ بِالْحَيَوَانِ.
(فيثبت للمشتري الخيار).
أي: بين الرد أو الإمساك.
(ومنها: خيار العيب).
هذا النوع الخامس من أنواع الخيار، وهو خيار العيب.
فإن وجد أحدهما بما اشترى عيباً لم يكن علمه، فله الرد، أو أخذ أرش العيب.
أمثلة: الدابة مريضة، الثوب مخرقاً، الكتاب فيه بياض أو صفحات ساقطة.
اتفق أهل العلم على أن المشتري إذا اطّلع في المبيع على عيب سابق للعقد ولم يكن عالما به أن له الخيار بين الرد وبين الأرش.
وقد استدل العلماء على ثبوت خيار العيب بأدلة:
قَوْله تَعَالى (إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم).
وَالْوَجْهُ فِي الاِسْتِدْلَال أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مُنَافٍ لِلرِّضَا الْمَشْرُوطِ فِي الْعُقُودِ، فَالْعَقْدُ الْمُلْتَبِسُ بِالْعَيْبِ تِجَارَةٌ عَنْ غَيْرِ تَرَاض
ب-أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ: أَيْ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْب.
ج-لأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب فكانت السلامة كالمشروطة في العقد صريحاً لكونها مطلوبة عادة فعند فواتها يتخير كي لا يتضرر بإلزام ما لا يرضى به كما إذا فات الوصف المرغوب فيه المشروط في العقد كمن اشترى عبداً على أنه خباز أو نحوه فوجده بخلاف ذلك.
د-الإجماع على خيار العيب.
قال الإمام مالك رحمه الله: الأمر المجتمع عليه عندنا، في الرجل يشتري العبد ثم يظهر منه على عيب يرده منه.
- خيار العيب: هو ما ينقص قيمة المبيع.
جاء في (الموسوعة الفقهية) ضابط العيب في المبيع عند الحنفية، والحنابلة أنه ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجارة، لأن التضرر بنقصان المالية.
- يشترط للرد بالعيب ألا يعلم به المشتري حال العقد، فإن كان عالماً به وقت العقد فلا خيار له، لأن علمه به دليل على رضاه.
(فإذا علِمَ بالعيب بعد البيع فالمشتري يخيّر بين الرد والإمساك مع الأرش).
أي: أن المشتري إذا وجد السلعة معيبة فإنه يخير بين أمرين:
الأمر الأول: رد المبيع وأخذ الثمن.
الأمر الثاني: أو إمساك السلعة ويدفع البائع أرش العيب
والأرش: هو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب.
فيقوم هذا الشيء صحيحاً ثم يقوم معيباً، وتؤخذ النسبة التي بين قيمته صحيحاً وقيمته معيباً، وتكون هي الأرش، فيسقط نظيرها من الثمن، ويكون التقويم وقت العقد، ولا وقت العلم بالعيب، لأن القيمة قد تختلف فيما بين وقت العقد والعلم بالعيب.
- قوله (فإذا علِمَ بالعيب بعد البيع
…
) أي: فإن كان عالماً بالعيب وقت العقد فلا خيار له.
(وإنْ تعذرَ الرد فله الأرش).
أي: إذا تعذر رد المبيع، كأن يشتري ناقة فيجد فيها عيباً، ثم تموت قبل أن يردها، فيتعين الأرش على البائع.
مثاله: رجل اشترى ناقة فوجد فيها عيباً، ولكن الناقة ماتت قبل أن يردها، فهنا يتعين الأرش.
(وخيار عيب متراخٍ ما لم يوجد دليل الرضا).
فلا يلزمه أن يطالب به فوراً، ولا يسقط إلا بما يدل على إسقاطه.
إلا إن تأخر تأخراً يضر البائع.
(وإن اختلفا عند من حدث العيب، فقول مشترٍ مع يمينه).
أي: وإن وقع خلاف بين البائع والمشتري فيمن حدث عنده العيب - وليس هناك بينة -، فالقول قول المشتري مع يمينه.
مثال: لو اشترى سيارة، وبعدما ذهب بها رجع وقال: السيارة فيها عيب، فقال البائع: العيب حدث عندك؟ وقال المشتري بل العيب من عندك؟
مثاله: باعه عبداً ثم ادعى المشتري أن به عيباً (وهو عرج).
فالمذهب القول قول المشتري مع يمينه.
قالوا: لأن الأصل عدم قبض الجزء الفائت بالعيب.
وذهب بعض العلماء: إلى أن القول قول البائع. (بيمينه).
وهذا قول الجمهور.
أ- لحديث اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا اِخْتَلَفَ اَلْمُتَبَايِعَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُ رَبُّ اَلسِّلْعَةِ أَوْ يَتَتَارَكَانِ) رَوَاه أبو داود.
ب- ولأن الأصل السلامة وعدم وجود العيب.
ج-ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)(فالمدعي هنا المشتري فليأت ببينة)
د-أن دعوى المشتري وجود العيب تستلزم استحقاق الفسخ والأصل عدم الفسخ.
وهذا القول هو اختيار ابن تيمية وهو الراجح.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: قَدْ اِسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ إِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَقْدِ. وَلَكِنْ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَقَعْ التَّرَاضِي بَيْنَهُمَا عَلَى التَّرَادِّ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ جَازَ بِلَا خِلَاف.
إذاً القول قول البائع مع يمينه (لأن كل من قلنا: إن القول قوله، فالقول قوله بيمينه).
فائدة:
ما الحكم لو اختلف البائع والمشتري في قدر ثمن المبيع؟
مثال: اشتريت هذه الساعة منك، فلما جئت لأنقده الثمن، أعطيته (100) ريال، فقال البائع: أنا بعتها عليك بـ (120) ريال، فالمشتري يقول اشتريتها بـ (100) والبائع يقول بعتها بـ (120)
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنهما يتحالفان.
وهذا هو المشهور من المذهب.
أ-واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا) هذا الحديث بهذا اللفظ لا أصل له.
ب- وقالوا: لأن كلاً منهما مدعٍ ومنكر، والقاعدة أن اليمين على المنكر، البائع يدعي أن القيمة 120 وينكر أن القيمة 100، والمشتري يدعي أن القيمة 100 وينكر أن القيمة 120، فهنا يتحالفا ويفسخ العقد.
وكيفية الحلف: نص الفقهاء أنه يبدأ بيمين البائع لأن القاعدة في الأيمان أنه يبدأ بيمين أقوى المتداعيين، وأقواهما البائع لأن المبيع يرد عليه.
يحلف البائع بالنفي والإثبات، يبدأ بالنفي لأن الأصل في اليمين أنها للنفي، يحلف فيقول والله ما بعت الكتاب بـ (100) والله لقد بعته بـ (120)، ثم يقول المشتري والله ما اشتريت الكتاب بـ (120) والله لقد اشتريته بـ (100) ثم يفسخ العقد إذا لم يرض بقول صاحبه، فترد السيارة للبائع والثمن للمشتري.
القول الثاني: أن القول قول البائع،
أو يترادان البيع (يعني إذا رضي المشتري بقول البائع فذاك وإلا فسخ البيع من غير بينة ولا شيء).
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أ-لحديث الباب (إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة، فالقول قول البائع، أو يترادان) رواه أبوداود وأحمد.
ب-ولأن البائع لم يرض بإخراج هذا المبيع عن ملكه إلا بهذا الثمن، فكيف نجبره على قبول ما هو أقل.
وهذا القول هو الصحيح.
•
حالات مستثناة:
الحالة الأولى: إذا كان يمتنع صدق أحدهما- البائع أو المشتري -، فهنا القول قول من لا يحتمل قوله الكذب.
مثال ذلك: الإصبع الزائدة، فإذا اشترى عبداً فوجد فيه إصبعاً زائدة، فأراد رده، فقال البائع: حدث هذا العيب عندك، وقال المشتري: أبداً، فالقول قول المشتري؛ إذ لا يمكن أن يحدث له إصبع زائدة، ولو أمكن أن يحدث لكان كل إنسان يتوقع أن يحدث له ذلك، وإذا قبلنا قول المشتري فلا يشترط أن يحلف؛ لأنه لا حاجة للحلف.
الحالة الثانية: إذا كان لا يحتمل أن يكون قول المشتري.
مثاله: اشترى بهيمة ثم ردها، والعيبُ الذي فيها جُرْحٌ، ادعاه المشتري فنظرنا إلى الجرح وإذا هو يثعب دماً، جرح طري والبيع له مدة أسبوع، فالقول قول البائع بلا يمين؛ لأنه لا يحتمل أن يكون هذا الجرح قبل العقد.
فصل
الإقالة
تعريفها:
هي أن يرضى أحد المتبايعين بفسخ العقد إذا طلبه صاحبه.
(الإقالة مستحبة).
أ- لقوله تعالى (وافعلوا الخير).
ولا شك أن إقالة النادم من فعل الخير.
ب- ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً بَيْعَتَهُ، أَقَالَهُ اَللَّهُ عَثْرَتَهُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه.
وعند ابن ماجه ( .. أقال الله عثرته يوم القيامة). {عثرته} أي غفر الله زلته وخطيئته.
ج- وهي من رحمة الخلق والإحسان إليهم.
قال صلى الله عليه وسلم (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم (من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه البخاري.
قال الشيخ ابن عثيمين: ولكن هي سنة في حق المقيل، ومباحة في حق المستقيل، أي: لا بأس أن تطلب من صاحبك أن يقيلك، سواء كنت البائع أو المشتري، أما في حق المقيل فهي سنة لما فيها من الإحسان إلى الغير، وقد قال الله تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة)، ولأن فيها إدخال سرور على المُقال وتفريجاً لكربته، لا سيما إذا كان الشيء كثيراً وكبيراً، فتكون داخلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى)، فتكون سبباً للدخول في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة.
- وينبغي أن يعلم أن عقد البيع إذا تم بصدور الإيجاب والقبول من المتعاقدين فهو عقد لازم، والعقود اللازمة عند الفقهاء لا يملك أحد المتعاقدين فسخها إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار لقوله صلى الله عليه وسلم (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ومع ذلك فقد اتفق أهل العلم على أن من آداب البيع والشراء الإقالة.
(وهي فسخ).
أي: لا عقد جديد.
أي: أن الإقالة فسخ وإلغاء للعقد الأول وليست بيعاً.
وهذا قول الشافعية، والحنابلة.
ووجه هذا الرأي: بأن الإقالة في اللغة عبارة عن الرفع، يقال في الدعاء (اللهم أقل عثراتي) أي: ارفعها، والأصل أن معنى التصرف شرعاً ينبيء عنه اللفظ لغة، ورفع العقد فسخه، ولأن البيع والإقالة اختلفا اسماً فتخالفا حكماً، فإذا كانت رفعاً فلا تكون بيعاً، لأن البيع إثبات والرفع نفي وبينهما تناف، فكانت الإقالة على هذا التقدير فسخاً محضاً.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها بيع.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مرجحاً القول الأول: الصواب أنها فسخ لعقد مضى، ولهذا تجوز قبل قبض المبيع، وتجوز بعد نداء الجمعة الثاني، وتجوز بعد إقامة الصلاة إذا لم تمنع من الصلاة، لأنها ليست بيعاً، وتجوز في المسجد.
فائدة:
اختلف العلماء: هل تجوز الإقالة بأقل أو أكثر من الثمن على قولين:
قيل: لا تجوز إلا بالثمن.
لأن مقتضى الإقالة رد الأمر على ما كان عليه، ورجوع كل واحد منهما إلى ماله، فلم تجز بأكثر من الثمن.
وقيل: يجوز.
ورجح ذلك ابن رجب، والشيخ ابن عثيمين.
قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع:
…
وكذلك ـ أيضاً ـ لو أن البائع طلب من المشتري الإقالة فقال: أقيلك على أن تعطيني كذا وكذا زيادة على الثمن فإنه لا يجوز؛ لأنها تشبه العينة حيث زيد على الثمن.
ولكن القول الراجح أنها تجوز بأقل وأكثر إذا كان من جنس الثمن؛ لأن محذور الربا في هذا بعيد فليست كمسألة العينة، لأن مسألة العينة محذور الربا فيها قريب، أما هذه فبعيد، وقد قال ابن رجب رحمه الله في (القواعد) إن للإمام أحمد رواية تدل على جواز ذلك، حيث استدل ببيع العربون الوارد عن عمر رضي الله عنه ـ، وقال: الإقالة بعوض مثله، وعليه فيكون هناك رواية أومأ إليها الإمام أحمد بجواز الزيادة على الثمن والنقص منه، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي عليه عمل الناس، وهو من مصلحة الجميع؛ وذلك لأن البائع إذا أقال المشتري، فإن الناس سوف يتكلمون ويقولون: لولا أن السلعة فيها عيب ما ردها المشتري، فيأخذ البائع عوضاً زائداً على الثمن من أجل جبر هذا النقص.
وقال في شرح البلوغ: الصحيح الجواز، ومحذور الربا فيها بعيد، فمثلاً: إذا بعت عليك سيارة بعشرين ألفاً، ثم جئت إليّ وقلت: أقلني، أنا لا أريد السيارة، فقلت: لا أقيلك إلا إذا أعطيتني ألفين من الثمن، فقال: أعطيك.
باب الربا
الربا لغة: الزيادة.
وشرعاً: الزيادة الحاصلة بمبادلة الربوي بجنسه، أو تأخير القبض فيما يلزم فيه التقابض من الربويات.
وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
قال الله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وقال سبحانه وتعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).
وقال عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).
قال ابن عباس رضي الله عنهما (هذه آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَأْكُلُواْ الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وقال سبحانه وتعالى في شأن اليهود حينما نهاهم عن الربا وحرمه عليهم، فسلكوا طريق الحيل لإبطال ما أمرهم به قال سبحانه في ذلك (وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً).
وقال عز وجل (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُواْ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
وعَنْ جَابِر. قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ اَلرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ) رواه مسلم.
(آكل الربا) آخذه، (وَمُوكِلَهُ) بضم الميم، معطي الربا، لأنه ما حصل الربا إلا منه، فيكون داخلاً في الإثم.
وعن سمرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (. . . ولَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ،. . . الحديث وفيه:. . . فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ، وَرَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قال: وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا) رواه البخاري.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَات) متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) رواه أحمد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن الحلال أم مِنَ الحرام) رواه البخاري.
وعن أبي جحيفة (أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ) رواه البخاري.
قال ابن قدامة: أجمعت الأمة على أن الربا محرم.
وقال ابن تيمية: ولم يأت بعد الشرك وعيد كما جاء في الربا.
• وهو ينقسم إلى قسمين:
ربا الفضل: بيع الشيء بجنسه مع التفاضل.
كما لو باع صاعاً من البر بصاعين.
أو كيلو من الذهب بكيلوين.
وربا النسيئة: بيع الشيء بجنسه أو بغير جنسه مما يساويه في العلة بدون قبض.
صاع من البر بصاع من البر من تأخر القبض
باع صاع من البر بصاع من الشعير مع تأخر القبض.
وهنا قسم ثالث وهو: ربا الجاهلية:
وهو قلب الدين على المعسر.
وأصله أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل فإذا حل الأجل قال له: أتقضي أم تربي فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال فيتضاعف المال والأصل واحد.
وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين، قال الله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة).
فإذا حل الدين وكان الغريم معسراً لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب الدين عليه بل يجب إنظاره.
فائدة: 1
حرم الربا لأسباب:
انتهاك حرمة مال المسلم بأخذ الزائد من غير عوض.
الإضرار بالفقير، لأن الغالب غنى المقرض وفقر المستقرض فلو مكن الغني من أخذ أكثر من المثل أضر بالفقير.
انقطاع المعروف والإحسان الذي في القرض.
فائدة: 2
الأموال الربوية (أي التي يجري فيها الربا).
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ اَلصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ اَلْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ) رَوَاهُ مُسْلِم.
الحديث دليل على أن الأموال الربوية ستة، وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح.
قوله (الذهب بالذهب) أي بيع الذهب بالذهب، (مِثلاً بمثل) أي في الوزن ليس في الصفة، أي لا يزيد أحدهما على الآخر، صاع بر بصاع بر، 100 جرام ذهب بـ 100 جرام ذهب، (سواء سواء) السواء: هو المثل والنظير، أي مثلاً بمثل، وجمعَ مع ما قبله للتوكيد والمبالغة في الإيضاح (يداً بيد) أي: متقابضين في مكان التبايع قبل أن يتفرقا (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم) أي من حيث الكمية متساوياً ومتفاضلاً، لا من حيث التقابض [كصاع بر بصاعين شعير، أو 100 جرام من الفضة ب 20 جرام من الذهب] وهذا الإطلاق مقيد بما بعده، وهو قوله (إذا كان يداً بيد).
(إذا بيع الربوي بجنسهِ مشاركاً له في العلة فلا بد من شرطين: المماثلة، والتقابض).
كذهب بذهب - بر ببر - شعير بشعير - فضة بفضة.
أ- لحديث أبي سعيد السابق (اَلذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ).
ب- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَبِيعُوا اَلذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا اَلْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِنَاجِزٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) أي: متساويين، (وَلَا تُشِفُّوا) أي: لا تفضلوا ولا تزيدوا بعضها على بعض، (يَدًا بِيَدٍ) أي: متقابضين في مكان التبايع قبل أن يفترقا.
مثال:
ذهب بذهب (لا بد من شرطين: تقابض - مماثلة).
فضة بفضة (لا بد من شرطين: تقابض - مماثلة).
بر ببر (لا بد من شرطين: تقابض - مماثلة).
ولذلك: جاء في جَابِر بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اَلصُّبْرَةِ مِنَ اَلتَّمْرِ لا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا بِالْكَيْلِ اَلْمُسَمَّى مِنَ اَلتَّمْرِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(عَنْ بَيْعِ اَلصُّبْرَةِ) بضم الصاد المهملة، وسكون الموحدة، وهي الطعام المجتمع، كالكومة. (لا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا) أي: لا يعلم مقدار تلك الصبرة.
فهذا الحديث دليل على النهي عن بيع الصبرة من التمر - وهي الكومة - التي يعلم كيلها، بتمر آخر علم كيله.
قال الشوكاني: والحديث فيه دليل على أنه لا يجوز أن يباع جنس بجنسه وأحدهما مجهول المقدار. (نيل الأوطار)
لأن الصبرة يُجهل كيلها ومقدارها، فالتساوي غير معلوم، فيكون ربا، لأن بيع التمر بالتمر لابد من شرطين: التساوي، والتقابض كما تقدم، وهذا لا يتم إلا يتم إلا بمعرفة كل من العوضين.
وقال ابن قدامة: وَلَوْ بَاعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ جُزَافًا أَوْ كَانَ جُزَافًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، لَمْ يَجُزْ.
وقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ التَّمْرِ، لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا، بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنْ التَّمْرِ).
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ) إلَى تَمَامِ الْحَدِيثِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ التَّمَاثُلَ شَرْطٌ، وَالْجَهْلُ بِهِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ، كَحَقِيقَةِ التَّفَاضُلِ. (المغني).
وقال النووي: هذا تصريح بتحريم بيع التمر بالتمر حتى يعلم المماثلة، قال العلماء: لأن الجهل بالمماثلة في هذا الباب كحقيقة المفاضلة، لقوله صلى الله عليه وسلم (إلا سواءً يسواء) ولم يحصل تحقق المساواة مع الجهل، وحكم الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، وسائر الربويات إذا بيع
بعضها ببعض حكم التمر بالتمر. (شرح مسلم)
(وإذا بيع الربوي بغير جنسه لكنه مشارك له في العلة فيشترط شرط واحد وهو: القبض).
كذهب بفضة، بر بشعير.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
مثال: ذهب بفضة يشترط شرط واحد التقابض. (لأن الذهب غير جنس الفضة لكنه مشارك له في العلة كما سيأتي).
مثال: باع 10 آصع من البر بـ 100 صاع من الشعير يجوز بشرط واحد وهو التقابض. [لأن التمر غير جنس الشعير لكنه مشارك له في العلة].
ومثل: بيع الريالات بالدولارات، فكلاهما اتحدا في العلة (وهي الثمنية) لكن اختلفت في الجنس (هذه ريالات وهذه دولارات) فإنه يجوز بشرط التقابض.
(وإذا بيع الربوي بغير جنسه ولم يكن مشاركاً له في العلة فإنه لا يشترط شيء، يجوز التفاضل والتفرق).
مثال: ذهب بشعير، يجوز مطلقاً من غير شروط.
مثال: فضة ببر يجوز مطلقاً من غير شروط.
(وجودة أحد الجنسين لا تبرر زيادة أحدهما على الآخر).
فلا أثر لاختلاف النوع والجودة إذا كان الجنس واحداً والعلة واحدة، فلا بد من شرطين: التساوي والتقابض.
فتمر جيد بتمر رديء لابد من شرطين.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا». فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلَا تَفْعَلْ بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) متفق عليه.
(الجنيب) التمر الطيب، (الجمْع) الرديء.
فالحديث دليل على تحريم التفاضل بين نوعي الجنس الواحد من الأشياء الربوية.
فاختلاف الجنس في الجودة والرداءة لا يؤثر في منع الربا.
قال الشوكاني: الحديث يدل على أنه لا يجوز بيع رديء الجنس بجيده متفاضلاً، وهذا أمر مجمع عليه، لا خلاف بين أهل العلم فيه.
وأما سكوت الرواة عن فسخ البيع المذكور فلا يدل على عدم الوقوع إما ذهولاً وإما اكتفاء بأن ذلك معلوم، وقد ورد في بعض طرق الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا هو الربا فرده كما بنه على ذلك في الفتح. (نيل الأوطار).
مثال: لا يجوز أن تبيع (100) قمح جيد بـ (110) رديء، لأنه ربا.
وقد جاء في حديث أبي سَعِيد قال (جَاءَ بِلَالٌ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مِنْ أَيْنَ هَذَا». فَقَالَ بِلَالٌ تَمْرٌ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٌ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ «أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ) متفق عليه.
ففي هذا الحديث جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني جيد، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جودته، فقال: من أين هذا، فقال بلال: كان عندنا تمر، فبعت الصاعين من الرديء بصاع من هذا الجيد، ليكون مطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بلال بأن عمله هذا هو عين الربا، فلا تفعل ثم أرشده للطريقة الصحيحة، وهي إذا أراد استبدال رديء بجيد، أن يبيع الرديء بدراهم ثم اشتر بالدراهم تمراً جيداً.
قال النووي رحمه الله: قَوْله صلى الله عليه وسلم (أَوَّهْ عَيْن الرِّبَا) قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ كَلِمَة تَوَجُّع وَتَحَزُّن، وَمَعْنَى عَيْن الرِّبَا: أَنَّهُ حَقِيقَة الرِّبَا الْمُحَرَّم.
- أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الطريقة السليمة البعيدة عن الربا، التي يسلكها من أراد أن يستبدل التمر الجيد بالتمر الرديء، وذلك بأن يبيع التمر الرديء بدراهم ويشتري بالدراهم تمراً جيداً، وهذه الطريقة تتبع في كل ربوي يراد استبداله بربوي أحسن منه، لأن الجودة في أحد الجنسين لا تبرر الزيادة إذا بيع أحدهما بالآخر.
فائدة: 1
اختلف العلماء: هل يجري الربا في غير هذه الأصناف الستة مما هو مثلها أم لا على قولين:
القول الأول: أن تحريم الربا محصور في هذه الأشياء الستة لا يتجاوزها إلى غيرها.
يروى هذا القول عن قتادة وهو قول أهل الظاهر.
وقال به أيضا طاوس، وعثمان البتي، وأبو سليمان.
وممن اختار هذا القول الإمام الصنعاني.
قال الصنعاني: ولكن لما لم يجدوا - أي الجمهور - علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها، وقد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميتها:(القول المجتبى).
واختاره من الحنابلة ابن عقيل.
القول الثاني: أنه يلحق بها ما شاركها في العلة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ-لحديث مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (اَلطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ولفظ (الطعام) أعم من الأصناف الأربعة المذكورة في حديث عبادة.
ب-واستدلوا أيضاً بالمعنى، وذلك أن ما وافقها في العلة يجب أن يأخذ حكمها، مراعاة لمقصود الشارع في التحريم، فما دام أن العلة واضحة وموجودة في غير هذه الأصناف فليحكم بالإلحاق، لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين، كما لا يجمع بين مختلفين، قالوا: وقد اقتصر الحديث على الأصناف الستة من باب الاكتفاء بالأشياء التي لا يستغني عنها الناس عادة.
وهذا القول هو الراجح.
فائدة: 2
علة التحريم في النقدين:
أرجح الأقوال: أن العلة فيهما مطلق الثمنية، أي أنهما أثمان للأشياء.
وهذا قول المالكية، واختاره ابن تيمية، وابن القيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والأظهر أن العلة في ذلك هي الثمنية لا الوزن.
جاء في مجلة البحوث الإسلامية: فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقداً قائماً بذاته كقيام النقدية في
الذهب والفضة وغيرها من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية:
أولا: جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان كالفلوس وهذا يقتضي ما يلي:
ثانياً: لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقاً، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة.
ثالثاً: لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلاً سواء كان ذلك نسيئة أو يداً بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالاً سعودياً ورقاً.
رابعاً: يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقاً إذا كان ذلك يداً بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقاً كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يداً بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة. (أبحاث هيئة كبار العلماء).
وعلى هذا: فيجري الربا في كل ما اتخذه الناس عملة وراج رواج النقدين، مثل الأوراق النقدية الآن، وعلى هذا فلا يجوز بيع (15) ريالاً سعودياً ورقاً بـ (16) ريالاً سعودياً ورقاً، ويجوز بيع بعضها ببعض من غير جنسها إذا كان يداً بيد، كما لو باع ورق نقد سعودي بليرة سورية أو لبنانية أو كويتية، لأن العملات الورقية أجناس متعددة بتعدد جهات إصدارها.
فائدة: 3
علة التحريم في الأربعة الباقية.
(التمر والشعير والملح والبر).
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: أن العلة هي الطعم مع الكيل. (إذا يلحق بها كل مكيل ومطعوم).
ورجح هذا القول ابن قدامة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
وعلى هذا القول: الأرز يجري فيه الربا، لأنه مطعوم ومكيل، وكذلك: الذرة والدهن والعدس واللحم ونحوها، ولا يجري في مطعوم لا يكال كالرمان والسفرجل والبيض والأترج والتفاح، والأشنان مكيل لكنه غير مطعوم فلا يجري فيه الربا.
واستدل هؤلاء بأن الأصناف الأربعة المذكورة في حديث عبادة مطعومة مكيلة، فيلحق بها كل ما كان كذلك.
القول الثاني: أن العلة هي الاقتيات والادخار.
أي كون الطعام قوتاً يقتات به الناس غالباً، ويدخره مدة من الزمن فلا يفسد، وعلى هذا القول فيجري الربا في الأرز والقمح والذرة ونحوها.
وهذا مذهب مالك، واختاره ابن القيم.
واستدل هؤلاء بحديث عبادة، قالوا: إن الأصناف المذكورة في حديث عبادة يجمعها وصف الاقتيات والادخار.
القول الثالث: أن العلة في هذه الأربعة هي الطعمية - أي كونها مطعومة
-.
وهذا قول الشافعي.
القول الرابع: أن العلة في الأربعة المذكورة هي الكيل ولو كانت غير مطعومة.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد.
قال العلامة الشنقيطي: وهذا القول أظهر دليلاً.
والله أعلم.
أمثلة:
مبادلة تفاحة بتفاحتين، هل يجري الربا؟
عند الحنفية والحنابلة: لا يجري؛ لأنها ليست مكيلة ولا موزونة، بل معدودة.
وعند الشافعية: يجري؛ لأنها مطعومة.
وعند الإمام مالك: لا يجري؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، وليست مقتاتة تدّخر.
صاع برّ بصاعين:
عند الحنابلة والحنفية: يجري؛ لأنها مكيلة.
وعند الشافعية: يجري؛ لأنها مطعومة.
وعند المالكية: يجري؛ لأنها مدّخرة ومقتاتة.
وعند شيخ الإسلام: يجري، لأنها مطعومة ومكيلة.
كيلو حديد بكيلوين حديد:
عند الحنفية والحنابلة: يجري؛ لأنها موزونة.
وعند الشافعية: لا يجري فيها الربا؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، ولا مطعومة.
وعند الإمام مالك: لا يجري؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، ولا يقتات ولا يدّخر.
وعند شيخ الإسلام: لا يجري؛ لأن العلة عنده الثمنية، أو الطعم مع الكيل أو الطعم مع الوزن.
قلم بقلمين:
عند الحنفية والحنابلة: لا يجري؛ لأنها ليست مكيلة ولا موزونة، بل معدودة.
وعند الشافعية: لا يجري؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، وليست طعماً؛ لأن العلة عندهم غلبة الطعم أو غلبة الثمنية - الاقتصار على الذهب والفضة -.
وعند المالكية: لا يجري؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، وليست مقتاتة ولا مدّخرة.
وعند شيخ الإسلام: لا يجري؛ لأنه يرى أن العلة الثمنية، والطعم مع الوزن أو الطعم مع الكيل.
فائدة: 4
قال ابن قدامة: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَالطَّعْمُ، مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ الرِّبَا رِوَايَةً وَاحِدَةً، كَالْأُرْزِ، وَالدُّخْنِ، وَالذُّرَةِ، وَالْقُطْنِيَّاتِ، وَالدُّهْنِ، وَالْخَلِّ، وَاللَّبَنِ، وَاللَّحْمِ، وَنَحْوِهِ.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا قَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، سِوَى قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ شَذَّ عَنْ جَمَاعَةِ النَّاسِ، فَقَصَرَ تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ عَلَى السِّتَّةِ الْأَشْيَاءِ. (المغني).
ثم قال رحمه الله: وَمَا انْعَدَمَ فِيهِ الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَالطَّعْمُ، وَاخْتَلَفَ جِنْسُهُ، فَلَا رِبَا فِيهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً.
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَالتِّينِ، وَالنَّوَى، وَالْقَتِّ، وَالْمَاءِ، وَالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ دَوَاءً، فَيَكُونُ مَوْزُونًا مَأْكُولًا، فَهُوَ إذًا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. (المغني).
فائدة: 5
كل شيءٍ جمعهما اسم خاص فهما جنس واحد.
الجنس هو الذي يشمل أشياء مختلفة بأنواعها.
فالبر: يشمل الحنطة، والجريباء، واللقيمي وغير ذلك.
والتمر: جنس يشمل: البرحي، والسكري، والخضري ونحوه.
فلا يجوز أن يباع سكري ببرحي إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، لأنهما نوعان من جنس واحد.
فائدة: 6
ذهب بعض الصحابة كابن عباس وجماعة إلى جواز ربا الفضل.
واستدلوا بحديث أسامة بن زيد. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا ربا إلا في النسيئة) متفق عليه.
قال ابن قدامة: وَالرِّبَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا.
وَقَدْ كَانَ فِي رِبَا الْفَضْلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ؛ فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ).
والراجح تحريمه وهو قول جماهير العلماء للأحاديث الصحيحة في ذلك، وقد تقدم ذكرها.
وأجاب جمهور العلماء عن حديث أسامة بأجوبة:
الجواب الأول: أنه منسوخ.
قال النووي: وأما حديث أسامة (لا ربا إلا في النسيئة) فقال قائلون: بأنه منسوخ بهذه الأحاديث، وقد أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره وهذا يدل على نسخه.
وقال الحافظ ابن حجر: اتفق العلماء على صحة حديث أسامة واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد.
فقيل: منسوخ لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
وقال الشوكاني: لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
الجواب الثاني: أنه حديث مجمل والأحاديث التي تمنع ربا الفضل مبينة،
فيجب العمل بالمبين وتنزيل المجمل عليه.
الجواب الثالث: أنه رواية صحابي واحد،
وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم ناطقة بمنع ربا الفضل، ورواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد عن الخطأ من رواية الواحد
الجواب الرابع: أن المعنى في قوله: لا ربا إلا في النسيئة، أي الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل. (قاله النووي).
قال النووي: كان معتمد ابن عباس وابن عمر حديث أسامة ابن زيد (إنما الربا في النسيئة) ثم رجع ابن عمر وابن عباس عن ذلك، وقالا بتحريم بيع الجنس بعضه ببعض، متفاضلاً حين بلغهما حديث أبي سعيد كما ذكره مسلم من رجوعهما صريحاً، وهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم تدلّ على أن ابن عمر وابن عباس لم يكن بلغهما حديث النهي عن التفاضل في غير النسيئة، فلما بلغهما رجعا إليه.
وأيضاً نفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة
على الربا الأكبر كما تقدّم. والله أعلم.
فائدة: 7
لا يجوز لمسلم أن يعمل في بنك تعاملُه بالربا، ولو كان العمل الذي يتولاه ذلك المسلم في البنك غير ربوي؛ لتوفيره لموظفيه الذين يعملون في الربويات ما يحتاجونه، ويستعينون به على أعمالهم الربوية، وقد قال تعالى:(وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). (فتاوى اللجنة الدائمة)
وفي فتوى للجنة أخرى:
أولا: العمل في البنوك التي تتعامل بالربا حرام، سواء كانت في دولة إسلامية أو دولة كافرة؛ لما فيه من التعاون معها على الإثم والعدوان الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
ثانيا: ليس في أقسام البنك الربوي شيء مستثنى فيما يظهر لنا من الشرع المطهر؛ لأن التعاون على الإثم والعدوان حاصل من جميع موظفي البنك. (فتاوى اللجنة).
وجاء في فتوى للجنة الدائمة أيضاً:
البنوك التي تتعامل بالربا لا يجوز للمسلم أن يشتغل فيها، لما فيه من إعانة لها على التعامل بالمعاملات الربوية، بأي وجه من وجوه التعاون من كتابة وشهادة وحراسة وغير ذلك من وجوه التعاون، فإن التعاون معها في ذلك تعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عنه بقوله تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
- وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يجوز العمل في مؤسسة ربوية كسائق أو حارس؟
فأجاب: لا يجوز العمل بالمؤسسات الربوية ولو كان الإنسان سائقاً أو حارساً، وذلك لأن دخوله في وظيفة عند مؤسسات ربوية يستلزم الرضى بها، لأن من ينكر الشيء لا يمكن أن يعمل لمصلحته، فإذا عمل لمصلحته فإنه يكون راضيا به، والراضي بالشيء المحرم يناله من إثمه. أما من كان يباشر القيد والكتابة والإرسال والإيداع وما أشبه ذلك فهو لا شك أنه مباشر للحرام. وقد ثبت من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال: هم سواء). (من موقع الإسلام س ج)
فائدة: 8
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: عن بيع العملة القديمة بأكثر من قيمتها؟
فأجاب: ليس فيه بأس؛ لأن العملة القديمة أصبحت غير نقد، فإذا كان مثلاً عنده من فئة الريال الأولى الحمراء أو من فئة خمسة أو عشرة التي بطل التعامل بها وأراد أن يبيع ذات العشرة بمائة فلا حرج؛ لكونها أصبحت سلعة ليست بنقد، فلا حرج. (لقاء الباب المفتوح)
فائدة: 9
ذهب بعض العلماء إلى جواز الربا بين المسلم والكافر الحربي في دار الحرب.
وقد جاء في ذلك حديث عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب).
والصحيح - وهو ما ذهب إليه أكثر العلماء، ومنهم الأئمة: مالك والشافعي وأحمد -: أن الربا محرَّم بين مسلم ومسلم، وبين مسلم وكافر في ديار الإسلام، أو ديار الكفر، أو ديار الحرب.
قال ابن قدامة: وَيَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَتَحْرِيمِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْرِي الرِّبَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
وَعَنْهُ فِي مُسْلِمَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَا رِبَا بَيْنَهُمَا.
لِمَا رَوَى مَكْحُولٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْب).
وَلِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةُ، وَإِنَّمَا حَظَرَهَا الْأَمَانُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا.
وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَحَرَّمَ الرِّبَا).
وَقَوْلُهُ (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَس).
وَقَالَ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا).
وَعُمُومُ الْأَخْبَارِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ.
وَقَوْلُه (مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى).
عَامٌّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ.
وَلِأَنَّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَالرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَبَرُهُمْ مُرْسَلٌ لَا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ. (المغني).
وقال النووي: الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف.
ودليلنا: عموم الأدلة المحرمة للربا، فلأن كل ما كان حراماً في دار الإسلام: كان حراماً في دار الشرك، كسائر الفواحش والمعاصي - ولأنه عقد فاسد فلا يستباح به المعقود عليه كالنكاح. انتهى.
وأما حديث (لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب) فحديث ضعيف.
فهو حديث مرسل لأن "مكحول" من التابعين، والمرسل من أقسام الضعيف.
وقد ضعفه الإمام الشافعي، وابن حجر، والنووي، وآخرون.
قال الإمام الشافعي: وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت، فلا حجة فيه " انتهى.
فائدة: 10
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
(وقد استحسن بعض الناس بعقولهم استحساناً مخالف لشرع الله، فقالوا: إن الإنسان إذا أودع بل إذا جعل أمواله عند أهل الربا فإنه يجوز أن يأخذ الربا ثم يتصدق به تخلصاً منه، وهذا القول مخالف للقرآن الكريم:
_ لأن الله يقول (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون).
يقولون: إننا لو تركناه للبنوك لكانوا يستعينون به على بناء الكنائس وإعانة الكفار على قتال المسلمين وما أشبه ذلك من الأقوال، ونقول لهم:
أولاً: إن هذا الربا ليس داخلاً في ملكه حتى نقول إنه تبرع للبنك به، فهو من الأصل لم يدخل في ملكه.
ثانياً: من يقول إنهم يستعينون بها ويجعلونها في الكنائس والأسلحة ضد المسلمين.
ثالثاً: هل إذا أخذتها منهم سوف يمسكون عن قتال المسلمين وعن إضلالهم عن دينهم.
رابعاً: إذا قلنا بذلك ثم قلنا خذها وتصدق بها، فمعنى ذلك أننا قلنا له تلطخ بالنجاسة ثم حاول أن تغسل يدك منها، إذاً ما الفائدة من أن تأخذها ثم تتصدق بها، لا فائدة، اتركها من الأصل تسلم منها.
خامساً: ثم إذا قلنا خذها وتصدق بها، فهل يضمن نفسه أن يقوى على التصدق بها ولا سيما إذا كانت كثيرة، قد يأخذها بهذه النية ثم تغلبه نفسه فلا يتصدق بها ويأكلها.
سادساً: وأيضاً إذا قلنا خذها وتصدق بها، فأخذها أمام الناس، فمن الذي يعلم الناس أنه تصدق بها، الناس لا يدرون، وربما اتخذوه من فعله هذا قدوة.
(ولا يصحُ بيعُ لحمٍ بحيوانٍ من جنسه، ويصح بغير جنسهِ).
بيع اللحم بالحيوان قسمان:
الأول: بيع لحم بحيوان من جنسه: فلا يجوز.
كلحم إبل بإبل، أو لحم بقر ببقر.
الثاني: بيع اللحم بحيوان من غير جنسه: فيجوز.
كلحم بقر بشاة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه.
وهذا مذهب الشافعية، وهو قول الفقهاء السبعة.
أ- لما روى سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن بيع اللحم بالحيوان) رواه مالك والبيهقي، وهو مرسل.
ب- ولحديث سهل بن سعد. أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع اللحم بالحيوان) أخرجه الدارقطني وضعفه وأقره الحافظ ابن حجر والبيهقي بالغلط في إسناده، قال ابن عبد البر: إنه حديث موضوع.
وذهب بعضهم: أنه إذا كان المقصود اللحم، فيحرم سواء بيع بجنسه أو بغير جنسه، أما إذا لم يقصد اللحم (كركوب أو تأجير أو حرث) فيجوز.
وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.
وسبب التحريم إذا أريد بالحيوان اللحم، لأنه باع لحماً بلحم من غير تماثل.
وأما بيع اللحم باللحم، فإن اللحم أجناس، فلحم الإبل جنس، ولحم البقر جنس، ولحم الضأن جنس، فلا يجوز بيع اللحم بلحم من جنسه إلا بالتساوي، فلا يباع كيلو من لحم الضأن بكيلوين منه، ويجوز كيلو من البقر بكيلوين من لحم الضأن لاختلاف الجنس.
(وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة).
كما في حديث اِبْن عُمَر رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ; أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْماً أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعاً أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فالمزابنة: هي بيع التمر على النخل بتمر مجذوذ.
مثال: أن يبيع رطباً على رؤوس النخل، بثمر في الزنبيل، فهذا لا يجوز.
مثال آخر: رجل عنده شجر من الأعناب، وآخر عنده أكياس من الزبيب، فقال أحدهما للآخر: نتبايع هذه الأشجار من الأعناب بهذه الأكياس من الزبيب، فهذا لا يجوز.
•
الحكمة من النهي:
أ- مظنة الربا لعدم التساوي.
لأن بيع تمر بتمر يشترط فيه التساوي، والتساوي هنا معدوم.
لأنه لو فرضنا أن أكياس الزبيب معلومة المقدار، لكن أشجار العنب غير معلومة المقدار.
أ- حصول الغرر به، وكل ما حصل به غرر فهو غير صحيح.
(وأرخص في العرايا).
تقدم: أن بيع الرطب بالتمر (وهو المزابنة) لا يجوز، لأن الرطب ينقص إذا جف، وبيع التمر بالتمر يشترط فيه شرطان: التساوي - والتقابض، والتساوي هنا معدوم.
يستثنى من ذلك: العرايا، وهي: بيع رطب في روؤس نخله بتمر كيلاً.
أن يخرص الخارص نخلات فيقول: هذا الرطب الذي عليها إذا يبس يجيء منه ثلاثة أوسق من التمر مثلاً، ويتقابضان في المجلس، فيسلم المشتري التمر، ويسلم بائع الرطب الرطب بالنخلة.
وهو مستثنى من بيع المزابنة، وهذا مذهب أكثر العلماء.
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي اَلْعَرَايَا: أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ (رَخَّصَ فِي اَلْعَرِيَّةِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ اَلْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ اَلْعَرَايَا بِخَرْصِهَا، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
•
شروط حل العرايا؟
الشرط الأول: أن تباع النخلة بخرصها، ولا بد أن يكون من عالم به.
لقوله (أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً).
فلا يجوز أن يأتي أي أحد من الناس، لا بد أن يكون الخارص خبيراً.
قال النووي: وَأَمَّا الْعَرَايَا فَهِيَ أَنْ يَخْرُص الْخَارِص نَخَلَات فَيَقُول: هَذَا الرُّطَب الَّذِي عَلَيْهَا إِذَا يَبِسَ تَجِيء مِنْهُ ثَلَاثَة أَوْسُق مِنْ التَّمْرَة مَثَلًا، فَيَبِيعهُ صَاحِبه لِإِنْسَانٍ بِثَلَاثَةِ أَوْسُق تَمْر، وَيَتَقَابَضَانِ فِي الْمَجْلِس، فَيُسَلِّم الْمُشْتَرِي التَّمْر وَيُسَلِّم بَائِع الرُّطَب الرُّطَب بِالتَّخْلِيَةِ.
الشرط الثاني: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، وهذه لها أحوال:
أولاً: الزيادة على خمسة أوسق، لا يجوز بلا خلاف.
ثانياً: أقل من خمسة أوسق، يجوز.
ثالثاً: في خمسة أوسق، هذه فيها خلاف:
قيل: لا يجوز.
وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية، ورجحه ابن المنذر.
قالوا: الأصل أن بيع التمر بالرطب حرام، وتبقى الخمسة مشكوكاً فيها، والأصل المنع.
وقيل: يجوز.
عملاً برواية الشك (خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق).
والراجح الأول.
قال النووي: وَهَذَا جَائِز فِيمَا دُون خَمْسَة أَوْسُق، وَلَا يَجُوز فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَة أَوْسُق، وَفِي جَوَازه فِي خَمْسَة أَوْسُق قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحّهمَا لَا يَجُوز لِأَنَّ الْأَصْل تَحْرِيم بَيْع التَّمْر بِالرُّطَبِ وَجَاءَتْ الْعَرَايَا رُخْصَة، وَشَكَّ الرَّاوِي فِي خَمْسَة أَوْسُق أَوْ دُونهَا فَوَجَبَ الْأَخْذ بِالْيَقِينِ وَهُوَ دُون خَمْسَة أَوْسُق وَبَقِيَتْ الْخَمْسَة عَلَى التَّحْرِيم. (شرح مسلم).
الشرط الثالث: أن يكون المشتري محتاجاً إلى الرطب، فإن لم يكن محتاجاً فإنها لا تجوز.
لأن بيع العرايا رخص فيه للحاجة.
الشرط الرابع: التقابض بين الطرفين.
لأن الأصل في بيع التمر بالتمر أنه لا بد من شرطين: التساوي والتقابض.
فالتساوي عرفنا أنه رخص فيه، ويبقى التقابض على الأصل لم يرخص فيه.
(والتقابض يكون في النخل: بالتخلية، وفي التمر بالكيل لأخذ).
فائدة:
اختلف العلماء: هل العرايا خاصة بالتمر، أم يجوز في جميع الثمار على قولين:
القول الأول: أن العرايا خاصة بالتمر، فيقتصر الجواز على النخل فقط دون غيرها من الثمار.
وهذا المشهور من مذهب الحنابلة، وبه قال الليث بن سعد، والظاهرية.
أ-واستدلوا بالأحاديث السابقة، حيث إنها صريحة في حصر الجواز بالتمر دون غيره.
ب-أن الأصل يقتضي تحريم العرية، وإنما جازت في ثمرة النخيل رخصة، ولا يصح قياس غيرها عليها لوجهين:
الأول: أن غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها، وسهولة خرصها.
الثاني: أن القياس لا يعمل به إذا خالف نصاً.
القول الثاني: أنه عام في جميع الثمار.
فلو أن شخصاً عنده زبيب جاز أن يشتري به عنباً يتفكه به.
وهذا مذهب مالك، واختاره من الحنابلة أبو يعلى، وهو مذهب الأوزاعي، واختاره ابن تيمية.
واستدلوا بالقياس على النخل بجامع الحاجة في كلٍ والاقتيات، وهذا المعنى موجود في غير النخل، وعليه فلا يصح قصر الحكم على النخل.
القول الثالث: أنه يجوز في العنب وحده، فيباع العنب في الشجر بزبيب.
…
وهو قول الشافعي، واختاره النووي.
قالوا: قياساً على التمر، بجامع أنه يخرص مثله وييبس ويقتات ويوسق ويحتاج لأكله كالتمر، أما غير العنب فليس كذلك.
والراجح: الله أعلم.
باب بيع الأصول والثمار
الأصول: جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيره، والمراد بها الأرض أو الدار أو الشجر.
(والفقهاء يقصدون ما الذي يتبع البائع وما الذي يتبع المشتري منها).
والثمار: جمع ثَمَر وهو حمْل الشجر.
(إذا باع داراً شمل البيع أرضَها، وبناءها، وسقفها، وباباً منصوباً، ومتصلاً بها لمصلحتها كالسلالم، والأبواب المنصوبة، لا كنزاً وحجراً مدفونين، ولا منفصل كحبل ودلو وفرش).
إن كان هناك شرط وجب العمل به - إن شرط البائع أو المشتري - أن هذا يتبعه وجب العمل به لحديث (المسلمون على شروطهم).
إن لم يكن هناك شرط: فالبيع يشمل الأشياء المتصلة دون المنفصلة إلا بشرط.
فبيع الدار: يشمل الجدران والأبواب والنوافذ.
ولا يشمل المنفصلة: كأواني الطبخ والرفوف والمكيفات.
• يستثنى المفاتيح لأنها منفصلة ويشملها البيع.
والثمار: المراد بها ثمر النخل أو التين أو العنب أو غيرها.
(وإن كان المباع أرضاً شمل غرسها وبناءها لا ما فيها من زرع لا يحصد إلا مرة).
أي: إن باع أرضاً فإنه يشمل البيع الغرس والبناء.
وأما ما يتعلق بالزرع:
فإن كان لا يحصد إلا مرة واحدة (كبر وشعير وبصل) فإنه للبائع، ما لم يشترطه المشتري.
وإن كان يجز مرة بعد أخرى (كالبرسيم، والكراث) فالأصول للمشتري، والجزة الظاهرة واللقطة الأولى للبائع.
وكذا ما يلقط مراراً، كالباذنجان، والطماطم، فالأصول للمشتري تبعاً للأرض، واللقطة الموجودة تكون للبائع مبقاة إلى أوان أخذها.
(وإن اشترط المشتري ذلك صح).
المشار إليه: اللقطة الظاهرة، والجزة الظاهرة.
فإذا قال المشتري: أنا أشترط أن تكون لي، فقبل البائع، فإنه يصح.
(مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُتهَا لِلْبَائِعِ، إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ).
هذا نص حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
عنِ اِبْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اِبْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ اَلَّذِي بَاعَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ اَلْمُبْتَاعُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(مَنِ اِبْتَاعَ) أي: اشترى. (نَخْلًا) أي: باع أصل النخل. (بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ) التأبير هو التلقيح، وهو وضع طلع الفحل من النخل بين طلع الإناث. (اَلْمُبْتَاعُ) أي: المشتري.
فهذا الحديث دليل على أن من اشترى نخلاً بعد التأبير فثمرتها للبائع.
وأنه لو باعها قبل التأبير فثمرتها للمشتري لمفهوم الحديث.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
لهذا الحديث، فهو صريح بذلك، فهو يدل على أن ثمرة النخل المبيع يكون للبائع بعد التأبير ما لم يشترطه المبتاع.
قال ابن حجر: وقد استدل بمنطوقه على أن من باع نخلاً وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع، وبمفهومه على أنها إذا كانت غير مؤبرة أنها تدخل في البيع وتكون للمشتري وبذلك قال جمهور العلماء.
وقال القرطبي: وإذا تقرَّر هذا، فظاهر هذا الحديث يقتضي بلفظه: أن الثمرة المأبورة لا تدخل مع أصولها إذا بيعت الأصول إلا بالشرط، ويقتضي دليل خطابه: أن غير المأبورة داخلة في البيع، وهو مذهب مالك، والشافعي، والليث.
فائدة: 1
الحكمة من ذلك:
الحكمة: لأن البائع عمل في هذه الثمرة عملاً يصلحها، لأن التأبير يصلح الثمرة، فلما عمل فيها عملاً يصلحها، تعلقت بها وصار له تأثير فيها، وبذلك جعلها الشارع له.
فائدة: 2
الحديث دليل على أنه لو اشترط المشتري أن تكون له الثمرة بعد التأبير، فإنه يصح لك.
لقوله (إلا أن يشترط المبتاع).
فائدة: 3
هل يجوز للبائع إبقاء الثمرة على رؤوس الشجر إلى وقت الجذاذ؟
قيل: للبائع إبقاؤها إلى الجذاذ.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
وقيل: يجب على البائع قطع ثمرته من أصل المبيع في الحال.
وإليه ذهب الحنفية.
فائدة: 4
يلحق بالتمر ما عداه كالعنب، والتين، والبرتقال.
فائدة: 5
هذا الحكم في هذا الحديث إنما هو لعام واحد، وأما السنوات القادمة فهي للمشتري.
(ولا يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها).
لحديث اِبْنِ عُمَرَ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اَلثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى اَلْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا? قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُه.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اَلثِّمَارِ حَتَّى تُزْهَى. قِيلَ: وَمَا زَهْوُهَا? قَالَ: (تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
وعنه. رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اَلْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ اَلْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ
ففي هذه الأحاديث تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.
فائدة: 1
الحكمة من النهي.
قال ابن حجر: قوله (نهى البائع والمبتاع) أمّا البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأمّا المشتري فلئلا يضيّع ماله ويساعد البائع على الباطل. وفيه أيضاً قطع النّزاع والتّخاصم. (الفتح).
وقال بعض العلماء: الحكمة في النهي قبل بدو صلاحها: أنه في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها غرراً وخطراً ظاهراً يفضي إلى المفاسد الكثيرة بين المسلمين من إيقاع التشاحن والتشاجر وأكل مال الغير بغير حق.
فالبائع إذا باع قبل بدو الصلاح وتعجل البيع فإنه ستقل قيمتها عما لو أخر البيع إلى ما بعد الصلاح والنضج فيكون في ذلك خسارة عليه.
وأما المشتري: ففي ذلك حفظ لماله من الضياع والمخاطر والتغرير، لأن الثمرة قد تتلف وتنالها الآفات قبل الانتفاع بها فيذهب ماله، فنهي عن ذلك تحصيناً للأموال من الضياع وحفظاً للحقوق، وقطعاً للمخاصمات والمنازعات بين المتبايعين.
فالخلاصة أن حكمة النهي ترجع إلى ثلاثة أمور:
أولاً: لما فيه من الغرر.
ثانياً: أنه سبب في تنازع الناس.
ثالثاً: أنه طريق إلى أكل أموالهم بالباطل.
فائدة:
يجوز بيع الثمر بعد بدو صلاحه،
وبدو صلاحه جاء بيانه في بعض الأحاديث:
فقد جاء في حديث (حتى يزهو)، وفي رواية (حتى يبدو صلاحها).
وأجمع هذه الألفاظ حديث جابر (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن بَيعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَطعَمَ)، وفي رواية (حَتَّى تَطِيبَ).
فالضابط أن يطيب أكله ويطهر نضجه.
قال النووي: بدو الصلاح يرجع إلى تغير صفة في الثمرة، وذلك يختلف باختلاف الأجناس، وهو على اختلافه راجع إلى شيء واحد مشترك بينها، وهو طيب الأكل. (المجموع).
وقال الشيخ ابن عثيمين: الضابط يدور على إمكان أكلها واستساغته؛ لأنه إذا وصل إلى هذا الحد أمكن الانتفاع به، وقبل ذلك لا يمكن الانتفاع به إلا على كره، وهو أيضاً إذا وصل هذه الحال من النضج قَلَّت فيه الآفات والعاهات. (الشرح الممتع).
(إلا بشرط قطعٍ إن كان منتفعاً به).
أي: أنه يجوز بيع الثمر قبل بدو صلاحها في هذه الحالة: بشرط القطع في الحال إذا كان يريد أن ينتفع به.
لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا، وهذا منتفٍ هنا.
وقد قسم ابن قدامة بيع الثمر قبل بدو صلاحه إلى أقسام، فقال رحمه الله:
لا يخلوا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إجْمَاعًا.
(لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
والنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، فَيَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ.
لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَنَسٌ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ. قَالَ: أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا يُقْطَعُ، فَصَحَّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ بَدَا صَلَاحُهُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ قَطْعًا وَلَا تَبْقِيَةً، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
ثم قال مرجحاً رأي الجمهور:
وَلَنَا: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَطْلَقَ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا) فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النزاع.
فائدة: 1
متى يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها؟
أولاً: إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع في الحال.
قال ابن قدامة: أن يبيعها بشرط القطع في الحال، فيصح بالإجماع
…
كما تقدم.
ثانياً: إذا بيعت الثمرة مع أصلها، أو بيع الزرع مع الأرض، فلا يشترط بدو الصلاح في الثمر والزرع.
قال ابن قدامة رحمه الله: أَنْ يَبِيعَهَا مَعَ الْأَصْلِ، فَيَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ.
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ).
وَلِأَنَّهُ إذَا بَاعَهَا مَعَ الْأَصْلِ حَصَلَتْ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضُرَّ احْتِمَالُ الْغَرَرِ فِيهَا، كَمَا احْتَمَلَتْ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ بَيْعِ الشَّاةِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ مَعَ التَّمْرِ، وَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ فِي بَيْعِ الدَّارِ. (المغني).
فائدة: 2
ما الحكم لو وقع العقد على هذا البيع؟
لو وقع العقد على هذا البيع لكان البيع باطلاً، لأن النهي عائد إلى ذات المنهي عنه. لكن استثنى العلماء:
إذا باعه بشرط القطع، لأن عاهته مضمونة، لأنه سيقطع الآن قبل أن يتعرض للعاهات، وهذا ليس من إضاعة المال، لأنه يمكن أن يجعله علفاً لبهائمه، لكن لو علمنا أنه سيأخذه ليرميه في الأرض، فهذا يمنع.
فائدة: 3
ما الحكم لو باع البستان جميعاً؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز بيع جنس، ببدو الصلاح في جنس آخر.
ثانياً: لا خلاف بين العلماء في أن الشجرة إذا بدا صلاحها يجوز بيعها.
ثالثاً: اختلف العلماء في جواز بيع النوع الواحد والجنس الواحد، بصلاح بعض أشجاره:
القول الأول: أنه إذا بدا الصلاح في الشجرة جاز سائر أنواعها من الجنس الواحد،
فإذا بدا في السكري - مثلاً - جاز بيع جميع النخيل في البستان مهما كانت أنواعه.
وهذا مشهور مذهب الشافعية، ومذهب المالكية.
أ- قالوا: إن أنواع الجنس الواحد يتلاحق طيبها عادة.
ب- لو لم نقل بجواز بيع الجنس الواحد ببدو الصلاح في بعضه، لأدى ذلك إلى المشقة والضرر بسوء المشاركة، والمشقة والضرر مرفوعان في الشريعة الإسلامية.
القول الثاني: إذا بدا في شجرة جاز بيع سائر أنواعها في البستان، دون الأنواع الأخرى.
فلو بدأ الصلاح في النخل السكري جاز بيعه، لكن لو بدأ في السكري لم يجز بيع غيره لم يبدو صلاحه.
وهذا قول عند الشافعية، ومشهور مذهب الحنابلة.
أ-القياس على الشجرة الواحدة.
ب- اعتبار بدو الصلاح في الجميع يشق، ويؤدي إلى الاشتراك واختلاف الأيدي، فوجب أن يتبع مالم يبد صلاحه من نوعه ما بدا.
القول الثالث: يشترط لجواز بيع الثمرة أن يبدو الصلاح في كل شجرة من شجر الثمرة المبيعة.
وهذا قول عند الحنابلة.
أ- لدخول ما لم يبدو صلاحه في عموم النهي
ب- مالم يبدو صلاحه لا يجوز بيعه إلا بشرط القطع كالجنس الآخر.
والراجح القول الأول
…
(الجوائح وأحكامها).
(وما تلف بآفة سماوية فعلى بائع).
هذه المسألة تسمى: وضح الجوائح.
تعريف الجائحة؟
قال ابن قدامة: الجائحة كل آفة لا صنع للآدمي فيها.
وقال ابن تيمية: الجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد.
وقال القرطبي: الجائحة ما اجتاحت المال، وأتلفته إتلافاً ظاهراً، كالسيل والمطر والحرق والسرق وغلبة العدو، وغير ذلك مما يكون إتلافه للمال ظاهراً.
فالجائحة إذاً: هي كل آفة لا صنع للآدمي فيها، فيدخل في ذلك المطر الشديد، والحر والبرد، والريح، والجراد، والغبار المفسد ونحو ذلك من الآفات السماوية.
مثالها: انسان باع على أخيه ثمر عنب فقدر انه جاء حر شديد فتلفت هذه العنب أو مطر مصحوباً ببرد فأتلفه.
أ- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَراً فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا. بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ?) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ب-وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ اَلْجَوَائِحِ).
(لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ)(من) بمعنى (على)(فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ) أي: أصابت ذلك الثمر آفة (فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا) أي: من أخيك، وهذا صريح في التحريم. (بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ) أي: في مقابلة الثمر الذي أصابته الجائحة.
ففي هذا الحديث: الأمر بوضع الجوائح، (أي أن تلف الثمار المبيعة بجائحة يكون من مال البائع)، وهذا قول أكثر العلماء.
قال ابن قدامة: ما تهلكه الجائحة من الثمار من ضمان البائع، وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم: يحيي بن سعيد الأنصاري، ومالك، وأبو عبيد، وجماعة من أهل الحديث، وبه قال الشافعي في القديم.
قال الحافظ في الفتح: استُدل بهذا الحديث على وضع الجوائح في الثمر يُشترَى بعد بدو صلاحه، ثم تصيبه جائحة.
فهذا مذهب المالكية والحنابلة والشافعية في القديم.
أ- لقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
…
).
وجه الدلالة: أن الله نهى عن أكل أموال الناس بالباطل، وأخْذ البائع الثمن من المشتري بعد أن تلفت الثمرة بجائحة قبل تمام نضجها نوع مما نهى الله عنه، لأنه أخذه بدون مقابل، حيث لم يحصل للمشتري مقصوده من العقد، وهو أخذ الثمرة بعد تمام نضجها.
ب- لحديث الباب (لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَراً فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا. بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ?).
ج- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ اَلْجَوَائِحِ).
أي: أمر بإسقاطها، وعدم المطالبة بها، يعني أن من اشترى ثماراً فأصابتها آفة سماوية كالبَرَد - بفتحتين - والحر الشديدين والجراد ونحو ذلك من الآفات التي تعرض للثمار، فإنه لا يحل للبائع أن يُطالب بثمنها.
وجه الدلالة من الحديثين:
دل الحديثان على وجوب وضع الجوائح بالنص الصريح، أما الأول فقد جاءت دلالته على وجوب وضع الجوائح بصريح التحريم، حيث نفى النبي صلى الله عليه وسلم حل أخذ شيء من مشتري الثمرة إذا أجيحت، ثم أكد حرمته بصيغة الاستفهام الإنكاري، ووصفه بأنه غير حق.
ودل عليه الحديث الثاني بالأمر الصريح، والأمر يقتضي الوجوب مالم يصرفه صارف، ولم يوجد، فدل الحديثان على وجوب وضع الجوائح.
قال الشيخ عبد الله الفوزان: وجه الاستدلال:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى حل أخذ شيء من مشتري الثمرة إذا أصابتها جائحة.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكّد حرمة أخذ مال المشتري بصيغة الاستفهام الإنكاري، ووصفه بأنه غير حق.
ثالثاً: أنه أمر أمراً صريحاً بوضع الجوائح، والأمر يقتضي الوجوب.
فائدة: 1
هل هناك فرق بين قليل الجائحة وكثيرها؟
اختلف العلماء بذلك على قولين:
القول الأول: يوضع قليل الجائحة وكثيرها.
وإليه ذهب الإمام أحمد في أشهر الروايتين عنه وأبو عبيد وغيره من فقهاء الحديث.
أ- عموم الأحاديث الواردة في الأمر بوضع الجوائح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وما دون الثلث داخل فيه فيجب وضعه.
ب- ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها، فكان ما تلف منها من مال البائع وإن كان قليلاً.
القول الثاني: لا توضع الجائحة إلا إذا بلغت الثلث.
وهو قول مالك في جوائح الثمار.
أ-قالوا: لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْكُلَ الطَّيْرُ مِنْهَا، وَتَنْثُرَ الرِّيحُ، وَيَسْقُطَ مِنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَابِطٍ وَاحِدٍ فَاصِلٍ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْجَائِحَةِ، وَالثُّلُثُ قَدْ رَأَيْنَا الشَّرْعَ اعْتَبَرَهُ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا؛ الْوَصِيَّةُ، وَعَطَايَا الْمَرِيضِ، وَتَسَاوِي جِرَاحِ الْمَرْأَةِ جِرَاحَ الرَّجُلِ إلَى الثُّلُثِ.
ب-وَلِأَنَّ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا دُونَهُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْوَصِيَّةِ (الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ آخِرُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَلِهَذَا قُدِّرَ بِهِ.
والراجح الأول، لعموم أحاديث وضع الجوائح.
تنبيه: قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا تَلِفَ شَيْءٌ لَهُ قَدْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ، وَضَعَ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الذَّاهِبِ، فَإِنْ تَلِفَ الْجَمِيعُ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.
فائدة: 2
ما الحكم لو فرط المشتري وتأخر في جذاذ النخل مثلاً؟
لو فرط المشتري وتأخر في جذاذ النخل - مثلاً - عن وقته المعتاد فأصابته جائحة بمطر - مثلاً - فهو من ضمانه لا من ضمان البائع، لتفريطه بترك نقل الثمرة في وقت نقلها مع قدرته.
فائدة: 3
ما حكم الجائحة إذا كانت بفعل آدمي؟
إذا كانت الآفة بفعل الآدمي فيطالب به الجاني.
فائدة: 4
هل السرقة تعتبر جائحة؟
السرقة لا تعتبر جائحة على القول الراجح.
باب السلم
مقدمة:
قال ابن قدامة: بَابُ السَّلَمِ: وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ عِوَضًا حَاضِرًا، فِي عِوَضٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ، وَيُسَمَّى سَلَمًا، وَسَلَفًا.
يُقَالُ: أَسْلَمَ، وَأَسْلَفَ، وَسَلَّفَ.
وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، يَنْعَقِدُ بِمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ، وَبِلَفْظِ السَّلَمِ وَالسَّلَفِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ.
وَهُوَ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ).
وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِلسَّلَمِ، وَيَشْمَلُهُ بِعُمُومِهِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: مَنْ أَسَلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ، وَلِأَنَّ الْمُثَمَّنَ فِي الْبَيْعِ أَحَدُ عِوَضَيْ الْعَقْدِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ، كَالثَّمَنِ، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالتِّجَارَاتِ يَحْتَاجُونَ إلَى النَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا؛ لِتَكْمُلَ، وَقَدْ تُعْوِزُهُمْ النَّفَقَةُ، فَجَوَّزَ لَهُمْ السَّلَمَ؛ لِيَرْتَفِقُوا، وَيَرْتَفِقُ الْمُسْلِمُ بِالِاسْتِرْخَاصِ.
(وَهُوَ عَقْدٌ عَلَى مَوْصوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مَقْبُوضٍ بِمَجْلِسِ العَقْدِ).
هذا تعريف السلم.
قوله (عقد على موصوف) خرج به العقد على معين، فليس بسلم.
قوله (مؤجل) لا بد أن يكون هناك تأجيل.
قوله (بثمن مقبوض في مجلس العقد) أي: لا بد أن يقبض الثمن كاملاً في مجلس العقد.
- وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوه).
وأما السنة:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ: السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثَ. فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ).
(قَدِمَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اَلْمَدِينَةَ) أي: جاء إليها مهاجراً. (وَهُمْ يُسْلِفُونَ) الواو فيه للحال، أي وأهل المدينة من الأوس والخزرج وغيرهم يتعاملون بالسلف، أي بالسلم، (وسيأتي تعريفه إن شاء الله).
(اَلسَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ) أي: مدة سنة أو مدة سنتين، يعني يدفعون المال إلى من يتعاملون معه بالسلم، ويكون تسليم الثمار مؤجلاً إلى سنة أو إلى سنتين بعد تسليم الثمن. (من أسلف) وعد في عقد صفقة سلم
(كيل معلوم) مقدار محدد من الكيل مع ضبط نوع الكيل. (ووزن معلوم) أي فيما يوزن. (إلى أجل معلوم) وقت محدد.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز.
وقال الحافظ في الفتح: واتفقوا على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب.
مثاله: أن أعطي رجل 100 ريال، على أن يعطيني بعد سنة 100 كيلو من الأرز.
•
الحكمة منه:
من أجل التوسعة، لأن الإنسان يحتاج إلى نقود وعنده تمر أو صنعة تتأخر، فيحتاج إلى شراء أدوات لصنعته أو ثمرته.
فالزارع يبدأ زرعه في شهر ربيع الثاني مثلاً، ولا يحصده إلا في شهر شعبان أو بعده، ففي هذه المدة هو بحاجة إلى دراهم لشراء البذور أو نفقة عماله أو عياله، أو آلاته، وأنت عندك دراهم لست بحاجة إليها، فتقول له: أنا أشتري منك براً بأنقص من قيمته [مثلاً يساوي الصاع ريالين، وأنت تقول: أشتريه الآن بريال] فكل منكما انتفع، فالأول احتاج المال وأخذه، والثاني اشتراه رخيصاً.
(يصح بشروط،
أحدُها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع).
هذا الشرط الأول من شروط صحة السلم: أن يمكن ضبط صفاته، ففي المكيل بمقدار المكيل وفي الموزون بمقدار الوزن، وفيما عدا ذلك بالأوصاف.
بمكيل: كالبر.
وموزون: كاللحم، والسكر.
ومذروع: كالأقمشة، والفرش، والحبال.
والسبب: لأن ما لا يمكن ضبطه بالصفة يؤدي إلى التنازع والخصام بين المُسلِم والمُسلَم إليه.
فقد يقول التاجر: أنا ما أردت هذا، ويقول المسلم (المزارع) هذا الموجود، فيحصل نزاع.
مثال: لو قال المزارع للتاجر: أنا بحاجة إلى نقود للقيام على مزرعتي وأنا أريد أن اتفق معك على عقد سلم، فأعطيك 100 كيلو من السكري الذي صفته كذا وكذا مقابل عشرة آلاف ريال، فيسلم المبلغ الآن والتمر إذا جاء وقته سلمه إليه، (يحدد موعد معين أو إلى موسم التمر).
مثلا: أريد ألف إبريق مثل هذا الإبريق، أو 100 سطل مثل هذا السطل.
- فما لا يمكن ضبطه بالصفة فلا يصح السلم فيه، مثل الفواكه والبرتقال، لأنها تختلف بالكبر والصغر فلا يمكن ضبطها بالصفة، وكذا البطيخ.
(الثاني: ذكر الجنس والنوع، وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً).
هذا الشرط الثاني من شروط صحة السلم، وهو أن يصف الشيء المسلم فيه.
بذكر جنسه ونوعه.
مثال: أن يقول أسلمت لك في تمر من نوع السكري.
وفي الرز يبين أنه من النوع الهندي مثلاً.
وأيضاً يذكر كل وصف يختلف بسببه الثمن اختلافاً ظاهراً، مثل ذكر اللون في الثياب، أو أنه قديم أو جديد، فالقديم مثلاً في القمح يفضل على الجديد الذي حُصد هذا العام.
أ- لترتفع الجهالة.
ب- وتسد الأبواب التي تفضي إلى المنازعة عند التسليم.
قال ابن قدامة: الشرط الثَّانِي، أَنْ يَضْبِطَهُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهَا ظَاهِرًا.
فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عِوَضٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ كَالثَّمَنِ.
وَلِأَنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي الْمَبِيعِ، وَطَرِيقُهُ إمَّا الرُّؤْيَةُ وَإِمَّا الْوَصْفُ، وَالرُّؤْيَةُ مُمْتَنِعَةٌ هَاهُنَا، فَتَعَيَّنَ الْوَصْفُ.
وَالْأَوْصَافُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُتَّفَقٌ عَلَى اشْتِرَاطِهَا، وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ؛ الْجِنْسُ، وَالنَّوْعُ، وَالْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ
فَهَذِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلّ مُسْلَمٍ فِيهِ.
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي اشْتِرَاطِهَا. (المغني).
(الثالث: أن يكون الأجل معلوماً).
هذا الشرط الثالث من شروط صحة السلم، وهو أن يكون الأجل معلوماً.
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق (إلى أجل معلوم) كشهر أو شهرين أو أكثر أو أقل بحسب الاتفاق.
فلا يصح أن يكون مجهولاً. لو قال: أسلمت إليك مائة درهم بمائة صاع من البر إلى مقدم زيد، فهذا لا يجوز، لأن مقدم زيد غير معلوم.
فائدة: 1
اختلف العلماء في مقدار الأجل في السلم على أقوال:
فقيل: لا فرق بين الأجل القريب والبعيد، فلو قدره بنصف يوم جاز.
وقيل: أقله ثلاثة أيام.
والصحيح أنه لا بد من أجل له وقع في الثمن، يعني أن الثمن ينقص به، أما ما لا يتأخر به الثمن فهذا غير مؤجل، وبناء على ذلك يمكن أن تختلف المدة باعتبار المواسم.
فائدة: 2
اختلف العلماء لو قال: إلى الجذاذ أو إلى الحصاد على قولين:
القول الأول: لا يصح.
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
قالوا: لأن ذلك يختلف ويقرب ويبعد فلا يجوز.
القول الثاني: أنه يصح.
وهذا مذهب مالك واختيار ابن تيمية.
قالوا: إنه أجل يتعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة، لا يتفاوت فيه تفاوتاً كثيراً، فأشبه إذا قال: إلى رأس السنة.
والله أعلم.
فائدة: 3
ما الحكم إذا أسلم في جنس إلى أجلين وبالعكس؟
يجوز، لكن لابد أن يبين قسط كل أجل.
مثال: أن يقول أسلمت إليك مائة درهم بمائة صاع من البر حنطة، لكن إلى أجلين، يحل بعضها في رجب وبعضها في شوال، فهذا يصح، لكن لابد أن يبين قسط كل أجل، فيقول: يحل منه خمسون في رجب، وخمسون في شوال، حتى لا يكون فيه جهالة.
فائدة: 4
ما الحكم إذا أسلم في جنسين إلى أجل واحد؟
يجوز.
مثال: أسلمت إليك مائة درهم في تمر سكري، وبرحي، يحل في شوال، فهذا يصح، لكن لابد أن يبين كل جنس وثمنه، فيقول مثلاً: أسلمت إليك في البر والتمر، خمسين صاعاً من البر، وخمسين صاعاً من التمر.
(الرابع: أن يكون المسلم فيه عام الوجود).
هذا هو الشرط الرابع من شروط صحة السلم، وهو أن يكون المسلم فيه عام الوجود.
قال ابن قدامة:
…
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ، أَمْكَنَ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ.
وإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامَ الْوُجُودِ، لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، كَبَيْعِ الْآبِقِ، بَلْ أَوْلَى؛ فَإِنَّ السَّلَمَ اُحْتُمِلَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ، فَلَا يَحْتَمِلُ فِيهِ غَرَرٌ آخَرُ، لِئَلَّا يَكْثُرَ الْغَرَرُ فِيهِ. (المغني).
(لأن القدرة على التسليم شرط، ولا يتحقق إلا إذا كان عام الوجود).
مثال: لو أسلم إليه (100) ريال بمائة كيلو عنب يحل في وسط الشتاء، لم يجز، لأن المسلَم فيه لا يوجد وقت حلول الأجل، إلا إذا أريد عنب يحفظ في برادات صح، لوجوده في زماننا هذا، ومثله السلم في الرطب إلى وسط الشتاء.
فائدة:
هل يشترط كون المسلَم فيه موجوداً حال السلم أم لا؟
الصحيح - وهو قول أكثر العلماء - أنه لا يشترط.
أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون السنة والسنتين، فقال (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ........ ) ولم يذكر الوجود، ولو كان شرطاً لذكره، ولنهاهم عن السلف سنتين.
ب-ولأنه ليس وقت وجوب التسليم.
(الخامس: قبض الثمن قبل التفرق).
هذا الشرط الخامس من شروط صحة السلم، وهو قبض الثمن قبل التفرق.
وهذا موضع إجماع بين العلماء.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (من أسلف في شيء فليسلف
…
) والإسلاف التقديم، سمي سلفاً لما فيه من تقديم رأس المال.
ب- ولأنه يصير من بيع الديْن بالديْن.
فإذا تفرقا قبل قبضه بطل.
(السادس: أن يكون معلوم القدر).
هذا الشرط السادس من شروط صحة السلم، وهو أن يكون المسلَم فيه معلوم القدر.
مثال: أسلمت إليك ألف ريال بمائة صاع برٍ.
قال ابن قدامة:
…
وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكَيْلِ إنْ كَانَ مَكِيلًا، وَبِالْوَزْنِ إنْ كَانَ مَوْزُونًا، وَبِالْعَدَدِ إنْ كَانَ مَعْدُودًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ).
وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ غَيْرُ مُشَاهَدٍ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، فَاشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، كَالثَّمَنِ.
وَلَا نَعْلَمُ فِي اعْتِبَارِ مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ خِلَافًا.
…
(المغني).
(ويُعيّن موضع الوفاء إن لم يصلح موضعه العقد له).
أي: إذا كان موضع عقد السلم لا يصلح موضعاً للوفاء، كأن يعقداه في بَر، أو في سفينة، أو طائرة، فلا بد من تعيين الوفاء وإلا فسد السلم، لتعذر الوفاء موضع العقد، فيكون محل التسليم مجهولاً، فاشترط تعيينه بالقول كالأجل.
الخلاصة: (موضع الوفاء)
أولاً: إن شرطاه أو شرطه أحدهما موضعاً فعلى ما شرطاه.
ثانياً: إن لم يكن هناك شرط نظرنا، إن كان موضع العقد مما يمكن الوفاء به، فالتسليم يكون في مكان العقد.
وإن كان موضع العقد مما لا يمكن الوفاء به (كسفينة أو طائرة) وجب عليهما أن يشترطا.
فائدة: 1
بيع المسلَم فيه قبل قبضه:
قال ابن قدامة: أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافاً.
فائدة: 2
حكم الإسلام في الحيوانات:
اختلف العلماء في حكم الإسلام في الحيوانات على قولين:
القول الأول: لا يصح السلم في الحيوانات.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
أ- لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلم في الحيوان) رواه الحاكم وهو ضعيف.
ب-ولأن الحيوانات تختلف اختلافاً متبايناً فلا يمكن ضبطه.
القول الثاني: أنه يصح السلم في الحيوان.
قال ابن المنذر: ومما روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوانات، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، ومالك، وأحمد.
قالوا: قياساً على جواز القرض فيه، فقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم اقترض بكراً. وهذا القول هو الصحيح.
باب القرض
تعريفه:
لغة: هو القطع، ومنه المقراض الذي يقطع به.
واصطلاحاً: هو تمليك مال لمن ينتفع به ويرد بدله.
قول (ويرد بدله) خرج بذلك العارية، لأن العارية لا يرد بدلها وإنما يرد عينها.
- وسمي قرضاً: لأن المقرض يقطع جزءاً من ماله للمقترض.
- وَهُوَ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا السُّنَّةُ. فَرَوَى أَبُو رَافِعٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إبِلُ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رُبَاعِيًّا فَقَالَ: أَعْطِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ. (المغني).
-
والقرض من عقود التبرعات:
والعقود تنقسم إلى (3) أقسام:
الأول: عقود تبرعات (كالقرض، والهبة، والوصية).
الثاني: عقود معاوضات (كالبيع، والإجارة).
الثالث: عقود توثيقات (كالرهن، والضمان).
(وهو سنة).
هذا حكم القرض بالنسبة للمقرِض أنه سنة.
أ- قال تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين). والقرض إحسان.
وقال تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة).
وجه الدلالة: أن هذه الآية عامة في الصدقة والإنفاق في سبيل الله، ويدخل في ذلك القرض، ولهذا قالوا: إن الله تبارك وتعالى شبه الأعمال الصالحة والإنفاق في سبيل الله بالمال المقرض، وشبه الجزاء المضاعف على ذلك ببدل القرض وهذا يدل على فضيلة القرض.
ب- عن أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) رواه مسلم.
عن الْبَرَاء بْن عَازِب قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ هَدَى زُقَاقًا كَانَ لَهُ مِثْلُ عِتْقِ رَقَبَةٍ) رواه الترمذي. [الزقاق: الطريق والمراد من دل الضال على طريقه].
قال الترمذي: وَمَعْنَى قَوْلِهِ «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ» . إِنَّمَا يَعْنِى بِهِ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ قَوْلُهُ «أَوْ هَدَى زُقَاقًا» . يَعْنِى بِهِ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ.
قال الحافظ في الفتح: المنيحة بالنون والمهملة وزن عظيمة هي في الأصل العطية، قال أبو عبيدة: المنيحة عند العرب على وجهين: أحدهما: أن يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له، والآخر: أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها زمنا ثم يردها، وقال القزاز: قيل لا تكون المنيحة إلا ناقة أو شاة والأول أعرف.
وقال المباركفوري: قوله: (من منح) أي: أعطى (منيحة لبن أو ورق) بكسر الراء وسكونها أي فضة، قال الجزري في النهاية منحة الورق القرض، ومنحة اللبن أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زمانا ثم يردها، ومنه الحديث (المنحة مردودة).
ج- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُقْرِضَ دِينَارَيْنِ ثُمَّ يُرَدَّانِ، ثُمَّ أُقْرِضَهُمَا، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنَّ أَتَصَدَّقَ بِهِمَا.
قال ابن قدامة: وَلِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيجًا عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَقَضَاءً لِحَاجَتِهِ، وَعَوْنًا لَهُ، فَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ، كَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ.
قال الشوكاني: وفي فضيلة القرض أحاديث وعموميات الأدلة القرآنية والحديثية القاضية بفضل المعاونة وقضاء حاجة المسلم وتفريج كربته وسد فاقته شاملة له، ولا خلاف بين المسلمين في مشروعيته.
- وأما بالنسبة للمقترض فمباح.
قال ابن قدامة: لَيْسَ بِمَكْرُوهِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَقْرِضُ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ.
وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ بِعِوَضِهِ، فَأَشْبَهَ الشِّرَاءَ بِدَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ. (المغني).
- يجب القرض إذا كان المقترض مضطراً لا تندفع ضرورته إلا بقرض لكن لا يجب إلا على من كان قادراً عليه، ومن غير ضرر عليه.
(ومَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اَللَّهُ عَنْهُ).
هذا جزء من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم ولفظه:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اَللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا، أَتْلَفَهُ اَللَّهُ). رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ
(مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ) هذا عام في أخذ الأموال عن طريق القرض، أو البيع إلى أجل، أو الشركة، أو العارية، أو أي معاملة من وجوه المعاملات الأخرى.
(يُرِيدُ أَدَاءَهَا) أي: عند أخذه لها كانت نيته الوفاء والأداء مما يرزقه الله تعالى.
(أَدَّى اَللَّهُ عَنْهُ) تأدية الله عنه يشمل تيسيره تعالى لقضائها في الدنيا بأن يعينه الله يوسع رزقه، ويسوق له من المال ما يقضي به دينَه لحسن نيته، ويشمل أداءها عنه في الآخرة بإرضائه غريمه بما شاء الله، فإن فاته الأول في دار الدنيا لم يفته الثاني -إن شاء الله- في الدار الآخرة لحسن نيته.
(وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا) أي: عند أخذه لها لم تكن نيته الوفاء، بل يريد إتلاف ما أخذ على صاحبه، وهو يشمل ما إذا إدّان وليس عنده نية الوفاء، أو أخذها بلا حاجة وإنما يريد إتلافها على صاحبها.
(أَتْلَفَهُ اَللَّهُ) في الدنيا بإتلاف الشخص نفسه وإهلاكه، ويدخل فيه إتلاف ماله وجاهه وطيب عيشه وتضييق أموره وتعسيره مطالبه.
فهذا الحديث فيه الترغيب في حسن النية عند الاستدانة من الناس، وأن من استدان ونيته الوفاء أعانه الله.
فقد روى النسائي: عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ (أَنَّ مَيْمُونَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَدَانَتْ فَقِيلَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، تَسْتَدِينِينَ وَلَيْسَ عِنْدَكِ وَفَاءٌ، قَالَتْ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ أَخَذَ دَيْنًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، أَعَانَهُ اللَّهُ عز وجل.
- وفي الحديث التحذير الشديد من أن يبيّت الإنسان نية عدم السداد لقوله (أتلفه الله).
قال الحافظ ابن حجر: قوله: (أتلفه الله) ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا وذلك في معاشه أو في نفسه، وهو علم من أعلام النبوة لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئاً من الأمرين، وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة.
قال ابن بطال: فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل، وفيه: الترغيب في تحسين النية والترهيب من ضد ذلك وأن مدار الأعمال عليها (الفتح).
عَن صُهَيْب الْخَيْرِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَيُّمَا رَجُلٍ يَدِينُ دَيْنًا وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ لَقِيَ اللَّهَ سَارِقاً) رواه ابن ماجة.
وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة الجنازة على رجل مات وعليه ديناران. رواه أحمد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمرِ الدَّين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة.
•
فالمدين له حالات:
الحالة الأولى: إذا أخذ الدين بنية عدم الوفاء.
فإنه آثم سواء مات ولم يوفه أو أعسر في حياته، فإنه يؤاخذ يوم القيامة.
لأنه غير معذور بالاستدانة، ولأنه قصد استهلاك مال المسلم بغير وجه حق، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال الله تعالى (وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
…
).
ومما يدل على ذلك أيضاً:
أ-حديث أَبي هُرِيْرَةَ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيتَحَلَّلْه مِنْه الْيوْمَ قَبْلَ أَنْ لا يكُونَ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَملٌ صَالحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقدْرِ مظْلمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري
ب-وعنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أتدْرُون من الْمُفْلِسُ؟ قالُوا: الْمُفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فقال: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقيامةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وزَكَاةٍ، ويأْتِي وقَدْ شَتَمَ هذا، وقذَف هذَا وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسفَكَ دَم هذَا، وَضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذَا مِنْ حسَنَاتِهِ، وهَذا مِن حسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حسناته قَبْلَ أَنْ يقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرحَتْ علَيْه، ثُمَّ طُرِح في النَّارِ). رواه مسلم
ج-وعن أَبِي هريرة رضي الله عنه أَن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقيامَةِ حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاء). رواه مسلم
فهذه الأحاديث تبين عظمة حقوق الغير، سواء كانت في النفس، أو في العرض، أو في المال، وأن من ظلم مسلماً في شيء منها فإنه مؤاخذ به يوم القيامة، وأن الله يقتص منه لخصمه، وأن هذا الأمر سبب عظيم لدخول النار كما نصت عليه الأحاديث.
الحالة الثانية: إذا الدين في مباح وبنيته الوفاء.
فإن مات قبل الوفاء من غير تقصير منه، فإن الله يقضي عنه دينه يوم القيامة، فيعوض دائنيه فضلاً منه وتكرماً، وأما المدين فلا مؤاخذة عليه لعدم تقصيره أو تفريطه.
قال ابن حجر: من مات قبل الوفاء بغير تقصير منه كأن يُعسر مثلاً
…
وكانت بنيته وفاء دينه، ولم يوفَ عنه في الدنيا، .... الظاهر أنه لا تبِعة عليه والحالة هذه في الآخرة، بحيث يؤخذ من حسناته لصاحب الدين، بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين، كما دل عليه حديث الباب.
- وينبغي على الإنسان أن يحذر من التساهل بالدين من غير حاجة.
أ- عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (لا تُخيفوا أنفسكم بعد أمنه) قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: الديْن). رواه أحمد
ب- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟! فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ [أي: استدان] حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) رواه البخاري ومسلم.
ج- وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ) حسنه الألباني.
د- وعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ: الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ) رواه الترمذي.
هـ- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) رواه الترمذي.
(كل شيء يصح بيعه يصح قرضه إلا بني آدم).
فيصح قرض الحيوانات، والأواني، والكتب، والطاولات.
والكلب لا يصح قرضه، لأنه لا يصح بيعه.
- قوله (إلا بني آدم) أي الأرقاء، قالوا: لئلا يؤدي إلى أن يستقرض أمَة فيجامعها.
فائدة:
اختلف العلماء في حكم قرض المنافع؟
مثال: كأن يقول: احصد عندي هذا اليوم وأحصد عندك غداً، أو أن ينسخ له كتاباً على أن ينسخ له كتاباً آخر مثله.
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يجوز قرض المنافع.
وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.
أ- قالوا: إن من صحة القرض أن يكون معلوم القدر حتى يمكن رد بدله، والمنافع يصعب تقديرها، فلا تتحقق المماثلة الواجبة.
ب- لأنه يكون من قبيل القرض الذي جر نفعاَ، وهو محرم.
ج- أنه غير معهود في العادة والعرف.
القول الثاني: أنه يجوز.
وهو مذهب المالكية، واختاره ابن تيمية.
أ- أن القرض عقد إرفاق وقربة، ويتسامح فيه ما لا يتسامح في غيره من عقود المعاوضات.
ب- أن الأصل في المعاملات الإباحة، وإذا قيل هذا في باب المعاوضات فباب الإرفاق والتبرع أولى بذلك وأحرى.
والله أعلم بالراجح.
(ويملك ويلزم بالقبض، فلا يملك المقرِض استرجاعه).
أي: المقرَض.
فإذا قبضه المستقرض ملكه، يجوز بيعه، ويجوز أن يؤجره، ويتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم.
فلا يجوز للمقرض حق الرجوع، لأنه دخل في ملك المقترض.
(وإن أجّله لم يتأجل).
أي: إن بدل القرض يثبت حالاً في ذمة المقترض، وله مطالبته به في الحال مطلقاً، فلا يتأجل ولو أجله المقرض.
وهذا قول جمهور العلماء، من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
أ- لقوله تعالى (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ).
قالوا: نفي السبيل عنهم على وجه نصوصية الاستغراق، فلو لزم تحقق سبيل عليه.
ب- أن القرض من عقود التبرعات، فهو صلة في الابتداء، فلو لزم لكان سبباً في الخروج عن باب الإرفاق.
ج- القياس على العارية في عدم لزومها.
وذهب بعض العلماء: إلى صحة التأجيل ولزومه.
وهذا قول مالك، والليث بن سعد، وهو قول بعض الصحابة والتابعين وأتباعهم، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم.
أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وبقية النصوص الواردة في وجوب الوفاء بالعهد والوعد
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) رواه الترمذي.
ج-ولأن المطالبة به وهو مؤجل إخلاف للوعد، وقد قال صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: .. وإذا وعد أخلف). متفق عليه، فالوعد يجب الوفاء به.
د- القياس على سائر الدين، حيث لا يحق لصاحب الحق تعجيلها قبل أجلها، كثمن المبيع المؤجل (باتفاق) والأجرة المؤجلة.
هـ-ما ثبت عن ابن عمر (أنه سئل عن القرض إلى أجل، فقال: لا بأس به، قال: وإن أعطى أفضل من دراهمه ما لم يشترط) أخرجه البخاري تعليقاً.
و- أن الأصل في الديون جواز التأجيل، لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ) وإخراج القرض من ذلك يحتاج إلى دليل، لأنه ديْن من الديون.
وهذا القول هو الراجح، وقد نصره الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين.
- والجواب عن قول أصحاب القول الأول: أن القرض من عقود التبرعات؟
أن تأجيل القرض لا ينافي موضوع التبرعات، إذ القرض إحسان، وتأجيله إحسان آخر، وكون المقرِض ملزماً بالكف عن المطالبة حتى ينتهي الأجل، لا ينافي كونه متبرعاً، إذ هو ألزم نفسه برضاه مع علمه بأن النفع للمقترض.
(ويُرد المثل في المثليات والقيمة في غيرهها).
أي: إذا أراد المستقرض الوفاء، فالواجب أن يرد المثل في المثليات، والقيمة في غير المثليات.
- الراجح أن المثلي: كل ما كان له مثيل مقارب.
(ويحرم كل شرط يجرُّ نفعاً).
أي: إذا شرط المقرض زيادة أو منفعة فإنه حرام.
قال ابن عبد البر: وكل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلّف على المستسلف فهي ربا، لا خلاف في ذلك.
وقال ابن قدامة: وكل قرض شرط فيه أن يزيده، فهو حرام بغير خلاف.
وقال القرطبي: أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف.
وقال ابن تيمية: وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حراماً.
وقال الشوكاني: وأما إذا كانت الزيادة مشروطة فتحرم اتفاقاً.
لأن القرض عقد إرفاق وهو قربة، فإذا أخذ عليه الزيادة لم يكن إرفاقاً ولا قربة، بل يكون بيعاً ورباً صريحاً.
- والمنفعة قد تكون بدنية، أو مالية، أو عين.
مثال البدنية: أن يقول أقرضتك ألف ريال بشرط أن تشتغل عندي يوماً واحداً.
مثال المالية: أقرضتك ألف ريال بشرط أن تعطيني ساعتك
مثال عين: أقرضتك ألف ريال بشرط أن أسكن بيتك يوم واحد.
- وقد ورد في ذلك حديث لكنه لا يصح (كل قرض جر منفعة فهو ربا).
وقد ورد هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه الحارث بن أبي أسامة، لكنه لا يصح، قال ابن حجر: وإسناده ساقط.
(وإذا كانت الزيادة غير مشروطة فلا بأس).
ويدل لذلك:
عَنْ أَبِي رَافِعٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنَ اَلصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ اَلرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَقَالَ: لَا أَجِدُ إِلَّا خَيَارًا، قَالَ: " أَعْطِهِ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خِيَارَ اَلنَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(خياراً رباعياً) الرباعي ما دخل في السنة السابعة، لأنها زمن ظهور رباعيته.
فالحديث دليل على جواز الزيادة بالوفاء بما هو أفضل من الشيء المقترض، وأن ذلك من حسن القضاء.
قال النووي: وَفِيهَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْن مِنْ قَرْض وَغَيْره أَنْ يَرُدّ أَجْوَد مِنْ الَّذِي عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ السُّنَّة وَمَكَارِم الْأَخْلَاق، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَرْض جَرَّ مَنْفَعَة فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيّ عَنْهُ مَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْد الْقَرْض، وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ الزِّيَادَة فِي الْأَدَاء عَمَّا عَلَيْهِ. وَيَجُوز لِلْمُقْرِضِ أَخْذهَا سَوَاء زَادَ فِي الصِّفَة أَوْ فِي الْعَدَد بِأَنْ أَقْرَضَهُ عَشَرَة فَأَعْطَاهُ أَحَد عَشَر، وَمَذْهَب مَالِك: أَنَّ الزِّيَادَة فِي الْعَدَد مَنْهِيّ عَنْهَا، وَحُجَّة أَصْحَابنَا عُمُوم قَوْله صلى الله عليه وسلم (خَيْركُمْ أَحْسَنكُمْ قَضَاء). (نووي).
فالزيادة في القرض على نوعين:
الأول: أن تكون مشترطة في أصل العقد، وهذا ربا بالإجماع.
الثاني: أن تكون الزيادة غير مشروطة في أصل العقد، وإنما بذلها المقترض من باب حسن الأداء، فهذا مستحب ومن مكارم الأخلاق، كما في حديث أبي رافع.
فائدة: 1
وتجوز الزيادة مطلقاً سواء كانت الزيادة في القدر،
أو كانت الزيادة في الصفة.
وهذا قول جماهير العلماء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
أ- لحديث أبي رافع السابق (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنَ اَلصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ اَلرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَقَالَ: لَا أَجِدُ إِلَّا خَيَارًا، قَالَ: " أَعْطِهِ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خِيَارَ اَلنَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً).
ب- ب-عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: (صَلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي) متفق عليه.
وجه الدلالة من الحديثين:
أن حديث أبي رافع دل على جواز الزيادة في الصفة، وحديث جابر دل على جواز الزيادة في العدد، وكلاهما تطبيق عملي لقوله صلى الله عليه وسلم: إن خيار الناس أحسنهم قضاء.
فائدة: 2
اختلف العلماء: ما الحكم لو اشترط الوفاء بالأقل على قولين:
القول الأول: لا يجوز اشتراط الوفاء بالأقل.
وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم.
أ- أن مقتضى القرض رد المثل، فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافي مقتضاه فلم يجز.
ب- القياس على اشتراط الزيادة.
القول الثاني: يجوز اشتراط الوفاء بالأقل.
لأن القرض شرع رفقاً بالمقترض، واشتراط الوفاء بالأقل منفعة للمقترض، ونفع المقترض لا يمنع منه.
وهذا الصحيح.
فائدة: 3
اختلف العلماء: في حكم القرض إذا كان من المعلوم عن المقترض أنه يزيد في الوفاء؟
كره بعض الفقهاء ذلك. وهذا قول الحنفية.
قالوا: إن المقرض إذا أقرض للمعروف بحسن القضاء، فإنه إنما فعل ذلك لأنه يطمع في حسن عادته.
والصحيح عدم الكراهة، ورجحه ابن قدامة.
قال ابن قدامة: وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِحُسْنِ الْقَضَاءِ، لَمْ يُكْرَهْ إقْرَاضُهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَطْمَعُ فِي حُسْنِ عَادَتِهِ.
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعْرُوفًا بِحُسْنِ الْقَضَاءِ، فَهَلْ يَسُوغُ لَأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ إقْرَاضَهُ مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِحُسْنِ الْقَضَاءِ خَيْرُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ، وَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَإِجَابَةِ مَسْأَلَتِهِ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمَشْرُوطَةِ. (المغني).
فائدة: 4
حكم إذا أقرضه واشترط عليه الوفاء في بلد آخر؟
هذه المسألة لها صور:
الصورة الأولى: تمحض المنفعة للمقرض، حيث يكون غاية المقرض من اشتراط الوفاء في بلد غير بلد القرض نفع نفسه فقط، ليستفيد به سقوط خطر الطريق، الذي قد يتعرض له ماله، كما ينتفع المقرض - أيضاً - بإسقاء كراء الحمل فيما يحتاج حمله إلى مؤنة لنقله من بلد إلى آخر.
ففي هذه الحالة لا يجوز اشتراط الوفا في غير بلد القرض، وهذا بالإجماع.
لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا.
الصورة الثانية: تمحض المنفعة للمقترض، حيث يكون غاية المقرض من اشتراط الوفاء في غير بلد القرض نفع المقترض فقط.
وفي هذه الحالة: يجوز اشتراط الوفاء في غير بلد القرض، لأن هذا إرفاق مع إرفاق.
الصورة الثالثة: أن يكون اشتراط الوفاء في غير بلد القرض لمنفعة المقرض والمقترض معاً.
وهذه محل خلاف بين العلماء:
فقيل: يكره.
وقيل: يحرم.
وقيل: يجوز، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم.
وقيل: لا يجوز اشتراط الوفاء في غير بلد القرض إذا كان لحمل مال الوفاء مؤنة، ويجوز اشتراط الوفاء في غير بلد القرض إذا لم يكن لحمل الوفاء مؤنة.
واختاره ابن قدامة.
فائدة: 5
ما حكم قرض الحيوان؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين: وجمهور العلماء على جواز ذلك، لحديث أبي رافع السابق.
قال الشوكاني: وفي الحديث جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور.
(وإن أعطاه هدية بعد القرض جاز).
أي: إن أهدى المقترض هدية للمقرض فإن كانت بعد الوفاء فجائز.
وإن كانت قبل الوفاء فلا يجوز إلا أن تكون قد جرت العادة بينهما بمثل هذا، فكان بينهما تهاد قبل الاستقراض، لأن جريان العادة بذلك بينهما قرينة ظاهرة على أنه لم يرد مجازاته على قرضه.
وعلى هذا، فلا يجوز للمقترض أن يعد المقرض بأن يعطيه هدية عند الوفاء، وله أن يعطيه ذلك إذا كان بدون اتفاق سابق.
أما إذا كان هذا الشخص لم تجر العادة بأن يهدي لك فلا يجوز لك قبولها لأنها قد تكون بسبب القرض، فإذا قبلتها تكون قد وقعت في الربا لأن القاعدة في القرض أن "كل قرض جَرَّ نفعاً فهو ربا" وهذا القرض قد جر لك نفعاً.
وأيضاً: لأنه قد يكون دفعها إليك حتى تؤجل مطالبته بالدَّيْن، وهذا أيضاً من الربا.
وقد دل على ذلك ما رواه ابن ماجه عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ. قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى لَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلا يَرْكَبْهَا وَلا يَقْبَلْهُ، إِلا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ). حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية
وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 136): "وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ (يعني الصحابة) كَأُبَيّ بن كعب وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ نَهَوْا الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَجَعَلُوا قَبُولَهَا رِباً.
فائدة: 1
جمعية الموظفين:
صورتها: أن يتفق عدد من الأشخاص على أن يدفع كل واحد منهم مبلغاً من المال مساوياً لما يدفعه الآخرون وذلك عند نهاية كل شهر أو عند نهاية كل ستة أشهر أو نحو ذلك، ثم يدفع المبلغ كله في الشهر الأول لواحد منهم، وفي الشهر الثاني يدفع المبلغ لآخر، وهكذا حتى يستلم كل واحد منهم مثل ما تسلمه من قبله سواء بسواء.
حكمها:
اختلف العلماء في حكم هذه الجمعية على قولين:
فذهب غالب هيئة كبار العلماء إلى جوازها وفي مقدمتهم الشيخ ابن باز رحمه الله والشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
لأن الأصل في العقود الحل، فكل عقد لم يرد دليل شرعي يدل على تحريمه فهو جائز.
أن في هذه المعاملة تعاوناً على البر والتقوى، فهي طريق لسد حاجة المحتاجين، وإعانة لهم على البعد عن المعاملات المحرمة كالربا أو التحايل عليه ببيع العينة.
وذهب بعض العلماء المعاصرين إلى تحريمها.
فائدة: 2
ما يسن للمدين تجاه المقرض؟
أولاً: حسن القضاء.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً - فَقَالَ لَهُمُ - اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ». فَقَالُوا إِنَّا لَا نَجِدُ إِلاَّ سِنًّا هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِنِّهِ. قَالَ «فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ - أَوْ خَيْرَكُمْ - أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) متفق عليه.
عَنْ أَبِى رَافِعٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْراً فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِىَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَاراً رَبَاعِياً. فَقَالَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً) متفق عليه.
ثانياً: أخذ الدين بنية الوفاء.
لحديث أبي هريرة -وفد تقدم- (من أخذ أموال الناس يريد أداها أدى الله عنه).
ولحديث ميمونة -وقد تقدم- (من أخذ ديْناً وهو يريد أن يؤديَه أعانه الله عز وجل رواه النسائي.
ثالثاً: الدعاء للدائن والثناء عليه.
أ-عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْهُ حِينَ غَزَا حُنَيْنًا ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ) رواه النسائي وابن ماجه.
ب-عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ، فَأعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ، فأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ، فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَد كَافَأْتُمُوه). حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي
فائدة: 3
ماذا يستحب للدائن؟
أولاً: يستحب له السماحة في طلب الدين.
لحديث جابر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) رواه البخاري.
ولفظ الترمذي (غفر الله لرجل كان قبلكم، كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا اقتضى) زاد أحمد (سهلاً إذا قضى).
قوله (سمحاً) قال ابن حجر: أي سهلاً، وهي صفة مشبهة تدل على الثبوت، فلذلك كرر أحوال البيع والشراء والتقاضي، والسمح الجواد، يقال: سمح بكذا أي: إذا أجاد، والمراد هنا المساهلة. (وإذا اقتضى) أي: طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف.
ثانياً: إنظاره إذا كان معسراً.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا. فَلَقِىَ
اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْه) متفق عليه.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ (أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيماً لَهُ فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ إِنِّى مُعْسِرٌ. فَقَالَ آللَّهِ قَالَ آللَّهِ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ) رواه مسلم.
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أظَلَّهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ) رواه الترمذي.
وعن أبي اليسر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ) رواه مسلم.
ثالثاً: الوضع عنه.
للحديث السابق (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ).
ولحديث أبي قتادة السابق (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ).
(أنظر معسراً) أي: أمهله في قضاء الدين. (وضع عنه) أي تجاوز عن الدين أو بعضه.
باب الرهن
تعريفه:
لعة: يطلق على معان منها الحبس، كما في قوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) أي: محبوسة بعمله.
ويطلق على الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن، أي: دائم.
•
أركان الرهن:
الراهن: وهو الذي أعطى الرهن (الذي عليه الدين).
المرتهن: وهو الذي أخذ الرهن توثقة لدينه.
الرهن: وهي العين المرهونة بينهما.
(وهو توثقةُ دينٍ بعين).
هذا تعريف الرهن اصطلاحاً: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها.
مثال: في ذمتي لزيد (100) درهم فأرهنته مسجل.
فإذا كان الرهن أكثر من الدين فإنه يمكن استيفاء الدين من بعضها.
وإذا الدين أكثر من العين المرهونة فإنه يمكن استيفاء بعضه منها.
وإذا كان الدين بقدر العين فإنه يمكن استيفاؤه كله منها.
الحكمة منه:
توثقة الدين، فكما أن الدين يوثق بالشهود طمأنينة لقلب الدائن حفاظاً لحقه فكذلك يوثق بالرهن.
(وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع).
أي: أن الرهن جائز بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة).
وعن عائشة. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعاً من حديد) متفق عليه.
وقال ابن قدامة: أجمع المسلمون على جواز الرهن.
فائدة:
جماهير العلماء على جواز الرهن في الحضر كما يشرع في السفر.
لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم له وهو مقيم بالمدينة، وأما تقيده بالسفر في الآية فإنه خرج مخرج الغالب، لأن الرهن غالباً يكون في السفر.
قال ابن حجر رحمه الله في قول البخاري في التبويب للحديث (في الحضر).
فيه إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب، فلا مفهوم له، لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر، وهو قول الجمهور.
واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شرع توثقة على الدين لقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب.
وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر.
(وكل ما جاز بيعه جاز رهنه).
أي: يصح الرهن في كل ما يجوز بيعه، كالكتب، والسيارات، والدور، والعقارات، والثياب وغيرها.
فإن كان لا يجوز بيعه - كالكلب، والوقف، والخمر، والمجهول - فإنه لا يصح رهنه.
العلة:
لأن الرهن إذا كان مما لا يصح بيعه - كالخمر، والكلب والوقف - فإنه لا يمكن الاستيفاء منه إذا تعذر السداد.
فلو قال له: أقرضك على أن ترهنني كلبك، فهذا لا يصح، لأن الكلب لا يجوز بيعه.
فائدة:
لا يصح رهن المجهول، وكذلك لا يصح رهن الوثائق الرسمية كبطاقة الأحوال، وجواز السفر ونحوهما، لأن هذه الوثائق الرسمية لا يمكن بيعها عند تعذر استيفاء الديْن.
(ويلزم في حق الراهن فقط).
أي: أن الرهن عقد لازم من وجه، وجائز من وجه آخر.
فهو لازم في حق الراهن، جائز في حق المرتهن.
فليس للراهن الفسخ إلا برضى المرتهن.
(ولا يَلزم الرهن إلا بالقبض).
أي: أن الرهن لا يكون لازماً في حق الراهن إلا إذا حصل من المرتهن قبض الرهن، أما قبل القبض فلا يكون لازماً بمجرد العقد.
وهذا مذهب جماهير العلماء: أن الرهن لا يلزم إلا القبض، فلا يلزم بمجرد العقد.
مثال قلت لشخص: بعتك سيارتي بشرط أن ترهنني هذه الساعة، قال: قبلت (ولم يقبض المرتهن الساعة).
وعلى هذا القول: فإن للراهن أن يتصرف بالرهن (وهو الساعة كما في المثال السابق) بيعاً أو هبة لأنه لم يقبضه.
واستدلوا:
أ- بقوله تعالى (فرهان مقبوضة). وعلى هذا الرهان التي لم تقبض لا أثر لها ولا تنفع.
ب- وبحديث (الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً
…
) فالحديث ظاهر في صورة ما إذا قبض المرتهن الرهن.
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي أقبضه إياه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقبض اليهودي الدرع، ولو لم يكن القبض شرطاً لما أقبضه إياه.
وذهب بعض العلماء: إلى أن القبض ليس شرطاً للزوم، بل يلزم الرهن بمجرد عقد الرهن.
وعلى هذا القول فلا يجوز للراهن أن يتصرف فيه، ولو تصرف فيه فإن تصرفه غير صحيح.
وهذا مذهب المالكية، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.
أ-لعموم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وعقد الرهن تام بالاتفاق فيجب الوفاء به.
ب-ولقوله تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً). والعقد عهد وقد تعاقدا على الرهن فيجب الوفاء به.
ج- ولحديث (المسلمون على شروطهم) وجه الاستدلال: أنه لما شرط عليه الرهن وقَبِل هذا الرهن فإنه يجب العمل بمقتضاه، ومقتضاه عدم التصرف فيه بغير إذن المرتهن.
د- ولقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) وهذا دليل على أنه إذا حصل الائتمان لم يلزم القبض اكتفاء بالائتمان عليه، ولهذا أكد الله تعالى على المؤتمن أن يؤدي أمانته حيث أمره بالأداء وبتقوى الله.
فهذا المرتهن الذي شرط الرهن وتركه عند الراهن قد ائتمنه عليه وتركه عنده، وإذا كان قد ائتمنه عليه فإنه يجب الوفاء بما يقتضيه الرهن وهو أن يبقى عنده أمانة.
وقالوا: إن القول باشتراط القبض يؤدي إلى الخصومة والنزاع وفتح باب التحايل، لأن هذا الشخص إذا عقد العقد وعلم أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض فإنه سيعقد هذا العقد ويتحايل في تأخير قبض الرهن ثم بعد ذلك يتصرف فيه ببيع أو غيره، فينشأ عن ذلك النزاع والخصومة.
وهذا القول هو الراجح.
وأما الجواب عن الآية (فرهان مقبوضة .. ):
فقالوا: إن الله لم يذكر في الآية القبض على وجه الإطلاق، وإنما ذكره في حال معين وهو السفر، فهنا لا يمكن التوثقة إلا برهن مقبوضة، لأنك إذا لم تقبض الرهن وليس بينكما مكاتبة صار ذلك عرضة بأن يجحدك الراهن، ومما يدل على ذلك بقية الآية (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته) فهذا يدل على أنه إذا حصل الإئتمان بيننا فإننا يجب أن نعتمد على أداء الأمانة سواء حصل القبض أم لم يحصل، وإلا لكانت هذه الجملة لا معنى لها.
(ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه بغير إذن الآخر).
هذا حكم التصرف في العين المرهونة حال الرهن، سواء ببيع أو بهبة أو بغيرها.
فلا يجوز للمرتهن وللراهن التصرف في الرهن.
أما المرتهن: فلأنه ليس بمالك ولا قائماً مقام المالك.
مثال: أخذت منك مائة درهم وأعطيتك هذا المسجل رهن، المسجل الآن بيد المرتهن، المرتهن لا يملك أن يبيع المسجل لأنه ليس ملكاً له ولا قائماً مقام الملك.
وأما الراهن: لتعلق حق المرتهن به، فتصرفه فيه يستلزم إبطال حق المرتهن.
(إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم وتؤخذ قيمتُه رهناً مكانه).
أي: إلا عتق الراهن، فإنه يجوز، وتؤخذ قيمته رهناً مكانه.
فإذا كان العبد الذي أرهنه قيمته عشرة آلاف وأعتقه، فإنه يلزمه أن يجعل عشرة آلاف رهناً مكان هذا العبد.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز ولا ينفذ تصرفه.
لأن في تنفيذه إسقاطاً لحق المرتهن.
ولأن هذا عمل غير مأذون به شرعاً. قال صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وهذا القول هو الصحيح.
(وهو أمانةٌ في يدِ المرتهن).
أي: الرهن أمانة في يد المرتهن، لأنه حصل في يده بإذن مالكه.
وقد تقدم تعريف الأمين (وهو كل من قبض المال بإذن من الشارع أو بأذن مالكه) وإذا كان كذلك، فإن المرتهن لا يضمنه إذا تلف إلا إذا تعدى أو فرط.
• التعدي: أن يفعل ما لا يجوز، والتفريط: أن يترك ما يجب.
مثال: إنسان أخذ السيارة رهناً، لكن قدر أنها سرقت، فلا يضمنها لأنه لم يتعد ولم يفرط.
مثال آخر: إنسان أخذ كتاباً رهناً، ووضع الكتاب في مكان آمن مع كتبه، لكن هذا الكتاب سرق، فإنه لا يضمن لأنه لم يتعد ولم يفرط.
- فإن فرط أو تعدى فإنه يضمن.
مثال: أخذ كتاباً رهناً ووضعه في الحوض، فجاء المطر فأتلفه، فهنا يضمن الكتاب لأنه مفرط.
مثال آخر: أخذ السيارة رهناً، فاستعملها ففعل حادثاً فيها، فإنه يضمن، لأنه تعدى، لأن هذه السيارة أمانة عنده، والأمانة صفتها لا تستعملها ولا تقصر في حفظها.
• قاعدة (كل من قبض مال غيره بإذن من الغير أو من الشارع فهو أمانة عنده فلا يضمن إلا بتعد أو تفريط)
(وإن شرط إن جاءه بحقه في وقت كذا، وإلا فالرهن له، لم يصح الشرط).
اختلف العلماء: لو قال صاحب الرهن للمرتهن إذا حل الأجل ولم أوفك فالرهن لك ووافق على ذلك المرتهن، فهل يجوز أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ مَتَى حَلَّ الْحَقُّ وَلَمْ يُوَفِّنِي فَالرَّهْنُ لِي بِالدَّيْنِ أَوْ: فَهُوَ مَبِيعٌ لِي بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْك، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ. (المغني)
لحديث أبي هريرة. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَغْلَقُ اَلرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ اَلَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ). رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ
القول الثاني: أنه يجوز.
وهذا اختيار ابن القيم.
أ-لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
ب- ولحديث (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حل حراماً أو حرم حلالاً).
ويرى ابن القيم رحمه الله أن الحديث جاء لإبطال عادة كانت في الجاهلية، وهي أن المرتهن يأخذ الرهن إذا حل الأجل ولم يؤد الراهن الدين من غير رضا الرهن ولا اشتراط ذلك عليه في عقد الرهن.
قال رحمه الله في أعلام الموقعين: إذا رهنه رهناً بدين وقال: إن وفيتك الدين إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك بما عليه صح ذلك، وفعله الامام أحمد، وقال أصحابنا: لا يصح، وهو المشهور من مذاهب الائمة الثلاثة، واحتجوا بقوله (لا يغلق الرهن).
ولا حجة لهم فيه، فإن هذا كان موجبه في الجاهلية، أن المرتهن يتملك الرهن بغير إذن المالك إذا لم يوفه، فهذا هو غلق الرهن الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فلم يبطله كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، ولا مفسدة ظاهرة، وغاية ما فيه أنه بيع علق على شرط، ونعم فكان ماذا؟ وقد تدعو الحاجة والمصلحة إلى هذا من المرتهنين، ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه الله ورسوله، ولا ريب أن هذا خير للراهن والمرتهن من تكليفه الرفع إلى الحاكم وإثباته الرهن، واستئذانه في بيعه والتعب الطويل الذي لا مصلحة فيه سوى الخسارة والمشقة، فإذا اتفقا على أنه بالدين عند الحلول كان أصلح لهما وأنفع وأبعد من الضرر والمشقة والخسارة.
(ولا ينتفع بشيء منه، إلا ما كان مركوباً أو محلوباً، فيركب ويحلب بقدر العلف).
أي: إذا كان الرهن حيواناً يحتاج إلى مؤنة فللمرتهن أن يركب ويحلب بقدر علفه ولو لم يأذن له المالك، لأنه مأذون فيه شرعاً.
كأن يكون الرهن دابة (بعيراً) واحتاج المرتهن إلى الركوب، فإنه يركبه ولو لم يستأذن من الراهن.
لأن الشارع هو الذي أذن له، لأن الشارع جعل الانتفاع مقابل النفقة.
لحديث أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ اَلدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى اَلَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ اَلنَّفَقَةُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
(اَلظَّهْرُ) المراد به الحيوان المعد للركوب. (بِنَفَقَتِهِ) أي: مقابل نفقته.
وجه الدلالة: أن الحديث جعل المنفعة بدلاً وعوضاً عن النفقة، ومعلوم أن الراهن يستحق المنافع بملك الرقبة، لا بالنفقة، مما يدل
على أن المراد المرتهن.
وهذا مذهب الحنابلة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالمركوب، أو المحلوب إذا لم يأذن له الراهن.
وإلى هذا ذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية.
أ- لحديث أبي هريرةَ. قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَغْلَقُ اَلرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ اَلَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِم.
وجه الدلالة: أن الحديث جعل الغنم للراهن، ولا شك أن منافع الرهن من غنمه، والحديث لم يفرق بين مركوب أو محلوب.
ب-إن الرهن لم يخرج المرهون من ملك الراهن، والراهن لم يأذن للمرتهن بالانتفاع، فالمرتهن كالأجنبي، والرهن كالوديعة.
فائدة: 1
أجاب الجمهور عن حديث أبي هريرة (الظهر يركب
…
) بأجوبة:
أولاً: أن هذا الحديث ورد على خلاف القياس من وجهين:
أ- التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه.
ب- تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث عند جمهور الفقهاء يرده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها، ويدل على نسخه حديث ابن عمر (لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه).
ثانياً: أن المراد بالحديث: أن الرهن مركوب ومحلوب للمرتهن بإذن الراهن.
ثالثاً: إن الحديث مجمل، لم يبيّن من الذي يركب ويشرب، هل هو الراهن أم المرتهن؟
فائدة: 2
أجاب أصحاب القول الأول عن هذه الاعتراضات:
أما قولهم: إنه على خلاف القياس.
فالجواب: بأن السنة الصحيحة من جملة الأدلة والأصول، فلا يجوز ردها بدعوى المخالفة للأصول، وهي لا ترد إلا بمعارض أرجح.
وأما قولهم: إن المراد بإذن المالك.
فالجواب: أن الحديث مطلق، إذ ليس فيه تعليق بالإذن.
وأما قولهم: إن الحديث مجمل لم يبين هل هو الراهن أم المرتهن.
فالجواب: إن الذي يركب ويشرب هو المرتهن لأمرين:
الأول: أن الحديث يجعل الركب واللبن بدل النفقة، فإذا أنفق المرتهن ركب وشرب.
الثاني: أنه قد ورد في رواية هشيم عن زكريا بلفظ (إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها
…
).
والقول الأول هو الراجح.
• الخلاصة: نقول: إن أحوال انتفاع المرتهِن بالرهن له أحوال:
الأولى: ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه، فهذا لا يجوز الانتفاع به بغير إذن الراهن.
قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافاً.
الثانية: إذا كان مركوباً أو محلوباً، فإنه يجوز للمرتهن الانتفاع إذا قام بنفقته ولو لم يأذن المالك، ويكون الانتفاع بقدر النفقة.
وهذا مذهب الحنابلة كما تقدم.
(فإذا حل الدينُ فامتنع الراهن من الوفاء أجبرَه الحاكم).
أي: إذا حلّ الديْن ألْزِم الراهن بالإيفاء، فإذا وفىّ دينه انفسخ الرهن وعاد إلى صاحبه.
فإن امتنع من الوفاء والسداد فلا يخلو من حالات:
الحالة الأولى: أن يكون الراهن قد أذن للمرتهن بالبيع، فإنه يبيعها.
الحالة الثانية: أن لا يأذن للمرتهن بالبيع، ولا يبيع هو بنفسه العين المرهونة، فهنا يجبره الحاكم على السداد، أو البيع للعين المرهونة والسداد منها.
الحالة الثالثة: أن يمتنع بعد كل هذا، فإن الحاكم يتدخل ويبيع الرهن ويوفي الدين من قيمته.
باب الضمان
تعريف الضمان:
لغة: مشتق من الضمن، ضمن الشيء ضمناً.
وشرعاً: التزام الإنسان نفسه ما وجب أو ما قد يجب على غيره.
مثال ما وجب: أن ترى شخصاً ممسكاً بشخص يريد أن يحاكمه ويدفعه إلى ولاة الأمور لأنه يطلبه مال، فتأتي أنت وتقول لهذا الطالب أنا ضامن فلان.
مثال ما يجب: أن يقول لك شخص إني أريد أن أشتري من فلان سيارة وهو لا يعرفني، فأريدك أن تضمنني في قيمتها.
فائدة: 1
أركانه ثلاثة:
ضامن، ومضمون عنه، ومضمون له.
الضامن: هو المتحمل. (وهو من تبرع بالتزام حق مالي على غيره).
المضمون عنه: هو المتحمل عنه. (وهو المدين).
المضمون له: المالك له. (وهو البائع).
فائدة: 2
الحكمة من الضمان: مساعدة ومعاونة المحتاج.
ولذلك هي بالنسبة للضامن مستحبة، لأنها إحسان، وقد الله تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
(وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع).
وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ).
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّعِيمُ الْكَفِيلُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (الزَّعِيمُ غَارِمٌ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، دِينَارَانِ. قَالَ: هَلْ تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟ قَالُوا: لَا، فَتَأَخَّرَ، فَقِيلَ: لَمْ لَا تُصَلِّ عَلَيْهِ؟: فَقَالَ: مَا تَنْفَعُهُ صَلَاتِي وَذِمَّتُهُ مَرْهُونَةٌ؟ أَلَا إنْ قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ. فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ فِي الْجُمْلَةِ.
…
(المغني).
(لا يصحُّ إلا من جائز التصرف).
جائز التصرف: هو البالغ العاقل الحر الرشيد.
أي: لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف.
لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا يصح إلا ممن يجوز تصرفه في ماله.
فقولنا (البالغ) يخرج الصبي، فالصبي لا يصح ضمانه إلا في الأمور اليسيرة عرفاً.
وقولنا (العاقل) يخرج المجنون، فالمجنون لا يصح ضمانه.
وقولنا (الحر) يخرج الرقيق، فالرقيق لا يصح ضمانه إلا بإذن سيده.
وقولنا (الرشيد) يخرج السفيه، فالسفيه لا يصح ضمانه إلا في الأمور اليسيرة، لأن السفيه حكمه حكم الصبي المميز، أما الصبي غير المميز لا يصح ضمانه لا في قليل ولا في كثير.
(ولربِ الحقِ مُطالبةُ من شاء منهما).
رب الحق: الدائن.
أي: إذا حل الأجل، فإن لصاحب الحق أن يطالب من شاء منهما، الضامن أو المضمون عنه.
وهذا قول الجمهور.
أ-قالوا: لأن الحق ثابت في ذمتهما فله مطالبة من شاء منهما.
ب-وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الزعيم غارم) والزعيم هو الضمين، والغُرم: أداء شيء يلزمه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز لصاحب الحق أن يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه.
وقوى هذا القول ابن القيم، واختاره الشيخ السعدي رحمه الله.
أ-لأن الضامن محسن وقد قال الله تعالى (ما على المحسنين من سبيل) فليس لنا عليه من سبيل وهو محسن إلا أن يتعذر الحق.
ب-ولأن المضمون أصل والضامن فرع، وإذا أمكن الرجوع إلى الأصل فإنه يُستغنى به عن الفرع.
ج- ولأنه من المستقبح أن يطالب الضامن بالحق الذي هو على غيره مع القدرة على استيفاء الحق ممن هو عليه.
وهذا الراجح
(ويشترط رضا الضامن).
أي: يشترط رضا الضامن.
لأن الضمان تبرع بالتزام الحق، فاعتبر له الرضا
والرضا شرط في جميع العقود، كما تقدم في شروط البيع.
فائدة: 1
أما المضمون عنه (المستقرض)، فلا يشترط رضاه
قال ابن قدامة: وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
لِأَنَّهُ لَوْ قُضِيَ الدَّيْنُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَرِضَاهُ صَحَّ، فَكَذَلِكَ إذَا ضَمِنَ عَنْهُ. (المغني).
فائدة: 2
وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَى الْمَضْمُونِ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ مَالٍ لِآدَمِي، فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِرِضَاهُ أَوْ رِضَى مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
وَلَنَا، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ.
رضي الله عنه وَلِأَنَّهُمَا وَثِيقَةٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا قَبْضٌ، فَأَشْبَهَتْ الشَّهَادَةَ، وَلِأَنَّهُ ضَمَانُ دَيْنٍ، فَأَشْبَهَ ضَمَانَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ دَيْنٍ الْمَيِّتِ لِلْغَائِبِ، وَقَدْ سَلَّمُوهُ. (المغني).
(فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه).
أي: إذا برئت ذمة المضمون عنه (المدين) بالإيفاء، أو أبراه صاحب الحق، فإن الضامن يبراً.
لأنه تبع له، فإذا برأ الأصل برأ الفرع.
قال ابن قدامة: إِنْ أَبْرَأَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الضَّامِنِ.
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ، وَلِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ، فَإِذَا بَرِئَ الْأَصْلُ زَالَتْ الْوَثِيقَةُ، كَالرَّهْنِ. (المغني).
- قوله (لا عكسه) أي: لا يبرأ المضمون عنه (المدين) ببراءة ضامن.
لأن الأصل لا يبرأ ببراءة التبع.
قال ابن قدامة: وَإِنْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ، فَلَا يَبْرَأُ بِإِبْرَاءِ التَّبَعِ؛ وَلِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ انْحَلَّتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا، فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْأَصِيلِ، كَالرَّهْنِ إذَا انْفَسَخَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَائِهِ.
…
(المغني).
فائدة: 1
فإن قيل: متى يبرأ الضامن؟
أولاً: إن قام المضمون عنه بما التزمَ به من حق. (فهنا يبرأ الضامن).
ثانياً: بإبراء المضمون له (صاحب الحق) له.
كأن يقول التاجر: أبرأتك يا ضامن، واكتفي بصاحب الحق.
لأنه أبرأه من الضمان فقط (يعني من الوثيقة) أما الدين فهو متعلق بصاحب الحق.
ثالثاً: إذا برئ الأصيل.
أي: إذا أبرأ التاجر المضمون عنه (وهو من عليه الحق) فإنه ذمة الضامن تبرأ.
لأنه إذا برئت ذمة المضمون عنه لم يبق هناك شيء يضمن، ولأنه إذا برئ الأصل برأ الفرع.
فائدة: 2
لا يبرأ الضامن بموت المضمون:
لأن الضامن إنما ضمن الحق، والحق لا يموت بموت من عليه الحق.
(ويرجع بما أدّى ناوياً للرجوع).
أي: إذا استوفى المضمون له (صاحب الحق) من الضامن فإن الضامن يرجع على المضمون عنه إذا نوى.
- وقوله (ناوياً) نستفيد أنه إذا لم ينو الضامن حال القضاء لم يرجع.
- إذا قضى الضامن الديْن عن المضمون، ففي رجوعه عليه لا يخلو من حالات:
الأولى: أن يقضي عنه الدين وهو ينوي التبرع به، فلا يرجع عليه.
قال في الإنصاف: بلا نزاع، لأنه متطوع بذلك، أشبه الصدقة.
الثانية: أن يقضي عنه الدين بإذنه وينوي الرجوع عليه، فيرجع عليه فيما دفعه.
الثالثة: أن يقضي ما عليه بغير إذنه وينوي الرجوع، ففيه خلاف، والراجح أنه يرجع إليه.
فائدة:
هل يجوز أخذ أجرة على الضمان؟
مثال: ذهبت إلى زيد وقلت له: أريدك أن تضمنني عند فلان؟ فقال زيد: لا مانع عندي، لكن أضمنك بألف ريال.
الجواب: لا يجوز أخذ الأجر على الضمان لأمرين:
الأمر الأول: أن الضمان من باب الإحسان والمعروف الذي يُبذل ابتغاء وجه الله.
الأمر الثاني: أن أخْذ العوض يستلزم أن يربح فيما إذا وفىّ عن المضمون عنه ثم أخذ الحق منه، فيصير كالقرض الذي جر نفعاً.
باب الكفالة
تعريفها:
لغة: المراعاة والعناية ومنه قوله تعالى (وكفلها زكريا).
وشرعاً: هي التزام جائز التصرف إحضار بدن من عليه الحق.
- وعلى هذا فالفرق بين الضمان والكفالة: أن الضمان يتعلق بالأموال، والكفالة تتعلق بالأبدان.
مثال: رجل أقرض شخصاً مائة ريال، فجاء رجل فكفل الرجل، فلما حل الأجل جاء الغريم إلى الكفيل وقال: أعطني حقي، فقال الكفيل: خذ هذا المكفول.
فائدة: 2
أركان الكفالة:
الكفيل: هو الملتزم بإحضار البدن
المكفول: من يُطلب حضور بدنه.
المكفول له: صاحب الحق.
فائدة: 2
الفرق بين الضمان والكفالة:
أولاً: أن الضمان يتعلق بالدين والكفالة تتعلق بالبدن.
ثانياً: أن الكفيل يبرأ بموت المكفول أو تلف العين المكفول بها، والضامن لا يبرأ بموت المضمون.
ثالثاً: أن الكفالة تصح مؤقتة ولا يصح الضمان مؤقتاً.
رابعاً: أنه يصح ضمان دين الميت دون كفالته.
(وهي جائزة بالكتاب والسنة).
قال تعالى عن يعقوب (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ).
وقال صلى الله عليه وسلم (الزعيم غارم) والزعيم لفظ عام يطلق على الكفيل وعلى الضمين، ومعنى (غارم) أي ملزم نفسه بما ضمن.
(تصح ببدنِ من عليه حق مالي).
أي: أن الكفالة تتعلق بالبدن لا بالعين.
(فلا كفالة في حدٍ).
أي: لا تصح الكفالة ببدن من عليه حد، سواء كان لله تعالى أو لآدمي.
صورة ذلك (أن يجب حد على شخص فيكفله آخر بإحضاره عند إقامة الحد أو القصاص).
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
أ- لحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ) رَوَاهُ اَلْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
ب- ولأنه حد لا يمكن استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول له.
والقول الثاني في المسألة: لا تصح الكفالة ببدن من عليه حد لحق الله، دون من وجب عليه حق لآدمي.
وهذا مذهب الشافعية.
قالوا: إن حقوق الآدميين من القصاص ونحوه مبنية على المشاحة، وهي حق مالي لازم فأشبه الكفالة بالمال، فتجوز الكفالة فيها لتوثيق الحق، بخلاف حدود الله فهي مبنية على المسامحة.
والقول الثالث: تصح الكفالة في الحدود والقصاص، سواء كان حقاً لله أو لآدمي.
وهذا اختيار ابن تيمية.
لحديث بريدة في قصة الغامدية التي اعترفت بالزنا، وفيه قال: فقال لها: (حتى تضعي ما في بطنك، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت). رواه مسلم
والصحيح الأول، لأن الكفالة في البدن في الحقوق المالية إذا تعذرت انتقلت إلى الضمان المالي، بخلاف هذه المسألة، فلا عوض للبدن إذا تعذر حضوره، إذ لا يمكن الاستيفاء من الكفيل في الحد والقصاص.
(وشُرِط رضا كفيلٍ فقط).
لأنه لا يلزمه الحق ابتداءً إلا برضاه.
فإن أكره على الكفالة فلا يصح.
وتقدم أن كل العقود يشترط فيها الرضا.
- وقوله (فقط) نستفيد أنه لا يشترط رضا المكفول، ولا المكفول له كالضمان.
(فإن مات أو تلفت العين بفعل الله أو سلّم نفسه برئ الكفيل).
الأمور التي يبرأ بها الكفيل:
أولاً: إذا مات المكفول.
لأن الكفالة تتعلق بالبدن، وهذا البدن تعذر إحضاره.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: هل إذا مات المكفول يبرأ الكفيل أم لا على قولين:
القول الأول: أن الكفيل يبرأ بموت المكفول.
وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
أ- لأنه ثبت عجزه عن إحضاره بسبب موته فبطلت الكفالة.
ب-أن الحضور سقط عن الأصيل فسقط عن الفرع وهو الكفيل.
القول الثاني: أنه لا يبرأ، بل يلزمه الضمان المالي، ويرجع به هو على ورثته.
وهذا قول الليث، واختيار ابن تيمية.
أ- أن العقود مبنية على التراضي، والبائع لم يرض بالعقد إلا في حال توثيقه بكفالة تحفظ حقه، فإذا برئ الكفيل كان ذلك منافياً لمفهوم الرضى في العقد، منافياً لمقصود الشارع من مشروعية الكفالة.
ب- القياس على ما لو عجز الكفيل في الحياة عن إحضار بدن المكفول، فإنه يلزمه الضمان المالي.
وقول الجمهور أرجح.
ثانياً: إذا تلفت العين.
إنسان استعار سيارة من شخص، ثم ان الله قدر ع هذه السيارة التلف، فالكفيل يبرأ، لأن الكفيل التزم بإحضار بدن من عليه هذه العين، وإذا تلفت العين فلا حق للمكفول له على المكفول.
ثالثاً: أن يسلّم المكفول نفسه.
لأنه أتى بما يلزم الكفيل لأجله، وهو إحضار نفسه، فبرئت ذمته.
رابعاً: إذا أبرأه صاحب الحق.
(إذا برئ المكفول برئ الكفيل لا عكس).
كما تقدم في الضمان.
(وإن تعذر على الكفيل إحضار المكفول ضمن جميع ما عليه).
أي: فإن حان وقت إحضار المكفول وهو حي، فلم يأت به الكفيل، فالكفيل يضمن ما في ذمة المكفول من حق، ويُلزم بدفعه.
لقوله صلى الله عليه وسلم (الزعيم غارم).
ولأنها أحد نوعي الكفالة، فوجب بها الغرم، كالكفالة بالمال.
وقال أكثرهم لا يغرم.
…
(المغني).
باب الحوالة
تعريفها:
هي نقل الحق من ذمة إلى ذمة.
مثال: زيد يطلب عمر مائة ريال، وعمر يطلب خالد مائة ريال، فجاء زيد إلى عمر وقال أعطني حقي فقال عمر: إن لي حقاً عند خالد هو مائة درهم وقد أحلتك عليه.
إذاً تحول الحق من ذمة عمر إلى ذمة خالد.
فائدة: 1
وهو من عقود الإرفاق، فيها إرفاق للطالب والمطلوب، أما الطالب فوجه الإرفاق في حقه أنه ربما يكون المطلوب ذا صلة بالطالب بقرابة أو غيره فيشق عليه أن يطالبه، فيحيل المطلوب على الثالث فيكون إرفاقاً بالمحيل (الطالب).
أما بالنسبة للمطلوب فلأن الطالب قد يكون سيء المعاملة بالنسبة للمطلوب يضايقه ويكثر الترداد عليه فيتخلص منه بالتحويل إلى ذمة الآخر فيكون إرفاقاً بالمطلوب.
فائدة: 2
أركانها:
محيل: وهو من عليه الحق.
محال: وهو من له الحق.
محال عليه: وهو المطلوب للمحيل.
(وهي جائزة بالسنة والإجماع).
الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَطْلُ اَلْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعُ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ (فَلْيَحْتَلْ).
(مَطْلُ) المطل: المنع، يعني منع ما يجب على الإنسان دفعه من دين. (اَلْغَنِيِّ) القادر على السداد.
(ظُلْمٌ) الظلم شرعاً: نقص كل حق حقه. (وَإِذَا أُتْبِعُ أَحَدُكُمْ) أي: أحِيل. (عَلَى مَلِيٍّ) أي: قادر على الوفاء (فَلْيَتْبَعْ) أي: فليتحول، كما في رواية أحمد (فليحتل).
قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة.
وقال النووي: أصلها مجمع عليه.
(ويشترط رضا المحيل).
المحيل: من عليه الحق.
فهذا يشترط رضاه.
لأن الديْن عليه فلا يلزمه أن يسدد عن طريق الحوالة.
قال ابن قدامة: وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا رِضَى الْمُحِيلِ، بِلَا خِلَافٍ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ جِهَةُ قَضَائِهِ.
وقال ابن حجر: ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف.
وقال الشوكاني: ويشترط في صحة الحوالة رضا المحيل بلا خلاف.
(لا المحال عليه).
أي: أنه لا يشترط رضا المحال عليه.
لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المحال مقام نفسه بالقبض فلزم المحال عليه الدفع إليه كالوكيل.
(ولا المحال على مليء قادر على الوفاء).
أي: أن المحال (وهو صاحب الحق) في رضاه تفصيل:
إن كان على مليء لم يعتبر رضاه، وإن كان على غير مليء اعتبر رضاه.
للحديث السابق (وَإِذَا أُتْبِعُ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ) وفي رواية (فليحتل).
وهذا مذهب الحنابلة. أنه يجب أن يتحول إذا كان على مليء.
لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك (فليحتل .. ) وهذا أمر والأمر للوجوب.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب بل يستحب.
ونسبه ابن عبد البر لأكثر الفقهاء.
وقال ابن حجر: وهو قول الجمهور.
والقول الأول هو الصحيح لظاهر الحديث.
فائدة: 1
وأجاب الجمهور عن الحديث السابق (
…
فليتبع).
أ- قالوا: الأمر محمول على الاستحباب.
قال ابن الملقن: مذهب الشافعي وغيره أنه إذا أحيل على مليء استحب له قبول الحوالة، وحملوا الحديث على الندب، لأنه من باب التيسير على المعسر.
وقال القرطبي: وهذا الأمر عند الجمهور محمول على الندب، لأنه من باب المعروف والتيسير على المعسر.
فائدة: 2
المليء:
هو القادر على الوفاء بماله وبقوله وببدنه.
بماله: يكون عنده القدرة على الوفاء، أي: أن يكون عنده مال.
بقوله: ألا يكون مماطلاً.
ببدنه: معناه أن يمكنَ محاكمته شرعاً وعادة (يمكن إحضاره لمجلس الحكم)، فإن لم يمكن إحضاره لمجلس الحكم، فإن المحال لا يلزمه قبول الحوالة.
مثال: كأن يقول أحلتك على أبيك، فإنه هنا لا يلزمه قبول الحوالة، لأنه لا يمكن شرعاً إحضار الأب لمجلس لقضاء، وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك).
وكذلك لو أحاله على أمير البلد، فإنه لا يلزمه قبول الحوالة، لأن أمير البلد لا يمكن إحضاره لمجلس الحكم عادة.
فائدة: 3
لو أحيل على غير مليء (كمماطل) لا يلزمه أن يتحول لأمرين:
الأمر الأول: لمفهوم الحديث (
…
على مليء) فمفهومه أنه لو أحيل على غير مليء فلا يلزمه القبول.
الأمر الثاني: لأن في ذلك ضرراً عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار).
(وإذا تمت الحوالة نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المُحيل).
أي: إذا تمت الحوالة بشروطها وانتفاء موانعها نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل بمجرد الحوالة.
قال في المغني: وهذا قول عامة الفقهاء.
وعلى هذا فلو قدر أن المحال عليه افتقر بعد تمام الحوالة، فإن المحال لا يرجع على المحيل، لأن الحق انتقل انتقالة كاملة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
فائدة:
- لا يجوز أن يحيل ناقص على زائد:
مثال: لو أحلتك بمائة على مائة وعشرين.
لأن هذا يشبه البيع، والبيع مع التفاضل لا يصح.
فائدة: 2
يجوز أن يحيله بمؤجل على حال:
مثال: أنت تطلبني مائة درهم تحل بعد شهرين، أحلتك على رجل عنده لي مائة درهم حالة.
باب الصلح
تعريفه:
لغة: قطع المنازعة.
واصطلاحاً: هو معاقدة يرتفع بها النزاع بين الخصوم، ويُتوصل بها إلى الموافقة بين المختلفين.
والصلح مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).
وقال تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ).
وقال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ).
وقال تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).
وقال صلى الله عليه وسلم (كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَة) رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِم.
وقال صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى؟ قال: إصلاح ذات البين) رواه أحمد
وعن سهل بن سعد (أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم). رواه البخاري
قال أنس: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة.
وقال أبو أمامة: امش ميلاً وعد مريضاً، وامش ميلين وزر أخاً في الله، وامش ثلاثة أميال وأصلح بين اثنين.
وقال بعض العلماء: من أراد فضل العابدين فليصلح بين الناس، ولا يوقع بينهم العداوة والبغضاء.
- فالصلح عقد وُضعَ لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتراضي، كالإصلاح بين قبيلتين، أو بين زوجين، أو بين مسلمين وأهل حرب، أو بين متخاصمين في مال، وهذا هو المراد بهذا الباب دون ما تقدم.
(يصح ممن يصح تبرعُه).
والذي يصح تبرعه: هو البالغ العاقل الحر الرشيد المالك.
فإذا كان لا يملك التصرف كناظر وقف، وولي صغير، ومجنون لم يصح منه الصلح.
لأنه تبرع بإسقاط بعض الحق، وهؤلاء لا يملكونه.
(مع الإقرار والإنكار).
أي: أن الصلح ينقسم إلى قسمين:
النوع الأول: الصلح مع الإقرار.
وهو: أن يقر الطرفان بالحق ثم يتصالحا عليه، فهذا حكمه حكم البيع.
النوع الثاني: الصلح على الإنكار.
وهو: أن يدعي شخص على آخر ديناً أو عيناً فينكر المدعَى عليه ثم يتصالحان على شيء معين.
(فإذا أقر له بدينٍ أو عينٍ فأسقطَ أو وهبَ البعض وأخذ الباقي صح بلا شرط).
هذا النوع الأول من أنواع الصلح على الإقرار: وهو الصلح على جنس الحق.
فقوله (فإذا أقر له بدين
…
) أي: أن يقر له ثم يصالحه في نفس العين فيجوز.
مثلاً: قال له هذه الأرض التي عندك لي، فقال له: نعم أنا أقر أن الأرض لك، لكن خذ النصف وأنا النصف.
هنا مصالحة على نفس العين.
مثال آخر: قال رجل لرجل: هذه الدراهم (ألف درهم) التي بيدك لي، فقال المدعى عليه: نعم أقر بذلك، فقال المدعي: أعطني 600، فهنا أسقط عنه.
أو يهب: يأخذ الألف، ثم يعطيه:100.
فهذا يصح، لأن الإنسان لا يُمنع من إسقاط حقه كما لا يمنع من استيفائه.
- قوله (بلا شرط) أي: لا يكون الإسقاط أو الهبة شرطاً.
أي: لا يشترط المدعى عليه ذلك.
أي: أن هذا النوع من الإقرار يشترط لصحته ألا تكون الهبة أو الوضع شرطاً للإقرار.
مثال: قال له: هذه الدراهم التي بيدك لي، فقال: لا أقر لك بها حتى تهب لي نصفها، أو تضع عني نصفها.
فإذا قال ذلك نقول: هذا شرط باطل ولا يسقط شيء، لأنه مادام أنه يقر يجب أن يخرج الحق لأهله.
وهذا الشرط من أكل أموال الناس بالباطل، وقال الله عز وجل (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
(وإنْ صالحهُ على عينٍ غير المدعاة فهو بيع).
هذا النوع الثاني من أنواع الإقرار مع الحق، وهو الصلح على غير العين المدعاة، أو على غير الدين الذي يدعيه.
أن يقر المدعى عليه بالحق ثم يصالحه على عين غير المدعاة.
مثال: أن يقر له بألف ريال، لكن قال: سأعطيك بدلها شاة، فرضي، فإنه يجوز.
أو يقول: نعم هذه الأرض لك وليست لي، لكن سأعطيك بدلها كتباً.
فهذا حكمه حكم البيع، لأنه مبادلة مال بمال، وهذا هو البيع.
وعلى هذا تثبت فيه أحكام البيع يثبت فيه خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب وغير ذلك من الأحكام.
فمثلاً: لو أنه أقر له بهذه الأرض ثم صالحه على أرض أخرى قال أُعطيك بدلاً عنها الأرض الفلانية فاتفقا على ذلك، ثم بدا له أن يفسخ المدعي، أو المدعى عليه، يصح ذلك لأن هذا بيع يثبت فيه خيار المجلس.
أو قال أعطيك بدل هذه الأرض التي تدعيها سيارة، فقال لي الخيار لمدة ثلاثة أيام أو يوم أو يومين، حكم ذلك: صحيح، لأن هذا في حكم البيع فتثبت له أحكام البيع.
مثال آخر: أن يعترف له بأن هذه الريالات له، فيصالحه على نقد آخر، فيصح، ولكنه يأخذ أحكام الصرف، فيشترط فيه التقابض قبل التفرق وإلا لم يصح.
(وإن أنكرَ دعوى المدعِي أو سكت وهو يجهله، ثم صالحه، صح الصلح، وكان إبراء في حقه، وبيعاً في حق المدعي).
هذا النوع الثاني من أنواع الصلح: وهو الصلح على إنكار.
وهو: أن يدعي شخص على آخر عيناً أو ديناً أو منفعة، فينكر ما ادعاه ثم يتصالحان.
وهو جائز عند جماهير العلماء.
مثاله: أن يدّعي (زيد) على (عمرو) عشرة آلاف ريال، أو يدعي عليه سيارة بيده، أو داراً، فأنكر المدعى عليه (عمرو) هذا الديْن، وبدلاً من الذهاب إلى المحكمة والقضاء، أراد المدعى عليه قطع النزاع وافتداءً اليمين، فصالح المدعى عليه المدعي على سبعة آلاف ريال مثلاً، فأخذها زيد وانتهى ما بينهما.
(وإن كَذَبَ أحدهما لم يصحَّ في حقه باطناً وما أخذه حرام).
قوله (أحدهما) أي: المدعى عليه أو المدعي.
وقوله (لم يصح في حقه باطناً) أي: فيما بينه وبين الله.
أما ظاهراً فإنهما لو ترافعا إلى القاضي في المحكمة حكم بالصلح، لكن باطناً فيما بينه وبين الله، فالكاذب لا يصح الصلح في حقه، وعلى هذا فلا يصح أن يتصرف في العين التي أخذها وهو يعتقد أنها ليست له في الواقع؛ لأنه ادعاها كذباً، وما أخذه من العوض ـ
سواء كان المدعي أو المدعى عليه ـ حرام لا يحل له؛ لأنه أخذه بغير حق.
مثال ذلك: رجل ادعى على رجل أن قطعة الأرض هذه له، وهي أرض مشتركة، فأنكر من بيده الأرض ثم اتفقا على الصلح، فأعطى المدعى عليه للمدعي مائة درهم، عوضاً عن الأرض.
إن كان المدعي صادقاً، والمنكر ـ المدعى عليه ـ كاذباً، فالأرض حرام على المدعى عليه كالأرض المغصوبة تماماً.
وإن كان بالعكس، المدعى عليه هو المحق والمدعي هو المبطل، فالعوض الذي أخذه عن الأرض وهو الدراهم تكون حراماً عليه، وهذا واضح ويتمشى مع القواعد الشرعية؛ لأن كلَّ من أخذ شيئاً بغير حق فهو حرام عليه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنكم تختصمون إليَّ ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن اقتطعت له شيئاً من مال أخيه فإنما أقتطع له جمرة من النار فليستقل أو ليستكثر).
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم له جهتان، جهة الظاهر يحكم بحسب الظاهر، وجهة الباطن يعذب على حسب الباطل، لو كان الحكم الظاهر يقضي على الحكم الباطن، لكان إذا حكم لأخيه بشيء حسب الدعوى لا تكون قطعة من النار، لكنها إذا كانت دعوى باطلة كانت قطعة من النار. (الشرح الممتع).
فليزم المدعي إن كان كاذباً رد المال الذي أخذه، لأنه لم يأخذه بحقه.
ويلزم المدعى عليه إن كان هو الكاذب أن يبرأ ذمته، وأن يقر بالحق الذي عليه، ولا تبرأ ذمته إلا بذلك.
(أو كان له عليه دين لا يعلمان قدرَه فصالحه على شيء. صح ذلك).
مثال: زيد وعمرو بينهما دين، ولكن كل منهما لا يعلم مقدار الدين، فتصالحا على شيء معين، فزيد يقول أذكر أني أخذت منك دراهم لكن لا أذكر كم، وعمرو يقول أذكر أني أعطيتك دراهم، لكن لا أذكر كم هي؟ فتصالحا على ألف ريال وينتهي الأمر بذلك.
فقوله (لا يعلمان قدرَهُ) مفهومه أنه إذا كان أحدهما يعلم قدر الدين ولكنه أخفى وجحد فإنه لا يصح في حقه باطناً.
فائدة:
وإن صالح عن الديْن المؤجل ببعضِه حالاً جاز على القول الراجح.
هذه تسمى عند العلماء مسألة (ضع وتعجل).
وقد تقدمت المسألة والخلاف فيها:
مثالها: أنا أطلب شخصاً ألف ريال تحل بعد ستة أشهر، بعد مضي ثلاثة أشهر، قلت له: أعطني الآن: 500 وأسقط الباقي عنك، فتصالحا على ذلك.
فقيل: بحرمتها.
وقيل: بجوازها.
وهو اختيار ابن تيمية، أنها جائزة.
لحديث ابن عباس. (أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر بإخراج بني النضير من المدينة، جاءه أناس منهم فقالوا: إن لنا ديوناً لم تحل؟ فقال:
ضعوا وتعجلوا) رواه الدارقطني.
حيث أذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه لأصحاب الحقوق أن يضعوا من ديونهم مقابل التعجيل بالوفاء فدل ذلك على جوازه.
باب أحكام الجوار
(والجار له حق عظيم في الإسلام).
أي: أن الجار لح حق عظيم وكبير في الإسلام، وقد حث الإسلام ورغّب في الإحسان إليه، وفي تحريم إيذائه.
عن ابن عُمَرَ. قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) متفق عليه.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) متفق عليه.
وفي رواية (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِى جَارَهُ).
وفي رواية عَنْ أَبِى شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ
…
) رواه مسلم.
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ) رواه مسلم.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) رواه مسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (حسن الأخلاق وحسن الجوار يزيدان في الأعمار) رواه أحمد.
عن أبي هريرة قال (قال رجل: يا رسول الله! إن فلانة تكثر من صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: هي في النار) رواه أحمد
فائدة: 1
أقسام الجيران:
قسم الفقهاء رحمهم الله الجيران إلى ثلاثة أقسام:
أ- جار له حق واحد، وهو الذمي الأجنبي.
ب- جار له حقان، وهو المسلم الأجنبي، له حق الجوار، وحق الإسلام.
ج- جار له ثلاثة حقوق، وهو المسلم القريب، له حق الإسلام، وحق الجوار، وحق القرابة.
فائدة: 2
حدود الجوار:
اختلفت عبارات أهل العلم اختلفت في حد الجوار المعتبر شرعًا، على أقوال:
القول الأول: إن حد الجوار المعتبر شرعًا: أربعون دارًا من كل جانب.
وقد جاء ذلك عن عائشة رضي الله عنها كما جاء ذلك عن الزهري والأوزاعي.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا
…
) رواه أبو يعلى وهو ضعيف.
القول الثاني: الجار هو الملاصق فقط.
وبه قال أبو حنيفة وزفر.
قالوا: لأن الجار من المجاورة وهي الملاصقة حقيقة، والاتصال بين الملكين بلا حائل بينهما، فأما مع الحائل فلا يكون مجاوراً حقيقة.
القول الثالث: أن الجار هو الملاصق وغيره ممن يجمعهم المسجد إذا كانوا أهل محلة واحدة.
وبه قال القاضي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني.
القول الرابع: الجار هو من قاربت داره دار جاره، ويرجع في ذلك إلى العرف.
وهذا اختيار ابن قدامة، وصوبه في الإنصاف.
وهذا القول هو الراجح.
قال الألباني: وقد اختلف العلماء في حد الجوار على أقوال ذكرها في "الفتح"(10/ 367)، وكل ما جاء تحديده عنه صلى الله عليه وسلم بأربعين ضعيف لا يصح، فالظاهر أن الصواب تحديده بالعرف.
(يحرم على الشخص أن يُجري ماءً في أرض غيره أو سطحه بلا إذنه).
لأن فيه تصرفاً في أرض غيره بغير إذنه، فلم يجز، كالزرع فيها، وخاصة إذا كان فيه ضرر على صاحب الأرض، كأن يفسد عليه زرعه، أو حرثه.
- واختلف العلماء إذا لم يكن هناك ضرر على صاحب الأرض، والجار محتاجاً لذلك على قولين:
فقيل: لا يجوز إلا بإذنه.
لحديث ابْن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ إِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِه) متفق عليه.
وقيل: يجوز بلا إذنه، لكن بشرطين:
أولاً: أن يكون محتاجاً.
ثانياً: ولم يكن هناك ضرر على صاحب الأرض.
وهذا القول هو الصحيح.
(وحرُم على الجار أن يحدث بملكه ما يضر بجاره، كحمام، أو كنيف، وله منعه من ذلك)
أي: يحرم على الجار أن يتصرف في ملكه تصرفاً يضر بجاره ضرراً معتبراً، وأن لجاره منعه من ذلك.
كأن يجعل بيته مكاناً للحيوانات، فتؤذي الجيران بروائحها وأصواتها.
أن يجعل الكنيف إلى جهة جاره.
أو يرفع بيته رفعاً يكشف من خلاله عورات جيرانه.
وقد تقدم حديث (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِى جَارَهُ).
وحديث (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ).
(ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة إذا كان محتاجاً ولا ضرر عليه).
أي: لا يمنع الجار جاره إن أراد أن يضع خشبة على جداره بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون الجار محتاجاً لذلك.
والشرط الثاني: وأن لا يكون هناك ضرر على صاحب الجدار.
ويدل لذلك:
حديث أبي أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ: أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاَللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِها بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ) متفق عليه.
[جار] الجار المراد به هنا الملاصق [خشبة] أي من خشب سقفه الذي يسقف به داره. [في جداره] الضمير يعود على الجار [عنها] الضمير يعود إلى السنة المذكورة في كلامه [معرضين] أي غير مسارعين للعمل بها وتضييعها.
في هذا الحديث نهى الجار أن يمنع جاره أن يضع خشبة على جدار جاره.
وهذا مذهب الحنابلة، وبه قال أبو ثور، وإسحاق، وابن حزم.
للحديث السابق (لا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ: أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً
…
).
وجه الدلالة: أنه نهي صريح عن منع الجار من الانتفاع بجدار جاره، وظاهر النهي يقتضي التحريم، وبالتالي فلا يجوز للجار منع جاره من الانتفاع بجداره عند الحاجة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز وضع الخشب على حائط الجدار إلا بإذنه، وإن لم يأذن فلا يجز، لكن يستحب له بذله.
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، والقول الجديد عند الشافعية.
واستدلوا بعموم الآيات التي تنهى عن الظلم والتعدي على أموال الآخرين وحقوقهم.
كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً).
وبالأحاديث التي تنهى عن أخذ أموال الآخرين ظلماً وعدواناً.
كقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).
وقوله صلى الله عليه وسلم (إن دماؤكم وأموالكم عليكم حرام).
والقول الأول هو الصحيح.
وأما الجواب عن أدلة أصحاب القول الثاني:
أنها نصوص عامة، وحديث: (لا يمنع
…
) خاص، والخاص يقضي على العام.
قال البيهقي: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن نخصها وقد حمله الراوي على ظاهره وهو أعلم بالمراد.
فائدة:
أولاً: لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ينتج عنه إلحاق ضرر بجدار الجار كتهديمه أو وهنه، فذلك غير جائز، لحديث:(لا ضرر ولا ضرار).
ثانياً: كذلك لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ليس له به حاجة، فليس للجار أن يضع خشبة على جدار جاره إن كان به غنية عن ذلك، لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير حاجة، فلم يجز.
الخلاف وقع: في الانتفاع غير المضر بالجار، وهو الذي يحتاج إليه المنتفع لتسقيف بيته أو قيام بنائه.
باب الحجر
تعريفه:
لغة: المنع.
وشرعاً: منع الإنسان من التصرف في ماله إما لمصلحته أو لمصلحة الغير.
وينقسم إلى قسمين:
الأول: حجر لمصلحة الغير:
فيمنع الإنسان من التصرف في ماله فقط، فإذا كان الإنسان مدين، وديْنه أكثر من ماله، حُجر عليه لمصلحة الغرماء، ويمنع من التصرف في ماله فقط، فلا يبيع ولا يشتري ولا يرهن ولا يهب، أما في الذمة فلا بأس، فلو استدان من غيره شيء فإن له ذلك.
الثاني: وحجر لمصلحة المحجور عليه:
(كالحجر على السفيه والمجنون والصغير).
(وهو منع الإنسان من التصرف في ماله).
هذا تعريف الحجر، فيمنع الإنسان من التصرف في ماله، فلا يصح بيعه وشراؤه وصدقته وهبته.
- فإذا إذا كان الإنسان عليه دين فإنه لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون معسراً ليس عنده مال، فهذا يحرم مطالبته كما سيأتي.
الثانية: أن يكون ماله أكثر من دينه، فهذا يلزم بالسداد والوفاء كما سيأتي.
الثالثة: أن يكون دينه أكثر من ماله، فهذا يحجر عليه بطلب الغرماء، (وهو المفلس عند الفقهاء).
وهذه تفصيلة هذه الحالات:
(من كان قادراً يجب عليه الوفاء بطلب ربه ولم يحجر عليه، فإنْ أبىَ حُبِس).
هذه الحالة الأولى: أن يكون عنده مال:
أ-فهذا يؤمر بالوفاء ولا يحجر عليه لعدم الحاجة إلى الحجر عليه.
لقوله صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم) متفق عليه.
فإذا كان ظلم وجب أن يزال.
ب-فإن أبى حبس بطلب صاحب الدين لأن الحق له.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أبوداود.
(لي) يعني مطل. (الواجد) القادر على الوفاء. (وعقوبته) أي: حبسه.
ج- فإن أبى باع الحاكم ماله.
لأن إيصال الحق إلى صاحبه واجب، دفعاً للظلم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال ابن قدامة: إذَا امْتَنَعَ الْمُوسِرُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلِغَرِيمِهِ مُلَازَمَتُهُ، وَمُطَالَبَتُهُ، وَالْإِغْلَاظُ لَهُ بِالْقَوْلِ، فَيَقُولُ: يَا ظَالِمُ، يَا مُعْتَدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيُّ الْوَاجِدِ، يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ) فَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ، وَعِرْضُهُ أَيْ يُحِلُّ الْقَوْلَ فِي عِرْضِهِ بِالْإِغْلَاظِ لَهُ.
وَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ).
وَقَال (إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً).
…
(المغني).
(ولا يُطالب مدين بمؤجل).
أي: من كان دينه مؤجلاً، فلا يملك غريمه مطالبته بالدين قبل حلوله، ولا يحجر عليه.
لأنه لا يلزمه أداؤه قبل حلوله.
(فإن كان ذو عسرة وجبت تخليته، وحرمت مطالبته وحبسه والحجر عليه ما دام معسراً).
هذه الحالة الثانية: أن لا يكون عنده مال، فهذا لا يجوز مطالبته ولا حبسه ولا الحجر عليه.
لقوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة).
ب- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ اِبْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ " فَتَصَدَّقَ اَلنَّاسُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ: " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الحديث دليل على أن المعسر لا تحل مطالبته، ولا ملازمته، ولا سجنه، وبهذا قال الشافعي ومالك وجمهور العلماء.
كما قال تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
ولقوله (وليس لكم إلا ذلك).
فائدة: 1
قوله (خذوا ما وجدتم)
فيه: أن المفلس يؤخذ منه كل ما يوجد له، ويستثنى من ذلك ما كان من ضرورته.
وفيه أيضاً: أنه لا حق للغرماء في ما زاد على ما عنده.
- لكن هل هذا يعني سقوط بقية الدين؟
الجواب: لا، ولكن المراد سقوط الطلب ببقية الديْن، وليس المراد سقوط بقية الدين.
فائدة: 2
فضل إنظار المعسر والوضع عنه.
عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا. فَلَقِىَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ) متفق عليه.
عن أبي قتادة قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ). رواه مسلم
عن أبي الْيَسَرِ عن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّه) رواه مسلم.
عن أبي هُريرة رضي الله عنه عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعسِرٍ، يَسَّرَ الله عَليهِ في الدُّنيا والآخرَةِ
…
) رواه مسلم.
قال ابن رجب: والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين:
إمّا بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجبٌ، كما قال تعالى (وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).
وتارةً بالوضع عنه إن كان غريماً، وإلاّ فبإعطائه ما يزولُ به إعسارُه، وكلاهما له فضل عظيم.
(ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم).
هذا الحالة الثالثة: أن يكون دينه أكثر من ماله.
مثال: دينه عشرة وماله خمسة.
فهذا لا يحبس ولكن يحجر عليه بالدين الحال لا المؤجل، فيمنعه القاضي من التصرف من ماله، بطلب غرمائه أو بعضهم، فالحجر لا يكون إلا بطلب من الغرماء.
- ومعنى الحجر: منع الإنسان من التصرف في جميع ماله، ويمنع من التصرف في ماله فقط، فلا يبيع ولا يشتري ولا يرهن ولا يهب، أما في الذمة فلا بأس، فلو استدان من غيره شيء فإن له ذلك.
أ-عَنِ اِبْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ، وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيّ.
ب- ولأن في الحجر عليه حماية لحق الدائن، وحماية لذمة المدين، لئلا تبقى ذمته مشغولة بالدين.
(ويستحب إظهاره).
أي: ويستحب إظهار الحجر وإعلانه، وذلك لفائدتين:
الأولى: ليظهر من لديه دين عند هذا الرجل.
الثانية: حتى لا يتصرف أحد معه في هذا المال الذي عنده الآن، لأن تصرفه بعد الحجر باطل.
قال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ إظْهَارُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، لِتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ، كَيْ لَا يَسْتَضِرَّ النَّاسُ بِضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، لِيَنْتَشِرَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَرُبَّمَا عُزِلَ الْحَاكِمُ أَوْ مَاتَ، فَيَثْبُتُ الْحَجْرُ عِنْدَ الْآخَرِ، فَيُمْضِيه، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ابْتِدَاءِ حَجْرٍ ثَانٍ. (المغني).
(ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر).
أي: أنه بعد الحجر عليه، لا ينفذ تصرفه في ماله، لا ببيع، ولا بشراء، ولا هبة، ولا وقف
فإن باع بيته فالبيع غير صحيح وغير نافذ.
- وقوله (في ماله) يؤخذ منه أنه يصح تصرفه في ذمته، بأن يشتري شيئاً بثمن مؤجل، وهو كذلك، فلو اشترى المحجور عليه في ذمته لم نمنعه؛ لأن المال الذي حجر عليه لا يتضرر بذلك، ولكن البائع لا يدخل مع الغرماء فيما حجر عليه فيه هذا الشخص، فإذا اشترى من شخص سيارة فنقول: الشراء صحيح، لكن لا ينقد ثمنها من المال الذي عنده، وتكون السيارة للمحجور عليه، وصاحب السيارة لا يدخل مع الغرماء في ماله السابق؛ وذلك لأنه حجر عليه قبل هذا التصرف. (الشرح الممتع).
- وأما تصرفه في ماله قبل الحجر عليه فصحيح، لأنه رشيد غير محجور عليه، لكن يحرم عليه الإضرار بغريمه.
(ولا إقراره عليه).
أي: لا يصح بعد الحجر أن يقر على شيء من ماله الذي بيده.
مثال: لما حُجر عليه، قال هذه السيارة التي عندي ليست لي، هذه لفلان، فإنه لا يقبل.
(ومَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ).
هذا لفظ حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قوله (
…
عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَس
…
) المفلس: هو من دينه أكثر من ماله.
قال ابن حجر: المفلس شرعاً: من تزيد ديونه على موجوده، سمي مفلساً لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير، إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال وهي الفلوس، أو سمي بذلك لأنه يمنع التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس، لأنهم ما كانوا يتعاملون
بها إلا في الأشياء الحقيرة، أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلساً.
وقال ابن قدامة: وَالْمُفْلِسُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ، وَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ مِنْ دَخْلِهِ.
وَسَمَّوْهُ مُفْلِسًا وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ فِي جِهَةِ دَيْنِهِ، فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاءِ دَيْنِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، إلَّا الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ، كَالْفُلُوسِ وَنَحْوِهَا. (المغني).
فائدة: 1
الحديث دليل على أن من باع متاعه [كسيارة، أو ثوباً، أو غيره] لأحد مؤجلاً، أو ودعه، فأفلس المشتري، بأن كان ماله لا يفي بديونه، فللبائع أخذ متاعه إذا وجد عينه، بأن كان بحالة لم تتغير صفاته بما يخرجه عن اسمه، ولم يقبض من ثمنه شيئاً، فحينئذٍ يكون أحق به من الغرماء.
وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
قال ابن عبد البر: وممن قال بهذا الحديث، واستعمله وأفتى به، فقهاء المدينة، وفقهاء الشام، وفقهاء البصرة، وجماعة من أهل الحديث.
وقد جاء في رواية: (إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها دون الغرماء) رواه ابن حبان.
فائدة: 2
نستفيد من قوله (بعينه) أن تقديم صاحب السلعة على غيره يكون بشرط: أن يجد ماله بعينه، أي لم يتغير ولم يتبدل، فإن تغير فهو أسوة الغرماء.
مثال: باع رجل على رجل بعيراً، ثم أفلس هذا الرجل، لكن البعير سمنت أكثر، فهنا لا يستحق هذا المال، بل يكون أسوة الغرماء.
كذلك إذا قبض من ثمنه شيئاً، فإنه في هذه الحالة لا حق له، ويكون أسوة الغرماء.
فقد جاء في رواية: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحق به) فمفهومه أنه إذا قبض من ثمنه شيئاً كان أسوة الغرماء.
إذاً يشترط:
أولاً: أن تكون عين المتاع موجودة عند المشتري المفلس لم تتغير لقوله (بعينه).
الثاني: أن يكون الثمن غير مقبوض من المشتري، فإن قبض البائع شيئاً من الثمن فلا رجوع له على المفلس بعين ماله، لرواية أبي داود (ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً).
الثالث: أن يكون المشتري حياً، فإن مات فلا رجوع للبائع بل هو أسوة الغرماء. (وهذا المذهب كما سيأتي).
فائدة: 3
ما الحكم إذا مات المفلس، هل يكون الرجل أحق بماله أو يكون أسوة الغرماء؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
فقيل: هو أحق بماله.
وهذا مذهب الشافعي.
قال الحافظ ابن حجر: واحتج الشافعي بحديث أبي هريرة قال (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه) وهو حديث حسن يحتج بمثله، أخرجه أحمد وأبو داود.
وقيل: بل يكون أسوة الغرماء.
وهذا مذهب مالك وأحمد.
لقوله (من أدرك ماله بعينه عند رجل) وبعد موته لا يكون أدركه عند هذا الرجل، وإنما أدركه عند الورثة.
وهذا الراجح.
فائدة: 4
ما الحكم إذا مات صاحب المتاع؟
فهل تسقط حق ورثته، أو أن الورثة ينزلون منزلة المورث؟
قولان للعلماء، والراجح فيها أنه يورث فيكون الورثة أحق به من بقية الغرماء.
(ويبيعُ الحاكم مال المفلس ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه).
أي: يقسم الحاكم المال بقدر الديون ويكون التوزيع بالتقسيط.
مثال: إذا كان رجل عليه دين، ومحمد يطلبه {2000} وخالد {3000} وأحمد {5000} المجموع: 10000، ولم نجد عنده إلا {5000} فيكون التوزيع كالتالي.
(ننسب الموجود إلى المطلوب ونعطي كل واحد من الغرماء بقدر نسبته).
ننسب {5000} إلى {1000} ، يخرج النصف فيصير محمد له: 1000، وخالد: 1500 وأحمد: 2500.
- إذا كان الدين من جنس الدين فلا يبيعه.
مثال: مطلوب بر، وعنده بر، فهنا لا يبيعه بل يسلمه الغرماء.
فائدة: 1
ويجب على الحاكم أن يقسم المال فوراً.
ولا يفرق بين صاحب السابق واللاحق.
فائدة: 2
ولا يفك حجر المفلس إلا حاكم،
لأنه ثبت بحكم الحاكم فلا يرتفع إلا بحكمه.
قال ابن قدامة: لا يَزُولُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِحُكْمِهِ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِحُكْمِهِ، كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ.
وَفَارَقَ الْجُنُونَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، فَزَالَ بِزَوَالِهِ.
وَلِأَنَّ فَرَاغَ مَالِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ وَبِحَثِّ، فَوَقْفُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ. (المغني).
(ولا تُباعُ دارُه التي لا غنى له عن سُكناها).
أي: أن الحاكم يترك للمفلس من ماله: ما يحتاج إليه ولا يستغني عنه مثل: الثياب، والكتب، والبيت الذي يسكنه، وآلات الصنعة، والقوت الضروري، ورأس مال التجارة
…
إلخ
ويؤخذ الزائد عن حاجته من هذه الأشياء، ويترك له ما يكفيه بلا زيادة.
قال ابن قدامة: ولَا تُبَاعُ دَارُهُ الَّتِي لَا غِنَى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا.
لأنَّ هَذَا مِمَّا لَا غِنَى لِلْمُفْلِسِ عَنْهُ، فَلَمْ يُصْرَفْ فِي دَيْنِهِ، كَثِيَابِهِ وَقُوتِهِ.
…
(المغني).
فائدة: 1
قال ابن قدامة: وَجُمْلَته أَنَّ الْمُفْلِسَ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ، بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ الْمُفْلِسُ الْبَيْعَ، لَمَعَانٍ أَرْبَعَةٍ:
أَحَدُهَا: لِيُحْصِيَ ثَمَنَهُ، وَيَضْبِطَهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَعْرَفُ بِثَمَنِ مَتَاعِهِ، وَجَيِّدِهِ وَرَدِيئِهِ، فَإِذَا حَضَرَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَرَفَ الْغَبْنَ مِنْ غَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ تَكْثُرَ الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ مِنْ صَاحِبِهِ أَحَبُّ إلَى الْمُشْتَرِي.
الرَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ أَطْيَبُ لِنَفْسِهِ، وَأَسْكَنُ لِقَلْبِهِ.
فائدة: 2
قال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ إحْضَارُ الْغُرَمَاءِ أَيْضًا، لَأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُبَاعُ لَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ رُبَّمَا رَغِبُوا فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَزَادُوا فِي ثَمَنِهِ، فَيَكُونُ أَصْلَحَ لَهُمْ وَلِلْمُفْلِسِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَطْيَبُ لِقُلُوبِهِمْ، وَأَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَجِدُ عَيْنَ مَالِهِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِهِمْ كُلِّهِمْ، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَيْهِ، وَمُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَبَانَتْ لَهُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى الْبَيْعِ قَبْلَ إحْضَارِهِمْ. (المغني).
(ولا يحِلٌّ مُوجَّلُ بِفَلَسٍ).
أي: إذا كان الديْن مؤجلاً، فأفلس من هو عليه، لا يصير الدين حالاً.
لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه. (الروض المربع).
فلو أن رجلاً أفلس وحجرنا عليه، ولشخص آخر عليه دين مؤجل لا يحل إلا بعد سنة، فلا يحل هذا الديْن المؤجل لتفليس المدين.
قال ابن قدامة:
…
ولنا: أَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُفْلِسِ، فَلَا يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ.
وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُلُولَ مَالِهِ، فَلَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا عَلَيْهِ، كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ.
وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى حَيٍّ، فَلَمْ يَحِلَّ قَبْلَ أَجَلِهِ، كَغَيْرِ الْمُفْلِسِ
…
إذَا ثَبَتَ هَذَا:
فَإِنَّهُ إذَا حُجِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يُشَارِكُ أَصْحَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ غُرَمَاءَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ، بَلْ يُقْسَمُ الْمَالُ الْمَوْجُودُ بَيْنَ أَصْحَابِ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ، وَيَبْقَى الْمُؤَجَّلُ فِي الذِّمَّةِ إلَى وَقْتِ حُلُولِهِ. (المغني).
(ولا بموت إن وثّقَ الورثة برهنٍ محرِز أو كفيل مليءٍ).
أي: كذلك لا يحل المؤجل بموت المدين بشرطين:
الأولى: إن وثق الورثة من الديْن برهن يكفي.
الثانية: أو أتوا بكفيل مليء.
لأنه لا ضرر على صاحب الحق.
فإن لم يوثقوا حل لغلبة الضرر. (الروض المربع).
قال ابن قدامة: فَأَمَّا إنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ، فَهَلْ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ؟
فيهِ رِوَايَتَانِ.
إحْدَاهُمَا: لَا تَحِلُّ إذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةُ.
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِاللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: أَنَّهُ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ.
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَوَّارٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوْ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا، وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلَا ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا، وَلَا رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَلَا نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ.
أَمَّا الْمَيِّتُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْمَيِّتُ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) وَأَمَّا صَاحِبُهُ فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهُ، وَقَدْ تَتْلَفُ الْعَيْنُ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ وَأَمَّا الْوَرَثَةُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَعْيَانِ، وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ، فَلَا يَسْقُطُ حَظُّ الْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ لِمَنْفَعَةِ لَهُمْ.
…
(المغني)
وقال ابن رشد: وجمهور العلماء على أن الديون تحلُّ بالموت.
(وإن ظهر غريمٌ بعد القسمة رجع على الغرماءِ بقسطهِ).
لأنه لو كان حاضراً شاركهم، فكذا إذا ظهر.
قال ابن قدامة: وَلَوْ قَسَمَ الْحَاكِمُ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ، رَجَعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَحُكِيَ عَنْهُ: لَا يَحَاصُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَنَا، أَنَّهُ غَرِيمٌ لَوْ كَانَ حَاضِرًا قَاسَمَهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَاسَمَهُمْ، كَغَرِيمِ الْمَيِّتِ يَظْهَرُ بَعْدَ قَسَمَ مَالِهِ، وَلَيْسَ قَسْمُ الْحَاكِمِ مَالَهُ حُكْمًا، إنَّمَا هُوَ قِسْمَةٌ بَانَ الْخَطَأُ فِيهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَسَّمَ مَالَ الْمَيِّتِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ.
أَوْ قَسَمَ أَرْضًا بَيْنَ شُرَكَاءَ، ثُمَّ ظَهَرَ شَرِيكٌ آخَرُ.
أَوْ قَسَمَ الْمِيرَاثَ بَيْنَ وَرَثَةٍ، ثُمَّ ظَهَرَ وَارِثٌ سِوَاهُ، أَوْ وَصِيَّةٌ، ثُمَّ ظَهَرَ مُوصَى لَهُ آخَرُ.
…
(المغني).
فصل
(ويُحجر على الصغير والمجنون والسفيه لحظهم).
هذا القسم الثاني من أنواع الحجر (المحجور عليه لمصلحة نفسه)، وهم السفيه والصغير والمجنون.
فهؤلاء يمنعون من التصرف في المال والذمة.
السفيه: الذي لا يحسن التصرف في ماله بأن يبذل ماله في حرام، أو في غير فائدة، أو يغبن كثيراً.
الصغير: هو من لم يبلغ.
المجنون: من لا عقل له.
(ومن أعطاهم ماله بيعاً أو قرضاً بما بقي لا ما تلِفَ).
أي: من أعطى ماله (ببيع أو قرض أو غيرهما) لصبي أو لسفيه أو لمجنون فإنه يرجع بما بقي منه.
لأنه ماله.
(لا ما تلف).
أي: أن ما أتلفوه فإنهم لا يضمنونه.
لأن البيع غير صحيح، لأنه هو الذي سلطهم على ماله، فلا شيء له إذا تلف.
(وإن تمّ لصغيرٍ خمس عشرة سنة، أو نبت حول قُبلهِ شعر خشن أو أنزل، أو عقل مجنون ورشد، أو رشد سفيه زال حجرهم).
في هذه القطعة ذكر متى يزول حجر هؤلاء:
أولاً: الصبي:
ويزول حجره بأمور:
أ- بلوغ خمس عشـ 15 ـرة سنة.
قال ابن حجر: وقال الشافعي وأحمد وابن وهب والجمهور: حده فيها استكمال خمس عشرة سنة.
وقال النووي: وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن وهب وأحمد وغيرهم، قالوا: باستكمال خمس عشرة سنة يصير مكلفاً وإن لم يحتلم.
لحديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ (عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي) متفق عليه.
وفي رواية البيهقي (فلم يجزني ولم يرني بلغت) وصححها ابن خزيمة.
(لكن لا بد أن ينظم إلى هذا الشرط الرشد).
لقوله تعالى (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).
(وابْتَلُوا الْيَتَامَى) أي اختبروهم، كأن يعطيه مال وينظر كيف يتصرف فيه (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) هذا الشرط الأول وهو البلوغ (فَإِنْ آنَسْتُمْ) علمتم (مِنْهُمْ رُشْداً) هذا الشرط الثاني، والرشد حسن التصرف (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وأما قبل البلوغ وقبل الرشد لا يدفع إليهم أموالهم.
- لكن لا يدفع إليه مال حتى يختبر ليعلم رشده.
ب- الإنبات: (أن ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو فرج المرأة).
قال ابن حجر: فاعتبر مالك والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور الإنبات.
وقال ابن حزم: والإنبات بلوغ صحيح.
عن عَطِيَّةُ الْقُرَظِيُّ، قَالَ (كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِت) رواه أبوداود.
ج- الإنزال: (وهذا بالإجماع حكاه ابن قدامة).
قال الحافظ ابن حجر: وقد أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات والحدود وسائر الأحكام.
قال تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا).
وقال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة:. . . وعن الصبي حتى يحتلم) رواه أبو داود.
(وهذه الثلاثة للذكر والأنثى وتزيد الأنثى الحيض).
قال ابن قدامة: وأما الحيض فهو علم على البلوغ، لا نعلم فيه خلافاً.
وقال الحافظ ابن حجر: وقد أجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء.
عن عائشة. عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَقْبَلُ اَللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيُّ
- (حائض) أي بالغ. وقال ابن الأثير: أي التي بلغت سن المحيض وجرى عليها القلم، ولم يرد في أيام حيضها، لأن الحائض لا صلاة عليها.
ثانياً: المجنون: يزول حجره بأمرين:
1 -
زوال الجنون بأن يعقل، وذلك بالتمييز في تصرفاته.
2 -
الرشد.
ثالثاً: السفيه: ويزول حجره بشرط واحد وهو الرشد:
لأنه بالغ عاقل.
الرشد: هو الصلاح في المال كما تقدم.
(بلا حكم حاكم).
أي: هؤلاء يزول حجرهم بلا قضاء حاكم.
لأنه ثبت بغير حكمه فزال بغير حكمه.
(ولا ينفك الحجر قبل شروطه).
أي: لا ينفك الحجر عن هؤلاء الثلاثة قبل شروطه السابقة بحال، ولو صار شيخاً.
وقد تقدم:
يشترط في الصغير: البلوغ والرشد.
وفي المجنون: العقل والرشد.
وفي السفيه: الرشد، فلا بد إذن من تمام الشروط، فإذا تمت الشروط انفك، ولا حاجة للحاكم.
(والرشد هنا الصلاح في المال).
أي: الرشد هنا في باب المال.
وتقدم من هو الرشيد: وهو من يتصرف مراراً فلا يغبن غالباً.
ويكون السفيه: من لا يحسن التصرف بالمال، بأن يغبن كثيراً ويخدع.
(ووليهُم حال الحجرِ الأب، ثم وصيه ثم الحاكم).
أي: وولي السفيه الذي بلغ سفيهاً واستمر، والصغير، والمجنون حال الحجر أبوهم.
لأنه أكمل شفقة ونصحاً من غيره.
- يشترط في هذا الأب أن يكون رشيداً، فإن كان سفيهاً، أو مجنوناً، فلا يكون ولياً لهم.
لأنه هو بحاجة لولي، فكيف يكون ولياً على غيره.
(ثم وصيهُ).
بأن قال: يتولى أمر أولادي بعد موتي فلان، فإن الولاية تكون له.
(ثم الحاكم).
لأن الحاكم ولي من لا ولي له.
(ولا يتصرف لأحدهم وليهُ إلا بالأحظ).
لقوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن).
ولأن هذا الولي يتصرف لغيره، فوجب عليه أن يأخذ بالأحظ.
- فإذا أراد أن يبيع له عقاراً فلا يتعجل في بيعه بل يتريث حتى يكون ذلك أحظ له.
- وأيضاً لا يحل له أن يهب من ماله أو يعتق ولا أن يهدي، ولا أن يحابي كأن تكون الأرض تساوي مائة ألف فيشتريها من صديقه بمائة وعشرة آلاف لليتيم، وإن تصرف بمثل هذه التصرفات فهم ضامن لأنه متعد).
باب الوكالة
تعريفها:
لغة: التفويض.
الوكالة: هي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.
وهذا التعريف يدل على أن الموكِل لابد أن يكون جائز التصرف فلا تصح الوكالة من صبي أو مجنون.
ولابد أن يكون أن الوكيل جائز التصرف.
فائدة:
أركان الوكالة:
الموكِّل: وهو الذي يستعين بغيره، ليقوم ببعض التصرفات نيابة عنه.
الوكيل: وهو الذي يقوم بالتصرف نيابة عن غيره، بإذن منه وتوكيل.
المُوكَّل فيه: وهو التصرف الذي يقوم به الوكيل نيابة عن الموكِّل.
(وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع).
قال تعالى (واخلفني في قومي وأصلح).
وقال تعالى _ عن سليمان أنه قال للهدهد _ (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - فِي قِصَّةِ اَلْعَسِيف- قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى اِمْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا
…
) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى اَلصَّدَقَةِ
…
). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَذْبَحَ اَلْبَاقِيَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وفي البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم وكّل عروة بن الجعد في شراء شاة).
ووكل أبا بكر أن يصلي بالناس في مرض موته صلى الله عليه وسلم: ففي الصحيحين عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس). متفق عليه
ووكل أبا هريرة في حفظ الصدقة: ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ
…
).
قال ابن قدامة: وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كُلَّ وَاحِدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا. (المغني).
(تصح بكل قول أو فعل يدل على الإذن).
أي: تصح الوكالة بكل قول أو فعل يدل على الإذن في التصرف، ولا يتعين لفظ الوكالة.
كأن يقول الموكّل للوكيل: وكلتك في بيع داري، أو أذنت لك في بيع سيارتي، أو أقمتك مقامي في بيع سيارتي.
فهي أوسع العقود، ويصح القبول على الفور أو التراخي بكل قول أو فعل.
(وتَصِح ومنجزة ومعلقة ومؤقتة).
منجزة: كأن يقول أنت وكيلي الآن.
معلقة: إذا جاء رمضان فأنت وكيلي.
مؤقتة: أنت وكيلي لمدة شهر.
قال المرداوي: بلا نزاع نعلمه.
(يصح التوكيل في كل حق آدمي من العقود، والفسوخ، والطلاق، والرجعة)
تنقسم الوكالة في حقوق الآدميين من حيث التوكيل إلى قسمين:
الأول: قسم يصح التوكيل فيه:
مثل العقود: البيع، والشراء، والإجارة، والقرض والنكاح.
كأن أقول لشخص: وكلتك تبيع سيارتي.
الشراء: كأن أقول لشخص: وكلتك تشتري لي سيارة.
الإجارة: كأن أقول لشخص: وكلتك تستأجر لي بيتاً.
والفسوخ: كالطلاق، والخلع، والعتق، والإقالة.
الطلاق: كأن أقول لشخص: يا فلان وكلتك أن تطلق زوجتي (وتكون الفائدة - أنه يثبت طلاقها عند المحكمة).
الخلع: كأن أقول لشخص: وكلتك مخالعة زوجتي (الخلع مفارقة الزوجة على عوض).
العتق: كأن أقول لشخص: وكلتك تعتق عبدي فلان.
الإقالة: اشتريت من فلان سيارة ثم لم تعجبني السيارة، فرجعت إليه وقلت: أريد أن تقيلني البيع، فقال: نعم، فلو وكلت إنساناً في الإقالة يجوز سواء من البائع أو من المشتري.
فهذه الأمور يصح التوكيل فيها لأن المقصود إيجاده بقطع النظر عن الفاعل.
قال ابن قدامة: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى السُّوقِ.
وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ وَلَا يُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ، وَقَدْ يُحْسِنُ وَلَا يَتَفَرَّغُ، وَقَدْ لَا تَلِيقُ بِهِ التِّجَارَةُ لِكَوْنِهِ امْرَأَةً، أَوْ مِمَّنْ يَتَعَيَّرُ بِهَا، وَيَحُطُّ ذَلِكَ مِنْ مَنْزِلَتِهِ، فَأَبَاحَهَا الشَّرْعُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَتَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْآدَمِيِّ الْمَخْلُوقِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْحَوَالَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالضَّمَانِ، وَالْكَفَالَةِ، وَالشَّرِكَةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْجَعَالَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْقَرْضِ، وَالصُّلْحِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْفَسْخِ، وَالْإِبْرَاءِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهَا، فَيَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُهُ، وَلَا نَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافًا.
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ، وَأَبَا رَافِعٍ، فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ.
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ إلَى التَّزَوُّجِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ، لَا يُمْكِنُهُ السَّفَرُ إلَيْهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ.
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، كَدُعَائِهَا إلَى التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ.
(لا ظهار ولعانٍ وأيْمان).
هذا القسم الثاني: وهو ما لا يصح التوكيل فيه وهو:
الظهار، واللعان، والأيمان.
أ-لأنها تتعلق بنفس الشخص، فالوكيل لا يستطيع أن يفعلها.
ب- ولأنه تفوت الحكمة في التوكيل فيه.
قال ابن قدامة: وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الشَّهَادَةِ.
لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الشَّاهِدِ لِكَوْنِهَا خَبَرًا عَمَّا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى فِي نَائِبِهِ.
وَلَا يَصِحُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ: لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ، فَأَشْبَهَتْ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ وَالْحُدُودَ.
وَلَا يَصِحُّ فِي الْإِيلَاءِ وَالْقَسَامَةِ وَاللِّعَانِ: لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ.
وَلَا فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ: لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الزَّوْجِ لَأَمْرٍ لَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِهِ. (المغني).
الظهار: فلو وكل شخصاً في الظهار من امرأته، فذهب الرجل إلى المرأة، وقال لها: أنتِ على زوجك كظهر أمه عليه، فهذا لا يجوز ولا يثبت الظهر.
اللعان: وهو ما يكون بين الزوج وزوجته - إذا رماها بالونا - ولم تعترف، فإنه يقام بينهما لعان (وهو أيمان مؤكدة بشهادات، فيقسم الرجل ثم الزوجة، فهنا لا يجوز للزوج أن يوكل أحداً غيره لإقامة اللعان، لأنها تتعلق بالشخص نفسه. - أن الوكيل لا يصح أن يضيف اللعنة إلى نفسه.
الأيْمان: أي لا يجوز أن يوكل شخصاً يذهب عنه إلى القاضي ليؤدي اليمين عنه، لأنها تتعلق بالشخص نفسه.
-
فلا يصح التوكيل في الظهار لأمور ثلاثة:
أولاً: لأنه يتعلق بنفس الشخص كما سبق.
ثانياً: أن الموكل لا يملك ذلك، بل هو حرام عليه، فكيف يصح ذلك من الوكيل.
ثالثاً: أن في قبول الوكيل هذا العمل الموكل فيها من باب التعاون على الإثم والعدوان وقد نهى الله عن ذلك.
(وفي كل حقٍّ تدخلُه النيابة من العبادات).
العبادات من حيث الوكالة وعدمها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم يصح التوكيل فيه مطلقاً: كالعبادات المالية.
كتفريق صدقة، أو زكاة، أو نذر، أو كفارة.
قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه.
لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها.
الزكاة: كأن أعطي شخص ألف ريال زكاة كمالي، وأقول له وزعها على الفقراء.
ويصح أن يوكل من يكفر عنه كفارة مالية ونحو ذلك من العبادات المالية.
الثاني: قسم لا يصح التوكيل فيها مطلقاً،
وهي العبادات البدنية المحضة. (أي الخالصة التي لا تتعلق بالمال).
مثل: الصلاة، والصوم، والوضوء.
لأنها تتعلق بنفس الفاعل، فلا يصح أن يوكل بها غيره.
الصلاة: كأن أقول لشخص: اذهب وصلِ عني صلاة الظهر، فهذا لا يجوز.
الصوم: كأن أقول لشخص: علي يوم قضاء من رمضان، أريدك أن تصومه عني، فهذا لا يجوز.
الوضوء: كأن أقول لشخص: الجو بارد وأريدك أن تتوضأ عني، فهذا لا يجوز.
الثالث: قسم فيه تفصيل:
وهو الحج في الفرض: فالذي لا يستطيع أن يحج عجزاً مستمراً فإنه يجوز له أن يوكل وإلا فلا يجوز.
لحديث ابن عباس. قال (جاءت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع) متفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الحج كغيره من العبادات، والأصل فيه عدم جواز التوكيل، لأنه عبادة، والأصل في العبادة أنها مطلوبة من العابد، ولا يقوم غيره مقامه فيها، وحينئذ نقول: الحج وردت النيابة فيه عن صنفين من الناس:
الأول: من مات قبل الفريضة، فإنه يحج عنه، لأنه ثبت ذلك بالسنة.
الثاني: من كان عاجزاً عن الفريضة عجزاً لا يرجى زواله، فهذا جاءت به السنة، وسبق دليلها.
(وهي عقد جائز).
أي: من الطرفين.
وقد تقدم، أن العقد الجائز هو الذي يملك كل واحد من المتعاقدين فسخه بدون رضا الآخر، ولا إذنه أيضاً.
فالوكالة عقد جائز.
لأنها من جهة المُوَكِّل إذْنٌ، ومن جهة الوكيل بذل نفع وكلاهما غير لازم.
- لكن يلزمه في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان هناك ضرر في فسخ الوكالة، كأن يكون فسخ الوكالة بشيء يتضرر به الموكِل.
الحالة الثانية: إذا كانت الوكالة بجعل (أي بمقابل)، فهذه حكمها حكم الإجارة، فلا يجوز لأحد فسخها.
(وَليْسَ لِلْوَكِيلِ أنْ يُوكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يُجْعَلَ إِلَيْهِ).
كأن أوكل شخصاً ليشتري لي سيارة، فيذهب هو ويوكل آخر، هذا لا يجوز.
أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام) والتوكيل بغير إذن تعد على مال الغير.
ب- ولأن تصرف الوكيل مستفاد بالإذن، فوجب أن يقتصر في تصرفه على ما أُذِن فيه، فإذا وكّل غيره فمعناه أنه وكل غيره أن يتصرف في ملك الغير.
ج- وأيضاً: يقال: إن الموكِّل قد يرضى أن يتصرف في ملكه فلان، ولا يرضى أن يتصرف في ملكه فلان.
(إِلاَّ أَنْ يُجْعَلَ إِلَيْهِ).
أي: أن يأذن له، فيجوز، ولهذا قال (إلا أن يجعل إليه).
مثال: أقول وكلتك أن تبيع سيارتي ولك أن توكل من شئت، أو من تثق به.
قال ابن قدامة: إذا أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ أَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَكَانَ لَهُ فِعْلُهُ، كَالتَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَيْنِ خِلَافًا.
فائدة:
فإن أطلق الوكالة فلا يخلو من أقسام ثلاثة:
أحدها: أن يكون دنيئاً لا يقوم به مثله.
قال ابن قدامة: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا يَرْتَفِعُ الْوَكِيلُ عَنْ مِثْلِهِ، كَالْأَعْمَالِ الدَّنِيَّةِ فِي حَقِّ أَشْرَافِ النَّاسِ الْمُرْتَفِعِينَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْعَادَةِ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ لِكَوْنِهِ لَا يُحْسِنُهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَعْمَلُهُ الْوَكِيلُ عَادَةً، انْصَرَفَ الْإِذْنُ إلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ.
القسم الثاني: إذا كان يعجز عن القيام بمثله عادة.
قال ابن قدامة: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَعْمَلُهُ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ؛ لِكَثْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي عَمَلِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ التَّوْكِيلِ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِي فِعْلِ جَمِيعِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي التَّوْكِيلِ بِلَفْظِهِ. (المغني).
مثال: وكلت رجلاً أن يصعد بحجر كبير إلى السطح، لأنك تريد أن تبني به السطح، وهو رجل ضعيف لا يقوى على ذلك، فهل له أن يوكل من يحمل الحجر إلى فوق؟ الجواب نعم، لأن مثله يعجز عنه.
القسم الثالث: مَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُهُ عَمَلُهُ بِنَفْسِهِ،
وَلَا يَتَرَفَّعُ عَنْهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ؟
فقيل: لَا يَجُوزُ.
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ.
لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ، وَلَا تَضَمَّنَهُ إذْنُهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ نَهَاهُ، وَلِأَنَّهُ اسْتِئْمَانٌ فِيمَا يُمْكِنُهُ النُّهُوضُ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ لِمَنْ لَمْ يَأْمَنْهُ عَلَيْهِ، كَالْوَدِيعَةِ.
وقيل: يجوز.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. (المغني).
(وَمَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ لَم يَبِعْ وَلَمْ يَشْتَرِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ).
أي: إذا وُكّل في بيع أو شراء فليس له أن يبيع أو يشتري لنفسه ولا لأصوله ولا لفروعه.
مثال ذلك: وكلت إنساناً أن يبيع البيت، قلت: وكلتك في بيع بيتي، باعه على ابنه، فإنه لا يصح البيع.
العلة:
لأنه متهم في حقهم، فربما أرخص لهم، وحاباهم على حساب من وكّله.
فائدة:
يستثنى من ذلك:
الأولى: إذا كان البيع في المزايدة وانتهى الثمن على ولده أو نفسه فإن البيع يصح؛ لأنه ليس فيه تهمة.
الثانية: إذا حدد الموكل الثمن للوكيل وقال: بعها، قال: بكم أبيعها؟ قال: بعها بعشرة آلاف، وباعها على ولده بعشرة آلاف، فهذا يجوز؛ لأن الموكل حدد الثمن، فهو لا يريد أكثر من ذلك، فيصح أن يبيعها على ولده لانتفاء التهمة حينئذ.
(وإِنْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ أَوْ دُونِ ما قَدَّرَهُ لَهُ صَحَّ وَضَمِنَ النَّقْصَ).
هذه عدة مسائل يصح فيها تصرف الوكيل، ويضمن مع ذلك النقص والزيادة.
أولاً: إذا باع الوكيل السلعة بدون ثمن المثل، ولم يحدّد الموكل ثمناً يبيع به.
فالبيع صحيح، ويضمن الوكيل النقص.
مثال: وكّل في بيع سيارة تساوي (50) ألفاً، فباعها بـ (40) ألفاً.
فالبيع صحيح ويضمن الوكيل النقص.
فائدة:
إذا كان النقص مما جرى العرف التغابن فيه، فالبيع صحيح ولا يضمن.
وكل في بيع سيارة تساوي (50) ألفاً فباعها بـ (49500) فهنا لا يضمن.
لأن الناس يتغابنون في الأمور اليسيرة، ويشق التحرز منه.
ثانياً: إذا باع دون ما قدّر له.
مثال: قال الموكل: بع الأرض بمائة، فباعها بتسعين.
فالبيع صحيح ويضمن الوكيل الباقي، ولو كان مما يتغابن به عادة، لأنه ليس له أن يبيع دون ما قدر له.
(وإن اشترى ما لم يأذن له فيه وقِفَ على الإجازة وإلا لزمه).
أي: وإن اشترى الوكيل شيئاً لم يأذن له فيه الموكل، فإن الشراء صحيح، ويكون موقوفاً على إجازة الموكل، فإن أجازه صح ولزم الموكل، وإن لم يجزه لزم الوكيل، لأن الشراء صدر منه، ولا يلزم الموكل، لأنه لم يأذن في شرائه.
وقيل: أن الشراء باطل.
وهو قول الشافعية.
وقيل: أن الشراء صحيح، ويكون للوكيل لا للموكل.
وهذا قول الحنفية، والمالكية.
(ولو قال: بع هذا بعشرة فما زاد فلك صح).
أي: يصح وله (للوكيل) الزيادة.
قال ابن قدامة: إذَا قَالَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشْرَةٍ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ لَك، صَحَّ، وَاسْتَحَقَّ الزِّيَادَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ.
وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ بِإِذْنِهِ، فَصَحَّ شَرْطُ الرِّبْحِ لَهُ فِي الثَّانِي، كَالْمُضَارِبِ وَالْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ. (المغني)
لكن هل يلزم أن يخبر الموكل بثمن المبيع؟ لا يلزم.
وهل يلزم أن يخبر المشتري بسعرها الذي حدده الموكل؟ قولان:
قيل: يلزم، وقيل: لا يلزم، وهو الصحيح.
(والوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده إلا بتفريط أو تعدٍ).
الوكيل أمين، فلا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.
والأمين هو: كل من كان المال بيده بإذن من الشارع أو بإذن من المالك فهو أمين، ومن كان في يده بغير إذن من الشارع أو من المالك فليس بأمين.
والوكيل أمين؛ لأن العين حصلت بيده بإذن من الموكِّل، ومتى ترتفع الأمانة؟
ترتفع الأمانة إذا تعدى أو فرط، وصارت يده غير أمينة.
التعدي: أن يفعل ما لا يجوز.
التفريط: أن يترك ما يجب.
مثال آخر: الوكيل وكله في شراء ساعة، واشترى الساعة، ثم وضعها في بيته على رف يتناوله الصبيان، فأخذ الصبيان الساعة وخرَّبوها، فإنه يضمن؛ لأنه فرَّط.
مثال آخر: وكلته أن يشتري لي ساعة فاشتراها، ثم إنه نسي ساعته في البيت فوضع الساعة التي اشتراها لي في يده ـ يعني استعملها ـ فجاءها شيء وكسرها، فإنه يضمن؛ لأن هذا من التعدي.
مثال آخر: اشترى الساعة ووضعها في رف عال لا يتناوله الصبيان، ولكن أحد الصبيان كان بذيّاً، أتى بسلم، وصعد على الرف وأخذ الساعة وكسرها، فهنا لا يضمن؛ لأن هذا ليس تعدياً ولا تفريطاً، إذ إنه جرت العادة أن الناس يحفظون مثل الساعة وشبهها في الرفوف العالية عن الصبيان، وهذا الصبي خرج عن العادة.
فعلى كل حال، إذا تلف الشيء الذي تحت يده بتعدٍّ أو تفريط فهو ضامن، وبلا تعدٍّ ولا تفريط فهو غير ضامن. (الشرح الممتع).
(وتبطل بموت أحدهما).
هذه مبطلات الوكالة:
موت أحدهما. أي: إذا مات الوكيل أو الموكّل بطلت الوكالة.
لأنها تعتمد على الحياة، فإذا انتفت انتفت صحتها، لانتفاء ما تعتمد عليه وهو أهلية التصرف.
لأنه إذا مات الموكل انتقل المال إلى ورثته، فلابد من تجديد الوكالة إذا شاؤوا أن يستمروا مع الوكيل، أما الوكيل فتبطل بموته، لأن الموكل إنما رضيه بعينه، فإذا مات فإن المعقود عليه قد زال وفات، فتبطل بذلك الوكالة.
(وجنونه).
أي: وتبطل بجنون أحدهما.
لأن المجنون ليس أهلاً للتصرف.
(وبفسخ أحدهما).
أي: بفسخ الوكيل أو الموكل لها.
وقد تقدم أن هذا مقيد بما إذا لم يكن يتضمن الفسخ ضرراً.
فائدة:
اختلف العلماء: لو تصرف الوكيل قبل أن يعلم بفسخه.
مثاله: وكلت هذا الرجل على أن يبيع بيتي، ثم في اليوم الثاني أشهدت رجلين أني فسخت وكالته، ثم باع البيت في اليوم الثالث ولم يعلم بالفسخ.
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه لا ينفذ تصرفه، والبيع باطل.
وهذا مذهب الشافعي، والحنابلة، واختاره ابن تيمية.
وعلى هذا القول فالبيع غير صحيح، لأنه فسخ الوكالة قبل البيع.
القول الثاني: أن تصرفه نافذ.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
قالوا: لأن تصرفه مستند إلى إذن سابق لم يعلم بإزالته فكان تصرفاً صحيحاً. (لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان) فالأصل بقاء الوكالة.
ب- أنه لم يصدر منه تفريط، وإنما التفريط من الموكل الذي لم يبلغه.
ج- أن الوكيل يتصرف بأمر الموكل ولمصلحته، وعزله قبل علمه حل للعقد، فلا يثبت في حقه قبل علمه كالنسخ، لا يثبت في ذمة المكلف إلا بعد العلم.
د- أن في القول بعزله إضراراً به، لأنه قد يتصرف بعد عزله بما يوجب الضمان، والضرر يزال.
هـ- أن الوكيل محسن، ولا يكون جزا المحسن الإساءة بتحميله الضمان.
وهذا القول هو الصحيح.
باب الشركة
تعريفها:
اجتماع في تصرف.
يعني أن يتعاقد شخصان في شيء يشتركان فيه. (وتسمى هذه شركة عقود).
(وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع).
قال تعالى (وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض .. ).
وقال سبحانه (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء).
وقال صلى الله عليه وسلم (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان خرجت من بينهما) رواه أبوداود.
(وهي خمسة أنواع)
أي: أن الشركة خمسة أنواع، ودليل ذلك التتبع والاستقراء.
(أحدها: شركة العِنان، وهي أن يشترك اثنان فأكثر في مال يتجران فيه، ويكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه).
هذه النوع الأول من أنواع الشركات: شركة العنان.
وهي أن يشتركان اثنان فأكثر في مال يتجران فيه ويكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه.
مثال ذلك: اثنان اشتركا في فتح محل تجاري لبيع المواد الغذائية هذا أحضر مالاً وهذا أحضر مالاً، وشرعا يعملان فيه بالبيع والشراء .. إلخ، فهذه نقول بأنها شركة عنان.
فائدة: 1
وهذا النوع من الشركات جائز باتفاق الفقهاء.
وقد ورد في جوازها أدلة تقريرية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والتقرير أحد وجوه السنة.
فقد ورد عن سليمان بن أبي مسلم قال (سألت أبا المنهال عن الصرف يداً بيد، فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئاً يداً بيد، ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه، فقال: فعلتُ أنا وشريكي زيد بن أرقم، وسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ما كان يداً بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه) رواه البخاري.
مثال: رجل عنده (100) ريال، وآخر عنده (100)، فاتفقا على أن يفتحا محلاً لهذا المال، وصار كل واحد منهما يعمل بهذا المحل
فائدة: 2
- سميت بذلك: إما من عَنَّ يعِن بكسر العين وضمها:
إذا ظهر أمامك، وذلك لظهور مال كل من الشريكين لصاحبه.
وإما من العِنان: وهو سير اللجام الذي تمسك به الدابة، والفارسان إذا تساويا في السير، فإن عنانيهما يكونان سواء.
أو أخْذاً من عنان الدابة المانع لها من السير، لمنع كل من الشريكين من التصرف بغير مصلحة.
فائدة: 3
هذا النوع هو السائد بين الناس: لأنه لا يشترط فيها المساواة لا في المال ولا في التصرف،
فيجوز أن يكون أحد الشريكين أكثر من الآخر.
فائدة: 4
ويكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه.
لأنه يرجع إلى العمل، والخبرة، والثقة، والسمعة ونحو ذلك، وهذا يختلف باختلاف الناس، قد يكون هذا الرجل ممن يثق به الناس لخبرته وجودته ونحو ذلك، فيشترط أن له ثلاثة أرباع الربح.
فلو قال أحدهما، لي ثلاثة أرباع الربح ولك الربع، جاز.
فائدة: 5
يشترط أن يكون المال معلوماً ولو متفاوتاً.
أي: المال الذي يدفعه كل واحد من الشريكين لابد أن يكون معلوماً، قدره ووصفه.
لأن المجهول لا يمكن الرجوع إليه عند الفسخ.
- قوله (ولو متفاوتاً) يعني بعضه أكثر من بعض.
مثال ذلك: إنسان شارك بألف، وإنسان بخمسمائة ريال.
فائدة: 6
وأن يشترطا لكل منهما جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً.
(المشاع: كالربع، والثلث).
كأن يقول: لي ربع الربح ولك ثلاث أرباع يصح.
أو قال: الربح بيننا فإنه يصح، أو قال: لي ثلث الربح ولك الثلثان.
فإن قال أحدهما لك من الربح (100) درهم، فإنه لا يصح، لأنه ربما لا تربح إلا هذا الربح فيبقى الثاني لا ربح له.
(معلوماً) احترازاً من المجهول، كما لو قال: ولك شيء من ربحه، فلا يصح.
فائدة: 7
إن لم يذكرا الربح فإنه لا يصح، لأمرين:
الأمر الأول: أن الربح هو المقصود في الشركة فلا يجوز الإخلال به.
الأمر الثاني: أن عدم ذكر الربح يبقى مجهولاً، وهذا يؤدي إلى النزاع.
فائدة: 8
ينفذ تصرف كل واحد منهما بالمالين:
بحكم الملك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه.
فائدة: 9
والخسارة على قدر المال.
بخلاف الربح، فعلى ما شرطاه.
مثال: جاء أحدهما بـ {200} والآخر {100} وخسرا، وعند التصفية أصبح المال {150} ، فيكون على صاحب {200} خسارة {100} وعلى صاحب {100} خسارة {50} .
(والثاني: المضاربة، وهي أن يدفع أحدهما إلى الآخر مالاً يتجر فيه ويشتركان في ربحهِ).
فشركة المضاربة: دفع مال معلوم لمن يتجر به بجزء معلوم من ربحه.
مثال: أعطى عمر زيداً {100} ريال ليتجر بها على أن يكون الربح بينهما.
فائدة: 1
حكمها: جائزة بالإجماع.
قال ابن قدامة: وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة.
وقال ابن رشد: ولا خلاف بين المسلمين في جواز القراض.
وقال ابن القيم: وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام، فضارب أصحابه في حياته وبعد موته، وأجمعت الأمة عليها.
والناس بحاجة إلى هذه الشركة، حيث أن الأموال لا تنمو إلا بالتنقيب والتجارة وليس كل من يملكها يحسن العمل بها، وكذلك هناك من يحسن العمل لكن لا مال له فكانت الحاجة لصالح الطرفين.
فائدة: 2
ولا يضارب العامل بمال لآخر إلا بشرطين:
الأول: إن رضي الأول.
الثاني: إن لم يضر بالأول.
مثال: أعطيتك مبلغاً من المال على أن تتجر به بالكتب، فأخذتها وضاربت، ثم عقد هذا الرجل عقد مضاربة مع رجل آخر في نفس السلعة، فهذا العقد يضر بالأول، لأن السلعة إذا كثرت رخصت.
لكن إن رضي الأول جاز.
فائدة: 3
من شروط المضاربة معرفة الربح.
(معرفة نصيب كل واحد منهما)، وأن يكون مشاعاً.
قال ابن قدامة: وَمَنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ تَقْدِيرُ نَصِيبِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْطِ، فَلَمْ يُقَدَّرْ إلَّا بِهِ. (المغني).
إن قال رب المال اتجر به والربح بيننا فنصفان.
وإن قال اتجر به ولي ثلاثة أرباع أو الثلث صح، لأنه متى علم نصيب أحدهما أخذه والباقي للآخر.
قال ابن قدامة: ويشترط تقدير نصيب العامل، ونصيب كل واحد من الشريكين في الشركة بجزء مشاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها، والمضاربة في معناها.
فإن قال: خذه مضاربة والربح بيننا؟
صح وهو بينهما نصفين؛ لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة من غير ترجيح لأحدهما، فاقتضى التسوية، كقوله: هذه الدار بيني وبينك، وإن قال: على أن لك ثلث الربح، صح، والباقي لرب المال؛ لأنه يستحقه، لكونه نماء. (الكافي).
وقال في المغني: وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ مُضَارَبَةً، وَلَك جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ، أَوْ شَرِكَةٌ فِي الرِّبْحِ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ، أَوْ نَصِيبٌ أَوْ حَظٌّ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ إلَّا عَلَى قَدْرٍ مَعْلُومٍ.
وَإِنْ قَالَ: خُذْهُ، وَلَك مِثْلُ مَا شَرَطَ لِفُلَانٍ. وَهُمَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ.
صَحَّ؛ لِأَنَّهُمَا أَشَارَا إلَى مَعْلُومٍ عِنْدَهُمَا.
وَإِنْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِهِ، أَوْ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدُهُمَا، فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ.
…
(المغني).
وقال ابن حزم: ولا يجوز القراض إلا بأن يسميا السهم الذي يتقارضان عليه من الربح، كسدس، أو ربع، أو ثلث، أو نصف، ويبينا ما لكل واحد منهما من الربح.
فائدة: 4
تصح المضاربة مؤقتة:
بأن يقول رب المال: ضاربتك على هذه الدراهم أو الدنانير سنة، فإذا مضت السنة فلا تبع ولا تشتر.
فائدة: 5
المضاربة بالدين:
وهو ما إذا كان لرجل على آخر دين، فيقول له: ضارب بالدين الذي عليك، لم يصح.
قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافاً.
…
(المغني).
وذلك لعدم حضور المال، ولأن المال الذي في يد المدين له، وإنما يصير لغريمه بقبضه، ولم يقبضه.
فائدة: 6
إن فسدت شركة المضاربة:
فقيل: المال كله لرب المال، وللعامل أجرة المثل، وقيل: أن للعامل سهم المثل، فيقال: لو اتجر الإنسان بهذا المال كم يعطى في العادة؟ فقالوا - مثلاً - يعطى نصف الربح، فيكون له نصف الربح، وهكذا، وهذا القول هو الصحيح، لأن العامل إنما عمل على أنه شريك لا على أنه أجير.
فائدة: 7
من شرطها أن يكون رأس المال معلوماً للعاقدين.
قال ابن قدامة: وَمَنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا وَلَا جُزَافًا.
فائدة: 8
هل يجوز أن يكون رأس مال المضاربة من العروض؟
قيل: لا يجوز.
قال الماوردي: لا يصح القراض إلا بالدراهم والدنانير دون العروض والسلع، وبه قال جمهور الفقهاء.
وقيل: يجوز.
وهو قول طاووس والحسن والأوزاعي. لعدم الدليل المانع.
فائدة: 9
قال ابن قدامة: ويصح أن يشرط على العامل أن لا يسافر بالمال،
ولا يتجر به إلا في بلد بعينه، أو نوع بعينه أو لا يعامل إلا رجلاً بعينه؛ لأنه إذن في التصرف فجاز ذلك فيه كالوكالة.
…
(الكافي).
وقال في المغني: وَالشُّرُوطُ فِي الْمُضَارَبَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ، فَالصَّحِيحُ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِالْمَالِ، أَوْ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ، أَوْ لَا يَتَّجِرَ إلَّا فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ نَوْعٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ لَا يَشْتَرِيَ إلَّا مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ.
فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ كَانَ النَّوْعُ مِمَّا يَعُمُّ وُجُودُهُ، أَوْ لَا يَعُمُّ، وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَكْثُرُ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ أَوْ يَقِلُّ. (المغني).
فائدة: 10
العامل في المضاربة أمين.
قال ابن قدامة: وَالْعَامِلُ أَمِينٌ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، لَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ، فَكَانَ أَمِينًا، كَالْوَكِيلِ.
فائدة: 11
مبطلات المضاربة:
جاء في كشاف القناع: وإذا مات أحد المتقارضين أو جن جنوناً مطبقاً أو توسوس بحيث لا يحسن التصرف
…
انفسخ القراض.
فائدة: 12
قال ابن قدامة: إذَا تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ الشِّرَاءِ انْفَسَخَتْ الْمُضَارَبَةُ
؛ لِزَوَالِ الْمَالِ الَّذِي تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِه.
(الثالث: شركة الوجوه، أن يشتريا في ذِمَّتَيْهِما بجاهِهما فما ربحا فبينهما).
وهي شركة تقوم على اشتراك رجلين أو أكثر ولا مال لهم على أن يشتروا بوجوههم.
فائدة: 1
سميت بذلك: لبنائها على وجاهة كل منهما ومكانته عند الناس.
فائدة: 2
حكمها: جائزة.
وهذا مذهب الحنفية والحنابلة.
وذهب بعض العلماء: إلى عدم صحتها.
فائدة: 3
تبطل بموت أحد الشريكين.
فائدة: 4
ويكون الربح بينهما على ما اشترطاه من تساو أو تفاضل،
لأن أحدهما قد يكون أوثق عند التجار.
فائدة: 5
والوضيعة على قدر المال،
وهذا في جميع الشركات كما تقدم.
قال ابن قدامة: وحكمها في جواز ما يجوز لكل واحد منهما، أو يمنع منه حكم شركة العنان.
(الرابع: شركة الأبدان، وهي أن يشتركا فيما يكتَسِبان بأبدانِهِما).
وهذه الشركة عادة تكون بين الحدادين والنجارين وأمثالهم ممن يعملون بالبدن.
فائدة: 1
تصح مع اختلاف الصنائع.
كحداد ونجار مثلاً.
فائدة: 2
إن مرض أحدهما فالكسب الذي عمله أحدهما بينهما.
لأن الأصل الشركة.
وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه.
لأنهما دخلا على أن يعملا، فإذا تعذر عليه العمل بنفسه لزمه أن يقيم مقامه.
فائدة: 3
يشترط في شركة الأبدان أن يكون نصيب كل واحد ومقداره معلوماً لهما،
وهذا الشرط لا بد منه في جميع الشركات، فليس مختصاً في شركة الأبدان.
ويشترط أن يكون نصيب كل واحد منهما شائعاً كالنصف أو الثلث أو الربع.
فائدة: 4
قال ابن قدامة: وَإِنْ دَفَعَ رَجُلٌ دَابَّتَهُ إلَى آخَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهَا،
وَمَا يَرْزُقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا أَوْ كَيْفَمَا شَرَطَا، صَحَّ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ وَأَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ.
وَنُقِلَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. (المغني).
باب المساقاة
وسيأتي تعريفها إن شاء الله.
(وهي جائزة بالسنة)
عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ زَرْعٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: فَسَأَلُوا أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ اَلثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا "، فَقَرُّوا بِهَا، حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ -.
وَلِمُسْلِمٍ: (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَهُ شَطْرُ ثَمَرِهَا).
فقوله (من ثمر) هذه مساقاة، وقوله (أو زرع) هذه مزارعة.
فجمهور العلماء على جوازها.
قال ابن رشد: أما جوازها - يعني المساقاة - فعليه جمهور العلماء مالك، والشافعي، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، وأحمد، وداود.
…
(بداية المجتهد).
وقال الماوردي: والمساقاة حكمها جائزة، لا يعرف خلاف بين الصحابة والتابعين في جوازها، وهو قول الفقهاء إلا أبا حنيفة دون أصحابة، فإنه تفرد بإبطالها.
للحديث السابق، وجاء في بعض الروايات (أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض من الثمرة).
وفي رواية للبخاري (أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها).
فقوله (أن عملوها) يراد به المساقاة، حيث يطلق أهل المدينة على المساقاة المعاملة.
وقوله (أن يزرعوها) يراد بها المزارعة، فالحديث جمع بين عقدي المساقاة والمزارعة.
(وهي دفع شجر لمن يقوم بمصالحه بجزء من ثمره).
هذا تعريف المساقاة.
فالمساقاة: لغة مشتقة من السقي لأن السقي هو أهم الأعمال الذي يستفيد منها التمر.
وتعريفها: أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمره مشاع.
مثال: إنسان عنده أرض وعليها أشجار من نخيل وأعناب ورمان وغيرها، فأعطاها شخصاً ينميها بجزء من الثمرة.
والمزارعة: مأخوذة من الزرع، وهي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم مما يخرج منها.
مثالها: إنسان عنده أرض بيضاء وليس فيها زرع، فأعطاها فلاحاً يزرعها وله نصف الزرع - مثلاً - فهذا يجوز.
فائدة: 1
جاء في (كشاف القناع) وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ بِلَفْظِ مُسَاقَاة
لِأَنَّهُ لَفْظُهَا الْمَوْضُوعُ لَهَا، و بِلَفْظِ مُعَامَلَةٍ وَمُفَالَجَةٍ، وَاعْمَلْ بُسْتَانِي هَذَا حَتَّى تَكْمُلَ ثَمَرَتُهُ وَبِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهَا، لِأَنَّ الْقَصْدَ الْمَعْنَى، فَإِذَا دَلَّ عَلَيْهِ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ صَحَّ كَالْبَيْعِ.
فائدة: 2
جاء في (كشاف القناع) وَتَصِحُّ هِيَ،
أَيْ الْمُسَاقَاةُ بِلَفْظِ إجَارَةٍ، فَلَوْ قَالَ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَعْمَلَ لِي فِي هَذَا الْحَائِطِ بِنِصْفِ ثَمَرَتِهِ أَوْ زَرْعِهِ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْمَعْنَى وَقَدْ وَجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ.
وقال ابن قدامة: وَإِنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك لِتَعْمَلَ لِي فِي هَذَا الْحَائِطِ، حَتَّى تَكْمُلَ ثَمَرَتُهُ، بِنِصْفِ ثَمَرَتِهِ.
فَفِيهِ وَجْهَانِ: وَالثَّانِي يَصِحُّ.
وَهُوَ أَقِيسُ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْمَعْنَى، فَصَحَّ بِهِ الْعَقْدُ، كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا. (المغني).
(ويشترط أن يكون على ثمر يؤكل).
هذا الشرط الأول: أن يكون الشجر له ثمر يؤكل وينتفع به، كالنخل، والعنب، والرمان ونحوها.
فإن لم يكن له ثمر كالأثل، لم يصح، وللعامل أجرة المثل، لأن المساقاة إنما تكون بجزء من الثمرة، وهذا لا ثمرة له.
وكذا لو كان له ثمر غير مأكول، كالصنوبر والقرظ.
قال ابن قدامة: وَأَمَّا مَا لَا ثَمَرَ لَهُ مِنْ الشَّجَرِ، كَالصَّفْصَافِ وَالْجَوْزِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لَهُ ثَمَرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ، كَالصَّنَوْبَرِ وَالْأَرْزِ، فَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.
وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إنَّمَا تَكُونُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَهَذَا لَا ثَمَرَةَ لَهُ.
…
(المغني).
وقيل: يصح على شجر ليس له ثمر. وحينئذ يقدر للعامل أجرة المثل.
ويصح أيضاً أن يكون ليس بمأكول.
(بجزء مشاع معلوم منها).
هذا الشرط الثاني: أن تكون المساقاة بجزء من الثمر مشاع معلوم، كالربع، والثلث، والنصف.
لحديث ابن عمر السابق (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع).
والمراد بالشطر هنا: النصف.
لو قال: لي ثمرة هذا العام، ولك ثمرة العام القادم، لا يصح.
لو قال: لي ثمرة الجانب الشرقي، ولك ثمرة الجانب الغربي، لا يصح.
لو قال: للعامل 100 صاع، لا يصح.
إن قال: ساقيتك على أن لك الثلث، فإنه يجوز، ويكون لصاحب الأرض الثلثان.
فإذا عين حق أحدهما فالباقي للآخر.
قال ابن قدامة: الْمُسَاقَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ الثَّمَرَةِ مُشَاعٍ، كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: عَامَلَ أَهْلَ، خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَسَوَاءٌ قَلَّ الْجُزْءُ أَوْ كَثُرَ،
…
وَإِنْ شَرَطَ لَهُ ثَمَرَ نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ لَا تَحْمِلُ، فَتَكُونُ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ لَا تَحْمِلُ غَيْرُهَا، فَتَكُونُ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْعَامِلِ.
…
(المغني).
(وهي عقد جائز).
وهذا مذهب الحنابلة.
أ- لحديث ابن عمر السابق (
…
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا).
وجه الدلالة: أنه لو كان لازماً لم يجز بغيره تقدير مدة، ولا يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم.
ب- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة، ولو قدر مدة لم يترك نقله، لأن هذا مما يحتاج إليه، وعمر أجلاهم من الأرض وأخرجهم من خيبر، ولو كانت لهم مدة مقدرة لم يجز إخراجهم منها.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها عقد لازم.
وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، واختيار ابن تيمية.
أ- لأنه عقد معاوضة فكان لازماً كالإجارة.
ب-أنه لو كان جائزاً لجاز لرب المال فسخهما إذا أدركت الثمرة فيسقط حق العامل فيستضر.
ج-أن الوفاء بالوعد واجب وإخلافه محرم، فإذا عقد معه على سنة لزمه الوفاء به من باب الوفاء بالشروط وهو واجب.
وهذا القول هو الراجح.
وعلى هذا القول:
لا يمكن لأحدهما الفسخ، فإن يقدر على العامل العمل لمرض أو نحوه، فإنه يقسم، ويقوم مقامه على حسابه.
(وعلى كلٍ منهما ما جرت العادة به).
أي: وعلى كل من العامل وصاحب الأرض ما جرت العادة به، لأنه لم يرد فيه نص (بأن على العامل كذا وعلى صاحب الأرض كذا) فيكون المرجع فيه إلى العرف، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
فائدة: 1
العرف يدل على أن على العامل الحرث والسقي والتسميد وقطع الأغصان الرديئة، وإصلاح طرق الماء ونحو ذلك.
وعلى رب المال ما يحفظ الأصل كبناء حائط، أو بناء ما انهدم منه، وحفر البئر، وإحضار آلة رفع الماء.
فما يلزم العامل ورب الأرض مما ليس فيه نص، فيرجع فيه إلى العرف، فما تعارف عليه الناس أنه من اختصاص العامل لزمه، أو من اختصاص رب الأرض لزمه، فإن لم يكن هناك عرف معلوم فعلى ما تشارطاه.
فائدة: 2
أقل مدة للمساقاة.
قال ابن قدامة: فَأَمَّا أَقَلُّ الْمُدَّةِ، فَيَتَقَدَّرُ بِمُدَّةٍ تَكْمُلُ الثَّمَرَةُ فِيهَا، فَلَا يَجُوزُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الثَّمَرَةِ، وَلَا يُوجَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُدَّةٍ لَا تَكْمُلُ فِيهَا الثَّمَرَةُ، فَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةٌ.
(وكذا المزارعة بجزء من الزرع معلوم).
تقدم أن المزارعة مأخوذة من الزرع.
وتعريفها: دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم مما يخرج منها.
مثالها: إنسان عنده أرض بيضاء وليس فيها زرع، فأعطاها فلاحاً يزرعها وله نصف الزرع - مثلاً - فهذا يجوز.
فقوله (بجزء) هذا شرط خرج به ما لو دفع الأرض لمن يزرعها مجاناً، فهذه لا تسمى مزارعة؛ لأن الزرع كله للعامل.
مثال ذلك: رجل عنده أرض، وله صديق عاطل، فقال له: يا فلان خذ أرضي، وازرعها واسترزق الله بها، بدون أي سهم لصاحب الأرض، فهذه لا تسمى مزارعة، وإنما هي منحة منحها صاحب الأرض لمن يعمل فيها فلا تصح مزارعة؛ لأن المزارعة نوع من المشاركة، لكنها تبرع.
وقوله (من الزرع) أي: مما يخرج من الأرض، فإن أعطاه إياها بجزء أو بشيء معلوم مما لا يخرج من الأرض، فليست مزارعة بل هي إجارة، مثل أن يقول: خذ هذه الأرض ازرعها بمائة صاع من البر فهذا يصح، لكن يكون إجارة.
لأنني لم أقل: بمائة صاع مما يخرج منها، بل مائة صاع من البر، فالعوض الآن ثابت في الذمة، ليس ناتجاً من عمل هذا المزارع، بل هو ثابت في الذمة حتى وإن لم يزرعها يلزمه مائة صاع.
وقوله (معلوم) خرج به المجهول، فلو قال: خذ هذه الأرض مزارعة ببعض الزرع، فهذا لا يجوز؛ لأن البعض مجهول، فلا بد أن يُحَدِّد.
وأيضاً لا بد أن يكون معلومَ النسبة يعني أن علمه نسبي، وليس بالتعيين، فالنسبة أن يقول: ربع، ثلث، عُشر، وما أشبه ذلك، احترازاً من المعلوم بالتعيين، والمعلوم بالتعيين لا تصح معه المزارعة، مثل أن يقول: لك الجانب الشرقي من الأرض، ولي الجانب الغربي، فهذا لا يجوز؛ لأنه قد يسلم هذا ويهلك هذا أو بالعكس. (الشرح الممتع).
عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ (سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنْ كِرَاءِ اَلْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ? فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ اَلنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ اَلْجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنْ اَلزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قال ابن قدامة: وَإِنْ زَارَعَهُ عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعًا بِعَيْنِهِ، وَلِلْعَامِلِ زَرْعًا بِعَيْنِهِ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ لِأَحَدِهِمَا زَرْعَ نَاحِيَةٍ، وَلِلْآخَرِ زَرْعَ أُخْرَى، أَوْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا مَا عَلَى السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِلِ، إمَّا مُنْفَرِدًا، أَوْ مَعَ نَصِيبِهِ، فَهُوَ فَاسِدٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ صَحِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، غَيْرُ مُعَارَضٍ وَلَا مَنْسُوخٍ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَلَفِ مَا عُيِّنَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْغَلَّةِ دُونَ صَاحِبِهِ. (المغني)
(ولا يشترط كون البذر من رب الأرض).
اختلف العلماء في هذه المسألة: هل يشترط أن يكون البذر من رب الأرض أم لا على قولين:
القول الأول: أنه يشترط.
وهذا المذهب، وهو مذهب الشافعية.
قالوا: قياساً على المضاربة، فكما أنه في المضاربة يكون العمل من شخص، والمال من شخص، فكذلك المزارعة.
القول الثاني: أنه لا يشترط، فيجوز من رب الأرض ويجوز من العامل.
ورجح هذا القول ابن قدامة، وابن القيم.
لحديث ابن عمر السابق (أنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر
…
) ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم البذر على المسلمين.
قال ابن تيمية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، على أن يعمروها من أموالهم، فكان البذر من عندهم.
وقد ذكر ابن القيم أن الحديث دليل على عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض، وإنما يجوز أن يكون من العامل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينقل البذر إليهم من المدينة قطعاً.
قال ابن القيم: والذين اشترطوا البذر من ربّ الأرض قاسوها على المضاربة، وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة الصحيحة وأقوال الصحابة، فهو من أفسد القياس، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح، فهذا نظير الأرض في المزارعة، وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه، بل يذهب نفع الأرض، فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي
…
وحديث ابن عمر: (أن النبي عامل أهل خيبر
…
) ولم يذكر البذر على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو الراجح.
باب الإجارة
تعريفها:
لغة: مشتقة من الأجر وهو العوض. قال تعالى (لو شئت لاتخذت عليه أجراً).
وشرعاً: عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم.
(وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع).
أي: أن الإجارة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
وقال تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ اَللَّهُ عز وجل ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اِسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ) رَوَاهُ البخاري.
وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدله الطريق في سفره للهجرة.
عن عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (
…
وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ، هَادِياً خِرِّيتاً وَهْوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) رواه البخاري.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ فَقَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ) رواه البخاري.
- قال في المغني: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَكُلِّ مِصْرٍ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ، إلَّا مَا يُحْكَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصَمِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ، يَعْنِي أَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَى مَنَافِعَ لَمْ تُخْلَقْ وَهَذَا غَلَطٌ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي سَبَقَ فِي الْأَعْصَارِ، وَسَارَ فِي الْأَمْصَار.
(وهي عقد على المنافع).
أي: أن الإجارة عقد على المنفعة لا على العين، فالمستأجر يملك المنفعة.
- الإجارة ضربان:
الأول: الإجارة على العين يستوفي منافعها.
كأجرتك هذه الدار سنة.
الثاني: الإجارة على عمل، وهي عقد على عمل معلوم يقوم به العامل.
كحمل هذا المتاع إلى مكان كذا، أو بناء هذا الجدار ونحو ذلك.
(وتصح بأي لفظ دل عليها).
جاء في (الموسوعة الفقهية) جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الإْجَارَةَ تَنْعَقِدُ بِأَيِّ لَفْظٍ دَالٍّ عَلَيْهَا، كَالاِسْتِئْجَارِ وَالاِكْتِرَاءِ وَالإْكْرَاءِ. وَتَنْعَقِدُ بِأَعَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِكَذَا؛ لأِنَّ الْعَارِيَّةَ بِعِوَضٍ إِجَارَةٌ. كَمَا تَنْعَقِدُ بِوَهَبْتُكَ مَنَافِعَهَا شَهْرًا بِكَذَا، وَصَالَحْتُكَ عَلَى أَنْ تَسْكُنَ الدَّارَ لِمُدَّةِ شَهْرٍ بِكَذَا، أَوْ مَلَّكْتُكَ مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ سَنَةً بِكَذَا، أَوْ عَوَّضْتُكَ مَنْفَعَةَ هَذِهِ الدَّارِ سَنَةً بِمَنْفَعَةِ دَارِكَ، أَوْ سَلَّمْتُ إِلَيْكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فِي خِيَاطَةِ هَذَا، أَوْ فِي دَابَّةٍ صِفَتُهَا كَذَا، أَوْ فِي حَمْلِي إِلَى مَكَّةَ، فَيَقُول: قَبِلْتُ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الأْلْفَاظَ لَمْ تُوضَعْ فِي اللُّغَةِ لِذَلِكَ، لَكِنَّهَا أَفَادَتْ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ.
…
(الموسوعة).
(تصح بثلاثة شروط: معرفة المنفعة).
هذا الشرط الأول: أن تكون المنفعة المعقود عليها معلومة للطرفين.
أ-لأنها المعقود عليها فاشترط العلم كالمبيع.
ب- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.
ج - ولأن المستأجر والمؤجر بين غانم وغارم.
مثال: استأجرت منك هذا البيت للسكنى، يصح.
مثال: استأجرتك أن تدلني على طريق مكة، يصح.
(وأن تكون مباحة).
هذا الشرط الثاني: أن تكون هذه المنفعة مباحة.
فلا تصح على نفع محرم كالزنا، والغناء، وجعل داره كنيسة، أو لبيع الخمر، أو استأجر رجلاً للغناء، أو تأجير المحلات لأشياء محرمة، مثل بيع آلات اللهو، أو بيع الأشرطة الفاسدة.
أ- لقوله تعالى (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
ب- ولأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.
ج- ولأن المنفعة المحرمة مطلوب إزالتها، والإجارة تنافيها، فلم تصح.
(ومعرفة أجرة).
هذا الشرط الثالث: أن تكون الأجرة معلومة.
وهو العوض المأخوذ على المنافع.
جاء في (الموسوعة الفقهية) الأْجْرَةُ هِيَ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ عِوَضًا عَنِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَمَلَّكُهَا. وَكُل مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً فِي الإْجَارَةِ. (الموسوعة).
قال في المغني: لا نعلم فيه خلافاً.
وذلك لأنه عوض في عقد معاوضة فوجب أن يكون معلوماً كالبيع.
وقد جاء في حديث: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اِسْتَأْجَرَ أَجِيراً، فليُعْلمْه أجره) رَوَاهُ عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ.
فلو استأجرت منك هذا البيت ببعض ما في يدي من الدراهم لم يصح.
لو استأجرت منك هذا البيت بما تلده هذه الفرس لم يصح.
فائدة: 1
الإجارة الواردة على منفعة يشترط أن تكون المدة معلومة؟
قال في الإنصاف: ويشترط كون المدة معلومة بلا نزاع في الجملة.
وقال في المغني: الْإِجَارَةِ إذَا وَقَعَتْ عَلَى مُدَّةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ هِيَ الضَّابِطَةُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، الْمُعَرِّفَةُ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، كَعَدَدِ الْمَكِيلَاتِ فِيمَا بِيعَ بِالْكَيْلِ.
لأن عدم تحديد المدة يؤدي إلى الغرر والجهالة المفضية إلى المنازعة.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.
ولأن الأجرة تختلف باختلاف المدة فوجب العلم بها.
فائدة: 2
جاء في (الموسوعة الفقهية) وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا لِلاِنْعِقَادِ الْعَقْل،
فَلَا تَنْعَقِدُ الإْجَارَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَلَا مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، فَلَا
خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال.
(وتصح في الأجيرِ والظِّئْرِ بطعامِهِما وكِسوتِهِما).
أي: ويصح أن يستأجر شخصاً ليعمل عنده بأكله وشرابه.
(والظئر المرضعة) أي: ويصح أن يستأجر امرأة لترضع ولده بطعامها وكسوتها.
وهذا مذهب أبي حنيفة، والمالكية، والحنابلة.
أ- لقوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ).
ب- ولقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز.
وهذا مذهب الشافعية.
قالوا: إن العلم بالأجرة شرط في صحة عقد الإجارة، وإطلاق الطعام والكسوة دون وصفهما يجعل الطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة
والراجح الجواز.
فائدة: 1
يجوز أيضاً استئجار الأجير بطعامه وشرابه.
وهذا مذهب المالكية، واختاره ابن تيمية.
قياساً على الظئر.
قال في الشرح: روي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى رضي الله عنهم أنهم استأجروا الأُجراء بطعامهم وكسوتهم.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز.
وهذا مذهب الحنفية، واختاره ابن حزم.
قالوا: إن العلم بالأجرة شرط في صحة عقد الإجارة، وإطلاق الطعام والكسوة دون وصفهما يجعل الطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة
والراجح الجواز، ويكون الطعام والكسوة بالعرف.
فائدة: 2
اختلف العلماء: هل يجوز استئجار حيواناً بطعامه وشرابه؟
مثاله: أن يستأجر شخص دابة لينتفع بها، وتكون الأجرة علفها وصيانتها وحفظها؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: عدم الجواز.
وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
أ- قالوا: لأن العوض مجهول معدوم، ولا يدرى أيوجد أم لا؟ والأصل عدمه، ولا يصح أن يكون ثمناً.
ب- استدلوا بدليل الإجماع على ذلك، حيث ابن قدامة أنه لا يعلم مخالفاً في ذلك.
القول الثاني: الجواز.
وهو مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية.
أ- القياس على استئجار الأجير بطعامه.
ب-أن علف الدابة معروف بالعادة، وهذا يرفع عنه صفة الجهالة فيكون معلوماً.
وهذا القول هو الراجح.
(وإن دخل حماماً، أو سفينة، أو أعطى ثوبه قصاراً، أو خياطاً بلا عقد صح بأجرة العادة).
(القصار: الغسال).
لأن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول.
والقاعدة (أن كل من أعدّ نفسه لعمل معين فإنه يستحق الأجرة ولو لم يكن هناك عقد).
فهؤلاء (صاحب الحمام، وصاحب السفينة، والخياط، والغسال) استحقوا الأجرة - مع أنه ليس هناك عقد - لأنهم أعدوا أنفسهم لهذا العمل.
قال ابن القيم: لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة أو عجينة لمن يخبزه أو لحماً لمن يطبخه، أو حباً لمن يطحنه، أو متاعاً لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك، وجب له أجرة مثله وإن لم يشترط معه ذلك لفظاً عند جمهور أهل العلم
(ويشترط في العين المؤجرة معرفتها).
هذا الشرط الأول من شروط العين المؤجرة، وهو معرفتها برؤية أو صفة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر. ولأن عدم معرفتها يفضي إلى النزاع.
(والقدرة على التسليم).
هذا الشرط الثاني من شروط العين المؤجرة، وهو القدر على التسليم.
أي: أن يكون المُؤجِر متمكناً من تسليم العين للمستأجر لاستيفاء المنافع، لأن الإجارة بيع المنافع أشبهت بيع الأعيان.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تبع ما ليس عندك) والإجارة نوع من البيع.
ب- ولأن غير المقدور عليه، إجارته غرر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.
فلا تصح إجارة العبد الآبق، أو الجمل الشارد.
مثال: إنسان له عبد آبق، فقال له آخر: أجرني عبدك فلان، فقال له: إن عبدي هرب، قال: أجرني وأنا أبحث عنه. قال:
أجرتك، فهذا لا يصح.
(واشتمالُ العينِ على المنفعةِ).
هذا الشرط الثالث من شروط العين المؤجرة، وهو اشتمال العين المعقود عليها على النفع.
أ- لأن الإجارة عقد على منفعة، ولا يمكن استيفاء هذه المنفعة من هذه العين.
ب- كما أن أخذ أموال الناس في مقابل ما لا نفع فيه يعتبر من أكل أموال الناس بالباطل.
مثال: لا يجوز إجارة بهيمة زمنة لحمل، ولا أرض لا تنبت للزرع.
قال النووي: أن يكون منتفعاً به، فما لا نفع فيه ليس بمال.
وقال ابن قدامة: لا يجوز بيع ما لا نفع فيه.
(وأن تكون المنفعة للمُؤْجِر أو مأذوناً له فيها).
هذا الشرط الرابع من شروط العين المؤجرة، وهو أن تكون العين المؤجرة للمؤجر، أو مأذوناً له فيها.
وهذا شرط في جميع العقود، فكل العقود لا بد أن يكون العاقد مالكاً للمعقود عليه، إما بملك أو بنيابة عن المالك.
- فلو أجر وتصرف فيما لا يملكه بغير إذن مالكه لم يصح كبيعه.
(وإجارة العين قسمان: إلى أمد معلوم يغلب على الظن بقاؤها فيه، والثاني: لعمل معلوم، كإجارة دابة لركوب أو حمل إلى موضع معين).
إجارة العين إما أن تكون إلى أمد.
مثال: أجرة بيتي سنة، أو شهراً، فهنا يشترط أن تكون المدة معلومة.
قال في الإنصاف: ويشترط كون المدة معلومة بلا نزاع في الجملة.
وقال في المغني: الْإِجَارَةِ إذَا وَقَعَتْ عَلَى مُدَّةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ هِيَ الضَّابِطَةُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، الْمُعَرِّفَةُ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، كَعَدَدِ الْمَكِيلَاتِ فِيمَا بِيعَ بِالْكَيْلِ. (المغني).
لأن عدم تحديد المدة يؤدي إلى الغرر والجهالة المفضية إلى المنازعة.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.
ولأن الأجرة تختلف باختلاف المدة فوجب العلم بها.
- وقوله (يغلب على الظن بقاؤها فيه).
أي: أنه ليس في عقد الإجارة حد أقصى لتأجير العين، فتصح الإجارة مهما طالت المدة، ولكن بشرط أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة.
قال ابن قدامة: وَلَا تَتَقَدَّرُ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، بَلْ تَجُوزُ إجَارَةُ الْعَيْنِ الْمُدَّةَ الَّتِي تَبْقَى فِيهَا وَإِنْ كَثُرَتْ.
وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ اخْتَلَفُوا فِي مَذْهَبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَهُوَ الصَّحِيحُ.
الثَّانِي لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى أَكْثَرَ مِنْهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَبْقَى أَكْثَرَ مِنْهَا، وَتَتَغَيَّرُ الْأَسْعَارُ وَالْأَجْرُ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِك)، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى نَسْخِهِ دَلِيلٌ.
وَلِأَنَّ مَا جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ سَنَةً، جَازَ أَكْثَرَ مِنْهَا، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِسَنَةٍ وَثَلَاثِينَ، تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ التَّقْدِيرِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهُ. (المغني).
قال الشيخ ابن عثيمين: لو أجرها مدة طويلة يغلب على الظن أنها لا تبقى فيها، فظاهر كلام المؤلف أن الإجارة لا تصح
…
لو أجره البعير لمدة خمسين سنة فإنه لا يصح؛ لأن البعير لا يبقى إلى خمسين سنة، أو أجره سيارة لمدة مائة سنة فلا يصح؛ لأن الغالب أنها لا تبقى إلا أن توقف ولا تستعمل فهذا شيء آخر، لكن إذا استعملت فلا تبقى إلى هذه المدة.
فاشترط المؤلف في تأجير العين مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، فإن لم يغلب على الظن بقاء العين فيها فإنه لا يصح؛ لأنه لا يتم استيفاء المنفعة، ومن شرط الإجارة أن يمكن استيفاء المنفعة، فإذا استأجرها لمدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، ولكنها لم تبق؛ فإن الإجارة تنفسخ ويسقط عن المستأجر بقسطه من الأجرة. (الشرح الممتع).
- قوله (والثاني: لعمل معلوم
…
).
هذا النوع الثاني من أنواع إجارة العين، وهو لعمل معين، فهذا يشترط أن يكون معلوماً. (تحديد الموضع المعين).
مثال: استأجرت سيارتك لأسافر بها إلى مكة وأرجع، فهذا يصح.
فلو قال: استأجرت منك هذه الدابة لأطلب عليها ضالتي التي ضاعت مني، فإنه لا يصح.
لأنها مجهولة، لأننا لا ندري أيجدها قريباً أم بعيداً.
ويجوز أن استأجر رجلاً ليدلني على الطريق، لكن لابد من تحديد ومعرفة هذا الطريق.
عن عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (
…
وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِى الدِّيلِ، هَادِياً خِرِّيتاً وَهْوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) رواه البخاري.
(وهي عقدٌ لازم).
وهذا مذهب عامة العلماء.
فلا يملك أحد المتعاقدين الانفراد بفسخ العقد إلا برضا الطرف الآخر أو وجود ما يقتضي الفسخ.
أ-لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ويدخل في ذلك عقد الإجارة، لأنه عقد من العقود.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).
ج-ولأنها نوع من البيع. (بيع منافع).
د- أن القول بعد لزوم عقد الإجارة فيه ضرر للمتعاقدين أو لأحدهما.
(فإن تحول مستأجرٌ في أثناء المدة بلا عذر فعليه كل الأجرة، وإن حولَه مالك فلا شيء له).
إذا حصل فسخ للعقد فلا يخلو من حالين:
الأولى: إن كان الفسخ بلا عذر شرعي:
فإن كان من المستأجر فعليه الأجرة كاملاً.
وإن كان من المؤجر فلا شيء له.
مثال: إنسان استأجر بيتاً من شخص لمدة سنة بألف ريال، وفي أثناء السنة فسخ المستأجر، فيلزمه الأجرة كاملة.
وكذلك بالنسبة للمؤجر، فلو منع المستأجر بعض المدة أو كلها، فلا أجرة له.
والثانية: وأما إن كان الفسخ بعذر شرعي:
فإن كان من قبل المؤجر: له من الأجرة بالقسط.
وكذلك إذا كان الفسخ من المستأجر.
مثال: استأجر منه بيتاً، وفي أثناء المدة انهدم، فيتعذر استيفاء المنفعة، فعليه من الأجرة بالقسط.
فائدة: 1
حكم إن تلفت العين المؤجرة بغير تفريط من المستأجر؟
قال ابن قدامة: وَالْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، إنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، لَمْ يَضْمَنْهَا، .... وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهَا، فَكَانَتْ أَمَانَةً.
فائدة: 2
قال الشيخ ابن عثيمين: الأمين كل من حصل في يده مال بإذن من الشارع، أو إذن من المالك.
فائدة: 3
حكم إذا تلفت العين المستأجرة بفعل من المستأجر؟
إذا تعدى المستأجر (بأن فعل ما ليس له فعله) أو فرط (بأن ترك ما يجب عليه فعله) فإنه في هذه الحالة يجب عليه الضمان.
قال السعدي في القواعد الجامعة: التلف في يد الأمين غير مضمون إذا لم يتعد ولم يفرط، وفي يد الظالم مضمون مطلقاً.
فائدة: 3
حكم إذا تلفت العين المستأجرة بعد الانتهاء من الإجارة:
فهذا له حالتان:
الأولى: أن يترك الرد لعذر: ففي هذه الحالة لا ضمان عليه. كأن يكون المالك غائباً.
الثانية: أن يمسك العين المستأجرة بغير عذر، ويطلبه المالك فيمتنع المستأجر.
ففي هذه الحالة يعتبر غاصباً، فعليه أجرة المدة التي بقيت فيها العين في يده، وإن تلفت العين فعليه ضمانها.
(وتنفسخ بتلف العين المُؤجَرَة).
كدار انهدمت، أو عبد مات. لتعذر الاستيفاء، ويكون للمؤجر من الإجارة بالقسط.
(وبموتِ مرتضع).
مثال: استأجر امرأة على أن ترضع هذا الولد لمدة سنتين، فمات الولد بعد سنة، فليس لها من الأجرة إلا مقدار سنة واحدة.
(وانقلاعُ ضرسٍ).
مثال: رجل استأجر شخصاً أن يقلع ضرسه، فواعده على أن يأتيه في الصباح، فلما كان في الليل انقلع الضرس، فهنا تنفسخ الإجارة، لأن المعقود عليه معين وتلف.
(وبموت الراكب إن لم يخلف بدلاً).
مثال: جاء رجل إلى شخص واستأجر منه جملاً إلى الرياض، ومات المستأجر، فهنا هل تنفسخ الإجارة أم لا؟
نقول فيه تفصيل:
إن خلف بدلاً فإنها لا تنفسخ، وإن لم يخلف بدلاً فإنها تنفسخ.
والبدل هو الوارث أو رجل أوصى له بها.
مثال: هذا الرجل الذي مات، كان معه ولده، فقال الولد: أنا أركب الناقة بدلاً من أبي.
وهذا القول هو الصحيح.
وقال بعض العلماء: لا تنفسخ الإجارة بموت الراكب مطلقاً، وهذا المذهب كما في الإنصاف.
فائدة:
جاء في (الموسوعة الفقهية) انْقِضَاءُ الإْجَارَةِ بِالإْقَالَةِ: كَمَا أَنَّ الإْقَالَةَ جَائِزَةٌ فِي الْبَيْعِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَقَال نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَال اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ كَذَلِكَ جَائِزَةٌ فِي الإْجَارَةِ؛ لأِنَّ الإْجَارَةَ بَيْعُ مَنَافِعَ.
(لا بموتِ المُتعاقدين أو أحدِهِما).
أي: لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين أو أحدهما.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
لأن المعقود عليه في الإجارة هي منفعة العين، وليس المعقود عليه ذات المؤجر أو المستأجر.
قال البخاري في صحيح: باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضاً فَمَاتَ أَحَدُهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَيْسَ لأَهْلِهِ أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ الأَجَلِ.
وَقَالَ الْحَكَمُ وَالْحَسَنُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ تُمْضَى الإِجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِى بَكْرٍ وَصَدْراً مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الإِجَارَةَ بَعْدَ مَا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
مثال: رجل استأجر من آخر بيتاً، وفي أثناء المدة مات، فهنا لا تنفسخ الإجارة، ويكون حق الاستيفاء لورثته، وكذلك بالعكس، لو أن المؤجر مات، فإنها لا تنفسخ، ويكون بقية الأجرة للورثة.
فائدة:
- ما الحكم إذا طلب من المستأجر الخروج قبل انتهاء المدة وطلب عوضاً مقابل لك؟
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: إذا كان هذا المستأجر له مدة معينة، وجاءه صاحب الدكان يطلب منه الخروج قبل انتهاء هذه المدة: فلا حرج عليه أن يطلب عوضاً عن إسقاط حقه فيما بقي من المدة.
مثال ذلك: أن يكون قد استأجر هذا الدكان عشر سنين، ثم يأتيه صاحب الدكان بعد مضي خمس سنين، ويطلب منه أن يُفرِّغ الدكان له، فلا حرج على المستأجر حينئذٍ أن يقول: أنا لا أخرج وأدع بقية مدتي إلا بكذا وكذا؛ لأن هذا معاوضة على حق له ثابت بمقتضى العقد الذي أمر الله بالوفاء به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
(وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه، لا بأكثر منه ضرراً).
لأنها مملوكة له، فجاز أن يستوفيها بنفسه أو نائبه.
مثال: استأجرت منك بيتاً لمدة (5) سنوات وسكنت فيه لمدة سنة وانتهى غرضي منه، فإنه يجوز أن أؤجر هذا البيت لشخص لمدة (4) سنوات.
فائدة: 1
بخلاف العارية، فالعارية إباحة نفع،
يعني لو أن شخصاً أعارك هذا الدكان تبيع وتشتري فيه، فهل لك أن تؤجره أو تعيره؟
نقول: لا تملك أن تؤجره ولا أن تعيره؛ لأن العارية إباحة نفع، بخلاف الإجارة فإن المستأجر يملك المنفعة، وما دام أنه يملك المنفعة فله أن يستوفيها كما سلف بنفسه أو بنائبه عن طريق الإجارة أو عن طريق الإعارة.
- وقوله (لا بأكثر منه ضرراً) يعني: لا يجوز للمستأجر أن يؤجرها لمن أكثر منه ضرراً.
لأن العقد الذي أبرم بين المؤجر والمستأجر اقتضى منفعة مقدرة، فلا يجوز بأكثر منه.
مثال: لو استأجر داراً للسكنى، جاز أن يؤجرها لغيره للسكنى أو دونها، ولا يجوز أن يؤجرها لمن يجعل فيها مصنعاً أو معملاً.
فائدة: 2
يجوز للمستأجر أن يؤجر العين أكثر من أجرة الأصل، هذه المسألة لها أحوال:
أولاً: أن يؤجرها بأقل، فهذا يصح.
ثانياً: أن يؤجرها بمثل الأصل، فهذا يصح.
ثالثاً: أن يؤجرها بأكثر، فيه خلاف والصحيح أنه يصح.
قال ابن تيمية: للمستأجر أن يؤجرها بمثل الأجرة، وإنما تنازعوا في إيجارها بأكثر من الأجرة، لئلا يكون ذلك ربحاً فيما لا يضمن،
والصحيح جواز ذلك، لأنها مضمونة على المستأجر.
(وَلَا يَضْمَنُ حجام، وطبيب إنْ كان حاذقاً، ولم تَجنِ يده).
الحجام: من يقوم بإخراج الدم، سواء من الرأس أو من غيره.
الطبيب: من يتولى علاج البشر.
فهؤلاء لا يضمنون إذا أتلفوا بشرطين:
لا يضمن لكن بشروط:
أ-أن لا تجنِ أيديهم، بأن لا يتجاوز ما له فعله في العلاج.
ب-أن يعرف حذقهم. (أي إجادتهم للصنعة ومعرفتهم بها).
العلة:
لأنه فعل فعلاً مباحاً، فلم يضمن سرايته.
فهو كالإمام يقطع يد سارق فتسري الجراحة حتى يموت فلا يضمن.
والقاعدة: ما ترتب على المأذون غير مضمون.
فإن تخلف أحد الشرطين، إما بأن تجني يده ويقطع ما ليس له قطعه، أو لا يكون حاذقاً عارفاً بالطب فيتطبب، فإنه يضمن.
وقد جاء في الحديث (من تطَبّبَ ولا يُعلم منه طب فهو ضامن) رواه أبو داود.
(لا يجوز للمرأة أن تؤجر نفسها بغير إذن زوجها).
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) متفق عليه.
ب- ولما فيه من فوات الاستمتاع بها، وهي مملوكة المنافع للزوج إلا إذا اشترطت عليه عند العقد.
(ويجب إعطاء الأجير أجره).
لحديث اِبْنِ عُمَر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَعْطُوا اَلْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ.
وللحديث السابق (ثلاثة أنا خصمهم:
…
وَرَجُلٌ اِسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ).
ويحرم المماطلة في حق العامل:
قال صلى الله عليه وسلم (مطل غني ظلم) متفق عليه.
فائدة: 1
متى تستقر الأجرة؟ تستقر الأجرة بفراغ العمل.
فإن لم يتم العمل نظرنا: فإن كان لغير عذر فلا حق له في شيء من الأجرة، وإن كان بعذر فله من الأجرة بقدر ما عمل.
مثال: رجل استأجر شخصاً أن يعمل له يوماً كاملاً، فلما انتصف النهار ترك العمل بدون عذر، فحينئذ لا حق له فيما عمل، أما لو اصيب بمنتصف النهار بمرض لا يستطيع معه إكمال العمل، ففي هذه الحالة يستحق من الأجرة بقدر ما عمل.
فائدة: 2
ما الحكم إن كان ترك الإتمام من المستأجر لا من الأجير؟
الحكم: أن يستحق جميع الأجرة، إلا إذا كان لعذر فله من الأجرة بقدر ما عمل.
مثال: استأجر شخص رجلاً ليبني له جداراً، فلما كان في أثناء العمل أتى السيل فهدم الجدار، وليس عند المستأجر شيء يبني به الجدار من جديد، فهنا لا يستحق العامل إلا مقدار ما عمل. (ابن عثيمين).
فائدة: 3
ما الحكم إذا استأجر شخصاً لعمل محرّم، فهل يعطيه أجرته أم لا؟
كأن يستأجره للعزف والزمر مثلاً، أو ليشهد له زوراً، أو ليضرب له بريئاً، أو كمن يستأجر امرأة للزنا ونحو ذلك من الأعمال المحرمة.
الحكم: أنه لا يجوز أن يدفع له الأجرة على العمل المحرم، ويلزمه أن يتصدق بهذا المال، لئلا يجمع بين العوضين: المنفعة المحرمة، والمال.
جاء في (الموسوعة الفقهية) الإجارة على المنافع المحرمة كالزنى، والنوح والغناء، والملاهي محرمة وعقدها باطل، لا يستحق به أجرة.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن رجل حلق ذقنه عند الحلاق وقال: سوف أعطيك المال فيما بعد دينا عليّ، ثم هداه الله والتزم بأحكام الإسلام فهل يعطيه المال أم لا؟
فأجاب: يقول له: أنا لن أعطيك إياه لأن هذا مقابل عمل محرم، ويتصدق به.
فائدة: 4
ما الحكم إن تاب من عمل محرم وقد اكتسب مالاً محرماً كأجرة الغناء أو شهادة الزور والأجرة على كتابة الربا؟
من تاب إلى الله تعالى من عمل محرم، وقد اكتسب منه مالاً، كأجرة الغناء، والرشوة، والكهانة وشهادة الزور، والأجرة على كتابة الربا، ونحو ذلك من الأعمال المحرمة، فإن كان قد أنفق المال، فلا شيء عليه، وإن كان المال في يده، فيلزمه التخلص منه بإنفاقه في وجه الخير، إلا إذا كان محتاجاً فإنه يأخذ منه قدر الحاجة، ويتخلص من الباقي.
قال ابن القيم رحمه الله: إذا عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض، كالزانية، والمغنى، وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم ثم تاب والعوض بيده.
فقالت طائفة: يرده إلى مالكه؛ إذ هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لصاحبه في مقابلته نفع مباح.
وقالت طائفة: بل توبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أصوب القولين. (مدارج السالكين)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن أخذ عوضاً عن عين محرمة أو نفع استوفاه، مثل أجرة حَمَّال الخمر، وأجرة صانع الصليب، وأجرة البغيّ ونحو ذلك فليتصدق بها، وليتب من ذلك العمل المحرم، وتكون صدقته بالعوض كفارة لما فعله، فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه عوض خبيث، ولا يعاد إلى صاحبه؛ لأنه قد استوفى العوض، ويتصدق به كما نص على ذلك من نص من العلماء، كما نص عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر، ونص عليه أصحاب مالك وغيرهم. (مجموع الفتاوى).
فائدة: 5
إذا تسلم عيناً بإجارة فاسدة فهذه لها أحوال:
إن لم تبدأ المدة لم يلزمه شيء ويردها إلى صاحبها.
إن انتهت المدة يسلم أجرة المثل كاملة.
في أثناء المدة يسلم القسط من أجرة المثل.
- تفسد الإجارة إما بفوات شرط أو وجود مانع.
مثال: رجل استأجر بيتاً من غير مالكه ولا قائم مقام مالكه. {الإجارة هنا فاسدة}
إذا انتهت المدة، يثبت لصاحب البيت أجرة المثل سواء كان مثل ما اتفق عليه أو أكثر أو أقل.
هذا المستأجر قد استأجر بـ {100} وأجرة المثل بـ {200} فيلزم المستأجر {200} ويرجع بالمائة الزائدة على الذي غره وخدعه، وهو الذي أجر بيت غيره بغير إذنه.
فائدة: 6
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: الجواز.
وهذا مذهب الشافعي، وبه قال ابن حزم.
أ- عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ حَقًّا كِتَابُ اَللَّهِ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
ب- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِى. فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئاً جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. فَقَال «فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ». فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئاً». فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئاً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «انْظُرْ وَلَوْ خَاتِماً مِنْ حَدِيدٍ». فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ. فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتِماً مِنْ حَدِيدٍ. وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي - قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ - فَلَهَا نِصْفُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ». فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّياً فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا - عَدَّدَهَا. فَقَالَ «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) رواه مسلم.
وفي رواية (انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ).
ج- أنه يجوز أخذ الرزق على ذلك، فجاز أخذ الأجرة، ولا فرق.
وقال الشيخ ابن عثيمين: وأما أخذ الأجرة على إقراء القرآن أي على تعليم القرآن فهذا مختلف فيه، والراجح أنه جائز لأن الإنسان يأخذه على تعبه وعمله لا على قراءته القرآن وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن أفضل ما أخذتم عليه أجراً أو قال أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجل الذي لم يجد مهراً، قال: زوجتكها بما معك من القرآن أي يعلمها ما معه من القرآن فتبين بهذا أن الاستئجار لقراءة القرآن محرم وفيه إثم وليس فيه أجر ولا ينتفع به الميت وأما الأجرة على تعليم القرآن فالصحيح أنها جائزة ولا بأس بها. انتهى.
القول الثاني: التحريم.
وهذا مذهب الحنفية، وهو مذهب الحنابلة في تعليم القرآن.
أ- لقوله تعالى (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً).
وجه الدلالة: أنها دلت على تحريم تعاطي الأجر على آيات الله كالقرآن، وما في معناه من العلوم الشرعية.
ب- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ (عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَ، وَالْقُرْآنَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا فَقُلْتُ: لَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل، لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلأَسْأَلَنَّهُ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا) رواه أبو داود.
ج- وعن أبي الدرداء. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أخذ قوساً على تعليم القرآن، قلده الله قوساً من النار) رواه البيهقي.
د- وعن أبي بن كعب قال (علمت رجلاً القرآن، فأهدى إليّ قوساً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار، فرددتها) رواه ابن ماجه.
فالحديث دل على تحريم الهدية، فمن باب أولى الأجرة المشروطة.
(الحديث حكم عليه ابن عبد البر والبيهقي بالانقطاع، وأعله ابن القطان بجهالة أحد رواته، وله طرق عن أبيّ، قال ابن القطان: لا يثبت منها شيء).
هـ- وعن سهل. قال: قال صلى الله عليه وسلم (
…
اقرؤه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم، يتعجل أجره ولا يتأجله) رواه أبو داود.
القول الثالث: الجواز للحاجة.
وهذا اختيار ابن تيمية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه وفيه ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد وغيره أعدلها أنه يباح للمحتاج.
أ- استدلوا بأدلة الفريقين وجمعوا بينهما، فقيدوا الجواز بالحاجة ومنعوه في غير الحاجة.
ب- واستدلوا بأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة، والحاجة للتعليم حاجة عامة للصغار والكبار.
ج-القياس على ولي اليتيم.
قال ابن تيمية: كما أذن الله لولي اليتيم أن يأكل مع الفقر ويستغني مع الغنى.
د- أن الإنفاق على الأهل واجب، فمن عجز عن التكسب في حال تعليمه فيجوز له أخذ الأجرة لوجوب النفقة عليه إن لم نقل بالوجوب.
قال ابن تيمية: وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ - وَهُوَ أَقْرَبُ - قَالَ: الْمُحْتَاجُ إذَا اكْتَسَبَ بِهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْوِيَ عَمَلَهَا لِلَّهِ وَيَأْخُذُ الْأُجْرَةَ لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ عَلَى الْعِيَالِ وَاجِبٌ أَيْضًا فَيُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ بِهَذَا؛ بِخِلَافِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَسْبِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُ أَنْ يَعْمَلَهَا لِغَيْرِ اللَّهِ؛ بَلْ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَغْنَاهُ وَهَذَا فُرِضَ عَلَى الْكِفَايَةِ: كَانَ هُوَ مُخَاطَبًا بِهِ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ إلَّا بِهِ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَيْنًا.
وهذا القول هو الراجح.
قال الشنقيطي في أضواء البيان بعد أن ذكر الخلاف: الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم -: أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية: فالأولى له ألا يأخذ عوضاً على تعليم القرآن، والعقائد، والحلال والحرام؛ للأدلة الماضية، وإن دعته الحاجة: أخذ بقدر الضرورة، من بيت مال المسلمين؛ لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم، لا من قبيل الأجرة.
والأولى لمن أغناه الله: أن يتعفف عن أخذ شيءٍ في مقابل التعليم للقرآن، والعقائد، والحلال والحرام.
- بماذا أجاب أصحاب القول الأول عن أدلة القول الثاني (المانعين)؟
أولاً: أن حديث عبادة في سنده المغيرة بن زياد، وقد تكلم فيه أحمد والبخاري وأبو حاتم.
ثانياً: أنه يحتمل أنه بدأ العمل مخلصاً محتسباً لله فلم يرد أن يغير نيته.
قال الصنعاني: فذهب الجمهور، ومالك، والشافعي إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن سواء كان المتعلم صغيراً أو كبيراً ولو تعين تعليمه على المعلم عملاً بحديث ابن عباس ويؤيده ما يأتي في النكاح من جعله صلى الله عليه وسلم تعليم الرجل لامرأته القرآن مهراً لها، قالوا: وحديث عبادة لا يعارض حديث ابن عباس إذ حديث ابن عباس صحيح وحديث عبادة في رواية مغيرة بن زياد مختلف فيه واستنكر أحمد حديثه، وفيه الأسود بن ثعلبة فيه مقال فلا يعارض الحديث الثابت.
قالوا: ولو صح فإنه محمول على أن عبادة كان متبرعاً بالإحسان وبالتعليم غير قاصد لأخذ الأجرة فحذره صلى الله عليه وسلم من إبطال أجره وتوعده، وفي أخذ الأجرة من أهل الصفة بخصوصهم كراهة ودناءة لأنهم ناس فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه.
وقال صاحب عون المعبود في شرح حديث عبادة: قال الخطابي اختلف قوم من العلماء في معنى هذا الحديث وتأويله:
فذهب بعضهم إلى ظاهره فرأوا أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن غير مباح وإليه ذهب الزهري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه.
وقال طائفة لا بأس به ما لم يشترط وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي.
وأباح ذلك آخرون وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور واحتجوا بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي خطب المرأة فلم يجد لها مهراً زوجتكما على ما معك من القرآن.
وتأولوا حديث عبادة على أنه كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع، فحذره النبي صلى الله عليه وسلم إبطال أجره وتوعده عليه، وكان سبيل عبادة في هذا سبيل من رد ضالة لرجل أو استخرج له متاعاً قد غرق في بحر تبرعاً وحسبة فليس له أن يأخذ عليه عوضاً ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة كان ذلك جائزاً، وأهل الصفة قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه ودفعه إليهم مستحب، وقال بعض العلماء أخذ الأجرة على تعليم القرآن له حالات فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به حل له أخذ الأجرة عليه، لأن فرض ذلك لا يتعين عليه، وإذا كان في حال أو في موضع لا يقوم به غيره لم تحل له الأجرة. وعلى هذا يؤول اختلاف الأخبار فيه. انتهى.
وقال النووي: وأجاب المجوزون عن حديث عبادة بجوابين:
أحدهما: أن في إسناده مقالاً.
والثاني: أنه كان تبرع بتعليمه فلم يستحق شيئاً ثم أهدي إليه على سبيل العوض فلم يجز له الأخذ بخلاف من يعقد معه إجارة قبل التعليم. والله أعلم
- بماذا أجاب أصحاب القول الثاني عن أدلة القول الأول (الجواز).
أما حديث ابن عباس:
أ-فقالوا: إن المراد بالأجر هنا الثواب.
ب- أن الحديث منسوخ بما ورد من نصوص الوعيد في أخذ الأجرة.
ج- أن الرقية نوع من التداوي، فهي من الأمور المباحة، وليست مثل التعليم إذ هو عبادة، فالقياس عليها قياس مع الفارق.
الأكمل والافضل أن الإنسان لا يأخذ على تعليمه أجراً.
قال الشنقيطي: قَوْلُهُ تَعَالَى (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ).
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَّهُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ مَالًا فِي مُقَابَلَةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْهُدَى، بَلْ يَبْذُلُ لَهُمْ ذَلِكَ الْخَيْرَ الْعَظِيمَ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ أَخْذِ أُجْرَةٍ فِي مُقَابِلِهِ.
وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَأْنُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، كَقَوْلِهِ فِي «سَبَإٍ» عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ).
وَقَوْلِهِ فِيهِ أَيْضًا فِي آخِرِ «سُورَةِ ص» (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).
وَقَوْلِهِ فِي «الطُّورِ» ، وَ «الْقَلَمِ» (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ).
وَقَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا).
وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْعَامِ» (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ).
وَقَوْلِهِ عَنْ هُودٍ فِي «سُورَةِ هُودٍ» (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي).
وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» عَنْ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ عَلَيْهِمْ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ رُسُلِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي «يس» (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا).
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَبْذُلُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ أَخْذِ عِوَضٍ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا عَلَى تَعْلِيمِ الْعَقَائِدِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
تنبيه:
أخذ الأجرة على مجرد القراءة.
قال ابن تيمية: الاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة.
باب السبق
السبْق - بسكون الباء - بمعنى واحد وهو: المسابقة وبلوغ الغاية قبل غيره.
والسبَق - بفتح الباء - العوض والجعل، وهو ما يتراهن عليه المتسابقون، فمن سبق أخذه.
وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).
فأمر سبحانه وتعالى بإعداد القوة ورباط الخيل، ومن طرق ووسائل إعدادها المسابقة، فدل على مشروعيتها.
قال الجصاص: وهذا يدل على أن جميع ما يقوي على العدو فهو مأمور بإعداده.
وقال تعالى حكاية عن إخوة يوسف (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا
…
).
قال السعدي: نستبق إما على الأقدام أو بالرمي والنضال.
وعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (سَابَقَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْلِ اَلَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ، مِنْ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةِ اَلْوَدَاعِ. وَسَابَقَ بَيْنَ اَلْخَيْلِ اَلَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنْ اَلثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدٍ بَنِي زُرَيْقٍ، وَكَانَ اِبْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
(قَدْ أُضْمِرَتْ) الإضمار: المراد به أن تُعلف الخيل حتى تسمن، وتقوى، ثم يقلّل علفها بقدر القوت، وتدخل بيتاً، وتغشى بالجلال، حتى تحمى فتعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها، وقويت على الجري، وأما الخيل التي لم تضمر فهي ضدها، التي لم يعمل بها هذا العمل. (مِنَ الْحَفْيَاءِ) موضع بظاهر المدينة. (وَأَمَدُهَا) أي: غايتها. (ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ) الثنية لغة: الطريقة إلى العقبة، وثنية الوداع: موضع بالمدينة، سمي بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودّعون إليها.
ففيه تشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم للسباق بالخيل، وفيه دلالة أكيدة على مشروعية السباق.
قال ابن حجر: وفي الحديث مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة.
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ لَا تُسْبَقُ- قَالَ حُمَيْدٌ، أَوْ لَا تَكَادُ تُسْبَقُ - فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ فَقَالَ حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ) رواه البخاري.
قال ابن حجر: وفي الحديث اتخاذ الإبل للركوب والمسابقة عليها.
وعَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها (أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي
فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ) رواه أبو داود.
وعن سَلَمَة بْن الأَكْوَع رضي الله عنه قَالَ (مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ قَالَ فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ قَالُوا كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ) رواه البخاري.
وعن رُكانة (أنه صَارَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود.
وحكى الإجماع، ابن قدامة، وابن القيم وغيرهما على جواز المسابقة في الجملة.
(وهي ثلاثة أنواع).
أي: أن المسابقات والمغالبات بالنسبة إلى أخذ العوض ثلاثة أنواع.
(نوع يجوز بلا عوض ولا يجوز بعوض وهي: جميع المغالبات بغير الثلاثة المذكورة).
هذا النوع الأول من المسابقات: وهو ما يجوز بلا عوض ويحرم بعوض.
وهو ما لا مضرة فيه شرعية، وليس فيه منفعة تربو على مفسدة المراهنة فيه.
وهذا هو الأصل، وهو الأغلب، ويدخل في هذا:
المسابقة على الأقدام - وسائر الحيوانات - والسفن - والمزاريق -، وقد تقدمت أدلة ذلك.
فائدة: 1
وهذا النوع لا يجوز بعوض من الطرفين.
لأن في بذل السبق من المسابقين قمار، لأن كل واحد من المتسابقين يجوز أن يذهب ماله إلى صاحبه.
فائدة: 2
لو كان الجعل من الإمام فإنه يجوز من غير خلاف.
قال النووي: فأما المسابقة بعوض فجائزة بالإجماع لكن بشرط أن يكون العوض من غير المتسابقين.
وقال الصنعاني: فإذا كان الجعل من غير المتسابقين كالإمام يجعله للسابق حل ذلك بلا خلاف.
ويدل ذلك حديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وأعطى السابق) رواه أحمد.
فائدة: 3
إذا كان الجعل من أحد المتسابقين وصورته:
أن يقول أحد المتسابقين للآخر: سابقني فإن سبقتني فأعطيك سبقاً وجعْلاً مقداره كذا، ولا يُخرج الآخر شيئاً من ماله البتة.
وهذه الصورة جمهور العلماء على جوازها لانتفاء شبهة القمار.
فائدة: 4
الشروط المتعلقة بأداة السباق:
الشرط الأول: أن تكون الأداة المسابق بها أو عليها يجوز فيها المسابقة، نحو خيل وأقدام وإبل.
الشرط الثاني: تعيين الآلتين - من مركوبين ونحو ذلك - برؤية أو صفة.
الشرط الثالث: أن يكون المركوبان من جنس واحد.
وهذا مذهب الحنابلة، وبعض الشافعية.
فلا تجوز المسابقة بين جنسين مختلفين كفرس وبعير.
لأن البعير لا يكاد يسبق الفرس، فلا يحصل الغرض.
وقال بعض الشافعية وجمهور المالكية، بالتقارب في السبق، فإن تقارب جنسان كالبغل والحمار جاز.
الشرط الرابع: إمكان سبق كل من المتسابقين عادة.
وهذا اشترطه الحنفية، وبعض المالكية، وأكثر الشافعية.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسابق بين المضمرات وغيرها، بل جعل كل صنف منها مع ملائمه، لأن غير المضمرة لا تساوي المضمرة.
ولأن عقد السبق يراد به التنافس وعلم السابق، فإذا علم أن أحدهم لا يستطيع السبق لم يتوصل حينئذ إلى جديد في سباقهما. ولأن موضوع المسابقة: توقع كل منهما سبق نفسه ليسعى، فيعلم أو يتعلم.
• نستفيد من قوله (
…
مِنْ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةِ اَلْوَدَاعِ)؟
نستفيد أنه يشترط في المسابقة تحديد المسافة، وتعيين المبتدأ والغاية.
لأن الغرض معرفة الأسبق، ولا يحصل بتحديد المسافة.
وفي حديث الباب حدد النبي صلى الله عليه وسلم المبتدأ والمنتهى.
لأنه مع عدم تعيينهما تحصل المنازعة، ولا يتحقق غرض المسابقة.
(ونوع يجوز بعوض وغيره: وهي مسابقة الخيل والإبل والسهام).
هذا النوع الثاني من المسابقات: وهو ما يجوز بعوض وبغير عوض وهي المسابقة على الخيل والإبل والسهام، فهي يجوز فيها العوض ومن غير عوض.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان.
(لَا سَبَقَ) بفتح الباء، وهو العوض ما يجعل من الجوائز للسابق.
(إِلَّا فِي خُفٍّ) هذا كناية عن الإبل لأنها هي ذات الخف.
(أَوْ نَصْلٍ) هي حديدة السهم والرمح.
(أَوْ حَافِرٍ) كناية عن الخيل لأنها هي ذات الحافر.
ومعنى الحديث:
أي لا أخذ عوض إلا في هذه الثلاثة، وأنه اذا حصل سباق في غير هذه الثلاثة فإنه يجوز لكن بدون عوض، ويكون أكل المال بهذه الثلاثة مستثنى من جميع أنواع المغالبات.
قال الخطّابي (السبق) بفتح الباء: هو ما يُجعل للسابق على سَبْقه من جُعْل، ونوال، فأما السبْقُ بسكون الباء، فهو مصدر سبقت الرجل أسبُقه سَبْقًا، والرواية الصحيحة في هذا الحديث السّبَقُ مفتوحة الباء، يريد أن الجعل والعطاء لا يُستحقّ إلا في سباق الخيل، والإبل، وما في معناهما، وفي النصل، وهو الرمي،
فائدة: 1
الحكمة من إباحة أخذ العوض في هذه الثلاثة:
لأن في بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد وتحريض عليه.
قال الخطابي: وذلك لأن هذه الأمور عُدّة في قتال العدوّ، وفي بذل الْجُعْل عليها ترغيبٌ في الجهاد، وتحريض عليه.
وقال ابن قدامة: وأما المسابقة بعوض، فلا تجوز إلا بين الخيل، والإبل، والرمي، قال: وبهذا قال الزهريّ، ومالك.
لحديث (لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر) فنفى السبق في غير هذه الثلاثة.
ولأن غير هذه الثلاثة لا يحتاج إليها في الجهاد كالحاجة إليها، فلم تجز المسابقة عليها بعوض. (المغني).
فائدة: 2
اختلف العلماء في حكم أخذ العوض في المسابقة على غير هذه الثلاثة (كالبغال والحمير) على قولين:
القول الأول: المنع.
وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، وقول ابن حزم وكثير من السلف والخلف.
أ- لان غير هذه الثلاثة لا يساويها فيما تضمنته من الفروسية، وتعلم أسباب الجهاد.
ب- ولأن هذه الثلاثة هي التي عهدت عليها المسابقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسابق قط على بغل ولا على حمار مع وجودها عندهم.
القول الثاني: الجواز في كل ذات حافر من البغال والحمير.
وهذا مذهب الحنفية، والشافعية.
لأنها ذوات حوافر، وقد يحتاج إلى سرعة سيرها ونجائها، لأنها تحمل أثقال العساكر، وتكون معها في المغازي.
والقول الأول أرجح.
فائدة: 3
اختلف العلماء: هل يجوز أخذ العوض في المسابقات العلمية على قولين:
القول الأول: المنع.
وهذا قول جمهور العلماء.
فهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
أ- للحديث (لا سبق
…
) فالحديث فيه الحصر.
ب- أن الرهان في العلم لا يحتاج إليه في الجهاد.
القول الثاني: الجواز.
وهذا مذهب الحنفية، واختاره ابن تيمية، وابن القيم.
أ- استدلوا بقصة مراهنة أبي بكر للمشركين بفوز الروم، وهذه مراهنة في العلم.
ب- القياس على ما ورد به النص في الأمور الثلاثة، بجامع أن العلة نصرة الدين وقيامه، فكما يقوم بالجهاد فهو كذلك يقوم بالعلم.
قال ابن القيم: فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد، فهي في العلم أولى بالجواز. والله أعلم.
تنبيه: القمار: قيل: كل لعب على مال يأخذه الغالب من المغلوب، أو هو الذي لا يخلو أن يكون الداخل فيه غانماً إن أخذ أو غارماً إن أعطى.
فائدة: 4
اشترط جمهور العلماء وجود محلل إذا كان الجعل من الطرفين، لإخراج العقد من صورة القمار.
وهذا مذهب أكثر الحنابلة، وجميع الحنفية، والشافعية.
قالوا: لا يجوز أن يكون بذل العوض من جميع المتسابقين إلا أن يُدخل في السباق محلل.
والمحلل: اسم فاعل من حلل: جعله حلالاً، لأنه حلل الجعل بدخوله، والمقصود به هنا: الفرس الثالث من خيل الرهان، وذلك بأن يضع الرجلان رهنين بينهما، ثم يأتي رجل سواهما فيرسل معهما فرسه، ولا يضع رهناً.
واستدلوا:
أ- بحديث أبي هريرة. عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَدْخُلُ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ - وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُسْبِقَ - فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَمِنَ فَهُوَ قِمَارٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيف.
ب- قالوا: بدون محلل قمار، وبالمحلل ينتفي القمار، لأن الثالث (المحلل) لا يغرم قطعاً ويقيناً، وإنما يحتمل أن يأخذ أو لا يأخذ، فخرج بذلك من أن يكون قماراً.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشترط وجود محلل.
هذا اختيار ابن تيمية، وابن القيم.
للحديث السابق (لا سبق إلا في خف
…
) ولم يشترط محللاً.
و لو كان المحلل شرطاً لصرح به.
وعلى هذا فإخراج الجعل من الطرفين قمار في الأصل، ولكنه في هذه المسألة ليس قماراً محرماً، بل هو مستثنى منه، لأن فيه مصلحة، وهي التمرن على آلات القتال، وهي مصلحة عظيمة تنغمر فيها المفسدة التي تحصل بالميسر.
قال السعدي: الصحيح جواز المسابقة على الخيل، والإبل، والسهام بعوض، ولو كان المتسابقان كل منهما مخرجًا العوض، ولأنَّه لا يشترط المحلل، وتعليلهم لأجل أن يخرج عن شبه القمار تعليل فيه نظر، فإنَّه لا يشترط أن يخرج عن شبه القمار، بل هو قمار جائز.
وقال رحمه الله تعالى: المغالبات بالنسبة لأخذ العوض ثلاثة أقسام:
الأول: يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض، وهذا هو الأصل والأغلب، فدخل في هذه المسابقة على الأقدام، والسفن، والمصارعة، ومعرفة الأشد في غير ما فيه تهلكة.
الثاني: لا يجوز بعوض، ولا بغير عوض؛ وذلك كالشطرنج، والنرد، وكل مغالبة ألهت عن واجب، أو دخلت في محرم، والحكمة منها ظاهرة.
الثالث: تجوز بعوض، وهي المسابقة، والمغالبة بين السهام، والإبل، والخيل، لصريح الحديث المبيح.
تنبيه:
الخلاصة: الجعل في المسابقات ينقسم إلى أقسام:
أولاً: إما أن يكون من المتسابقين جميعاً:
فهنا لا يجوز لأنه قمار، إلا في الثلاثة المنصوص عليها. (الخيل والإبل والسهام).
ثانياً: وإما أن يكون من أحدهما:
فهذا جائر.
ثالثاً: وإما أن يكون من أجنبي:
فهذا جائز في كل مسابقة مباح.
فائدة:
(ونوع يحرم مطلقاً).
هذا النوع الثالث من أنواع المسابقات: التي لا تجوز مطلقاً لا بعوض ولا بغير عوض.
ومن أمثلتها:
- النرد.
فإذا كان اللعب بها على مال للغالب فهي حرام بالاتفاق، وإذا كان بغير مال فحرام عند جماهير العلماء.
أ-لحديث بريدة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه) رواه مسلم.
قال النووي: هذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد.
ب- ولحديث أبي موسى. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) رواه أبوداود.
قال بعض العلماء: أخبر أن من لعب بها عاص لله، وذلك يقتضي النهي عن اللعب، وهذا عام في اللعب بها على أي وجه كان من قمار أو غيره.
واللعب بها يجر إلى مفاسد:
منها: المقامرة بها.
ومنها: أن لعبها ولو بغير مال يفضي إلى إِلف النفوس لها والمداومة عليها.
ومنها: أن النفوس مجبولة على حب الغلبة والرفعة، وكثرة المغالبة تؤدي إلى التحاسد والتباغض والتظالم.
ومنها: قالت طائفة من العلماء بأن أصل وضعه كان مبنياً على نفي القدر وإحياء سنة المجوس.
يقول ابن تيمية: قيل: الشطرنج مبني على مذهب القدر، والنرد مبني على مذهب الجبر، فإن صاحب النرد يرمي ويحسب بعد ذلك، وأما صاحب الشطرنج فإنه يقدر ويفكر ويحسب حساب النقلات قبل النقل.
-
الشطرنج:
إذا كان على مال فمحرم بالإجماع، وأما بغير مال فجماهير العلماء على تحريمها.
وقد جاءت أحاديث في تحريمها لا يصح منها شيء.
لكن صح عن علي أنه مر بقوم يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون.
وعن مالك قال (بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فأحرقها).
قال الذهبي: ولو كان اللعب بها حلالاً لما جاز له أن يحرقها لكونها مال اليتيم، ولكن لما كان اللعب بها حراماً أحرقها، فتكون من جنس الخمر إذا وجد في مال اليتيم وجبت إراقته.
وقياساً على النرد.
فائدة:
تعريف القمار.
قال ابن قدامة: القمار ألا يخلو كل واحد منهما - أي المتسابقين - من أن يغنم أو يغرم.
وقال الخطابي: معنى القمار الذي إنما هو: مواضعة بين اثنين على مال يدور بينهما في الشقين، فيكون كل واحد منهما إما غانماً أو غارماً.
وقال الشوكاني: كل ما لا يخلو اللاعب فيه من غنم أو غرم فهو ميسر.
•
أدلة تحريمه.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ).
ب- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ) متفق عليه.
ودلالة الحديث على الحرمة واضحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مجرد الدعوة إلى القمار موجباً للكفارة بالصدقة.
قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ تَكْفِيرًا لِخَطِيئَةٍ فِي كَلَامه بِهَذِهِ الْمَعْصِيَة، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا أَمَرَ أَنْ يُقَامِر بِهِ، وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُ لَا يَخْتَصّ بِذَلِكَ الْمِقْدَار؛ بَلْ يَتَصَدَّق بِمَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَنْطَلِق عَلَيْهِ اِسْم الصَّدَقَة، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مَعْمَر الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم (فَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ).
وقال ابن حجر: القمار من جملة اللهو، ومن دعا إليه دعا إلى المعصية، فلذلك أمر بالتصدق ليكفر عنه تلك المعصية، لأن من دعا إلى معصية وقع بدعائه إليها في معصية.
باب العارية
تعريفها:
العارية بتخفيف الياء وتشديدها، من العُري، وهو التجرد، سميت عارية لتجردها عن العوض.
أو أنها مأخوذة من عار الشيء يعير، إذا ذهب وجاء، لأنها تذهب إلى المستعير ثم تعود إلى المعير.
واصطلاحاً: هي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه ليردها إلى مالكها.
(تبقى) خرج به الأطعمة والأشربة فإنها لا تبقى بعد الاستيفاء.
والعلة: أن الإعارة تستلزم رد العين بعد الانتفاع، وما يستهلك بالانتفاع به كالطعام لا يمكن رده فيكون قرضاً.
(ليردها إلى مالكها) فيه إشارة إلى أن العارية إنما تكون حال حياة المعير، فيخرج بذلك الوصية بالمنفعة، لأنها تمليك بعد الوفاة.
من أمثلة العارية: أن يعيره كتاباً ليقرأ فيه، أو شيئاً من متاع البيت ليستخدمه، أو سيارة يركبها.
(وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع).
قال ابن قدامة: وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ).
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا: الْعَوَارِيُّ.
وَفَسَّرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: الْقِدْرُ وَالْمِيزَانُ وَالدَّلْوُ.
وَأُمًّا السُّنَّةُ، فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ (الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وعن أَنَس. قال (كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ الْمَنْدُوبُ فَرَكِبَ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) رواه البخاري.
وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرُعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْعَارِيَّةِ وَاسْتِحْبَابِهَا.
فائدة:
والعارية سنة.
لأنها حسان والله يحب المحسنين.
أ-لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى).
ب- وقال تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
ج- ولأن فيها عوناً للمسلم، وقضاء حاجته، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
-
وقد اختلف العلماء في وجوبها من عدمه على قولين:
القول الأول: أنها واجبة على الغني.
وهذا اختيار ابن تيمية.
أ-لقوله تعالى (ويمنعون الماعون).
وجه الاستدلال: أن الله تعالى ذم منع الماعون، وقد فُسر ببذل المنافع.
قال ابن مسعود وابن عباس: هو إعارة القدر، والدلو والفأس ونحوها.
ب- عن أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الخيل- قال (
…
الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الإِسْلَامِ فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَلَا رِقَابِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأَهْلِ الإِسْلَامِ
…
). رواه مسلم
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من حق الخيل ما يكون في رقابها وظهورها من الحمل ونحو ذلك، لأن الخيل لا زكاة فيها كما هو معلوم، فكذلك سائر المنافع التي يحتاجها إليها.
ج- وعن جابر. عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه سئل عن حق الإبل؟ فقال: إطراق فحلها وإعارة دلوها) متفق عليه.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بذل هذه المنافع من حق الإبل، فدل ذلك على أن بذل المنافع حق على المستغني.
القول الثاني: عدم الوجوب.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْم.
أ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -في قصة الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام- وفيه:
…
قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا. قَالَ «صَدَقَ» . قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا قَالَ «نَعَمْ»
…
قَالَ ثُمَّ وَلَّى. قَالَ: وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ) متفق عليه.
ب-وعن أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) رواه الترمذي.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر فيهما على إيجاب الزكاة، وأن أداءها يتم به الفرض، ولم يزد على ذلك، فإيجاب العارية زائد.
ج- وعن فاطمة بنت قيس. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس في المال حق سوى الزكاة) رواه ابن ماجه.
وجه الاستدلال: أن ما سوى الزكاة ليس بواجب بذله، والعارية تدخل في هذا العموم فلا تجب.
(تنعقد العارية بكل قول أو فعل يدل عليها).
مِثْلُ قَوْلِهِ: أَعَرْتُك هَذَا، أَوْ يَدْفَعُ إلَيْهِ شَيْئًا، وَيَقُولُ: أَبَحْتُك الِانْتِفَاعَ بِهِ، أَوْ خُذْ هَذَا فَانْتَفِعْ بِهِ، أَوْ يَقُولُ: أَعِرْنِي هَذَا، أَوْ أَعْطِنِيهِ أَرْكَبْهُ أَوْ أَحْمِلْ عَلَيْهِ. وَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا.
لِأَنَّهُ إبَاحَةٌ لِلتَّصَرُّفِ، فَصَحَّ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ بِقَوْلِهِ وَتَقْدِيمِهِ إلَى الضَّيْفِ. (المغني).
(تجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة).
هذه شروط صحة العارية:
الشرط الأول: كون العين منتفعاً بها مع بقائها.
كالدار، والعبيد، والجواري، والثياب، والحلي للبس، فلا يجوز إعارة ما لا نفع فيه.
الشرط الثاني: كون النفع مباحاً.
فلا يجوز إعارة المحرم مثل آلات اللهو.
(ويشترط كون المعير جائز التصرف).
أي: يشترط للعارية: كون المعير جائز التصرف.
قال ابن قدامة: وَلَا تَصِحُّ الْعَارِيَّةِ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ.
لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ، فَأَشْبَهَ التَّصَرُّفَ بِالْبَيْعِ. (المغني)
وجاء في (كشاف القناع): وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا كَوْنُ الْمُعِيرِ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ شَرْعًا، لِأَنَّ الْإِعَارَةَ نَوْعٌ مِنْ التَّبَرُّعِ لِأَنَّهَا إبَاحَةُ مَنْفَعَةٍ.
- وتقدم أن جائز التصرف هو: العاقل، البالغ، الحر، الرشيد.
(وتُضمن مطلقاً).
أي: أن العارية مضمونة مطلقاً فرط أم لم يفرط.
وهذا المذهب.
قال ابن قدامة: العارية مضمونة، وإن لم يتعد فيها المستعير.
أ- لحديث سَمُرَة بْنِ جُنْدُب رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (عَلَى اَلْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِم
وجه الدلالة: أن الحديث أفاد إطلاق الضمان على ما يأخذه الشخص حتى يؤديه، وهذا يتناول العارية.
ب- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اِسْتَعَارَ مِنْهُ دُرُوعاً يَوْمَ حُنَيْنٍ. فَقَالَ: أَغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ? قَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِي
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف العارية بأنها مضمونة، فدل ذلك على ضمانها مطلقاً.
وذهب بعض العلماء: أنها لا تضمن إلا إذا فرط أو تعدى.
كأن أعطيه كتاباً ليقرأ فيه، فوضعه في حوش البيت فسرق فإنه يضمن، لأنه فرط فلم يحفظه في حرزه.
وهذا القول هو الراجح من أقوال العلماء: أنها لا تضمن إلا بالتعدي والتفريط.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية.
لأن قبض المستعير للعارية إنما وقع بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة.
- وأما حديث صفوان (بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ) فمعناه -والله أعلم- أضمن لك ردها لأمرين:
الأمر الأول: في اللفظ الآخر (بل عارية مؤداة) فهذا يبين أن المراد ضمان الأداء لا ضمان التلف.
الثاني: أنه لم يسأله عن تلفها، وإنما سأله: هل تأخذها غصباً، تحول بيني وبينها؟ فقال: لا، بل أخذ عارية أؤديها لك.
وأما حديث (على اليد ما أخذت
…
) معناه: عليها رد ما قبضت لمالكه لا ضمانه، لأن الضمان شيء والأداء شيء آخر.
(وتضمن العارية ببدلها).
المثل في المثلية، والقيمة إن لم تكن مثلية.
مثال: فناجيل القهوة تضمن بمثلها لأنها مثلية.
(وللمعير الرجوع في عاريته أي وقت شاء ما لم يضر بالمستعير).
لأن المنافع المستقبلة لم تحصل في يد المستعير، فجاز الرجوع فيه، كالهبة قبل القبض.
فإن أضر به لم يرجع، لحديث (لا ضرر ولا ضرار).
إذاً: رجوع المعير في عاريته ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون مطلقة ليست مقيدة بزمن أو عمل،
فيجوز للمعير أن يرجع في عاريته متى شاء.
لأن العارية إباحة منافع، وهذه المنافع تقبض شيئاً فشيئاً، فما لم يقبض من هذه المنافع لم يملكه المستعير.
القسم الثاني: أن تكون العارية مقيدة بزمن أو عمل،
هذا موضع خلاف، والأقرب: رأي الإمام مالك: أن العارية إذا كانت مقيدة بزمن أو عمل، فإنه لا يجوز للمعير أن يرجع فيها حتى ينتهي ذلك الزمن أو العمل. (المختصر في المعاملات).
فائدة:
قال ابن قدامة: وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَعِيرِ الرَّدُّ مَتَى شَاءَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ
؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةٌ، فَكَانَ لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ تَرْكُهُ، كَإِبَاحَةِ الطَّعَامِ.
(ومؤنة رد العارية على المستعير).
أ-لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا).
ب-وقال صلى الله عليه وسلم (أد الأمانة إلى من ائتمنك) رواه أبوداود.
ج- أن هذا المستعير قبض العين لمصلحته الخاصة.
د-لأن المعير محسن.
هـ- أننا لو ألزمنا المعير بمؤؤنة الرد فيه سد باب العارية.
(ولا يجوز للمستعير أن يعير العارية لغيره بغير إذن مالكه ولا يؤجرها).
أي: لا يملك المستعير إعارة ما استعاره.
لأن الإعارة ليست تمليكاً للمنفعة كالإجارة، وإنما هي إباحة انتفاع.
جاء في (كشاف القناع) أنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِعَارَةَ وَلَا الْإِجَارَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ بَلْ الِانْتِفَاعَ.
لو أذِن المعير للمستعير بإعارة ما استعارة منه، جاز ذلك.
فائدة: 1
إعارة العبد المسلم لكافر.
قيل: لا يجوز.
قال ابن قدامة: لَا تَجُوزُ إعَارَةُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُ مِنْ اسْتِخْدَامِهِ، فَلَمْ تَجُزْ إعَارَتُهُ لِذَلِكَ.
وقيل: يكره.
والصواب في هذه المسألة: ما يتعلق في خدمة المسلم للكافر قسمان:
القسم الأول: الخدمة المباشرة الذاتية فهذا لا يجوز.
كأن يغسل ثوب الكافر وماعونه ويكنس بيته ونحو ذلك، وعلى هذا لا يصح أن يعير رقيقه المسلم لكافر لمثل هذا النوع من الخدمة.
القسم الثاني: أن تكون الخدمة غير المباشرة الذاتية.
كما لو اشتغل عنده كاتباً، فإن الأصل فيه جائز ولا بأس به، وعلي رضي الله عنه آجر نفسه من نصراني.
فائدة: 2
ولا تعار أمَة شابة لغير محرم أو امرأة.
قال ابن قدامة:. . . وَلَا إعَارَةُ الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ لِرَجُلٍ غَيْرِ مَحْرَمِهَا، إنْ كَانَ يَخْلُو بِهَا، أَوْ يَنْظُرُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا.
وَتَجُوزُ إعَارَتُهَا لِامْرَأَةِ وَلِذِي مَحْرَمِهَا. (المغني).
مثال: هذا رجل عنده أمة شابة فهل يعيرها لرجل؟
لا يجوز لأنه يترتب على ذلك الفتنة من خلوة ونحو ذلك من المحاذير، فإذا أعارها لذي محرم لأخيها أو لعمها جائز ولا بأس به، كذلك لو أعارها لامرأة جائز ولا بأس به.
فائدة: 3
الفرق بين الإجارة والعارية:
أولاً: أن نفقة رد العين المستعارة على المستعير، وفي باب الإجارة مؤونة رد العين المؤجرة على المؤجر، فالمستأجر يرفع يده عنها.
ثانياً: أن المستعير لا يملك أن يعير العارية، وأما المستأجر يملك إعارتها.
ثالثاً: أن المستعير لا يملك أن يؤجر (استعرت السيارة لمدة أسبوع لا تملك أن تؤجر على زيد أو بكر؛ لأنك لست مالكاً للمنافع)، لكن المستأجر يملك أن يؤجر.
رابعاً: أن عقد الإجارة من عقود المعاوضات، وأما عقد العارية من عقود التبرعات.
خامساً: أن العارية إباحة للمنافع، وإما الإجارة فهي تمليك للمنافع.
باب الغصب
تعريفه:
لغة: أخذ الشيء ظلماً.
اصطلاحاً: هو الاستيلاء على حق الغير قهراً بغير حق.
قوله: (الاستيلاء) أي: إن الغصب تصرف فعلي، يقوم على الاستيلاء الذي ينبني على القهر والغلبة.
وقوله: (قهراً) خرج به لو استولى عليه خلسة أو سرقة، فإن هذا لا يعد غصباً اصطلاحاً، فالسارق: هو من يأخذ المال خفية، والمختلس: هو من يأخذ الشيء جهاراً بحضرة صاحبه في غفلة منه.
وقوله: (بغير حق) خرج به الاستيلاء بحق، كاستيلاء الحاكم على مال المفلس ليوفي الغرماء.
(وهو حرام).
أي: أن الغصب محرم.
أ-قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).
ب-وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).
ج- وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ اِقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ اَلْأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اَللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وأجمع العلماء على تحريم الغصب في الجملة. (قاله ابن قدامة)
فائدة:
وقد اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ اِقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ اَلْأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اَللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ):
فقيل: أن يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه.
وقيل: يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه، ويؤيد هذا حديث ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أخذ من الأرض شبراً بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين).
وقيل: أنه يطوق إثم ذلك ويلزمه كلزوم الطوق بعنقه.
(يلزم الغاصب رد المغصوب بزيادتهِ).
أي: يجب على الغاصب رد المغصوب إذا كان بحاله.
قال ابن قدامة: فمن غصب شيئاً لزمه رده إن كان باقياً بغير خلاف نعلمه.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أبو داود.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (من أخذ عصا أخيه فليردها) رواه أبو داود.
- قوله (بزيادته) أي: يلزم الغاصب رد المغصوب بزيادته سواء كانت متصلة أو منفصلة.
لأنها من نماء المغصوب، وهو لمالكه، فلزمه ردها كالأصل.
مثال الزيادة المتصلة: غصب عناقاً صغيرة ثم كبرت وسمنت، فيجب عليه أن يردها بزيادتها، وكتعلم العبد صنعة.
مثال الزيادة المنفصلة: غصب شاة حائلاً، فولدت عنده، فيجب عليه أن يردها بزيادتها.
(ولو غرم أضعافه).
أي: يجب رده ولو غرم أضعاف، فلو لم يتمكن من رده إلا أن يخسر الغاصب قيمته عشر مرات، فإنه يجب رده ولو غرم.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) رواه أحمد.
والقاعدة: أن الغاصب ظالم معتدي، فيعامل بأضيق الأمرين.
(يلزم الغاصب ضمان نقص المغصوب ولو كان بغير فعله).
مثاله: غصب أمة شابة، وبقيت عنده لمدة شهرين، وأتاها ما يوحشها، فابيض شعرها، فكانت بالأول تساوي [100] درهم، والآن تساوي [50] درهم، فيلزم الغاصب [50] درهم، لأنها نقصت تحت استيلائه، فوجب عليه الضمان.
وأيضاً: لو أن هذه البهيمة هزلت وقل لحمها وجب عليه أرشها فيضمن النقص.
ومثل ذلك: ثوب تخرق، وبناء تهدم، وإناء تكسّر.
لأنه نقْص حصل في يد الغاصب فوجب ضمانه.
فائدة: 1
وإن غضب شيئاً له أجرة، كالعقار،
والدواب ونحوها فعليه أجرة مثله، سواء استوفى المنافع أو تركها حتى ذهبت.
لأنها تلفت في يده العادية، فكان عليه عوضها.
فلو غصب أرضاً فعليه أجرتها منذ غصبها إلى وقت تسليمها.
فائدة: 2
اختلف العلماء: هل يضمن ما نقص بسعر؟
مثال: غصب شاة تساوي 200 ريال، وبقيت عنده ولم يلحقها نقص في ذاتها ولا عيب، ولكن القيمة نقصت فصارت تساوي: 100، فردها الغاصب على صاحبها، فهل يضمن المائة؟
قيل: لا يضمن.
لأنه رد العين بذاتها لم تتغير.
وقيل: يضمن، واختاره ابن تيمية.
وهذا القول هو الصحيح.
(وأجرتُه مدة بقائه بيده).
أي: وإن غصب شيئاً له أجرة، كالعقار، والدواب ونحوها فعليه أجرة مثله، سواء استوفى المنافع أو تركها حتى ذهبت.
لأنها تلفت في يده العادية، فكان عليه عوضها.
فلو غصب أرضاً فعليه أجرتها منذ غصبها إلى وقت تسليمها.
لأنه فوّت منفعته على صاحبه.
(وضمانه إذا تلف مطلقاً).
أي: ويجب ضمانه إذا تلف مطلقاً، سواء تعدى أو فرط أو لم يتعدى ولم يفرط، لأن يده يد ظالم.
فإن كان مثلياً وجب ضمانه بمثله، وإن لم يكن له مثل ففي قيمته.
فائدة:
المثلي: ما له نظير أو مقارب من معدود أو مكيل أو موزون أو مصنوع أو غير ذلك (وهذا قول ابن تيمية).
بدليل حديث أَنَس رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا، وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ «كُلُوا». وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ) رواه البخاري.
ولأن الضمان بالشبيه والمقارب يجمع الأمرين وحصول مقصود صاحبه.
مثال: فناجين القهوة يضمنها بفناجين قهوة مثلها.
فإذا لم يكن ضمانه بالمثلي ضمنه بقيمته.
(وإنْ غصبَ عبداً فزاد في بدنهِ أو بتعليمهِ، ثم ذهبت الزيادة، ردّه وقيمة الزيادة).
يعني أن العبد زادت قيمته الغاصب، كأن يتعلم صنعة عنده، فيزيد في قيمته، ثم ذهبت الزيادة الحاصلة، كأن ينسى الصنعة بعد أن تعلمها عند الغاصب، فهنا يلزم الغاصب رد العبد مع قيمة الزيادة التي حصلت عنده.
وذهب بعض العلماء: بل يرد العبد فقط ولا يضمن الزيادة.
لأنه ردّ العين كما أخذها.
(وإن كانت أرضاً فغرس أو بنى فيها فلربه قلعُه).
أي: من غصب أرضاً فبنى فيها أو غرس زرعاً ألزِم قلع البناء والغرس.
لحديث عروة بن الزبير قال (قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض غرَسَ أحدهما فيها نخلاً، والأرض لآخر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخل أن يُخرج نخلَه منها، وقال: ليس لعرقٍ ظالم حق) رواه أبوداود وحسنه الحافظ ابن حجر.
قال أبو عبيد: فهذا الحديث مفسر للعرق الظالم، وإنما صار ظالماً لأنه غرس في الأرض وهو يعلم أنها ملك لغيره، فصار بهذا الفعل ظالماً غاصباً، فكان حكمه أن يقلع ما غرس.
• أما إذا زرع فيها الغاصب: خُيِّرَ مالكها بين أخذ الزرع ويدفع نفقته للغاصب، وبين تركه إلى الحصاد بأجرة مثله، لأن الغاصب شغلها بماله، فملَك صاحبها أخذ الأجرة.
والقول بالتفريق بين الغرس فيقلع، والزرع فيبقى هو الأظهر من قولي أهل العلم، لأن الغرس مدته تطول ولا يعلم متى ينقلع من الأرض، بخلاف الزرع.
(ومن انتقلتْ إليه العين من الغاصب وهو عالم فحكمه حكم الغاصب).
أي: لو اشترى شخص بيتاً وهو يعلم أنه مغصوب، فهو شريك للغاصب، لأنه يعتبر شاركه في الغصب، لأن هذه العين ليس ملكاً له وإنما هي مغصوبة.
(ويَضمن رب بهيمةٍ ما أتلفتْ من زرعٍ وغيرهِ ليلاً لا نهاراً إن لم تُرسل بقربه).
وقد اختلف العلماء رحمهم الله إذا أتلفت البهائم شيئاً من الزروع.
فأكثر العلماء على أن ما أفسدته البهائم ليلاً يضمنه أرباب الماشية بقيمته.
لحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن على أهل الحوائط حفظها في النهار وما أفسدته المواشي بالليل ضامن على أهلها) رواه أبو داود
والحائط: هو البستان إذا كان عليه جدار.
قال الشافعي عن الحديث: أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله. (التلخيص الحبير).
ومن أهل العلم من يحتج في هذه المسألة بقصة داود وسليمان عليهما السلام في الغنم التي نفشت في الحرث قال تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ).
قال الشوكاني: فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية، قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عيناً أو قيمة، وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث.
…
(تفسير فتح القدير).
وقال الإمام البغوي: ذهب إلى هذا بعض أهل العلم: أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها وما أفسدت بالليل يضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار وأصحاب المواشي يسرحونها بالنهار ويردونها بالليل إلى المراح فمن خالف هذه العادة كان خارجاً عن رسوم الحفظ إلى حد التضييع هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها فإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفته سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها أو كانت واقفة وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو فمها وإلى هذا ذهب مالك والشافعي. (شرح السنة).
وقال الحافظ ابن عبد البر: وإنما وجب - والله أعلم - الضمان على أرباب المواشي فيما أفسدت من الزرع وشبهه بالليل دون النهار لأن الليل وقت رجوع الماشية إلى مواضع مبيتها من دور أصحابها ورحالهم ليحفظوها ويمسكوها عن الخروج إلى حرث الناس وحوائطهم لأنها لا
يمكن أربابها من حفظها بالليل لأنه وقت سكون وراحة لهم مع علمهم أن المواشي قد آواها أربابها إلى أماكن قرارها ومبيتها وأما النهار فيمكن فيه حفظ الحوائط وحرزها وتعاهدها ودفع المواشي عنها. ولا غنى لأصحاب المواشي عن مشيتها لترعى فهو عيشها فألزم أهل الحوائط حفظها نهاراً لذلك والله أعلم وألزم أرباب الماشية ضمان ما أفسدت ليلاً لتفريطهم في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل. ولما كان على أرباب الحوائط حفظ حوائطهم في النار فلم يفعلوا كانت المصيبة منهم لتفريطهم أيضاً وتضييعهم ما كان يلزمهم من حراسة أموالهم.
…
(الاستذكار).
فيؤخذ من كلام أهل العلم أن تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين إفساد المواشي بالنهار وإفسادها بالليل لأنه بالنهار يمكن التحفظ من الماشية دون الليل فإذا أتلفت بالنهار فالتقصير من أصحاب المزارع في حفظ زروعهم فلا يكون الإتلاف بالنهار موجباً للضمان بخلاف الإتلاف بالليل فإن التقصير يكون من صاحب المواشي فيكون الإتلاف بالليل موجباً للضمان.
تنبيه:
قال الإمام النووي: إذا كان مع البهيمة شخص ضمن ما أتلفته من نفس ومال سواء أتلفت ليلاً أو نهاراً وسواء كان سائقها أو راكبها أو قائدها وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو عضها أو ذنبها لأنها تحت يده وعليه تعهدها وحفظها وسواء كان الذي مع البهيمة مالكها أو أجيره أو مستأجراً أو مستعيراً أو غاصباً لشمول اليد وسواء البهيمة الواحدة والعدد. روضة الطالبين 7/ 400.
فائدة: 1
إذا غصب جارحاً أو كلباً فحصل بذلك صيداً، فإن الصيد يكون لمالكه، لأن الكلب لمالكه.
وكذلك إذا غصب عبداً وصاد هذا العبد طيوراً، فإن الصيد لمالكه.
فائدة: 2
وأما إذا غصب فرساً: فصاد به، فإن الصيد للغاصب، لأن الفرس ليس هو الذي يصيد، بل يصاد عليه، والصائد هو الغاصب، لأن الغاصب صاد بسهمه، لكن على الغاصب أجرة الفرس.
باب الشفعة
تعريفها:
الشفعة شرعاً: هي انتزاع الشريك حصة شريكه ممن اشتراها منه بالثمن الذي استقر عليه العقد.
قال ابن قدامة: وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ الشَّرِيكِ انْتِزَاعَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ الْمُنْتَقِلَةِ عَنْهُ مِنْ يَدِ مَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ.
وقال في الفتح: وفي عُرف الشرع: انتقال حصة شريك إلى شريك، كانت انتقلت إلى أجنبي، بمثل العِوض المسمّى.
مثال الشفعة: زيد وعمرو شريكان في أرض، فباع عمرو نصيبه على خالد، فنقول لزيد أن ينتزع نصيب عمرو من خالد بالثمن الذي استقر عليه العقد.
(وهي ثابتة بالسنة والإجماع).
قال ابن قدامة: وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: (قَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ (اَلشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ: أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ).
قال ابن قدامة: أَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ، فِيمَا بِيعَ مِنْ أَرْضِ أَوْ دَارٍ أَوْ حَائِطٍ.
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ لِشَرِيكِهِ، وَتَخْلِيصِهِ مِمَّا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنْ تَوَقُّعِ الْخَلَاصِ وَالِاسْتِخْلَاصِ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيه حُسْنُ الْعِشْرَةِ، أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ، لِيَصِلَ إلَى غَرَضِهِ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ، وَتَخْلِيصِ شَرِيكِهِ مِنْ الضَّرَرِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَبَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، سَلَّطَ الشَّرْعُ الشَّرِيكَ عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ إلَى نَفْسِه.
وقال في الفتح: ولم يختلف العلماء في مشروعيتها، إلا ما نُقل عن أبي بكر الأصم من إنكارها.
فائدة:
وقد اختلف العلماء في ثبوت الشفعة للكافر على المسلم على قولين:
(لو باع شريك الذمي شقصاً على مسلم، فهل للذمي الشفعة على المسلم أم لا).
القول الأول: أنه لا شفعة لكافر على مسلم.
وهذا المذهب، واختيار ابن القيم.
أ- لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا شفعة للنصراني) رواه البيهقي ولا يصح.
ب- أننا لو مكناه من الشفعة لجعلنا له سلطاناً على المسلم.
القول الثاني: أن له الشفعة.
وهذا قول جماهير العلماء.
لعموم الأدلة.
وهو الصحيح.
(ولا تثبت إلا بشروط منها: كونه مبيعاً).
وهذا بالإجماع في أن الشفعة تثبت بالبيع.
أي: يشترط لحصول الشفعة أن تكون حصة الشريك انتقلت إلى المشتري الأجنبي بالبيع.
قال ابن قدامة: مَا عِوَضُهُ الْمَالُ، كَالْبَيْعِ، فَهَذَا فِيهِ الشُّفْعَةُ بِغَيْرِ خِلَافٍ.
- واختلف العلماء فيما لو انتقلت بغير عوض مالي كالهبة، هل للشريك الشفعة أم لا:
مثال: شريكان في أرض، وهب أحدهما نصيبه لشخص ثالث، فهل لشريكه أن يأخذ بالشفعة؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا تثبت بالهبة
وهذا مذهب جمهور العلماء.
لأنها انتقلت بغير عوض مالي.
القول الثاني: أن الشفعة تثبت في الهبة.
وهذا قول ابن أبي ليلى وجماعة.
قالوا: لأن الضرر حاصل بالشريك الجديد.
قال الشيخ ابن عثيمين: أن يكون انتقال الملك فيه بالاختيار كالهبة، فالمذهب أنه لا شفعة، والصحيح أن الشفعة ثابتة؛ لأن الحكمة من الشفعة موجودة في الهبة، إذ إن الحكمة من الشفعة إزالة ضرر الشريك الجديد عن الشريك الأول.
فائدة:
لا تثبت الشفعة إذا انتقل النصيب بالإرث.
مثال: زيد وعمرو شريكان في أرض، فمات عمرو، فانتقل نصيبه إلى ورثته، فهل لزيد أن يشفع؟
الجواب: لا، لأنه انتقل بغير عوض، ولأنه انتقال غير اختياري.
(ومنها: أن يكون عقاراً).
أجمع العلماء على ثبوت الشفعة في العقارات.
فائدة: 1
اختلفوا في غير العقارات كالمنقولات (كالسيارات ونحوها) على قولين:
القول الأول: عدم ثبوت الشفعة في المنقول.
وبه قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ- لحديث جابر السابق (
…
فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ فَلَا شُفْعَة).
قالوا: إن وقوع الحدود وتصريف الطرق لا يتصور في المنقول.
ب- ولحديث (اَلشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ: أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ).
قالوا: جعل الشفعة في الربع والحائط، ولم يذكر المنقول.
القول الثاني: ثبوت الشفعة في المنقول.
وهذا اختيار ابن تيمية.
أ- للحديث (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء).
قالوا: إن هذا الحديث عام، فيدخل فيه المنقول.
ب- أن الشفعة شرعت لإزالة الضرر، والضرر الثابت في العقار هو بعينه ثابت في المنقول.
وهذا القول هو الصحيح.
مثال: زيد وعمرو شريكان في سيارة، فباع عمرو نصيبه على بكر، فإنه - على القول الراجح - لزيد أن يشفع.
فائدة: 2
اختلف العلماء: هل تثبت الشفعة فيما لا يقبل القسمة من العقار؟
لأن العقار المبيع إما أن يكون مما يقبل القسمة كالعقار الكبير من أرض أو دار أو مزرعة، وإما أن يكون مما لا يقبل القسمة بحيث لو قسم لم يعد كل قسم صالحاً للبيع وحده أو الانتفاع به، كالعقار الصغير من طريق ضيقة أو بئر أو نحو ذلك، فأما ما يقبل القسمة فلم يختلف أهل العلم في ثبوت الشفعة فيه، وأما ما لا يقبل القسمة فقد اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: ثبوت الشفعة.
وبه قال الحنفية، والظاهرية، واختار ذلك ابن تيمية.
أ- لعموم للحديث (قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفعة في كل ما لم يقسم).
ب- أن الشفعة تثبت لإزالة الضرر بدخول شريك، والضرر متحقق في هذا النوع من العقار.
القول الثاني: عدم ثبوت الشفعة.
وبه قال المالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ- للحديث (
…
في كل مالم يقسم).
قالوا: إن تعليقه ثبوت الشفعة في الشيء بما إذا لم يقسم دليل على أن ما لا يقبل القسمة لا تجري فيه الشفعة أصلاً.
ب- أن إثبات الشفعة هنا يلحق الضرر بالشريك البائع، لأنه لا يمكن أن يستقل بنصيبه بالقسمة، وقد يمتنع المشتري لأجل الشفيع، وفي كل هذا ضرر على البائع.
(ومنها: أن يكون شقصاً مشاعاً).
(شقصًا) يعني جزءًا (مشاعًا) المشاع: هو الشيء المشترك غير المقسوم.
فالعقار إذا كان فيه شركة ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يكون العقار كعقار واحد كما هو للشخص الواحد، فهذا النوع من العقار تثبت فيه الشفعة بالسنة والإجماع كما تقدم.
والثاني: أن يقسم العقار ويحدد لكل شريك نصيبه، فحينئذ هو عقار مقسوم، فهذا اختلف العلماء فيه، وجماهير العلماء على عدم الشفعة.
فائدة:
اختلف العلماء في الشفعة للجار على أقوال:
القول الأول: عدم ثبوت الشفعة للجار مطلقاً.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال الشوكاني: وقد حكي هذا القول عن: علي، وعمر، وعثمان، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز،
وربيعة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق.
أ- لحديث جابر السابق (
…
فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ).
فهذا الحديث دليل على أن ما قسِم لا شفعة فيه، وأن الحدود إذا وجدت بين الأملاك فلا شفعة.
ب- أن الضرر الذي شرعت من أجل رفعه الشفعة لا يتحقق بسبب الجوار، لتميز كل ملك عن الآخر، لصاحبه حرية التصرف فيه، بخلاف الملك المشترك.
القول الثاني: أن للجار الشفعة مطلقاً.
وهذا مذهب الحنفية.
أ- لحديث أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
ب- ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (جَارُ اَلدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
القول الثالث: ثبوت الشفعة للجار عند الاشتراك في حق من حقوق الارتفاق.
وهذا اختيار ابن تيمية، وابن القيم.
أ-لحديث جابر قال: قال صلى الله عليه وسلم (اَلْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا -وَإِنْ كَانَ غَائِبًا- إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ
فهذا الحديث أثبت الشفعة للجار إذا كان الطريق مشتركاً بينهما.
ب- أن المشاركة في الحقوق كالمشاركة في الملك، من حيث كثرة المخالطة ووجود الضرر بين الشركاء، والشفعة إنما شرعت لرفع الضرر.
وهذا القول هو الصحيح.
وأما الجواب عن حديث جابر (فَإِذَا وَقَعَتِ اَلْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ اَلطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ):
أولاً: أن قوله (فإذا وقعت
…
) مدرجة من قول جابر.
ورد ذلك بأن الأصل، أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت الإدراج.
ثانياً: قالوا: إن ذكر الحكم لبعض أفراد العموم لا يقتضي التخصيص، بمعنى: إذا جاء عموم ثم فرع عليه بذكر حكم يختص ببعض أفراده فإنه لا يقتضي التخصيص.
(ومنها: أن يكون مما ينقسم، فأما ما لا ينقسم فلا شفعة فيه).
أي: أن تكون الشفعة في شيء يمكن قسمته كأرض، ودار واسعة.
لحديث جابر السابق ( .. في كل ما لم يقسم).
فأما ما لا ينقسم كبئر، ودار صغيرة، ودكان صغير، فلا شفعة فيه.
واختار ابن تيمية أن الشفعة تثبت فيما لا ينقسم، لعموم الدليل، فإنه صريح في عموم الشفعة في كل عقار لم يقسم، سواء أمكنت قسمته أم لا، ولأن الشفعة شرعت لدفع الضرر، والضرر في هذا النوع أكثر.
(ومنها: طلب الشفعة ساعة يعلم).
فإن أخر الطلب لغير عذر بطلت.
فالشفعة على الفور. (أي: من حين أن يعلم يجب أن يطالب).
وها مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.
قال ابن قدامة: الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ، إنْ طَالَبَ بِهَا سَاعَةَ يَعْلَمُ بِالْبَيْعِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ.
أ- لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(اَلشُّفْعَةُ كَحَلِّ اَلْعِقَالِ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَه، وهو ضعيف.
ب- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الشفعة لمن واثبها).
ج- ولأن الشفعة لدفع الضرر عن الشريك فكانت على الفور.
وذهب بعض العلماء إلى أن الشفعة تثبت للشريك على التراخي.
وهذا مذهب المالكية.
أ- أن الشفعة حق من جملة الحقوق التي لا تسقط إلا بالرضا بإسقاطها بما يدل على الرضا من قول أو فعل.
فالشفعة لا تسقط إلا بما يدل على سقوطها، إما بقول صريح، أو قرينة ظاهرة.
القول الصريح: أن يقول: لما علم أن شريكه قد باع، أنا لست بمطالب.
القرينة الظاهرة: أن يسكت ويرى أن المشتري قد تصرف وعمل وهو ساكت، فهذه قرينة ظاهرة تدل على رضاه.
ب- أن إلجاء الشفيع إلى الفورية وعدم إعطائه الفرصة للنظر غير مناسب لما شرعت له الشفعة.
فائدة:
إن ترك الشفعة لغَيْبة،
أو حبس أو صغَرٍ فهو على شفعته متى قدر عليها.
(ومنها: أخذ جميع المبيع).
دفعاً لضرر المشتري بتبعيض الصفقة في حقه بأخذ بعض المبيع، مع أن الشفعة على خلاف الأصل دفعاً لضرر الشركة، والضرر لا يزال بالضرر.
(ومنها: إمكان الثمن، فإن عجز عنه، أو عن بعضه بطلت شفعته).
لتعذر حصول المشتري على الثمن، والشفعة إنما شرعت لدفع الضرر فلا تثبت معه.
فائدة:
تسقط الشفعة بأمور:
أولاً: ترك طلب الشفعة.
ثانياً: إذا طلب الشفيع بعض العقار المبيع.
ثالثاً: الإبراء والتنازل عن الشفعة.
رابعاً: التنازل عن الشفعة مقابل تعويض أو صلح.
(ويحرم التحيل لإسقاط الشفعة).
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) رواه ابن بطة.
-
من صور التحيل:
أولاً: أن يظهر الشريك والمشتري أن البيع بثمن كبير.
مثال: أن يبيعه بعشرة آلاف، ويقول أنني بعتها بخمسين ألف، فإن الشريك الآن لن يطالب بالشفعة، لأنه إذا طالب سوف يأخذها بالثمن الذي استقر عليه العقد.
ثانياً: أن يظهر الشريك والمشتري أن الانتقال بغير عوض، فيقول الشريك لشريكه: إنني قد وهبت فلان نصيبي من الأرض،
وإذا قال: وهبت فلا شفعة على مذهب الجمهور.
ثالثاً: أن يوقف المشتري النصيب فوراً.
باب الوديعة
تعريفها:
لغة: من ودع الشيء إذا تركه، سميت بذلك لأنها متروكة عند المودع.
وشرعاً: اسم للمال المودَع عند من يحفظه بلا عوض.
وعلى هذا فالشرط في الوديعة أن تكون على سبيل التبرع، فخرج بذلك الأجير على حفظ المال.
(وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع).
قال ابن قدامة: وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا).
وقَوْله تَعَالَى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ).
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك).
وَرُوِيَ عَنْهُ عليه السلام (أَنَّهُ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدَائِعُ فَلَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ أَوْدَعَهَا عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا).
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى جَوَازِ الْإِيدَاعِ وَالِاسْتِيدَاعِ.
وَالْعِبْرَةُ تَقْتَضِيهَا، فَإِنَّ بِالنَّاسِ إلَيْهَا حَاجَةً، فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى جَمِيعِهِمْ حِفْظُ أَمْوَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَحْتَاجُونَ إلَى مَنْ يَحْفَظُ لَهُمْ. (المغني)
(يسن للمودَع قبولها إذا علم من نفسه أنه ثقة على حفظها).
أي: يسن للمودَع يستحب أن يقبل الوديعة إذا علم من نفسه أنه ثقة على حفظها.
أ-لأن في ذلك ثواباً جزيلاً.
ب- وقال تعالى (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
ج-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (
…
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
د- ولأن ذلك من باب إعانة المسلم.
قال ابن قدامة: قبول الوديعة مستحب لمن علم من نفسه الأمانة، لما فيه من قضاء حاجة أخيه ومعونته، وقد أمر الله تعالى ورسوله بهما.
وإن كان عاجزًا عن حفظها، أو خائفًا من نفسه عليها، لم يجز له قبولها؛ لأنه يغرر بها إلا أن يخبر ربها بذلك فيرضاه، فإن الحق له، فيجوز بذله.
…
(الكافي).
(ويشترط لصحتها كونها من جائز التصرف لمثله).
وجائز التصرف هو: العاقل، البالغ، الحر، الرشيد.
فلو أودَع ماله لصغير، أو مجنون، أو سفيه فأتلفه فلا ضمان، لتفريطه بدفعه إلى أحدهم.
وإن أودعه أحدهم صار ضامناً.
فالحالات أربع:
من جائز التصرف لمثله: فهذه جائزة صحيحة.
من جائز التصرف لغير جائز التصرف: فلا ضمان على المودَع، لأنه هو الذي فرّط بإعطاء ماله لهؤلاء.
من سفيه لمثله: فهذه لا تنعقد، ولا تصح.
من سفيه لجائز التصرف: وهذا لا يصح، فإن أخذ المال منه وتلف المال عند المودَع ضمنه، لأنه أخذ المال بغير إذن وليه.
(ويجب على المودَع حفظ الوديعة في حرز مثلها كما يحفظ ماله).
أي: أنه يجب على المودع أن يحفظ الوديعة، وأن يكون ذلك الحفظ في حرز مثلها.
إذاً: يجب أولاً حفظها، وثانياً: في حرز مثلها.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن على المودع إحراز الوديعة وحفظها.
وقال ابن حزم: فرض على من أودعت عنده وديعة حفظها.
أ- لأن الله تعالى أمر بأدائها، كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ولا يمكن أداؤها إلا بحفظها.
ب- ولأن المقصود من الإيداع الحفظ، والاستيداع التزام ذلك، فإذا لم يحفظها لم يفعل ما التزمه.
(حرز مثلها) المكان الذي تحفظ فيه عادة. فالغنم مثلاً تحفظ في الأحواش، الذهب في الصناديق.
قال ابن قدامة: إذَا لَمْ يَحْفَظْهَا كَمَا يَحْفَظُ مَالَهُ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِزَهَا بِحِرْزِ مِثْلِهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا، وَحِرْزُ مِثْلهَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.
(وردها إذا طلبها صاحبها).
أي: يجب على المودَع رد الوديعة إلى صاحبها إذا طلبها المودِع.
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا).
وقال صلى الله عليه وسلم (أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك).
وَلِأَنَّهَا حَقٌّ لِمَالِكِهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ غَيْرِهِ، فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا إلَيْهِ، كَالْمَغْصُوبِ وَالدَّيْنِ الْحَالِ.
قال ابن قدامة: لا خِلَافَ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَالِكِهَا، إذَا طَلَبِهَا.
وقال ابن حزم: فرض على من أودعت عنده وديعة حفظها، وردها إلى صاحبها إذا طلبها منه.
(والوديعة أمانة، فلا تُضمن إلا بالتعدي والتفريط).
قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ، فَإِذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْمُودَعِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، سَوَاءٌ ذَهَبَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ مَالِ
الْمُودِعِ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. (المغني).
أ-لأنها أمانة، والأمين لا يضمن إذا لم يتعد.
ب- ولأن المودَع يحفظها تبرعاً، فلو ضمن لامتنع الناس من قبول الودائع فيترتب على ذلك الضرر بالناس وتعطل المصلحة.
ج- وقد جاء في حديث (من أودع وديعة فلا ضمان عليه).
فائدة: 1
الأمين: من قبض المال بإذن من الشارع أو من المالك.
فائدة: 2
فإن فرط أو تعدى فإنه يضمن.
قال ابن قدامة: فَأَمَّا إنْ تَعَدَّى الْمُسْتَوْدَعُ فِيهَا، أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيدَاعٍ. (المغني).
فائدة: 3
التعدي: أن يفعل ما لا يجوز،
والتفريط: أن يترك ما يجب (في الحفظ).
أمثلة للتعدي والتفريط:
أ-أن يحفظها بدون حرزها، كأن يحفظ الدراهم في السيارة بدلاً من الصندوق.
ب- أن يستعملها بغير إذن صاحبها، كأن يستعمل السيارة أو الدابة أو يقرأ الكتاب.
ج-أن يتصرف في الوديعة بإجارة أو إعارة أو رهن أو إقراض ونحو ذلك.
(وإذا دفع المودَع الوديعة لأجنبي - لغير عذر - فتلفت فإنه يضمن).
لأنه خالف المودِع، فإنه أمره أن يحفظها بنفسه ولم يرض لها غيره، فالمودِع إما رضي المودَع ولم يرض غيره.
فدفع الوديعة إلى أجنبي ليقوم بحفظها لها حالتان:
الأولى: أن يكون ذلك لغير عذر.
فهذا لا يجوز، ويضمن إذا تلفت.
الثانية: أن يكون ذلك لعذر.
كأن يحترق البيت، فيسلم الأمانة التي فيه لأجنبي ليحفظها حتى يتمكن من تهيئة مكان، أو يمرض لا يقدر على متابعتها، فإن أمكنه أن يردها إلى مالكها ردها، فإن لم يقدر فله أن يعطيها لأجنبي ويتحرى الأمين.
فائدة: 1
إذا حدث للمودَع سفر فإنه:
يردها إلى صاحبها أو وكيله في قبضها.
فإن تعذر {أي صاحب الوديعة غائب} فإنه يسافر بها إن كان أحرز.
فإن لم يكن السفر أحفظ دفعها إلى الحاكم، لأن الحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته.
فإن لم يمكن إيداعها عند الحاكم أودعها عند ثقة.
فائدة: 2
هل له أن يسافر بالوديعة؟
له أن يسافر بها إلا في حالتين:
الأولى: إذا نهاه ربها قال لا تسافر بها.
الثانية: إن كان عدم السفر بها أحفظ لها.
فائدة: 3
إذا أودع الرجل وديعة، وطلب من المودَع أن يحفظها في مكان معين،
فإن حفظها فيه فلا ضمان عليه.
قال ابن قدامة:
…
فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ -يعني ما يحفظها فيه- لَزِمَهُ حِفْظُهَا فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حِرْزَ مِثْلِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وقال رحمه الله: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ إذَا أَمَرَ الْمُسْتَوْدَعَ بِحِفْظِهَا فِي مَكَان عَيَّنَهُ، فَحَفِظَهَا فِيهِ، وَلَمْ يَخْشَ عَلَيْهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِأَمْرِهِ، غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي مَالِهِ.
وَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا سَيْلًا وَتَوًى، يَعْنِي هَلَاكًا، فَأَخْرَجَهَا مِنْهُ إلَى حِرْزِهَا، فَتَلِفَتْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
بِغَيْرِ خِلَافٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَقْلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ تَعَيَّنَ حِفْظًا لَهَا، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا.
وَإِنْ تَرَكَهَا مَعَ الْخَوْفِ فَتَلِفَتْ، ضَمِنَهَا سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِالْأَمْرِ الْمَخُوفِ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، لِأَنَّ حِفْظَهَا نَقْلُهَا، وَتَرْكَهَا تَضْيِيعٌ لَهَا.
…
(المغني)
فائدة:
ما الحكم إذا قال ربها: خذ الوديعة فاحفظها في مكان كذا وكذا، فخالف؟
إذا خالف المودَع فلا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يخالف إلى أعلى. (يحفظها في مكان أحرز منه).
مثال: قال احفظها في صندوق الخشب، فحفظها في صندوق الحديد.
فلا ضمان عليه.
لأن من رضي حرزاً رصي بما هو أحرز منه، ولأنه بفعله هذا قد زاده ولم ينقصه.
قال ابن قدامة: وإن أحرزها في حرز مثلها أو فوقه لم يضمن؛ لأن من رضي بحرز مثلها رضي بما فوقه. (الكافي).
الحالة الثانية: أن يخالف إلى مساوٍ.
مثال: قال احفظها في صندوق الخشب الأول فحفظها في صندوق الخشب الثاني.
فإنه في هذه الحالة يضمن.
الحالة الثالثة: أن يخالف إلى أدنى.
قال احفظها في صندوق الحديد، فحفظها في صندوق الخشب ونحو ذلك.
فإنه يضمن، إلا أن يخاف عليه من حرق أو غرق كما تقدم عن ابن قدامة.
(وإذا قطع العلف عن الدابة حتى ماتت فإنه يضمن).
لأنه مفرط.
لأن العرف يقتضي علفها وسقيها، فكأنه مأمور به عرفاً.
وقيل: لا يلزمه.
لأنه استحفظه إياها ولم يأمره بعلفها.
قال ابن قدامة: وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِعَلْفِهَا، لَزِمَهُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
لِأَنَّهُ اسْتَحْفَظَهُ إيَّاهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِعَلْفِهَا، وَالْعَلْفُ عَلَى مَالِكِهَا، فَإِذَا لَمْ يَعْلِفْهَا كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطَ فِي مَالِهِ.
قال ابن قدامة مرجحاً القول الأول:
وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إتْلَافُهَا، وَلَا التَّفْرِيطُ فِيهَا، فَإِذَا أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ عَلْفَهَا وَسَقْيَهَا. (المغني).
فائدة:
وقد اختلف العلماء في حكم: إن قال صاحبها لا تعلفها فماتت؟ فهل يضمن المودَع أم لا على قولين:
قيل: لا يضمن.
وهذا مذهب الحنابلة، وهو أكثر أصحاب الشافعي.
لأنه متمثل لقول صاحبها.
وقيل: بل يضمن.
وهو قول ابن المنذر.
لأنها نفس محترمة تتألم، وحبس الطعام عنها إيذاء لها، فيجب الضمان.
وقول صاحبها في هذه الحال معصية لله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ورجح هذا الشيخ ابن عثيمين.
(ويقبل قول المودَع في ردِّها إلى ربِها).
أ-لأنه أمين.
ب- ولأن الله تعالى قال (ما على المحسنين من سبيل).
ج- ولأن الأصل براءة الذمة.
فائدة: 1
الأموال التي عند البنوك هل هي وديعة؟
الصواب أنها قروض، ويترتب على ذلك مسألة التلف والزيادة وغيرها، فإذا تلفت في البنك صار ضامناً بخلاف لو قلنا: بأنه وديعة، وكذلك الزيادة يكون قرضاً جر نفعاً فهو ربا.
فائدة: 2
لو شرط الضمان على المودع فهل يضمن؟
قولان لأهل العلم: أصحهما أنه لا يضمن إذا لم يتعد أو يفرط.
قال ابن المنذر: وإذا شرط المودع على المودَع أنه ضامن للوديعة فلا ضمان عليه، كذلك قال الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ويشبه ذلك مذهب مالك.
…
(الإشراف).
لأن يد الوديع يد أمانة، واشتراط الضمان على الأمين باطل، لأنه شرط ينافي مقتضى العقد.
فائدة: 3
قال ابن مفلح: وتنفسخ - أي الوديعة - بموت وجنون وعزل مع علمه.
بَابُ إِحْيَاءِ اَلْمَوَاتِ
هي الأرض البائرة التي لا يعلم لها مالك.
والمَوَات بفتح الميم والواو الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد.
التي لا يعرف لها مالك: هذا شرط الموات، أن تكون الأرض التي يراد إحياؤها لا يعلم لها مالك معين.
تعريف الموات عند الفقهاء: هي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم.
المنفكة عن الاختصاصات: أي التي لا يختص بها واحد بعينه، كالأرض الخراب الدارسة التي لا يملكها أحد ولا يتعلق بها مصلحة عامة.
فالأرض التي فيها مصلحة لأهل البلد فلا يجوز إحياؤها، كأن تكون الأرض مدفن الأموات لأهل البلد، أو كانت هذه الأرض يستنبطون منها الملح أو يأخذون منها الحجارة أو غير ذلك فلا يجوز إحياؤها.
وملك معصوم: أي: ما جرى عليه ملك معصوم بشراء أو عطية أو غيرها، فلا يملك بالإحياء لأنه ملك لصاحبه.
(ومن أحيا أرضاً منفكةً عن الاختصاصات، وملك معصوم ملكها).
أي: من أحيا أرضاً لا مالك لها، ومنفكة عن الاختصاصات فإنه يملكها.
هذه شروط إحياء الأرض الموات:
الأول: أن تكون الأرض لا مالك لها.
فإن كان لها مالك فلا يجوز يصح إحياؤها إجماعاً.
قال ابن قدامة: فَهَذَا لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ.
وقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُرِفَ بِمِلْكِ مَالِكٍ غَيْرِ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ لِأَحَدٍ غَيْرِ أَرْبَابِهِ.
الثاني: ألا تكون الأرض من اختصاصات البلد.
فالأرض التي فيها مصلحة لأهل البلد فلا يجوز إحياؤها، كأن تكون الأرض مدفن الأموات لأهل البلد، أو كانت هذه الأرض يستنبطون منها الملح أو يأخذون منها الحجارة أو غير ذلك فلا يجوز إحياؤها.
ولذلك جاء في الحديث (الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والنار، والحطب).
ودليل تملكها:
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ عَمَّرَ أَرْضاً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) قَالَ عُرْوَةُ: وَقَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ. رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ). رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ، وَحَسَّنَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ
(مَنْ عَمَّرَ أَرْضاً) لفظ البخاري (أعمر)، وهذا مفسر لحديث (من أحيا).
(لَيْسَتْ لِأَحَدٍ) هذا شرط من شروط إحياء الأرض، كما في الحديث الثاني (أرضاً ميتة).
(فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) أي: من غيره.
(وَقَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ) أي: قضى بأن الإحياء ملك شرعي.
قال ابن قدامة: وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهِ.
فائدة: 1
هل يشترط أن يكون المحيي مسلماً؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يشترط.
قال ابن قدامة: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ.
قال ابن قدامة: وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ).
وَلِأَنَّ هَذِهِ جِهَةً مِنْ جِهَاتِ التَّمْلِيكِ، فَاشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، كَسَائِرِ جِهَاتِهِ.
…
(المغني).
القول الثاني: أنه يشترط أن يكون مسلماً.
واستدلوا بحديث (موتان الأرض لله ولرسوله ثم لكم) لكنه ضعيف.
والراجح الأول.
فائدة: 2
هل يشترط إذن الإمام لإحياء الموات؟
اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: أنه لا يشترط.
وهذا مذهب الجمهور.
قال ابن قدامة:
ولنا عُمُومُ قَوْلِهِ عليه السلام (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً، فَهِيَ لَهُ).
وَلِأَنَّ هَذَا عَيْنٌ مُبَاحَةٌ، فَلَا يَفْتَقِرُ تَمَلُّكُهَا إلَى إذْنِ الْإِمَامِ، كَأَخْذِ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ، وَنَظَرُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ إذْنِهِ.
القول الثاني: أنه يشترط إذن الأمام.
وهذا مذهب أبي حنيفة. وذلك لأمرين:
الأول: أن الأرض الموات في سلطان الإمام ويعتبر بولايته على البلدان واضع اليد عليها، فلا يُستولى على ما تحت يده إلا بإذنه.
الثاني: أن الإحياء من غير إذن الإمام قد يدفع إلى التزاحم والنزاع.
والصحيح الأول أنه لا يشترط.
لكن في هذا الزمان ينبغي أن يكون بإذن الإمام لما يترتب من عدم الإذن المفاسد والنزاعات والخصومات.
فائدة: 3
هل تملك أرض الحرم بالإحياء كأرض عرفات ومنى؟
لا، لا تملك بالإحياء.
لأنها عامة مشتركة بين جميع المسلمين فهي كمختصات البلد وبقعها كبقع المساجد يشترك فيها كافة الناس فلا تملك بالإحياء، ولو قلنا أنها تملك بالإحياء لأدى ذلك إلى التضييق على الحجاج ونحوهم.
(ومن أحاط موَاتاً، أو حفر بئراً فوصل إلى الماء، أو أجراهُ إليه من عينٍ ونحوِها، أو منع ما لا تزرع معه فقد أحياه).
هذا بيان لما يحصل به الإحياء:
أولاً: ببناء حائط.
أي يبني جداراً منيعاً يحيط بها ويحميها، ويكون كما جرت به عادة أهل البلد، ومعنى منيع: ألا يدخل إلى ما وراءه إلا بباب.
ثانياً: أو حفر بئراً فوصل إلى الماء.
هذا الأمر الثاني مما يحصل به الإحياء، وهو حفر بئر في الأرض الموات ووصل إلى الماء.
ثالثاً: أو أجراهُ إليه من عينٍ ونحوِها.
هذا الأمر الثالث مما يكون به الإحياء، وهو سوق الماء وإجراؤه إلى الأرض الموات من عين أو نهر ونحوهما.
رابعاً: أو منع ما لا تزرع معه.
هذا الأمر الرابع ما يحصل به الإحياء، وهو قلع الأشجار والأحجار المانعة من زرعها وسقيها، ويزيل عنها ما لا يمكن زرعها معه.
مثال: فيها أشجار وحشائش لا يمكن زرعها معها فجاء بجرافه وقلعها فهذا احياء.
فإذا فعل بها ما مضى من الإحياء فقد ملك الأرض ومنافعها ومعادنها الباطنة ملكاً له شرعاً.
للحديث السابق (من أعمرَ أرضاً ليست لأحد فهو أحق) رواه البخاري.
باب الجعالة
(هي أن يجعل جائز التصرف شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو عملاً مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة)
هذا تعريف الجعالة.
قوله (هي أن يجعل جائز التصرف) وقد تقدم ما المراد بجائز التصرف.
وقوله (شيئاً معلوماً) لا بد أن يكون الجعل معلوماً.
مثال: من رد ضالتي فله {100} ريال.
فلو قال: من رد ضالتي فله مال فإنه لا يصح.
فالذي يشترط في الجعالة أن يكون الجعل معلوماً.
وقوله (لمن يعمل له عملاً معلوماً أو عملاً مجهولاً
…
) فلا يشترط في الجعالة تعيين المجعول له.
فقد يقول هذا القول، ويذهب واحد من الناس ويأتي بها.
وكذلك العمل الذي يعمله المجعول له لا يشترط أن يكون معلوماً.
مثال: من رد ضالتي فله {100} ريال.
هنا العوض: معلوم، والمجعول عليه مجهول، لأن رد اللقطة قد يكون يسيراً وقد يكون صعباً وقد لا يردها.
وهي جائزة:
عن أبي سعيد الخدري (أن قوماً لدغ رجل منهم، فأتوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل منكم من راق؟ فقالوا: لا حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم يقرأ بفاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برأ، فأخذوا الغنم .. ) رواه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة: أن العمل مجهول، فقد يبرأ وقد لا يبرأ.
مثال: إنسان قال من خاط لي هذا الثوب فله 100 ريال، الـ 100 هذا مال معلوم، والثوب عمل معلوم.
مثال: إنسان قال من رد سيارتي المسروقة فله ألف ريال.
المال معلوم وهو ألف ريال، العمل مجهول (فهذا الشخص الذي ذهب يبحث عن السيارة قد يجدها وقد لا يجدها).
• فالعمل في الجعالة لا يشترط أن يكون معلوماً (يجوز يكون معلوماً ويجوز أن يكون مجهولاً).
• فالذي يشترط في الجعالة: أن يكون الجعل (وهو المال) معلوماً.
مثال: من رد ضالتي فله {100} ريال، فلو قال: من رد ضالتي فله مال فإنه لا يصح كما تقدم.
والسبب: لأن عقد الجعالة عقد جائز، بإمكان الإنسان أن يفسخ العقد بعكس الإجارة فهي عقد لازم.
•
إذا شروط الجعالة:
أن يكون العِوض معلوماً.
أن يكون العمل مباحاً.
أن يكون الجاعل جائز التصرف.
(وهي عقد جائز).
لكلٍ فسخها.
فلو فرض أن الرجل قال: من رد بعيري فله مائة ريال، وبعد يومين رجع وقال: يا أيها الناس إني قد فسخت الجعالة، فله ذلك، ومن عمل بعد أن علم بفسخها فلا حق له؛ لأن الجعالة عقد جائز.
وكل عقد جائز من الطرفين فإن لكل منهما فسخه إلا إذا قصد الإضرار بالآخر.
(فَمنَ العاملِ لا يستحق شيئاً).
أي: متى كان الفسخ من قِبل العامل قبل تمام العمل فإنه لا يستحق شيئاً، لأنه أسقط حق نفسه، حيث لم يأتِ بما شرط عليه.
(ومن الجاعلِ بعد الشروع للعامل أجرة عملهِ).
أي: وإن كان الفسخ من الجاعل بعد الشروع فللعامل أجرة عمله، فإذا قدرنا أنه بنى نصف الجدار، وفسخ الجاعل، فللعامل أجرة عمله.
- إن فسخ الجاعل قبل العمل فلا شيء للعامل.
(فمن فعل ما جُعِل عليه بعد علمه بقوله استحقه).
أي: من فعل ما جُعل له الجعل، فإن كان ذلك بعد علمه بقول صاحب العمل (من فعل كذا فله كذا وكذا) فهذا يستحق الجعل كاملاً.
كرجل سمع آخر يقول: من رد بعيري فله مائة ريال، فبادر، وخرج، وطلبه فجاء به، فإنه يستحق العوض؛ لأنه عمل بعد أن علم.
لأن العقد استقر بتمام العمل.
(وإن بلغه في أثناء العمل استحق حصة تمامه).
مثال: إذا قال أنا كنت أطلبها منذ يومين، فسمعت بالإعلان، وبعد سماعي بالإعلان طلبتها يومين آخرين
فهنا يستحق نصف الجعل.
مثال آخر: بدأ في بناء حائط على الأرض، فلما أتم نصفه، قال المالك: من بنى حائطاً على أرضي فله كذا.
فهنا يأخذ قسط تمامه، أي: مقابل ما عمله بعد بلوغه.
لأن ما فعله قبل بلوغ الخبر غير مأذون فيه، فلم يستحق به عوضاً، لأنه يكون متبرعاً، لأن عمله السابق بغير أجرة، وبغير إذن المالك.
(وبعد فراغ العمل لم يستحق شيئاً).
فإن أعطاه الجاعل شيئاً تطييباً لخاطره، وترغيباً وتشجيعاً له.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه).
فائدة:
إذا وجدها جماعة فإنهم يستحقون الجعل كلا بقسطه.
مثال: قال من وجد ضالتي فله {100} ريال، فذهب عشرة يطلبونها ووجدوها جميعاً، فإنه يقسط الجعل بينهم.
(من عمل لغيره عملاً لغيره بغير جعل ولا إذن من صاحب العمل لم يستحق شيئاً).
لأنه متبرع، وقد بذل منفعته بغير مقابل.
ولئلا يُلزم الإنسان ما لم يلتزمه.
- لكن يستثنى: من قام بتخليص متاع غيره من هلكة.
(كإخراجه من البحر أو الحرق أو وجده في مهلكة يذهب لو تركه).
فله أجرة المثل، وإن لم يأذن له ربه.
لأن في دفع الأجرة ترغيباً في مثل هذا العمل، وهو إنقاذ الأموال من الهلكة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من استنقذ مال غيره من الهلكة ورده، استحق أجرة المثل ولو بغير شرط في أصح القولين.
فائدة:
الفرق بين الجعالة والإجارة في أمور:
أولاً: أن الجعالة تجوز على أعمال القرب بخلاف الإجارة.
القرب جمع قُربة: وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى كالأذان وتعليم القرآن والحج ونحوها.
لو قال شخص من حج عن ميتي فله ألف (هذه جعالة).
أما الإجارة فلا تجوز على أعمال القرب، لأن الأصل أن أعمال القرب لا تقع إلا قربة لله تعالى وأخذ الأجرة عليها ينافيها.
فلو أجرة شخصاً يؤذن بالمسجد بمائة ريال، فإن هذا لا يجوز.
ثانياً: أن العمل في الجعالة قد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً، وفي الإجارة لابد أن يكون معلوماً.
مثال في الجعالة: من رد بعيري فله ألف ريال (هنا العمل - وهو رد البعير - مجهول) مثال آخر: من يبني لي هذا الجدار فله ألف ريال (هنا العمل - وهو بناء الجدار - معلوم).
أما في الإجارة فلابد أن يكون العمل معلوماً.
ثالثاً: أن الجعالة عقد جائز بخلاف الإجارة فإنها عقد لازم.
فالإجارة عقد لازم من الطرفين، لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم)، وأما الجعالة فهي عقد جائز، لا يلزم بالشروع فيه.
رابعاً: من الفروق أن المدة في الجعالة لا يشترط العلم بها، أما بالنسبة للإجارة فلا بد أن تكون المدة معينة فلا يقول: استأجرت منك هذه الدار بألف ويسكت، لابد من تحديد مدة تنتهي بها الإجارة
باب اللقطة
تعريفها:
وشرعاً: مال ضل عن صاحبه.
والأصل فيها: حديث زَيْد بْنِ خَالِدٍ اَلْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ? فَقَالَ: اِعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا. قَالَ: فَضَالَّةُ اَلْغَنَمِ? قَالَ: هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ اَلْإِبِلِ? قَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا? مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ اَلْمَاءَ، وَتَأْكُلُ اَلشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا). متفق عليه
فائدة:
قال الخطابي: اسم الضالة لا يقع على الدرهم والدنانير والمتاع ونحوها، وإنما الضالة اسم للحيوان.
وقال ابن حجر: قال العلماء الضالة لا تقع إلا على الحيوان وما سواه يقال له لقطة.
(واللقطة ثلاثة أقسام).
أي: إن اللقطة باعتبار الشيء الملقوط هل يملك أو لا؟ وهل يُعرّف أو لا؟ ثلاثة أقسام.
(ما لا تتبعه همة أوساط الناس، فيُملك بلا تعريف).
هذا القسم الأول: ما لا تتبعه همة أوساط الناس، وتقل قيمته، ولا يهتم به الناس، كالعصا، والحبل، والرغيف، والتمرة، والقرش.
فهذا يجوز أخذه ولا يجب تعريفه. (بشرط أن لا يكون عالماً بصاحبه).
أي يملكه واجده بمجرد التقاطه، ويباح له الانتفاع به، ولا يحتاج إلى تعريف.
لحديث أنس. (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرةٍ في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) متفق عليه.
فهذا دليل على أن التمرة ونحوها مما لا تتبعه همة أوساط الناس، إذا وجدها الإنسان ملقاة في الطريق يأخذها ويأكلها إن شاء، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً، خشية أن تكون من الصدقة التي حرمت، لا لكونها مرمية في الطريق فقط، مما يدل على أنه ليس لها حكم اللقطة.
قال الحافظ ابن حجر: قوله (لأكلتها) ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه، لا لكونها مرمية في الطريق فقط، فلو لم يخش ذلك لأكلها، ولم يذكر تعريفاً، فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف.
وقال النووي: وَفِيهِ: أَنَّ التَّمْرَة وَنَحْوهَا مِنْ مُحَقَّرَات الْأَمْوَال لَا يَجِب تَعْرِيفهَا بَلْ يُبَاح أَكْلهَا وَالتَّصَرُّف فِيهَا فِي الْحَال؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا تَرَكَهَا خَشْيَة أَنْ تَكُون مِنْ الصَّدَقَة لَا لِكَوْنِهَا لُقَطَةً، وَهَذَا الْحُكْم مُتَّفَق عَلَيْهِ، وَعَلَّلَهُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرهمْ بِأَنَّ صَاحِبَهَا فِي الْعَادَة لَا يَطْلُبُهَا وَلَا يَبْقَى لَهُ فِيهَا مَطْمَعٌ.
وقال الصنعاني: دل الحديث على جواز أخذ الشيء الحقير الذي يتسامح به، ولا يجب التعريف به، وأن الآخذ يملكه بمجرد الأخذ له.
قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة اليسير والانتفاع به.
• لكن يشترط في هذا القسم أن لا يكون عالماً بصاحبه.
(والثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع، كخيل، وإبل، وبقر، فيحرم التقاطها، ولا تُملك بالتعريف).
صغار السباع: كالذئب والثعلب وولد الأسد ونحوها.
هذا القسم الثاني: أي: أن ما يمتنع من صغار السباع لا يملك بالتقاطه، لأنه يحرم أخذه، ولو عرّفه لم يملكه، لأنه متعدٍ بأخذه.
كالخيل، والإبل، والبقر.
والذي يمتنع من صغار السباع:
إما لضخامته (كالإبل، والخيل، والبقر، والبغال).
وإما لطيرانه (كالطيور).
وإما لسرعة عدوها (كالظباء).
وإما لدفعها عن نفسها بنابها (كالفهد).
والدليل على تحريم أخذه:
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ. قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا». قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ «لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ». قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) متفق عليه.
(قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ) أي ما حكمها؟
(قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا) هذا استفهام إنكاري، والمعنى: مالك ولها، لماذا تأخذها والحال أنها مستقلة بأسباب تمنعها من الهلاك، بدليل قوله (معها سقاؤها وحذاؤها
…
). ويدل على أن هذا الاستفهام إنكاري ما جاء في رواية (
…
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجنتاه أو احمر وجهه فقال: مالك ولها)، وفي رواية للبخاري (فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
(مَعَهَا سِقَاؤُهَا) السقاء هو جوفها الذي يحمل الماء.
(وَحِذَاؤُهَا) الحذاء هو خفها.
قال العلماء: وفي هذا تنبيه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإبل غير محتاجة إلى الحفظ بما ركب الله في طباعها من الجلادة على العطش وتناول الماء بغير تعب لطول عنقها وقوتها على المشيء (حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) أي صاحبها الذي أضلها.
(ولا يبرأُ من أخذه إلا أن يدفعهُ إلى الإمام).
أي: من أخذ الحيوان الممتنع بنفسه من صغار السباع لم يبرأ بأخذه، وعليه ضمانه، لأنه أخذ ملك غيره بغير إذنه، ولا إذن الشارع، فهو كالغاصب، إلا أن يدفعها إلى الإمام، فيزول عنه الضمان، لأن الإمام له نظر في ضوال الناس، فكان نائباً عن أصحابها، وعُلم منه أن للإمام ونائبه أخذها للحفظ.
فائدة:
يستثنى من ذلك ما إذا وجد الضالة في مهلكة لا ماء فيها ولا مرعى أو أرض مسبعة، أو قريباً من دار الحرب يخاف عليها من أهلها، فإنه يردها أو يأخذها بقصد الإنقاذ لا الالتقاط، ولا ضمان عليه، لأن فيه إنقاذها من الهلاك، أشبه تخليصها من حريق ونحوه.
(والثالث: ما تكثر قيمته من الأثمان، والحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع فهذا له التقاطه إن أمِن نفسه على ذلك).
هذا القسم الثالث: ما تكثر قيمته من الأثمان، كذهب، وفضة، ومتاع، وغنم.
لحديث زيد بن خالد السابق (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا». قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ: لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ).
قال النووي: قَوْله: (فَضَالَّة الْغَنَم، قَالَ: لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ) مَعْنَاهُ الْإِذْن فِي أَخْذهَا، بِخِلَافِ الْإِبِل. وَفَرَّقَ صلى الله عليه وسلم بَيْنهمَا، وَبَيَّنَ الْفَرْق بِأَنَّ الْإِبِل مُسْتَغْنِيَة عَنْ مَنْ يَحْفَظهَا لِاسْتِقْلَالِهَا بِحِذَائِهَا وَسِقَائِهَا وَوُرُودهَا الْمَاء وَالشَّجَر، وَامْتِنَاعهَا مِنْ الذِّئَاب وَغَيْرهَا مِنْ صِغَار السِّبَاع، وَالْغَنَم بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَلَك أَنْ تَأْخُذهَا أَنْتَ أَوْ صَاحِبهَا، أَوْ أَخُوك الْمُسْلِم الَّذِي يَمُرّ بِهَا أَوْ الذِّئْب فَلِهَذَا جَازَ أَخْذهَا دُون الْإِبِل.
وقال في الفتح: قوله (لَك أَوْ لِأَخِيك
…
) فيه إشارة إلى جواز أخذها كأنه قال هي ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر، والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع، وفيه حث له على أخذها، لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب كان ذلك أدعى له إلى أخذها، ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة كما سيأتي بعد أبواب (فقال خذها فإنما هي لك الخ) وهو صريح في الأمر بالأخذ.
•
فهذا النوع يجوز التقاطه لكن بشرطين:
الأول: إن أمِن نفسه على ذلك.
الثاني: القدرة على التعريف.
- وقوله (فهذا له التقاطها .. ) دليل على إباحة الأخْذ.
لكن هل الأفضل الالتقاط أم عدمه؟ اختلف العلماء في ذلك.
القول الأول: الأفضل الالتقاط.
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
أ-واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (
…
وقد جاء في هذا الحديث أسئلة عن الضالة، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: وسئل عن الضالة فقال: لك أو لأخيك أو للذئب، اجمعها إليك حتى يأتيَ باغيها) رواه أحمد.
فقالوا: فقوله (اجمعها .. ) دليل على استحباب التقاط القطة.
ب-وقالوا: إن الواجب على المسلم حفظ مال أخيه، وفي التقاط اللقطة حفظ لمال أخيك.
القول الثاني: الترك الأفضل.
وهذا قول الإمام أحمد وجماعة من السلف.
قالوا: لأنه إذا التقط اللقطة يكون قد عرضه للحرام، لأنه قد يقصر في حقها وفي تعريفها.
القول الثالث: أنه مخير.
وهذا مذهب المالكية.
لحديث زيد بن خالد، فإن ظاهره أن الملتقط مخير.
والراجح التفصيل:
إن أمِنَ من نفسه الخيانة، ووثق بأنه سيحفظها ويعرفها التعريف الشرعي، فالأفضل الالتقاط، لأن في ذلك حفظ مال الغير.
وإن عرف من نفسه الخيانة، أو سيعجز عن تعريفها أو سيفرط فيها فالأولى هنا الترك، لما في ذلك من تضييع مال غيره وتعريض نفسه للوقوع في الحرام.
•
وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون ما التقطه حيوان، وهذه تحتاج إلى نفقة وكلفة.
فهنا يخير بين أمور ثلاثة:
أ- أكله بقيمته.
ودليل جواز أكلها: قوله صلى الله عليه وسلم في ضالة الغنم (هي لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ) فسوى بينه وبين الذئب، وهو لا يتأنّى بأكلها، ولأن فيه إغناء عن الإنفاق عليها وحراستها، وهذا يؤدي إلى أن يغرم أضعاف قيمتها.
ب- أو بيعه وحفظ ثمنه.
ج- أو حفظه وينفق عليه من ماله، وله الرجوع إذا نوى.
الثاني: إن كانت اللقطة مما يخشى فساده إذا بقي؛ فهنا يخير:
أ- إما بيعه وحفظ ثمنه.
ب- أو أكله بقيمته.
مثال: التقط طعاماً (كراتين فواكه أو خضار) وهذه لا يمكن أن تحفظ مدة طويلة، فهنا هو بالخيار كما سبق.
الثالث: باقي الأموال، كالذهب، والفضة، والثياب، والساعات، والدراهم، والمتاع.
فهذه يلزمه تعريفها وحفظها كما سيأتي.
(ويجب حِفظُها).
أي: يجب حفظ اللقطة.
لأنه بأخذه لها صارت في يده أمانة، والأمانة يجب حفظها.
لأن الله أمر بأدائها، ولا يمكن الأداء إلا بالحفظ.
- وحفظها يكون في حرز مثلها.
(وتعريفها في مجامع الناس غير المساجد حوْلاً كاملاً).
أي: ويجب تعريفها في مجامع الناس، فيجب أن يعرفها وينشدها سنة كاملة.
والتعريف فيه مباحث:
أولاً: التعريف: هو أن ينادي في الموضع الذي وجدها فيه، وفي مجامع الناس.
وهو واجب.
لقوله صلى الله عليه وسلم (
…
ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا).
قال ابن قدامة: أَمَّا وُجُوبُهُ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُلْتَقِطٍ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا أَوْ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا.
وقال القرطبي: والتعريف واجبٌ؛ لأنَّه مأمورٌ به. ثمَّ يختص الوجوب بسنة في المال الكثير؛ الذى لا يفسد، ولا ينقص منها. وهو قول فقهاء الأمصار.
ثانياً: ويجب تعريفها فوراً.
لأن تعريفها أول وقت التقاطها أدعى إلى وجود مالكها، لأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها.
ثالثاً: مدة التعريف: سنة.
للحديث السابق (ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً).
قال ابن قدامة - بعد أن ذكر بعض الأقوال في المسألة -: ولَنَا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الصَّحِيحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِعَامٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ السَّنَةَ لَا تَتَأَخَّرُ عَنْهَا الْقَوَافِلُ، وَيَمْضِي فِيهَا الزَّمَانُ الَّذِي تُقْصَدُ فِيهِ الْبِلَادُ، مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالِاعْتِدَالِ، فَصَلُحَتْ قَدْرًا كَمُدَّةِ أَجَلِ الْعَيْنِ.
رابعاً: إذا أخّر التعريف أثم.
قال ابن قدامة: إذَا أَخَّرَ التَّعْرِيفَ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، مَعَ إمْكَانِهِ أَثِمَ.
أولاً: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهِ فِيهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَقَالَ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ (لَا يَكْتُمُ وَلَا يُغَيِّبُ).
ثانياً: وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْ لَا يَعْرِفَهَا صَاحِبُهَا، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بَعْدَ الْحَوْلِ يَيْأَسُ مِنْهَا، وَيَسْلُو عَنْهَا، وَيَتْرُكُ طَلَبِهَا.
خامساً: يجب أن تكون هذه السنة تلي الالتقاط.
قال ابن قدامة:
…
فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السَّنَةُ تَلِي الِالْتِقَاطَ، وَتَكُونَ مُتَوَالِيَةً فِي نَفْسِهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا حِينَ سُئِلَ عَنْهَا، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّعْرِيفِ وُصُولُ الْخَبَرِ إلَى صَاحِبِهَا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّعْرِيفِ عَقِيبَ ضَيَاعِهَا مُتَوَالِيًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَتَوَقَّعُهَا وَيَطْلُبُهَا عَقِيبَ ضَيَاعِهَا، فَيَجِبُ تَخْصِيصُ التَّعْرِيفِ بِهِ.
…
(المغني).
سادساً: مكان التعريف: مجامع الناس، وأبواب المساجد. (والمكان الذي وجدت فيه).
أما تعريفها في المكان الذي وجدت فيه: فلأن صاحبها يطلبها في ذلك الموضع غالباً.
وأما في مجامع الناس:
فقد قال ابن قدامة: فِي مَكَانِهِ، وَهُوَ الْأَسْوَاقُ، وَأَبْوَابُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، كَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَذَلِكَ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إشَاعَةُ ذِكْرِهَا، وَإِظْهَارُهَا، لِيَظْهَرَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا، فَيَجِبُ تَحَرِّي مَجَامِعِ النَّاسِ.
وقال النووي: قالَ أَصْحَابنَا: وَالتَّعْرِيف أَنْ يَنْشُدهَا فِي الْمَوْضِع الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ، وَفِي الْأَسْوَاق، وَأَبْوَاب الْمَسَاجِد، وَمَوَاضِع اِجْتِمَاع النَّاس. (نووي).
سابعاً: لا يجوز تعريفها في المساجد.
لحديث أَبَي هُرَيْرَةَ. قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا) رواه مسلم.
قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا من باب التعزير، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم تشميت العاطس إذا لم يحمد.
ثامناً: كيفية التعريف.
في الأسبوع الأول من التقاطها ينادي كل يوم، لأن مجيء صاحبها في ذلك الأسبوع أحرى، ثم بعد الأسبوع ينادي عليها على حسب عادة الناس في ذلك.
قال ابن قدامة: فِي زَمَانِهِ، وَهُوَ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ مَجْمَعُ النَّاسِ وَمُلْتَقَاهُمْ دُونَ اللَّيْلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَجَدَهَا، وَالْأُسْبُوعُ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ فِيهِ أَكْثَرُ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مُتَوَالِيًا.
وقال رحمه الله:
…
وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهَا لَا غَيْرُ، فَيَقُولَ: مَنْ ضَاعَ مِنْهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ ثِيَابٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ
…
لِأَنَّهُ لَوْ وَصَفَهَا لَعَلِمَ صِفَتَهَا مَنْ يَسْمَعُهَا، فَلَا تَبْقَى صِفَتُهَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهَا. (المغني).
وجاء في (كشاف القناع) اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِفُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَدَّعِيَهَا بَعْضُ مَنْ سَمِعَ صِفَتَهَا فَتَضِيعَ عَلَى مَالِكِهَا.
(وأجرة المنادي على الملتقط).
لقوله صلى الله عليه وسلم (ثم عرفها سنة) فجعل صلى الله عليه وسلم التعريف على الملتقط، والمنادي ينوب منابه، فتكون أجرته عليه.
ولأنه متطوع بحفظها، فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة.
وقيل: إن الأجرة على مالك اللقطة.
وهذا أقرب.
(وتُملكُ بعدَه حُكماً).
أي: بعد الحول والتعريف، حكماً: أي قهراً.
أي: فإذا عرفها سنة كاملة فإنه يمتكلها قهراً بدون أن يختار، كما يملك الوارث مال مورثه.
سواء كان الملتقط غنياً أو فقيراً، لكنه ملك مقيد بما إذا جاء صاحبها.
قال ابن قدامة: إذَا عَرَّفَ اللُّقَطَةَ حَوْلًا، فَلَمْ تُعْرَفْ، مَلَكَهَا مُلْتَقِطُهَا، وَصَارَتْ مِنْ مَالِهِ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، غَنِيًّا كَانَ الْمُلْتَقِطُ أَوْ فَقِيرًا.
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم.
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
لقوله صلى الله عليه وسلم في حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ، فَاسْتَنْفِقْهَا).
وَفِي لَفْظٍ (وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِكَ).
وَفِي لَفْظٍ (ثُمَّ كُلْهَا) وَفِي لَفْظٍ (فَانْتَفِعْ بِهَا) وَفِي لَفْظٍ (فَشَأْنَك بِهَا) وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (فَاسْتَنْفِقْهَا) وَفِي لَفْظٍ (فَاسْتَمْتِعْ بِهَا) وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. (المغني).
(فيتصرف فيها بما شاء بشرط ضمانها).
أي: فله أن يفعل بها ما يفعله بماله من هبة، أو بيع، أو أكل، لكن يضمنها لمالكها، بحيث إذا جاء مالكها بعد الحول يضمنها له.
وهذا قول جماهير العلماء.
فالجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت.
لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية (ولتكن وديعة عندك).
وجاء عند مسلم: (فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه).
قال ابن حجر: فإن ظاهر قوله: (فإن جاء صاحبها
…
) بعد قوله: (كلها) يقتضي وجوب ردها بعد أكلها، فيحمل على رد البدل.
وقال: وأصرح من ذلك رواية أبي داود (فإذا جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه) فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده، وهي أقوى حجة للجمهور.
(ويحرم تصرفه فيها حتى يعرف صفاتها).
أي: يحرم على واجد اللقطة أن يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها بحيث لو جاء صاحبها في أي وقت ووصفها ردها عليه إن كانت موجودة أو ردّ بدلها إن لم تكن موجودة، لأن ملكه لها مراعى يزول بمجيء صاحبها.
لحديث زيد بن خالد السابق (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً
…
).
(عِفَاصَهَا) بكسر العين، والعفاص الوعاء الذي تكون فيه النفقة.
(وَوِكَاءَهَا) الوِكاء هو الخيط الذي يشد به العفاص.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة ذلك لأمرين:
الأمر الأول: لأجل أن يميزها من بين ماله، فلا تلتبس بماله.
الأمر الثاني: لأجل أن يعرف صدق واصفها من كذبه.
- واختلف العلماء هل يجب الإشهاد على وجدانها أم لا على قولين:
قيل: يجب.
لحديث عِيَاض بْن حِمَار، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوِي عَدْلٍ، وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَالُ اللهِ عز وجل يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) رواه أبو داود.
قالوا: هذا أمر، والأمر للوجوب.
وقيل: مستحب.
وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
قالوا: لأنه لم يذكر في الأحاديث الصحيحة، فيحمل على الندب.
ولأن في الإشهاد عليها صيانة لنفسه عن الطمع فيها وكتمها، وحفظها من ورثته إن مات، ومن غرمائه إن أفلس.
(ومتى وصفها طالبها دفعها إليه).
أي: متى جاء طالب الشيء الملتقط ولو بعد الحول فوصفه بأن عرف العفاص والوكاء والعدد ونحو ذلك مما يتعلق به دفعه إليه.
للحديث السابق (
…
فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ).
(بلا بيّنَة).
أي: تدفع إليه بلا بينة من شهود أو يمين.
أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق وقال (فإذا جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها، فادفعها إليه).
ب- وفي حديث زيد بن خالد السابق (
…
فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ).
ج- ولأن وصفها يكفي.
د- ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك.
قال ابن المنذر: هذا الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أقول.
قال ابن قدامة:
…
فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَوَصَفَهَا لَهُ، دُفِعَتْ إلَيْهِ بِلَا بَيِّنَةٍ، يَعْنِي إذَا وَصَفَهَا بِصِفَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ، دَفَعَهَا إلَيْهِ، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ أَوْ لَمْ يَغْلِبْ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
…
(المغني).
(وإن تلفت أو نقصت في حول التعريف ولم يفرط لم يضمن، وبعد الحول يضمن مطلقاً).
ذكر إذا هلكت اللقطة:
إذا كان في أثناء الحول:
فلا ضمان عليه إذا لم يتعدى ولم يفرط، لأن اللقطة أمانة بيده.
قال ابن رشد: الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنِ الْتَقَطَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى الْتِقَاطِهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يُشْهِدْ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُضَيِّعْ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ: يَضْمَنُهَا إِنْ هَلَكَتْ وَلَمْ يُشْهِدْ.
واسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِأَنَّ اللُّقَطَةَ وَدِيعَةٌ فَلَا يَنْقُلُهَا تَرْكُ الْإِشْهَادِ مِنَ الْأَمَانَةِ إِلَى الضَّمَانِ. (بداية المجتهد).
وقال ابن قدامة: واللقطة مع الملتقط قبل تملكها أمانة، عليه حفظها بما يحفظ به الوديعة، وإن ردها إلى موضعها، ضمنها؛ لأنه ضيعها، وإن تلفت بغير تفريط، لم يضمنا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولتكن الوديعة وديعة عندك، ولأنه يحفظها لصاحبها بإذن الشرع، أشبه الوديعة. (الكافي)
وأما بعد الحول:
يضمن مطلقاً وإن لم يفرط، لأنها بمضي الحول تدخل إلى ملكه قهراً، ويثبت بدلها لمالكها إذا جاء بعد.
قال ابن قدامة: وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا أَوْ قِيمَتُهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلِكِهِ، وَتَلِفَتْ مِنْ مَالِهِ، وَسَوَاءٌ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ.
فائدة:
قال ابن قدامة: إذَا الْتَقَطَ لُقَطَةً، عَازِمًا عَلَى تَمَلُّكِهَا بِغَيْرِ تَعْرِيفٍ، فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.
…
(المغني).
(ومن أُخِذ نعلُه ونحوهُ ووجد غيره فلُقطة).
أي: من أخذ نعله ووجد مكان غيره، فإن هذا الموجود يكون لقطة.
وهذه المسالة لها صورتان:
الأولى: أن تدل القرينة على أن هذا الآخذ أخذها غلطاً، والقرينة هنا، أن تكون النعل الموضوعة في محل نعله مشابهة لنعله.
فهنا لا تكون لقطة، بل يأخذه، ثم إن كان نعله مساوياً أو خيراً من هذا النعل الذي وجده، فواضح.
وإن كان نعله دون نعل الآخذ فإنه يخرج الفرق بينهما.
الثانية: أن لا تدل القرينة على أن الأخذ وقع خطأ، حيث وجد في مكان نعله نعلاً آخر عير مشابه لنعله.
فهنا يكون هذا النعل الذي وجده لقطة.
فائدة: 1
لا يجوز للملتقط أن ينتفع بهذه اللقطة ونحوها،
مما لا يحتاج إلى نفقة، قبل مضي سنة؛ لأنها أمانة عنده، وليست ملكا له.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: " لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ اللُّقَطَةُ بِشَيْءٍ حَتَّى تَمْضِيَ سَنَةٌ.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) يدَ الْمُلْتَقِطِ أَثْنَاءَ الْحَوْل: يَدُ أَمَانَةٍ، وَإِنْ تَلَفَتْ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ أَثْنَاءَ الْحَوْل بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ، أَوْ نَقَصَتْ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ: ضَمِن.
فائدة: 2
لقطة الحرم يحرم التقاطها إلا لمنشد.
وقد اختلف العلماء في لقطة الحرم على قولين:
القول الأول: لا يجوز التقاطها إلا لمن أراد ينشدها ويعرفها دائماً وأبداً.
وهذا مذهب الشافعي، واختاره ابن القيم وقال: هذا هو الصحيح.
قال ابن دقيق العيد: ذهب الشافعي إلى أن لقطة الحرم لا تؤخذ للتملك، وإنما تؤخذ للتعريف لا غير.
وقال النووي: في لقطة مكة وحرمها وجهان: الصحيح أنه لا يجوز أخذها للتملك، وإنما تؤخذ للحفظ أبداً.
أ-عن ابن عباس قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، وَقَالَ: يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ .... وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا
…
) متفق عليه.
ب- ولحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ) متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: والمعنى: لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يعرفها فقط، فأما من أراد أن يعرفها ثم يتملكها فلا.
قال النووي: وَمَعْنَى الْحَدِيث لَا تَحِلّ لُقَطَتهَا لِمَنْ يُرِيد أَنْ يُعَرِّفهَا سَنَة ثُمَّ يَتَمَلَّكهَا كَمَا فِي بَاقِي الْبِلَاد، بَلْ لَا تَحِلّ إِلَّا لِمَنْ يُعَرِّفهَا أَبَدًا. وَلَا يَتَمَلَّكهَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَعَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ وَأَبُو عُبَيْد وَغَيْرهمْ، وَقَالَ مَالِك: يَجُوز تَمَلُّكهَا بَعْد تَعَرُّفهَا سَنَة، كَمَا فِي سَائِر الْبِلَاد، وَبِهِ قَالَ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ، وَيَتَأَوَّلُونَ الْحَدِيث تَأْوِيلَات ضَعِيفَة.
ج- وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ) رواه مسلم.
القول الثاني: أن لقطة الحرم والحل سواء.
وهذا مذهب الجمهور.
جاء في (الموسوعة الفقهية) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا كَلُقَطَةِ الْحِل، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً مِنَ الْحَرَمِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهَا؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا).
أ-لحديث زيد بن خالد. قال (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ، أَوْ الْوَرِقِ؟ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا).
فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لقطة الحرم وغيرها.
ب- وأنه أحد الحرمين، فأشبه حرم المدينة.
ج- ولأنها أمانة فلم يختلف حكمها بالحل والحرم، كالوديعة. (المغني).
والراجح القول الأول.
والجواب عن حديث زيد بن خالد: أنه عام، مخصوص بلقطة مكة لحديث الباب (لا تحل ساقطتها إلا لمنشد).
فلقطة الحرم لها ثلاثة أحوال:
أ-أن يأخذها للتملك من الآن، فهذا حرام.
ب-أن يأخذها للتملك بعد الإنشاد، فهذا حرام.
ج-أن يأخذها للإنشاد، فهذا حلال.
أما لقطة غير الحرم فيجوز أن يتملكها بعد الإنشاد الشرعي.
فائدة: 3
قال ابن قدامة: فإن التقطها صبي أو مجنون أو سفيه، صح التقاطه؛ لأنه كسب بفعل، فصح منه كالصيد، فإن تلفت في يده بغير تفريط لم يضمنها؛ لأنه أخذ ماله، وإن تلفت بتفريط ضمنها، ومتى علم وليه بها، لزمه نزعها منه وتعريفها؛ لأنها أمانة. (الكافي).
فائدة: 4
قال ابن قدامة: وَإِنْ الْتَقَطَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ طِفْلًا مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ، فَالْمُسْلِمُ أَحَقُّ،
…
لأَنَّ دَفْعَهُ إلَى الْمُسْلِمِ أَحْظُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا، فَيَسْعَدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَنْجُو مِنْ النَّارِ، وَيَتَخَلَّصُ مِنْ الْجِزْيَةِ وَالصَّغَار.
فائدة: 5
قال ابن قدامة: إذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا، ضَمِنَهَا.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طاووس. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
لأَنَّهَا أَمَانَةٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَهُ حِفْظُهَا، فَإِذَا ضَيَّعَهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ.
وَلِأَنَّهَا لَمَّا حَصَلَتْ فِي يَدِهِ، لَزِمَهُ حِفْظُهَا، وَتَرْكُهَا تَضْيِيعُهَا. (المغني).
فصل: اللقيط
تعريفه:
(هو طفل ضل لا يعرف نسبه ولا رقه).
(لا يعرف نسبه) لأنه لو عرف نسبه ليس بلقيط.
(ولا رقه) لأنه إذا علمنا رقه فليس بلقيط، لأنه مال فيكون لبيت مال المسلمين.
(وأخْذه واجب)
هذا الحكم الأول: أن أخذ اللقيط واجب.
لأنه آدمي محترم.
قال ابن قدامة: وَالْتِقَاطُهُ وَاجِبٌ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
وَلِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَ نَفْسِهِ، فَكَانَ وَاجِبًا، كَإِطْعَامِهِ إذَا اُضْطُرَّ، وَإِنْجَائِهِ مِنْ الْغَرَقِ.
وَوُجُوبُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْجَمَاعَةُ، أَثِمُوا كُلُّهُمْ، إذَا عَلِمُوا فَتَرَكُوهُ مَعَ إمْكَانِ أَخْذِهِ وَرُوِيَ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ، قَالَ: وَجَدْت مَلْفُوفًا، فَأَتَيْت بِهِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ عَرِيفِي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقَالَ عُمَرُ: أَكَذَلِكَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَاذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ، وَلَك وَلَاؤُهُ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ.
(وهو حر).
هذا الحكم الثاني: أن اللقيط حر، ولا يجوز جعله رقيقاً.
لأن الأصل في الآدميين الحرية.
قال ابن قدامة: وجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا النَّخَعِيّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ.
رُوِينَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما.
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ.
فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْآدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ أَحْرَارًا، وَإِنَّمَا الرِّقُّ لِعَارِضٍ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ الْعَارِضُ، فَلَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ.
…
(المغني).
(مسلم).
هذا الحكم الثالث: أنه محكوم بإسلامه، وهذا إذا كان في دار إسلام خالصة أو بالأكثرية.
لقوله صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة .. ).
(واختلف إن وجد في دار كافرة: فقيل: يعتبر كافر تبعاً للدار، وقيل: يعتبر مسلم، والله أعلم).
(وما وُجِدَ عندَه من المال فهو له).
هذا الحكم الرابع: إن وجد معه شيء صرف عليه منه، وكذلك ما وجد منه قريباً أو متصلاً به.
فإن لم يكن معه شيء من ذلك فإنه ينفق عليه من بيت المال.
لأن ميراثه لبيت المال فتكون نفقته عليه.
قال في الإنصاف: وينفق عليه من بيت المال إن لم يكن معه ما ينفق عليه بلا نزاع.
(وتكون حضانته لواجده).
هذا الحكم الخامس: أن حضانته تكون لواجده.
بشرط أن يكون أميناً.
لأن عمر أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين علم أنه رجل صالح.
فائدة: 1
قال ابن قدامة: وَلَيْسَ لِلْكَافِرِ الْتِقَاطُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَفْتِنَهُ وَيُعَلِّمَهُ الْكُفْرَ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَبِّيه عَلَى دِينِهِ، وَيَنْشَأُ عَلَى ذَلِكَ، كَوَلَدِهِ، فَإِنْ الْتَقَطَهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ.
فائدة: 2
لا يشترط في الملتقط أن يكون غنياً.
قال ابن رشد: وليس من شرط الملتقط الغنى.
وقال النووي: لا يشترط في الملتقط الذكورة قطعاً، ولا الغنى.
(وميراثه لبيت المال).
هذا الحكم السادس: أن ميراثه يكون لبيت مال المسلمين.
وهذا قول أكثر العلماء.
قال في الإنصاف: وميراث اللقيط وديته إن قتل لبيت المال.
أ-لأن الالتقاط ليس من أسباب الميراث الشرعي.
ب-ولأن نفقته على بيت مال المسلمين، فكذلك ميراثه له.
وذهب بعض العلماء: إلى أن ميراث اللقيط لملتقطه.
واختار ذلك ابن تيمية.
لحديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه). رواه أبو داود
(وإن أقر رجل أنه ولده فإنه يلحق به).
هذا الحكم السابع: أنه إذا ادعاه أحد فإنه يلحق به وينسب إليه.
لأن في ذلك مصلحة له باتصال نسبه ولا مضرة على غيره
قال النووي: ونسب اللقيط
…
فإذا استلحقه حر مسلم لحقه
…
ولا فرق في ذلك بين الملتقط وغيره.
وقال في الإنصاف: وإن أقر إنسان أنه ولده ألحق به، مسلماً كان أو كافراً، رجلاً كان أو امرأة، حياً كان اللقيط أو ميتاً.
- لكن بشرطين:
أن ينفرد بادعائه _ أن يمكن كونه منه.
مثال: اللقيط عمره (4) سنوات وجاء رجل عمره (12) سنة فقال هذا ولدي: فإننا لا نصدقه.
قال ابن قدامة: أَنْ يَدَّعِيَهُ وَاحِدٌ يَنْفَرِدُ بِدَعْوَاهُ، فَيُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا، لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْلِ لِاتِّصَالِ نَسَبِهِ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ، فَقُبِلَ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ. (المغني)
فائدة: 1
وإن ادعته امرأة:
فالراجح أنه يلحق بها إلا أن تكون ذات زوج فلا يلحق بها إلا أن يقر زوجها.
فائدة: 2
وإن ادعاه جماعة: قدم ذو البينة.
فائدة: 3
فإن لم تكن بينة أو كانت لهم بينات متعارضة فمن ألحقته القافة.
والقافة: قوم يعرفون الأنساب بالشبه.
قال ابن قدامة: أنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ بِهِ بَيِّنَةٌ، أَوْ تَعَارَضَتْ بِهِ بَيِّنَتَانِ، وَسَقَطَتَا، فَإِنَّا نُرِيهِ الْقَافَةَ مَعَهُمَا، أَوْ مَعَ عَصَبَتِهِمَا عِنْدَ فَقْدِهِمَا، فَنُلْحِقُهُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ مِنْهُمَا.
هَذَا قَوْلُ أَنَسٍ، وَعَطَاءٍ، وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا حُكْمَ لِلْقَافَةِ، وَيُلْحَقُ بِالْمُدَّعِيَيْنِ جَمِيعًا.
…
(المغني).
عن عائشة. قالت (دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه. فقال: أي عائشة ألم تريْ إلى مجززاً المدلجي دخل فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) رواه البخاري ومسلم.
فَلَوْلَا جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَافَةِ لَمَا سُرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَضَى بِهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا
ويشترط في القائف أن يكون: حراً، مكلفاً، ذكراً، مجرب في الإصابة.
قال ابن قدامة: وَالْقَافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُونَ الْإِنْسَانَ بِالشَّبَهِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِقَبِيلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ، وَتَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْإِصَابَةُ، فَهُوَ قَائِفٌ.
وَقِيلَ: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي بَنِي مُدْلِجٍ رَهْطِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِي الَّذِي رَأَى أُسَامَةَ وَأَبَاهُ زَيْدًا قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ:
إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
وَكَانَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيّ قَائِفًا، وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي شُرَيْحٍ.
وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَائِفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، عَدْلًا، مُجَرَّبًا فِي الْإِصَابَةِ، حُرًّا.
لِأَنَّ قَوْلَهُ حُكْمٌ، وَالْحَكَمُ تُعْتَبَرُ لَهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ.
…
(المغني).
كتاب الوقف
تعريفه:
لغة: هو الحبس والمنع.
وشرعاً: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
والتحبيس: مدر حبّس الشيء، أي: جعله محبوساً لا يباع ولا يوهب.
والأصل: أي: العين الموقوفة، كالعقار، والحيوان، والأثاث ونحوها مما ينتفع به مع بقاء عينه.
(وتسبيل المنفعة) أي: منفعة العين الموقوفة، وهي غلّتها وثمرتها، وذلك بإطلاق فوائد العين الموقوفة وريعها للجهات التي حُدّد صرفها فيه.
مثال: أن يقول هذا بيتي وقف على الفقراء، فأصل البيت محبوس، لا يمكن أن يتصرف فيه ببيع ولا هبة ولا غير ذلك، ومنفعته مطلقة للفقراء، فكل من كان فقيراً استحق هذا الوقف.
فائدة:
يرى بعض العلماء أن الوقف نظام إسلامي صرف، لم يعرف قبل الإسلام.
قال الشافعي: ولم يحبس أهل الجاهلية علمته داراً ولا أرضاً تبرراً بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام.
(وهو مستحب).
أي: الوقف مستحب ومشروع، وهو من أفضل القرب إلى الله وأجل الطاعات التي حث الله عليها ووعد بالثواب الجزيل، لأنه صدقة ثابتة دائمة في وجوه البر والخير، ولأنه إحسان إلى الموقوف عليه.
أ-قال تعالى (لَن تَنَالُواْ البِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيء فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم).
والوقف داخل في الإنفاق.
ب- قال تعالى (وافعلوا الخير).
ج- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا مَاتَ اَلْإِنْسَانُ اِنْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالَحٍ يَدْعُو لَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
والصدقة الجارية هي الوقف.
قال النووي في شرح هذا الحديث: الصدقة الجارية هي الوقف، وقال: وَفِيهِ دَلِيل لِصِحَّةِ أَصْل الْوَقْف، وَعَظِيم ثَوَابه.
قال ابن حزم في المحلى (8/ 151): الصَّدَقَةَ الْجَارِيَةَ، الْبَاقِي أَجْرُهَا بَعْدَ الْمَوْت.
وقال السرخسي في "المبسوط"(12/ 32): مَقْصُودُ الْوَاقِفِ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ جَارِيَةً لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وقال في أسنى المطالب (2/ 4457): وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيّ.
وقال الشيخ ابن عثيمين: الصدقة الجارية: كل عمل صالح يستمر للإنسان بعد موته، والذي يتصدق به الإنسان من ماله، هو ماله الحقيقي الباقي له، الذي ينتفع به.
- والصدقة الجارية هي التي يستمر ثوابها بعد موت الإنسان، وأما الصدقة التي لا يستمر ثوابها ـ كالصدقة على الفقير بالطعام ـ فليست صدقة جارية.
منها: بناء المساجد، وغرس الأشجار، وحفر الآبار، وطباعة المصحف وتوزيعه، ونشر العلم النافع بطباعة الكتب والأشرطة وتوزيعها.
د- وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا". قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، [غَيْرَ] أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي اَلْفُقَرَاءِ، وَفِي اَلْقُرْبَى، وَفِي اَلرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اَللَّهِ، وَابْنِ اَلسَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ صَدِيقاً - غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالاً) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ).
وفي رواية (احْبِس أصلها وسبِّل ثمرَها).
قال ابن حجر: وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف.
هـ- قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده مقدرة إلا وقف.
قال النووي في شرح حديث (إذا مات الإنسان
…
) قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ عَمَل الْمَيِّت يَنْقَطِع بِمَوْتِهِ، وَيَنْقَطِع تَجَدُّد الْثوَاب لَهُ، إِلا فِي هَذِهِ الأَشْيَاء الثَّلاثَة; لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبهَا; فَإِنَّ الْوَلَد مِنْ كَسْبه، وَكَذَلِكَ الْعِلْم الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيم أَوْ تَصْنِيف، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة الْجَارِيَة، وَهِيَ الْوَقْف.
-
المقصود من الوقف أمران:
الأمر الأول: الأجر الحاصل للواقف.
الأمر الثاني: نفع الموقوف عليه في عين الوقف أو غلته.
مثال: قلت هذا البيت وقف على زيد من الناس - لو أراد أن يسكنه فهنا انتفع بعين الوقف، ولو أجر الناظر البيت وأعطاه الغلة فهنا انتفع بغلته.
(ويصح بالقول، وهو صريح، وكناية، وبالفعل الدال عليه، كمن جعل أرضه مسجداً وأذِن للناس في الصلاة فيه).
أي: أن الوقف ينعقد بالصيغة القولية، والصيغة الفعلية.
أولاً: الصيغة القولية.
قال في المغني: وَأَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ صَرِيحَةٌ، وَثَلَاثَةٌ كِنَايَةٌ.
فَالصَّرِيحَةُ: وَقّفْت، وَحَبَّستُ، وَسَبَّلْت.
مَتَى أَتَى بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، صَارَ وَقْفًا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ عُرْفُ الشَّرْعِ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ (إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا، وَسَبَّلْت ثَمَرَتَهَا).
فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي الْوَقْفِ كَلَفْظِ التَّطْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ. (المغني).
قال في الإنصاف: وقفت، وحبست، صريح في الوقف بلا نزاع.
وأما الكناية:
وهي ما يحتمل الوقف وغيره، فلا يكفي فيه اللفظ، بل يشترط انضمام أمر زائد إليه.
تصدقت، حرّمتُ، أبدت.
فهذه لا يحصل بها الوقف إلا بشروط:
أولاً: النية، فيكون على ما نوى.
مثال: قال تصدقت بداري، وينوي أنها وقف، فإنها تصير وقفاً، لأنه نوى بذلك.
لأن قوله [تصدقت بداري] لفظ مشترك، فيحتمل أن تكون الصدقة التي ليست هي بوقف، ويحتمل أنه يريد وقفاً، فلما كان لفظاً مشتركاً اشتُرِط فيه النية.
ثانياً: أن يقترن بها أحد الألفاظ الصريحة أو الباقي من ألفاظ الكناية.
فإذا تلفظ بلفظ من ألفاظ الكناية، وضم إليها لفظاً من الألفاظ الباقية، فحينئذ يزول الإشكال ويكون وقفاً.
مثال: إذا قال تصدقت بداري صدقة موقوفة [تصير وقفاً].
مثال: قال تصدقت بهذه الدار صدقة محبسة [تصير وقفاً].
مثال: قال حرمت داري تحريماً مؤبداً أو تحريماً موقوفاً [تصير وقفاً].
ثالثاً: أن ينضم إلى هذا اللفظ [الذي هو الكناية] ما يدل على الوقف.
كأن يقول: تصدقت بداري صدقة لا تباع فقوله [لا تباع] يدل على أن قوله تصدقت يريد بذلك الوقف، لأن الذي لا يباع هو الوقف.
أو قال: تصدقت بداري هذه صدقةً لا تورث [فإنه يصير وقفاً] لأن الذي لا يُورث هو الوقف.
ثانياً: الصيغة الفعلية.
أن يبني مسجداً ويأذن للناس في الصلاة فيه، فهذا يكون وقفاً، لأن هذا الفعل منه يدل على ذلك، ولا يشترط أن يقول هذا وقف، لأن فعله يدل على ذلك.
(وهو عقد لازم).
أي: أن الوقف عقد لازم بمجرد القول، فلا يملك الواقف الرجوع فيه.
وهذا قول الجمهور من العلماء.
أ- لحديث عمر السابق (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا
…
أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ
…
).
وجه الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر أن يحبّس الأصل، والحبس هو المنع، والقول أن الوقف عقد جائز ينافي التحبيس.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أحكام الوقف فقال (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ
…
).
ب- حديث أبي هريرة السابق (
…
أو صدقة جارية)، فالوقف إذا لم يرد به الدوام لم يكن صدقة جارية.
ج- إذا كان الرجوع في الصدقة بعد إخراجها من يده لا يجوز، لأن العطية لا يجوز الرجوع فيها بعد إخراجها من يده، فكذلك الوقف لا يجوز الرجوع فيه بعد أن يتصدق به.
فائدة:
وهل يثبت فيه خيار المجلس؟
يعني لو أنه وقف وفي أثناء المجلس قال هذه الأرض وقف _ مسجد لله عز وجل
…
ثم بعد أن تلفظ بكونه مسجدا _ قال رجعت عن الوقف .. فهل يملك الرجوع؟
لا يملك الرجوع: لأن خيار المجلس كما سبق لنا لا يكون إلا في البيع وما كان في معني البيع.
(ويشترط فيه أن يكون عيناً يجوز بيعها).
أي من شروط الوقف: أن يكون في عين يجوز بيعها، كالعقار، والكتب ونحوها.
قوله (أن يكون عيناً) فلا يجوز وقف المنفعة، مثل: سكنى البيت.
وهذا قول الجمهور.
مثال: هذا رجل استأجر بيتاً لمدة سنة الآن يملك سكنى البيت لمدة سنة، فلا يصح أن يقول: سكنى البيت هذه على الفقراء والمساكين.
لأن الوقف صدقة مقيدة، يعني ينظر فيها إلى الدوام والاستمرار وهذا لا يوجد في المنفعة.
ولأن تحبيس المنفعة وحدها يعني توقيت الوقف، ولو جاز التوقيت لجاز بيع الوقف، وهبته، وتوريثه.
وذهب بعض العلماء: إلى صحة وقف المنفعة.
واختار ذلك ابن تيمية.
وقوله (يجوز بيعها) يخرج العين التي لا يجوز بيعها - كالمرهون، والكلب -.
وذهب بعض العلماء: إلى صحة وقف الكلب المعلّم.
واختار ذلك ابن تيمية.
(ويشترط فيه المنفعة مع بقاء عينها).
أي: ومن شروط الوقف: أن تكون العين ينتفع بها دائماً مع بقائها: كعقار، وحيوان، وأثاث، وسلاح.
فلا يصح وقف ما لا نفع فيه: كما لو أوقف حماراً مقطع الأرجل، فإنه لا يصح، لأنه لا ينتفع به.
ولا يصح وقف ما لا ينتفع به إلا بذهاب عينه: كما أوقف طعاماً على فقراء، فإنه لا ينتفع به إلا بتلف عينه.
فلو قلت: هذه الخبز وقف لله تعالى على الجائعين، فهذا لا يصح وقفاً، وتكون صدقة.
لو قال: هذه مائة كيس من الأرز وقف على الفقراء والمساكين لا يصح؛ لأنها تفنى باستهلاكها.
أو قال: هذه مائة لتر من البنزين على طلبة العلم لا يصح، لأنها تفنى باستهلاكها.
لأنه الوقف يرد للدوام ليكون صدقة جارية، ولا يوجد ذلك فيما لا تبقى عينه.
(من مُعيّن معلوم).
فلا يصح وقف المبهم، ولا يصح وقف المجهول.
كأن يقول وقفت بيتاً، أو يقول وقفت عبداً، فلا يصح، لأنه مجهول.
أو يقول: وقفت أحد هذين البيتين، فهذا لا يصح، لأنه مبهم.
الفرق بين المجهول والمبهم، أن المجهول ما لا يعلم، والمبهم ما يحتاج إلى تمييز.
وقيل: يصح وقف المجهول أو المبهم.
قال الشيخ ابن عثيمين: فلو وقف أحد عقاراته بدون أن يعلمه فإنه يصح وقفه؛ لأن هذا معين، والمذهب أنه لا يصح؛ لأنه مجهول، وإذا كان مجهولاً فإنه قد يكون أكثر مما قد يتصوره الواقف، والراجح صحة هذا؛ لأنه لم يجبر على الوقف؛ وليس الوقف مغالبة حتى يقول: خدعت أو غلبت؛ بل الوقف تبرع أخرجه الإنسان لله تعالى، كما لو تصدّق بدراهم بلا عدٍّ فتصح وتنفذ ولا يصح الرجوع فيها؛ لأنه تصدَّق وتبرَّع؛ فلهذا كان الراجح أنه يصح وقف المعيّن وإن كان مجهولاً؛ لأنه تبرّع محض إذا أمضاه الإنسان نفذ.
(وأن يكون على بِرٍّ وطاعة، كالمساجد، والفقراء، واليتامى ونحوها).
أي ومن شروط الوقف: أن يكون على جهة من جهات البر.
لأن المقصود به التقرب إلى الله، كبناء مسجد أو مدرسة علمية، أو داراً ريعها للفقراء، فإذا لم يكن على بر لم يحصل مقصوده الذي شرع من أجله.
قال ابن مفلح: أن يكون على بر ومعروف إذا كان الواقف على جهة عامة.
وقال ابن قدامة: الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى مَنْ يُعْرَفُ، كَوَلَدِهِ، وَأَقَارِبِهِ، وَرَجُلٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ عَلَى بِرٍّ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ، وَالْمَقَابِرِ، وَالسِّقَايَاتِ وَسَبِيلِ اللَّهِ
- فلا يصح على الكنائس، ولا على اليهود والنصارى، ولا على الأغنياء والفساق، وقطاع الطريق، لأن ذلك إعانة على المعصية.
لو قال: هذا وقف على الأغنياء، فإنه لا يصح، لأنهم ليسوا محلاً للقربة.
فائدة:
أما إذا كان على معين فإنه لا يشترط أن يكون على بر [لكن يشترط ألا يكون إثم].
مثال: وقفت هذا البيت على فلان الغني، فإنه يصح، لأنه ليس على جهة.
وقد روي (أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم وقفت على أخ لها يهودي).
فائدة:
الوقف على نفسه.
قيل: لا يجوز.
وهذا قول الجمهور.
فهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.
لحديث ابن عمر في قصة وقف عمر قال صلى الله عليه وسلم (حبس الأصل وسبّل الثمرة).
وجه الدلالة: أن تسبيل الثمرة تمليكها للغير، ولا يتصور أن يملك الشخص من نفسه لنفسه.
وقيل: يجوز.
وهذا اختيار ابن تيمية.
تنبيه:
لم يختلف العلماء في الرجل يقف وقفاً عاماً على المسلمين، أن له أن ينتفع معهم، كأن يقف مسجداً فيصلي فيه، أو بئراً للمسلمين فيشرب منه.
(وكونه في غيرِ مسجد ونحوه على معين يملك).
أي: يشترط أن يكون الوقف إذا كان على معين، أن يكون على معين يملك.
لأن الوقف تمليك، فلا يصح على مجهول.
فلا يصح الوقف على حمْل، ولا على بهيمة.
لو قال: هذا وقف على ما بطن فلانة، فلا يصح.
أو قال هذا وقف على بقرة زيد، فلا يصح.
أو قال: على فرس عمرو، فلا يصح.
فائدة:
ولا يصح على نفسه.
وهذا قول الجمهور.
لحديث عمر السابق، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم (حبّس الأصل وسبّل الثمرة) رواه أحمد.
قالوا: إن تسبيل الثمرة تمليكها للغير، ولا يتصور أن يملك الشخص من نفسه لنفسه.
واختار ابن تيمية صحة ذلك.
أ- لحديث جابر. قال: قال صلى الله عليه وسلم لرجل (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك
…
) رواه مسلم.
قالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة على النفس هي المقدمة، والوقف نوع من الصدقة.
ب- أن المقصود من الوقف القربة، وهي حاصلة بالوقف على النفس.
(وكون واقف نافذ التصرف).
فلا يصح الوقف
(وأن يكون الوقف ناجزاً).
فلا يصح الوقف أن يكون معلقاً.
وهذا قول الجمهور.
كأن يقول: إذا جاء رمضان فبيتي وقف.
لأن الأصل في العقود التنجيز، والتعليق ينافي التنجيز.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز الوقف معلقاً.
وهذا مذهب المالكية، واختاره ابن تيمية.
لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز، ولا يبطل منها شيء إلا بدليل، ولا دليل على بطلان تعليق الوقف بالشرط.
(ويجبُ العملُ بشرط الواقف في قسمة، وجمعٍ، وتقديمٍ وضد ذلك).
لأنه خرج من ملك الواقف على شرط معين.
ولأن عمر وقف وقفاً وشرط فيه شروطاً (
…
فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي اَلْفُقَرَاءِ، وَفِي اَلْقُرْبَى، وَفِي اَلرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اَللَّهِ، وَابْنِ اَلسَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ
…
) ولو لم يجب اتباع شرطه لم يكن فيه فائدة.
- قوله (في قسمة).
مثال: قال هذا البيت وقف، نصف ريعه للفقراء، ونصف ريعه لطلاب العلم.
أو قال: نصفه للإمام المسجد والنصف الآخر للمؤذن، أو نصفه لأولادي ونصفه للفقراء، ونحو ذلك.
فإنه يجب أن يعمل بشرط الواقف.
فلا يجب عليه أن يسوي بين الموقوف عليهم، إلا في أولاده، فلو قال هذا وقف على أولادي الذكور دون الإناث.
فقيل: يجوز.
وقيل: لا يجوز أن يوقف على أولاده الذكور دون الإناث.
لقوله صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) متفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فإنه يكون بهذا العمل غير متق لله، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص بعض الأبناء جوْراً، فقال: لا أشهد على جوْر، ولا شك أن من وقّف على بنيه دون بناته أنه جوْر
فائدة:
لو قال: هذا وقف على أولاد زيد الذكور دون الإناث، فإنه يصح، لأنه لا يجب العدل، لأنهم ليسوا أبنائه.
فائدة:
إذا وقف على قبيلة فإنه يشمل الجميع - الذكور والإناث - إلا أولاد النساء من غيرهم.
- وقوله (وجمع).
مثال: لو قال: أوقفت داري على أولادي وأولاد أولادي، فهنا جمع بين أولاده وأولاد أولاده، فيكون ريع الوقف لهم جميعاً، لأن هذر شرْطه.
- وقوله (وتقديم).
مثال: لو قال: هذا وقف على زيد وعمرو والمقدم زيد، فيعمل بشرطه، فإنه قد شرط التقديم لزيد، فيعطى زيد من الريع وما يكفيه، فإن فضل شيء فهو لعمرو، وإن لم يفضل شيء فلا شيء له.
مثال: هذا وقف على أولاد فلان، والناظر عليه فلان، فيجب العمل بشرطه.
(فإن أطلق سوي بين الموقوف عليهم).
أي: إذا أطلق الواقف، و لم يشترط شيئاً: استوى في الاستحقاق الغني والفقير والذكر والأنثى من الموقوف عليهم.
فكل من اتصف بالوصف الذي علق الواقف الوقف عليه فإنه يدخل في ذلك.
فلو لو قال: هذا وقف على طلاب العلم - ولم يقدم أحد ولا أخر أحد ولا جعل ترتيباً ونحو ذلك - فإنه يقسم على الجميع،
(والنظر عند عدم الشرط لموقوف عليه إن كان محصوراً وإلا فلحالكم).
الناظر: هو القائم بشؤون الوقف.
أي: النظر على الوقف له أحوال:
أ- إن كان الواقف عين ناظراً فإنه يكون هو الناظر.
ب- إن لم يعين: فالناظر هو الموقوف عليهم إذا كانوا معينين.
ج- إذا كان الوقف على جهة كالمساجد، أو لا يمكن حصرهم كالمساكين، فالنظر على الوقف للحاكم.
أمثلة:
قال: هذه داري وقف على الفقراء، والناظر عليه فلان، فإنه يصير ناظراً عليها.
قال: هذه داري وقف على أولاد زيد، ولم يعين ناظراً، فالنظر يكون للموقوف عليهم، ويكون بقدر حصصهم، لأن المنفعة لهم
قال: هذه داري وقف على زيد، ولم يعين ناظراً، فزيد هو الناظر.
(لا يباع إلا أن تتعطل منافعه).
أي: أن الوقف لا يجوز بيعه.
لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر (تصدق بأصلها لا يباع، ولا يُوهب، ولكن ينفق ثمره) هذا لفظ البخاري.
وقوله (إلا أن تتعطل منافعه) كدار انهدمت، أو أرض خربت وعادت مواتاً ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه.
قال الشيخ ابن عثيمين: فإذا كان هذا الوقف وقفاً على الفقراء، وتعطلت منافعه، وبعْناه بالثمن؟ هل نتصدق به على الفقراء، أو نشتري به وقفاً يكون للفقراء؟ يتعين الثاني، فلا يجوز أن نقول: إن هذا وقف على الفقراء، والآن بعناه لتعطل منافعه، فنصرف دراهمه إلى الفقراء، فهذا لا يجوز، لأن هذه الدراهم عوض عن أصل الوقف، وأصل الوقف لا ينقل ملكه لا ببيع ولا بغيره.
(وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم، وإلا جاز التفضيل والاقتصار على واحد).
إذا وقف الإنسان شيئاً فلا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون يمكن حصرهم، فهنا يجب التعميم والتساوي.
مثال: هذا وقف على أولاد فلان، وأولاد فلان عددهم عشرة، فهنا يمكن حصرهم، فيجب أن يعمموا كل واحد، ويجب أن يساوي بينهم [الذكور والإناث، والغني والفقير، والضعيف والقوي، والكبير والصغير].
الحالة الثانية: إن كان لا يمكن حصرهم، فهنا لا يجب التعميم ولا التساوي.
لأنه لا يمكن حصرهم، ولا الإحاطة بهم.
مثال: لو قال: هذا وقف على قبيلة بني تميم، فهنا لا يجب التعميم ولا التساوي، فيجوز أن يعطي بعضهم دون بعض، وأن يفضل بعضهم على بعض.
(وإن وقف على ولده أو ولد غيره فهو لذكر وأنثى بالسوية).
لأن لفظ (الولد) يشمل الذكر والأنثى.
كما قال تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).
وبالإجماع أن المراد بالأولاد هنا الذكور والإناث.
واللغة دلت على ذلك فإن الولد _ يشمل الذكور والإناث.
قال العيني: الإجماع قائم على أن اسم الولد يقع على البنين والبنات.
فائدة: 1
الراجح لا يجوز أن يوقف على أولاده الذكور دون الإناث.
لقوله صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) متفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فإنه يكون بهذا العمل غير متق لله، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص بعض الأبناء جوْراً، فقال: لا أشهد على جوْر، ولا شك أن من وقّف على بنيه دون بناته أنه جوْر
فائدة: 2
لو قال: هذا وقف على أولاد زيد الذكور دون الإناث، فإنه يصح،
لأنه لا يجب العدل، لأنهم ليسوا أبنائه.
فائدة: 3
إذا وقف على قبيلة فإنه يشمل الجميع - الذكور والإناث - إلا أولاد النساء من غيرهم.
فائدة: 4
قال الشيخ ابن عثيمين: وإذا قال: على ذريته،
وذرية فعيلة بمعنى مفعولة، أي: من ذرأهم الله منه، والذين ذرأهم الله منه هم أولاد الصلب، فإذا قال: هذا وقف على ذريتي دخل الأولاد من بنين وبنات، ودخل بعد ذلك أولاد البنين، دون أولاد البنات؛ لأنهم ليسوا من ذريته.
فائدة: 5
لا خلاف بين العلماء أن الوقف إذا كان معلوم الابتداء والانتهاء غير منقطع فإنه صحيح.
قال ابن قدامة: أَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِي صِحَّتِهِ، مَا كَانَ مَعْلُومَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، مِثْلَ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ طَائِفَةٍ لَا يَجُوزُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ انْقِرَاضُهُمْ.
وأما إذا كان الوقف على جهة يجوز انقطاعها بحكم العادة كما لو وقف على أولاده، أو على فلان من الناس، ولم يجعله بعد ذلك على الفقراء والمساكين، فإن ذلك يؤول إلى الانقطاع، فهل يصح؟
قيل: لا يصح
وبه قال أبو حنيفة.
لأن الوقف إذا كان منقطعاً صار وقفاً على مجهول فلم يصح.
ولحديث (إذا مات الإنسان انقطع
…
) والوقف إذا لم يرد به التأبيد لم يكن صدقة جارية.
وقيل: يصح الوقف المنقطع.
وهذا المذهب.
قال ابن قدامة: وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الِانْتِهَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَوْمٍ يَجُوزُ انْقِرَاضُهُمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَا لِجِهَةٍ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْه.
لَأنه تَصَرُّفٌ مَعْلُومُ الْمَصْرِفِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِمَصْرِفِهِ الْمُتَّصِلِ، وَلِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إذَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ، حُمِلَ عَلَيْهِ، كَنَقْدِ الْبَلَدِ وَعُرْفِ
الْمَصْرِفِ، وَهَاهُنَا هُمْ أَوْلَى الْجِهَاتِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُمْ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ عِنْدَ انْقِرَاضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ.
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَسَاكِينِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ.
فائدة: 6
من الشروط الباطلة في الوقف.
قال ابن قدامة: وإِنْ شَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، وَيُدْخِلَ مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ، فَأَفْسَدَهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِه.
باب الهبة
تعريفها:
قال ابن قدامة: تمليك في الحياة بلا عوض.
قولنا (تمليك) يخرج العارية، لأن العارية إباحة العين لا تمليكها، لأنه ينتفع بها ويردها.
وقولنا (في الحياة) هذا يخرج الوصية، لأن الوصية بعد الموت.
وقولنا (بلا عوض) وهذا يخرج البيع، لأنه تمليك بعوض معلوم.
قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بلا عوض، واسم العطية شامل لجميعها وكذلك الهبة.
وقال ابن حجر: والهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة تطلق بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة هي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية هي ما يكرم به الموهوب له ومن خصها بالحياة أخرج الوصية، وهي أيضا تكون بالأنواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض.
فائدة: 1
والهبة من عقود التبرعات.
وهي العقود التي يقوم التمليك فيها على التبرع من غير مقابل؛ إذ إن أحد طرفي العقد فيها لا يطلب عوضا عما يدفعه إلى الطرف الآخر، ويقابلها عقود المعاوضات، وهذا من حيث الغرض من العقد.
فائدة: 2
واعلم أن تبرع الإنسان ماله لغيره يقع على أوجه:
أن يكون صدقة: وهي ما أريد بها ثواب الآخرة.
أن يكون هدية: وهي ما قصد بها التودد والتحبب للغير.
أن يكون هبة: وهي ما قصد بها مجرد النفع المحض. (والغالب تكون من الأعلى إلى الأدني).
أن يكون عطية: وهي كالهبة، لكنها هي تكون في مرض الموت المخوف.
أن يكون وصية: هي التبرع بالمال بعد الموت.
أن يكون رشوة: وهي بذل المال للتوصل لأمر محرّم.
فائدة: 3
الفرق بين الهدية والصدقة:
الفرق: أن من أعطى شيئاً ينوي به التقرب إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة، وإن حملت إلى المهدى إليه إكراماً وتودداً فهو هدية.
ويدل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه أهدية، أو صدقة؟ فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده فأكل معهم).
فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على الفرق بين الصدقة، والهدية، وأنهما متغايران، فمن أعطى للمحتاج شيئاً لوجه الله فهو صدقة، وإن حمل إلى الملك إكراماً وتودداً فهو هدية.
فائدة: 4
أيهما أفضل الصدقة أم الهدية؟
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى: الصَّدَقَةُ" مَا يُعْطَى لِوَجْهِ اللَّهِ عِبَادَةً مَحْضَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَلا طَلَبِ غَرَضٍ مِنْ جِهَتِهِ; لَكِنْ يُوضَعُ فِي مَوَاضِعِ الصَّدَقَةِ كَأَهْلِ الْحَاجَاتِ. وَأَمَّا " الْهَدِيَّةُ " فَيَقْصِدُ بِهَا إكْرَامَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ; إمَّا لِمَحَبَّةِ وَإِمَّا لِصَدَاقَةِ; وَإِمَّا لِطَلَبِ حَاجَةٍ; وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا فَلا يَكُونُ لأَحَدِ عَلَيْهِ مِنَّةٌ وَلا يَأْكُلُ أَوْسَاخَ النَّاسِ الَّتِي يَتَطَهَّرُونَ بِهَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهِيَ الصَّدَقَاتُ وَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ لِذَلِكَ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ; إلا أَنْ يَكُونَ فِي الْهَدِيَّةِ مَعْنًى تَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ: مِثْلَ الإِهْدَاءِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ مَحَبَّةً لَهُ. وَمِثْلَ الإِهْدَاءِ لِقَرِيبِ يَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ، وَأَخٍ لَهُ فِي اللَّهِ: فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَة.
(وهي مستحبة).
أي: أن حكم الهبة بالنسبة للواهب مستحبة، لما فيها من المصالح العظيمة، من التوسعة على الغير، ونفي الشح وغير ذلك.
لقوله تعالى (إن الله يحب المحسنين).
وقال صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد.
وقال صلى الله عليه وسلم (لو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت) متفق عليه.
وأما بالنسبة للموهوب: فالسنة أن يقبل الهدية ولا يردها، لأن هذا هديه.
عن عائشة. قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) رواه البخار ي.
(لا تصح في مجهول).
أي: أن الهبة يشترط فيها أن تكون معلومة، فلا تصح أن تكون مجهولة.
مثال: لو وهبت لشخص حمل في بطن، أو طيراً في هواء، أو ما في جيبي.
وهذا قول جمهور العلماء.
لأن الهبة عقد، ويشترط في العقود العلم، فكما أن المجهول لا يصح بيعه، فكذا هبته.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يصح هبة المجهول.
لأن عقد الهبة من عقود التبرعات وعقود التبرعات يتوسع فيها مالا يتوسع في عقود المعاوضات، فعقود المعاوضات كالبيع ونحوه يشترط فيها العلم والتحرير والضبط لأنها مبنية على المشاحة، أما هنا فالموهوب له لا ضرر عليه فهو يدخل إما غانم أو سالم.
(ولا معدوم).
قال ابن قدامة: ولا تصح هبة المعدوم، كالذي تثمر شجرته، أو تحمل أمته، لأن الهبة عقد تمليك لم تصح في هذا كله كالبيع.
وذهب بعض العلماء: إلى جواز ذلك.
واختاره ابن تيمية.
لأن الهبة من عقود التبرعات لا من عقود المعاوضات، فيتوسع فيها ما لا يتوسع في عقود المعاوضات.
فائدة: 1
ذهب بعض العلماء: إلى أنه يشترط لصحة الهبة،
أن يكون الموهوب مقدوراً على تسليمه.
وعلى هذا إذا كان غير مقدور على تسليمه كالآبق والشارد والعين المسروقة، فإنه لا يصح، والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المجهول.
والصحيح في هذا: أن هذا صحيح كما سلف لنا فهبة الذي لا يقدر على تسليمه جائز ولا بأس به إن شاء الله.
فائدة: 2
قال بعض العلماء: كل ما جاز بيعه جاز هبته.
وقال بعض العلماء: لا يشترط ذلك، بل يشترط أن يكون مما يباح نفعه، سواء أبيح بيعه أو لا.
(وتنعقد بإيجاب وقبول وبمعاطاة).
أي: أن الهبة تنعقد بأمرين: الصيغة القولية - الصيغة الفعلية.
الصيغة الأولى: صيغة قولية.
وهي الإيجاب والقبول، فالإيجاب اللفظ الصادر من الواهب أو من يقوم مقامه، والقبول اللفظ الصادر من الموهوب له أو من يقوم مقامه
كأن يقول: وهبتك، فيقول: قبلت، أو يقول: أعطيتك ويقول: قبلت، أو أهديتك فيقول: قبلت ونحو ذلك.
الصيغة الثانية: بالمعاطاة.
فأكثر العلماء أنها تنعقد بالمعاطاة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدي ويُهدى إليه، ويعطي ويُعطى، ويفرق الصدقات ويأمر سعاته بأخذها وتفريقها، وكان الصحابة يفعلون ذلك ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم إيجاب ولا قبول.
(ويستحب قبول الهدية).
أي: يستحب للإنسان أن يقبل الهدية، لأن ذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ اَلْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ.
وقد أهدت أم الفضل للنبي صلى الله عليه وسلم شربة لبن فقبلها. كما في البخاري ومسلم.
وأهدى له أبو طلحة ورك أرنب فقبله. رواه البخاري ومسلم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ! لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) متفق عليه.
…
[فرسن الشاة: حافرها].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال (لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْت) رواه البخاري.
…
[وَالْكُرَاع مِنْ الدَّابَّة مَا دُون الْكَعْب].
قَالَ اِبْن بَطَّال: هذا حض منه لأمته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتحاب، وإنما أخبر أنه لا يحقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يدعى
إليه، لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المهدى، وإنما أشار بالكراع وفرسن الشاة إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك " انتهى.
- فيستحب قبول الهدية وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن قبول الهدية هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن في قبولها فوائد متعددة منها: إرضاء المهدي، وجبر خاطره، وتقديراً لهديته، والنظر إليها بعين الاعتبار، ولأن في ردها: مخالفة للسنة، وفيه كسر لقلب المهدي وإساءة إليه.
فائدة: 1
لا خلاف بين أهل العلم في مشروعية قبول الهدية،
وإنما الخلاف في وجوب قبولها على قولين:
الجمهور أن قبولها مستحب لا واجب.
قال النووي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ جَاءَهُ مَال هَلْ يَجِب قَبُوله أَمْ يُنْدَب؟ عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب حَكَاهَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور
فائدة: 2
بل كان قبول الهدية إحدى علامات نبوته لدى أهل الكتب السابقة،
حتى عرفه بها سلمان الفارسي رضي الله عنه في قصة إسلامه، كما في مسند الإمام أحمد.
فائدة: 3
ورد أشياء بعينها لا ترد.
عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيب) رواه البخاري.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيح) رواه مسلم.
ولفظ أبي داود (من عرض عليه طيب
…
).
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ الْوَسَائِدُ وَالدُّهْنُ وَاللَّبَنُ) رواه الترمذي. الدُّهْنُ يَعْنِى بِهِ الطِّيبَ.
الوسائد: جمع وسادة وهي المخدّة.
(ويكره رد الهدية وإن قلّت).
أي: يكره للإنسان أن يرد الهدية مهما صغرت.
عَنْ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَنْ بَلَغَهُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَخِيهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ، فَلْيَقْبَلْهُ وَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْهِ) وصححه الألباني
ب- لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَلا تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ، وَلا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ) رواه أحمد.
يقول ابن حبان في (روضة العقلاء) زجر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر عن ترك قبول الهدايا بين المسلمين، فالواجب على المرء إذا أهديت إليه هدية أن يقبلها ولا يردها، ثم يثيب عليها إذا قدر، ويشكر عنها.
ج- وتقدم حديث (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ! لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ).
د- وحديث (وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْت) رواه البخاري.
فائدة:
يستحب لمن امتنع من قبول الهدية أن يبيّن السبب.
عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ (أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فَلَمَّا أَنْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فِي وَجْهِى قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُم) متفق عليه
قال القاضي عياض: وفى اعتذار النبي عليه السلام دليل على استحباب قبول هدية الصديق وكراهة ردها لما يقع في نفسه، ألا ترى تطييب النبي عليه السلام قلبه.
وقال النووي: فيه أنه يستحب لمن امتنع من قبول هدية ونحوها لعذر أن يعتذر بذلك إلى المهدي تطييباً لقلبه.
وقال ابن حجر: فيه الاعتذار عن رد الهدية تطييباً لقلب المهدي.
(وإن علِم أنهُ أهدى حَياءً وَجَبَ الرد).
أي: يستحب قبول الهدية ويكره ردها إلا إذا تضمنت محذوراً شرعياً:
فيشترط لقبول شروط الهدية شروطاً:
أولاً: ألا يكون أهدى له حياء وخجلاً.
فإذا علم أنه وهب له حياء وخجلاً فلا يجوز له أن يقبلها.
ثانياً: ألا يتضمن محذوراً شرعياً.
كما لو وقعت موقع الرشوة، أو السكوت عن حق أو الدفاع عن باطل.
ثالثاً: ألا تكون محرمه (لعينها) مثل: الخنزير، والميتة، والدم (أو لحق الغير)
مثل: المغصوب، والمسروق، والمختلس.
فائدة:
أما المحرم لكسبه فإنه يجوز قبولها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية اليهودية، مع أن اليهود كانوا يتعاملون بالربا.
قال الشيخ ابن عثيمين: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع اليهود بالبيع و الشراء، ويقبل منهم الهدية مع أنهم يتعاملون بالربا.
قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِل).
ومع ذلك قَبِل النبي صلى الله عليه وسلم هديّتهم. قَبِل هدية المرأة التي أهدت الشاة بخيبر وعاملهم ومات ودرعه مرهونة عند يهودي.
(بل السنة أن يثيب عليها أو يدعو).
أي: يسن الإثابة على الهدية، وأن المكافأة عليها أمر مطلوب، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
لحديث عائشة السابق (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا).
فإن لم يقدر فليدعو للمهدي.
أ-عن جَابِر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيُجْزِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ، فَمَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
ب- وَلِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا (مَنْ صُنِعَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ) رواه الترمذي.
ج- وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) رواه أبو داود.
(وتلزم بالقبض).
أي: تلزم الهبة بالقبض بإذن الواهب، وأما قبل القبض وبعد القبول فهي غير لازمة، فيجوز الرجوع فيها.
فلو قال: وهبتك كذا ولم يسلمه له ثم رجع، فرجوعه جائز.
وهذا قول أكثر العلماء.
ويستدل على جواز الرجوع قبل القبض:
أ- ما ورد عن أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم رضي الله عنهم.
ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) والرجوع في الموهوب إنما يكون في حق الأعيان دون الأقوال، والهبة قبل القبض رجوع في قول فلا يدخل في هذا الحديث؛ لأن عقد الهبة لم يتم.
ج-ويمكن أن يستدل لذلك أيضاً: بأن عقد الهبة من عقد التبرعات التي لا تلزم باتفاق، وإلزام المتبرع بقوله الصادر منه مصير إلى اللزوم دون حاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن مجرد القول لم يترتب عليه استحقاق أو ظلم، وإنما هو مجرد وعد.
(وأما بعدَ القبض فيحرمُ الرجوع فيها).
هذا حكم الرجوع في الهبة بعد قبضها، وأنه حرام.
وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
قال ابن حجر: بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء.
جاء في (الموسوعة الفقهية) ويجوز الرجوع في الهبة قبل القبض عند الجمهور، فإذا تم القبض: فلا رجوع عند الشافعية والحنابلة إلا فيما وهب الوالد لولده.
أ- لحديث اِبْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (اَلْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِي (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ اَلسَّوْءِ، اَلَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ).
قال الحافظ ابن حجر عن ترجمة البخاري: باب لا يحل لأحدٍ أن يرجع في هبته وصدقته، ثم ذكر البخاري حديث الباب (العائد في هبته
…
).
قال الحافظ: كذا بت الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده.
وقال أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم (ليس لنا مثل السوء) أي: لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال الله سبحانه وتعالى (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدل على التحريم مما لو قال مثلا: لا تعودوا في الهبة.
وقال النووي: هَذَا ظَاهِر فِي تَحْرِيم الرُّجُوع فِي الْهِبَة وَالصَّدَقَة بَعْد إِقْبَاضهمَا. (شرح مسلم).
فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته في أقبح صورة، فإن الكلب من أخبث الحيوانات، ثم إن هذه الصورة من أبشع الصور، أن يقيء ثم يعود في قيئه.
ب- ولحديث ابن عمر وابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أبو داود.
(إلا للأب بشروط أربعة).
أي: إلا للأب فيجوز الرجوع في هبته لولده.
لحديث عَنْ اِبْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ السابق (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ اَلْعَطِيَّةَ، ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا; إِلَّا اَلْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ.
فهذا الحديث دليل على جواز رجوع الوالد في هبته لولده صغيراً كان أم كبيراً.
فائدة:
كما تقدم: الأصل تحريم الرجوع في الهبة بعد القبض، ويستثنى من ذلك أمران:
الأول: رجوع الأب في ما وهبه لأولاده.
كما تقدم في الحديث السابق (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ).
الثاني: من وهب هبة لغرض ولم يتحقق غرضه، جاز له الرجوع في هبته.
لأن هذه الهبة ليست هبة محضة، بل فيها معنى المعاوضة، والفقهاء يسمونها: الهبة للثواب أي للعوض، فإذا لم يُثب من هبته، جاز له الرجوع فيها.
ويدل لذلك ما روى مالك في "الموطأ"(1477) أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَال (مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ: فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ: فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ؛ يَرْجِعُ فِيهَا إِذَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا).
قال الألباني: " وهذا سند صحيح على شرط مسلم.
(أن لا يُسقط حقه من الرجوع).
هذا الشرط الأول من شروط رجوع الأب في هبته، أن لا يسقط حقه من الرجوع.
كما لو قال: وهبتك هذه السيارة ولن أرجع فيها.
(أن تكون باقية في ملكهِ).
هذا الشرط الثاني من شروط رجوع الأب في هبته، أن تكون الهبة باقية في ملك الابن.
فلو أن الأب وهب ابنه سيارة، ثم الابن وهبها أو باعها، فالأب في هذه الحالة لا يملك الرجوع، لأنه يلزم من رجوعه إبطال حق الغير.
(وأن لا يتعلق بها حق الغير).
هذا الشرط الثالث من شروط رجوع الأب في هبته، أن لا يتعلق بها حق للغير.
كما لو رهنها الولد، لما في ذلك من إسقاط حق المرتهن.
فائدة: 1
ومن الشروط التي ذكرها بعض العلماء:
ألا يكون ما وهبه له نفقة: فلو أعطاه (100) ليشتري ثوباً، فهنا ليس للأب أن يرجع في هبته، لأنه رجوع في أمر واجب.
فائدة: 2
ومن الشروط: ألا يتعلق بها رغبة الغير للولد.
مثال: وهب الأب ابنه ألف ريال، فرغب بعض الناس بهذا الولد فزوجوه مثلاً أو أصبح يجد من يقرضه، فهل للأب أن يرجع أم لا؟
فيه خلاف:
قيل: ليس له أن يرجع.
لأنه تعلق به حق لغير الابن، لما في ذلك من الإضرار بالناس، لأن الناس ربما يكونوا قد أقرضوه أو بايعوه.
وقيل: للأب أن يرجع.
لعموم الحديث السابق.
وقيل: ليس له أن يرجع بقدر الرغبة، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
وهذا اختيار ابن تيمية. (مسائل مهمة في الهبة والهدية).
فائدة: 3
اختلف العلماء: هل الرجوع في الهبة خاصة بالأب،
أم يجوز للأم أيضاً على قولين:
القول الأول: ليس لها الرجوع.
لأن الأب هو الذي يتملك من مال ولده دون الأم.
القول الثاني: أن الأم لها الرجوع في هبتها لولدها.
أ- لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (
…
إلا الوالد فيما يعطي ولده).
وجه الدلالة: أن لفظ الوالد يشمل الأم.
ب-وكقوله صلى الله عليه وسلم (واعدلوا بين أولادكم) فيدخل فيه الأم، فإنها مأمورة بالتسوية والعدل، والرجوع في الهبة طريق التسوية.
ج-ولأنها دخلت في المعنى في حديث بشير فينبغي أن تدخل في جميع مدلوله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (فأرجعه) أي: أن الهبة المذكورة كانت بمشورة من والدة النعمان كما سبق.
د- أنها ساوت الأب في تحريم تفضيل بعض ولدها فينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع فيما فضلته به تخليصاً لها من الإثم وإزالة التفضيل المحرم كالأب.
فائدة: 4
حكم تعليق الهبة وإضافتها إلى المستقبل؟
كأن يقول الرجل: وهبتك هذا المال إن قدم زيد، على قولين:
قيل: لا يصح.
وهذا قول الجمهور.
قالوا: إن الهبة عقد تمليك، وعقود التمليك لا تقبل التعليق كالبيع.
قال ابن حزم: وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ بِشَرْطٍ أَصْلاً.
وقال ابن قدامة: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْهِبَةِ بِشَرْطٍ; لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِمُعَيَّنٍ فِي الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ، كَالْبَيْع.
وقيل: يصح.
وهذا مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية.
لعدم الدليل الذي يمنع من ذلك، والأصل في المعاملات الصحة والجواز.
فائدة: 5
قال ابن قدامة: فَأَمَّا الْهِبَةُ مِنْ الصَّبِيِّ لِغَيْرِهِ،
فَلَا تَصِحُّ، سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهَا الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَظِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَبَرُّعُهُ، كَالسَّفِيهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، وَمَالُهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إزَالَةُ مِلْكِ سَيِّدِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. (المغني)
فائدة: 6
اختلف الفقهاء في هبة الهازل على قولين:
قيل: هبته صحيحة.
وهذا مذهب الحنفية.
وقيل: لا تصح.
وهذا مذهب الحنابلة.
فائدة: 7
فهل تبطل الهبة بموت الواهب قبل القبض؟
في ذلك خلاف بين الفقهاء.
مذهب الحنفية والمالكية وبعض الحنابلة: أنها تبطل.
ومذهب الشافعية والحنابلة: أنها لا تبطل، لكن يقوم الورثة مقام الواهب، فيحق لهم الإذن في الهبة أو الرجوع فيها.
قال في (الإنصاف) قوله (وإن مات الواهب: قام وارثه مقامه في الإذن والرجوع) هذا المذهب
…
جاء في (الموسوعة الفقهية) اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل قَبْضِهَا.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إنْ مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ، لأِنَّهُ يَئُول إلَى اللُّزُومِ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ بَطَل الْعَقْدُ، أَمَّا إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَلَا تَبْطُل الْهِبَةُ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الإْقْبَاضِ أَوِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَة.
فائدة: 8
المقولة المشهورة بين كثير من الناس:
" الهدية لا تُهدى ولا تُباع" مقولة غير صحيحة، ومخالفة للشرع، بل من تملَّك هدية بطريق شرعي فإن له الحق في التصرف بها بيعاً وإجارة وإهداءً ووقفاً، ولا حرج عليه في ذلك، ومن منع شيئاً من ذلك لم يُصب، وقد جاء في السنَّة النبوية الصحيحة ما يدل على هذا.
أولاً: عن عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَ حَرِيرٍ، فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا، فَقَالَ:(شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِم). متفق عليه
"أُكَيْدِرَ دُومَةَ": هو أكيدر بن عبد الملك الكندي، واختلف في إسلامه والأكثر على أنه لم يُسلم. " الخُمُر": جمع خمار.
"الفواطم": هن ثلاث: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت أسد، وهي أم علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب.
وفي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أهدى ما أُهدي إليه، وعليه: فهو يدل على بطلان من منع من إهداء الهدية.
ثانياً: وعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ قَالَ: (أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ، فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ، وَأَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ الْجُبَّةِ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ). رواه البخاري ومسلم
وفي الحديث نصٌّ على جواز بيع الهدية، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في الهدية التي أهداه إياها:" تبيعها ".
ثالثاً: وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ، فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ. قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: بِعْنِيهِ. فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ) رواه البخاري.
(بَكر): ولد الناقة أول ما يُركب. (صعب) كثير النفور.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: هُوَ لَكَ، تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ يدل على أن من أهدي إليه شيء فقد صار ملكاً له، يتصرف فيه كما يشاء، بالبيع أو الهدية أو غير ذلك.
فصل
(ويجب أن يعدل في عطية أولاده بقدر إرثهم).
أي: يجب على الوالد أن يسوي في عطية أولاده، ويحرم التفضيل.
فلا يجوز أن يعطي الولد دون البنت، أو البنت دون الولد، أو ولد دون ولد.
وإلى هذا ذهب الحنابلة، والظاهرية.
أ- لحديث النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ (تَصَدَّقَ عَلَىَّ أَبِى بِبَعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ أَبِى إِلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ». قَالَ لَا. قَالَ «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ». فَرَجَعَ أَبِى فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ) ق.
ولمسلم (. . . قال: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِى - ثُمَّ قَالَ - أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً». قَالَ بَلَى. قَالَ «فَلَا إِذًا).
وفي رواية (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا». قَالَ نَعَمْ. فَقَالَ «أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا». قَالَ لَا. قَالَ «فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ).
وجه الدلالة من وجوه:
الأول: أمره بالعدل والأمر يقتضي الوجوب.
الثاني: بيانه أن تفضيل أحدهم أو تخصيصه دون الباقين ظلم وجور، إضافة إلى امتناعه عن الشهادة عليه وأمره برده وهذا كله يدل على تحريم التفضيل.
ب- واستدلوا أيضا بحجج عقلية:
فمنها: ما ذكره ابن حجر في (فتح الباري) حيث قال رحمه الله: ومن حجة من أوجب: أن هذا مقدمة الواجب لأن قطع الرحم والعقوق محرمان فما يؤدي إليهما يكون محرما والتفضيل مما يؤدي إلى ذلك ".
ويؤيد ذلك ما جاء في لفظ عند مسلم (قَالَ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ثُمَّ قَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً قَالَ بَلَى قَالَ فَلَا إِذًا).
ومنها: أن تفضيل بعضهم على بعض يورث العداوة والبغضاء فيما بينهم، وأيضاً فيما بينهم وبين أبيهم فمنع منه.
واختار هذا القول: ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، والشوكاني، والشيخ صديق حسن خان.
قال الشوكاني: وبه صرح البخاري، وهو قول طاووس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية.
وذهب بعض العلماء إلى أن التسوية مستحبة غير واجبة، والتفضيل مكروه.
وهذا مذهب الجمهور.
قال النووي: فَلَوْ فَضَّلَ بَعْضهمْ، أَوْ وَهَبَ لِبَعْضِهِمْ دُون بَعْض، فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة: أَنَّهُ مَكْرُوه وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَالْهِبَة صَحِيحَة، وَقَالَ طَاوُسٌ وَعُرْوَة وَمُجَاهِد وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد: هُوَ حَرَام. (شرح مسلم).
وعلى هذا القول: فلو أعطى ولداً ولم يعط الآخر، فلا يحرم، وإذا أعطى ولداً دون بنت، فلا يحرم.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم (سووا بينهم).
وحملوا الأمر في حديث الباب على الاستحباب.
- وأجابوا عن حديث النعمان بن بشير بأجوبة كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
منها: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، حكاه ابن عبد البر.
وتعقب:
بأن كثيراً من طرق الحديث مصرحة بالبعضية، كما في قوله (تصدق علي أبي ببعض ماله).
ومنها: أن العطية المذكورة لم تنجز، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشار عليه بأن لا يفعل فترك.
وتعقب:
بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالتنجيز.
ومنها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد على هذا غيري) إذن بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه أن يحكم.
وتعقب:
أن الإذن المذكور المراد به التوبيخ، لما تدل عليه بقية الروايات.
وغيرها من الأجوبة الضعيفة.
والراجح الوجوب وتحريم التفضيل.
فائدة:
إذا تقرر وجوب العدل في عطية الأب، فهل يجري الحكم في حق الجد، بمعنى هل يجب على الجد أن يعدل في الهبة بين
أحفاده أم لا يجب عليه العدل؟
الذي عليه جمهور العلماء أن ذلك مستحب غير واجب.
قال ابن قدامة: وجبت التسوية بين الأولاد بالخبر وليس غيرهم في معناهم؛ لأنهم استووا في وجوب بر والدهم فاستووا في عطيته، وبهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:(أيسرك أن يستووا في برك؟)، قال: نعم، قال:(فسوّ بينهم) ولم يوجد هذا في غيرهم
…
ولأن الأولاد لشدة محبة الوالد لهم، وصرف ماله إليهم عادة يتنافسون في ذلك. (المغني).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فإن قال قائل: وهل يشمل ذلك الجد، يعني لو كان له أولادُ أولادٍ، فهل يجب أن يُعَدِّل بينهم؟
الجواب: الظاهر أنه لا يجب؛ لأن قوة الصلة بين الأب وابنه، أقوى من قوة الصلة بين الجد وأبناء أبنائه، لكن لو كان هناك خوف من قطيعة رحم، فيتجه مراعاتهم بأن يعطي من يعطي على وجه السر. (الشرح الممتع).
(بقدر إرثهم).
أي: إذا أعطى أولاده عطية قسمها بينهم على قدر إرثهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).
قالوا: ولا أحد أعدل من الله، حيث قال (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن).
ب- ولأن حاجة الأنثى ليست كحاجة الذكر.
قال ابن قدامة رحمه الله: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ أَنْ يُقَسِّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ، فَيَجْعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَشُرَيْحٌ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
قَالَ شُرَيْحٌ لِرَجُلٍ قَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَلَدِهِ: اُرْدُدْهُمْ إلَى سِهَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَرَائِضِهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانُوا يُقَسِّمُونَ إلَّا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
لأَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَسَّمَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَأَوْلَى مَا اقْتَدَى بِقِسْمَةِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْعَطِيَّةَ فِي الْحَيَاةِ أَحَدُ حَالَيْ الْعَطِيَّةِ، فَيُجْعَلُ لِلذَّكَرِ مِنْهَا مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَحَالَةِ الْمَوْتِ. يَعْنِي الْمِيرَاث. (المغني).
قال ابن تيمية: ويجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم. وهو مذهب أحمد.
فإذا أعطى الذكر [10] أعطى الأنثى [5].
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يعطي الأنثى قدر الذكر.
فإذا أعطى الذكر [10] يعطي الأنثى [10].
وهذا مذهب الجمهور.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد (سوِّ بينهم)، وعلل ذلك بقوله (أيسرك أن يستووا في برك؟ قال: نعم، قال: فسوِّ بينهم). والبنت كالابن في استحقاق برها، وكذلك في عطيتها.
لقوله صلى الله عليه وسلم (سووا بينهم).
والراجح الأول.
(والأم كالأب).
أي: والأم كالأب في التسوية بين أولادها في العطية، فيجب عليها العدل في العطية لأولادها.
قال ابن قدامة: وَالأُمُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الأَوْلادِ كَالأب.
أ- لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (اتَّقُوا اللَّهِ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ).
ب- وَلأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ، فَمُنِعَتْ التَّفْضِيلَ كَالأَبِ.
ج- وَلأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِتَخْصِيصِ الأَبِ بَعْضَ وَلَدِهِ مِنْ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ، يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي تَخْصِيصِ الأُمِّ بَعْضَ وَلَدِهَا، فَثَبَتَ لَهَا مِثْلُ حُكْمِهِ فِي ذَلِك. (المغني).
(فإنْ فضّل بعضَهم سوّى بينهم برجوع أو زيادة).
أي: إن فضل أو خص بعض الأولاد على بعض سوى بينهم.
التفضيل: أن يعطي بعضهم [100] والآخر يعطيه [50].
التخصيص: أن يعطي أحدهم [100] والآخر لا يعطه شيئاً، فهنا يجب التعديل.
فإذا أعطى أحدهم [100] والآخر [50] فيجب التعديل، ويكون كالتالي:
أولاً: أن يأخذ من صاحب المائة خمسين. (هذا برجوع).
ثانياً: أن يعطي صاحب الخمسين خمسين أخرى. (هذا بزيادة).
ثالثاً: أن يأخذ من صاحب المائة خمس وعشرين يضعها على الناقص، فيكون نصيب كل واحد منهم خمس وسبعون.
قال ابن قدامة:
…
أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمْ بِمَعْنًى يُبِيحُ التَّفْضِيلَ، فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّتِهِ، أَوْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِيهَا أَثِمَ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا رَدُّ مَا فَضَّلَ بِهِ الْبَعْضَ، وَإِمَّا إتْمَامُ نَصِيبِ الْآخَرِ. (المغني)
(فإن ماتَ قبلَهُ ثبتت).
أي: إن مات قبله (أي قبل التسوية) ثبتت العطية.
يعني إذا مات الأب الذي فضل بعض الأولاد قبل أن يسوي ثبتت العطية.
وبهذا قال الجمهور.
قالوا: لأن المطالب بالرجوع الأب وقد مات.
ولقول أبي بَكْرٍ رضي الله عنه، لِعَائِشَةَ، لَمَّا نَحَلَهَا نِحَلًا: وَدِدْت لَوْ أَنَّك كُنْت حُزْتِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَازَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ
وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ: لَا نِحْلَةَ إلَّا نِحْلَةً يَحُوزُهَا الْوَلَدُ دُونَ الْوَالِدِ وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِوَلَدِهِ فَلَزِمَتْ بِالْمَوْتِ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ.
وذهب بعض العلماء: أن الوالد إذا مات وقد فضّل بعض أولاده بعطية فإنها لا تثبت له، وللباقين الرجوع.
واختاره ابن تيمية.
وبهذا قال الظاهرية.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى ذَلِكَ جَوْرًا بِقَوْلِهِ (لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ) وَالْجَوْرُ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ لِلْفَاعِلِ فِعْلُهُ، وَلَا لِلْمُعْطَى تَنَاوُلُهُ.
وَالْمَوْتُ لَا يُغَيِّرُهُ عَنْ كَوْنِهِ جَوْرًا حَرَامًا، فَيَجِبُ رَدَّهُ.
وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَمَرَا قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، أَنْ يَرُدَّ قِسْمَةَ أَبِيهِ حِينَ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ، وَلَا أَعْطَاهُ شَيْئًا، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ سَعْد. (المغني).
وهذا الراجح.
فائدة:
ذهب بعض العلماء إلى أن التفضيل إذا كان لسبب شرعي، فإنه يجوز.
واختار هذا القول ابن قدامة، وابن تيمية.
واستدل هؤلاء بما رواه مالك في الموطأ بسنده عن عائشة رضي الله عنهما الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا أَبَتِ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنْ الأُخْرَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ أُرَاهَا جَارِيَة). قال ابن حجر في الفتح (5/ 215) إسناده صحيح.
ووجه الدلالة منه ما ذكره ابن قدامة: " يحتمل أن أبابكر خصها بعطية لحاجتها وعجزها عن الكسب، مع اختصاصها بالفضل وكونها أم المؤمنين وغير ذلك من فضائلها.
وأجيب عنه بما ذكره الحافظ في الفتح (5/ 215) قال: "قد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك "
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لا يجوز للإنسان أن يفضل بعض أبنائه على بعض إلا بين الذكر والأنثى فإنه يعطي الذكر ضعف ما يعطي الأنثى لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله واعدلوا في أولادكم) فإذا أعطى أحد أبنائه 100 درهم وجب عليه أن يعطي الآخرين مائة درهم ويعطي البنات 50 درهما، أو يرد الدراهم التي أعطاها لابنه الأول ويأخذها منه، وهذا الذي ذكرناه في غير النفقة الواجبة، أما النفقة الواجبة فيعطي كلا منهم ما يستحق فلو قدر أن أحد أبنائه احتاج إلى الزواج، وزوجه ودفع له المهر لأن الابن لا يستطيع دفع المهر فإنه في هذه الحال لا يلزم أن يعطي الآخرين مثل ما أعطى لهذا الذي احتاج إلى الزواج ودفع له المهر لأن التزويج من النفقة، وأود أن أنبه على مسألة يفعلها بعض الناس جهلا؛ يكون عنده أولاد قد بلغوا النكاح فيزوجهم، ويكون عنده أولاد آخرون صغار، فيوصي لهم بعد موته بمثل ما زوج به البالغين وهذا حرام لا يجوز لأن هذه الوصية تكون وصية لوارث والوصية لوارث محرمة لقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". أخرجه بهذا اللفظ أبوداود (3565) والترمذي (2/ 16) وغيرهما؛ وحسن الألباني الإسناد بهذا اللفظ، وصحح لفظ " لا وصية لوارث " في الإرواء (6/ 87).
فإن قال أوصيت لهم بهذا المال لأني قد زوجت إخوتهم بمثله فإننا نقول إن بلغ هؤلاء الصغار النكاح قبل أن تموت فزوجهم مثلما زوجت إخوتهم فإن لم يبلغوا فليس واجبا عليك أن تزوجهم.
قال الشيخ ابن عثيمين: وهنا مسألة: لو كان لرجل عدة أبناء منهم الذي بلغ سن الزواج فزوجه، ومنهم الصغير فهل يجوز لهذا الرجل أن يوصي بشيء من ماله يكون مهرا للأبناء الصغار لأنه أعطى أبناءه الكبار؟
الجواب: لا يجوز للرجل إذا زوج أبناءه الكبار أن يوصي بالمهر لأبنائه الصغار، ولكن يجب عليه إذا بلغ أحد من أبنائه سن الزواج أن يزوجه كما زوج الأول. أما أن يوصي له بعد الموت فإن هذا حرام.
وقال ابن عثيمين أيضاً: الزواج من النفقة فمن احتاجه من الأولاد قام الوالد بحاجته فيه، ومن لم يحتجه فإنه لا يجوز له أن يعطيه شيئا، وعلى هذا فإذا كان للإنسان ثلاثة أبناء وزوج اثنين منهم في حياته، وبقي الصغير لم يصل إلى حد الزواج، ثم إن هذا الأب أوصى للصغير بمقدار المهر الذي أعطاه أخويه، فإن ذلك حرام، والوصية باطلة، فإذا مات فإن هذه الوصية ترد في التركة، إلا أن يسمح عنه بقية الورثة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث).
(وللأب أن يتملك من مال ولده، إن حازه، ولم تتعلق حاجة الابن به).
أي: للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء.
أ- لحديث جابر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) رواه ابن ماجه.
ب- ولحديث عائشة. قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ) رواه الترمذي.
- وقوله (من مال ولده) يشمل الذكر والأنثى، والمراد الولد لصلبه.
وهذا مذهب الحنابلة.
قال ابن قدامة: وَلِأَبٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ، وَيَتَمَلَّكَهُ، مَعَ حَاجَةِ الْأَبِ إلَى مَا يَأْخُذُهُ، وَمَعَ عَدَمِهَا، صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ كَبِيرًا، بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُجْحِفَ بِالِابْنِ، وَلَا يَضُرَّ بِهِ، وَلَا يَأْخُذَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ فَيُعْطِيَهُ الْآخَرَ. (المغني).
وذهب جمهور العلماء إلى أنه ليس للأب أن يتملك من مال ولده إلا بإذنه أو بقدر حاجته.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام
…
) متفق عليه.
وهذا عام يشمل الولد وغيره.
ب- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ إِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِه) متفق عليه.
ج- ولأن ملك الولد تام على ماله، فلم يجز انتزاعه منه.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَالِدَ لا يَأْخُذُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ شَيْئًا إِلا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ وَيَتَمَلَّكُهُ مَعَ حَاجَةِ الأَبِ إِلَى مَا يَأْخُذُهُ وَمَعَ عَدَمِهَا، صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ كَبِيرًا بِشَرْطَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ لا يُجْحِفَ بِالابْنِ وَلا يَضُرَّ بِهِ، وَلا يَأْخُذَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ.
الثَّانِي: أَنْ لا يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ فَيُعْطِيهِ وَلَدَهُ الآخَرَ.
فائدة:
هل للأم أن تتملك من مال ولدها؟
قيل: ليس لها ذلك.
لأن الخبر ورد في الأب لقوله (أنت ومالك لأبيك).
وقيل: أن لها التملك كالأب.
والأول أرجح.
•
لكن لتملك الأب من مال ولده شروط هي:
الأول: أن يحوز المال.
والحيازة أن يضم الإنسان إلى نفسه شيئاً ويضع يده عليه، والمراد هنا: أن يقبض المال ليصح تصرفه فيه ببيع أو هبة، فإن تصرف قبل حيازته لم يصح تصرفه، لأنه لا يملكه إلا بالقبض.
الثاني: ألا تتعلق حاجة الابن بهذا المال.
فإن تعلقت حاجته به لم يجز للأب أن يتملكه.
لأن حاجة الإنسان مقدمة على دَينه، فلأن تقدم على أبيه بطريق الأولى.
مثال الحاجة: ألا يكون عنده غير هذا المال، كسيارة يركبها، أو بيت يسكنه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجه.
ومن باب أولى لو كان هذا الأمر يضر بالابن، فلا يجوز أن يتملك.
الثالث: أن لا يكون وسيلة للتفضيل.
فإذا كان الأب يمنع أن يخصص أحد أولاده من ماله، فكذلك يمنع كونه يتملكه من ابنه زيد ويعطيه عمراً، فهذا ممنوع من باب أولى.
الرابع: أن لا يكون في مرض أحدهما المخوف.
لأن الإنسان إذا مرض مرضاً مخوفاً لا يملك من ماله إلا الثلث، فهذا هو الذي يملك أن يتبرع به، وعلى هذا إذا مرض الأب مرضاً مخوفاً فليس له أن يتملك الآن، كذلك الابن إذا مرض مرضاً مخوفاً فليس للأب أن يتملك، لأننا لو قلنا يتملك، لكان تملك مال غيره، لأن هذا المال للورثة لانعقاد سبب الإرث.
(وليس للولد مُطالبة أبيه بدينٍ ونحوه).
أي: لا يملك الولد أن يطالب والده بدين ونحوه.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم).
ولأنه إذا جاز أن يتملك من ماله فإنه لا يجوز للولد أن يطالبه بدَينه.
مثال ذلك: استقرض الأب من ابنه عشرة آلاف ريال، فليس للولد أن يقول: يا أبتِ أعطني الدَّين، وليس له أن يطالبه، ولكن له أن يُعَرِّض ويقول: يا أبت أنا محتاج، وأنت قد أغناك الله.
فائدة: 1
إذا كان سبب الدين النفقة فإنه يجوز أن يطالب والده، لأنها واجبة على الأب.
فائدة: 2
وهل له أن يطالب أمه بدينه؟
الصحيح أنه لا يملك أن يطالب أمه.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك).
وهذا صريح في أنه إذا كان لا يملك مطالبة أبيه فعدم مطالبته أمه من باب أولى، وهل من البر أن يقود أمه عند رُكَبِ القضاة؟! أبداً ليس من البر، هذا مستهجن شرعاً وعادة. (الشرح الممتع).
فائدة: 3
لا تجب التسوية بين الأقارب.
فالأخ لا يجب أن يسوي بين إخوانه.
لأن النص إنما ورد في الأولاد.
ولأن الأصل براءة الذمة وعدم وجوب التسوية.
فصل
في تبرعات المريض
(والمرض غير المخوف تبرع صاحبهِ نافذ في جميع ماله، وتبرعات المريض مرض المخوف، أو كالمخوف، كحالة التحام الحرب، وهيجان البحر، والطاعون، ومن قُدّم ليُقتل، إذا اتصل بهم الموت، حكمه حكم الوصية، فلا تنفذ إلا في الثلث فأقل، إلا بإجازة الورثة).
هذا الفصل خاص بتبرعات المريض مرضاً مخوفاً.
والمرض المخوف: هو كل ما يخشى منه الهلاك عرفاً، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان.
والمرض ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المرض غير المخوف.
هذا حكمه حكم الصحيح، فللإنسان أن يتبرع من كل ماله.
جاء في (الملخص الفقهي)
…
مرض غير مخوف، أي: لا يخاف منه الموت في العادة، كوجع ضرس، وعين، وصداع يسير؛ فهذا
القسم من المرض يكون تصرف المريض فيه لازماً كتصرف الصحيح، وتصح عطيته من جميع ماله، ولو تطور إلى مرض مخوف ومات منه، اعتبارًا بحاله حال العطية، لأنه في حال العطية في حكم الصحيح.
القسم الثاني: المرض مرضاً مخوفاً (يخشى منه الهلاك).
ومن كان في حكمه كالواقف بين الصفين، ومن قدم ليقتل قصاصاً وكراكب البحر حال هيجانه.
فهذا ليس له من ماله تبرعاً إلا الثلث (كأنه مات).
وحكمه: حكم الوصية.
فلا تجوز بزيادة على الثلث ولا لوارث بشيء ولو أقل من الثلث إلا بإجازة الورثة.
لحديث ابن عمر (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً، فأعتق اثنين وأرق أربعة) رواه مسلم.
فائدة: 1
مرض الموت: هو كل مرض يكون الغالب منه الموت.
وهذا قول الجمهور.
وقيل: ما يكثر حصول الموت منه، وإن لم يكن غالباً.
قال الشيخ ابن عثيمين: فالمرض المخوف هو الذي إذا مات به الإنسان لا يعد نادراً، أي: لا يستغرب أن يموت به الإنسان، وقيل: ما يغلب على الظن موته به، وغير المخوف هو الذي لو مات به الإنسان لكان نادراً.
…
(الشرح الممتع)
فائدة: 2
فالعطية في مرض الموت المخوف حكمها حكم الوصية.
هذا قول جمهور العلماء.
في أنها تنفذ في الثلث فما دونه لأجنبي، وتقف على إجازة الورثة فيما زاد عليه، أو لوارث بشيء.
مثال: لو أن شخصاً وهو في مرض الموت تبرع بنصف ماله، نقول: ليس لك أن تتبرع إلا بالثلث إلا أن يجيز الورثة.
فائدة: 3
يستثنى من ذلك عدة أمور:
أي: أن حكم العطية في مرض الموت حكم الوصية، ويستثنى من ذلك أربعة أحكام، تخالف فيها العطية الوصية:
أولاً: كونها لازمة، فلا رجوع فيها.
هذا الفارق الأول، وهو أن العطية بعد قبضها تكون لازمة، فلا يملك المعطي الرجوع، وتنتقل إلى المعطى في الحياة ولو كثرت، بخلاف الوصية فليست لازمة، فله الرجوع فيها متى شاء.
ثانياً: ويُبدأ بالأول عند ضيق ثُلثهِ.
هذا الفارق الثاني، وهو أن العطايا إذا كانت في أزمنة مختلفة وعجَز الثلث عن جميعها بُدئ بالأول فالأول، لأن الأول في العطية راجح على ما بعده، لسبقه له في الاستحقاق، والوصية بخلاف ذلك، فيُسوَى فيها بين الأول والآخر.
مثال: قال: زيد يعطى خمسون ألف وعمرو يعطى خمسون ألف وبكر يعطى خمسون ألف فلما مات الثلث مائة ألف وهذه عطاباً، ماذا نعمل؟
في العطية نبدأ بالأول فالأول، فنعطي زيداً خمسون وعمرواً خمسون وبكراً ليس له شيء انتهى الثلث استغرق الثلث زيد وعمرو، هذا بالنسبة للعطية، وأما بالنسبة للوصية لا تقدم بعضهم على بعض حتى لو سبقت وصية أحدهما على الآخر.
ثالثاً: أن العطية تنفذ من حينها.
هذا الفارق الثالث، وهو أن قبول العطية ينفذ من حين التبرع، وهو حال حياة المعطي، لأنها تصرف في الحال، بخلاف الوصية، فلا حكم لقبولها أو ردها إلا بعد موت الموصِي.
رابعاً: أن العطية يعتبر قبولها وردها عند وجودها قبل موت المعطي.
هذا الفارق الرابع، أن العطية يعتبر قبولها وردها عند وجودها قبل موت المعطي، بخلاف الوصية، فلا يعتبر قبولها ولا ردها إلا بعد موت الموصِي.
فائدة: 4
لو أن شخصاً وهو في مرض الموت تبرع بنصف ماله،
نقول: ليس لك أن تتبرع إلا بالثلث إلا أن يجيز الورثة كما تقدم.
فنقول للورثة: هذا مورثكم أبوكم تبرع بنصف المال، هل تجيزونه أو لا؟
إن أجازوه نفذ وإن لم يجيزوه لا ينفذ إلا ثلث المائتين فقط.
تنبيه: لو مرض مرضاً من الأمراض المخوفة، وقد تبرع بنصف ماله، ثم عافاه الله عز وجل، قال: فهل ينفذ الثلث أم ينفذ جميع ما تبرع به (النصف)؟
قال: أنا تبرعت كنت أظن أنه مرض موت وسوف أموت، لا ينفذ مني إلا الثلث، نقول له: هذا شيء أخرجته لا يجوز أن ترجع فيه.
فائدة: 5
ويعتبر ثلثه عند موته.
فهو كما تقدم لا يملك أن يتبرع إلا بالثلث، والمعتبر عند الموت لا عند التبرع.
مثال: أن هذا الشخص تبرع بمائة ألف، وعنده ثلاثمائة ألف تبرع بالثلث وهو مريض مرض مخوف، وقال: ثلثي أخرجته لله وقف مسجداً وعنده من المال ثلاثمائة ألف يكون ثلثه مائة ألف، قبل أن يموت جاءته مكاسب وأصبحت الشركة ستمائة ألف أصبح الثلث مائتي ألف فنعتبر حين الموت لا نعتبر حين التبرع.
فائدة: 6
الحكمة لا ينفذ إلا الثلث:
لأنه في حال المرض المخوف يغلب موته به، فكانت عطيته من رأس المال تجحف بالوارث، فردت إلى الثلث كالوصية.
كتاب العتق
تعريفه.
الْعِتْقُ فِي اللُّغَةِ: الْخُلُوصُ.
وَمِنْهُ عَتَاقُ الْخَيْلِ وَعِتَاقُ الطَّيْرِ، أَيْ خَالِصَتُهَا، وَسُمِّيَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ عَتِيقًا؛ لِخُلُوصِهِ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ.
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَتَخْلِيصُهَا مِنْ الرِّقِّ.
يُقَالُ: عَتَقَ الْعَبْدُ، وَأَعْتَقْته أَنَا، وَهُوَ عَتِيقٌ، وَمُعْتَقٌ.
- سواء كان التخليص من مالك أو من غيره.
من مالك: كأن يكون عنده رقاب فأعتقها.
أو من غيره: كما لو اشترى رقبة وأعتقها.
- وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ).
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَكُّ رَقَبَةٍ).
وَأَمَّا السُّنَّةُ: الحديث الآتي، فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذَا.
وَأَجْمَعَتْ الْأَمَةُ عَلَى صِحَّةِ الْعِتْقِ، وَحُصُولِ الْقُرْبَةِ بِهِ. (المغني).
(وهو من أفضلِ القُرَبِ).
أي: العتق من أعظم القرب التي يتقرب بها إلى الله، وهو من أفضل العبادات.
قال ابن قدامة: وَالْعِتْقُ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
أ-لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ كَفَّارَةً لِلْقَتْلِ، وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ وَالْأَيْمَانِ.
ب- وَجَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِكَاكًا لِمُعْتِقِهِ مِنْ النَّارِ.
ج- وَلِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيصًا لِلْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ مِنْ ضَرَرِ الرِّقِّ وَمِلْكَ نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَتَكْمِيلَ أَحْكَامِهِ، وَتَمَكُّنَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ، عَلَى حَسْبِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. (المغني).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ) متفق عليه
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ (وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ اِمْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ، كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ).
وَلِأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ (وَأَيُّمَا اِمْرَأَةٍ أَعْتَقَتْ اِمْرَأَةً مُسْلِمَةً، كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ اَلنَّارِ).
[أيما أمرى مسلم] هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري (أيما رجل). [مسلم] يخرج الكافر، [مسلمة] هذا قيد في الرقبة المعتقة، فهذه الفضيلة لا تنال إلا بعتق الرقبة المسلمة. [(أعتق الله) وفي رواية: استنقذ الله منه] أي وقى وأنقذ وخلص. [بكل عضو منه] أي من المعتَق [عضواً منه] أي من المعتِق. [فكاكه] أي: خلاصه.
فالحديث دليل على فضل عتق الرقاب وتخليصها من الرق وأن ذلك من أجل الطاعات وأعظم القربات، لأنه من أسباب العتق من النار.
وعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه) رواه أحمد.
وهذا الفضل - والله أعلم - لكون الرقيق قبل العتق كان في حكم المعدوم، إذ لا تصرف له في نفسه، بل هو يُتصرف فيه.
(وأفضلها أنفسها عند أهلها).
أي: أفضل الرقاب للعتق أنفسها عند أهلها، وأغلاها ثمناً.
لحديث أبي ذر. قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: «الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ» . قَالَ قُلْتُ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَناً» رواه مسلم.
[أي الرقاب أفضل؟] المراد بالرقبة الرقيق، وسمي رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، والمعنى: أي المماليك أحب في العتق إلى الله.
[أعلاها ثمناً] أي: أكثرها ثمناً.
[وأنفسها عند أهلها] أي: أكرمها عند أهلها وأغلاها عندهم.
فالحديث دليل على أن أفضل الرقاب التي يراد إعتاقها ما كان أكثرها قيمة وأكثرها نفاسة عند أهلها لحسن أخلاقها وكثرة منافعها،
والنفس إذا جادت بالنفيس دل هذا على قوة إيمانها لقوله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم في الرقاب (أفضلها أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً) فالمراد به والله أعلم إذا أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما اذا كان معه ألف درهم وأمكن أن يشترى بها رقبتين مفضولتين أو رقبة نفيسة مثمنة فالرقبتان أفضل وهذا بخلاف الأضحية فان التضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن.
(يستحب عتق من له كسب، ويكره إن كان لا قوة له).
الأصل في العتق الاستحباب، لكن يكون مستحباً ويكون مكروهاً.
يكون مستحباً: إذا كان المعتَق قادر على التكسب المباح.
ويكون مكروهاً: إذا كان لا قدرة له على التكسب، كأن يكون كبيراً، أو مرضاً، أو ضعيفاً.
لأنه سيكون عالة على غيره.
ويكون حراماً: إن علم منه أنه سيقع في الزنا، أو في الحرام، أو التكسب عن طريق الحرام.
قال ابن قدامة: وَالْمُسْتَحَبُّ عِتْقُ مَنْ لَهُ دِينٌ وَكَسْبٌ يَنْتَفِعُ بِالْعِتْقِ.
فَأُمًّا مَنْ يَتَضَرَّرُ بِالْعِتْقِ، كَمَنْ لَا كَسْبَ لَهُ، تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ، فَيَضِيعُ، أَوْ يَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ عِتْقُهُ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالرُّجُوعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ، كَعَبْدٍ يُخَافُ أَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ وَاحْتَاجَ سَرَقَ، وَفَسَقَ، وَقَطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ جَارِيَةٍ يُخَافُ مِنْهَا الزِّنَى وَالْفَسَادُ، كُرِهَ إعْتَاقُهُ.
وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إفْضَاؤُهُ إلَى هَذَا، كَانَ مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ التَّوَسُّلَ إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ. (المغني).
(ويحصل العتق: بالقول: وهو لفظ العتق وما في معناه).
أي: ويحصل العتق بالصيغة القولية، وهي نوعان: صريح وكناية.
أ- الصريح: ما لا يحتمل إلا العتق، مثل: أعتقتك، حررتك، أنت عتيق، أنت حر.
لِأَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَرَدَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْعِتْقِ عُرْفًا، فَكَانَا صَرِيحَيْنِ فِيهِ، فَمَتَى أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، حَصَلَ بِهِ الْعِتْقُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، عَتَقَ أَيْضًا. (المغني).
ب- الكناية: كل لفظ يحتمل المعنى وغيره. أي: يحتمل العتق ويحتمل غيره، فلا يقع العتق به إلا بالنية.
قال ابن قدامة: وَأَمَّا الْكِنَايَةُ، فَنَحْوُ قَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك، وَلَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك، وَأَنْتَ سَائِبَةٌ، وَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْت، وَقَدْ خَلَّيْتُك.
فَهَذَا إنْ نَوَى بِهِ الْعِتْقَ، عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ بِهِ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ.
وَلَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا عُرْفُ اسْتِعْمَالٍ. (المغني).
إذاً: الفرق بينهما: أن الصريح لا يحتاج إلى نية، والكناية يحتاج إلى نية.
قال ابن قدامة: وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ، فَلَا يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، كَسَائِرِ الْإِزَالَةِ.
(وبالملك، فمن ملك ذا رَحِم محرَّمٍ من النسب عتق عليه).
أي: ويحصل العتق بملك ذا رحم.
لحديث سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرّ) رواه أبو داود.
[من ملك] عام يدخل فيه من ملك ذا رحم بالشراء أو بالهبة أو بالغنيمة أو أي نوع من أنواع الملك.
[ذا رحِم] الرحم اسم لكل من بينك وبينه قرابة نسب توجب تحريم النكاح، ولهذا قال العلماء: ذو الرحم: هو القريب الذي يحرم نكاحه لو كان أحدهما رجلاً والآخر أنثى .. كالأخ والعم والخال وابن الأخ.
[فهو حر] أي يعتق على مالكه بسبب ملكه له.
فالحديث دليل على أن ملك من بينه وبينه رحِم محرمة للنكاح فإنه يعتق عليه بمجرد ملكهِ له فيكون حراً، فإذا ملك أباه أو أمه أو أخته أو خالته، ملكها بشراء أو بهبة أو بغنيمة فإنه بمجرد دخوله في ملكه فإنه يعتق عليه، فيدخل في الحديث الآباء وإن علوا، والأبناء وإن نزلوا، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأخوال والخالات، والأعمام والعمات لا أولادهم، لأنهم ليسوا من ذي الرحِم المحرّم.
قال ابن قدامة: ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ: الْقَرِيبُ الَّذِي يَحْرُمُ نِكَاحُهُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً.
وَهُمْ الْوَالِدَانِ وَإِنْ عَلَوْا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا، وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ مِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ وَأَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ دُونَ أَوْلَادِهِمْ.
فَمَتَى مَلَكَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَتَقَ عَلَيْهِ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَشَرِيكٌ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ. (المغني).
- وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَحَارِمَ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا يُعْتِقُونَ عَلَى سَيِّدِهِمْ، كَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَالرَّبِيبَةِ، وَأُمِّ الزَّوْجَةِ، وَابْنَتِهَا إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَشَرِيكٍ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَخِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَالْأُوَلُ أَصَحُّ. (المغني)
(وبالتمثيل بعبده بقطع عضو من أعضائه أو تحريقه).
أي: ويحصل بالتمثيل بعبده، كإنسان عنده عبد فحل، وخاف على أهله منه فخصاه، أي: قطع خصيتيه، فإنه يعتق عليه، وكذلك لو غضب على عبده فقطع شحمة أذنه فإنه يعتق.
(وبالسراية).
وهو نوعان:
الأول: أن يعتق جزءاً من عبده، مشاعاً أو معيناً، عتق كله.
فلو أن إنساناً عنده عبد فقال: عشرك حر، يعتق كله، أو: إصبعك حر، يسري العتق إليه كله، فلا يتبعض العتق.
الثاني: أن يعتق نصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره، فيسري العتق إلى نصيب الشركاء.
لحديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ اَلْعَبْدِ، قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ اَلْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وَلَهُمَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْه).
اختلف في رواية (وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْه) هل هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو مدرجة من كلام أبي هريرة؟
وقد رجح البخاري ومسلم بأنها غير مدرجة حيث أدخلا الحديث في كتابيهما، وكذا ابن دقيق العيد وابن عبد الهادي.
[من أعتق شركاً له] الشِرْك: الحصة والنصيب. [في عبد] اسم للمملوك الذكر. [فكان له مال] الضمير يعود على من أعتق نصيبه. [يبلغ ثمن العبد] أي: قيمة بقية العبد، والمراد: مالاً يعتق منه، والمعنى: إذا كان شخص مشترك بين أربعة، فأعتق واحد منهم نصيبه وهو الربع [وكان العبد قيمته: 4000 مثلاً] وبقي ثلاثة أرباع، ولكن هذا المعتِق كان غنياً يملك 3 آلاف وأكثر، فإن الشرع يلزمه بعتق الباقي، ويدفع [3000 ريال] لأصحاب الحصص. [قوِّم عليه قيمة عدل] أي: قدر هذا العبد تقديراً عادلاً لا زيادة فيه ولا نقصان، فيقدر العبد كاملاً لا عتق فيه، وتعرف قيمة حصص الذين لم يعتقوا نصيبهم. [وأعطى شركاءه] أي: المعتِق أعطى الشركاء نصيبهم ويعتق عليه العبد كاملاً. وهذا خبر بمعنى الأمر. [وعتَقَ عليه العبد] أي: صار جميع العبد حراً. [وإلا فقد عتق منه ما عتق] أي: وإن لم يكن للمعتِق نصيبه مالٌ يكفي بعتق باقي العبد، فإنه يعتق من العبد ما عتق، ويبقى الباقي على ما هو ويكون العبد مبعضاً. [واستسعي عليه] أي: ألزم العبد بالاكتساب وتحصيل ما يفك باقيه من الرق، وقيل معنى استسعي: أي أن يخدم سيده الذي لم يعتقه بقدر ماله من الرق. [غير مشقوق عليه] أي: لا يكلف المملوك ما يشق عليه في الكسب والتحصيل وهذا على المعنى الأول، أو لا يكلف ما لا يستطيع من الخدمة على المعنى الثاني.
الحديث دليل على جواز عتق العبد المشترك من بعض الشركاء، وأن من أعتق نصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره، لزمه عتق باقيه وخلاصه كله من ماله إذا كان غنياً قادراً على دفع قيمة أنصباء الشركاء الذين لم يعتقوا نصيبهم، لان تبعيض العتق مع القدرة يضر بالعبد ولا تتم به المصلحة.
وأما إذا كان الذي أعتق نصيبه فقيراً غير قادر على دفع أنصباء شركائه.
فقد اختلف العلماء فيما إذا أعتق الشريك نصيبه من عبد بينه وبين غيره وعجز عن عتق باقيه على قولين:
القول الأول: أنه ينفذ العتق في نصيب المعتِق ولا يطالب المعتَق بالاستسعاء.
وهذا قول مالك والشافعي وهو قول أبي عبيد.
لرواية (فقد عَتَقَ منه ما عتق).
وأما لفظ (واستسعي) فهي من كلام الراوي وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: أن الشريك إذا أعتق نصيبه استسعي العبد وطلب منه أن يعمل لتحصيل نصيب بقية الشركاء.
وهذا مذهب أبي حنيفة، واختار هذا القول ابن تيمية وابن القيم، وهؤلاء أثبتوا لفظ (واستسعي
…
).
وهذا القول هو الراجح.
(وإذا قال لعبدهِ أنت حرٌ في وقتٍ سماه عتَقَ إذا جاء الوقت).
كقوله أنت حر إذا جاء شهر رمضان، فإنه يعتق إذا جاء رمضان.
(أو علّقَ عِتقَه على شرطٍ عتق إذا وجِدَ الشرط).
كقوله إذا قدم زيد فأنت حر، فإنه لا يعتق حتى يقدم زيد.
(ولمْ يعتقْ قبلَه).
أي: فلا يعتق حتى يجيء الشرط، لأن المعلق على شرط ينعدم عند عدمه، ويعتق عند وجوده، لوجود السبب.
لكن بشرط: أن يكون في ملكه عند حصول الشرط، فإن خرج من ملكه لم يعتق لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا عتق فيما لا يملك).
كما لو مات السيد قبل رمضان، أو قبل قدوم زيد.
(ولا يَملكُ إبطالَهُ بالقوْل).
أي: لا يبطل التعليق بقوله: أبطلت ما علقت عليه العتق، لأنها صفة لازمة ألزمها نفسه.
(وإن علق عتقه بموته فهو المدبّر، يعتق بموته إذا خرج من الثلث).
التدبير: مأخوذ من دبر الحياة، أي: ما بعدها.
وهو تعليق العتق بالموت.
أن يقول لرقيقه: أنت حر بعد موتي، فهذا هو المدبَّر، فعتقه معلق بالموت، فلا يعتق إلا إذا مات مدبِّرُه.
وسمي تعليق العتق بالموت تدبيراً، لأمرين:
أولاً: لأن الرقيق يعتق بعدما يُدْبِر سيده، أي يموت.
ثانياً: أو لأن فاعله دبّر أمر دنياه (لأنه استفاد من هذا العبد في حال الحياة بالخدمة) ودبر أمر آخرته (لأنه لما جعل عتقه بعد موته حصل له ثواب العتق).
ويدل له:
عَنْ جَابِر (أَنَّ رَجُلًا مِنْ اَلْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي? " فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ} مُتَّفَقٌ عَلَيْه. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَاحْتَاجَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ (وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ وَقَالَ (اِقْضِ دَيْنَكَ).
[غلاماً له] أي عبداً رقيقاً له. [عن دبر] أعتقه بعد موته.
الحديث دليل على مشروعية التدبير وهو عتق العبد بالموت وعلى صحته.
فائدة: 1
اختلف العلماء في التدبير هل يكون من الثلث أو من رأس المال؟ الجمهور قالوا: يحسب عتقه من الثلث قياساً على الوصية، بجامع النفوذ بعد الموت.
فائدة: 2
الحديث دليل على جواز بيع العبد المدبر قبل موت سيده، لكن ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم باع هذا العبد لما علم حاجة صاحبه.
والقول: أن العبد المدبر لا يباع إلا من حاجة هو قول الحسن وجماعة.
وقيل: يجوز بيعه مطلقاً سواء كان لحاجة أو لغير حاجة وهذا قول الشافعي.
لأنه شبيه بالوصية، ومن المعلوم أن الموصي يجوز له الرجوع بالوصية في حياته.
وقيل: لا يجوز بيع المدبر، وهذا قول ابن عمر وسعيد بن المسيب وهو قول أبي حنيفة ومالك.
لعموم (أوفوا بالعقود) وهذا عقد بينه وبين رقيقه في أنه يعتق بعد موته.
وقالوا: لأن المدبر استحق العتق بموت سيده فصار شبيهاً بأم الولد. والراجح القول بالجواز.
فائدة: 3
الحديث دليل على أنه ينبغي لمن ليس عنده سعة في الرزق وأموره ضيقة أن يهتم بنفسه أولاً وبمن يعول.
باب الكتابة
(وهي: أن يشتري الرقيق نفسه من سيده بثمن مؤجل).
هذا تعريف الكتابة: أن يشتري الرقيق نفسه
…
الخ.
قال ابن قدامة: الْكِتَابَةُ: إعْتَاقُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدَّى مُؤَجَّلًا، سُمِّيَتْ كِتَابَةً؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَكْتُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كِتَابًا بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ كِتَابَةً مِنْ الْكَتْبِ، وَهُوَ الضَّمُّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَضُمُّ بَعْضَ النُّجُومِ إلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْخَرَزُ كِتَابًا؛ لِأَنَّهُ يَضُمُّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ إلَى الْآخَرِ بِخَرْزِهِ. (المغني).
فالكتابة: هو شراء العبد نفسه من سيده بأن يقع بين الرقيق وسيده عقد اتفاق على أن الرقيق يدفع لسيده مبلغاً من المال وتكون هذه المال نجوماً موزعة على مدد معينة. فإذا أداها العبد لسيده عتق العبد وصار حراً.
- قوله (بثمن مؤجل) أي: لا بد أن يكون المال مؤجلاً فلا تصح بمال حال.
لأن العبد ليس عنده مال ولو ملَّكه أحد مالاً فماله لسيده.
ولو قال قائل: العبد ليس عنده مال، ولكن لو فرض أن أحداً من الناس قال له: اشترِ نفسك من سيدك، وأنا أعطيك المال نقداً، ولهذا إن أراد المؤلف أنه لا بد من التأجيل فهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد تكون القضية كقضية بريرة مع عائشة رضي الله عنهما فإن بريرة كاتبت أهلها على تسع أواقٍ، ثم جاءت تستعين عائشة رضي الله عنها، فقالت: إن أراد أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت.
فهذا دليل على أن الكتابة يجوز أن تكون بحالٍ إذا كان من غير العبد، أما من العبد فهذا متعذر؛ لأنه لا يملك. (الشرح الممتع)
- والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
ومن السنة:
حديث عَائِشَة. أَنَّهَا قَالَتْ (جَاءَتْ بَرِيرَةُ إِلَىَّ فَقَالَتْ يَا عَائِشَةُ إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ
…
) متفق عليه.
وحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ) رواه أبو داود.
وحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِى يُرِيدُ الأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِى يُرِيدُ الْعَفَاف) رواه الترمذي.
وأجمع العلماء على مشروعية الكتابة.
فائدة:
قال ابن قدامة: وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِأَدَاءِ عِوَضِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ أَقْوَى جِهَاتِ الِاكْتِسَابِ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ، أَنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ.
وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيُعْطِيَ، فِيمَا فِيهِ الصَّلَاحُ لِمَالِهِ، وَالتَّوْفِيرُ عَلَيْهِ.
وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِمَّا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ؛ فِي مَأْكَلِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَكُسْوَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ مِمَّا لَا غَنَاءَ لَهُ عَنْهُ، وَعَلَى رَقِيقِهِ، وَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ.
وَلَهُ تَأْدِيبُ عَبِيدِهِ، وَتَعْزِيرُهُمْ، إذَا فَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ، فَمَلَكَهُ، كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ. (المغني)
(وتسن مع أمانة العبد وكسبه).
أي: تسن الكتابة إذا طلب العبد ذلك من سيده.
لقوله تعالى (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
لكن الله اشترط أن يعلم أسيادهم فيهم خيراً، وهو:
أ- الصلاح في الدين.
ب- والقدرة على الاكتساب.
لأنه لو كان غير صالح في دينه ازداد بعد عتقه فساداً، ويخشى أن يميل بعاطفته إلى الكفر، ولو كان غير قادر على الاكتساب كمريض صار كَلاًّ على الناس.
وهذا مذهب جماهير العلماء: أن الأمر للاستحباب.
قال ابن قدامة: إذَا سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ مُكَاتَبَتَهُ، اُسْتُحِبَّ لَهُ إجَابَتُهُ، إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا، وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ.
فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْم. (المغني)
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجب إجابته، إن علمنا فيه خيراً. (صلاح في الدين - وقدرة على الكسب).
لظاهر الآية (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
وهذا أمر، والأمر للوجوب.
والراجح مذهب الجمهور.
لأن العبد مال للسيد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد.
(وتكرهُ معَ عدمهِ).
أي: وتكره الكتابة مع عدم الخير.
فإذا كان يخشى منه الشر والفساد، أو إذا لم يكن ذا كسب، لأنه إذا أعتق وليس ذا كسب صار كَلاًّ على نفسه وعلى غيره.
(ويجوزُ بيعُ المكاتَب، ومُشْتريهِ يقومُ مَقامَ مُكاتِبِه).
أي: ويجوز بيع المكاتب.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (جاءَتني بريرة فقالت: كاتَبْتُ أَهلي عَلى تسعِ أوَاقٍ، في كلِّ عَامٍ أُوقيةٌ، فأعينيني. فقلت: إن أحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أعُدَّها لَهُم، ويَكُونَ وَلَاؤُكِ لي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أهْلِهَا، فقالت لَهُمْ، فأبَوْا عَلَيْهَا. فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِم، ورَسولُ الله صلى الله عليه وسلم
جَالِسٌ، فقالت: إنِّي عَرَضْتُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ، فأبَوْ إلاَّ أنْ يكُونَ لَهُم الْوَلاءُ، فأخْبَرَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالَ:(خُذِيَها، وَاشْتَرطِي لهُم الوَلَاءَ، فإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ) فَفَعَلَتْ عائشة، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم في النَّاسِ، فحمدَ الله وأثنى عليه، ثم قال:(أما بعد: ما بالُ رجالٍ يشترطونَ شرُوطاً لَيْسَتْ في كتابِ اللهِ ما كانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ في كتاب اللهِ فَهُوَ باطلٌ وَإنْ كانَ مَائَةَ شَرْط، فقضاءُ الله أحق، وَشَرْطُهُ أوْثَقُ، فإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه.
قال ابن الملقن: اختلف العلماء في جواز بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب:
أحدها: جوازه.
وهو قول عطاء والنخعي وأحمد ومالك في رواية الشافعي في أحد قوليه.
استدلالاً بهذا الحديث.
وعليه بوب البخاري بيع المكاتبة إذا رضي المكاتب.
فإن بريرة كانت مكاتبة وباعتها الموالي واشترتها عائشة وأمر صلى الله عليه وسلم ببيعها وعليه بوب البخاري بيع المكاتب إذا رضي المكاتب. (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)
(ومُشْتريهِ يقومُ مَقامَ مُكاتِبِه).
أي: ويقوم مشتري المكاتب مقام سيده.
(فإنْ أدّى له عَتَقَ).
أي: فإن أدى المكاتب للمشتري ما بقي من مال الكتابة عتق.
(وولاؤه له).
أي: للمشتري.
لأن العتق حصل تحت ملكه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (إنما الولاء لمن أعتق).
قال ابن قدامة: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ وَلَاءَ الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ، إذَا أَدَّى إلَيْهِ.
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إنْعَامٌ وَإِعْتَاقٌ لَهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ كَانَ لِسَيِّدِهِ بِحُكْمِ مِلْكِهِ إيَّاهُ، فَرَضِيَ بِهِ عِوَضًا عَنْهُ، وَأَعْتَقَ رَقَبَتَهُ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَتِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَكَانَ مُعْتِقًا لَهُ، مُنْعِمًا عَلَيْهِ، فَاسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم-
(الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ).
وَفِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنْ شَاءَ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عِدَّةً وَاحِدَةً، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي، فَعَلْتُ.
فَرَجَعَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُمْ، فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ عَلَى الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ كَانَ مُتَقَرِّرًا عِنْدَهُمْ. (المغني)
(وإن عجز).
أي: عجز المكاتب عن أداء جميع مال الكتابة.
(عادَ قِناً).
أي: رجع عبداً.
(ولا يعتق المكاتَب إلا بالأداء).
أي: أن العبد الذي كاتب سيده لا يعتق ما دام بقي شيء من مال كتابته.
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: قال صلى الله عليه وسلم (المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم) رواه أبو داود.
فهذا الحديث يدل على أن المكاتب لا يعتق ويكون له حكم الأحرار حتى يؤدي ما عليه من مال الكتابة، فإن بقي عليه شيء ولو قليلاً فهو عبد، تجري عليه أحكام الرقيق، وهذا مذهب جمهور العلماء.
قال النووي: أَنَّ الْمُكَاتَب لَا يَصِير حُرًّا بِنَفْسِ الْكِتَابَة بَلْ هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَم كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث الْمَشْهُور فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء.
(ومتى أدى المكاتب ما عليه لسيده، أو أبرأه منه عتَق).
أي: أن المكاتب يعتق بأمرين:
الأول: أن يؤدي المال المنفق عليه في الكتابة، وقد تقدم هذا.
الثاني: إذا أبرأ السيد الرقيق من باقي ما عليه أصبح حراً.
فلو بقي عليه من دين الكتابة ألف، فقال: تنازلت عنها.
فائدة: 1
الكتابة عقد لازم،
فليس للآخر فسخ الكتابة إلا بإذن صاحبه.
فائدة: 2
ولا تنفسخ بموت السيد وجنونه،
لأنها عقد لازم أشبه البيع، فإذا مات السيد أدى المكاتب ما عليه لورثة السيد.
قال ابن قدامة:
…
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جِهَتِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى فَسْخِهِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِهِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يُؤَدِّي نُجُومَهُ، وَمَا بَقِيَ مِنْهَا، إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لِمَوْرُوثِهِمْ، وَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، كَسَائِرِ دُيُونِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. (المغني)
فائدة: 3
إذا حلّ نجم فلم يؤده فلسيده الفسخ،
لأن السيد رضي بالكتابة على أن يسلم له مال الكتابة على الوجه الذي كاتبه عليه، فإذا لم يف فله الحق في فسخ العتق.
فائدة: 4
قال ابن قدامة: وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً،
فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ، وَيَمُوتُ عَبْدًا، وَمَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ.
فائدة: 5
ليس للمكاتب أن يتزوج من غير إذن سيده.
قال ابن قدامة: هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ، فَهُوَ عَاهِرٌ).
وَلِأَنَّ عَلَى السَّيِّدِ فِيهِ ضَرَرًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ نَاقِصَ الْقِيمَةِ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ مِنْ كَسْبِهِ، فَيَعْجِزُ عَنْ تَأْدِيَةِ نُجُومِهِ، فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَالتَّبَرُّعِ بِهِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ.
…
(المغني)
أحكام أمهات الأولاد
أم الولد: هي التي ولدت لسيدها في ملكه (أن يطأ سيد أمته فتضع ما يتبين فيه خلق إنسان سواء وضعته حياً أو ميتاً) فإنها تعتق بموته من رأس ماله.
(إذا أوْلد حر أمتَه بما يتبين فيه خلق إنسان فإنها تعتق بموته).
أي: إذا وطأ السيد أمته، فولدت له، فإنها تسمى أم ولد، وتعتق بموت سيدها.
وقد جاء عن ابن عباس مرفوعاً وعن عمر موقوفاً (أيما أمَة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته) أخرجه ابن ماجه، والراجح الموقوف على عمر رضي الله عنه.
فهذا الحديث دليل على أن السيد إذا وطئ أمته صارت أم ولد، بشرط أن تضع ما يتبين فيه خلق إنسان سواء ولدته حياً أو ميتاً، وتكون حرة بعد موت سيدها وتعتق عتقاً قهرياً من رأس المال.
قال الشيخ ابن عثيمين: يعني إذا ولدت ولو ميتاً أو حياً فإنه لا بد أن يتبين فيه خلق إنسان، يتبين فيه اليدان والرجلان والرأس، وهذا إنما يكون بعد بلوغ الحمل ثمانين يوماً، أما قبل ذلك فلا يمكن أن يُخَلَّق؛ لأن الجنين في بطن أمه يكون في الأربعين الأولى نطفة، وفي الثانية علقة، ثم في الثالثة يكون مضغة مخلقة وغير مخلقة، إذاً لا يمكن أن يبدأ التخطيط إلا بعد الثمانين، فبعد الثمانين يمكن أن يخلق، وفي التسعين الغالب أنه مخلَّقٌ.
كتاب النكاح
مقدمة - شروط النكاح - المحرمات في النكاح - الشروط في النكاح
العيوب في النكاح - نكاح الكفار - الصداق - الوليمة - آداب الأكل
عشرة النساء - القسم - النشوز - الخلع
كتاب النكاح
النكاح في اللغة: الضم والجمع والتداخل، ومنه: تناكحت الأشجار: إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض.
ويقال (نكح المطر الأرض: اعتمد عليها) ونكحت القمح في الأرض: إذا حرثتها، وبذرته فيها، ونكحت الحصاة أخفاف الإبل.
و في المصباح (نكحه الدواء إذا خامره وغلبه) وسواء كان التداخل حسياً كما سبق أو معنوياً، ففي القاموس (نكح النعاس عينه غلبها والنكح بالفتح: البضع، والمناكح: النساء).
وأما اصطلاحاً: فأدق ما قيل فيه: إنه عقد وضعه الشارع ليفيد حل استمتاع كل من الزوج والزوجة بالآخر على الوجه المشروع.
(وهوَ سُنَّةٌ).
أي: أن الأصل في النكاح أنه سنة.
وقد جاءت النصوص الكثيرة في الحث عليه والترغيب فيه.
فهو من سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً).
وقال تعالى (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء).
قوله في عباد الرحمن (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
وقوله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
وقوله تعالى (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ لَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا مَعْشَرَ اَلشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ اَلْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ; فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعَنْ أَنَسٍ (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّى وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّى) متفق عليه.
وَعن أنس. قال (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: تَزَوَّجُوا اَلْوَدُودَ اَلْوَلُودَ. إِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ اَلْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
وعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا، قَالَ: لَا ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ هَلْ تَزَوَّجْتَ قُلْتُ: لَا قَالَ فَتَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة) رواه أحمد.
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ (أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْىٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْر) رواه مسلم.
فائدة: 1
قوله في حديث ابن مسعود (
…
مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ اَلْبَاءَةَ) اختلف العلماء في المراد بها على قولين:
القول الأول: القدرة على الوطء.
القول الثاني: القدرة على مؤن النكاح، وهو الصحيح لأمور ثلاثة:
أولاً: أن الخطاب إنما جاء للقادر على الجماع وهم الشباب أصلاً.
ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث (ومن لم يستطع فعليه بالصوم) لو فسرنا الباءة بالجماع يصير المعنى: ومن لم يستطع الجماع فعليه بالصوم ولا ريب أن الذي لا يستطيع الجماع لا معنى لكونه يؤمر بالصوم.
ثالثاً: جاء في رواية عند النسائي (من كان ذا طول فليتزوج).
قال شيخ الإسلام: وَاسْتِطَاعَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَئُونَةِ لَيْسَ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَطْءِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِلْقَادِرِ عَلَى فِعْلِ الْوَطْءِ، وَلِهَذَا أُمِرَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصُومَ فَإِنَّهُ وِجَاءٌ.
وذهب بعض العلماء إلى الجمع بين القولين:
قال النووي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالْبَاءَةِ هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى وَاحِد أَصَحّهمَا: أَنَّ الْمُرَاد مَعْنَاهَا اللُّغَوِيّ وَهُوَ الْجِمَاع، فَتَقْدِيره: مَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْجِمَاع لِقُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَنه وَهِيَ مُؤَن النِّكَاح فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْجِمَاع لِعَجْزِهِ عَنْ مُؤَنه فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ
لِيَدْفَع شَهْوَته، وَيَقْطَع شَرّ مَنِيّه، كَمَا يَقْطَعهُ الْوِجَاء. ا. هـ.
وقال ابن القيم: وقوله (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) فسرت الباءة بالوطء، وفسرت بمؤن النكاح، ولا ينافي التفسير الأول إذ المعنى على هذا مؤن الباءة.
فائدة: 2
قوله (فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً) قال الحافظ ابن حجر: قيل المعنى: خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل، والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير النبي صلى الله عليه وسلم، وبالأمة أخصاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح، إذ لو كان راجحاً ما آثر النبي صلى الله عليه وسلم غيره.
فائدة: 3
بعض حكم النكاح:
الحكمة الأولى: طلب النسل، لأنه ليس المقصود من الزواج التلذذ قضاء الوطر وإنما من مقاصده العظيمة طلب النسل.
الحكمة الثانية: الاستمتاع، استمتاع كل واحد من الزوجين بالآخر.
الحكمة الثالثة: تحصيل النسل لتكثير الأمة ولا ريب أن تكثير الأمة هو مصدر قوتها وعزتها وهيبتها بين الأمم فهذا مقصد عظيم من مقاصد الزواج وهو تكثير الأمة.
الحكمة الرابعة: حفظ المرأة والإنفاق عليها لأن الزواج يهيئ للمرأة حياة سعيدة كريمة في ظل الزوج.
الحكمة الخامسة: تحصين كل من الزوجين الآخر كما قال صلى الله عليه وسلم: فإنه أغض للبصر وأحصن لفرج، فما حفظ الفرج وغض البصر بمثل الزواج.
فائدة: 4
استدل بعض العلماء بحديث ابن مسعود (يا معشر الشباب من استطاع
…
) على تحريم الاستمناء.
وهذه العادة قديمة معروفة في الجاهلية قبل الإسلام، فقد كانوا يجلدون عُمَيْرَة إذا خلوا بواد لا أنيس به.
كما قال الشاعر:
إذا ما خلوتَ بوادٍ لا أنيسَ به
…
فاجْلدْ عُمَيْرةَ لا عيبٌ ولا حرجُ
وعميرة كناية عن الذكر.
ومعنى الاستمناء: هو استدعاء خروج المني بغير جماع، سواء كان باليد أو بغيرها.
وقد اختلف العلماء في حكمه:
القول الأول: أنه حرام.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ-لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُون).
فأوجب الله على المسلم أن يحفظ فرجه إلا من زوجته أو ما ملكت يمينه، فإذا تجاوز زوجته وملك يمينه إلى غيرهما فإنه من العادين.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد استدل الإمام الشافعي ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية
ب-ولحديث ابن مسعود (من استطاع منكم الباءة
…
فعليه بالصوم) فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالصيام، ولو كان الاستمناء جائزاً لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ج-ومن الأدلة: أن الله سبحانه وتعالى أباح للصحابة المتعة في أول الأمر، ثم نسخت بعد، وسبب إباحتها ما لقوه من شدة العزوبة في أسفارهم، وقد جعلها الله حلاً مؤقتاً لدفع حاجتهم، ولو كان الاستمناء مباحاً لبينه لهم، وهو أيسر وأقل مؤونة وأثراً.
وسئل ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الاستمناء هل هو حرام أم لا؟
فأجاب: أما الاستمناء باليد فهو حرام عند جمهور العلماء وهو أصح القولين في مذهب أحمد، وكذلك يعزر مَن فعله وفي القول الآخر هو مكروه غير محرم، وأكثرهم لا يبيحونه لخوف العنت ولا غيره، ونقل عن طائفة من الصحابة والتابعين أنهم رخَّصوا فيه للضرورة مثل أن يخشى الزنا فلا يعصم منه إلا به، ومثل أنْ يخاف إن لم يفعله أن يمرض وهذا قول أحمد وغيره وأما بدون الضرورة فما علمتُ أحداً رخَّص فيه.
وقال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ آيَةَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ هَذِهِ الَّتِي هِيَ (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) تَدُلُّ بِعُمُومِهَا عَلَى مَنْعِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ.
لِأَنَّ مَنْ تَلَذَّذَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْزَلَ مَنِيَّهُ بِذَلِكَ، قَدِ ابْتَغَى وَرَاءَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ مِنَ الْعَادِينَ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى مَنْعِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ حَرْمَلَةَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الرَّجُلِ يَجْلِدُ عَمِيرَةَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَى قَوْلِهِ الْعَادُونَ).
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ اسْتِدْلَالَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَلَى مَنْعِ جَلْدِ عَمِيرَةَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يُعَارِضُهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. (أضواء البيان).
وقال الشيخ الألباني: وأما نحن فنرى أن الحق مع الذين حرموه مستدلين بقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُون) ولا نقول بجوازه لمن خاف الوقوع في الزنا، إلا إذا استعمل الطب النبوي وهو قوله صلى الله عليه وسلم للشباب في الحديث المعروف الآمر لهم بالزواج (فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ولذلك فإننا ننكر أشد الإنكار على الذين يفتون الشباب بجوازه خشية الزنى، دون أن يأمروهم بهذا الطب النبوي الكريم.
القول الثاني: أنه مباح.
وهو قول لبعض أهل الظاهر.
لعدم الدليل المانع، حيث لم يثبت دليل على المنع.
وهو قول ابن حزم.
والراجح القول الأول.
o
لكن يباح الاستمناء في حالتين:
الحالة الأولى: خوف الوقوع بالزنا.
الحالة الثانية: التضرر بحبس هذا الماء.
فائدة: 5
حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصيام لمن لا يستطيع على مؤن النكاح لأمرين:
أولاً: لأن الصيام يورث التقوى. كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون).
ثانياً: لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل، تقوى بقوته وتضعف بضعفه.
فائدة: 6
استدل العلماء بهذا الحديث بأنه لا ينبغي أن يستقرض من أجل الزواج.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يستطع فعليه بالصوم، ولم يقل: فليستقرض.
ويدل لذلك قوله تعالى (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) فأمره الله بالتعفف حتى يغنيه الله، ولم يأمر بالاستدانة. [المراد بالتعفف: حفظ الفرج وغض البصر].
فائدة: 7
هل يجوز استعمال دواء لدفع الشهوة؟
المسألة تنقسم إلى حالتين:
الحالة الأولى: أن يستعمل دواء لقطعها، فهذا حرام.
لأنه قد يقدر بعدُ فيندم.
الحالة الثانية: أن يستعمل دواء لتخفيفها.
فقيل: لا يجوز.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الصيام لمن عجز عن مؤن النكاح، فهو العلاج النبوي، فلا يجوز غيره.
وقيل: يجوز. وهذا هو الصحيح.
(وفعلهُ مع الشهوةِ أفضلُ من نوافلِ العبادة).
أي: أن النكاح أفضل من الاشتغال بنفل العبادة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ-لأن النكاح من سنن المرسلين.
ب-والأحاديث في الحث عليه، والأمر به، والرغبة في الولد، أكثر من أن تحصر.
ج-ولأن أثر النكاح يصل إلى المرأة، وإلى المجتمع، فضلاً عن الزوج نفسه.
وذهب بعض العلماء: إلى أن التخلي لنوافل العبادة أفضل.
وهذا مذهب الشافعي.
أ-لأن الله مدح يحيي بقوله (وسيداً وحصوراً) والحصور الذي لا يأتي النساء، فلو كان النكاح أفضل لما مدح بتركه.
ب-ولأن الله سبحانه ذكر النساء من جملة المزّينات فقال (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِين).
والراجح الأول.
قال الشنقيطي: وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ (وَحَصُورًا) أَنَّهُ الَّذِي حَصَرَ نَفْسَهُ عَنِ النِّسَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِتْيَانِهِنَّ تَبَتُّلًا مِنْهُ، وَانْقِطَاعًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، وَأَمَّا سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ التَّزْوِيجُ وَعَدَمُ التَّبَتُّلِ.
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَصُورَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَأَنَّهُ مَحْصُورٌ عَنِ النِّسَاءِ; لِأَنَّهُ عِنِّينٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِهِنَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
لِأَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ فِي الرِّجَالِ، وَلَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ حَتَّى يُثْنَى عَلَيْهِ بِهَا، فَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاء. (أضواء البيان).
(ويجب على من يخاف زناً بتركهِ).
أي: يجب النكاح إذا خاف على نفسه الوقوع في الزنا، لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزوج، لا يُختلف في وجوب التزويج عليه.
وقال ابن قدامة: وَالنَّاسُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ إنْ تَرَكَ النِّكَاحَ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إعْفَافُ نَفْسِهِ، وَصَوْنُهَا عَنْ الْحَرَامِ، وَطَرِيقُهُ النِّكَاحُ. (المغني).
وقال المرداوي رحمه الله في كتابه الإنصاف: الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ خَافَ الْعَنَتَ. فَالنِّكَاحُ فِي حَقِّ هَذَا: وَاجِبٌ. قَوْلا وَاحِدًا .. " الْعَنَتُ " هُنَا: هُوَ الزِّنَا. عَلَى الصَّحِيحِ.
• ولهذا قال بعض العلماء: أن النكاح تجري فيه الأحكام الخمسة:
أولاً: مستحب، وهذا هو الأصل.
ثانياً: واجب، على من خاف الزنا بتركه، لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثالثاً: مكروه، إذا كان فقيراً لا شهوة له، لأنه سوف يرهق نفسه بالنفقات، وليس لديه شهوة.
رابعاً: مباح، إذا كان غنياً لا شهوة له، لأنه قادر على الإنفاق، فهو قد ينفع المرأة بالإنفاق عليها.
خامساً: حرام، وذلك فيما إذا كان بدار حرب، لأنه قد يؤدي إلى أن يكون له أولاد، فيقتل أولاده أو يخطفون، ويحرم أيضاً إذا أراد أن يتزوج ثانية وهو يعلم أنه غير قادر على العدل.
(ويسن نكاح ذات دين).
أي: من صفات المرأة التي يستحب للرجل أن يتزوجها: أن تكون ديّنة.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (تُنْكَحُ اَلْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ اَلدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
(وَلِحَسَبِهَا) الحسب في الأصل الشرف بالآباء والأقارب، مأخوذ من الحساب، لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها، فيحكم لمن زاد على غيره. وقيل: المراد بالحسب هنا الفعال الحسنة. (فَاظْفَرْ بِذَاتِ اَلدِّينِ) أي: احرص بالزواج بالمرأة ذات الدين، تكتسب بها مصالح الدنيا والآخرة.
قال ابن حجر: والمعنى، أن اللائق بذي الدين والمروءة، أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء، لا سيّما فيما تطول صحبته.
(تَرِبَتْ يَدَاكَ) لصقت يداك بالتراب، والعرب تعني به حصول الفقر - كلمة دعاء لا يراد معناها - يقصدون بها التحريض بها، واللوم من جهة أخرى.
فائدة: 1
معنى الحديث:
قال النووي: الصَّحِيح فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلهُ النَّاس فِي الْعَادَة فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ هَذِهِ الْخِصَال الْأَرْبَع وَآخِرهَا عِنْدهمْ ذَات الدِّين، فَاظْفَرْ أَنْتَ أَيّهَا الْمُسْتَرْشِد بِذَاتِ الدِّين. لَا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ.
وقال القرطبي: أي: هذه الأربع الخصال هي الْمُرغِّبة في نكاح المرأة، وهي التي يقصدها الرِّجال من النساء، فهو خبرٌ عما في الوجود من ذلك، لا أنه أمرٌ بذلك، وظاهره إباحة النكاح؛ لقصد مجموع هذه الخصال أو لواحدة منها، لكن قصد الدِّين أولى وأهم؛ ولذلك قال (فاظفر بذات الدِّين).
فائدة: 2
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج بذات الدين لحكم:
أولاً: فهي تعين على طاعة الله.
ثانياً: تُصلح من يتربى علي يديها.
ثالثاً: ويأمن أولاده عندها.
رابعاً: تحفظ ماله وبيته في غيبته.
قال الغزالي: وليس أمره صلى الله عليه وسلم بمراعاة الدين نهيًا عن مراعاة الجمال، ولا أمرًا بالإضراب عنه، وإنما هو نهي عن مراعاته مجردًا عن الدين، فإن الجمال في غالب الأمر يرغب الجاهل في النكاح دون الالتفات إلى الدين، فوقع في النهي عن هذا. (الإحياء).
وقد جاء في حديث ثَوْبَانَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ فِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ مَا نَزَلَ قَالُوا: فَأَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ قَالَ عُمَرُ: فَأَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ ذَلِكَ فَأَوْضَعَ عَلَى بَعِيرِهِ فَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي أَثَرِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ (لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ) رواه الترمذي.
قال المباركفوري رحمه الله (وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه) أي: على دينه، بأن تذكره الصلاة، والصوم، وغيرهما من العبادات، وتمنعه من الزنا، وسائر المحرمات.
…
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (أَرْبَعٌ مِنَ اَلسعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ ألوَاسِعُ، وَاَلجَار الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ اَلهَنِيءُ، وَأَرْبَع مِنَ اَلشًقَاوَةِ: اَلْجَارُ السُّوءُ، والمرأة اَلسُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ اَلضيقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ) رواه ابن حبان.
(الولود).
أي: ويستحب أن تكون ولوداً.
أ- لحديث أنس. قال (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: تَزَوَّجُوا اَلْوَدُودَ اَلْوَلُودَ. إِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ اَلْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
ب- وعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا، قَالَ: لَا ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ) رواه أبو داود.
• ويمكن معرفة المرأة الولود بأحد طريقين:
الأولى: من النظر في حال أمها وأخواتها.
والثانية: أن تكون تزوجت قبل ذلك، فيُعلم ذلك من زواجها المتقدم.
o
ذكر الغزالي أن الرجل إذا تزوج ونوى بذلك حصول الولد كان ذلك قربة يؤجر عليها من حسنت نيته، وبَيَّن ذلك بوجوه:
الأول: موافقة محبة الله عز وجل في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان.
الثاني: طلب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تكثير من يباهي بهم الأنبياء والأمم يوم القيامة.
الثالث: طلب البركة، وكثرة الأجر، ومغفرة الذنب بدعاء الولد الصالح له بعده. (الإحياء).
(الودود).
للأحاديث السابقة.
قال الخطابي: (الودود) هي التي تحب زوجها.
قال في عون المعبود: وَقَيَّدَ بِهَذَيْنِ لأَنَّ الْوَلُود إِذَا لَمْ تَكُنْ وَدُودًا لَمْ يَرْغَب الزَّوْج فِيهَا، وَالْوَدُود إِذَا لَمْ تَكُنْ وَلُودًا لَمْ يَحْصُل الْمَطْلُوب وَهُوَ تَكْثِير الأُمَّة بِكَثْرَةِ التَّوَالُد، وَيُعْرَف هَذَانِ الْوَصْفَانِ فِي الأَبْكَار مِنْ أَقَارِبهنَّ إِذْ الْغَالِب سِرَايَة طِبَاع الأَقَارِب بَعْضهنَّ إِلَى بَعْض ا. هـ
(البكر).
أي: يسن أن تكون المرأة بكراً.
أ- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ - أَوْ قَالَ سَبْعَ - فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «فَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ». قَالَ قُلْتُ بَلْ ثَيِّبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ». أَوْ قَالَ «تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ) متفق عليه.
قال النووي: وفيه فضيلة تزوج الأبكار وثوابهن أفضل.
وقال الحافظ: وفي الحديث الحث على نكاح الأبكار.
ب-وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِياً وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَراً لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِي أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ قَالَ «فِي الَّذِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا». تَعْنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْراً غَيْرَهَا) رواه البخاري.
ج- وقال عثمان لابن مسعود: هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكراً تُذكرك ما كنت تعهد.
د- وفي الحديث عن جابر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (عليكم بالأبكار، فإنهنَّ أنتق أرحامًا، وأعذب أفواهًا، وأقل خبًا، وأرضى باليسير).
د- ولأن البكر تحب الزوج وتألفه أكثر من الثيب، وهذه طبيعة جُبِل الإنسان عليها - أعني الأنس بأول مألوف.
وقد مدح الله الأبكار وجعل هذه الصفة من صفات نساء الجنة قال تعالى (إنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً).
يقول الغزالي: في البكر خواص لا توجد في الثيب:
منها: أنها لا تحن أبدًا إلا للزوج الأول، وآكد الحب ما يقع في الحبيب الأول.
ومنها: إقبال الرجل عليها، وعدم نفوره منها، فإن طبع الإنسان النفور عن التي مسها غيره، ويثقل عليه ذلك.
ومنها: أنها ترضى في الغالب بجميع أحوال الزوج؛ لأنها أنست به ولم تر غيره، وأما التي اختبرت الرجال ومارست معهم الأحوال فربما لا ترضى بعض الأوصاف التي تخالف ما ألفته.
(الأجنبية).
أي: ليس بينه وبينها نسب.
وهذا ذهب إليه جماعة من الفقهاء، وعللوا ذلك بأمور:
الأول: نجابة الولد، أي حسن صفاته، وقوة بدنه، لأنه يأخذ من صفات أعمامه وأخواله.
الثاني: أنه لا يؤمن أن يقع بينهما فراق، فيؤدي إلى قطيعة الرحم.
قال ابن قدامة: وَيَخْتَارُ الْأَجْنَبِيَّةَ، فَإِنَّ وَلَدَهَا أَنْجَبُ، وَلِهَذَا يُقَالُ: اغْتَرِبُوا لَا تَضْوُوا يَعْنِي: انْكِحُوا الْغَرَائِبَ كَيْ لَا تَضْعُفَ أَوْلَادُكُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْغَرَائِبُ أَنْجَبُ، وَبَنَاتُ الْعَمِّ أَصْبَرُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْعَدَاوَةُ فِي النِّكَاحِ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى الطَّلَاقِ، فَإِذَا كَانَ فِي قَرَابَتِهِ أَفْضَى إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِصِلَتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (المغني).
قال في (الإنصاف): ويستحب تخيّر ذات الدين الولود البكر الحسيبة الأجنبية.
لكن هذا فيه نظر:
فقد تزوج علي بن أبي طالب بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأبوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عم علي) وأنجبا سيدا شباب الجنة.
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وهي ابنة عمته.
وقد جاء في بعض الأحاديث الحث على تغريب النكاح، إلا أن هذه الأحاديث لم يثبت منها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن الملقن رحمه الله: لم أر أنا في الباب في كتاب حديثي ما يستأنس به" انتهى من "البدر المنير" (7/ 500).
وهذه بعض الأحاديث الواردة في هذا:
حديث (غربوا النكاح) وحديث (لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاوياً).
قال السبكي رحمه الله معلقا على القول باستحباب تغريب النكاح - ينبغي أن لا يثبت هذا الحكم لعدم الدليل، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم علياً بفاطمة رضي الله تعالى عنهما، وهي قرابة قريبة.
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: قرأتُ قولاً يقول: (اغتربوا لا تضووا) هل هو حديث صحيح، وهل هناك أحاديث أخرى حول هذا الموضوع؟ نرجو توضيح السنة الصحيحة في مسألة اختيار الزوجة؟
فأجاب: ليس لهذا أصل، بل كونها تتزوج من الأقارب أفضل، والنبي صلى الله عليه وسلم زوج من أقاربه عليه الصلاة والسلام، أما قول بعض الفقهاء هذا لا أصل له، بل هو مخير، إن شاء تزوج قريبة كبنت عمه وخاله، وإن شاء تزوج بعيداً، لا حرج في ذلك.
وأما قول من قال: الأجنبية أنجب وأفضل، فهذا لا أصل له، ولا دليل عليه، فإن تيسرت قريبة طيبة فهي أولى، وهي من هذا الباب صلة رحم، أما إن كانت الأجنبية أزين، وأكثر خيراً، فالأجنبية أفضل، المقصود أن يتحرى المرأة الصالحة قريبة أو غير قريبة، لقوله صلى الله عليه وسلم (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، فالمؤمن يلتمس ذات الدين الطيبة وإن كانت من غير أقاربه، والزوجة كذلك تلتمس الزوج الصالح، وتسأل عنه، وإن كان من غير أقاربها. (فتاوى نور على الدرب)
(واحدة).
أي: يسن نكاح واحدة لا أكثر.
لأن الزيادة عليها تعريض للمحرم، قال الله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم).
قال المرداوي الحنبلي: وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا: أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى وَاحِدَةٍ، إنْ حَصَلَ بِهَا الْإِعْفَافُ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ
…
قَالَ ابْنُ خَطِيبِ السَّلَامِيَّةِ: جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ اسْتَحَبُّوا أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى وَاحِدَة. (الإنصاف).
وقال الحجاوي: " ويُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى وَاحِدَةٍ إنْ حَصَلَ بِهَا الْإِعْفَافُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْمُحَرَّمِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ)، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ) رَوَاهُ الْخَمْسَة. (كشاف القناع).
وذهب بعض العلماء: إلى أن السنة التعدد بشروطه.
قال ابن قدامة: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وبالغ في العدد، وفعل ذلك أصحابه، ولا يشتغل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بالأفضل. ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل، والاشتغال بالأدنى. (المغني).
وقال الشيخ ابن باز: الأصل في ذلك شرعية التعدّد لمن استطاع ذلك، ولم يخف الجور، لما في ذلك من المصالح الكثيرة في عفة فرجه، وعفة من يتزوجهن، والإحسان إليهن، ويكثر النسل الذي به تكثر الأمة. وكثير من يعبد الله وحده، ولأنه صلى الله عليه وسلم تزوج أكثر من واحدة.
(ويحرُمُ نَظرُ الرجل إلى المرأةِ الأجنبية).
أي: يحرم الرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية عنه، فيجب على الإنسان أن يغض بصره عن كل ما حرم الله تعالى.
أ- قال تعالى (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
…
).
ب- وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إياكم والجلوس في الطرقات
…
ثم قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام
…
).
ج- وعن جرير قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري) رواه مسلم.
د- عَنِ ابْنِ بُرَيْدَة. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ (يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ) رواه أبو داود.
هـ- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَي مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُه) متفق عليه.
فائدة: 1
قوله (يغضوا من أبصارهم) قدم غض البصر على حفظ الفرج، لأن غض البصر وسيلة إلى حفظ الفرج، وإطلاق البصر سبب لعدم حفظ الفرج.
فائدة: 2
في غض البصر فوائد:
أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته.
ثانيها: أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه.
ثالثها: أنه يورث حجة الفراسة.
فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته.
رابعها: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه.
خامسها: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، وفي الأثر: أن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله.
سادسها: أنه يورث القلب سروراً وفرحة وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر.
سابعها: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة.
قال ابن القيم: فتنة النظر أصل كل فتنة.
وقال: من أطلق بصره دامت حسرته.
قال في الفروع: وَلْيَحْذَرْ الْعَاقِلُ إطْلَاقَ الْبَصَرِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ تَرَى غَيْرَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْعِشْقُ فَيُهْلِكُ الْبَدَنَ وَالدِّينَ، فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَلْيَتَفَكَّرْ فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إذَا أَعْجَبَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَةٌ فَلْيَذْكُرْ مَثَانَتَهَا، وَمَا عِيبَ نِسَاءُ الدُّنْيَا بِأَعْجَبَ مِنْ قَوْلِهِ عز وجل (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ)
وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ يُشَتِّتُ الشَّمْلَ، وَيُكْثِرُ الْهَمَّ.
فائدة: 3
الزواج سبب للإحصان.
عَنْ جَابِرٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهْىَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِه) رواه مسلم.
قال النووي: وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ رَأَى اِمْرَأَة فَتَحَرَّكَتْ شَهْوَته أَنْ يَأْتِي اِمْرَأَته أَوْ جَارِيَته إِنْ كَانَتْ لَهُ، فَلْيُوَاقِعهَا لِيَدْفَع شَهْوَته، وَتَسْكُن نَفْسه، وَيَجْمَع قَلْبه عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ.
قَوْله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمَرْأَة تُقْبِل فِي صُورَة شَيْطَان وَتُدْبِر فِي صُورَة شَيْطَان) قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: الْإِشَارَة إِلَى الْهَوَى وَالدُّعَاء إِلَى الْفِتْنَة بِهَا لِمَا جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فِي نُفُوس الرِّجَال مِنْ الْمَيْل إِلَى النِّسَاء، وَالِالْتِذَاذ بِنَظَرِهِنَّ، وَمَا يَتَعَلَّق بِهِنَّ، فَهِيَ شَبِيهَة بِالشَّيْطَانِ فِي دُعَائِهِ إِلَى الشَّرّ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَزْيِينه لَهُ. وَيُسْتَنْبَط مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهَا أَلَّا تَخْرُج بَيْن الرِّجَال إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الْغَضّ عَنْ ثِيَابهَا، وَالْإِعْرَاض عَنْهَا مُطْلَقًا.
وقال القرطبي: (
…
في صورة شيطان) أي: في صفته من الوسوسة، والتحريك للشهوة؛ بما يبدو منها من المحاسن المثيرة للشهوة النفسية، والميل الطبيعي، وبذلك تدعو إلى الفتنة التي هي أعظم من فتنة الشيطان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (ما تركت في أمتي فتنة أضر على الرجال من النساء) فلمّا خاف صلى الله عليه وسلم هذه المفسدة على أمته أرشدهم إلى طريق بها تزول وتنحسم، فقال (إذا أبصر أحدكم المرأة فأعجبته فليأت أهله)، ثم أخبر بفائدة ذلك، وهو قوله (فإن ذلك يردّ ما في نفسه)، وللردّ وجهان:
أحدهما: أنَّ المنَّي إذا خرج؛ انكسرت الشهوة، وانطفأت، فزال تعلُّق النَّفْس بالصّورة الْمَرئية.
وثانيهما: أن محل الوطء والإصابة متساوٍ من النساء كلِّهن، والتفاوت إنما هو من خارج ذلك، فليُكْتَف بمحلِّ الوطء، الذي هو المقصود، ويُغْفَل عمَّا سواه، وقد دلّ على هذا ما جاء في هذا الحديث في غير "الأم" بعد قوله (فليأت أهله، فإن معها مثل الذي معها).
(إلا من يريد خِطبتها فله رؤيتها).
أي: يستثنى من النظر المحرّم: الرجل إذا رغب في خطبة امرأة فله رؤيتها.
قوله (فله) يحتمل أن تكون اللام للإباحة ويحتمل أن تكون للاستحباب، وهذا هو الراجح.
أ- لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي عُيُونِ الأَنْصَارِ شَيْئاً». قَالَ قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا) رواه مسلم.
- قوله (فَإِنَّ فِي عُيُونِ الأَنْصَارِ شَيْئاً) اختلف في المراد بقوله (شيئاً) فقيل: عمش، وقيل: صغر، قال الحافظ: الثاني وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه، فهو المعتمد.
ب- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ، قَالَ: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا وَتَزَوُّجِهَا فَتَزَوَّجْتُهَا) رواه أبو داود.
ج- وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا) رواه الترمذي.
د- وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ (خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهَا فِي نَخْلٍ لَهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا أَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا) رواه ابن ماجه.
فهذه الأحاديث تدل على جواز نظر الرجل للمرأة التي يريد أن يخطبها وأن ذلك مستحب.
قال النووي: وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ قَوْم كَرَاهَته، وَهَذَا خَطَأ مُخَالِف لِصَرِيحِ هَذَا الْحَدِيث. (نووي).
وقال في (روضة الطالبين) إذا رغب في نكاحها استحب أن ينظر إليها لئلا يندم، وفي وجه: لا يستحب هذا النظر بل هو مباح، والصحيح الأول للأحاديث.
وقال الصنعاني: دلت الأحاديث على أنه يُندب تقديم النظر إلى من يريد نكاحها، وهو قول جماهير العلماء.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الحكم بعلة تدل على الطلب وهي قوله (فإنه أحرى أن يُؤدم بينكما).
فائدة: 1
متى يكون النظر؟
الصحيح أنه يكون بعد العزم وقبل الخِطبة.
قال ابن تيمية: ينبغي أن يكون النظر بعد العزم على نكاحها وقبل الخطبة.
ويدل لذلك:
أ- حديث محمد بن مسلمة السابق (إِذَا أَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ
…
).
ففي هذا الحديث رتب الإذن بالنظر بمجرد الإلقاء في القلب، والإلقاء يكون قبل الخطبة، مما يدل على أن وقت النظر بعد العزم وقبل الخطبة.
ب- وحديث جابر السابق في قوله (إذا خطب أحدكم المرأة
…
) أي: إذا أراد أن يخطب.
ج- وأيضاً من أجل أن يُقدِمَ أو يحجِم، ولا يكون بعد الخطبة، لأنه لو خطب امرأة ثم نظر إليها ولم تعجبه وتركها، فهذا يؤثر عليه وعليها.
فائدة: 2
هل يشترط رضا المخطوبة؟
لا يشترط رضا المخطوبة في النظر، وهذا مذهب جمهور العلماء، ينظر إليها ولو لم ترض.
فهو قول الشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
قال النووي:
…
ثُمَّ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط فِي جَوَاز هَذَا النَّظَر رِضَاهَا، بَلْ لَهُ ذَلِكَ فِي غَفْلَتهَا، وَمَنْ غَيْر تَقَدُّم إِعْلَام، لَكِنْ قَالَ مَالِك: أَكْرَه نَظَرَهُ فِي غَفْلَتهَا مَخَافَة مِنْ وُقُوع نَظَره عَلَى عَوْرَة. وَعَنْ مَالِك رِوَايَة ضَعِيفَة أَنَّهُ لَا يَنْظُر إِلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَشْتَرِط اِسْتِئْذَانهَا، وَلِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي غَالِبًا مِنْ الْإِذْن، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَغْرِيرًا، فَرُبَّمَا رَآهَا فَلَمْ تُعْجِبهُ فَيَتْرُكهَا فَتَنْكَسِر وَتَتَأَذَّى. (نووي).
أ- لحديث أبي حميد قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم) رواه أحمد.
وحديث جابر - السابق - وفيه (
…
فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها، فتزوجتها).
ففي هذين الحديثين دلالة على جواز النظر بدون رضاها وإعلامها، للتصريح بذلك في الحديث الأول، وتخبأ جابر في الحديث الثاني، ولو كان النظر بإعلامها لما احتاج إلى ذلك، مما يدل على عدم اشتراط إعلامها قبل النظر.
فائدة: 3
ولكن كيف ينظر؟
إذا أمكن أنه ينظر إليها باتفاق مع وليها، بأن يحضر وينظر لها فله ذلك، فإن لم يمكن فله أن يختبئ لها في مكان تمر منه، وما أشبه ذلك، وينظر إليها.
…
(الشرح الممتع).
(فَينظرُ منها ما يظهَرُ غالباً).
هذا بيان ما الذي يجوز لهذا الخاطب أن ينظر من هذه المرأة: وهو ما يظهر غالباً.
كالوجه، واليدين، والقدمين، هذا الراجح من أقوال العلماء.
لأنه صلى الله عليه وسلم لما أذن في النظر إليها من غير علمها عُلم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر غالباً، إذ لا يمكن إفراد الوجه بالنظر مع مشاركة
غيره في الظهور، ولأنه يظهر غالبا أشبه الوجه. (كشاف القناع).
ورجح هذا القول الألباني، وهو الصحيح.
وقال بعض العلماء: ينظر إلى الوجه والكفين فقط.
وهذا مذهب الشافعي.
قال النووي: ثم إنه يباح النظر إلى وجهها وكفيها فقط، لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها.
وقال بعضهم: ينظر إلى جميع بدنها.
وهو قول داود.
(بلا خَلوة).
أي: لا يجوز أن يخلو بها، لأنها ما زالت أجنبية.
قال ابن قدامة: ولا يجوز له الخلوة بها لأنها مُحرّمة، ولم يَرد الشرع بغير النظر فبقيت على التحريم، ولأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور.
عن ابن عباس. قال: صلى الله عليه وسلم (لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان).
• الخلوة بالمرأة الأجنبية حرام.
قال في الفتح: وهو إجماع.
للأحاديث السابقة.
ولحديث عقبة بن عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْت) رواه مسلم.
قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم": قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد: الْحَمو أَخُو الزَّوْج، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَقَارِب الزَّوْج: اِبْن الْعَمّ وَنَحْوه. اِتَّفَقَ أَهْل اللُّغَة عَلَى أَنَّ الْأَحْمَاء أَقَارِب زَوْج الْمَرْأَة كَأَبِيهِ، وَأَخِيهِ، وَابْن أَخِيهِ، وَابْن عَمّه، وَنَحْوهمْ. وَالْأُخْتَانِ أَقَارِب زَوْجَة الرَّجُل. وَالْأَصْهَار يَقَع عَلَى النَّوْعَيْنِ. وَأَمَّا قَوْله صلى الله عليه وسلم (الْحَمو الْمَوْت) فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَوْف مِنْهُ أَكْثَر مِنْ غَيْره، وَالشَّرّ يُتَوَقَّع مِنْهُ، وَالْفِتْنَة أَكْثَر لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوُصُول إِلَى الْمَرْأَة وَالْخَلْوَة مِنْ غَيْر أَنْ يُنْكَر عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيّ. وَالْمُرَاد بِالْحَمْوِ هُنَا أَقَارِب الزَّوْج غَيْر آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ. فَأَمَّا الْآبَاء وَالْأَبْنَاء فَمَحَارِم لِزَوْجَتِهِ تَجُوز لَهُمْ الْخَلْوَة بِهَا، وَلَا يُوصَفُونَ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد الْأَخ، وَابْن الْأَخ، وَالْعَمّ، وَابْنه، وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ. وَعَادَة النَّاس الْمُسَاهَلَة فِيهِ، وَيَخْلُو بِامْرَأَةِ أَخِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَوْت، وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ صَوَاب مَعْنَى الْحَدِيث
- هذه الحرمة مطلقة، سواء أمنت الفتنة أم لم تؤمن، وسواء وجدت العدالة أو لم توجد.
• وفي قوله (لا يخلون
…
) نستفيد: جواز الخلوة مع وجود المحْرَم.
فائدة:
ما يرفع الخلوة بين امرأة أجنبية ورجل أجنبي:
أ- الزوج.
قال النووي: لو كان معها زوجها كان كالمحرم وأولى بالجواز.
ب-محرَم المرأة - كأبيها أو أخيها - وهو يرفع الخلوة بلا ريب
؛ لنص الحديث على ذلك؛ ففي الصحيحين عن صلى الله عليه وسلم قال (لَا يَخْلونَّ رَجُلٌ بِامْرَأةٍ إِلاَّ وَمَعَها ذُو مَحْرَم) وإنه إذا صلح محرماً لها في السفر فأولى أن يرفع الخلوة المحرمة في الحضر.
ج-وجود امرأة مأمونة أو أكثر.
قال النووي: وأمَّا إذا خلا الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما: فهو حرام باتفاق العلماء، وكذا لو كان معهما من لا يُستحى منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك؛ فإن وجوده كالعدم. (شرح مسلم).
وقال أيضاً: والمشهور جواز خلوة رجل بنسوة لا محرَم له فيهن؛ لعدم المفسدة غالباً؛ لأن النساء يستحين من بعضهن بعضاً. (المجموع)
وقال الشيخ ابن عثيمين: إذا كان مع المرأة مثلُها انتفت الخَلوة.
د-وجود رجل مأمون أو أكثر.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: أما إذا كان معهما رجل آخر أو أكثر، أو امرأة أخرى أو أكثر: فلا حرج في ذلك إذا لم يكن هناك ريبة؛ لأن الخلوة تزول بوجود الثالث أو أكثر.
وقال الشيخ ابن عثيمين: أما إذا كان معه امرأتان فأكثر: فلا بأس؛ لأنه لا خلوة حينئذٍ بشرط أن يكون مأموناً، وأن يكون في غير سفر.
فائدة: 2
شروط النظر إلى المخطوبة:
أولاً: أن يغلب على ظنه الإجابة.
ثانياً: أن لا يقصد التلذذ، لأن المقصود الاستعلام لا الاستمتاع.
ثالثاً: أن لا يكون بخلوة، لأنها أجنبية عنه.
رابعاً: أن يكون عازماً على الخطبة.
خامساً: ألا تكون المرأة متجملة، لأمرين:
الأمر الأول: أنه تدليس بالنسبة للرجل، والأمر الثاني: أنه فتنة.
فائدة: 3
يجوز تكرار النظر للمخطوبة:
يجوز للخاطب أن ينظر للمخطوبة، ويجلس معها، ويحادثها، ولو تكرر ذلك أكثر من مرة، ما دام متردداً ويهدف للوصول إلى قناعة تامة، وقَبول كلٍّ منهما بالآخر، شريطة أن يكون ذلك دون خلوة، وفي حدود الكلام المباح والمعتاد.
فإذا جزم بالخطبة أو عدمها، رجع الحكم إلى الأصل وهو تحريم النظر إليها، لأن سبب الإباحة قد زال.
ويدل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام (إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا، فَلْيَفْعَلْ).
قال الشيخ ابن عثيمين: يجوز أن يكرر النظر إليها
…
فإذا كان في أول مرة ما وجد ما يدعوه إلى نكاحها، فلينظر مرة ثانية، وثالثة. (الشرح الممتع).
وقال الشيخ ابن باز: يجوز للرجل إذا أراد خطبة المرأة أن يتحدث معها، وأن ينظر إليها من دون خلوة
…
، فإذا كان الكلام معها فيما يتعلق بالزواج والمسكن وسيرتها، حتى تعلم هل تعرف كذا، فلا بأس بذلك إذا كان يريد خطبتها.
وفي (الموسوعة الفقهية) يَجُوزُ تَكْرَارُ النَّظَرِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِيَتَبَيَّنَ هيئتها، فَلَا يَنْدَمُ بَعْدَ النِّكَاحِ، إِذْ لَا يَحْصُل الْغَرَضُ غَالِبًا بِأَوَّل نَظْرَة.
فائدة: 4
الصورة لا تقوم مقام النظر،
لأن التصوير حرام، ولأن الصورة لا تقوم مقام الحقيقة، فإن الصورة تجمل الإنسان أكثر مما هو عليه.
فائدة: 5
قال أبو الفرج المقدسي:
ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة النظر إلى وجهها .. مجمع المحاسن، وموضع النظر.
فائدة: 6
هل يجوز أن ترسل امرأة صورتها بالإنترنت لرجل خاطب في مكان بعيد ليراها فيقرر هل يتزوجها أم لا؟
الجواب: لا أرى هذا:
أولا: لأنه قد يشاركه غيره في النظر إليها.
ثانيا: لأن الصورة لا تحكي الحقيقة تماماً، فكم من صورة رآها الإنسان فإذا شاهد المصوَّر وجده مختلف تماماً.
ثالثا: أنه ربما تبقى هذه الصورة عند الخاطب ويعدل عن الخطبة ولكن تبقى عنده يلعب بها كما شاء. والله أعلم. (ابن عثيمين).
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن حكم لبس دبلة الخطوبة فقال:
دبلة الخطوبة عبارة عن خاتم، والخاتم في الأصل ليس فيه شيء إلا أن يصحبه اعتقاد كما يفعله بعض الناس يكتب اسمه في الخاتم الذي يعطيه مخطوبته، وتكتب اسمها في الخاتم الذي تعطيه إياه زعماً منهما أن ذلك يوجب الارتباط بين الزوجين، ففي هذه الحال تكون هذه الدبلة محرّمة، لأنها تعلّق بما لا أصل له شرعاً ولا حسّاً، كذلك أيضاً لا يجوز في هذا الخاتم أن يتولى الخاطب إلباسه مخطوبته، لأنها لم تكن زوجه بعد، فهي أجنبيّة عنه، إذ لا تكون زوجة إلا بعد العقد.
(وَيَحْرُمُ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ، وَالْمُبَانَةِ دُونَ التَّعْرِيض).
أي: يحرم ولا يجوز أن يصرح بخطبة المرأة المعتدة مطلقاً، ويجوز التعريض بخطبة المعتدة من وفاة أو مطلقة ثلاثاً.
- والخِطبة بكسر الخاء طلب المرأة للزواج.
- والمعتدة: من لم يمض على وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، وعلى طلاقها ثلاث حيضات إن لم تكن حاملاً.
- التصريح: هو وعد المرأة بالنكاح أو طلب التزوج بها باللفظ الصريح، نحو أريد أن أتزوجك، أو زوجيني نفسك، أو فإذا انقضت عدتك تزوجتك، ونحو ذلك مما لا يحتمل غير النكاح.
- التعريض: خلاف التصريح، نحو: إني في مثلك لراغب، أو إذا انقضت عدتك فأعلميني، أو لا تفوتيني على نفسك.
حكم المسألة:
يجوز التعريض بخطبة المعتدة من وفاة زوجها، أو في المرأة التي طلقها زوجها طلاقاً بائناً لا يستطيع الرجوع إليها، وهي إما أن تكون مطلقة آخر ثلاث تطليقات، أو مطلقة على عرض، ويحرم التصريح:
والدليل على ذلك:
أ- قوله تعالى (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ).
أي لا إثم عليكم أيها الرجال في التعريض بخطبة النساء المتوفى عنهن أزواجهن في العدة بطريق التلميح لا التصريح، فخص التعريض بنفي الحرج، وذلك يدل على وجود الحرج في التصريح، فيكون ذلك دليلاً على عدم جوازه، ولأن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار بانقضاء عدتها قبل انقضائها.
ب- وعن فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها لما طلقها زوجها ثلاثاً (فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فَآذِنِينِي) وفي لفظ (لَا تَفُوتِينَا بِنَفْسِكِ) رواه مسلم
فائدة:
المطلقة الرجعية
[وهي من طلقت طلقة واحدة أو اثنتين] لا يجوز التعريض بخطبتها، لأنها زوجة حكمها حكم الزوجات.
(ويحرم أن يخطب على خِطبة أخيهِ المسلم إن أُجيب).
أي: لا يجوز للرجل أن يخطب امرأة خطبها رجل آخر وأجيب.
أ- لحديثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَخْطُبْ بَعْضُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ اَلْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ اَلْخَاطِبُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ولفظه عند مسلم (لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ) متفق عليه.
ب- وعن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ
أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ).
ج- وعن أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) رواه مسلم.
قال النووي: هَذِهِ الْأَحَادِيث ظَاهِرَة فِي تَحْرِيم الْخِطْبَة عَلَى خِطْبَة أَخِيهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمهَا إِذَا كَانَ قَدْ صُرِّحَ لِلْخَاطِبِ بِالْإِجَابَةِ، وَلَمْ يَأْذَن، وَلَمْ يَتْرُك. (شرح مسلم).
وقال ابن قدامة: أَنْ تَسْكُنَ إلَى الْخَاطِبِ لَهَا، فَتُجِيبَهُ، أَوْ تَأْذَنَ لِوَلِيِّهَا فِي إجَابَتِهِ أَوْ تَزْوِيجِهِ، فَهَذِهِ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ خَاطِبِهَا خِطْبَتُهَا:
وذكر الأحاديث السابقة.
وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إفْسَادًا عَلَى الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ.
وَإِيقَاعَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ.
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ قَوْمًا حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالظَّاهِرُ أَوْلَى. (المغني).
وقال ابن حجر: قال الجمهور، هذا النهي للتحريم. (الفتح).
جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِطْبَةَ عَلَى الْخِطْبَةِ حَرَامٌ إِذَا حَصَل الرُّكُونُ إِلَى الْخَاطِبِ الأْول.
فائدة:
الحكمة من تحريم الخطبة على خطبة المسلم:
أن هذا التصرف من أسباب العداوة والبغضاء بين الناس.
ولأن هذا التصرف فيه ظلم للخاطب الأول وفيه تعد عليه لأن الحق له ما دام أنه هو الخاطب.
(فإِنْ رُدَّ أَوْ أَذِنَ جَاز).
أي: أنه في حالتين يجوز أن يخطب الثاني:
الأولى: إن رُد الخاطب.
لأن حق الخاطب الأول سقط بالرد.
الثانية: إذا أذِن له.
للحديث السابق ( .... لَا يَخْطُبْ بَعْضُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ اَلْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ اَلْخَاطِبُ).
ومن الحالات التي يجوز:
الثالثة: إذا ترك الخاطب الأول الخطبة.
لرواية (وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ).
قال النووي: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْخِطْبَة رَغْبَة عَنْهَا، وَأَذِنَ فِيهَا، جَازَتْ الْخِطْبَة عَلَى خِطْبَته، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث
فائدة: 1
اختلف العلماء: إذا لم يركنوا إلى الخاطب.
(يعني لم يقبلوا حتى الآن، ما زالوا في التفاوض وفي طور البحث) هل يجوز أن يخطب على خطبته أم لا على قولين:
القول الأول: يجوز.
القول الثاني: لا يجوز.
لأن هذا يعتبر خطبة على خطبة أخيه.
لأنهم قد يكونون على وشك الموافقة.
والله أعلم.
فائدة: 2
اختلف العلماء: هل يجوز أن يخطب على خطبة غير المسلم أم لا على قولين:
مثال: أن يخطب يهودي يهودية، فهل يجوز للمسلم أن يذهب ويخطب هذه اليهودية؟
القول الأول: أنه يجوز.
قال النووي: وبه قال الأوزاعي، ورجحه ابن المنذر، والخطابي.
أ- لقوله (على خِطبة أخيه) والكافر ليس أخاً للمسلم.
ويؤيده رواية (الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ).
قال الخطابي: قطع الله الأخوة بين الكافر والمسلم، فيختص النهي بالمسلم.
ب- ولأن الكافر ليس له حرمة.
القول الثاني: أنه لا يجوز.
وبه قال جمهور العلماء.
لرواية (ولا يخطب الرجل على خطبة الرجل).
وأما التقييد (بأخيه) فيحمل على الغالب، فلا مفهوم له كقوله تعالى (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق).
وهذا القول هو الصحيح.
فائدة: 3
يحرم أن تخطب المرأة على خطبة المرأة لنفس العلة.
مثال: امرأة عرضت نفسها على رجل، فلا يحل لامرأة أخرى أن تأتي وتعرض نفسها عليه وتزهده في التي قبلها.
فائدة: 4
الجواب عن قصة فاطمة بنت قيس،
أنها جاءت تستشير النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبها ثلاثة: أبو جهم، ومعاوية، وأسامة، الجواب: أن تحمل هذه القصة على أن الواحد منهم لم يعلم بخطبة الآخر.
فائدة: 5
قال ابن قدامة المقدسي: وَلَا يُكْرَه لِلْوَلِيِّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِجَابَةِ،
إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، وَهُوَ نَائِبٌ عَنْهَا فِي النَّظَرِ لَهَا، فَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ الرُّجُوعُ الَّذِي رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ
…
وَلَا يُكْرَه لَهَا أَيْضًا الرُّجُوعُ إذَا كَرِهَتْ الْخَاطِبَ; لِأَنَّهُ عَقْدُ عُمْرٍ يَدُومُ الضَّرَرُ فِيهِ، فَكَانَ لَهَا الِاحْتِيَاطُ لِنَفْسِهَا، وَالنَّظَرُ فِي حَظِّهَا.
وَإِنْ رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ غَرَضٍ، كُرِهَ; لِمَا فِيهِ مِنْ إخْلَافِ الْوَعْدِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ الْقَوْلِ، وَلَمْ يُحَرَّمْ; لِأَنَّ الْحَقَّ بَعْدُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا. (المغني).
(ويصحُ العقد).
أي: مع تحريم الخطبة.
وهذا قول أكثر العلماء، أن العقد صحيح.
وإنما كان صحيحاً: لأن النهي في الحديث مسلط على الخطبة لا على العقد، والعقد استوفى شروطه وأركانه، والمخالفة في الوسيلة وهي غير لا زمة، فقد يجري العقد من غير خطبة. (فقه الدليل).
قال النووي: فَلَوْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَته، وَتَزَوَّجَ وَالْحَالَة هَذِهِ عَصَى، وَصَحَّ النِّكَاح، وَلَمْ يُفْسَخ. هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور.
وقال ابن قدامة: فَإِنْ فَعَلَ فَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
أَنَّ الْمُحَرَّمَ لَمْ يُقَارِنْ الْعَقْدَ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ. (المغني).
وجاء في (الموسوعة الفقهية) فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى مَنْ تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا - كَعَقْدِ الْخَاطِبِ الثَّانِي عَلَى الْمَخْطُوبَةِ،
وَكَعَقْدِ الْخَاطِبِ فِي الْعِدَّةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا - يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا تُقَارِنُ الْعَقْدَ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ؛ وَلأِنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِوُقُوعِهَا غَيْرَ صَحِيحَة.
(وَيُسَنُّ أن يخطب بِخُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ).
أي: يستحب للعاقد أن يخطب بخطبة ابن مسعود.
قال ابن قدامة: يستحب أن يخطب العاقد أو غيره، قبل التواجب [أي: قبل الإيجاب والقبول] ثم يكون العقد بعده
…
والمستحب أن يخطب بخطبة عبد الله بن مسعود التي قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة، والتشهد في الحاجة. (المغني).
عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: (عَلَّمَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلتَّشَهُّدَ فِي اَلْحَاجَةِ: " إِنَّ اَلْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اَللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ:
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ.
فالحديث دليل على استحباب تقديم هذه الخطبة على عقد النكاح.
فائدة: 1
- هذه الخطبة سنة عند جماهير العلماء وليست واجبة، ومما يدل على عدم وجوبها:
حديث الواهبة نفسها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (زوجتكها بما معك من القرآن) ولم يذكر الخطبة.
فائدة: 2
وهذه الخطبة قصد بها:
إظهار النكاح وإشهاره، وبيان خطر هذا العقد.
فائدة: 3
لم يرد عن أحد من السلف أنه كان يزيد على هذه الخطبة بشيء مما يزيده
بعض الناس من الخطب المطولة إما في فضل النكاح أو في الترغيب في الطاعات أو الترهيب من المعاصي عند عقد النكاح، وهذه بدعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)
فائدة: 4
ذهب بعض العلماء إلى أنه يسن العقد في المسجد.
جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ مُبَاشَرَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمَا، فَقَدْ قَال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ. (الموسوعة).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله استحباب عقد النكاح في المسجد لا أعلم له أصلاً، ولا دليلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا صادف أن الزوج والولي موجودان في المسجد وعقد: فلا بأس؛ لأن هذا ليس من جنس البيع والشراء، ومن المعلوم أن البيع والشراء في المسجد حرام، لكن عقد النكاح ليس من البيع والشراء، فإذا عقد في المسجد: فلا بأس، أما استحباب ذلك بحيث نقول: اخرجوا من البيت إلى المسجد، أو تواعدوا في المسجد ليعقد فيه: فهذا يحتاج إلى دليل، ولا أعلم لذلك دليلاً. (الفتاوى).
والحديث الوارد في ذلك رواه الترمذي، وهو حديث ضعيف، ضعفه الترمذي، وابن حجر، والألباني، وغيرهم.
وقولهم: بأن عقد النكاح في المسجد بركة، لكن يُشْكِل على ذلك أنه لو كان الأمر كذلك لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على عقد الأنكحة لنفسه في المسجد، ولحرص على تبيين ذلك لأصحابه.
وعليه، فالأظهر هنا أن يقال:
أن إنشاء عقد الزواج في المسجد جائز من حيث الأصل، لا سيما إن كان ذلك في بعض الأحيان، أو كان أبعد لهم عن المنكر، مما لو عقد في مكان آخر. وأما التزام ذلك في كل عقد، أو اعتقاد أن له فضلاً خاصاً: فهو بدعة، ينبغي التنبيه عليها، ونهي الناس عن فعله على هذا الوجه.
وإن كان أثناء العقد وُجد اختلاط بين الرجال والنساء، أو حصل استعمال للمعازف: صار عقده في المسجد أشد حرمة من عقده خارجه؛ لما في ذلك من التعدي على حرمة بيت الله.
ودليل مشروعية عقد النكاح في المسجد، من حيث الأصل: حديث الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، والذي رواه البخاري ومسلم، حيث ثبت أنه زوجها لأحد أصحابه في المسجد، ولا يُحفظ أنه كرر ذلك في عقدٍ غيره.
فائدة: 5
ذهب بعض العلماء إلى استحباب عقد النكاح يوم الجمعة.
جاء في (الموسوعه الفقهية) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ عَقْدُ النِّكَاحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأِنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ اسْتَحَبُّوا ذَلِكَ، مِنْهُمْ ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ وَرَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ وَحَبِيبُ بْنُ عُتْبَةَ، وَلأِنَّهُ يَوْمٌ شَرِيفٌ، وَيَوْمُ عِيدٍ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ عليه السلام.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ أَوَّل النَّهَارِ لِخَبَرِ (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأِمَّتِي فِي بُكُورِهَا).
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الإْمْسَاءُ بِالنِّكَاحِ أَوْلَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (أَمْسُوا بِالْمِلَاكِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ) وَلأِنَّهُ أَقْرَبُ لِمَقْصُودِهِ وَأَقَل لاِنْتِظَارِهِ، وَلأِنَّ فِي آخِرِ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ سَاعَةَ الإْجَابَة. (الموسوعة الفقهية).
قال ابن قدامة: يستحب عقد النكاح يوم الجمعة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لا أعلم في هذا سنة، وقد علَّلوا ذلك بأن يوم الجمعة آخره فيه ساعة الإجابة، فيرجى إجابة الدعاء الذي يكون عادة بين الزوج ومن يبرِّكون عليه، بارك الله لك وعليك، ولكن يقال: هل النبي عليه السلام من هديه وسنته أنه يتحرى هذا الوقت؟
إذا ثبت هذا فالقول بالاستحباب ظاهر، وأما إذا لم يثبت فلا ينبغي أن تُسن سنة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوج في أي وقت، ويتزوج في أي وقت، ولم يثبت أنه اختار شيئاً معيناً.
نعم لو صادف هذا الوقت لقلنا: هذا ـ إن شاء الله ـ مصادفة طيبة، وأما تقصُّد هذا الوقت ففيه نظر، حتى يقوم دليل على ذلك. فالصواب: أنه متى تيسر العقد، سواء في المسجد أو البيت أو السوق أو الطائرة ونحو ذلك، وكذلك ـ أيضاً ـ يعقد في كل زمان.
(وإعلان النكاح).
أي: ويسن إعلان النكاح وإظهاره.
عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَعْلِنُوا اَلنِّكَاحَ) رَوَاهُ أَحْمَد.
والمقصود بإعلان النكاح: إشهاره و ضرب الدف عليه للنساء والغناء المباح، وجعله ظاهراً بين الناس لا خفية لا يعلم به إلا بعض الناس. وهذا الإشهار مستحب في النكاح.
(والضرب بالدفِ للنساء).
أي: ويسن أيضاً الضرب بالدف للنساء.
والفَرقُ بين الطبل والدف على الرَّاجِحِ: أنَّ الدُّفَّ مفتوحٌ مِن أحدِ طَرَفيه وليس له جلاجِلُ، أمَّا الطَّبلُ فمُغلَقٌ مِن الجِهَتين.
أ-قال صلى الله عليه وسلم (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت بالدف) رواه أحمد وغيره، وحسنه الألباني.
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم جعل ضرب الدف في النكاح وما يلحق به من إشهار النكاح بين الناس، جعل ذلك فارقاً بين هذا النكاح المشروع وبين السفاح الذي حرمه الشارع لخفائه وعدم إعلانه، وهذا من أوضح الأدلة على مشروعيته.
ب-وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم (أعلنوا النكاح).
ج-وعَنْ عَائِشَةَ (أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْو) رواه البخاري.
د-عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ (دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّى، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِين) رواه البخاري.
وهذا إنما كان في عرس الرُّبيِّع بنت مُعوَّذ رضي الله عنها.
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث أفاد مشروعية إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على هؤلاء الجواري ضربهن بالدف ولم ينكر عليها سماعها لهن.
هـ- (وكان عمر رضي الله عنه إذا استمع صوتاً أنكره وسأل عنه، فإن قيل عرس أو ختان أقرّه) رواه معمر بن راشد في كتاب الجامع وابن أبي شيبة.
وفي رواية للبيهقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سمع صوتاً أو دُفّاً قال: ما هذا؟ فإن قالوا: عرس أو ختان صمت.
ففسّرت رواية البيهقي الصوت الذي يُنكره عمر رضي الله عنه، وأنه صوت الدفّ.
ووجه الدلالة: أن عمر بن الخطاب كان يرى أن ضرب الدف في النكاح لا محظور فيه، بدليل سكوته، وعدم إنكاره.
و- وعن عامر بن سعد قال (دخلت على ابن مسعود وقرظة بن كعب وعندهما جوارٍ تغنين فقلت: أتفعلون هذا وأنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقال: إنه رُخِّص لنا في اللهو عند العرس) رواه النسائي وابن أبي شيبة والحاكم.
ك- وعن عمرو بن ربيعة أنه قال (كنت مع ثابت بن وديعة وقرظة بن كعب في عرس فسمعت صوت غناء، فقلت: ألا تسمعان؟ فقال: إنه قد رخص لنا في الغناء عند العرس والبكاء على الميت من غير نياحة) رواه ابن أبي شيبة والحاكم في المستدرك.
فائدة: 1
قال بعض العلماء:
روى البخاري أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ.
و (الْحِرَ) أي الزنا.
فهذا الحديث يدل على تحريم كل الآلات الموسيقية ومنها الدف.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: الدف حرام، والمعازف حرام، والكوبة [أي الطبل] حرام، والمزمار حرام. رواه البيهقي
ولكن وردت أحاديث تدل على إباحة الضرب بالدف في بعض المواطن وهي:
العيد، والعرس، وقدوم الغائب.
وهذه أدلتها مرتبة:
أولاً: عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ وَتِلْكَ الأَيَّامُ أَيَّامُ مِنًى) متفق عليه.
ثانياً: عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ (دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُولِي هَكَذَا وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِين) رواه البخاري.
قال المهلب: في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح. انتهى من (فتح الباري).
قال ابن بطال: اتفق العلماء على جواز اللهو في وليمة النكاح، مثل ضرب الدف وشبهه ما لم يكن محرمًا.
ثالثاً: عن بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ رضي الله عنه قال: (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلاَّ فَلَا) فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ، فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا، ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ). رواه الترمذي
قال ابن القيم رحمه الله: حديث صحيح، وله وجهان:
أحدها: أن يكون أباح لها الوفاء بالنذر المباح؛ تطييباً لقلبها؛ وجبراً وتأليفاً لها على زيادة الإيمان، وقوته، وفرحها بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن يكون هذا النذر قربة لما تضمنه من السرور والفرح بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم سالماً، مؤيداً، منصوراً على أعدائه، قد أظهره الله، وأظهر دينه، وهذا من أفضل القُرَب، فأُمرت بالوفاء به. (إعلام الموقعين).
وقال العراقي في (طرح التثريب) وقد يقترن بالضرب بالدف قصد جميل كجبر يتيمة في عرسها، وإظهار السرور بسلامة من قد يعود نفعه على المسلمين، ومن ذلك: ضرب هذه المرأة بالدف، فهو مباح بلا شك" انتهى.
وقال زكريا الأنصاري في (أسنى المطالب) وضرب الدف مباح في العرس والختان وغيرهما مما هو سبب لإظهار السرور كعيد وقدوم غائب وذكر حديث الجارية المتقدم.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) تعقيباً على حديث الجارية: "وهذا نص في إباحة الغناء عند قدوم غائب تأكيداً للسرور" انتهى.
فهذه الأحاديث تدل على جواز الضرب بالدف في هذه المواطن الثلاثة، وما عدا ذلك فيبقى على الأصل وهو التحريم، وتوسع بعض العلماء فقالوا يجوز الضرب بالدف في الولادة والختان، وتوسع آخرون أكثر فقالوا بجوازه في كل ما سبب لإظهار السرور كشفاء مريض ونحوه. (انظر الموسوعة الفقهية).
والأولى الاقتصار على ما ورد به النص والله اعلم.
…
(الإسلام سؤال وجواب).
فائدة: 2
حكم ضرب الدف للرجال؟
اختلف العلماء في حكم الضرب به للرجال في الأعراس:
فمذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة: الجواز.
لأن الأحاديث لم تفرق بين الرجال والنساء.
وذهب الحنفية، وبعض العلماء من المذاهب الأخرى إلى اختصاص الضرب به بالنساء؛ لأن المعهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أن يضرب به النساء لا الرجال، وهو من الأعمال الخاصة بهن.
وهو اختيار الحافظ ابن حجر، وابن قدامة المقدسي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء.
قال ابن حجر: والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء، فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: رُخِّصَ للنساءِ أن يَضْرِبْنَ بالدُّفِّ في الأعراسِ والأفراحِ، وأمَّا الرِّجالُ على عَهدِه فلم يَكُنْ أحدٌ منهم يَضرِبُ بدُفٍّ، ولا يُصَفِّق بكَف.
وقال الحافِظُ ابنُ رَجبٍ: ولهذا كان جمهورُ العلماءِ على أنَّ الضَّربَ بالدُّفِّ للغِناءِ لا يُباحُ فِعلُه للرِّجالِ؛ فإنَّه من التشبُّه بالنِّساء، وهو ممنوعٌ منه، هذا قولُ الأوزاعي وأحمد، وكذا ذكَرَ الحليمي وغيره من الشافعية
…
فأمَّا الغِناءُ بغَيرِ ضَربِ دُفٍّ، فإن كان على وجهِ الحُداء والنَّصْبِ [وهو ضَربٌ من أغانِي العرَبِ شِبْه الحُداء]، فهو جائزٌ، وقد رُوِيَت الرخصةُ فيه عن كثيرٍ من الصَّحابة.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: وإنما الرخصة لهن في استعمال الدف خاصة، أما الرجال فلا يجوز لهم استعمال شيء من ذلك لا في الأعراس ولا في غيرها، وإنما شرع الله للرجال التدرب على آلات الحرب كالرمي وركوب الخيل والمسابقة بها وغير ذلك.
وقال أيضاً رحمه الله أما الزواج فيشرع فيه ضرب الدف مع الغناء المعتاد الذي ليس فيه دعوة إلى محرم ولا مدح لمحرم في وقت من
الليل للنساء خاصة لإعلان النكاح والفرق بينه وبين السفاح كما صحت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(ولا يَنعقِدُ النكاح إلا بالإيجاب والقبول).
أي: لا يصح النكاح إلا بإيجاب وقبول.
فالإيجاب: وهو اللفظ الصادر من الولي، كقوله: زوجتك أو أنكحتك.
والقبول: وهو اللفظ الصادر من الزوج أو نائبه كقوله: قبلت هذا الزواج، أو قبلت، ونحوه.
(وَلَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ بِغَيْرِ لَفْظِ زَوَّجْتُ، أَوْ أَنْكَحْتُ).
أي: لابد أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ: زوجتك، أو أنكحتك.
فلو قال: جوزتك، أو ملكتك فإنه لا يصح.
وهذا المذهب، وهذا مذهب الشافعي وجماهير أصحابه.
أ- لأنهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن الكريم.
قال تعالى (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا .. ).
وقال تعالى (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
…
).
وقال ابن مفلح: ولا ينعقد الإيجاب إلا بلفظ النكاح والتزويج إجماعاً، لورودهما في نص القرآن في قوله تعالى (زَوَّجْنَاكَهَا)(وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم) ولا ينعقد بغيرهما، إذ العادل عنهما - مع معرفته لهما - عادل عن اللفظ الذي ورد القرآن بهما مع القدرة.
ب- قال الله تعالى (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين).
وجه الاستدلال: أنّ الآية دلَّت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصٌ بلفظ الهبة، فلا يجوز أن تشاركه الأمة في ذلك.
وقال ابن قدامة: ولنا: قوله تعالى (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين)، فذكر ذلك خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج-عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه في حديثه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) رواه مسلم.
وجه الاستدلال: قال الماوردي: فموضوع الدليل من هذا الحديث قوله (واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، وليس في كتاب الله إلا لفظ النكاح والتزويج، فدلَّ على أنه لم يستحل الفرج إلا بهما.
وقال البيهقي: وفيه الدليل على أنّ الفرج لا يُستباح إلا بكلمة الله: النكاح أو التزويج، وهما اللذان قد ورد بهما القرآن.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يشترط، وأنه يجوز بغير لفظ الإنكاح والتزويج، فأي لفظ يدل على النكاح فإنه يجوز.
وهذا قول جماهير العلماء، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.
أ-لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي طلب أن يزوجه الواهبة نفسها (ملكتكها بما معك من القرآن).
ب- ولحديث أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها) متفق عليه.
ج- ولأن العبرة في العقود المعاني، لا بالألفاظ والمباني، فألفاظ البيع والشراء والإجارة والهبة والنكاح ليست ألفاظاً تعبدية لا يجوز تجاوزها إلى غيرها، وإنما المرجع فيها إلى ما تعارف الناس عليه.
وهذا القول هو الصحيح.
شروط النكاح
(وَلَهُ شُرُوطٌ:)
أي: وللنكاح شروط:
هناك فرق بين شروط النكاح، والشروط في النكاح:
أولاً: شروط النكاح قيود وضعها الشرع ولا يمكن إبطالها، والشروط في النكاح شروط وضعها العاقد ويمكن إبطالها.
ثانياً: شروط النكاح يتوقف عليها صحته، والشروط في النكاح يتوقف عليها لزومه.
(أَحَدُهَا: تَعْيِينُ الزَّوْجَيْنِ).
هذا الشرط الأول من شروط النكاح: وهو تعيين الزوجين.
أ- لأن المقصود من النكاح التعيين، فلا يصح بدونه، كزوجتك بنتي وله غيرها. (الروض المربع).
ب- ولِأَنَّ كُلَّ عَاقِدٍ وَمَعْقُودٍ عَلَيْهِ يَجِبُ تَعْيِينُهُمَا، كَالْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعِ. (المغني).
ج- ولأن النكاح لابد فيه من الإشهاد، والإشهاد لا يكون على مبهم. (الشرح الممتع).
(فَإِنْ أَشَارَ الوَلِيُّ إِلَى الزَّوْجَةِ، أَوْ سَمَّاهَا، أَوْ وَصَفَهَا بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ صح).
هذه طرق تعيين الزوجة:
(فَإِنْ أَشَارَ الوَلِيُّ إِلَى الزَّوْجَةِ) هذا الطريق الأول: وهو الإشارة إلى الزوجة بيده.
كأن يقول: زوجتك بنتي هذه، ويشير إليها بيده.
قال ابن قدامة:
…
فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً، فَقَالَ: زَوَّجْتُك هَذِهِ صَحَّ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ تَكْفِي فِي التَّعْيِينِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: بِنْتِي هَذِهِ، أَوْ هَذِهِ فُلَانَةُ كَانَ تَأْكِيدًا.
(أَوْ سَمَّاهَا) هذا الطريق الثاني: أن يسميها باسمها التي تعرف به.
كأن يقول زوجتك بنتي عائشة.
(أَوْ وَصَفَهَا بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ) هذا الطريق الثالثة: أن يصفها بصفة تتميز به عن غيرها.
كأن يقول: زوجتك بنتي العوراء، أو القصيرة، أو الموظفة.
(أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَلَهُ وَاحِدَةٌ لَا أَكْثَرَ صَحَّ).
أي: لو قال الولي: زوجتك بنتي، وليس له غيرها، فإن ذلك يصح.
لعدم الإلباس.
(الثَّانِي: رِضَاهُمَا).
أي: الشرط الثاني من شروط النكاح: رضا الزوجين.
فلا يصح إجبار الرجل على نكاح من لا يريده، ولا إجبار المرأة على نكاح من لا تريده.
عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ: أَنْ تَسْكُت) رواه مسلم. [الأيم] هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق، وقد تطلق على من لا زوج لها.
وعند مسلم (وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويجها بدون إذنها، ولو لم يكن إذنها معتبراً لما جعله غاية لإنكاحها.
ب- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود.
ج- وقياساً على البيع فإنه يشترط فيه الرضا فكذلك النكاح.
(إِلاَّ البَالِغَ المَعْتُوهَ، وَالمَجْنُونَةَ، وَالصَّغِيرَ، وَالبِكْرَ وَلَوْ مُكَلَّفَةً).
ذكر هنا من لا يشترط رضاهم:
(الصَّغِيرة) أي: التي لم تبلغ، فهذه لا يشترط رضاها.
قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز، إذا زوجها من كفء.
وقال المهلب: وأجمعوا أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها.
وقال ابن بطال: يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعاً، ولو كانت في المهد، لكن لا يمكّن منها حتى تصلح للوطء.
وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن للأب أن يزوج ابنته الصغيرة ولا يشاورها، لتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين، إلا أن العراقيين قالوا: لها الخيار إذا بلغت، وأبى ذلك أهل الحجاز، ولا حجة مع من جعل لها الخيار - عندي - والله أعلم.
أ-عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِي وَأَنَا بِنْتُ تِسْعِ سِنِين) متفق عليه.
وجه الدلالة: تزويج أبي الصديق ابنته عائشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة، ومعلوم أنها لم تك في تلك الحال ممن يعتبر إذنها.
قال النووي: هَذَا صَرِيح فِي جَوَاز تَزْوِيج الْأَب الصَّغِيرَة بِغَيْرِ إِذْنهَا لِأَنَّهُ لَا إِذْن لَهَا، وَالْجَدّ كَالْأَبِ عِنْدنَا
…
وَأَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز تَزْوِيجه بِنْته الْبِكْر الصَّغِيرَة لِهَذَا الْحَدِيث، وَإِذَا بَلَغَتْ فَلَا خِيَار لَهَا فِي فَسْخه عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَسَائِر فُقَهَاء الْحِجَاز.
ب- فعل الصحابة: فقد زوّج علي بن أبي طالب ابنته أم كلثوم وهي صغيرة، عمر بن الخطاب. أخرجه البيهقي.
(وَالبِكْرَ وَلَوْ مُكَلَّفَةً) أي: البنت البكر البالغة، فهذه لا يشترط رضاها.
وهذا مذهب مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، وعليها جماهير أصحابه.
أي: أن للأب أن يجبر بنتها البكر البالغة على النكاح.
واستدلوا: أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تُنْكَحُ اَلْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ اَلْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا? قَالَ: " أَنْ تَسْكُتَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وجه الدلالة: أنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها، وأما الاستئذان فهو تطييب لخاطرها.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجب استئذانها ولا تجبر على النكاح.
وهذا مذهب أبي حنيفة، والثوري، ورجحه ابن المنذر، واختاره ابن تيمية.
أ-للحديث السابق (ولا تنكح البكر حتى تستأذن).
وجه الدلالة: فعلق النبي صلى الله عليه وسلم النكاح على الإذن، فدل على أنه واجب.
ب- وفي رواية (والبكر يستأذنها أبوها في نفسها) وهذا نص في محل النزاع.
ج- وعن ابن عباس: (أن جارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود. (هذا الحديث أعله أبو حاتم، وأبو زرعة، والبيهقي بالإرسال، وقد رد ابن القيم التعليل بالإرسال).
ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ نكاح البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة، فدل على أن إذن البكر لا بد منه في النكاح.
ج- أنه لا ولاية للأب فضلاً عن غيره في التصرف في مالها إلا بإذنها، وبُضعها أعظم من مالها.
وهذا القول هو الراجح.
ورجحه ابن القيم، وقال: وهو الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته.
الخلاصة:
إذن المرأة في الزواج له أحوال:
أولاً: أن تكون البنت بكراً صغيرة، فهذه يجوز تزويجها من غير إذنها.
ثانياً: أن تكون بكراً بالغة، فالمذهب للأب إجبارها، والراجح أنه لا يجوز إجبارها.
ثالثاً: أن تكون ثيباً.
فهذه لا بد من رضاها واستئمارها بذلك.
قال ابن تيمية: وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين.
أ- للحديث السابق (لَا تُنْكَحُ اَلْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ)، وفي رواية (الأيم أحق بنفسها من وليها).
ب- وعَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ (أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْىَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ نِكَاحَهَا) رواه البخاري.
وجه الدلالة: ردّ الرسول صلى الله عليه وسلم نكاح خنساء، لأنها زوّجت بغير إذنها، مع أن المزوّج كان أباً.
ج- أن الثيب الكبيرة، رشيدة، عالمة بالمقصود من النكاح، وقد خبرت الرجال، وهي أدرى بمصلحتها، فلم يجز إجبارها على النكاح.
فائدة: 1
أما غير الأب،
فلا يجوز له أن يزوج البكر الكبيرة بالاتفاق.
قال الشافعي: ولم أعلم أهل العلم اختلفوا في أنه ليس لأحد من الأولياء غير الآباء أن يزوّج بكراً ولا ثيباً إلا بإذنها.
فائدة: 2
بم يكون إذن الثيب والبكر؟
أما الثيب، فقد اتفق الفقهاء أن إذنها بالنطق.
أ-للحديث السابق (لَا تُنْكَحُ اَلْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ اَلْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ .. ).
وجه الدلالة: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن إذن البكر هو السكوت، فدل بمفهومه على أن إذن الثيّب بالنطق
ب- قال صلى الله عليه وسلم (الثيب تعرب عن نفسها) رواه أحمد وابن ماجه.
وجه الدلالة: أن الحديث صريح في أن الثيب تعرب عن نفسها، والإعراب لا يكون إلا بالكلام.
ج-من المعقول: أن البكر تستحي لعدم مخالطة الرجال، والحياء يمنعها من النطق، فلذلك جعل إذنها سكوتها، وأما الثيب فقد مارست الرجال، وخالطتهم فلم يبق لديها حياء الأبكار، فجعل إذنها بالنطق.
وأما البكر، فإذنها الصمت.
وبهذا قال عامة العلماء.
للحديث السابق (وَكَيْفَ إِذْنُهَا? قَالَ: " أَنْ تَسْكُتَ).
(الثَّالِثُ: الوَلِيُّ).
أي: الشرط الثالث من شروط النكاح: الولي.
والمراد بالولي: القريب الذي ولاه الله أمر تزويج من لا يجوز أن يزوج نفسه بنفسه، كالمرأة، والصغير.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال البغوي في (شرح السُنّة) والعمل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: لا نكاح إلا بولي، عند عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم.
ويدل على أنه لا بد من ولي لصحة النكاح:
أ- قوله تعالى (فَلا تَعْضُلُوهُن).
فقد جاء في سبب نزولها ما رواه البخاري: عن مَعْقِل بْن يَسَار (أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتاً لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَداً، وَكَانَ رَجُلاً لَا بَأْسَ بِهِ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنَّ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فَقُلْتُ الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاه). رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر في شأن هذه الآية: وهي أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لرفضه معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوج
نفسها لم تحتج إلى أخيها.
وقال القرطبي: ففي الآية دليلٌ على أنّه لا يجوزُ النكاحُ بغير ولي لأنّ أُختَ معقل كانت ثيباً، ولو كان الأمرُ إليها دون وليها لزوّجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل فالخطاب إذاً في قوله تعالى (فلا تعضلوهن) للأولياء، وأنّ الأمر إليهم في التزويج مع رضاهن.
وقال الإمام الطبري: وفي هذه الآية الدلالةُ الواضحة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي من العصبة.
ب- وقال تعالى (ولا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا .. ) فالذي يُنكح هو الولي، فالخطاب للأولياء.
قال الحافظ في الفتح: ووجه الاحتجاج من الآية والتي بعدها أنّه تعالى خاطب بالنكاح الرجال، ولم يخاطب به النساء فكأنه قال: لا تُنكحوا أيها الأولياء مولياتكم للمشركين.
وقال ابن كثير: لا تُزوِّجوا الرجالَ المشركين النساء المؤمنات.
وقال القرطبي في الجامع: وفي هذه الآية دليل بالنصّ على أنه لا نكاح إلا بولي.
ج- وعن أبي موسى الأشعري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي) رواه أبوداود.
دـ- وعن عائشة. قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) رواه أبوداود.
هـ- وقال صلى الله عليه وسلم (لا تزوج المرأة نفسها) رواه ابن ماجه.
و- وقول عمر لعثمان - بعد أن تأيمت حفصة - (إن شئت أنكحتك حفصة) رواه البخاري.
فائدة:
ذهب بعض العلماء إلى عدم اشتراط الولي، وقاسوا ذلك على البيع، وهذا قول ضعيف.
والقياس على البيع قياس لا يصح لأمرين:
أولاً: هذا قياس باطل، لأنه في مقابلة النص.
ثانياً: لأن عقد النكاح أخطر من عقد البيع.
قال ابن حجر: وذهب أبو حنيفة إلى انه لا يُشترط الولي أصلاً، ويجوز أن تُزوِّج المرأةُ نفسها ولو بغير إذن وليها إذا تزوجت كفؤاً، واحتج بالقياس على البيع فإنها تستقل به، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الصغيرة وخصّ بهذا القياس عمومها- وهو عمل سائغ في الأصول وهو جواز تخصيص العموم بالقياس - لكنّ حديث معقل المذكور رفع هذا القياس.
(وَشُرُوطُهُ: التَّكْلِيفُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالحُرِّيَّةُ، وَالرُّشْدُ فِي العَقْدِ، وَاتِّفَاقُ الدِّينِ).
هذه الشروط التي يجب توافرها بالولي:
والشروط جمع شرط، والشرط اصطلاحًا: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. كالطهارة للصلاة، والعقل للوليّ.
الأول: أن يكون مكلفاً (بالغاً عاقلاً):
لأن غير المكلف يحتاج من يتولى أمره فكيف يتولى أمر غيره.
قال ابن قدامة: أمَّا الْعَقْلُ، فَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ نَظَرًا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّظَرُ، وَلَا يَلِي نَفْسَهُ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لِصِغَرِهِ كَطِفْلٍ، أَوْ مَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ كِبَرٍ، كَالشَّيْخِ إذَا أَفْنَدَ قَالَ الْقَاضِي: وَالشَّيْخُ الَّذِي قَدْ ضَعُفَ لِكِبَرِهِ، فَلَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْحَظِّ لَهَا، لَا وِلَايَةَ لَهُ.
ثانياً: أن يكون ذكراً:
فالمرأة لا تكون ولية في النكاح، لأنها هي بحاجة إلى ولي فكيف تتولى أمر غيرها.
ولأنها ولاية يعتبر فيها الكمال، والمرأة ناقصة قاصرة.
وقد جاء في الحديث قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُزَوِّجُ اَلْمَرْأَةُ اَلْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ اَلْمَرْأَةُ نَفْسَهَا) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَه.
ثالثاً: أن يكون حراً.
لأن العبد لا ولاية له على نفسه، ففي غيره أولى.
رابعاً: أن يكون رشيداً:
والرشد في باب النكاح: هو معرفة الكفء ومصالح النكاح.
خامساً: اتفاق الدين.
يعني بين المرأة ووليها، فلا ولاية لكافر على مسلمة.
وقد نقل ابن المنذر، وابن قدامة، وابن رشد الإجماع على ذلك.
قال ابن قدامة: أما الكافر فلا ولاية له على مسلمة بحال، بإجماع أهل العلن.
فائدة: 1
هناك مسائل لا يشترط فيها اتفاق الدين:
أمَة كافرة لمسلم، والسلطان يزوج من لا ولي لها من أهل الذمة.
أمة كافرة لمسلم: يعني إنساناً عنده أمة، وهو مسلم وهي كافرة، فهذا يزوجها؛ لأنه سيدها، ولا نقول له: أنت مسلم وهي كافرة، فتجبر على إزالة الملك؛ لأن السيد أعلى.
والسلطان يزوج من لا ولي لها من أهل الذمة: فإذا وُجِدَ امرأة من أهل الذمة ما لها ولي فله أن يزوجها، مع أنها كافرة وهو مسلم.
فائدة: 2
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْوَلِيِّ على رَأْيَيْنِ:
الأول: تشترط.
وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
لحديث (لا نكاح إلا بإذن ولي مرشد) رواه الطبراني. (الصحيح أنه موقوف).
وقد نقل عن الشافعي رحمه الله قوله: والمراد بالمرشد في الحديث العدل، أي أنَّ الفاسق غير رشيد.
ب-ولأنَّ ولاية النِّكاح ولاية نظر، فلا تثبت لفاسق، كولاية المال.
ج- ولأنَّ الفسق عيب قادح في الشهادة فكذلك الولاية.
والرأي الثاني: لا تشترط.
وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
أ-لأن فسقه لا يمنع وجود الشفقة لديه ورعاية المصلحة لقريبه، ولأن حق الولاية عام.
ب- ولم ينقل أن ولياً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده منع من التزويج بسبب فسقه.
ج- ولأنَّ الفاسق يلي نكاح نفسه، فثبت له الولاية على غيره كالعدل.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم: إنه الصحيح، فللرجل أن يزوج ابنته ولو كان فاسقاً، لأن ولاية النكاح ولاية نظر، والفسق لا يقدح في القدرة على تحصيل النظر، والرجل ولو كان فاسقاً يختار لموليته الكفء خشية لحوق العار بهم. (فقه الدليل).
(وَأَحَقُّ النَّاسِ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَبُوهَا، ثم أبوه وإن علا).
أي: أن أولى الناس بتزويج الحرة أبوها، وَلَا وِلَايَةَ لَأَحَدٍ مَعَهُ.
لِأَنَّ الْأَبَ أَكْمَلُ نَظَرًا، وَأَشَدُّ شَفَقَةً، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ فِي الْوِلَايَةِ.
(ثم أبوه) يعني الجد، فإنه كالأب في مزيد حنوه ورأفته على بنات ابنه.
قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ غَيْرَ الْأَبِ، وَأَوْلَى الْأَجْدَادِ أَقْرَبُهُمْ وَأَحَقُّهُمْ فِي الْمِيرَاثِ.
فائدة:
قال ابن قدامة: إنَّمَا قَيَّدَ الْمَرْأَةَ بِالْحُرَّةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا وِلَايَةَ لِأَبِيهَا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا وَلِيُّهَا سَيِّدُهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ.
(ثُمَّ ابْنُهَا وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ).
أي: مَتَى عُدِمَ الْأَبُ وَآبَاؤُهُ، فَأَوْلَى النَّاسِ بِتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ ابْنُهَا، ثُمَّ ابْنُهُ بَعْدَهُ وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ.
لأنه أولى بالميراث من غيره، فكذا في النكاح.
(ثُمَّ أَخُوهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا).
لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَقْدِيمِ الْأَخِ بَعْدَ عَمُودَيْ النَّسَبِ؛ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ الْعُصُبَاتِ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّهُ ابْنُ الْأَبِ، وَأَقْوَاهُمْ تَعْصِيبًا، وَأَحَقُّهُمْ بِالْمِيرَاثِ. (المغني).
(ثم لأب ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ).
أي: ثم الأخ لأب، ثم بنو الإخوة لأبوين، ثم بنو الإخوة لأب، ثم الأعمام كذلك، ثم بنوهم.
يقدم في جهة الولاية: الأبوة، ثم البنوة، ثم الأخوة، ثم العمومة.
أمثلة: لو كان للبنت ابن وأب، فالأب هو الذي يزوج، لو وجد ابن وأخ شقيق، فيقدم الابن.
فائدة: 1
هل تستفاد الولاية بالوصية؟
لا خلاف بين الفقهاء في أن للولي أن يوكّل عنه من يعقد النكاح في حياته.
واختلفوا فيما لو أوصى من يُنكح موليته بعد وفاته، فهل تكون للوصي ولاية النكاح كالوكيل؟
فذهب الحنفية والشافعية وأحمد في رواية إلى أنه لا تستفاد ولاية النكاح بالوصية.
وقالوا: إن زَوَّجها في حياة الموصي فهو وكيل. وإن كان الميت قد أوصى إليه فلا يملك ذلك؛ ويكون الحق في تزويجها لعصبتها، كأخيها وعمها.
وذهب المالكية والحنابلة في المذهب إلى أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية.
قال في (كشاف القناع) ووصي كلِّ واحدٍ من الأولياء في النكاح بمنزلته، لقيامه مقامه، فتستفاد ولاية النكاح بالوصية إذا نص له على التزويج، لأنها ولاية ثابتة للولي فجازت وصيته بها كولاية المال، ولأنه يجوز أن يستنيب فيها في حياته ويكون نائبه قائما مقامه فجاز أن يستنيب فيها بعد موته.
ورجح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه لا تستفاد ولاية النكاح بالوصية.
قال: والصحيح أنها لا تستفاد بالوصية، وأنها تسقط بموت صاحبها، فإذا مات الأب فإنه لا حق له في الوصية بالتزويج، بل إن الوصية في الأصل لم تنعقد؛ لأن ولاية النكاح ولاية شرعية تستفاد من الشرع، ونحن إذا قلنا باستفادة الولاية بالوصية ألغينا ما اعتبره
الشرع، فكما أن الأب لا يوصي بأن يرث ابنه وصيه، فكذلك لا يوصي بأن يزوج بنته وصيه.
فلو أن إنساناً قال: أوصيت بنصيب بنتي أن يملكه فلان، ومات الأب ثم ماتت البنت، فهل يرثها الوصي؟ لا يرثها؛ لأنه لا يملك بالوصاية، كذلك الولاية لا تملك بالوصاية، فإذا مات الأب وقد أوصى بطلت الوصية، وهذا هو القول الصحيح؛ لأن الولاية متلقاة من الشرع.
نعم، له أن يوكل ما دام حياً، أما بعد الموت فولايته ماتت بموته.
…
(الشرح الممتع).
فائدة: 2
قال ابن قدامة: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةَ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَدَمِ أَوْلِيَائِهَا أَوْ عَضْلِهِمْ.
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
لقوله النبي صلى الله عليه وسلم (فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد.
وَلِأَن لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةً عَامَّةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَلِي الْمَالَ، وَيَحْفَظُ الضَّوَالَّ، فَكَانَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ كَالْأَبِ. (المغني).
(فَإِنْ عَضَلَ الأَقْرَبُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً، أَوْ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا تُقْطَعُ إِلاَّ بِكُلْفَةٍ، وَمَشَقَّةٍ زَوَّجَ الأَبْعَدُ).
هذه حالات: متى يجوز تزويج الولي الأبعد:
الحالة الأول: (فَإِنْ عَضَلَ الأَقْرَبُ).
أي: منع الولي الأقرب من تزويجها من كفء وهي ترغبه.
الحالة الثانية (أَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً).
أي: كان الولي الأقرب ليس بأهل، كأن يكون صغيراً، أو مجنوناً.
الحالة الثالثة (أَوْ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا تُقْطَعُ إِلاَّ بِكُلْفَةٍ، وَمَشَقَّةٍ).
أي: إذا غاب الأقرب غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة فإنه يزوج الأبعد.
هذا حد الغيبة المنقطعة عند الحنابلة: هي التي تقطع بكلفة عرفاً.
وحد الغيبة المنقطعة عند الحنفية هو أن يكون في بلد لا تصل إليها القوافل في السنة إلا مرة واحدة، وهو اختيار القدوري.
وقيل: أدنى مدة السفر; لأنه لا نهاية لأقصاه، وقيل: إذا كان بحال يفوت الخاطب الكفء باستطلاع رأي الولي.
فائدة:
قال ابن قدامة: وَمَعْنَى الْعَضْلِ مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنْ التَّزْوِيجِ بِكُفْئِهَا إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَرَغِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ.
وَسَوَاءٌ طَلَبَتْ التَّزْوِيجَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ دُونَهُ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُمْ مَنْعُهَا مِنْ التَّزْوِيجِ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عَارًا، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى نِسَائِهَا، لِنَقْصِ مَهْرِ مِثْلِهِنَّ.
فَإِنْ رَغِبَتْ فِي كُفْءٍ بِعَيْنِهِ، وَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَكْفَائِهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا مِنْ الَّذِي أَرَادَتْهُ، كَانَ عَاضِلًا لَهَا.
فَأَمَّا إنْ طَلَبَتْ التَّزْوِيجَ بِغَيْرِ كُفْئِهَا، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ عَاضِلًا لَهَا. (المغني).
وقد عده بعض العلماء من الكبائر، جاء في (الزواجر عن اقتراف الكبائر) الكبيرة الخامسة والخمسون بعد المائتين: عضل الولي موليته عن النكاح، بأن دعته إلى أن يزوجها من كفء لها، وهي بالغة عاقلة: فامتنع.
جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ الْعَضْل مِنَ الْوَلِيِّ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَضْل بِسَبَبٍ مَقْبُولٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى غَيْرِهِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَنْتَقِل إِلَيْهِ الْوِلَايَةُ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - عَدَا ابْنَ الْقَاسِمِ - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَنْتَقِل إِلَى السُّلْطَانِ.
لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَه).
وَلأِنَّ الْوَلِيَّ قَدِ امْتَنَعَ ظُلْمًا مِنْ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فَيَقُومُ السُّلْطَانُ مَقَامَهُ لإِزَالَةِ الظُّلْمِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَامْتَنَعَ عَنْ قَضَائِهِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا عَضَل الْوَلِيُّ الأْقْرَبُ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْوَلِيِّ الأْبْعَدِ.
لأنه تَعَذَّرَ التَّزْوِيجُ مِنْ جِهَةِ الأْقْرَبِ فَمَلَكَهُ الأْبْعَدُ كَمَا لَوْ جُنَّ،؛ وَلأِنَّهُ يَفْسُقُ بِالْعَضْل فَتَنْتَقِل الْوِلَايَةُ عَنْهُ.
فَإِنْ عَضَل الأْوْلِيَاءُ كُلُّهُمْ زَوَّجَ الْحَاكِمُ، وَأَمَّا قَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ فَيُحْمَل عَلَى مَا إِذَا عَضَل الْكُل. (الموسوعة)
(وَإِنْ زَوَّجَ الأَبْعَدُ، أَوْ أَجْنَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَصِحَّ).
أي: وإن زوج المرأة الولي الأبعد، أو زوجها أجنبي من عير عذر للأقرب لم يصح النكاح.
أ- لعدم الولاية من العاقد عليها مع وجود مستحقها. (الروض المربع).
ب- لأن هذا مستحق بالتعصيب، فلم يثبت للأبعد مع وجود الأقرب؛ كالميراث. وبهذا فارق القريب. (المغني).
سئل الشيخ ابن عثيمين: امرأة عقد لها ابنها مع وجود أبيها، ما حكم هذا العقد؟
فأجاب: ننظر أيهما أولى أن يزوج المرأة أبوها أو ابنها؟ الجواب: أبوها هو الذي يزوجها، فإذا زوجها ابنها مع وجود الأب فإن كان الأب في مكان بعيد لا يمكن مراجعته فلا حرج، أو كان الأب منعها أن يزوجها من هذا الشخص الذي رضيته وهو كفء في دينه وخلقه فلا بأس أن يزوجها ابنها، أما إذا كان الأب حاضراً ولم يمتنع فالعقد غير صحيح وتجب إعادته. (لقاء الباب المفتوح لقاء).
فائدة:
قال ابن قدامة: فإن لم يوجد للمرأة وليّ ولا سلطان، فعن أحمد ما يدل على أنه يزوجها رجل عدل بإذنها.
وقال ابن تيمية: أما من لا ولي لها فإن كان في القرية أو المحلة نائب حاكم زوجها .. ورئيس القرية، وإذا كان فيهم إمام مطاع زوّجها أيضاً بإذنها.
(الرَّابِعُ: الشَّهَادَةُ).
أي: الشرط الرابع من شروط النكاح: الشهادة.
أي: أن يشهد على عقد النكاح شاهدان.
وهذا قول أكثر العلماء.
قال به الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
قال ابن قدامة: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
…
(المغني).
وقال ابن رشد: وكثير من الناس رأى هذا داخلاً في باب الإجماع وهو ضعيف. (بداية المجتهد).
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: لا نكاح إلا بشهود، لم يختلفوا في ذلك من مضى منهم إلا قوماً من المتأخرين من أهل العلم.
واستدل الجمهور بعدة أحاديث فيها ضعف:
عن جابر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) رواه الدارقطني وهو ضعيف بزيادة وشاهدي عدل.
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل وإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له).
ففي هذا الحديث نص صريح على نفي صحة النكاح إلا بالشاهدين كما أنه لا يصح إلا بولي.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي وشاهدين ومهر ما قل أو كثر).
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل).
وهذه الأحاديث - وإن كانت ضعيفة - لكن يقوي بعضها بعضاً، كما قال الشوكاني.
ب- وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الْوَلَدُ، فَاشْتُرِطَتْ الشَّهَادَةُ فِيهِ، لِئَلَّا يَجْحَدَهُ أَبُوهُ، فَيَضِيعَ نَسَبُهُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
ج- ولأن في اشتراط الشهادة في عقد النكاح احتياطاً للأبضاع، وصيانة للأنكحة عن الجحود.
جاء في (نيل المآرِب بشرح دليل الطالب) منْ شروطِ صحةِ النكاح: الشهادة عليهِ؛ احتياطاً للنَّسَبِ خوفَ الإِنكارِ، ولأنّ الغَرَضَ من الشَّهادةِ إعلانُ النكاحِ، وأن لا يكون مستوراً "
وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا أعلن النكاح لا يشترط الشهادة. (المغني).
وهذا قول مالك واختاره ابن تيمية وقالوا: إن زيادة وشاهدي عدل لا تصح.
قال ابن المنذر: لا يثبت في الشاهدين خبر.
والراجح أنها شرط لصحة النكاح.
قال الشوكاني: وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَدَاوُد أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْإِشْهَادُ وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَكْفِي الْإِعْلَانُ بِالنِّكَاحِ، وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَوَّلُونَ؛ لِأَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالنَّفْيُ فِي قَوْلِهِ:" لَا نِكَاحَ" يَتَوَجَّهُ إلَى الصِّحَّةِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ شَرْطًا لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَلْزَمَ عَدَمُهُ عَدَمَ الصِّحَّةِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ شَرْط. (نيل الأوطار)
(فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ، عَدْلَيْنِ، ذَكَرَيْنِ، مُكَلَّفَيْنِ، سَمِيعَيْنِ، نَاطِقَيْنِ).
هذه شروط الشهود:
(أن يكونا عدلين) فلا تقبل شهادة الفاسق.
والعدالة: هي: الصلاح في الدين والمروءة، باستعمال ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه، والعدالة معتبرة في الشهادة بنص القرآن والسنة.
قال تعالى (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم).
وجه الدلالة: لما شرط الله العدالة في الشهادة على الرجعة وهي أخف كان اشتراطها في النكاح أولى؟
ب- ولحديث عائشة وقد تقدم (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل).
فالحديث حجة على اشتراط العدالة في الشهود.
ج- ولأن كل موضع وجبت فيه الشهادة اعتبرت فيه العدالة كالحقوق.
(ذكَرَيْنِ) فلا تصح شهادة الأنثى، ولا شهادة رجل وامرأتين.
أ-قال الزهري: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق.
ب- ولأن النكاح عقد ليس بمال ولا يقصد منه المال ويحضره الرجال في غالب الأحوال؛ فلم يثبت بشهادتهن كالحدود.
ج- قالوا: إن هذا القول مروي عن عدد من التابعين مثل: إبراهيم النخعي والحسن البصري وابن المسيب وقتادة وربيعة وعمر بن عبد العزيز.
د- ولأن هذا الأمر يطلع عليه الرجال.
قال ابن قدمة: وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ.
(مُكَلَّفَيْنِ) بالغين عاقلين.
(سَمِيعَيْنِ) لأن الأصم لا يسمع العقد فيشهد به.
(نَاطِقَيْنِ) أي: فلا بد أن يكون الشاهد ناطقاً لا أخرس.
لأن الشهادة تفتقر إلى صريح اللفظ، والأخرس لا يتأتى منه ذلك، فلا يتمكن من أداء الشهادة فوجوده كعدمه.
فائدة: 1
حكم شهادة عمودي نسب الزوجين والولي في النكاح:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: ينعقد النكاح بشهادة عمودي نسب الزوجين أو عمودي نسب الولي.
وهذا هو مذهب الحنفية، والصحيح عند الشافعية، ووجه في مذهب الإمام أحمد، وقدمه ابن قدامة.
أ- لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) فيدخل فروع الزوجين وأصولهما، وكذا فروع الولي وأصوله في هذا العموم ولا مخصص لهم.
ب- ولأنه ينعقد بالفروع والأصول نكاح غير هذا الزوج، لأنهم أهل الشهادة لذا انعقد بهما النكاح كسائر العدول.
القول الثاني: لا ينعقد النكاح بشهادة عمودي نسب الزوجين أو عمودي نسب الولي.
وهذا القول هو مذهب الحنابلة، ووجه عند الشافعية.
أ- قالوا: إن شهادة الابن لا تقبل لوالده وكذا العكس للتهمة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حداً ولا مجلودة ولا ذي غمر لأخيه ولا مجرب شهادة ولا القانع أهل البيت لهم، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة).
وموضع الاستدلال في قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا ظنين في ولاء ولا قرابة) أي متهم في شهادته بسبب القرابة، والأب يتهم لولده وكذا العكس.
ولأن بين الفروع والأصول بعضية فكأن الشاهد يشهد لنفسه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها).
قال الشيخ ابن عثيمين: القول الثاني في المسألة: أنه يصح أن يكون الشاهدان أو أحدهما من الأصول أو من الفروع، وهذا القول هو الصحيح بلا شك؛ لأن شهادة الأصول والفروع ممنوعة حيث كانت شهادة للإنسان؛ خشية التهمة، أما حيث تكون الشهادة عليه وله، كما هو الحال في عقد النكاح فلا تمنع
…
فالنكاح في الحقيقة ليس حقا للزوج أو للزوجة، ولا حقا عليه، بل هو له وعليه؛ لأنه يوجب حقوقاً للعاقد وحقوقاً عليه، فالصواب إذاً أنه يصح العقد، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، واختارها كثير من الأصحاب (الشرح الممتع).
فائدة: 2
اختلف الفقهاء في شهادة الإخوة على عقد زواج أخيهم أو أختهم:
فذهب الحنفية إلى جواز شهادتهم وصحة العقد بها ابتداء.
وذهب المالكية إلى خلاف ما ذهب إليه الحنفية، حيث لم يجيزوا شهادة كل من يصح أن يكون ولياً للزوجة.
وأما الشافعية، فشهادة الإخوة عندهم على عقد أختهم جائزة بشرط عدم توكيل غيرهما من الأولياء في العقد، فإن وكلا غيرهما من الأولياء في العقد لم تصح شهادتهما. والقاعدة عند الحنابلة أن الشهود إذا كانوا من غير عمودي النسب (وهم أصول وفروع الزوجين) جازت شهادتهم، ما لم يكن الشاهد ابناً للولي.
…
والله أعلم.
فائدة: 3
حكم شهادة الأعمى:
اختلف في صحة عقد النكاح بشهادة الأعمى على قولين:
القول الأول: ينعقد النكاح بشهادة الأعمى.
وهو قول الإمام أحمد، ووجه عند الشافعية.
وقال به الحسن البصري وابن سيرين وعطاء والشعبي، وهو قول البخاري، وابن حزم.
أ- أن الشهادة في النكاح شهادة على قول فصحت من الأعمى كالشهادة بالاستفاضة، وإنما تعتبر شهادتهما إذا تيقنا الصوت على وجه لا يشك فيه.
ب- أن قبول شهادة الأعمى مروي عن جابر، وابن عباس، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة لحصول العلم له بذلك كاستمتاعه بزوجته.
ج- الأعمى ثبتت السنة بجواز نكاحه ومبايعته وبقبول تأذينه وروايته، فكذا شهادته على ما استيقنه من الأصوات
القول الثاني: لا ينعقد النكاح بشهادة الأعمى.
وهو مذهب الحنفية، والصحيح في مذهب الشافعية.
أ- لأن الأعمى لا يميز بين المشهود له والمشهود عليه إلا بدليل مشتبه وهو النغمة والصوت، فلم تصح شهادته لورود الشبهة.
ب- قياس الأعمى على الأصم في عدم جواز صحة عقد النكاح بشهادته بجامع عدم معرفتهما التامة للعاقد، ولعدم الرؤية في الأعمى وعدم السماع في الأصم.
والراجح الجواز.
(وَلَيْسَتِ الكَفَاءَةُ ـ وَهِيَ دِينٌ ونسب - شَرْطاً فِي صِحَّتِهِ).
أي: أن الكفاءة في الدين ليست شرطاً في صحته، لكن للزوم النكاح، فلِمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ.
الكفاءة لغة: المماثلة و المساواة، فيقال: فلان كفء لفلان، أي مساوٍ له، وكل شيء يساوي شيئاً فهو مكافئ له، وكُفء و كَفء و كِفء والجمع أكفاء و كِفاء بمعنى مثلٌ و نظير. و في الحديث (المؤمنون تتكافأ دماؤهم).
والكفاءة اصطلاحاً: هي المماثلة بين الزوجين في أمور مخصوصة.
وقد اختلف العلماء: هل الكفاءة شرط لصحة النكاح أم لا على أقوال:
القول الأول: أن النسب معتبر به في الكفاءة، وهو شرط لصحة النكاح. (الأعجمي ليس كفواً للعربية).
أ- لحديث (اَلْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ، إِلَّا حَائِكٌ) وهو حديث لا يصح.
ب- عن عائشة قالت (تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم) رواه ابن ماجه.
وجه الاستدلال: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإنكاح الأكفاء، والكفاءة إذا أطلقت انصرفت إلى النسب؛ لأنّ العرب يعدُّون الكفاءة في النسب، ويأنفون من نكاح الموالي، ويرون ذلك نقصًا وعارًا، فإذا أطلقت الكفاءة وجب حملها على المتعارف، وهو النسب.
ج- قال عمر (لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء) رواه البيهقي.
وجه الاستدلال: ظاهر في منع عمر ذوات الأحساب - وهي الأنساب - إلا ممن كافأهنّ في ذلك.
لكن هذا لا يثبت عن عمر.
فيه تدليس حبيب. قال ابن حجر: ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس.
وفيه الانقطاع بين إبراهيم وعمر، فإنه لم يدركه فضلاً عن أن يسمع منه.
د- قال ابن قدامة: ولأن العرب يعدون الكفاءة في النسب، ويأنفون من نكاح الموالي، ويرون ذلك نقصاً وعاراً، فإذا أطلقت الكفاءة، وجب حملها على المتعارف، ولأن في فقد ذلك عاراً ونقصاً، فوجب أن يعتبر في الكفاءة كالدين.
القول الثاني: أن النسب معتبر به في الكفاءة، ولكنه شرط لزوم وليس شرط صحة.
وبه قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم.
أ- واستدلوا هؤلاء بالأدلة السابقة، ولكنهم لم يحملوها على اشتراط الكفاءة لصحة النكاح، وإنما جعلوها دالة على اشتراطها للزوم.
ومن المعقول:
ب- قالوا: أن في ذلك غضاضة على أولياء المرأة وعليها، فالأمر إليهم في ذلك.
ج- أن المعنى في اشتراط الأولياء في النكاح لكيلا تضع المرأة نفسها عند غير الكفء.
تنبيه: الفرق بين اللزوم والصحة أن كون الكفاءة شرطًا للزوم العقد معناه أن المرأة إذا تزوجت غير كفءٍ كان العقد صحيحًا، وكان لأوليائها حق الاعتراض عليه وطلب فسخه دفعًا لضرر العار عن أنفسهم، إلا أن يسقطوا حقَّهم في الاعتراض فيلزم، ولو كانت الكفاءة شرطًا للصحة لما صح العقد أصلًا.
القول الثالث: أن النسب لا اعتبار به في الكفاءة، وإنما الكفاءة في الدين فقط.
وبه قال المالكية، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم.
واختاره ابن حزم فقال: أي مسلم -ما لم يكن زانياً- فله الحق أن يتزوج أية مسلمة، ما لم تكن زانية.
أ- لقوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
ب- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يَا بَنِي بَيَاضَةَ، أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ، وَانْكِحُوا إِلَيْهِ" وَكَانَ حَجَّامًا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه القبيلة، وهي القبيلة القحطانية الأزدية العربية أن ينكحوا أبا هند، وهو أحد موالي بني بياضة المذكورين، وكان حجاماً والحجامة عند العرب صناعة ومهنة دنيئة.
قال الخطابي: في هذا الحديث حجة لمالك ولمن ذهب مذهبه في أنّ الكفاءة بالدِّين وحده دون غيره، وأبو هند مولى بني بياضة ليس من أنفسهم.
وقال الصنعاني: فهو من أدلة عدم اعتبار كفاءة الأنساب.
ج- وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا (اِنْكِحِي أُسَامَةَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وكان مولى، فهو غير كفؤاً لها، لأنها قرشية وهو قد مسه الرق.
قال الخطابي: وفيه دليل على جواز نكاح المولى القرشية.
قال القرطبي: وقوله (انكحي أسامة) فيه ما يدلُّ على جواز نكاح المولى للقرشية، فإنّ أسامة مولى وفاطمة قرشية كما تقدم، وإنّ الكفاءة المعتبرة هي كفاءة الدِّين لا النسب، كما هو مذهب مالك. (المفهم).
وقال ابن عبد البر: وهذا أقوى شيء في نكاح المولى العربية والقرشية ونكاح العربي القرشية.
د- عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ (دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهَا لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ قَالَتْ وَاللَّهِ لَا أَجِدُنِي إِلاَّ وَجِعَةً فَقَالَ لَهَا حُجِّي وَاشْتَرِطِي قُولِي اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ) رواه البخاري.
وجه الاستدلال: أنّ المقداد بن الأسود من حلفاء قريشٍ، وضباعة هاشميَّة، فلمَّا تزوج بها دلَّ على أنّ الكفاءة في النسب غير معتبرة.
قال ابن حجر: فلولا أنّ الكفاءة لا تعتبر بالنسب لَمَا جاز له أن يتزوجها؛ لأنها فوقه في النسب.
هـ-عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها (أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهْوَ مَوْلًى لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ) رواه البخاري.
وجه الاستدلال: أنّ سالمًا كان مولى، في حين أنّ هندًا قرشية.
قال العيني: مطابقته للترجمة تؤخذ من تزويج أبي حذيفة بنت أخيه هندًا لسالم الذي تبناه وهو مولى لامرأة من الأنصار، ولم يعتبر فيه الكفاءة إلا في الدِّين.
وقال ابن العربي: فدلّ على جواز نكاح المولى العربية، وإنما تُراعى الكفاءة في الدِّين.
قال ابن القيم: فَاَلّذِي يَقْتَضِيهِ حُكْمُهُ صلى الله عليه وسلم اعْتِبَارُ الدّينِ فِي الْكَفَاءَةِ أَصْلًا وَكَمَالًا فَلَا تُزَوّجُ مُسْلِمَةٌ بِكَافِرٍ وَلَا عَفِيفَةٌ بِفَاجِرٍ.
فائدة:
تعتبر الكفاءة - عند من يقول بها - وقت إنشاء العقد فهي شرط في ابتدائه ولا تشترط لبقائه.
وعلى ذلك لو تزوج رجل امرأة وكان كفئاً لها ثم زالت كفاءته بأن كان غنياً فافتقر، أو كان صالحاً ثم انحرف وأصبح فاسقاً، أو كان صاحب حرفة شريفة فاحترف غيرها أقل منها، فالزواج باق لا يفسخ لزوال الكفاءة.
جاء في المغني: فإذا قلنا باشتراطها (يعني الكفاءة) فإنما يعتبر وجودها حال العقد، فإن عدمت بعده، لم يبطل النكاح؛ لأن شروط النكاح إنما تعتبر لدى العقد؛ وإن كانت معدومة حال العقد فالنكاح فاسد حكمه حكم العقود الفاسدة.
ولأننا لو اشترطنا استمرار الكفاءة لتهدمت الأسر ولما استقر عقد من عقود الزواج؛ لتقلب الأحوال كما هي سنة الحياة؛ ولأن المرأة في هذه الحالة لا يلحقها عار ببقائها مع من زالت كفاءته؛ بل قد تكون محمودة مشكورة على صبرها ورضاها بقضاء الله، وفي عرف الناس يعد بقاؤها ورضاها وفاءً، ونفورها وعدم رضاها غير ذلك.
(فلا تُزوج مسلمةٌ بفاجر أو كافر).
أي: لا يجوز أن تتزوج عفيفة بفاجر، وهو الزاني.
فيحرم على الرجل أن ينكح زانية، ويحرم على المرأة أن تنكح زانياً.
وهذا مذهب أحمد، وإسحاق، واختاره ابن قدامة، واختاره ابن تيمية.
أ- لقوله تعالى (الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ).
وهذه الآية للعلماء كلام كثير، رجح بعض العلماء المعاصرين معناها: أن المرأة إذا تزوجت الرجل الزاني، فإن كانت مستحلة للزنا فهي مشركة، وإن كانت تقر بتحريم الزنا لكن رضيتْ به فهي زانية، لأن الراضي كالفاعل، وكذا الرجل إذا تزوج امرأة يعلم أنها زانية، فإن كان مستحلاً له فهو مشرك، وإن كان مقراً بتحريم الزنا لكنه رضي فهو زان.
قال السعدي رحمه الله في تفسير الآية السابقة: هذا بيان لرذيلة الزنا، وأنه يدنس عرض صاحبه، وعرض من قارنه ومازجه، ما لا يفعله بقية الذنوب. فأخبر أن الزاني لا يقدم على نكاحه من النساء، إلا أنثى زانية، تناسب حالُه حالَها، أو مشركةٌ بالله، لا تؤمن ببعث ولا جزاء، ولا تلتزم أمر الله. والزانية كذلك، لا ينكحها إلا زان أو مشرك (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي: حرم عليهم أن يُنْكِحوا زانيا، أو يَنْكِحوا زانية. (التفسير).
وقد ورد في سبب نزول الآية ما يزيد الحكم بياناً.
ب- وهو ما رواه أبو داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ كَانَ يَحْمِلُ الْأَسَارَى بِمَكَّةَ وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ. قَالَ: جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحُ عَنَاقَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، فَنَزَلَتْ (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) فَدَعَانِي فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، وَقَالَ: لَا تَنْكِحْهَا).
قال في "عون المعبود: فيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّج بِمَنْ ظَهَرَ مِنْهَا الزِّنَا، وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَة الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث لِأَنَّ فِي آخِرهَا: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فَإِنَّهُ صَرِيح فِي التَّحْرِيم" انتهى.
ج- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَنْكِحُ اَلزَّانِي اَلْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.
قال الشوكاني: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الزِّنَى وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَنْ ظَهَرَ مِنْهَا الزِّنَى، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ فِي آخِرِهَا:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز نكاح الزانية قبل توبتها.
وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية.
لأن المولى عز وجل بعد من ذكر المحرمات من النساء قال (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُم).
والراجح التحريم.
وقال ابن تيمية: نكاح الزانية حرام حتى تتوب، سواء كان زنى بها هو أو غيره. هذا هو الصواب بلا ريب وهو مذهب طائفة من السلف والخلف: منهم أحمد بن حنبل وغيره، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.
فائدة: 1
حكم نكاح الزانية بعد توبتها؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يحل نكاحها لمن زنا بها ولغيره.
وهذا هو قول الجمهور من العلماء وهو مذهب الأئمة الأربعة.
أ- لقوله تعالى (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً).
وجه الدلالة:
أولاً: أن الله عز وجل صرح بأن الذين يزنون ومن ذكر معهم، إن تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات، فإن الله يتوب عليهم، ويبدل سيئاتهم حسنات.
ثانياً: إن القرآن الكريم ذكر أنه تقبل التوبة من الشرك وهو أعظم الذنوب، فلأن يقبل التوبة من الزنا من باب أولى وأحرى.
القول الثاني: أن الزانية التائبة لا تحل لمن زنا بها أبداً.
وهو مروي عن ابن مسعود، والبراء، وعائشة.
والقول الأول أصح.
قال ابن قدامة: ويحتمل أنهم أرادوا بذلك ما كان قبل التوبة، أو قبل استبرائها، فيكون كقولنا.
فأما تحريمها على الإطلاق فلا يصح؛ لقوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم).
ولأنها محللة لغير الزاني، فحلت له، كغيرها. (المغني).
قال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّ الزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ إِنْ تَابَا مِنَ الزِّنَا وَنَدِمَا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمَا وَنَوَيَا أَنْ لَا يَعُوَدَا إِلَى الذَّنْبِ، فَإِنَّ نِكَاحَهُمَا جَائِزٌ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا بَعْدَ تَوْبَتِهِمَا، وَيَجُوزَ نِكَاحُ غَيْرِهِمَا لَهُمَا بَعْدَ التَّوْبَةِ; لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. (أضواء البيان).
فائدة: 2
كيفية توبة الزانية:
اختلف العلماء في كيفية توبتها على قولين:
القول الأول: أن توبة الزانية كتوبة غيرها،
وتكون بالإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة إلى الذنب.
وهذا هو قول الجمهور.
القول الثاني: أن تراود على الزنا فتمتنع.
وهو مروي عن عمر، وابنه، وابن عباس، وهو المشهور من مذهب الحنابلة.
ودليلهم ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قيل له: "كيف تعرف توبتها؟ قال: يريدها على ذلك، فإن طاوعته فلم تتب، وإن أبت فقد تابت.
والراجح القول الأول.
قال ابن قدامة مرجحاً القول الأول: وَأَمَّا التَّوْبَةُ، فَهِيَ الِاسْتِغْفَارُ وَالنَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ، كَالتَّوْبَةِ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَيْف تُعْرَفُ تَوْبَتُهَا؟ قَالَ: يُرِيدُهَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَلَمْ تَتُبْ، وَإِنْ أَبَتْ فَقَدْ تَابَتْ.
فَصَارَ أَحْمَدُ إلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ اتِّبَاعًا لَهُ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَمُسْلِمٍ أَنْ يَدْعُوَ امْرَأَةً إلَى الزِّنَى، وَيَطْلُبَهُ مِنْهَا.
وَلِأَنَّ طَلَبَهُ ذَلِكَ مِنْهَا إنَّمَا يَكُونُ فِي خَلْوَةٍ، وَلَا تَحِلُّ الْخَلْوَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَوْ كَانَ فِي تَعْلِيمِهَا الْقُرْآنَ، فَكَيْفَ يَحِلُّ فِي مُرَاوَدَتِهَا عَلَى الزِّنَى، ثُمَّ لَا يَأْمَنُ إنْ أَجَابَتْهُ إلَى ذَلِكَ أَنْ تَعُودَ إلَى الْمَعْصِيَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِلتَّعَرُّضِ لِمِثْلِ هَذَا، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَفِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَحْكَامِ، عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا. (المغني).
قال الشيخ ابن عثيمين عن القول الأول: هذا القول ضعيف لأسباب ذكرها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله منها: إنه بالمراودة قد تعود بعد أن تابت _ وأن هذا المراوِد لا يأمن على نفسه لو وافقته _ أن المراودة إما بخلوة وهذا حرام وإما بحضرة ناس فإنها لن تطيع.
فائدة: 3
قال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ نِكَاحِ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ، لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ زَوْجُ الزَّانِيَةِ الْعَفِيفُ دَيُّوثًا; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا لِيَحْفَظَهَا، وَيَحْرُسَهَا، وَيَمْنَعَهَا مِنَ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مَنْعًا بَاتًّا بِأَنْ يُرَاقِبَهَا دَائِمًا، وَإِذَا خَرَجَ تَرَكَ الْأَبْوَابَ مُقْفَلَةً دُونَهَا، وَأَوْصَى بِهَا مَنْ يَحْرُسُهَا بَعْدَهُ فَهُوَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، مَعَ شِدَّةِ الْغَيْرَةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَإِنْ جَرَى مِنْهَا شَيْءٌ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي صِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ بِهِ دَيُّوثًا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ كَعَكْسِهِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا بِمَنْعِ ذَلِكَ.
بَابُ المُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ
(وهُنّ قسمان: محرمات إلى الأبد، ومحرمات إلى أمد).
أي: المحرمات التي يحرم على الإنسان التزوج بهن قسمان:
القسم الأول: محرمات إلى الأبد. فلا تحل أبداً.
القسم الثاني: محرمات إلى أمد. أي إلى غاية، فمتى زال المانع فإنها تحل له.
(فالمحرمات إلى الأبد سبع من النسب وهن: الأمهات وإن علون، والبنات.
. . . .).
هذا القسم الأول: المحرمات إلى الأبد وهن سبع:
قال تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ).
(الأمهات وإن علون).
لقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ).
ويدخل فيهن: الأم والجدات، سواء كن من جهة الأب أو من جهة الأم.
(والبنات وإن نزلن).
لقوله تعالى (وَبَنَاتُكُمْ).
ويدخل فيهن: بنات الصلب، وبنات الأبناء، وبنات البنات وإن نزلن.
فائدة:
وتحرم البنت ولو كانت من زنا، وهذا قول جماهير العلماء.
أ-لقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُم).
وجه الشاهد: قالوا هذه ابنته فإنها أنثى مخلوقة من مائه هذه حقيقة لا تختلف بالحل والحرمة.
ب-قول النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة هلال بن أمية انظروه يعني ولدها فإن جاءت به على صفة كذا فهو لشريك بن سحماء، يعني المتهم بالزنا.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسب الابن من الزنا لأبيه على الحقيقة، مع أنه خلق بماء غير محترم.
ج- وقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة جريج -: يا غلام من أبوك؟ قال فلان الراعي.
وجه الشاهد: فهذا يدل على أن الزنا يحرم كما يحرم الوطء الحلال فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده.
د- قالوا: لأنها أشبهت المخلوقة من وطء بشبهة ولأنها بضعة منه فلم تحل له كابنته من النكاح وتخلف بعض الأحكام لا ينفي كونها بنتا كما لو تخلف لرق أو اختلاف دين.
سئل ابن تيمية عَنْ بِنْتِ الزِّنَا: هَلْ تُزَوَّجُ بِأَبِيهَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّزْوِيجُ بِهَا، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ؛ حَتَّى تَنَازَعَ الْجُمْهُورُ: هَلْ يُقْتَلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْن.
(والأخوات مطلقاً).
لقوله تعالى (وَأَخَوَاتُكُمْ)، شقيقة كانت، أو لأب، أو لأم.
(و بنات الأخ).
أي: ويحرم عليه نكاح بنت أخيه، لأنه عمها.
لقوله تعالى (وَبَنَاتُ الْأَخِ).
ويدخل فيهن: بنات الأخ الشقيق، وبنات الأخ لأب، وبنات الأخ لأم، وبنات أبنائهم، وبنات بناتهن وإن نزلن.
(وبنات الأخوات).
أي: وكذلك يحرم عليه نكاح بنت الأخت، لأنه خالها.
لقوله تعالى (وَبَنَاتُ الْأُخْتِ).
ويدخل فيهن: بنات الأخت الشقيقة، وبنات الأخت لأب، وبنات الأخت من الأم، وبنات أبنائهن وبنات بناتهن وإن نزلن
(والعمات والخالات له أو لأحد أصوله).
لقوله تعالى (وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ).
العمات جمع عمة، وهي أخت الأب أو الجد وإن علا، والخالات: جمع خالة، وهي أخت الأم، أو الجدة وإن علت.
قال ابن جرير: فكل هؤلاء اللواتي سماهن الله تعالى وبيّن تحريمهن محرمات غير جائز نكاحهن لمن حرّم الله ذلك عليه من الرجال بإجماع جميع الأمة لا اختلاف بينهم.
وممن حكى الإجماع القرطبي، والطحاوي، وابن تيمية.
فائدة: 1
أما بنات العمات والأعمام، وبنات الخالات والأخوال فلا يحرمن لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ. . .) وحكم الأمَّة حكمه صلى الله عليه وسلم ما لم يدل دليل على تخصيصه.
فائدة: 2
قال السعدي في كتابة (نور البصائر): فالقرابات كلهن حرام، إلا بنات العم وبنات العمات، وبنات الأخوال، وبنات الخالات.
(وسبع من الرضاع نظير المذكورات).
أي: ومن المحرمات تأبيداً المحرمات بالرضاع، وهن سبع نظير المحرمات بالنسب.
والدليل على التحريم بالرضاع:
قوله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) متفق عليه.
والمعنى: يحرم بسبب الرضاع نظير ما يحرم بسبب النسب (من للسببية).
فتحرم عليك أختك من الرضاع كما تحرم عليك أختك من النسب، وتحرم عمتك من الرضاع كما تحرم عمتك من النسب وهكذا.
قال ابن قدامة: كُلُّ امْرَأَةٍ حَرُمَتْ مِنْ النَّسَبِ حَرُمَ مِثْلُهَا مِنْ الرَّضَاعِ، وَهُنَّ الأُمَّهَاتُ، وَالْبَنَاتُ، وَالأَخَوَاتُ، وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالاتُ، وَبَنَاتُ الأَخِ، وَبَنَاتُ الأُخْتِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلافاً.
فتحرم عليك أمك من الرضاع، وأختك من الرضاع، وبنتك من الرضاع. . . الخ.
(ويحرمُ - بالعقد - زوجة أبيهِ).
أي: ومما يحرم أبداً، المحرمات بالصهر، وهن أربع، ثلاث بمجرد العقد الصحيح. (لا يشترط للتحريم وطء أو خلوة).
الصهر هو الاتصال بين إنسانين بسبب عقد النكاح، فليس هناك قرابة ولا رضاع ولكن سببه عقد النكاح.
(زوجةُ أبيه).
أي: ومما يحرم بالمصاهرة زوجة الأب وجده وإن علا، وهذه تحرم بمجرد العقد، دخل بها أبوه أو لم يدخل.
قال تعالى (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً).
فزوجة أبيك حرام عليك على التأبيد حتى لو مات أبوك عنها. وكذلك لو طلقها.
(وزوجة الابن وإن سفل).
أي: ومما يحرم بالمصاهرة زوجة ابنك.
قال تعالى (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ).
أي أنه لو كان لابنك زوجة ثم طلقها فإنها لا تحل لك.
(وأم الزوجة وإن علت).
أي: وما يحرم بسبب الصهر أم زوجتك وجدتها وإن علون، فيحرمن بمجرد العقد على البنت.
لقوله تعالى (وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ).
مثلاً: زوجتك اسمها رقية ولها أم اسمها خديجة، فإنها لا تحل لك، لأنها أم زوجتك وكذلك جدتها وأم جدتها.
وهذه تحرم بمجرد العقد.
فائدة:
حكم من زنى بأم زوجته - عياذاً بالله من ذلك -هل تحرم عليه زوجته بذلك أم لا؟
فيه خلاف بين الفقهاء.
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه تحرم عليه زوجته بسبب زناه بأمها.
جاء في عمدة الفقه (ومن وطئ امرأة حلالاً أو حراماً حرُمتْ على أبيهِ وابنهِ، وحرُمتْ عليهِ أمهاتها وبناتها).
وجعلوا هذا الوطء المحرَّم كالوطء الحلال في تحريم المصاهرة، فإن الرجل لو نكح امرأة ودخل بها حرمت عليه بنتها إجماعاً.
لقوله تعالى في المحرَّمات من النساء: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).
وذهب المالكية والشافعية: إلى أنه لا تحرم عليه زوجته بسبب وطئه لأمها بالزنا؛ لأن الحرام لا يحرِّم الحلال.
قال ابن قدامة: وَلَوْ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتَهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَطْءَ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ.
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَعُرْوَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ) وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَوْطُوءَةُ فِرَاشًا، فَلَا يُحَرِّمُ كَوَطْءِ الصَّغِيرَةِ. (المغني).
والقول الثاني، الذي ذهب إليه المالكية والشافعية، قد رجحه جماعة من أهل التحقيق، منهم العلامة محمد الأمين الشنقيطي، قال رحمه الله: " الخلاف في هذه المسألة مشهور معروف، وأرجح القولين دليلاً فيما يظهر أن الزنى لا يحرُم به حلال.
وقال الشيخ ابن عثيمين: لو زنى رجل بامرأة فهل يحرم عليها أصله وفرعه، وهل يحرم عليه أصلها وفرعها؟
الجواب: لا يحرم، لأنه لا يدخل في الآية، قال تعالى:(وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ) قال (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) والزانية لا تدخل في هذا ومع هذا فمذهب الحنابلة أن الزنى كالنكاح، فإذا زنى بامرأة حرم عليه أصولها وفروعها، وحرم عليها أصوله وفروعه تحريماً مؤبداً، بل من غرائب العلم أن يجعل السفاح كالنكاح، بل من أغرب ما يكون، وهو من أضعف الأقوال والصواب أنه لا أثر في تحريم المصاهرة لغير عقد صحيح؛ وذلك لأن العقود إذا أطلقت في الشرع حملت على الصحيح، فالصواب في هذه المسألة أن كل ما كان طريقه محرماً فإنه لا أثر له في التحريم والمصاهرة. (الشرح الممتع).
(وبنت الزوجة إن دخل بأمها).
أي: ومما يحرم من المصاهرة بنت زوجته، وهذه تحرم إذا دخل بأمها [وهو وطء الزوجة بنكاح صحيح].
وهذه هي الربيبة. (الربيبة بنت الزوجة).
قال تعالى (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).
[ومعنى دخلتم بهن: أي جامعتموهن].
مثال: لو كان لك زوجة ولها بنت من رجل آخر، فهذه البنت حرام عليك.
لكن لا يقع التحريم إلا بالدخول وهو الجماع، فإن حصل الفراق قبل الجماع فلا تحرم.
لقوله تعالى (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).
لكن الآية فيها قيدان:
اللاتي في حجوركم - أن تكون من نسائكم اللاتي دخلتم بهن.
لكن أكثر العلماء على أنه يشترط شرط واحد وهو الدخول {الجماع} ، وأما شرط كونها في الحجر فهذا شرط أغلبي.
فائدة:
قال الشيخ ابن عثيمين: المراد بالدخول هنا الوطء يعني الجماع، فلو تزوج امرأة وخلا بها، ولم تعجبه وطلقها فله أن يتزوج بنتها.
فَصْلٌ
(وَتَحْرُمُ إِلَى أَمَدٍ)
هذه النوع الثاني من المحرمات، وهي من تحرم إلى أمد، أي إلى غاية، فمتى زال المانع فإنها تحل له.
وهذا القسم نوعان:
الأول: المحرمات لأجل الجمع.
الثاني: المحرمات إلى أمد، وهن المحرمات لعارض قابل للزوال.
(أخْتُ زَوْجَتِهِ).
أي: ومما يحرم إلى أمد أخت زوجته. (المحرّم الجمع بينهما).
فيحرم الجمع بين الأختين.
أ- قال تعالى (وأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
قال ابن جرير: معناه: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح.
قال ابن كثير: وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح.
قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانت شقيقتين أم من أب أم من أم، وسواء البنت من الرضاع.
ومن الأدلة على التحريم:
ب- حديث أُمِّ حَبِيبَة بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ قَالَتْ (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ فَقَالَ «أَفْعَلُ مَاذَا» قُلْتُ تَنْكِحُهَا. قَالَ «أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ». قُلْتُ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي. قَالَ «فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي». قُلْتُ فَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ. قَالَ «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ». قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ). رواه مسلم
فائدة: 1
إذا طلقت المرأة وانتهت عدتها، حلت أختها وعمتها وخالتها، لانتفاء الضرر.
ومثل ذلك الرضاع فأخت زوجتك من الرضاع لا تجمعها مع زوجتك، كذلك عمة زوجتك من الرضاع لا يجوز، وكذلك خالة زوجتك من الرضاع لا يجوز.
فإذا توفيت زوجة الرجل، أو طلقها، فله نكاح أختها سواء كانت الصغرى أو الكبرى؛ لأن الممنوع هو الجمع بينهما؛ فإذا حصلت الفرقة، بالموت أو بالطلاق، انقطعت العلاقة الزوجية، فجاز له نكاح أختها.
قال الشيخ حمد بن عبد الله الحمد: إذا طلق المرأة وفرغت من عدتها، فله أن ينكح أختها، وله أن ينكح عمتها، وله أن ينكح خالتها وذلك؛ لأن التحريم إلى أمدٍ وليس بتحريم على الأبد، فقد زال المانع وهو الجمع وهنا لا جمع، فإذا طلق المرأة وقضت عدتها، أو ماتت، ثم نكح أختها أو عمتها أو خالتها فذلك جائز لزوال المانع " انتهى من "شرح الزاد".
وسئل الشيخ ابن جبرين رحمه الله: هل يجوز لرجل توفيت زوجته أن يتزوج من ابنة أخيها أو عمتها أو خالتها أو بناتهن؟
فأجاب: يجوز ذلك لفقد المحذور، وهو الجمع بين الأقارب الذي يسبب قطع الأرحام، فإذا طلق الرجل زوجته، أو ماتت: حلت له أختها، أو بنت أخيها، أو بنت أختها، أو عمتها، أو خالتها، أو بنات المذكورات ". انتهى من (فتاوى إسلامية).
(وعمتها وخالتها).
أي: ومما يحرم إلى أمد عمة زوجته، وخالتها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يُجْمَعُ بَيْنَ اَلْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ اَلْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ففي هذا الحديث: تحريم أن يجمع الرجل في عصمته بين المرأة وعمتها، أو المرأة وخالتها.
قال النووي: في هذا دليل لمذهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها.
وقال ابن قدامة في بيان محرمات النكاح (والجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها)، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ - بِحَمْدِ اللَّهِ - اخْتِلَافٌ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ مِمَّنْ لَا تُعَدُّ مُخَالَفَتُهُ خِلَافًا، وَهُمْ الرَّافِضَةُ وَالْخَوَارِجُ، لَمْ يُحَرِّمُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُولُوا بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد (لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا الْخَالَةُ
عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا، لَا تُنْكَحُ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى، وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى) وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:(وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) خَصَّصْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَاه. (المغني)
فائدة: 1
بيّن صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) رواه ابن حبان.
وذلك لما يكون بين الضرائر من الغيرة.
قال السعدي: وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام.
(فإنْ جمعَ بين من لا يجوز الجمع بينَهُ في عقد واحد فسد).
أي: فسد العقد.
مثاله: بأن يقول الأب للشخص: زوجتك ابنتيَّ هاتين، فيقول: قبلت، فهنا لا يصح إنكاح واحدة منهما، فلا يصح العقد لا على هذه، ولا على هذه. (الشرح الممتع).
أو يعقد على امرأة وعمتها، أو على امرأة وخالتها، فيفسد العقد.
قال ابن قدامة: فَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ حَالَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ. (المغني)
وقال في الكافي: فإن تزوج أختين في عقد واحد بطل فيهما، لأن إحداهما ليست أولى بالبطلان من الأخرى، فبطل فيهما.
(وإنْ كانا في عقدينِ لم يصحَّ الثاني منهما).
أي: وإن كان كل واحدة بعقد، فنكاح الثاني مفسوخ باطل.
كأن يعقد على امرأة ثم بعد فترة عقد على أختها، أو عمتها، أو خالتها، فإن الذي يصح هو العقد السابق ويبطل الثاني.
قال ابن قدامة: فَإِنْ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى فَنِكَاحُ الْأُولَى صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ جَمْعٌ، وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ. (المغني).
فائدة:
قال ابن قدامة: وَلَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ ابْنَتَيْ الْعَمِّ، وَابْنَتَيْ الْخَالِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِمَا بِالتَّحْرِيمِ، وَدُخُولِهِمَا فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) وَلِأَنَّ إحْدَاهُمَا تَحِلُّ لَهَا الْأُخْرَى لَوْ كَانَتْ ذَكَرًا.
…
(المغني).
(ولَو أسلمَ كافرٌ وتحتَه أُختانِ اختار منهما واحدةً).
أي: فمن أسلم وتحته أختان خُيّر، فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة.
عَنِ اَلضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ) رَوَاهُ أَحْمَد.
قال ابن قدامة: ومن أسلم وتحته أختان لزمه أن يختار إحداهما.
لما روى الضاحك بن فيروز عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال: (طلق أيهما شئت) رواه أبو داود.
ولأن الجمع بينهما محرم فأشبه الزيادة على الأربع.
وهذا القول في المرأة وعمتها والمرأة وخالتها لأن جمعهما محرم. (الكافي).
(وليس للحرِّ أن يجمعَ أكثر من أربع).
أي: ويحرم على الرجل أن يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات في وقت واحد.
وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم (ابن حجر، وابن قدامة، وابن كثير).
قال تعالى (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ).
أي إن شاء أحدكم اثنتين، وإن شاء ثلاثاً، وإن شاء أربعاً.
قال ابن حزم: واتفقوا على أن نكاح أكثر من أربع زوجات لا يحل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن رشد: واتفق المسلمون على جواز نكاح أربعة من النساء معاً، وذلك للأحرار من الرجال.
وقال الإمام البغوي: وهذا إجماع أن أحداً من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لا مشاركة معه لأحد من الأمة فيها. (تفسير البغوي).
والشافعي رحمه الله حيث نقل عنه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" أنه قال: (وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة).
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع، وقال بعضهم: بلا حصر.
وقد بوب البخاري (باب لا يتزوج أكثر من أربع لقوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع).
قال الحافظ ابن حجر: أما حكم الترجمة فبالإجماع إلا قول من لا يعتد بخلافه من رافضي ونحوه.
عن ابن عمر (أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِي.
- من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم أن له أن يجمع أكثر من أربع.
- وأما ملك اليمين: فله أن يطأ ما شاء.
قال تعالى (فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ولم يقيد
قال تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم .. ) ولم يحدد.
فيجوز أن يطأ من ملك اليمين ما أراد.
فائدة:
حكم من أسلم وعنده أكثر من أربع.
أنه من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة، فإنه يتخير منهن أربعاً ويطلق الباقي.
قال ابن القيم: فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَوْ عَلَى أُخْتَيْنِ
فِي التّرْمِذِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم اخْتَرْ مِنْهُنّ أَرْبَعًا) وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى: وَفَارِقْ سَائِرَهُنّ، وَأَسْلَمَ فَيْرُوزُ الدّيْلَمِيّ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم اخْتَرْ أَيّتَهُمَا شِئْتَ، فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ صِحّةَ نِكَاحِ الْكُفّارِ وَأَنّهُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ شَاءَ مِنْ السّوَابِقِ وَاللّوَاحِقِ لِأَنّهُ جَعَلَ الْخِيرَةَ إلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ تَزَوّجَهُنّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ نِكَاحُ الْجَمِيعِ وَإِنْ تَزَوّجَهُنّ مُتَرَتّبَاتٍ ثَبَت.
(ولا للعبد أن يجمعَ أكثر من زوجتين).
أي: لا يجوز للعبد أن يجمع أكثر من اثنتين، لأنه قول عمر وعلي وغيرهما ولا مخالف لهما.
(وَتَحْرُمُ الْمُعْتَدَّةُ).
أي: ومن المحرمات إلى أمد، المرأة التي في عدتها من الغير، فلا يحل لأحد نكاحها حتى تنقضي عدتها.
لقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) أي: ولا تعقدوا عقد النكاح حتى تنتهي العدة
والمراد: ببلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدة.
وقد نقل ابن رشد الاتفاق على أن النكاح لا يجوز في العدة.
قال ابن قدامة: المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها، إجماعاً، أي عدة كانت; لقول الله تعالى:(وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) .. وإن تزوجت، فالنكاح باطل.
جاء في (الموسوعة الفقهية) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلأْجْنَبِيِّ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ أَيًّا كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ شُبْهَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَمْ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى. وَذَلِكَ لِحِفْظِ الأْنْسَابِ وَصَوْنِهَا مِنَ الاِخْتِلَاطِ وَمُرَاعَاةً لِحَقِّ الزَّوْجِ الأْوَّل.
فائدة: 1
فإذا وقع فإنه يجب التفريق بينها وبين زوجها الثاني، ثم تكمل عدتها من الأول، ثم إذا فرغت من عدة الأول جاز للثاني أن يعقد عليها عقداً جديداً.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ فِي عِدَّتِهَا، إجْمَاعًا، أَيَّ عِدَّةٍ كَانَتْ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ).
وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَامْتِزَاجِ الْأَنْسَابِ.
وَإِنْ تَزَوَّجَتْ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ النِّكَاحِ لِحَقِّ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَالْعِدَّةُ بِحَالِهَا، وَلَا تَنْقَطِعُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ شَيْءٌ، وَتَسْقُطُ سُكْنَاهَا وَنَفَقَتُهَا عَنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا نَاشِزٌ، وَإِنْ وَطِئَهَا، انْقَطَعَتْ الْعِدَّةُ سَوَاءٌ عَلِمَ التَّحْرِيمَ أَوْ جَهِلَهُ.
ثم قال:
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَعَلَيْهِ فِرَاقُهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ فَارَقَهَا أَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، وَعِدَّتُهُ وَجَبَتْ عَنْ وَطْءٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَإِذَا أَكْمَلَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ الثَّانِي، وَلَا تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ رَجُلَيْنِ.
…
(المغني).
قال ابن كثير: قد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة، واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها، فإنه يفرق بينهما، وهل تحرم عليه أبدا؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها، وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد.
…
(التفسير).
فائدة: 2
قال ابن قدامة: وَإِذَا تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةً، وَهُمَا عَالِمَانِ بِالْعِدَّةِ، وَتَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِيهَا، وَوَطِئَهَا، فَهُمَا زَانِيَانِ، عَلَيْهِمَا حَدُّ الزِّنَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا يَلْحَقُهُ النَّسَبُ.
وَإِنْ كَانَا جَاهِلِينَ بِالْعِدَّةِ، أَوْ بِالتَّحْرِيمِ، ثَبَتَ النَّسَبُ، وَانْتَفَى الْحَدُّ، وَوَجَبَ الْمَهْرُ.
(وَالزَّانِيَةُ حَتَّى تَتُوبَ وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُها).
أي: ومما يحرم إلى أمد: نكاح الزانية حتى تتوب. (الزنا: فعل الفاحشة في قبُل أو دُبُر).
وقد تقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الراجح تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذا يحرم على العفيفة أن تنكح الزاني حتى يتوب.
فائدة: 1
قوله (حتى تتوب) اختلف العلماء في كيفية توبتها:
والراجح أن تتوب وتقلع عن ذلك كغيرها، ورجح ذلك ابن قدامة.
قال ابن قدامة: وَأَمَّا التَّوْبَةُ، فَهِيَ الِاسْتِغْفَارُ وَالنَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ، كَالتَّوْبَةِ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَيْف تُعْرَفُ تَوْبَتُهَا؟ قَالَ: يُرِيدُهَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَلَمْ تَتُبْ، وَإِنْ أَبَتْ فَقَدْ تَابَتْ
فَصَارَ أَحْمَدُ إلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ اتِّبَاعًا لَهُ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ:
فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَمُسْلِمٍ أَنْ يَدْعُوَ امْرَأَةً إلَى الزِّنَى، وَيَطْلُبَهُ مِنْهَا.
وَلِأَنَّ طَلَبَهُ ذَلِكَ مِنْهَا إنَّمَا يَكُونُ فِي خَلْوَةٍ، وَلَا تَحِلُّ الْخَلْوَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَوْ كَانَ فِي تَعْلِيمِهَا الْقُرْآنَ، فَكَيْفَ يَحِلُّ فِي مُرَاوَدَتِهَا عَلَى الزِّنَى.
ثُمَّ لَا يَأْمَنُ إنْ أَجَابَتْهُ إلَى ذَلِكَ أَنْ تَعُودَ إلَى الْمَعْصِيَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِلتَّعَرُّضِ لِمِثْلِ هَذَا.
وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَفِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَحْكَامِ، عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا. (المغني).
فائدة: 2
قوله (وتنقضي عدتها) اختلف العلماء في عدة الزانية:
فقيل: ثلاث حيض كغيرها.
وهذا مذهب الحنابلة.
قال ابن قدامة معللاً لهذا القول: لأنه وَطْءٌ يَقْتَضِي شَغْلَ الرَّحِمِ، فَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ مِنْهُ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَأَمَّا وُجُوبُهَا كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِعِدَّةٍ كَامِلَةٍ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ. (المغني).
وقيل: ليس عليها عدة، وإنما استبراء بحيضة.
واختار هذا القول ابن تيمية.
وهو الراجح.
وقد جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية): اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الزَّانِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، حَامِلاً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ.
وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ.
وَلأِنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَالزِّنَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَلَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ.
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: أَنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ
الْمُطَلَّقَةِ.
لأِنَّهُ وَطْءٌ يَقْتَضِي شُغْل الرَّحِمِ، فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ مِنْهُ، وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِعِدَّةٍ كَامِلَةٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَلأِنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ قَبْل الاِعْتِدَادِ اشْتَبَهَ وَلَدُ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ مِنَ الزِّنَا، فَلَا يَحْصُل حِفْظُ النَّسَبِ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً.
تنبيه: أَمَّا الْحَامِل مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ غَصْبٍ فَيَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا وَطْؤُهَا قَبْل الْوَضْعِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا كَانَتِ الزَّانِيَةُ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا زَمَنَ الاِسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهَا وَجَبَ فَسْخُهُ.
(وَمُطَلَّقَتُهُ ثَلَاثاً حَتَّى يَطَأَهَا زوْجٌ غَيْرُهُ).
أي: ومن المحرمات إلى أمد مطلقته ثلاثاً، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غير زوجها نكاحاً صحيحاً (نكاح رغبة)، ثم يطلقها بعد ذلك، فيجوز للأول إعادتها.
لقوله تعالى (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
…
) ثم قال (
…
فَإِن طَلَّقَهَا) يعني الثالثة (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
فائدة: 1
فمن طلق زوجته آخر ثلاث تطليقات، فإنها لا ترجع إليه إلا بشروط:
الشرط الأول: أن تنكح زوجاً غيره.
أ- لقوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَهَا [يعني الثالثة] فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه).
ب- ولحديث عَائِشَةَ قَالَتْ (جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . قَالَتْ وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ وَخَالِدٌ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَنَادَى يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَسْمَعُ هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم متفق عليه.
[فبت طلاقي] البت بمعنى القطع. يحتمل أنه قال لها: أنت طالق البتة، ويحتمل أنه طلقها الطلقة الأخيرة، وهذا الراجح، فقد جاء عند البخاري:(طلقني آخر ثلاث تطليقات) فيكون طلقها ثم راجعها ثم طلقها ثم راجعها ثم طلقها.
[عبد الرحمن بن الزَّبير] الزَّبِير: بفتح الزاي، بعدها باء مكسورة. [مثل هدبة الثوب] هدبة بضم الهاء وسكون الدال هو طرف الثوب، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار. [عسيلته] العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، قال الجمهور: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة.
الشرط الثاني: أن يجامعها في الفرج.
أ-لقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الحل على ذواق العسيلة منها، ولا يحصل هذا إلا بالوطء في الفرج.
ب- ولقوله (حتى تنكح زوجاً غيره) فالمراد بالنكاح هنا الوطء لدلالة حديث عائشة السابق.
وهذا مذهب جمهور العلماء أنه لا بد من الجماع، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول، إلا سعيد بن المسيب. يعني أنه قال: يكفي العقد.
قال النووي رحمه الله: قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك) كِنَايَة عَنْ الْجِمَاع، شَبَّهَ لَذَّته بِلَذَّةِ الْعَسَل وَحَلَاوَته.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا لَا تَحِلّ لِمُطَلِّقِهَا حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره، وَيَطَأهَا ثُمَّ يُفَارِقهَا، وَتَنْقَضِي عِدَّتهَا. فَأَمَّا مُجَرَّد عَقْده عَلَيْهَا
فَلَا يُبِيحهَا لِلْأَوَّلِ. وَبِهِ قَالَ جَمِيع الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ، إلا سعيد بن المسيب، وَلَعَلَّه لَمْ يَبْلُغهُ هَذَا الْحَدِيث" انتهى.
وقال ابن قدامة: ومع تصريح النبي صلى الله عليه وسلم ببيان المراد من كتاب الله تعالى، وأنها لا تحل للأول حتى يذوق الثاني عسيلتها وتذوق عسيلته، لا يعرج على شيء سواه، ولا يجوز لأحد المصير إلى غيره.
…
(المغني).
فائدة: 1
يكفي لحلها لمطلقها ثلاثاً، تغييب حشفة الرجل في الفرج، ولا بد من انتشار الذكر.
ولا يشترط الإنزال، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للحسن البصري.
الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً.
فإن كان فاسداً كنكاح التحليل أو الشغار، فإنه لا يحلها وطئها.
ونكاح التحليل هو: أن يعمد الرجل إلى المرأة المطلقة ثلاثاً فيتزوجها ليحلها لزوجها الأول.
وهو حرام ولا تحل به المرأة لزوجها الأول.
لحديث ابن مسعود قال: (لعن رسول الله المحلل والمحلل له). رواه أحمد والترمذي
وسماه النبي صلى الله عليه وسلم تيساً مستعاراً.
فمتى نوى الزوج الثاني أنه متى حللها طلقها، فإنه لا تحل للأول، والنكاح باطل.
فالملعون على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم هو:
المحلل: هو الزوج الثاني إذا قصد التحليل ونواه، وكان عالماً.
والمحلل له: هو الزوج الأول، فيلحقه اللعن إذا كان عالماً.
…
(وستأتي المسألة إن شاء الله).
فائدة: 2
لو وطأها الثاني بحيض أو نفاس أو إحرام، هل تحل؟
قيل: لا تحل بالوطء المحرَّم.
قالوا لأنه وطء حرام لحق الله، فلم يحصل به الإحلال.
وقيل: أنه يحلها.
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
ورجحه ابن قدامة في المغني، حيث قال: وَظَاهِرُ النَّصِّ حِلُّهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) وَهَذِهِ قَدْ نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ (حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ). وَهَذَا قَدْ وُجِدَ.
وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي مَحَلِّ الْوَطْءِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، فَأَحَلَّهَا، كَالْوَطْءِ الْحَلَالِ، وَكَمَا لَوْ وَطِئَهَا وَقَدْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، أَوْ وَطِئَهَا مَرِيضَةً يَضُرُّهَا الْوَطْءُ.
وَهَذَا أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ.
…
(المغني).
فائدة: 3
الحكمة من كون الزوج الأول لا يحل له نكاح مطلقته ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره:
أولاً: تعظيم أمر الطلاق، حتى لا يكثر وقوعه، فإنه إذا علم أنه لا ترجع إليه بعد الثلاث حتى يتزوجها غيره، لم يستعجل بإيقاعه.
ثانياً: الرفق بالمرأة، فإن المرأة إذا طلقت ثلاثاً فإنها تتزوج غيره، وقد يكون خيراً من زوجها الأول فتسعد به.
(وَالْمُحْرِمَةُ حَتَّى تَحِلَّ).
أي: ومن المحرمات إلى أمد: المحرمة حتى تحل من إحرامها {التحلل الثاني عند جمهور العلماء} .
لحديث عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَنْكِحُ اَلْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِح) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ (وَلَا يَخْطُبُ). وَزَادَ اِبْنُ حِبَّانَ (وَلَا يُخْطَبُ عَلَيْهِ).
(لَا يَنْكِحُ اَلْمُحْرِمُ) بفتح الياء، أي لا يتزوج لنفسه، (وَلَا يُنْكِحُ) بضم الياء، لا يزوج امرأة بولاية ولا وكالة في مدة الإحرام.
ففي هذا الحديث: أن المحرِم محرّم عليه أن يَنكح - بفتح الياء - أي: يتزوج، أو يُنكِح - بضم الياء - أي: يعقد النكاح لغيره، أو يخطب، أي: يطلب زواج المرأة من نفسها أو من أهلها.
تحريم عقد النكاح للمحرم لنفسه سواء كان رجلاً أو امرأة كلاهما محرماً أو أحدهما محرماً والآخر حلالاً.
فلا يجوز أن يكون المُحْرِم ولياً في عقد النكاح، ولو كان الزوج والزوجة حلالاً.
فلو عقد لرجل محرم على امرأة حلال فالنكاح لا يصح، ولو عقد لرجل محل على امرأة والولي محرم لا يصح.
فائدة: 1
فإن قيل: ما الجواب عن حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) رواه مسلم؟
الجواب من وجوه:
أولاً: أن ابن عباس وهِم إذ نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوج ميمونة محرماً.
قال سعيد بن المسيب: وهِم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرِم.
ثانياً: أن ميمونة وهي صاحبة القصة قالت (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً).
ثالثاً: أن أبا رافع كان الرسول بينهما حيث قال (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما) رواه الترمذي.
رابعاً: أن الرواة بأنه صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً كثيرون، منهم ميمونة نفسها، ومنهم أبو رافع، وسليمان بن يسار، ومنهم صفية بنت شيبة.
قال ابن عبد البر: وما أعلم أحداً من الصحابة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم إلا عبد الله بن عباس، ورواية من ذكرنا معارضة لروايته، والقلب إلى رواية الجماعة أميل، لأن الواحد أقرب إلى الغلط.
وقال: والرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال متواترة عن ميمونة بعينها، وعن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وعن سليمان بن يسار مولاها، وعن يزيد بن الأصم وهو ابن أختها.
وقال عياض: الذي صححه أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً، وهو قول كبراء الصحابة ورواياتهم، ولم يأت عن أحد منهم أنه تزوجها محرماً إلا ابن عباس وحده.
فائدة: 2
حكم الخطبة للمحْرِم؟ لأهل العلم في خطبة المحرم قولان:
القول الأول: تكره الخطبة للمحرم، والمحرمة، ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين.
وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، واختيار ابن قدامة.
القول الثاني: أنه تحرم خطبة المحرم.
وهو مذهب المالكية، واختيار ابن حزم، وابن تيمية والصنعاني، والشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
أ-لرواية (. . . ولا يخطب).
فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجميع نهياً واحداً ولم يفصل وموجب النهي التحريم وليس لنا ما يعارض ذلك من أثر ولا نظر.
ب-أن الخطبة مقدمة النكاح وسبب إليه كما أن العقد سبب للوط، والشرع قد منع من ذلك كله حسما للمادة.
قال الشنقيطي: الأظهر عندي أن المحرِم لا يجوز له أن يخطب امرأة، وكذلك المحرمة لا يجوز للرجل خطبتها لما تقدم من حديث عثمان، وبه تعلم أن ما ذكره كثير من أهل العلم من أن الخطبة لا تحرم في الإحرام وإنما تكره أنه خلاف الظاهر من النص.
فائدة: 3
أن المحرم يجوز له أن يشهد على عقد النكاح لرجل وامرأة ليسا مُحْرمين.
(وَلَا يَنْكِحُ كَافِرٌ مُسْلِمَةً).
أي: لا يجوز لأي كافر كان أن يتزوج مسلمة.
أ-لقوله تعالى (وَلَا تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ).
ب-ولقوله تعالى (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ
ج-والنظر يقتضي ذلك: فإنه لا يمكن أن يكون للكافر سلطة على المسلم أو المسلمة.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، وأجمع القراء على ضم التاء من تنكحوا.
وقال الرازي: فلا خلاف ههنا أن المراد به الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة.
- وهذا الحكم عام فيحرم على المسلمة أن تنكح أي رجل كافر سواء كان من أهل الكتاب يهودي أو نصراني أو كان وثنيا أو مجوسيا أو ملحدا لأن الشارع لم يستثن شيئاً من هذا العموم. فما دام أن الرجل ثابت كفره فلا يحل للمسلمة قبول خطبته ونكاحه لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
فائدة:
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: " تزوج رجل بامرأة مسلمة ثم ظهر أن الرجل كافر، فما الحكم؟
فأجاب: إذا ثبت أن الرجل المذكور حين عقد النكاح كان كافراً والمرأة مسلمة: فإن العقد يكون باطلاً؛ لأنه لا يجوز بإجماع المسلمين نكاح الكافر للمسلمة؛ لقوله الله سبحانه (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) وقوله عز وجل (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.
(وَلَا مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْداً كَافِرَةً إِلاَّ حُرَّةً كِتَابِيَّةً).
أي: لا يجوز للمسلم - ولو كان عبداً - أن يتزوج كافرة، ويستثنى من ذلك الحرة الكتابية فيجوز التزوج بها.
قال تعالى (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ).
وقال تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)(الكوافر) جمع كافرة.
قال ابن كثير: تحريم من الله عز وجل على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن. (التفسير).
ويستثنى من هذا التحريم: الحرة الكتابية:
لقوله تعالى (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي: وأحل لكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب.
قال ابن كثير: هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مراداً وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله:(والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين. (التفسير).
قال ابن قدامة: ليْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، بِحَمْدِ اللَّهِ، اخْتِلَافٌ فِي حِلِّ حَرَائِرِ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَحُذَيْفَةُ وَسَلْمَانُ، وَجَابِرٌ، وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَوَائِلِ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ.
ثم قال رحمه الله: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ: طَلِّقُوهُنَّ.
فَطَلَّقُوهُنَّ إلَّا حُذَيْفَةَ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَالَ إلَيْهَا قَلْبُهُ فَفَتَنَتْهُ، وَرُبَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَيَمِيلُ إلَيْهَا. (المغني).
• وقد اختلف في المراد بالمحصنات هنا على قولين:
قيل: المراد بالمحصنات الحرائر، وقيل: المراد بالمحصنات العفيفات منهن.
ورجحه ابن كثير وقال: ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما قاله مجاهد في الرواية الأخرى عنه، وهو قول الجمهور ههنا، وهو الأشبه، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية.
قال ابن القيم: ويجوز نكاح الكتابية بنص القرآن، قال تعالى (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) والمحصنات هنا هن العفائف.
الخلاصة: يجوز للمسلم أن يتزوج كافرة بشرطين:
أن تكون كتابية، وأن تكون محصنة.
فائدة: 1
وقد تزوج بعض الصحابة من الكتابيات:
تزوج عثمان نصرانية، وتزوج طلحة بن عبيد الله نصرانية، وتزوج حذيفة يهودية.
عنْ شَقِيقٍ، قَالَ (تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ يَهُودِيَّةً، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: خَلِّ سَبِيلَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ فَأُخَلِّيَ سَبِيلَهَا؟ فَقَالَ: لَا أَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَعَاطَوُا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ) رواه ابن جرير.
قال ابن كثير: إسناده صحيح.
وعن عامِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نِسْطَاسٍ، (َأنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ نَكَحَ بِنْتَ عَظِيمِ الْيَهُودِ قَالَ: فَعَزَمَ عَلَيْهِ عُمَرُ إِلَّا مَا طَلَّقَهَا) رواه عبدالرزاق.
قال ابن جرير: إِنَّمَا كَرِهَ عُمَرُ، لِطَلْحَةَ، وَحُذَيْفَةَ، رحمه الله عَلَيْهِمْ نِكَاحَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ، حَذَرًا مِنْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَيَزْهَدُوا فِي الْمُسْلِمَاتِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي، فَأَمَرَهُمَا بِتَخْلِيَتِهِمَا.
فائدة: 2
اختلف العلماء في الحربية من أهل الكتاب هل يجوز الزواج منها أو لا على أقوال:
فقيل: يكره.
وهذا المذهب عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، واختيار ابن تيمية.
وقيل: يجوز نكاحها في دار الإسلام لا في دار الحرب.
وقيل: يحرم. والله أعلم.
فائدة: 3
اختلف العلماء: المرأة إذا كانت تدين بدين أهل الكتاب من نصرانية أو يهودية، ولكن أبوَيّها ليسا من أهل الكتاب، فهل تعتبر كتابية يباح نكاحها، أو لا تعتبر فيمنع النكاح منها؟ على قولين:
القول الأول: أن العبرة في إطلاق وصف الكتابي على دين الشخص نفسه دون النظر إلى أبويه، فتحل الكتابية وإن لم يكن أبواها كتابيين.
وبهذا قال الحنفية، والمالكية، واختاره ابن تيمية.
القول الثاني: أن من كان أبواها غير كتابيين فلا تحل، وإن كانت تدين بدين أهل الكتاب.
وبهذا قال الشافعية، والحنابلة.
(وَلَا يَنْكِحُ حُرٌّ مُسْلِمٌ أَمَةً مُسْلِمَةً، إِلاَّ أَنْ يَخَافَ عَنَتَ العُزُوبَةِ، لِحَاجَةِ المُتْعَةِ، وَيَعْجَزُ عَنْ طَوْلِ حُرَّةٍ).
أي: لا يجوز للحر المسلم أن يتزوج الأمَة المسلمة إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يخاف العنت، وهو المشقة بعدم الزواج ويخشى الزنا.
الشرط الثاني: أن يعجز عن مهر الحرة.
قال تعالى (ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ
…
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ).
والحكمة من أن الحر لا يتزوج أمة كما قال الإمام أحمد: لأنه إذا تزوج الأمة رق نصفه، أي صار رقيقاً، لأن الأولاد يكونون أرقاء تبعاً لأمهم.
قال ابن قدامة: أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ إذَا وُجِدَ فِيهِ الشَّرْطَانِ، عَدَمُ الطَّوْلِ، وَخَوْفُ الْعَنَتِ.
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافًا فِيهِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا) الْآيَةُ.
وَالصَّبْرُ عَنْهَا مَعَ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ).
إذَا عُدِمَ الشَّرْطَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُهَا لِحُرٍّ.
لقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ) إلَى قَوْلِهِ: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ).
فَشَرَطَ فِي نِكَاحِهَا عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ كَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مَعَ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الْإِعْتَاقِ.
وَلِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ إرْقَاقَ وَلَدِه. (المغني).
(وَمَتَى عَقَدَ عَلَيْهَا وَفِيهِ الشَّرْطَانِ؛ عَدَمُ الطَّوْلِ، وَخَوْفُ الْعَنَتِ، ثُمَّ أَيْسَرَ، لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ).
هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي الْمَذْهَبِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ يَفْسُدُ النِّكَاحُ.
وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، فَإِذَا زَالَتْ الْحَاجَةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِدَامَتُهُ، كَمَنْ أُبِيحَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الْحَلَالَ لَمْ يَسْتَدِمْهُ.
وَلَنَا، أَنَّ فَقْدَ الطَّوْلِ أَحَدُ شَرْطَيْ إبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، فَلَمْ تُعْتَبَر اسْتَدَامَتْهُ، كَخَوْفِ الْعَنَتِ، وَيُفَارِقُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّ أَكْلَهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ ابْتِدَاءٌ لِلْأَكْلِ، وَهَذَا لَا يَبْتَدِئُ النِّكَاحَ إنَّمَا يَسْتَدِيمُهُ، وَالِاسْتِدَامَةُ لِلنِّكَاحِ تُخَالِفُ ابْتِدَاءَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِدَّةَ وَالرِّدَّةَ وَأَمْنَ الْعَنَتِ يَمْنَعْنَ ابْتِدَاءَهُ
دُونَ اسْتِدَامَتِهُ.
…
(المغني)،
(وَلَا يَنْكِحُ عَبْدٌ سَيِّدَتَهُ).
أي: لا يجوز أن ينكح العبد سيدته حتى يخرج من ملكها.
لإجماع العلماء على تحريم ذلك.
قال ابن قدامة: يَحْرُمُ عَلَى الْعَبْدِ نِكَاحُ سَيِّدَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا بَاطِلٌ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْت جَابِرًا عَنْ الْعَبْدِ يَنْكِحُ سَيِّدَتَهُ، فَقَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَنَحْنُ بِالْجَابِيَةِ، وَقَدْ نَكَحَتْ عَبْدَهَا، فَانْتَهَرَهَا عُمَرُ وَهَمَّ أَنْ يَرْجُمَهَا، وَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَكِ ....
وَلَوْ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا [يعني: إن كان عبداً أو اشترته مثلاً]، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا. (المغني).
ونقل الزيلعي الحنفي رحمه الله الإجماع على بطلان نكاح العبد لسيدته.
قال ابن القيم: وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْ أَمَتِهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِالْوَطْءِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُبِحْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَمْتِعَ مِنْ عَبْدِهَا لَا بِوَطْءٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ كَمَالِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَحِكْمَتِهَا، فَإِنَّ السَّيِّدَ قَاهِرٌ لِمَمْلُوكِهِ، حَاكِمٌ عَلَيْهِ، مَالِكٌ لَهُ، وَالزَّوْجُ قَاهِرٌ لِزَوْجَتِهِ حَاكِمٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ تَحْتَ سُلْطَانِهِ وَحُكْمِهِ شِبْهُ الْأَسِيرِ; وَلِهَذَا مَنَعَ الْعَبْدَ مِنْ نِكَاحِ سَيِّدَتِهِ لِلتَّنَافِي بَيْنَ كَوْنِهِ مَمْلُوكَهَا وَبَعْلَهَا، وَبَيْنَ كَوْنِهَا سَيِّدَتَهُ وَمَوْطُوءَتَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ بِالْفِطْرَةِ وَالْعُقُولِ قُبْحُهُ، وَشَرِيعَةُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَنْ تَأْتِيَ بِه. (إعلام الموقعين).
(وَلَا سَيِّدٌ أَمَتَهُ).
أي: لا ينكح السيد أمته، (لا يجوز أن يتزوجها).
فقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز للسيد أن يتزوج أمته.
لأن عقد الملك أقوى من عقد الزوجية، ويفيد ما يفيده عقد الزوجة وزيادة، ويجوز له أن يتزوج أمَةَ غيره إذا توفرت شروط ذلك.
لأنه يستغني بوطئها بملك اليمين عن نكاحها بالعقد.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، فهو صلى الله عليه وسلم لم يتزوجها إلا بعد أعتقها.
ولأن ملك اليمين أقوى من عقد النكاح.
قال ابن قدامة: وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، وَإِبَاحَةَ الْبُضْعِ، فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَقْدٌ أَضْعَفُ مِنْهُ.
وقال القرطبي: ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له أن يتزوّج أَمَةَ نفسه؛ لتعارض الحقوق واختلافها. (التفسير).
بَابُ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
تقدم تعريف الشرط.
(وهي ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر).
أي: أن الشروط في النكاح: هي ما كان من وضع العاقدين، يشترطه أحد الزوجين على الآخر.
والفرق بينها وبين شروط النكاح:
أ- أن شروط النكاح من وضع الشارع، والشروط في النكاح من وضع العاقد.
ب- أن شروط النكاح يتوقف عليها صحة النكاح، وأما الشروط في النكاح فلا يتوقف عليها صحة النكاح وإنما يتوقف عليها لزومه.
ج- شروط النكاح لا يمكن إسقاطها، والشروط في النكاح يمكن إسقاطها. (وقد تقدم ذلك).
(وهي قسمان).
أي أن الشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين.
(صحيح).
هذا النوع الأول من أنواع الشروط، وهو: الشروط الصحيحة، وهو كل شرط لا يستلزم وقوعه في محرم.
وليعلم أنه يجب الوفاء بالشروط وخاصة شروط النكاح.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود).
وقال تعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً).
وهناك حديث خاص في المسألة:
عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) متفق عليه.
[توفوا] أي تؤتوها وافية كاملة. [ما استحللتم به الفروج] أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح، لأن أمره أحوط وبابه أضيق
فالحديث يبين أنه ينبغي لكل من الزوجين الوفاء بالشروط في النكاح، فأحق شرط يجب الوفاء به وأولاه، هو ما استحل به الفرج.
(كشرط زيادة في مهرِها، أو لا يُخرجها من دارها أو بلدها، أو شَرطت نقداً معيناً).
هذه أمثلة للشروط الصحيحة، فإذا اشترطت أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو اشترطت زيادة في مهرها أو زيادة في نفقتها، صح الشرط، ووجب الوفاء به، للحديث السابق (إن أحق الشروط أن توفا به. . .).
(أو أن لا يتزوج عليها).
أي: كأن تشترط الزوجة أن لا يتزوج عليها.
فهذا الشرط صحيح، فإن نكث بالشرط وتزوج عليها كان من حقها فسخ النكاح، لأنها إنما قبلت بالزواج منه على هذا الشرط.
وهذا المذهب عند الحنابلة، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم: أنه شرط صحيح، ويجب على الزوج الوفاء به.
أ- للحديث السابق (إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ).
فهو صريح في وجوب الوفاء بشروط النكاح، ومنها اشتراط المرأة على ناكحها أن كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق، فإذا أخل بذلك فلها حق الفسخ.
ب- وقد وقع في زمن الصحابة رضي الله عنهم اشتراط مثل ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولأن رجلا زَوَّج امرأة بشرط أن لا يتزوج عليها، فرفع ذلك إلى عمر، فقال: مقاطع الحقوق عند الشروط.
ج- ولحديث (المسلمون على شروطهم). وهو صريح في وجوب أن يفي المسلم بما شرط عليه.
د- أن اشتراط المرأة على ناكحها عدم تزوجه عليها فيه منفعة ومصلحة لها، وهذا الشرط لا يمنع المقصود من النكاح فكان صحيحاً لازماً
هـ- أن في موافقة الزوج على هذا الشرط إسقاط لحقه في الزواج بأخرى، ويجوز أن يتنازل الزوج عن حق من حقوقه عند عقد النكاح.
و- أن الشارع حرم على الإنسان مال غيره إلا عن تراض منه، ولا شك أن المرأة لم ترض ببذل فرجها إلا بهذا الشرط، وشأن الفرج أعظم من المال، فإذا حرم المال إلا بالتراضي فالفرج أولى.
ز- أن المرأة قد تشترط هذا الشرط، كأن تكون شديدة الغيرة، فتخشى أن تضيع حق بعلها
وذهب بعض العلماء: أن الشرط باطل، والنكاح صحيح.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية.
أ-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً)، قالوا: وهذا الشرط الذي اشترط يحرم الحلال، وهو التزوج والتسري وغير ذلك.
ب- لحديث (لا تسأل المرأة طلاق أختها
…
).
ج-ولقوله صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط) متفق عليه.
وقالوا: وهذا ليس في كتاب الله، لأن الشرع لا يقتضيه.
د- وقالوا: إن هذه الشروط ليست من مصلحة العقد ولا مقتضاه.
والراجح الجواز، ورجحه ابن القيم.
قال ابن القيم: وتضمن حكمُه صلى الله عليه وسلم بطلانَ اشتراط المرأة طلاقَ أختها، وأنه لا يجب الوفاءُ به. فإن قيل: فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها حتى صححتم هذا وأبطلتم شرط الضرة؟ قيل: الفرقُ بينهما أن في اشتراط طلاقِ الزوجة من الإضرار بِها، وكسرِ قلبها، وخرابِ بيتها، وشماتةِ أعدائها ما ليس في اشتراط عدمِ نكاحها، ونكاحِ غيرها، وقد فرق النصُّ بينهما، فقياس أحدهما على الآخر فاسد.
قال ابن قدامة: (وَإِذَا تَزَوَّجَهَا، وَشَرَطَ لَهَا أَنْ لا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا فَلَهَا شَرْطُهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ بِهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا، وَشَرَطَ لَهَا أَنْ لا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَلَهَا فِرَاقُهُ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشُّرُوطَ فِي النِّكَاحِ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلاثَةً، أَحَدُهَا مَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ مَا يَعُودُ إلَيْهَا نَفْعُهُ وَفَائِدَتُهُ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهَا أَنْ لا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا أَوْ لا يُسَافِرَ بِهَا، أَوْ لا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَلا يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لَهَا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاح. (المغني).
(أو طلاق ضرتِها).
كأن تقول الزوجة عند العقد، رضيت به زوجاً بشرط أن يطلق زوجته.
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وبه قال أبو الخطاب. [قال ابن قدامة: ولم أره لغيره]. (المغني).
أنه شرط لا ينافي العقد، ولأن لها فيه فائدة، إذ إن خلو المرأة من ضرة من أكبر أغراضها.
وذهب بعض العلماء: إلى هذا الشرط باطل.
وهو قول جمهور العلماء.
للنهي الوارد في ذلك.
أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) متفق عليه.
وفي رواية (لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) متفق عليه.
وفي رواية (نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا) متفق عليه.
وفي رواية (لا تشترط المرأة طلاق أختها) رواه أحمد.
وقد بوب البخاري في صحيحه على هذا الحديث بقوله: باب الشروط التي لا تحل في النكاح.
ب- ولما فيه من الظلم والعدوان، لأن حق الزوجة سابق.
[ولا تسأل المرأة] أي المرأة الأجنبية. [أختها] أي أختها في الدين، وفي التعبير باسم الأخت تشنيع لفعلها وتأكيد للنهي عنه، وتحريض لها على تركه. [لتكفئ ما في إنائها] هذا تمثيل لإمالة الضرة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها إذا سألت
الطلاق.
نقل الحافظ في (الفتح) عن ابن عبد البر قوله: الأخت الضرة، وفيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به.
وقال الشوكاني: ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أن تشترط عليه أن لا يقسم لضرتها أو ينفق عليها، أو يطلق من كانت تحته، فلا يجب الوفاء بشيء من ذلك.
فائدة: 1
إن شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها. فهذا يصح.
لحديث سودة (أنها جعلت يومها لعائشة على أن تبقى زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم متفق عليه.
لأن الحق لها وقد أسقطته.
فائدة: 2
إن شرط أن لا نفقة لها.
الصحيح أنه يصح، لأن المرأة قد ترغب بالزوج لدينه وخلقه ويكون هو فقير.
فائدة: 3
إن شرطت الزوجة الجديدة أن يقسم لها أكثر من ضرتها. فهذا شرط لا يصح.
لأنه متضمن للجور، وكذلك يتضمن إسقاط حق الغير بغير إذنه.
فائدة: 4
إن شرط لا مهر لها.
قال بعض العلماء: يصح النكاح دون الشرط، واختار ابن تيمية أن هذا الشرط فاسد مفسد.
لقوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ).
فشرط الله للحل أن تبتغوا بأموالكم، وما كان مشروطاً في الحل، فإن الحل لا يتم إلا به.
ولأنه إذا تزوجها بلا مهر، صار ذلك بمعنى الهبة، ومعلوم أن الهبة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
(فإن خالفَهُ فلها الفسخُ).
أي: إن خالف الزوج هذه الشروط فللمرأة الفسخ، حسب رغبتها، إن شاءت فسخت وإن شاء لم تفسخ.
وقد تقدم أن مخالفة الشرط الصحيح حرام، وأنه يجب الوفاء بالشرط الصحيح، خلافاً لبعض العلماء الذين قالوا: إن الوفاء الشرط مستحب.
إذاً: يترتب على إخلال الزوج بالوفاء بالشرط أمرين:
الأول: الوقوع في الإثم.
لمخالفته قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وأولى العقود أن يُوفى بها: عقود الزواج.
الثاني: حق الزوجة في طلب فسخ النكاح.
فهي بالخيار إن شاءت فسخت النكاح، وإن شاءت تنازلت عنه وبقيت على نكاحها.
قال ابن قدامة:
…
مثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهَا أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا أَوْ لَا يُسَافِرَ بِهَا، أَوْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَلَا يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لَهَا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ.
يُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهم وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَعُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَطَاوُسٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ.
(على التراخي ولا يسقط إلا بما يدل على رضاها من قول أو تمكين).
أي: فسخ المرأة للنكاح على التراخي وليس على الفور، إلا إن وجد منها ما يدل على الرضا من قول أو فعل.
من قول: كأن تقول: رضيت، أو تنازلت ونحو ذلك.
وفعل: كأن تُمكّنَه من وطئها.
(والفاسد نوعان).
أي: أن الشروط الفاسدة نوعان: نوع يبطل العقد، ونوع لا يبطله.
(نوع يُبطلُ النكاح، كنكاح الشغار: أن يزوج موليته بشرط أن يزوجه الآخر موليته ولا مهر بينهما).
تعريف نكاح الشغار:
الشغار: بالتشديد والكسر من شغر الكلب برجله إذا رفعها، بال أو لم يبل، أو من شغر المكان من أهله، أو من شغرت القرية من أميرها.
تعريفه اصطلاحاً:
تعريفه اصطلاحاً: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق.
وسمي نكاح الشغار شغاراً: لأن المتزوجين يرفعان المهر بينهما، أو أنهما يخليان النكاح من المهر.
حكمه حرام.
ونكاح الشغار حرام والنكاح باطل.
قال ابن عبد البر رحمه الله: وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي الشَّرِيعَةِ: فَهُوَ أَنْ يُنْكِحَ الرَّجُلُ وَلَيَّتَهُ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُنْكِحَهُ الْآخَرُ وَلَيَّتَهُ، وَلَا صَدَاقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بُضْعُ هَذِهِ بِبُضْعِ هَذِهِ، عَلَى مَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاء.
…
(الاستذكار).
وقال - أيضاً -: " وهذا ما لا خلاف بين العلماء فيه أَنَّهُ الشِّغَارُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيث. (التمهيد).
وقال ابن رشد رحمه الله: فَأَمَّا نِكَاحُ الشِّغَارِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صِفَتَهُ هُوَ أَنْ يُنْكِحَ الرَّجُلُ وَلِيَّتَهُ رَجُلًا آخَرَ عَلَى أَنْ يُنْكِحَهُ الْآخَرُ وَلِيَّتَهُ، وَلَا صَدَاقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بُضْعَ هَذِهِ بِبُضْعِ الْأُخْرَى، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْه. (بداية المجتهد).
أدلة تحريمه:
أ- عَنْ نَافِعٍ، عَنْ اِبْنِ عُمَرَ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشِّغَارِ; وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ اَلرَّجُلُ اِبْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ اَلْآخَرُ اِبْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ب- وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا شِغَارَ فِي الإِسْلَامِ) رواه مسلم.
ج- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشِّغَار، وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي أَوْ زَوِّجْنِي أُخْتَكَ وَأُزَوِّجُكَ أُخْتي) رواه مسلم.
فإذا وقع نكاح الشغار: فهو باطل سواء وقع قبل الدخول أم بعده.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
لحديث الباب، وفيما معناه من الآثار التي تدل على النهي عن نكاح الشغار، وأن النهي عن الشيء حكم بفساده وبطلانه.
إذا وقع نكاح الشغار فهو باطل يجب فسخه عند جمهور العلماء، وتجديد العقد.
وقال الشافعي: فَلَا يَحِلُّ النِّكَاحُ، وَهُوَ مَفْسُوخ. (الأم).
وقال ابن قدامة: وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ فَاسِد. (المغني).
وقال ابن عبد البر: وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ هَذَا النِّكَاحِ، وَيُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَه. (الاستذكار).
حكمه إذا سمي المهر؟
اختلف العلماء إذا سمي المهر، هل هو من الشغار أم لا على قولين:
القول الأول: إن سمي المهر فليس بشغار.
فالشغار لابد فيه من شرطين: وجود الشرط - وعدم المهر.
وهذا مذهب الحنابلة والحنفية.
قال الشَّافِعِي: وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الرَّجُلَ أَوْ الْمَرْأَةَ يَلِي أَمْرَهَا، عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ، أَوْ الْمَرْأَةَ يَلِي أَمْرَهَا، عَلَى أَنَّ صَدَاقَ إحْدَاهُمَا كَذَا، لِشَيْءٍ يُسَمِّيهِ، وَصَدَاقَ الْأُخْرَى كَذَا، لِشَيْءٍ يُسَمِّيهِ، أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ
…
فَلَيْسَ هَذَا بِالشِّغَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْه.
وقال ابن قدامة: فَأَمَّا إنْ سَمَّوْا مَعَ ذَلِكَ صَدَاقًا، فَقَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي، عَلَى أَنْ تُزَوِّجُنِي ابْنَتَك، وَمَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ، أَوْ مَهْرُ ابْنَتِي مِائَةٌ وَمَهْرُ ابْنَتِك خَمْسُونَ، أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ: صِحَّتُه. (المغني).
القول الثاني: أنه متى وجد الشرط فهو شغار ولو ذكر المهر.
وهذا مذهب المالكية والظاهرية، واختيار الخرقي.
أ-لحديث ابن عمر السابق (لا شغار في الإسلام).
ب- ولحديث أبي هريرة. قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار، زاد ابن نمير - والشغار: أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي) رواه مسلم.
ج- وبأن العباس بن عبد الله بن العباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته وكانا جعلا صداقاً، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال معاوية: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود.
قال ابن حزم: فهذا معاوية بحضرة الصحابة لا يعرف له منهم مخالف يفسخ هذا النكاح، وإن ذكر فيه الصداق، ويقول: إنه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتفع الإشكال جملة.
قال الشيخ ابن باز: فهذه الحادثة التي وقعت في عهد أمير المؤمنين معاوية توضح لنا معنى الشغار الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتقدمة، وأن تسمية الصداق لا تصحح النكاح ولا تخرجه عن كونه شغاراً؛ لأن العباس بن عبد الله، وعبد الرحمن بن الحكم قد سميا صداقاً، ولكن لم يلتفت معاوية رضي الله عنه إلى هذه التسمية وأمر بالتفريق بينهما، وقال: (هَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ومعاوية رضي الله عنه أعلم باللغة العربية وبمعاني أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من نافع مولى ابن عمر رضي الله عن الجميع.
أما العلاج لمن وقع في نكاح الشغار وهو يرغب في زوجته وهي ترغب فيه: فهو تجديد النكاح بولي، ومهر جديد، وشاهدي عدل؛ وبذلك تبرأ الذمة وتحل الزوجة، مع التوبة إلى الله سبحانه مما سلف. (انتهى).
تنبيه:
اختيار الشيخ ابن عثيمين:
قال رحمه الله: إذا توفرت في هذا النكاح ثلاثة شروط فإنه يصح ولا محظور وهي: رضا الزوجين، ومهر المثل، وأن يكون الزوج كفواً.
العلة من تحريمه:
قيل: الخلو من الصداق.
وقيل: هو اشتراط كل واحد من الرجلين أن ينكحه موليته.
وقيل: التشريك في البضع.
قال ابن القيم رحمه الله: واختلف في علة النهي:
فقيل: هي جعل كل واحد من العقدين شرطاً في الآخر.
وقيل: العلة التشريك في البُضع، وجعل بضع كل واحدة مهراً للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو الموافق للغة العرب. (زاد المعاد).
وقال الشوكاني مبيناً علة النهي:
الأول: هي خلو بضع كل منهما من الصداق - وليس المقتضي للبطلان عندهم مجرد ترك ذكر الصداق؛ لأن النكاح يصح بدون تسميته - بل المقتضي لذلك جعل البضع صداقاً.
ثانياً: التعليق والتوقيف؛ وكأنه يقول: لا ينعقد لك نكاح ابنتي حتى ينعقد لي نكاح ابنتك.
- ومن الحكم: أن الغالب أن الولي لا يختار الكفء لموليته، لأنه يريد شخصاً يزوجه ويبادله.
فائدة:
قال النووي: وأجمعوا على أن غير البنات من الأخوات، وبنات الأخ، والعمات، وبنات الأعمام، والإماء، كالبنات في هذا.
(ونكاح التحليل: أن يتزوج بشرط أنه إذا أحلها طلقها).
هذا النوع الثاني من الشروط الفاسدة التي تبطل النكاح.
نكاح التحليل هو: أن يعمد الرجل إلى المرأة المطلقة ثلاثاً فيتزوجها ليحلها لزوجها الأول.
وهو حرام ولا تحل به المرأة لزوجها الأول.
قال ابن قدامة رحمه الله: نكاح المحلل حرام باطل، في قول عامة أهل العلم،
…
فإن شُرط عليه التحليل قبل العقد، ولم يذكره في العقد، أو نوى التحليل من غير شرط، فالنكاح باطل أيضاً.
…
(المغني).
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) رَوَاهُ أَحْمَد.
الْمُحَلِّلَ هو من تزوجها ليحلها لزوجها الأول - وَالْمُحَلَّلَ له هو زوجها الأول.
وجه الاستدلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل، فعلم أن فعله حرام؛ لأن اللعن لا يكون إلا على معصية، بل لا يكاد يلعن إلا على فعل الكبيرة إذ الصغيرة تقع مكفرة بالحسنات إذا اجتنبت الكبائر - واللعنة هي الإقصاء والإبعاد عن رحمة الله - ولم يستوجب ذلك إلا بكبيرة.
قال ابن القيم: ولعنه صلى الله عليه وسلم لهما: إما خَبَر عن الله تعالى بوقوع لعنته عليهما، أو دُعاء عليهما باللعنة، وهذا يدلُّ على تحريمه، وأنه من الكبائر. (زاد المعاد).
ب- وسماه النبي صلى الله عليه وسلم تيساً مستعاراً.
عن عُقْبَة بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:(هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) رواه ابن ماجه.
فهذه الأحاديث تدل على تحريم نكاح التحليل، وأنه من كبائر الذنوب، وتدل أيضاً على عدم صحته.
فمتى نوى الزوج الثاني أنه متى حللها طلقها، فإنه لا تحل للأول، والنكاح باطل.
فالملعون على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم هو:
المحلل: هو الزوج الثاني إذا قصد التحليل ونواه، وكان عالماً.
والمحلل له: هو الزوج الأول، فيلحقه اللعن إذا كان عالماً.
جاء في (الموسوعة الفقهية) وقد صرح الجمهور - المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية - بفساد هذا النكاح؛ للحديثين السابقين، ولأن النكاح بشرط الإحلال في معنى النكاح المؤقت، وشرط التأقيت في النكاح يفسده، وما دام النكاح فاسداً: فلا يقع به
التحليل، ويؤيد هذا قول عمر رضي الله عنه:(والله لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما).
فائدة:
قال ابن القيم رحمه الله: ولا فرقَ عند أهل المدينة، وأهلِ الحديث، وفُقهائهم، بين اشتراط ذلك بالقول، أو بالتواطؤ، والقصدِ، فإن القُصود في العُقود عندهم معتبرة، والأعمالُ بالنيَّات، والشرطُ المتواطَأُ عليه الذي دخل عليه المتعاقدان: كالملفوظِ عندهم، والألفاظُ لا تُراد لعينها، بل لِلدلالَة على المعاني، فإذا ظهرت المعاني والمقاصدُ: فلا عِبْرَة بالألفاظ؛ لأنها وسائل، وقد تحقَّقت غاياتُها، فترتَّبَتْ عليها أحكامُها.
…
(زاد المعاد).
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: إذا تزوج الرجل المرأة بشرط التحليل، أو نواه، أو اتفقا عليه: فالعقد باطل، والنكاح غير صحيح.
وروى البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 208): عن نافع أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنه فسأله عن رجل طلَّق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخٌ له عن غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه: هل تحل للأول؟ قال: لا، إلا نكاح رغبة، كنَّا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسئل الإمام أحمد عن الرجل يتزوج المرأة، وفي نفسه أن يحلها لزوجها الأول، ولم تعلم المرأة بذلك. فقال: هو محلل، إذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: إذا نوى الزوج الثاني أنه متى حلَّلها للأول طلقها: فإنها لا تحل للأول، والنكاح باطل، والدليل: أن هذا نوى التحليل، فيكون داخلاً في اللعن، وقد قال النبي عليه السلام:(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). (الممتع)
قال ابن عبد البر رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة) دليل على أن إرادة المرأة الرجوع إلى زوجها لا يضر العاقد عليها، وأنها ليست بذلك في معنى التحليل المستحق صاحبه اللعنة " انتهى. "التمهيد" (13/ 227).
وقال ابن القيم رحمه الله: لا أثر لنية الزوجة ولا الولي وإنما التأثير لنية الزوج الثاني فإنه إذا نوى التحليل كان محللاً فيستحق اللعنة ثم يستحقها الزوج المطلق إذا رجعت إليه بهذا النكاح الباطل، فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول بما في قلب المرأة أو وليها من نية التحليل لم يضر ذلك العقد شيئاً. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم من امرأة رفاعة أنها كانت تريد أن ترجع إليه ولم يجعل ذلك مانعاً من رجوعها إليه، وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني فقال:(حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).
الخلاصة:
إذا تم الاتفاق مع الزوج الثاني أنه سيتزوجها ليحلها لزوجها الأول، أو نوى الزوج الثاني ذلك من غير اتفاق مع أحد، وليس له رغبة في نكاحها ولا البقاء معها، فهذا هو نكاح التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله، ولا تحل المرأة بهذا النكاح المحرم لزوجها الأول، حتى لو جامعها الثاني.
فائدة:
لكن هل نية المرأة معتبرة أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن النية المعتبرة في نكاح التحليل هي نية الزوج المحلل الناكح فقط.
وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، ورجحه ابن عبد البر.
لأن الطلاق والإمساك في عقد النكاح إنما هو للمحلل الناكح، وأما المرأة المحللة وكذا الزوج المحلل له فلا مدخل لهما في ذلك، فلزم أن لا يعتبر في نكاح التحليل سوى نية المحلل، لعدم تأثير من سواه في بقاء عقد النكاح وزواله.
قال ابن قدامة: ونية المرأة ليس بشيء، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله المحلل والمحلل له) ولأن العقد إنما يبطل بنية الزوج؛ لأنه الذي إليه المفارقة والإمساك، أما المرأة فلا تملك رفع العقد، فوجود نيتها وعدمها سواء، وكذلك الزوج الأول لا يملك شيئاً من العقد، ولا من رفعه، فهو أجنبي كسائر الأجانب.
فإن قيل: فكيف لعنه النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: إنما لعنه إذا رجع إليها بذلك التحليل؛ لأنها لم تحل له، فكان زانياً، فاستحق اللعنة لذلك.
القول الثاني: أن النية المعتبرة هي نية المرأة أو وليها أو الزوج الناكح.
وبه قال الحسن البصري، وسعيد بن المسيب.
القول الثالث: أن النية المعتبرة هي نية الزوج المحلل والزوجة المحللة فقط.
ومال إلى هذا ابن تيمية.
لأن فعلها ذلك تحايل على ما حرمه الشرع، فإن الشرع منعها من الرجوع إلى الأول حتى يحصل النكاح الثاني المبني على الرغبة والتأبيد، لا النكاح المؤقت التي يتوصل به إلى الرجوع للزوج الأول، ولما في عملها هذا من غش الزوج الثاني وخداعه، وإلحاق الضرر به غالباً، فإنها قد لا تتوصل إلى الخلاص منه إلا بتنغيص عيشه والإساءة إليه حتى يطلقها أو يخلعها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقال الحسن والنخعي وغيرهما: إذا همّ أحد الثلاثة فهو نكاح محلل، ويروى ذلك عن ابن المسيب. ولفظ إبراهيم النخعي: إذا كانت نية أحد الثلاثة: (الزوج الأول، أو الزوج الثاني، أو المرأة) أنه محلل فنكاح هذا الأخير باطل، ولا تحل للأول.
ووجه هذا: أن المرأة إذا نكحت الرجل وليست هي راغبة فيه فليست هي ناكحة كما تقدم، بل هي مستهزئة بآيات الله متلاعبة بحدود الله، وهي خادعة للرجل ماكرة به، وهي إن لم تملك الانفراد بالفرقة فإنها تنوي التسبب فيها على وجه تحصل به غالباً بأن تنوي الاختلاع منه وإظهار الزهد فيه وكراهته وبغضه، وذلك مما يبعثه على خلعها أو طلاقها، ويقتضيه في الغالب، ثم إن انضم إلى ذلك أن تنوي النشوز عنه، وفعل ما يكره لها، وترك ما ينبغي لها، فهذا أمر محرم وهو موجب للفرقة في العادة، فأشبه ما لو نوت ما يوجب الفرقة شرعاً، وإن لم تنو فعل محرم ولا ترك واجب، فهي ليست مريدة له، ومثل هذه في مظنة أن لا تقيم حدود الله معه، ولا يلتئم مقصود النكاح بينهما، فيفضي إلى الفرقة غالباً.
وأيضاً: فإن النكاح عقد يوجب المودة بين الزوجين والرحمة كما ذكره الله سبحانه في كتابه، ومقصوده السكن والازدواج، ومتى كانت المرأة من حين العقد تكره المقام معه وتود فرقته لم يكن النكاح معقوداً على وجه يحصل به مقصوده.
وأيضاً: فإن الله سبحانه قال (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) فلم يبح إلا نكاحاً يظن فيه أن يقيم حدود الله ومثل هذه المرأة لا تظن أن تقيم حدود الله; لأن كراهيتها له تمنع هذا الظن، ولأن المرأة تستوفي منافع الزوج بالنكاح كما يستوفي الرجل منافعها، وإذا كانت إنما تزوجت لتفارقه وتعود إلى الأول لا لتقيم معه لم تكن قاصدة للنكاح ولا مريدة له، فلا يصلح هذا النكاح على قاعدة إبطال الحيل. (الفتاوى الكبرى)(6/ 298).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وماذا لو نوته الزوجة، فوافقت على التزوج بالثاني من أجل أن تحل للأول؟ فظاهر كلام المؤلف أنه لا أثر لنية الزوجة؛ ووجهه: أنه ليس بيدها شيء، والزوج الثاني لا يطلقها؛ لأنه تزوجها نكاح رغبة، فليس على باله هذا الأمر، فإن لم تنوه هي ولكن نواه وليها فكذلك.
ولهذا قال بعض الفقهاء عبارة تعتبر قاعدة، قال: من لا فرقة بيده لا أثر لنيته، فعلى هذا تكون الزوجة ووليها لا أثر لنيتهما؛ لأنه لا فرقة بيدهما.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن نية المرأة ووليها كنية الزوج، وهو خلاف المذهب، وسلموا بأنه لا فرقة بيدهما، لكن قالوا: بإمكانهما أن يسعيا في إفساد النكاح، بأن تنكد على الزوج حتى يطلقها، أو يُغروه بالدراهم، والنكاح عقد بين زوج وزوجة، فإذا كانت نية الزوج مؤثرة فلتكن نية الزوجة مؤثرة أيضاً.
فعندنا ثلاثة: الزوج، والزوجة، والولي، والذي تؤثر نيته منهم هو الزوج على المذهب، والقول الراجح أن أي نية تقع من واحد من الثلاثة فإنها تُبطل العقد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات) والولي حينما عقد لم ينو نكاحاً مستمراً دائماً، وكذلك الزوجة.
فإذا قال قائل: امرأة رفاعة القرظي تزوجت عبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنهما وجاءت تشكو للرسول عليه الصلاة والسلام أن ما معه
مثل هدبة الثوب، فقال لها:(أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة)، فقالت: نعم، ألا يدل ذلك على أن نية الزوجة لا تؤثر؟ نقول: هذه الإرادة، هل هي قبل العقد، أو حدثت بعد أن رأت الزوج الثاني بهذا العيب؟ الذي يظهر أنها بعد أن رأته؛ لأن كون الرجل يتزوجها ويدخل بها، وليس عندها أي ممانعة، ثم جاءت تشتكي، فظاهر الحال أنه لولا أنها وجدت هذه العلة ما جاءت تشتكي، والله أعلم، وإن كان الحديث فيه احتمال " انتهى من "الشرح الممتع" (12/ 177).
فائدة: 2
نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من أوجه:
قال ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام يقول: نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من أوجه:
أحدها: أن نكاح المتعة كان مشروعاً في أول الإسلام، ونكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان.
الثاني: أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في الصحابة محلل قط.
الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجيء عنه في لعن المستمتِع والمستمتَع بها حرف واحد، وجاء عنه في لعن المحلِل والمحلَل له.
الرابع: أن المستمتِع له غرض صحيح في المرأة، ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح، فغرضه المقصود بالنكاح مدة، والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس، فنكاحه غير مقصود له، ولا للمرأة، ولا للولي، وإنما هو كما قال الحسن: مِسمار نار في حدود الله، وهذه التسمية مطابقة للمعنى.
الخامس: أن المستمتع لم يَحْتَل على تحليل ما حرم الله، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهراً وباطناً، والمحلل ماكر مخادع، متخذ آيات الله هزواً، ولذلك جاء في وعيده ولعنه ما لم يجيء في وعيد المستمتع مثله، ولا قريب منه.
السادس: أن الفِطَر السليمة، والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد، تنفر من التحليل أشد نفار، وتُعيِّر به أعظم تعيير، حتى إن كثيراً من النساء تعيّر المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا.
السابع: أن المحلل من جنس المنافق، فإن المنافق يُظهِر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهراً وباطناً، وهو في الباطن غير ملتزم به له، وكذلك المحلل يظهر أنه زوج، وأنه يريد النكاح، ويُسمِّي المهر، ويُشهِد على رضا المرأة، وفي الباطن بخلاف ذلك.
(ونكاح المتعة: وهو أن يتزوجها إلى مدة).
هذا النوع الثالث من الشروط الفاسدة المفسدة للعقد، وهو نكاح المتعة.
ونكاح المتعة: هي النكاح إلى أجل محدد بمهر.
قال ابن قدامة: معنى نكاح المتعة أن تزوج المرأة مدة، مثل أن يقول زوجتك ابنتي شهراً أو سنة.
وقال الحافظ ابن حجر: يعني تزويج المرأة إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة.
وحكمه: حرام.
وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل الفقه والحديث.
قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة.
أ- عن الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عام الفتح فَقَالَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الاِسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً). وفي رواية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهىَ يومَ الفتحِ عن مُتعَةِ النسَاء). رواه مسلم.
ب- وعَنْ سَلَمَةَ بن الأَكْوَع قَالَ (رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثاً ثُمَّ نَهَى عَنْهَا). رواه مسلم
[عام أوطاس] أي سنة غزوة أوطاس، وأوطاس واد في الطائف، غزوة أوطاس في شوال سنة 8 هـ[فتح مكة في رمضان وأوطاس في شوال]
ج- وعَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ).
فائدة: 1
هل كان هذا النكاح مباحاً في أول الإسلام؟
نعم، كان مباحاً في أول الإسلام ثم نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
كما في الحديث السابق [الربيع بن سبرة عن أبيه].
فائدة: 2
والحكمة من تحريم نكاح المتعة:
أن المقصود من النكاح هو العشرة الدائمة، وبناء البيت والأولاد، وهذا لا يمكن مع النكاح المؤجل في الحقيقة، كأنه استئجار للزنا.
فائدة: 3
سبب إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالاستمتاع بالنساء:
سبب ذلك: هو الحاجة والحرب.
أ- ففي حديث ابن مسعود قال (كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معنا نساء، فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل) متفق عليه.
ب-وذكر أبو ذر كما رواه عنه البيهقي بسند حسن: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهم فيها لحربهم ولخوفهم).
ج- وعن أبي جمرة قال (سمعت ابن عباس يُسأل عن متعة النساء فرخص، فقال مولى له: إنما ذلك في حال الشديد وفي النساء قلة؟ فقال: نعم).
د-وفي حديث جابر وسلمة بن الأكوع قالا (كنا في جيشٍ فأتانا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا) رواه البخاري.
فقوله (في جيش) تدل على أن الحال حال غزو.
هـ-ولحديث سبرة: (أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال: يا أيها الناس، إني قد كنت آذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة).
قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر هذه الآثار: هذه أخبار يقوي بعضها بعضاً، وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العزبة في حال السفر.
فائدة: 4
متى كان تحريم نكاح المتعة؟
وقع الخلاف بين العلماء متى كان تحريم نكاح المتعة وهل حرمت ثم أبيحت ثم حرمت أو حرمت مرة واحدة على أقوال:
القول الأول: أن تحريمها كان عام خيبر.
وهذا قول الشافعي وغيره.
لحديث عَلِىِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ).
القول الثاني: أنها حرمت عام الفتح.
ورجحه ابن القيم.
لحديث سبرة الماضي، فإن فيه التصريح أن التحريم كان عام الفتح.
والرواية الصحيحة عن سبرة أنها عام الفتح.
جاء في رواية لحديث سبرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع) رواه أبو داود.
لكن هذه الرواية شاذة، كما قال البيهقي، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: الرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر.
والراجح أنها حرمت عام الفتح كما قال ابن القيم.
فائدة: 5
النكاح بنية الطلاق.
تعريفه: أن يتزوج الرجل المرأة وهو يضمر في نيته طلاقها من غير علم المرأة أو وليها بذلك.
جاء في (المجمع الفقهي) الزواج بنية الطلاق وهو: زواج توافرت فيه أركان النكاح وشروطه وأضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة كعشرة أيام، أو مجهولة؛ كتعليق الزواج على إتمام دراسته أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله. (المجمع الفقهي)
اختلف العلماء في حكم الزواج بنية الطلاق هل هو متعة أم لا على أقوال:
اختلف العلماء في حكمه على أقوال:
فقيل: جائز وليس بمتعة.
وهو قول الجمهور.
قالوا: إن النكاح بنية الطلاق لا ينطبق عليه تعريف نكاح المتعة الذي ينكح فيه الزوجة إلى أجل، ومقتضى أنه إذا انتهى الأجل انفسخ النكاح ولا خيار للزوج فيه ولا للزوجة.
وقيل: حرام وهو نكاح متعة.
قال ابن مفلح: وإن تزوجها بغير شرط إلا أن في نيته طلاقها، فالنكاح صحيح في قول عامتهم خلافاً للأوزاعي فإنه قال: نكاح متعة والصحيح لا بأس به.
وقيل: هو حرام لكن النكاح صحيح.
وهذا اختيار الشيخ ابن عثيمين.
لما يترتب عليه من غش الزوجة وغش أهلها، ولما يترتب عليه من مفاسد كثيرة.
(وفاسدٌ لا يبطلُه).
هذا النوع الثالث من أنواع الشروط: شروط فاسدة لكن لا تبطل العقد. (يصح النكاح).
(كشرطِ أن لا مهرَ لها).
أي: إن شرط الزوج عدم المهر، فهذا شرط فاسد لكن النكاح صحيح.
وبهذا قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
يبطل الشرط: لأنه ينافي مقتضى العقد.
ويصح النكاح: لأن هذا الشرط يعود إلى معنى زائد في العقد لا يشترط ذكره ولا يضر الجهل به فلم يبطل كما لو شرط في العقد صداقاً محرماً.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يصح النكاح.
وهذا اختيار ابن تيمية.
أ- لقوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم).
فشرط الله للحل أن تبتغوا بأموالكم، وما كان مشروطاً في الحل، فإن الحل لا يتم إلا به.
ب- ولأنه إذا تزوجها بلا مهر، صار ذلك بمعنى الهبة، ومعلوم أن الهبة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ج- أن اشترط عدم المهر شبيه بنكاح الشغار.
وهذا الصحيح.
(أو لا نفقةَ).
أي: إن شرط الزوج أن لا نفقة لها، فهذا شرط فاسد لكن النكاح صحيح.
لأنه ينافي مقتضى العقد، لأن مقتضى العقد أن الزوج ينفق على زوجته.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه شرط صحيح.
لأن المرأة قد ترغب بالزوج لدينه وخلقه ويكون هو فقير.
فائدة: 1
اختلف أهل العلم فيما إذا اشترط الزوج على زوجته أن يقسم لها مبيتا أقل من ضرتها، أو ينفق عليها أقل من ضرتها، هل لها أن ترجع عما شُرط عليها وتنازلت عنه، على قولين.
القول الأول: لها أن ترجع وعلى الزوج حينئذ أن يعطيها حقها من القسم والنفقة.
وهذا قول جمهور أهل العلم من الحنفية والحنابلة والشافعية والمالكية.
لها أن ترجع، وعلى الزوج حينئذ أن يعطيها حقها من القسم والنفقة، فإن لم يستطع الوفاء، أو لم يُرِد: فلها الحق في فسخ النكاح.
والقول الثاني: ليس لها الرجوع.
وهو قول الحسن وعطاء وغيرهما.
فإن رجعت مستقبلاً وأصرّت على المطالبة بكامل حقها من المبيت أو النفقة، فلا يجبر الزوج على الطلاق، بل تفتدي نفسها وتختلع.
وأظهر القولين في المسألة -والله أعلم- هو القول الثاني؛ فإن هذا شرط رضيت به على نفسها عند العقد، وقد قال صلى الله عليه وسلم (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) وكما أنها إذا شَرطت عليه إسقاط بعض حقه لزمه، فكذلك إذا شرط عليها إسقاط بعض حقها فيلزمها.
(أو أن يقسمَ لها أقل من ضرتِها).
فهذا شرط فاسد لكن النكاح صحيح.
وذهب بعض العلماء: إلى صحة هذا الشرط.
لحديث سودة (أنها جعلت يومها لعائشة على أن تبقى زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم متفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين: إذا شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها، فالمذهب لا يصح.
والصحيح أنه يصح، فإذا قال: أنا عندي زوجة سأعطيها يومين وأنت يوماً، فرضيت بذلك فلا مانع، فهذه سودة بنت زمعة رضي الله عنها وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم. (الشرح الممتع).
فائدة: 1
حكم إن شرطت أن يكون الطلاق بيدها؟
قيل: لا يجوز هذا الشرط.
وهذا قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.
أ- لأن الله قال (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم).
والطلاق فرع عن جعل القوامة للرجل، وبالتالي فإن الطلاق في الأصل هو من حق الرجل، وهذا هو الذي يتفق مع الفطرة.
ب- وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).
فجعل الله الطلاق بيد الرجل، واشتراط أن الطلاق بيد المرأة مخالف لظاهر الآية.
وقيل: يصح هذا الشرط.
وهو قول الحنفية.
واستدلوا بعموم الأدلة الآمرة بالوفاء بالعقود والعهود.
والراجح الأول.
فائدة: 2
قال ابن قدامة: الزَّوْجَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَ بِنَفْسِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُفَوِّضَهُ إلَى الْمَرْأَةِ، وَيَجْعَلَهُ إلَى اخْتِيَارِهَا؛ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَاخْتَرْنَهُ، وَمَتَى جَعَلَ أَمَرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا، فَهُوَ بِيَدِهَا أَبَدًا، لَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَبِهِ قَالَ الْحَكَمُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وقال النووي: يصح توكيل المرأة في طلاق غيرها على الأصح، كما يصح أن يفوض إليها طلاق نفسها. (روضة الطالبين)
وجاء في (الموسوعة الفقهية) الطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ قَوْلِيٌّ، وَهُوَ حَقُّ الرَّجُل كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَمْلِكُهُ وَيَمْلِكُ الإْنَابَةَ فِيهِ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ الأْخْرَى الَّتِي يَمْلِكُهَا، كَالْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ
…
فَإِذَا قَال رَجُلٌ لآِخَرَ: وَكَّلْتُكَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ، فَطَلَّقَهَا عَنْهُ، جَازَ، وَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ نَفْسِهَا: وَكَّلْتُكِ بِطَلَاقِ نَفْسِكِ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، جَازَ أَيْضًا، وَلَا تَكُونُ فِي هَذَا أَقَل مِنَ الأْجْنَبِيِّ. . " انتهى.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: الأصل أن الطلاق بيد الزوج، ومن يفوض إلى ذلك من طريق الزوج، هذا إذا كان الزوج أهلاً لصدور الطلاق منه، وأما إذا لم يكن أهلاً فإن وليه يقوم مقامه.
وإذا فوض الزوج إلى زوجته أن تطلق نفسها منه فلها أن تطلق نفسها منه ما لم يفسخ الوكالة، وأما جعل الزوج العصمة بيد الزوجة بشرط في العقد؛ متى شاءت طلقت نفسها: فهذا الشرط باطل؛ لكونه يخالف مقتضى العقد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. (فتاوى اللجنة).
(وإنْ عتَقتْ تحت عبد فلها الخيار لا تحت حر).
أي: إذا عتقت الأمَة وكان زوجها عبداً، فإن لها الخيار بين البقاء معه وبين فراقه.
لحديث عَائِشَة قَالَتْ (كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ أَرَادَ أَهْلُهَا أَنْ يَبِيعُوهَا وَيَشْتَرِطُوا وَلَاءَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ». قَالَتْ وَعَتَقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وكان زوجها عبداً. قَالَتْ وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا وَتُهْدِى لَنَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ لَكُمْ هَدِيَّةٌ فَكُلُوهُ) رواه مسلم.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ عَبْدًا لِبَنِي فُلَانٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَة) رواه البخاري
قال ابن قدامة: ولأن عليها ضرراً في كونها حرة تحت العبد فكان لها الخيار، وهذا مما لا خلاف فيه.
(فإنْ مكنتْهُ من وطئِها أو مباشرتها أو قُبلتها بطلَ خيارُها).
يسقط خيار المرأة في الفسخ:
بالقول: كأن تقول: رضيت به.
بالفعل: بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة أو قُبلة بعد علمها بثبوت الحق لها.
وقد روى أبو داود عن عائشة (أن بريرة أعْتقتْ وهي عند مُغيث، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: إن قَرَبَكِ فلا خيارَ لكِ).
(لا تحت حر).
أي: إذا عتقت الأمَة وزوجها حر فلا خيار لها.
وهذا قول أكثر العلماء.
قال ابن قدامة: وَإِنْ عَتَقَتْ تَحْتَ حُرٍّ، فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ.
وقال ابن حجر عند قول البخاري (باب خيار الأمة تحت العبد) واقتضت الترجمة بطريق المفهوم أن الأمة إذا كانت تحت حر فعتقت لم يكن لها خيار، وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب الجمهور إلى ذلك.
أ- أنه لا خيار لها، لأن الحديث (كان زوجها عبداً) فمفهومه أنه إذا كانت تحت حر فعتقت لم بكن لها خيار.
ب- لأنها كافأت زوجها في الكمال، فلم يثبت لها الخيار، كما لو أسلمت الكتابية تحت مسلم.
وذهب بعض العلماء: إلى أن لها الخيار.
وهذا قول الحنفية.
أ- واحتجوا برواية (وكان زوجها حراً) وتقدم أن الصواب أن زوجها كان عبداً.
ب- ولأنها كملت بالحرية، فكان لها الخيار، كما لو كان زوجها عبداً.
والراجح الأول.
باب العيوب في النكاح
العيوب: لغة جمع عيب وهو النقص.
واصطلاحاً: نقصٌ عقلي أو بدني في أحد الزوجين يمنع من تحصيل مقاصد النكاح أو التمتع بالحياة الزوجية.
فائدة: 1
ذهب جمهور العلماء إلى ثبوت فسخ النكاح إذا وجد عيب بأحد الزوجين.
وذهب الحنفية إلى أن الزوج لا حق له في الفسخ إذا وجد زوجته معيبة، استغناءً بما جعل له الشرع من الطلاق، وستراً على المرأة، وتجنباً للتشهير بها، وأما الزوجة فيقولون: إن كانت عيوباً منفرة فلا فسخ لها، وإن كان العيب يمنع الوطء فلها الفسخ.
فائدة: 2
اختلف العلماء في العيوب التي يفسخ بها النكاح، هل هي محصورة بعدد معين أم لا على قولين:
القول الأول: أن العيوب التي يفسخ بها عقد النكاح محصورة في عدد معين من العيوب.
وإلى هذا ذهب جماهير العلماء.
كعيوب الفرج والجذام والبرص والجنون، قالوا: لأن هذا هو المروي عن الصحابة فلا نتعداه لغيره.
القول الثاني: عدم حصر العيوب الموجبة لفسخ عقد النكاح بعدد معين.
بل إن كل عيب يحصل به ضرر فاحش، أو يكون منفراً يمنع المقاصد المشروعة من النكاح يفسخ به عقد النكاح إذا طالب المتضرر من الزوجين بذلك.
وإلى هذا ذهب الزهري، وأبو ثور، وابن تيمية، وابن القيم.
قال ابن القيم: وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له.
وهذا الأرجح.
فكل عيب يمنع استمتاع الزوجين أو ينفر عن كماله أو يخشى تعدية أو لا يحصل معه مقصود النكاح من الرحمة والمودة
فإن هذا يثبت الخيار، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية واختيار الشيخ السعدي.
وعلى هذا: فالعمى عيب، وكذلك الخرس، وكذلك قطع أحد الأعضاء.
أ- عموم الأدلة الدالة على جواز فسخ العقد بالعيب كما سبق ذكرها فإن تلك الأدلة عامة تدل على جواز فسخ عقد النكاح بالعيب، وما ذكر فيها من العيوب إنما جاء ذلك على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر.
قال العلامة ابن القيم: ومن تأمل في فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب.
ب- ما رواه عبدالرزاق (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية فتزوج امرأة وكان عقيماً، فقال له عمر: «أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعلمها ثم خيرِّها).
وجه الاستدلال: أن عمر أمره بتخيير زوجته بعيب العقم، والعقم ليس من العيوب التي ذكرها المخالفون على سبيل الحصر، وهذا يدل على أنه لا حصر في العيوب الموجبة لفسخ النكاح.
ج- قياس عقد النكاح على عقد البيع، وذلك لأن كلاً منهما عقد يجب أن يوفي بالشروط التي تشترط فيه، ولما كان عقد البيع يثبت فيه الفسخ بأي عيب جرى العرف السلامة منه، فكذلك عقد النكاح يثبت فيه الفسخ إذا وجد في أحد الزوجين عيب جرى العرف السلامة منه، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، بل إن عقد النكاح أولى بذلك من عقد البيع، لما ورد من التأكيد على الوفاء بشرطها.
د-أن ثبوت الفسخ ببقية العيوب المذكورة المتفق عليها إنما جاء لدفع الضرر عن الطرف الخالي منها من الزوجين، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء جميعاً كما ظهر ذلك من خلال تعليلاتهم للفسخ بالعيوب التي قالوا بالفسخ بها، وإذا كان الأمر كذلك، فهناك من العيوب ما هو أشد ضرراً على الزوج السليم وعلى النسل منهما، من العيوب المذكورة؛ لأن بعضها قد تكون عيوبا معدية، فلما ثبت الخيار ببرص صغير في الجسم، فلأن تثبت بتلك العيوب والأمراض المضرة والخطيرة من باب أولى.
فائدة: 3
الأصل في هذا الباب:
أ- ما ورد عن عمر، وابنه، وابن عباس وغيرهم. (لم يرد شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ب- والقياس على العيوب في البيع.
(متى وجد أحد الزوجين الآخر مملوكاً أو مجنوناً أو أبرص أو مجذوماً أو وجد الرجل المرأة رتقاء أو وجدته مجبوباً، أو عنيناً فله فسخ النكاح إن لم يكن علم ذلك قبل العقد).
هذه جملة من العيوب، متى وجدت في أحد الزوجين جاز له الفسخ.
والعيوب ثلاثة أقسام:
قسم مشترك بين الزوجين. (كالجذام، والجنون، والبرص، وبخر الفم).
وقسم مختص بالزوجة. (كالرتق. . .).
وقسم مختص بالزوج. (كالعنة، أو مقطوع الذكر، أو. . .).
(مملوكاً) فمتى تزوج الحر امرأة فبانت أمَة فله الفسخ.
أو العكس، أي: تزوجت الحرة رجلاً فبان عبداً مملوكاً فلها الفسخ.
(أو مجنوناً) الجنون: اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال على نهجة إلا نادراً.
(أو أبرص) البرص: بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد المزاج، وعند الفقهاء هو: بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته.
(أو مجذوماً) الجذام: علة يحمر منها العضو ثم يسود، ثم ينقطع ويتناثر، وينتشر في كل عضو، غير أنه يكون في الوجه أغلب.
(أو وجد الرجل المرأة رتقاء) الرتق: انسداد الفرج باللحم.
أو وجدته مجبوباً) الجب: قطع الذكر كله بحيث لم يبق منه ما يطأ به.
(أو عنيناً) العنين هو من لا يقدر على جماع فرج زوجته مع وجود الآلة لمانع منه ككبر أو سحر.
(فله فسخ النكاح إن لم يكن علم ذلك قبل العقد) أي: فلكل من وجد عيباً في صاحبه من العيوب السابقة فسخ النكاح إن لم يكن علم بذلك.
فائدة:
قال ابن قدامة: إِنْ رَضِيَ بِعَيْبٍ، فَبَانَ بِهِ غَيْرُهُ، فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَلَا بِجِنْسِهِ، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، كَالْمَبِيعِ إذَا رَضِيَ بِعَيْبٍ فِيهِ، فَوَجَدَ بِهِ غَيْرَهُ.
وَإِنْ رَضِيَ بِعَيْبٍ، فَزَادَ بَعْدَ الْعَقْدِ، كَأَنْ بِهِ قَلِيلٌ مِنْ الْبَرَصِ، فَانْبَسَطَ فِي جِلْدِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِهِ رِضًى بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ. (المغني)
وقال الشيخ ابن عثيمين: فإذا ظن العيب يسيراً فبان كبيراً.
مثال ذلك: رأى في أصبع امرأته برصاً، أو هي رأت في طرف أصبعه فظنت أنه يسير، لكن تبين أنه غالب جلده المستور بالثياب.
فهنا يسقط الخيار؛ لأنها رضيت بجنس العيب، وكذلك هو بالعكس، لما رضي بجنس العيب، قلنا: أنت الذي فرطت، لماذا لم تنقب عن هذا العيب، هل هو كثير أو قليل؟
وكذلك لو رضيت بجنونه أو رضي هو بجنونها لمدة ساعة، فتبين أنها تجن لساعات، أو لأيام فإنه يسقط الخيار؛ وذلك لأنه رضي بجنس العيب، أما مقداره فهو المفرط في عدم التثبت والتنقيب عن مدى هذا العيب. (الشرح الممتع).
(ولو حدثَ بعدَ العقدِ).
أي: ولو حدث العيب بعد العقد، فلمن له الحق أن يفسخ.
(أو كانَ بالآخرِ عيبٌ مثلُهُ).
أي: فله الفسخ.
لأن الإنسان ينفر من عيب غيره ولا ينفر من عيب نفسه.
قال ابن قدامة: إذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ عَيْبًا، وَبِهِ عَيْبٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَالْأَبْرَصِ يَجِدُ الْمَرْأَةَ مَجْنُونَةً أَوْ مَجْذُومَةً، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ؛ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، إلَّا أَنْ يَجِدَ الْمَجْبُوبُ الْمَرْأَةَ رَتْقَاءَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّ عَيْبَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَانِعَ لَصَاحِبِهِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَيْبِ نَفْسِهِ.
وَإِنْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ عَيْبًا بِهِ مِثْلُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا، لَا خِيَارَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَلَا مَزِيَّةَ لَأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبهِ، فَأَشْبَهَا الصَّحِيحَيْنِ.
وَالثَّانِي، لَهُ الْخِيَارُ؛ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غُرَّ عَبْدٌ بِأَمَةٍ. (المغني).
(وإذا وجدتُه عنّيناً: أجل إلى سنة، فإن مضت وهو على حاله فلها الفسخ).
أي: وإذا وجدت المرأة الزوج عنيناً [وهو العاجز عن الجماع لمرضٍ أصابه أو لضعف خلقتهِ أو لكبرِ سنهِ] فإنه يؤجل سنة.
فالعنين يؤجل سنة منذ رفعته للحاكم لا منذ دخوله عليها.
فالعنّة عيب، يثبت للزوجة الفسخ، لأن العنّة معنى لا يمكن معه الوطء، وذلك هو المقصود بالنكاح.
وقد جاء التفريق بالعنة: عن عمر وعثمان وابن مسعود وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي معاوية وغيرهم من الصحابة.
-وقوله (أجل إلى سنة) الحكمة من تأجيله سنة: لتمر عليه الفصول الأربعة، فإن تعذر الجماع قد يكون لعارض حرارة فيزول في الشتاء، أو لبرودة فيزول في الصيف، أو يبوسة فيزول في الربيع أو رطوبة فيزول في الخريف، فإذا مضت الفصول فلم يزل علمَ أنه خِلْقة.
(فيفسخ بكل عيبٍ تقدم لا بغيره، كعور وعرج وقطع رجل وعمى).
تقدم أن أكثر العلماء يرون أن العيوب في النكاح محصورة في عدد معين.
وعلى هذا القول: فالعمى، والعور، والعرج، وقطع الرجِل لا تعتبر عيوباً.
لأن ذلك لا يمنع الاستمتاع، ولا يخشى تعديه.
قال ابن قدامة: وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْفَسْخُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ الْجُذَامَ وَالْبَرَصَ يُثِيرَانِ نَفْرَةً فِي النَّفْس تَمْنَعُ قُرْبَانَهُ، وَيُخْشَى تَعَدِّيهِ إلَى النَّفْسِ وَالنَّسْلِ، فَيَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ، وَالْجُنُونُ يُثِيرُ نَفْرَةً وَيُخْشَى ضَرَرُهُ، وَالْجَبُّ وَالرَّتْقُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْوَطْءُ، وَالْفَتْقُ يَمْنَعُ لَذَّةَ الْوَطْءِ وَفَائِدَتَهُ. (المغني).
وقال رحمه الله: لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ:
لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْشَى تَعَدِّيهِ، فَلَمْ يُفْسَخْ بِهِ النِّكَاحُ، كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ.
وَلِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَا نَصَّ فِي غَيْرِ هَذِهِ وَلَا إجْمَاعَ.
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى هَذِهِ الْعُيُوبِ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْق.
…
(المغني).
وتقدم أن الراجح أن العيوب في النكاح ليست محصورة بعدد معين، بل كل عيب ينفر منه الآخر عرفاً يعتبر عيباً.
ورجحه ابن القيم كما تقدم.
فائدة: 1
هل العقم عيب أم لا؟
اختلف الفقهاء في العقم هل يعد عيباً في النكاح، على قولين:
الأول: أنه لا يعد عيباً.
وهو قول جمهور أهل العلم، إلا الحسن البصري رحمه الله فقد جعله عيباً يوجب الفسخ، واستحب أحمد أن يبين الرجل العقيم أمره قبل الزواج.
القول الثاني: أنه يعتبر عيباً.
بناء على ما قرره ابن القيم: أن كل عيب ينفر أحد الزوجين من الآخر، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة، فإنه عيب يوجب الخيار.
وهذا المروي عن عمر بن الخطاب ورجحه ابن القيم.
وذلك لأن تحصيل الولد من أهم وأعظم مقاصد النكاح.
قال الشيخ ابن عثيمين: والصواب: أن العيب كل ما يفوت به مقصود النكاح، ولا شك أن من أهم مقاصد النكاح المتعة والخدمة والإنجاب، فإذا وجد ما يمنعها فهو عيب، وعلى هذا فلو وجدت الزوج عقيماً، أو وجدها هي عقيمة فهو عيب.
فصل
(وَمَنْ رَضِيَ بِالعَيْبِ، أَوْ وُجِدَتْ مِنْهُ دَلَالَتُهُ مَعَ عِلْمِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ).
أي: فإن رضيَ أحد الزوجين بعيب الآخر فلا خيار له.
كأن تقول المرأة: رضيت به معيباً.
قال ابن قدامة: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ، فَأَشْبَهَ مُشْتَرِيَ الْمَعِيبِ.
وقوله (أَوْ وُجِدَتْ مِنْهُ دَلَالَتُهُ
…
) فلا خيار.
كأن تُمكّنه من الجماع، فإذا مكنته من ذلك مع علمها بعيبه، دل ذلك على رضاها.
إذاً: يسقط الخيار بأمور:
أولاً: الرضا الصريح.
ثانياً: تمكين المرأة لزوجها مع وجود العيب.
(ولا يَتِمّ فسْخُ أَحَدِهِما إلا بحاكمٍ).
أي: لا يصح فسخ أحدهما إلا بحاكم يفسخ النكاح، وذلك لسببين:
الأول: لقطع النزاع.
الثاني: ولأن بعض العيوب مختلف فيها وحكم الحاكم يرفع الخلاف.
فائدة:
الفرق بين الفسخ والطلاق من وجهين:
أولاً: أن الفسخ لا يحتسب من الطلاق.
ثانياً: أن عدة الفسخ تكون استبراء بحيضة وعدة الطلاق ثلاث حيض.
(وإذا وقع الفسخُ قبل الدخول فلا مهر).
أي: إذا وجد الزوج في زوجته عيباً من العيوب التي ينفسخ بها النكاح (كالجذام أو البرص أو غيرها)، فإن كان قبل الدخول بها فلا مهر لها.
مثال: إذا اتضح له قبل الدخول أن بها برصاً أو جذاماً ثم طلقها وحصل الفراق، فهنا لا مهر لها.
لأن الفُرقة جاءت من قِبلها، لأنها هي المتسببة في فسخ النكاح.
• فإن كان العيب في الزوج، وهي فسخت من أجل عيب الزوج:
فقيل: لا مهر لها.
لأن الفرقة جاءت من قبلها، فهي التي طلبت الفسخ.
وقيل: لها نصف المهر، كالمطلقة قبل الدخول.
لأن الزوج هو السبب، وهذا هو مقتضى العدل، واختار هذا القول ابن عثيمين.
قال ابن قدامة: الْفَسْخَ إذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ الْمَرْأَةِ.
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْفَسْخَ إنْ كَانَ مِنْهَا، فَالْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا، فَسَقَطَ مَهْرُهَا، كَمَا لَوْ فَسَخَتْهُ بِرَضَاعِ زَوْجَةٍ لَهُ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ مِنْهُ، فَإِنَّمَا فَسَخَ لَعَيْبٍ بِهَا دَلَّسَتْهُ بِالْإِخْفَاءِ، فَصَارَ الْفَسْخُ كَأَنَّهُ مِنْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمْ فَسْخَهَا لِعَيْبِهِ، كَأَنَّهُ مِنْهُ؛ لِحُصُولِهِ بِتَدْلِيسِهِ؟ قُلْنَا: الْعِوَضُ مِنْ الزَّوْجِ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِهَا، فَإِذَا اخْتَارَتْ فَسْخَ الْعَقْدِ مَعَ سَلَامَةِ مَا عَقَدَتْ عَلَيْهِ، رَجَعَ الْعِوَضُ إلَى الْعَاقِدِ مَعَهَا، وَلَيْسَ مِنْ جِهَتِهَا عِوَضٌ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ لِأَجْلِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهَا، لَا لِتَعَذُّرِ مَا اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضًا، فَافْتَرَقَا. (المغني).
(وبعدَه يستقر).
أي: ذا علم بالعيب بعد الدخول بها، فإن المهر يستقر للزوجة وتملكه، سواء كان العيب فيها أو فيه.
لقوله صلى الله عليه وسلم (. . . ولها المهر بما استحللت من فرجها).
لكن هل يضيع حق الزوج إذا كان العيب في الزوجة؟
(ويرجعُ على من غرّه إنْ وُجِدَ).
أي: ويرجع الزوج على من غرّه إن كان هناك غروراً.
مثال: لو قال أحد للزوج، إن هذه الزوجة سليمة من العيوب، فتبين بها عيباً. فإنه يرجع على من غره.
سواء كان الذي غرّه أباها أو أخاها، أو الذي خطبها له ومدحها.
لقول عمر (أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ اِمْرَأَةً، فَدَخَلَ بِهَا، فَوَجَدَهَا بَرْصَاءَ، أَوْ مَجْنُونَةً، أَوْ مَجْذُومَةً، فَلَهَا اَلصَّدَاقُ بِمَسِيسِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْهَا) أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمَالِك.
لكن بشرط أن يكون الولي عالماً بالعيب، فإن كان جاهلاً فلا غرم عليه.
• فإن كان الغرور من المرأة، بمعنى أن المرأة فيها عيباً فسكتت كتمت؟ فإنه يرجع عليها.
• إذا لم يكن هناك غرور، فإنه لا يرجع على أحد.
وذهب بعض العلماء: أنه لا يرجع على أحد.
وهذا قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، واختاره الشوكاني.
قالوا: لان المهر ثبت عليه بمسيسه إياها.
باب نكاح الكفار
(نِكاحُهُمْ مُعتَبَرٌ ما اعتقدُوا حِلَّهُ، ولَم يَتَرافَعُوا إلينا).
أي: أن نكاح الكفار معتبر ويقرون على فاسده وإن خالف أنكحة المسلمين وذلك بشرطين:
الأول: أن يعتقدوا حله وصحته في شرعهم ولو كان محرماً في شرعنا.
والثاني: ألا يترافعوا إلينا.
قال ابن قدامة: أنْكِحَةُ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ، يُقَرُّونَ عَلَيْهَا إذَا أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا، إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فِي الْحَالِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى صِفَةِ عَقْدِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ الْوَلِيِّ، وَالشُّهُودِ، وَصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. (المغني).
وقال ابن عبد البر: وقد أسلم خلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونساؤهم وأقروا على أنكحتهم ولم يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شروط النكاح ولا عن كيفيته، وهذا أمر علم بالتواتر والضرورة، فكان يقيناً.
وقال السيد سابق: القاعدة العامة في زواج غير المسلمين: إقرار ما يوافق الشرع منها إذا أسلموا.
إن أنكحة الكفار لم يتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف وقعت، وهل صادفت الشروط المعتبرة في الإسلام فتصح، أم لم تصادفها فتبطل؟.
وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج، فإن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرهما، ولو كان في الجاهلية وقد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك، وإن لم يكن ممن يجوز له الاستمرار لم يقر عليه، كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم، أو أختان، أو أكثر، فهذا هو الأصل الذي أصلته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خالفه فلا يلتفت إليه. (فقه السنة).
وقد تقدم:
الرجل يسلم وتحته أختان، يخير في إمساك إحداهما وترك الأخرى.
والرجل يسلم وعنده أكثر من أربع يختار أربعاً منهن.
(وإن تَرافَعوا صَارَ كَأنكِحَتِنَا).
أي: وإن ترافعوا إلينا قبل عقده عقدناه على حكمنا، كأنكحة المسلمين، بإيجاب وقبول، وولي، وشهود.
قال تعالى (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط).
وإن ترافعوا إلينا بعد العقد، فإن كان مقتضى الفساد قائماً، كأن تكون زوجته من محارمه، فسخنا النكاح.
وإن كان مقتضيه قد زال أقررناهم عليه، مثل أن يكون قد تزوجها في عدة انقضت، أو بدون ولي، أو على أخت زوجة ماتت.
(وإنْ أسلمَ الزوجانِ معاً، أو أسلمَ زوج الكتابية، فهما على نكاحهما).
أي: فإن أسلم الزوجان معاً، بأن تلفظا بالإسلام دفعة واحدة فهما على نكاحهما، سواء كان قبل الدخول أو بعده.
لأنه لم يحصل بينهما اختلاف في الدين، وهذا بالإجماع.
قال ابن قدامة: أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا أَسْلَمَا مَعًا، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بِحَمْدِ اللَّهِ، ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ اخْتِلَافُ دِينٍ. (المغني).
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معاً في حالة واحدة، أن لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع، وقد أسلم خلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونساؤهم وأقروا على أنكحتهم ولم يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شروط النكاح ولا عن كيفيته، وهذا أمر علم بالتواتر والضرورة، فكان يقيناً.
وقال ابن المنذر: وأجمعوا على أنّهما -أي الزوجين غير المسلمين- لو أسلما معاً، أنهما على نكاحهما؛ كانت مدخولاً بها، أو لم تكن. (الإجماع).
قال ابن رشد: وأمّا الأنكحة التي انعقدت قبل الإسلام، ثمّ طرأ عليها الإسلام؛ فإنهم اتفقوا على أنّ الإسلام إذا كان منهما معاً؛ أعني من الزوج والزوجة، وقد كان عقد النكاح على من يصحُّ ابتداءً العقد عليها في الإسلام، أنّ الإسلام يصحِّح ذلك. (بداية المجتهد).
- وكذا إن أسلم زوج الكتابية - سواء كان كتابياً أو غير كتابي - فعلى نكاحهما.
لأنه يجوز للمسلم نكاح الكتابية في الإسلام، فبقاؤه أولى من ابتدائه.
(وإنْ أسلَمَ أحَدُ الزَّوجَينِ غَيرَ الكِتَابِيَينِ، أو زَوجَةُ كِتَابِيٍّ فلا نِكَاحَ قبلَ الدُّخولِ، ولا مَهْرَ)
أي: وإن أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين، كالمجوسيين يسلم أحدهما قبل الدخول بطل النكاح.
لأن اختلاف الدين يمنع الإقرار على النكاح.
أو أسلمت زوجة كتابي أو غير كتابي قبل الدخول فلا نكاح.
لأن المسلمة لا تحل لكافر.
(وبَعْدَهُ تَقِفُ الفُرْقَةُ على إسلامِ الآخَرِ في العِدَّةِ).
وبعده: أي بعد الدخول.
أي: إذا أسلم أحد الزوجيين غير الكتابيين، أو زوجة كتابي أو غيره، بعد الدخول:
فإن الفرقة تتوقف على انقضاء العدة:
فإن أسلم الآخر قبل انقضائها فهما على نكاحهما، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة وقعت الفرقة بينهما.
وهذا قول جمهور العلماء.
لحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ اِبْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ) رواه الترمذي.
وذهب بعض العلماء: أن النكاح باق حكماً ما لم تتزوج المرأة بآخر، ولو مكثت سنين، والأمر في ذلك إليها، ولا حكم له عليها، ولا حق لها عليه.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهو الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين رحمهم الله أجمعين -.
أ- لحديث ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (رَدَّ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اِبْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ اَلرَّبِيعِ، بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ اَلْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا) رَوَاه الترمذي.
وكان إسلامه بعد نزول آيات سورة الممتحنة والتي فيها تحريم المسلمات على المشركين بسنتين، والظاهر انقضاء عدتها في هذه المدة. ومع ذلك ردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه بالنكاح الأول.
ب- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال (كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُشْرِكِي أَهْلِ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ وَمُشْرِكِي أَهْلِ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ، وَلَا يُقَاتِلُونَهُ، وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ) رواه البخاري.
وجه الدلالة: قوله (فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ) يدل على أن الزوجة ترد إليه وإن طال الزمن، لأنه أطلق في هذا الحديث.
قال ابن القيم: الذي دلَّ عليه حُكمُه صلى الله عليه وسلم: أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبلَ انقضاء عِدتها: فهي زوجتُه، وإن انقضت عدتها: فلها أن تنكِحَ من شاءت، وإن أحبَّت انتظرته، فإن أسلم: كانَتْ زوجته مِن غير حاجة إلى تجديد نكاح. (زاد المعاد).
فائدة:
أجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأجوبة:
أولاً: أنه معارض بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والمثبت مقدم على النافي.
وأجيب: بأن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، حديث ضعيف.
قال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال.
ثانياً: أن عدة زينب امتدت إلى أن أسلم زوجها.
وأجيب: بأن هذا بعيد غاية البعد، وخلاف ما عرف من طبيعة النساء أن تبقى العدة إلى ست سنين.
ثالثاً: أن القصة كانت قبل تحريم المسلمات على المشركين، فلا دلالة فيها على هذا الحكم أصلاً.
وأجيب: بأن هذا مخالف لما أطبق عليه أهل المغازي أن إسلام أبي العاص كان بعد نزول تحريم المسلمة على المشرك.
وأيضاً: أسلم أناس بعد نزول التحريم كما أسلم الطلقاء وأسلم أهل الطائف وغيرهم فلم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين نسائهم، مع أن إسلامهم لم يكن في لحظة واحدة قطعاً.
رابعاً: أن معنى ردها بالنكاح الأول، أي: على مثل الصداق الأول.
وأجيب: بأن هذا عكس المفهوم من الحديث والظاهر منه.
كتاب الصداق
تعريفه: هو ما تعطاه المرأة من المال، أو ما يقوم مقامه عوضاً عن عقد النكاح عليها.
فائدة: 1
الحكمة من الصداق:
أن الصداق إظهار لشرف هذا العقد وأهميته.
أن فيه إعزاز للمرأة وتشريف لها.
أن فيه الدليل على الرغبة في الزوجة.
تمكين المرأة من تجهيز نفسها بما أحبت من لباس ونفقة وزينة.
فائدة: 2
وللصداق عدة أسماء:
فيسمى نِحلة كما قال تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).
ويسمى فريضة كما قال تعالى (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً).
ويسمى أجراً كما قال تعالى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).
ويسمى طوْلاً كما قال تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ).
(وهو واجب)
وقد نقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم على وجوبه.
أ- لقوله تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).
قال ابن عباس: النحلة: المهر
قال ابن كثير: في مضمون كلام المفسرين في هذه الآية: أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما وأن يكون طيّب النفس.
ب- ولأن الله تعالى قيّد الحل بقوله (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ).
قال القرطبي: (بِأَمْوَالِكُم) أباح اللّه تعالى الفروج بالأموال ولم يفصل، فوجب إذا حصل بغير المال ألّا تقع الإباحة به؛ لأنّها على غير الشّرط المأذون فيه. (تفسير القرطبي).
ج- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر الفقير الذي لم يجد خاتماً من حديد حتى ألزمه أن يعلمها من القرآن.
قال ابن حجر: فيه أن النكاح لا بد فيه من الصداق لقوله: هل عندك من شيء تصدقها؟ وقد أجمعوا على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يطأ فرجاً بغير ذكر صداق.
د- ولأن شرط إسقاطه يجعل العقد شبيهاً بالهبة، والزواج بالهبة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
(ويسن تخفيفُه).
أي: يسن تخفيف الصداق.
أ- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ; أَنَّهُ قَالَ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا. قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا اَلنَّشُّ? قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ. فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَزْوَاجِهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(أوقِيَّة) الأوقية 40 درهماً. (وَنَشًّا) النَشّ نصف أوقية. (فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ) يعني ذلك الصداق 500 درهم (1150) جرام (1725) ريالاً. (فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه) أي: هذا غالب أزواجه.
ب-عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خَيْرُ اَلصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
ج- وعن عائشة. عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال (إنّ أَعْظَمَ النّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَؤُونَةً) رواه أحمد.
د- وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أراد الزواج (التمس ولو خاتماً من حديد) متفق عليه.
هـ- وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته المثل الأعلى في ذلك، حتى ترسخ في المجتمع النظرة الصادقة لحقائق الأمور، وتشيع بين الناس روح السهولة واليسر.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: تَزَوَّجْتُ فَاطِمَةَ رضي الله عنها، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنِ هـ - وهو الدخول بالزوجة - قَالَ: أَعْطِهَا شَيْئًا. قُلْتُ: مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟ قُلْتُ: هِيَ عِنْدِي. قَالَ: فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ).؟؟؟
فهذا كان مهر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة.
و- وروى ابن ماجه أن عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ قال: لا تُغَالُوا صَدَاقَ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوًى عِنْدَ اللَّهِ كَانَ أَوْلاكُمْ وَأَحَقَّكُمْ بِهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مَا أَصْدَقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُثَقِّلُ صَدَقَةَ امْرَأَتِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي نَفْسِهِ وَيَقُولُ قَدْ كَلِفْتُ إِلَيْكِ عَلَقَ الْقِرْبَةِ.
قال ابن القيم: تضمنت الأحاديث أن الصداق لا يتقدر أقله، وأن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنها من قلة بركته وعسره، وأن المرأة إذا رضيت بعلم الزوج وحفظه للقرآن أو بعضه مهرها جاز ذلك، بل إن رضيت بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته القرآن، كان من أفضل المهور وأنفعها وأجلها. (زاد المعاد).
وقال الإمام الشوكاني تعليقاً على حديث عائشة (إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة) فيه دليل على أفضلية النكاح مع قلة المهر، وأن الزواج بمهر قليل مندوب إليه؛ لأن المهر إذا كان قليلا، لم يستصعب النكاح من يريده؛ فيكثر الزواج المرغب فيه، ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب النكاح، بخلاف ما إذا كان المهر كثيراً، فإنه لا يتمكن منه إلا أرباب الأموال، فيكون الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير مزوجين، فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم.
فائدة:
بعض مصالح تخفيف الصداق؟
أولاً: العمل بالسنة وامتثال ما أرشدت إليه.
ثانياً: تيسير سبل الزواج.
ثالثاً: أن تخفيفه من أسباب المحبة ودوام المودة.
رابعاً: أن تخفيف الصداق يسهل على الزوج مفارقة زوجته إذا ساءت العشرة، ولم يحصل توافق بينهما.
(وَتَسْمِيَتُهُ فِي العَقْد).
أي: يسن أن يذكر ويسمى الصداق في العقد.
قال ابن قدامة: فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْم.
أ- لقول النبي صلى الله عليه وسلم (التمس ولو خاتماً من حديد).
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم لعلي - لما أراد أن يتزوج فاطمة - أعطها شيئاً، قلت (أي علي) ما عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية، قلت: هي عندي، قال: فأعطها إياها.
ج- ولأنه أقطع للنزاع والخلاف.
فائدة:
وليست تسميته شرطاً، وهذا مذهب الجمهور.
لقوله تعالى (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَة).
وجه الدلالة: أن الله تعالى رفع الحرج عن الطلاق في النكاح الذي لم يسم فيه المهر، والطلاق لا يكون إلا في نكاح قد تم بعقد
صحيح.
ب- ولحديث ابن مسعود (أنه قضى في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقاً، قال رضي الله عنه: لها الصداق كاملاً، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بِرْوع بنت واشق بمثل ذلك).
وجه الدلالة: أن العقد صح مع عدم تسميته المهر، فلو لم يكن نكاحاً صحيحاً لما قضى النبي صلى الله عليه وسلم لبروع بالصداق.
(وَكُلُّ مَا صَحَّ ثَمَناً أَوْ أُجْرَةً صَحَّ مَهْراً وَإِنْ قَلَّ).
كل ما صح العقد عليه بيعاً، أو إجارة، فإنه يصح أن يكون صداقاً، سواء كان عيناً أو منفعة، ولو كان شيئاً قليلاً.
فالعين مثل: أن يعطيها دراهم أو يعطيها متاعاً.
والمنفعة مثل: استخدامها إياه، أو تستوفي منه بغير الخدمة أن يبني لها بيتاً.
ويدل على أنه يجوز ولو كان قليلاً:
حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ اَلسَّاعِدِيِّ رضي الله عنهما قَالَ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ اَلنَّظَرَ فِيهَا، وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ اَلْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. قَالَ: "فَهَلْ عِنْدكَ مِنْ شَيْءٍ? "فَقَالَ: لَا، وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، فَقَالَ: "اِذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا? "فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ? فَقَالَ: لَا، وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم "انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ" فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، يَا رَسُولَ اَللَّهِ، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي -قَالَ سَهْلٌ: مَالُهُ رِدَاءٌ- فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ? إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ فَجَلَسَ اَلرَّجُلُ، وَحَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ; فَرَآهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَدُعِيَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ. قَالَ: "مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ? "قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ: "تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ? "قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اِذْهَبْ، فَقَدَ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
والخاتم من الحديد لا يساوي شيئاً.
وقد ذهب بعض العلماء: أن أقل الصداق عشرة دراهم.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا مهر أقل من عشرة دراهم) رواه الدار قطني وهو حديث ضعيف.
وذهب بعضهم: إلى أن أقله ربع دينار.
وهذا مذهب مالك.
قياساً على نصاب القطع في السرقة، وهذا قياس في مقابل النص.
فائدة:
لا حد لأكثر الصداق.
قال ابن قدامة: ويجوز أن يكون كثيراً.
لقوله تعالى (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئاً). (الكافي).
قال القرطبي: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَكْثَرِهِ حَدٌّ. (بداية المجتهد).
جاء في (الموسوعة الفقهية) لا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا حَدَّ لأِكْثَرِ الْمَهْر.
(وأن يكون معلوماً).
أي: يجب أن يكون المهر معلوماً.
فإن اتفقا على مهر مجهول لم يصح، ووجب للزوجة مهر المثل.
مثال: لو قال أعطيك أحد دوري، أو أحد عبيدي، فلها مهر المثل.
قال ابن قدامة: ولا يصح الصداق إلا معلوما، وهذا مذهب الشافعي.
وقال الشيخ ابن عثيمين: لو أصدقها شيئاً مجهولاً فلا يجوز، ولها مهر المثل.
(وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ قُرْآنٍ لَمْ يَصِح).
أي: إن جعل صداقها أن يعلمها القرآن لم يصح.
أ-لقوله تعالى (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ
…
).
ب- وقال تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَات
…
)، فالفروج لا تستباح إلا بالأموال.
ج-وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج امرأة على سورة من القرآن، ثم قال (لا تكون لأحد بعدك مهراً) رواه سعيد بن منصور ولا يصح.
د- وقالوا: إن تعليم القرآن لا يقع إلا قربة، فلا يجوز أن يكون صداقاً كالصلاة.
هـ-أن تعليم القرآن أمر يختلف ولا ينضبط فأشبه المجهول، والمجهول لا يصح جعله مهراً.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز.
وهذا مذهب الشافعي، واختاره ابن القيم.
لحديث الواهبة نفسها وفيه (قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ).
والراجح - والله أعلم - أنه لا يصح جعل تعليم القرآن صداقاً إذا كان المال متيسراً على الزوج، فإن لم يتيسر المال صح جعله صداقاً، وهذا هو الذي يدل عليه حديث الواهبة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جعل تعليم القرآن صداقاً لهذا الرجل إلا حينما تعذر عليه المال ولم يجد شيئاً.
فائدة:
قال ابن قدامة: فإن قلنا بجوازه فأصدقها تعليم بعض القرآن فمن شرطه تعيين ذلك البعض لأن التعليم والمقاصد تختلف باختلافه. (الكافي)
(وَمَتَى بَطَلَ المُسَمَّى وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ).
هذه قاعدة: إذا بطل المسمى لأي سبب فلها مهر المثل.
ويبطل المسمى: إما لجهالته، أو لعدم ماليته، أو لكونه مغصوباً.
لجهالته: لو أصدقها عبد آبق لم يصح، ولها مهل المثل.
لعدم ماليته: كأن يصدقها شيئاً محرماً كخمر.
فإذا بطل المسمى وجب مهر المثل.
وقد تقدم في حديث ابن مسعود في امرأة عقد عليها زوجها ثم مات ولم يسم لها صداقاً فقال (لها مهر مثلها) رواه أبو داود.
- والمراد بمثلها: ما اعتاد الناس أن يدفعوه مهراً لأمثال هذه المرأة من قريباتها.
(وَإِذَا أُجِّلَ الصَّدَاقُ أَوْ بَعْضُهُ صَح).
أي: يَجُوز أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ مُعَجَّلًا، وَمُؤَجَّلًا، وَبَعْضُهُ مُعَجَّلًا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي مُعَاوَضَةٍ، فَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ كَالثَّمَنِ. (المغني).
مثال: قال لكِ خمسة آلاف حالة وخمسة آلاف مؤجلة إلى سنة، فإن هذا التأجيل يصح.
- لكن الأولى عدم التأجيل:
لقصة الواهبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل (التمس ولو خاتماً من حديد) ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم يبقى في ذمتك.
(فَإِنْ عَيَّنَا أَجَلاً أُنِيط به، وَإِلاَّ فَمَحِلُّهُ الْفُرْقَةُ).
أي: إذا عيّن الزوج والزوجة أجلاً معيناً للصداق تعين به.
وإن لم يعينا فمحله ومكانه الفرق بموت أو طلاق.
قال ابن القيم: تأجيل جزء من المهر وحكم المؤجل
…
الذي اتفق الزوجان على تأخير المطالبة به، وان لم يسميا أجلاً، بل قال الزوج مائة مقدمة ومائة مؤخرة؛ فإن المؤخر لا يستحق المطالبة به إلا بموت أو فرقة. هذا هو الصحيح، وهو منصوص أحمد فإنه قال في رواية جماعة من أصحابه: إذا تزوجها على العاجل والآجل، لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة. واختاره قدماء شيوخ المذهب والقاضي أبو يعلى، وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية، وهو قول النخعي والشعبي والليث بن سعد. (إعلام الموقعين).
قال الشيخ ابن عثيمين: الصداق المؤجل جائز ولا بأس به، فإذا اشترط الرجل تأجيل الصداق أو بعضه فلا بأس، ولكن يحل إن كان قد عين له أجلاً معلوماً، فيحل بهذا الأجل، وإن لم يؤجل فيحل بالفرقة: بطلاق، أو فسخ، أو موت، ويكون دَيْنًا على الزوج يطالب به بعد حلول أجله في الحياة، وبعد الممات كسائر الديون.
…
(مجموع الفتاوى).
فإن مات الزوج أولاً: حق للزوجة أن تأخذ من تركته مؤخر صداقها، قبل إخراج وصيته، أو توزيع تركته على الورثة، ثم تأخذ نصيبها من التركة كاملاً، إن بقي شيء فيها.
وإن كانت الزوجة هي التي ماتت قبل زوجها: فلورثتها أن يأخذوا نصيبهم في مؤخر الصداق، كغيره من أموالها، ويوزع عليهم بحسب نصيبهم في الميراث، بمن فيهم الزوج.
الخلاصة:
أن المهر المؤجل لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يعين الأجل، مؤجل إلى مدة سنة أو إلى سنتين، فيرجع إلى هذا الاتفاق.
والثاني: أن يكون مؤجلاً ويطلق، فيحل إذا حصلت الفرقة، إما بموت إذا مات الزوج حل المهر، أو طلقها طلاقاً بائناً حل المهر.
(وَإِنْ وَجَدَتِ المُبَاحَ مَعِيباً خُيِّرَتْ بَيْنَ أَرْشِهِ وَقِيمَتِه).
أي: وإن وجدت المرأة المهر معيباً فإنها تخيّر بين أمرين: بين أرشه وقيمته.
مثال: هذا رجل أصدقها بعيراً، ثم وجدته يعرج، فنقول لك الخيار، إن شئت أخذت القيمة، وإن شئت أخذت الأرش، فتأخذ القيمة إذا ردته إلى زوجها، وإن أبقته فلها الأرش، فيقال: هذا البعير يساوي لو كان سليماً مائة، ومعيباً ثمانين، فتعطى عشرين.
- والمراد بالعيب ما تنقص به قيمة المبيع.
- والأرش هو فرق ما بين القيمتين معيباً وسليماً.
(ويصح على ألف لها وألف لأبيها ويملكه بقبضه).
أي: إذا قال الأب في النكاح مهرها ألف لي وألف لها، فهذا صحيح.
لماذا صحيح؟
لقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عليه السلام (إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) فَجَعَلَ الصَّدَاقَ الْإِجَارَةَ عَلَى رِعَايَةِ غَنَمِهِ، وَهُوَ شَرْطٌ لِنَفْسِهِ.
وَلِأَنَّ لِلْوَالِدِ الْأَخْذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيكَ).
فَإِذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الصَّدَاقِ، يَكُونُ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ مَالِ ابْنَتِهِ، وَلَهُ ذَلِكَ. (المغني).
وذهب بعض العلماء: أنه لا يجوز للأب أن يشترط شيئاً من مهر ابنته.
قال الشيخ ابن عثيمين: والذي تؤيده السنة أنه لا يجوز أن يشترط الولي لنفسه شيئاً من المهر، سواء كان الأب أم غيره، لكن إذا تم العقد
وأراد الزوج أن يعطي الأب أو غيره من الأولياء، أو الأم، أو الخالة، أو ما أشبه ذلك شيئاً من باب الإكرام، فلا بأس به، كما دلت على ذلك السنة، أما ما كان قبل العقد فكله للمرأة، ولا يحل لأحد أن يشترط منه شيئاً لنفسه. (تفسير سورة النساء).
(وإن شرط لغير الأب فلها المسمى كله).
أي: غير الأب لا يجوز أن يشترط شيئاً من المهر.
قال ابن قدامة: إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ غَيْرُ الْأَبِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، كَالْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَجَمِيعُ الْمُسَمَّى لَهَا. (المغني)
قال الشيخ ابن عثيمين: المهر أو الصداق أو الجهاز أو ما أشبه ذلك من العبارات الدالة على العوض الذي تعطاه المرأة في مقابل نكاحها هذا مما يكون ملكاً للزوجة لقوله تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) ولا يحل لأحد أن يشترط لنفسه منه شيئاً لا الأب ولا غيره ولكن إذا تم العقد وأراد الزوج أن يكرم أحداً من أقارب الزوجة بهدية فلا حرج وكذلك أيضاً إذا تم العقد واستلمت المرأة مهرها وأراد أبوها أن يتملك منه شيئاً فلا حرج عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (أنت ومالك لأبيك) وأما جعل هذا شرطاً عند العقد بحيث يعرف أن لأبيها أو لأخيها أو من يتولى عقدها شيئاً مما جعل لها فإن ذلك حرام. (فتاوى نور على الدرب).
فائدة:
حكم الهدايا التي يقدمها الخطيب لمخطوبته؟ إذا تم فسخ الخطبة؟
الأصل تحريم الرجوع في الهدية والهبة، لما ورد في ذم ذلك والنهي عنه.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ).
فما يقدمه الخاطب لمخطوبته قبل العقد، قد يكون جزءاً من المهر، وقد يكون هدية من الهدايا، ويعرف ذلك بالتصريح، أو بالعرف، فالشبكة في بعض البلدان تكون جزءاً من المهر، ولهذا قد يقدم الخاطب قبلها خاتماً أو شيئاً يسيراً من الذهب هدية للمخطوبة.
وبناء على هذا التفصيل ينبني الحكم:
فإن كانت الشبكة جزءاً من المهر، وعُلم ذلك، بالتصريح، أو بجريان العرف في بلدك، فإن الشبكة تعود للخاطب عند فسخ الخطبة، سواء تم الفسخ من جهتها أو جهتك؛ لأن المهر لا يُستحق شيء منه إلا بالعقد، وإذا دُفع إلى المخطوبة كان أمانة في يدها حتى يتم العقد.
وإن كانت الشبكة هدية من الهدايا، ففي حكمها خلاف:
فقيل: الخاطب يسترد ما كان باقياً دون ما هلك أو استهلك.
وهذا مذهب الحنفية.
وقيل: إن كان الفسخ من جهته فليس له الرجوع، وإن كان الفسخ من جهتها فله الرجوع.
وهذا قول للمالكية.
لأنه في نظير شيء لم يتم.
وقيل: له الرجوع.
وهذا مذهب الشافعي.
والراجح: أن الفسخ إن جاء من الخاطب، فليس له الرجوع والمطالبة بهداياه، وإن كان الفسخ من المخطوبة، فله المطالبة بذلك، لأن هديته ليست هبة محضة، وإنما هي هبة يراد منها العوض، وهو التزويج، فإذا لم يزوجوه جاز له الرجوع في الهبة. وإلى هذا ذهب المالكية في قول، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعزاه إلى أحمد رحمه الله. (الإسلام سؤال وجواب).
(وَمَنْ زَوَّجَ بِنْتَهُ وَلَوْ ثَيِّباً بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا صَحَّ).
أي: يصح للأب أن يزوج بنته - ولو كانت ثيباً - بدون مهر المثل.
فإذا كان مهر مثيلاتها عشرة آلاف درهم، فزوجها بخمسة آلاف درهم، فإن هذا يصح.
لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ النِّكَاحِ الْعِوَضَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ، وَوَضْعُ الْمَرْأَةِ فِي مَنْصِبٍ عِنْدَ مَنْ يَكْفِيهَا وَيَصُونُهَا وَالظَّاهِرُ مِنْ الْأَبِ مَعَ تَمَامِ شَفَقَتِهِ وَحُسْنِ نَظَرِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهَا مِنْ الصَّدَاقِ إلَّا لِتَحْصِيلِ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ بِخِلَافِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْعِوَض. (كشاف القناع).
(وَإِنْ زَوَّجَهَا بِهِ وَلِيٌّ غَيْرُهُ بِإِذْنِهَا صَحَّ).
أي: وإن زوجها (به) أي: بدون مهر المثل (ولي غيره) أي: غير الأب، كالأخ أو العم، (بإذنها) وموافقتها صح.
لأن الحق لها، وقد أسقطته. (الروض المربع).
كما لو أذنت ببيع سلعتها بدون قيمتها. (حاشية الروض).
(وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ فَمَهْرُ المِثْلِ).
أي: فإن زوج الأخ (مثلاً) الأخت بخمسين ومهر مثيلاتها مائة ولم تأذن فيجب على الزوج مهر المثل على المذهب.
لأنه عوض بضعها ولم تأذن بإسقاطه.
جاء في (كشاف القناع) لِأَنَّهُ قِيمَةُ بُضْعِهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ نَقْصُهَا مِنْهُ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَسَادُ التَّسْمِيَةِ وَعَدَمِهَا.
(ويتقرر الصداق كاملاً بالموت)
أي: ويتأكد ويتقرر المهر كاملاً للزوجة إذا مات زوجها (سواء كان ذلك قبل الدخول أو بعده).
لحديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ اِمْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ اِبْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا اَلْعِدَّةُ، وَلَهَا اَلْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ - اِمْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بِهَا اِبْنُ مَسْعُود) رَوَاهُ أبو داود.
فهذا الحديث دليل على أن المرأة تستحق كامل المهر بموت زوجها، فإن كان المهر مسمى فتستحقه كاملاً، وإن لم يسمى فإنه يفرض لها مثل صداق نسائها.
فائدة: 1
ولعل هذا - والله أعلم - فيه جبر لخاطرها بما حصل من العقد دون الدخول بسبب الموت، وهو مصيبة بالنسبة لها، لما كانت ترجو من الخير وراء هذا الزواج.
فائدة: 2
وهذا الحديث اشتمل على حكمين آخرين أيضاً هما:
أنه يجب عليها عدة الوفاة بالإجماع _ أربعة أشهر وعشرة أيام - وهذا مجمع عليه، لعموم الأدلة، مثل قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فهي عامة في المدخول بها وغير المدخول بها.
وأيضاً لها الميراث من زوجها الذي عقد عليها ثم مات، لأنها زوجة، والإرث يجب بمجرد العقد.
(والدخول).
أي: ويتقرر المهر كاملاً للزوجة بالدخول بالزوجة.
قال ابن رشد: اتفق العلماء على أن الصداق يجب كله، بالدخول، أو الموت.
لقوله صلى الله عليه وسلم (
…
ولها المهر بما استحللت من فرجها).
(والخلوة)
أي: إذا خلا بها ولم يمسها ثم طلقها، فإنه يتقرر المهر كاملاً.
فإذا تم الطلاق قبل الدخول، لكن مع وقوع خلوة كاملة يتمكن من الدخول بها:
فقد ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعي - في القديم من مذهبه - والحنابلة إلى لها المهر كاملاً.
والخلوة الصحيحة: وجود المرأة مع الرجل في مكان لا يمكن أن يطلع عليهما فيه أحد، كغرفة أغلقت أبوابها ونوافذها وأرخيت ستورها.
ونقل ابن حزم ذلك عن الخلفاء الراشدين، وعن عدد من الصحابة.
وذكر ابن قدامة - في المغني - إجماع الصحابة على ذلك.
فقال: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا خَلَا بِامْرَأَتِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَهْرُهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَزَيْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ.
وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
لإجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. ثم ذكر بعض الآثار الآتية ثم قال: وَهَذِهِ قَضَايَا تَشْتَهِرُ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. (المغني)
وهذا هو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم، وهو كالإجماع منهم على ذلك، فيما ذكر.
فقد ثبت ذلك عن عدد من كبار علمائهم، كعمر بن الخطاب وعلي وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمر.
بل استشار عمر رضي الله عنه عدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يختلفوا في وجوب المهر.
عن زرارة بن أوفى قال (قضى الخلفاء الراشدون المهديون: أن من أغلق باباً، أو أرخى ستراً فقد وجب المهر، ووجبت العدة). أخرجه البيهقي
وعن عمر قال (إذا أُجيف الباب، وأرخيت الستور، فقد وجب المهر) أخرجه الدارقطني.
وعن علي قال (من أصفق باباً، وأرخى ستراً فقد وجب الصداق والعدة) أخرجه البيهقي.
قال ابن قدامة: وَهَذِهِ قَضَايَا تَشْتَهِرُ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعاً. (المغني).
وقال البهوتي: وَهَذِهِ قَضَايَا اُشْتُهِرَتْ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ كَالْإِجْمَاع.
…
(كشاف القناع).
كما استدلوا بقوله تعالى (وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) ووجه الاستدلال: أن الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها.
ولأن المرأة سلمت المبدل، حيث رفعت الموانع، وذلك وسعها فيتأكد حقها في البدل.
ولأن وجوب إتمام المهر لا يتوقف على الاستيفاء، بل على التسليم.
القول الثاني: أنه لا يستقر المهر بالخلوة فحسب، بل لابد من الوطء.
وهذا قول مالك والشافعي في الجديد وداود وشريح.
قالوا: لأن الله قال (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ
…
) والمطلقة التي خلا بها من غير وطء مطلقة قبل المسيس، لأن المسيس هو الجماع.
فائدة: 1
ثم اختلف العلماء في استنباط العلة من جعل الخلوة كالجماع؟
فقيل: العلة هي أن الخلوة مظِنة الوطء، أي: أنه إذا حصلت الخلوة، فإنه يغلب على الظن حصول الدخول الحقيقي، فأقيمت غلبة الظن في هذا، مقام تحقق الدخول.
وقيل: لأن ردها بعد الخلوة، وقبل الدخول: كسر لقلبها، وفيه شيء من الإهانة لها، فجبر ذلك بتقرر المهر كاملاً، وليس نصفه.
وقيل: العلة هي أن المرأة حصل منها التمكين، فقد فعلت ما وجب عليها، فاستحقت المهر كاملاً.
ومع أن هذه العلل: عامتها معقولة، متجهة؛ فقد نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، ما يقوي أن التعليل الأخير، وهو حصول التمكين من الزوجة، هو مناط الحكم.
قال البيهقي رحمه الله في "السنن الكبرى"(7/ 256): "ظاهر ما روينا عن عمر وعلى رضى الله عنهما: يدل على أنهما جعلا الخلوة كالقبض في البيوع.
فائدة: 2
اتفق العلماء على أنه ليست كل خلوة تحصل بين الزوجين تكون ملحقة بالدخول، بل المقصود بالخلوة هنا: التي يتمكن الزوج فيها من الاستمتاع بزوجته، بلا ممانعة منها.
ولذلك اتفقوا على أنه لابد لهذه الخلوة من شروط:
الشرط الأول: أن لا يكون عندهما مميز،
لأن وجود شخص ثالث معهما يمنع الزوج من الاستمتاع.
الشرط الثاني: أن لا تمنعه نفسها.
قال ابن قدامة: وَإِنْ خَلَا بِهَا، فَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا لَمْ يَكْمُلْ صَدَاقُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمَكُّنُ مِنْ جِهَتِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَخْلُ بِهَا.
الشرط الثالث: أن يأمنا من اطلاع أحد عليهما.
وعلى هذا؛ فالخلوة في السيارة داخل المدينة، أو الخلوة في محل، أو مكتب مفتوح الباب، أو الخلوة في جانب من طريق عام، أو الخلوة في بيت أهلها مع وجود بعض أهلها في البيت، وتمكنهم من الدخول عليها في أي وقت، أو مع فتح باب الغرفة .. ونحو ذلك: كل هذا لا يترتب عليه شيء، من أحكام الخلوة السابقة.
جاء في (الموسوعة الفقهية) في بيان مذهب الحنفية في شروط الخلوة التي تقرر المهر وتوجب العدة: "وَلَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالطَّرِيقِ، وَالصَّحْرَاءِ، وَعَلَى سَطْحٍ لَا حِجَابَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ الْمَسْجِدَ يَجْمَعُ النَّاسَ لِلصَّلَاةِ، وَلَا يُؤْمَنُ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَالطَّرِيقُ مَمَرُّ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْهُمْ عَادَةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ الاِنْقِبَاضَ فَيَمْنَعُ الْوَطْءَ، وَكَذَا الصَّحْرَاءُ وَالسَّطْحُ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، لأِنَّ الإْنْسَانَ يَنْقَبِضُ عَنِ الْوَطْءِ فِي مِثْلِهِ لاِحْتِمَال أَنْ يَحْصُل هُنَاكَ ثَالِثٌ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ أَحَدٌ" انتهى.
الشرط الرابع: أن يعلم بها.
فقد يكون الزوج مريضاً أو مغمى عليه، فتزوره زوجته في المستشفى وتبقى معه في الغرفة ساعة أو نحوها لا يشعر بها، فلا حكم لهذه الخلوة.
قال المرداوي: فعلى المذهب، يتقرر المهر كاملاً إن لم تمنعه؛ بشرط أن يعلم بها.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين: يشترط في الخلوة - يعني على مذهب الإمام أحمد - أن تكون المرأة مطاوعة، وأن يكون عالماً بها، وأن يكون قادراً على الوطء.
…
(الشرح الممتع).
(ويتنصف بكل فرقة قبل الدخول من جهة الزوج كطلاقه).
أي: وتستحق الزوجة نصف المهر إذا فارقها زوجها قبل الدخول، إذا كان الطلاق من قِبَلِه، إن كان المهر مسمى.
جاء في (الموسوعة الفقهية) اتفق الفقهاء على أن من طلق زوجته قبل الدخول بها وقد سمى لها مهرا يجب عليه نصف المهر المسمى.
لقوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
فدلت الآية على أن للزوجة المطلقة نصف الصداق المعين إذا طلقت قبل الجماع، ومعلوم أن الطلاق فرقة من جهة الزوج.
مثال: عقد على امرأة وأمهرها عشرة آلاف، وقبل الدخول طلقها، فلها خمسة آلاف ريال.
- وفي حال عدم تحديد المهر فإنها تستحق متعة على قدر سعته؛ لقوله تعالى (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) كما سيأتي إن شاء الله.
- قوله (من جهة الزوج) فلو كانت الفرقة من قِبل الزوجة فلا مهر لها كما سيأتي.
فائدة:
قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي: المطلقات، أي: إلا أن تعفو المطلقات قبل المسيس عما وجب لهن على أزواجهن من نصف المهر المفروض.
قال الرازي: المعنى إلا أن يعفون المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً.
(أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) وهو الزوج على القول الصحيح، فهو الذي بيده عقدة النكاح، والمعنى: أو يعفو الذي بيده النكاح -وهو الزوج- فيترك للزوجة المهر كاملاً ولا يطالبها برد نصف المهر.
(وَأَنْ تَعْفُوا) أيها الأزواج، أو أيها الأزواج والزوجات.
(أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) أي: إلى تقوى الله.
وفي هذا ترغيب بالعفو والتسامح، وبخاصة بين الزوجين، فمن عفا عن صاحبه فهو أقرب لتقوى الله عز وجل.
قال ابن عاشور: ومعنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه، لكثرة أسبابها فيه.
(ويسقط بفرقة من قِبلها).
أي: ويسقط المهر ولا يصبح لها شيئاً إذا كانت الفرقة من قِبَلِها.
مثال: كرجل عقد على امرأة وأمهرها عشرة آلاف ريال، وبعد فترة طلبت الطلاق، فطلقها، فلا مهر لها، لأن الفرقة جاءت من جهتها
(أو فسخهِ لعيبها).
أي: ويسقط المهر ولا يكون لها شيئاً إذا فسخ الزوج النكاح بسبب عيب فيها.
مثال: إنسان عقد على امرأة وقبل الدخول تبين أن فيها عيباً، ففسخ العقد، فليس لها مهر، لأن الفرقة جاءت من قِبلها.
فائدة:
قال بعض العلماء: ويسقط المهر كله أيضاً إذا الفسخ من قِبلِها بسبب عيبٍ بالزوج.
وذهب بعض العلماء: إلى أن لها النصف.
لأن الفرقة جاءت من قِبل الزوجة لكن بسبب عيب الزوج.
(فإن طلقها قبل الدخول - ولم يسم لها مهراً - فلها المتعة).
أي: وإن طلقها قبل أن يدخلها ولم يفرض لها مهراً فيجب لها المتعة.
والمتعة: بضم الميم هي ما يعطيه الزوج لمن طلقها لجبر خاطرها المنكسر بألم الفراق.
فالراجح من أقوال أهل العلم: أن المتعة إنما تجب على المطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها.
والدليل على ذلك:
قوله تعالى (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) وقوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ).
وجه الدلالة من الآية: (. . ومتعوهن. .) فأمر بالمتعة لا بغيرها، والأمر للوجوب، والأصل براءة ذمته من غيرها، والله عز وجل قسم المطلقات إلى قسمين: فأوجب المتعة لمن لم يسمِّ لها إذا طلقت قبل الدخول، ونصف المسمى لمن سميَ لها، وذلك يدل على اختصاص كل قسمٍ بحكمه.
وهناك أقوال أخرى في المسألة:
فقيل: المتعة واجبة لكل مطلقة، سواء طلقت قبل الدخول أم بعده، وسواء فرض لها صداق أم لم يفرض.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجماعة من أهل العلم.
لقوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) ولفظ المطلقات عام، وأكد ذلك بقوله (حقاً).
وقيل: المتعة مستحبة لكل مطلقة.
لقوله تعالى (
…
حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (
…
حقاً على المحسنين) قالوا: ولو كانت واجبة لما خُص بها المحسنون والمتقون، بل كانت حقاً على كل أحد.
والراجح - والله أعلم - ما تقدم أن المتعة واجبة لمن طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر، وأما غيرها من المطلقات فالمتعة في حقها مستحبة.
فائدة: 1
الحكمة من المتعة: تعويضاً لها عما فاتها من المهر، وجبراً لمصيبتها، وإحساناً إليها.
(بقدر يسر الزوج وعسرهِ).
أي: أن المتعة تكون على قدر حال الزوج.
لقوله تعالى (عَلَى الْمُوسِعِ) الغني (قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ) الفقير (قَدَرُه).
قال ابن قدامة: ولمتعة معتبرة بحال الزوج (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) فقدرها بحال الزوج دون حال المرأة.
وفي قدرها روايتين:
إحداهما: يرجع فيها إلى اجتهاد الحاكم فيفرض لها ما يؤديه اجتهاده إليه لأنه أمر لم يرد الشرع بتقديره ويحتاج إلى الاجتهاد فرد إلى الحاكم كالنفقة
والثانية: أعلى المتعة خادم وأدناها كسوة تجزئها في صلاتها وأوسطها ما بين ذلك لقول ابن العباس: أعلى المتعة خادم ثم دون ذلك النفقة ثم دون ذلك الكسوة وهذا تفسير من الصحابي فيجب الرجوع إليه.
…
(الكافي).
(وَيَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ لِمَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ).
مثال الوطء بشبهة: وطئ امرأة يظنها زوجته، فلها مهر المثل. (هذا يسمى شبهة اعتقاد).
لأن الزوج جامعها معتقداً أن هذا الجماع حلال، فوجب مقتضاه وهو مهر المثل.
- لكن في شبهة العقد إذا كان قد سمى لها مهراً، وجامعها على هذا الأساس، فلها أيضاً: مهر المثل.
مثال هذا: رجل تزوج امرأة بعقد، ومهر مسمى، ثم تبين أنها أخته من الرضاع، فالشبهة هنا شبهة عقد، لأنه تزوجها وجامعها على أنها زوجته، فلها مهر المثل.
وتعليل ذلك أنه لما بطل أصل العقد، بطلت توابع العقد، وهو المهر، فتبطل التسمية، ويجب مهر المثل.
قال الشيخ ابن عثيمين: ولكن في هذا نظراً، لأننا نقول: إنهما قد رضيا بهذا المسمى، وجامعها على أن هذا مهرها، وليس هناك ما يبطله.
فالصواب: أنه إذا كانت الشبهة شبهة عقد، وسمى لها صداقاً فلها صداقها المسمى، سواء كان مثل مهر المثل، أو أكثر، أو أقل.
(أَوْ زِناً كُرْهاً).
أي: ويجب مهر المثل للمكرهة على الزنا.
وبهذا قال المالكية، والشافعية، ومذهب الحنابلة.
لحديث (. . . فلها المهر بما استحل من فرجها).
وجه الدلالة: أن المكرِه على الزنا مستحل لفرجها، فإن الاستحلال هو الفعل في غير موضع الحل. (المغني).
ب- أن المهر ما هو إلا بدل المنفعة المستوفاة بالوطء، وهنا قد تم الوطء.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب للمكرهة على الزنا مهر مطلقاً.
والراجح قول الجمهور.
فائدة:
قوله (أو زناً كُرهاً) فلو كانت راضية فلا شيء لها، لأنها مختارة ببذل بضعها فلا تستحق شيئاً، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (مهر البغي خبيث).
(ولا يجبُ معَه أرْشُ بكارةٍ).
أي: إذا زنى بامرأة كرهاً فلها مهر المثل كما تقدم، لكن لا يجب لها أرش زوال بكارتها.
لدخوله - أي هذا الأرش - في المهر.
قال ابن قدامة: وَالدليل عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ، أَنَّهُ وَطْءٌ ضَمِنَ بِالْمَهْرِ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَهُ أَرْشٌ، كَسَائِرِ الْوَطْءِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ بِالْوَطْءِ، وَبَدَلُ الْمُتْلَفِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِهِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَكَوْنِهِ تَمَحَّضَ عُدْوَانًا، وَلِأَنَّ الْأَرْشَ يَدْخُلُ فِي الْمَهْرِ، لِكَوْنِ الْوَاجِبِ لَهَا مَهْرَ الْمِثْل. (المغني).
(وَلِلمَرْأَةِ مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا الحَالَّ).
أي: إذا كان المهر حالاً، فيحق للمرأة أن تمتنع عن الذهاب لزوجها وتمكينه منها حتى يسلمها إياه.
لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا تُتْلَفُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْمَهْرُ عَلَيْهَا لَمْ يُمْكِنْهَا اسْتِرْجَاعُ عِوَضِهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ. (كشاف القناع).
قال ابن قدامة: فَإِنْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا حَتَّى تَتَسَلَّمَ صَدَاقَهَا، وَكَانَ حَالًّا، فَلَهَا ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ دُخُولِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، حَتَّى يُعْطِيَهَا مَهْرَهَا. (المغني).
جاء في (الموسوعة الفقهية): اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ مَنْعَ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا، لأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ بُضْعِهَا؛ كَالثَّمَنِ عِوَضٌ عَنِ الْمَبِيعِ؛ وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَكَانَ لِلْمَرْأَةِ حَقُّ حَبْسِ نَفْسِهَا لاِسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ حَالًّا وَلَمْ يَحْصُل وَطْءٌ وَلَا تَمْكِين.
فائدة:
قال ابن قدامة: وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: لَا أُسَلِّمُ إلَيْهَا الصَّدَاقَ حَتَّى أَتَسَلَّمَهَا.
أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ أَوَّلًا، ثُمَّ تُجْبَرُ هِيَ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا.
لأن فِي إجْبَارِهَا عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا أَوَّلًا خَطَرَ إتْلَافِ الْبُضْعِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ بَذْلِ الصَّدَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِي الْبُضْعِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الَّذِي يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ ثَمَنَهُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا امْتَنَعَتْ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِالصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا بِحَقٍّ. (المغني).
وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا، فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ رِضَاهَا بِتَأْجِيلِهِ رِضَى بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِهِ، كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ فِي الْبَيْعِ.
جاء في (كشاف القناع)(وَلَوْ أَبَى كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ التَّسْلِيمَ الْوَاجِبَ) عَلَيْهِ (أُجْبِرَ زَوْجٌ) عَلَى تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ (ثُمَّ) تُجْبَرُ (زَوْجَةٌ) عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِأَنَّ فِي إجْبَارِهَا عَلَى تَسْلِيم نَفْسِهَا أَوَّلًا خَطَرُ إتْلَافِ الْبُضْعِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ بَذْلِ الصَّدَاقِ وَلَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِي الْبُضْع.
قال الشيخ ابن عثيمين: مثال ذلك: رجل تزوج امرأة على صداق قدره عشرة آلاف ريال غير مؤجلة، فقالت له: أعطني المهر، فقال: انتظري، فلها أن تمنع نفسها، وتقول: لا أسلم نفسي إليك حتى تسلم المهر؛ وذلك أن المهر عوض عن المنفعة ويخشى إن سلمت نفسها واستوفى المنفعة أن يماطل بها ويلعب بها، فيُحْرَم منها حتى يسلم الصداق. (الشرح الممتع).
(فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً، أَوْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا تَبَرُّعاً فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُها).
أي: إذا كان المهر مؤجلاً، فليس للمرأة طلبه ولا المطالبة به حتى يحل أجله، وليس لها أن تمنع نفسها من الزوج؛ لأن حقها لم يحل بعد.
جاء في (كشاف القناع)(وَإِنْ كَانَ) الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا (لَمْ تَمْلِكْ مَنْعَ نَفْسِهَا) حَتَّى تَقْبِضَهُ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَب بِهه.
جاء في (الموسوعة الفقهية) أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ مُؤَجَّلاً إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَلَيْهَا تَسْلِيمَ نَفْسِهَا وَلَيْسَ لَهَا الاِمْتِنَاعُ لِقَبْضِ الْمَهْرِ وَلَوْ حَل الأْجَل قَبْل الدُّخُول؛ لأِنَّهَا قَدْ رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا وَتَعْجِيل حَقِّهِ؛ فَصَارَ كَالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ.
- وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا، فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ الْعَاجِلِ دُونَ الْآجِلِ. (المغني).
- قوله (أَوْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا تَبَرُّعاً فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُها).
أي: إذا سلمت المرأة سلمت نفسها ابتداءً ثقة بالزوج على أنه سيسلم المهر الحال، فلا تملك أن تمنع نفسها، لو ماطل الزوج ولم يدفع المهر.
لأنها رضيت بالتسليم بدون شرط، فلا يمكن أن ترجع، لكن لها أن تطالبه.
واختار الشيخ ابن عثيمين أن لها أن تمنع نفسها.
جاء في (الموسوعة الفقهية). . . . فَإِنْ تَطَوَّعَتِ الْمَرْأَةُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْل قَبْضِ الْمَهْرِ؛ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ لِقَبْضِ الْمَهْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ:
فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: .. لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمَهْرَ.
لأِنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ الْوَطَآتِ الَّتِي تُوجَدُ فِي هَذَا الْمِلْكِ؛ لَا بِالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْأَةِ الأْولَى خَاصَّةً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا لِقَبْضِ الْمَهْرِ الْحَال بَعْدَ أَنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَمَكَّنَتْهُ مِنَ الْوَطْءِ قَبْل قَبْضِهِ.
لأِنَّ التَّسْلِيمَ اسْتَقَرَّ بِهِ الْعِوَضُ بِرِضَا الْمُسَلِّمِ؛ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ كَمَا لَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيع.
بَابُ وَلِيمَةِ العُرْسِ
قال ابن قدامة: الوليمة: اسم للطعام في العرس خاصة، لا يقع هذا الاسم على غيره.
كذلك حكاه ابن عبد البر عن ثعلب وغيره من أهل اللغة.
وقال بعض الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن الوليمة تقع على كل طعام لسرور حادث، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر.
(وتُسَنُّ وَلِيمَةُ العُرْسِ).
هذا قول جماهير العلماء، أن وليمة العرس سنة مستحبة.
ودلّ على مشروعيتها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية.
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، قَالَ: " مَا هَذَا? "، قَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي تَزَوَّجْتُ اِمْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: " فَبَارَكَ اَللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف أولم أمر، وأقل أحوال الأمر الاستحباب.
وأولم صلى الله عليه وسلم في زواجه من بزينب بشاة.
عن أنس قَالَ (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِنَّهُ ذَبَحَ شَاةً) متفق عليه.
وأولم في زواجه بصفية وعلى أخرى بمدين من شعير.
وذهب بعض العلماء: إلى وجوبها.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (إنه لا بد للعرس من وليمة). رواه أحمد، قال ابن حجر: سنده لا بأس به.
ج- وَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ إلَيْهَا وَاجِبَةٌ؛ فَكَانَتْ وَاجِبَةً.
والراجح الأول.
أ-لأن وليمة العرس طعام لحادث سرور فلم تجب كسائر الولائم.
ب- إن سبب هذه الوليمة عقد النكاح، هو غير واجب، ففرعه أولى بعدم الوجوب
قال ابن قدامة: وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
لأَنَّهَا طَعَامٌ لَسُرُورٍ حَادِثٍ؛ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَطْعِمَةِ.
وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَوْنِهِ أَمَرَ بِشَاةِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالسَّلَامِ، لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِجَابَةُ الْمُسَلِّمِ وَاجِبَةٌ. (المغني).
(وتَجِبُ الإجابةُ إليها).
أي: أن حكم إجابة دعوة العرس واجبة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
بل نقل بعض العلماء الإجماع على ذلك كابن عبد البر، والقاضي عياض وغيرهما.
قال ابن حجر: وقد نقل ابن عبد البر، ثم عياض، ثم النووي الاتفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس، وفيه نظر.
أ- عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى اَلْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: (إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُجِبْ; عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ).
وفي رواية (ائْتُوا الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُم). وفي رواية (أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا).
ووجه الدلالة: أنها تضمنت الأمر بإجابة الدعوة لوليمة العرس، والأمر للوجوب، والخطاب عام لكل من عُيّن بالدعوة، فكانت الإجابة فرض عين على من دعي إليها.
ب- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (شَرُّ اَلطَّعَامِ طَعَامُ اَلْوَلِيمَةِ: يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ اَلدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اَللَّهَ وَرَسُولَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
فهذا ظاهر على الوجوب، لأنه حكِمَ بالعصيان على من ترك الإجابة، ولا يحكم بالعصيان إلا على ترك واجب.
قال الشوكاني: والظاهر الوجوب، للأوامر الواردة بالإجابة من غير صارف لها عن الوجوب، ولجعْل الذي لم يجب عاصياً، وهذا في وليمة النكاح في غاية الظهور.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها مستحبة.
وإليه ذهب بعض المالكية والشافعية والحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
قالوا: لأن الأصل في الوليمة أنها مندوبة فيكون الحضور مندوباً.
وقالوا: لأن الوليمة تمليك مال، وتمليك المال ليس بواجب
وذهب بعضهم: إلى أنها فرض كفاية.
قالوا: لأن المقصود من حضور الوليمة إظهار الزواج وإعلانه، وهذا يحصل ببعض الناس.
والراجح القول الأول وهو الوجوب.
ولهذا قال ابن عبد البر: وفي قوله في هذا الحديث (فقد عصى الله ورسوله) ما يرفع الإشكال، ويغني عن الإكثار.
فائدة: 1
حكم إجابة دعوة غير العرس:
اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: مستحبة.
وعزاها ابن حجر للجمهور.
أ- لحديث ابن عمر (إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب).
قالوا: فلما خص الوجوب بوليمة العرس دل على أن غيرها لا يجب.
ب-ولحديث أنس (أن جاراً فارسياً لرسول صلى الله عليه وسلم كان طيب المرق فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرسول وهذه [لعائشة]؟ فقال الفارسي: لا فقال النبي: لا، فعاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه [لعائشة] قال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه، قال: نعم، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله) رواه مسلم.
قال العلماء: وإنما أبى الفارسي من حضور عائشة: أن هذا المرق كان قليلاً لا يكفي اثنين، فأراد أن يؤثر به النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: الوجوب كالعرس.
وهذا مذهب ابن عمر وهو قول أهل الظاهر وبعض الشافعية ونصره ابن حزم.
أ- لرواية مسلم (. . . عرساً كان أو نحوه) فهذا دليل على وجوب إجابة الدعوة مطلقاً.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله).
ج- ولحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (حق المسلم على المسلم خمس: وذكر منها إجابة الدعوة) وفي رواية لمسلم (حق المسلم على المسلم: وإذا دعاك فأجبه).
د- ولقوله صلى الله عليه وسلم (عودوا المريض وأجيبوا الداعي). رواه البخاري
فائدة: 2
قوله (يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا) هذه الجملة فيها ثلاثة فوائد: الأولى: أنها للتعليل، ثانياً: فيها الإخبار عن واقع الناس، ثالثاً: فيها التحذير، كأنه قيل: لا ينبغي أن يدعى لها من يأباها ويمنعها من يأتيها. (منحة العلام).
(فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ).
هذه شروط حضور وليمة العرس.
الشرط الأول: أن تكون الدعوة في المرة الأولى.
أ-لأن الوجوب سقط في المرة الأولى.
ب- استدل بعضهم بحديث اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (طَعَامُ الْوَلِيمَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامُ يَوْمِ اَلثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ اَلثَّالِثِ سُمْعَةٌ، وِمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَلَهُ شَاهِدٌ: عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ اِبْنِ مَاجَهْ.
وهذا الحديث فيه ضعف، وجاءت عدة أحاديث في هذا المعنى، لكن بعض العلماء رأي أنها تتقوى بذلك.
ورأى أن هذه الأحاديث - وإن كان كل منها لا يخلو من مقال - فإن مجموعها يدل على أن للحديث أصلاً.
وهذا رأي الحافظ ابن حجر، والشوكاني.
قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدنا لحديث زهير بن عثمان شواهد،
…
ثم ذكرها وقال: وهذه الأحاديث وإن كان كل منها لا يخلو عن مقال فمجموعها يدل على أن للحديث أصلاً، وقد وقع في رواية أبي داود والدارمي في آخر حديث زهير بن عثمان " قال قتادة: بلغني عن سعيد بن المسيب أنه دعي أول يوم وأجاب، ودعي ثاني يوم فأجاب، ودعي ثالث يوم فلم يجب وقال: أهل رياء وسمعة، فكأنه بلغه الحديث فعمل بظاهره إن ثبت ذلك عنه، وقد عمل به الشافعية والحنابلة.
قال النووي: إذا أولم ثلاثاً فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة وفي الثاني لا تجب قطعاً ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم الأول. (فتح الباري).
(إِجَابَةُ مُسْلِمٍ)
هذا الشرط الثاني: أن يكون الداعي مسلماً.
قال ابن قدامة: فَإِنْ دَعَاهُ ذِمِّيٌّ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَجِبُ إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ لِلْمُسْلِمِ لِلْإِكْرَامِ وَالْمُوَالَاةِ وَتَأْكِيدِ الْمَوَدَّةِ وَالْإِخَاءِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِلَاطَ طَعَامِهِمْ بِالْحَرَامِ وَالنَّجَاسَة. (المغني).
فإن كافراً لم تجب الإجابة وإنما تجوز حسب المصلحة، وإنما سقط الوجوب، لانتفاء طلب المودة معه وعدم الموالاة.
قال ابن قدامة: وَلَكِنْ تَجُوزُ إجَابَتُهُمْ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ (أَنْ يَهُودِيًّا دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، فَأَجَابَهُ).
[ما تتعلق بشعائرهم الدينية فهذا لا يجوز الحضور مطلقاً لأن إجابته معناها الرضا بما هو عليه من الكفر والضلال].
(يَحْرُمُ هَجْرُهُ إِلَيْهَا).
والذي يحرم هجره: المسلم المستقيم غير المبتدع، وغير المجاهر بالمعصية.
فإن دعاك ممن يجب هجره فلا تجيب.
قال الشيخ ابن عثيمين: أن الهجر ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: من يجب هجره.
وذلك كصاحب البدعة الداعي إلى بدعته، إذا لم ينتهِ إلا بالهجر، فإنه يجب علينا أن نهجره وجوباً؛ لأن في الهجر فائدة، وهو ترك الدعوة إلى البدعة.
القسم الثاني: من هجره سُنة.
وهو هجر فاعل المعصية التي دون البدعة، إذا كان في هجره مصلحة
…
فإن لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يهجر؛ لأن الأصل أن هجر المؤمن حرام.
القسم الثالث: هجر مباح.
وهو ما يحصل بين الإنسان وأخيه بسبب سوء تفاهم، وهو مقيد بثلاثة أيام فأقل.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة).
والقول الراجح أن الهجر لا يجب، ولا يسن، ولا يباح إلا حيث تحققت المصلحة، فإذا كان هناك مصلحة هجرنا وإلا فلا. (الشرح الممتع)
(إِنْ عَيَّنَهُ)
الشرط الرابع: أن يعين الداعي المدعو.
فإن كانت الدعوة عامة كأن يقول: يا أيها الناس احضروا الوليمة، أو يقول ادع من شئت، فلا تجب، لأن صاحب الطعام لم يعينه.
قال ابن قدامة: وَإِنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ عَلَى مَنْ عُيِّنَ بِالدَّعْوَةِ، بِأَنْ يَدْعُوَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ، أَوْ جَمَاعَةً مُعَيَّنِينَ.
• لكن هل تكره (تسمى دعوة الجَفَلى)؟
قيل: تكره الإجابة.
قالوا: لأن في ذلك دناءة بالنسبة للمدعو، ومباهاة ومفاخرة للداعي.
وقيل: لا تكره.
لحديث أنس. قَالَ (لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ أَهْدَتْ لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْساً فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ فَقَالَ أَنَسٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اذْهَبْ فَادْعُ لِي فلاناً وفلاناً ومَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» . فَدَعَوْتُ لَهُ مَنْ لَقِيتُ [قال قلت لأنس: عددَكَم كم؟ قال: زُهاء ثلاثمائة] فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ [فدخلوا حتى امتلأت الصُفة والحُجْرة
…
).
فعيَّن في الأول، ثم عمم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الصحيح أن الإجابة ليست مكروهة، بل في ظني أن عدم الإجابة إلى الكراهة أقرب.
وهذا الراجح.
قال ابن قدامة: فَإِنْ دَعَا الْجَفَلَى؛ بِأَنْ يَقُولَ: يَا أَيُّهَا النَّاسِ، أَجِيبُوا إلَى الْوَلِيمَةِ.
أَوْ يَقُولَ الرَّسُولُ: أُمِرْت أَنْ أَدْعُوَ كُلَّ مَنْ لَقِيت، أَوْ مَنْ شِئْت.
لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ، وَلَمْ تُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيَّنْ بِالدَّعْوَةِ، فَلَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْصُلُ كَسْرُ قَلْبِ الدَّاعِي بِتَرْكِ إجَابَتِهِ، وَتَجُوزُ الْإِجَابَةُ بِهَذَا؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الدُّعَاءِ.
…
(المغني).
(وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُنْكَرٌ).
هذه الشرط الخامس: أن لا يكون هناك منكر.
فإن كان هناك منكر فلا يجوز الحضور.
قال تعالى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
وقال تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً).
وقال صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار فيها الخمر) رواه أحمد.
فائدة:
قال ابن قدامة: إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ، فِيهَا مَعْصِيَةٌ، كَالْخَمْرِ، وَالزَّمْرِ ونحوه، وَأَمْكَنَهُ الْإِنْكَارُ، وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ، لَزِمَهُ الْحُضُورُ وَالْإِنْكَارُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي فَرْضَيْنِ:
إجَابَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ - وَإِزَالَةَ الْمُنْكَرِ.
وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ، لَمْ يَحْضُرْ.
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ، أَزَالَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ انْصَرَفَ. (المغني).
وقال الشيخ ابن عثيمين: إذا كان المجيب قادراً على تغيير المنكر فيجب الحضور لسببين:
إجابة للحضور - وتغييراً للمنكر.
- إذا امتنع حضوره بسبب المنكر فإنه عليه أن يبلغ الداعي السبب وذلك لأسباب:
لبيان عذره - وردعاً لهؤلاء - ربما هؤلاء يجهلون أن هذا الأمر محرم. [الممتع 12/ 340].
(وَمَنْ صَوْمُهُ وَاجِبٌ دَعَا وَانْصَرَفَ وَالمُتَنَفِّلُ يُفْطِرُ إِنْ جَبَرَ)
أي: أن إجابة الدعوة واجبة ولو كان الإنسان صائماً.
ثم هو لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن يكون صومه واجباً [كقضاء رمضان، أو نذر، أو كفارة].
فلا يجوز له الإفطار، لأن الفرض لا يجوز الخروج منه، بل يدعو وينصرف [لكن يخبر الداعي بذلك حتى لا يقع في قلبه شك وريب].
عن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ; فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيُطْعَمْ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوُهُ. وَقَالَ: (فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ). (فليصلِ: فليدع).
قال النووي: وَأَمَّا الصَّائِم فَلَا خِلَاف أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهِ الْأَكْل، لَكِنْ إِنْ كَانَ صَوْمه فَرْضًا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَكْل لِأَنَّ الْفَرْض لَا يَجُوز الْخُرُوج مِنْهُ.
الحالة الثانية: أن يكون صومه نفلاً.
فإنه يجوز له الفطر، لأن التطوع يجوز قطعه خاصة إذا وجد سبب كتطييب خاطر الداعي.
قال النووي: فإن كان يشق على صاحب الطعام صومه فالأفضل الفطر، وإلا فإتمام الصوم.
أ-عَنْ أُمِّ هَانِئٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ) رواه أحمد
قال في تحفة الأحوذي عقب هذا الحديث: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ صَامَ تَطَوُّعًا أَنْ يُفْطِرَ لا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي دَعْوَةٍ إِلَى طَعَامِ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. ا. هـ
ب- وعن أبي سعيد الخدري قَالَ (صَنَعْت لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَلَمَّا وُضِعَ قَالَ رَجُلٌ أَنَا صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (دَعَاك أَخُوك وَتَكَلَّفَ لَك، أَفْطِرْ فَصُمْ مَكَانَهُ إِنْ شِئْت) أخرجه البيهقي، قَالَ الْحَافِظُ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
قال ابن قدامة: وَإِنْ كَانَ صَوْمًا تَطَوُّعًا، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّوْمِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْأَكْلِ إجَابَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِهِ، كَانَ أُولَى.
وَقَدْ رُوِيَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي دَعْوَةٍ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ نَاحِيَةً، فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ، وَتَكَلَّفَ لَكُمْ، كُلْ، ثُمَّ صُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ إنْ شِئْت).
وَإِنْ أَحَبَّ إتْمَامَ الصِّيَامِ جَازَ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَكِنْ يَدْعُو لَهُمْ، وَيَتْرُكُ، وَيُخْبِرُهُمْ بِصِيَامِهِ؛ لِيَعْلَمُوا عُذْرَهُ، فَتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ. (المغني).
(وَلَا يَجِبُ الأَكْلُ).
أي: لا يجب الأكل من الوليمة، وإنما الواجب هو الحضور.
لحديث جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) مسلم.
وهذا قول الحنابلة والشافعية.
قالوا: لأن الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد على تركه هو الحضور، أما الأكل فلم يأت ما يدل على وجوبه.
لكن لاشك أن الأكل أفضل وأكمل.
قال ابن قدامة: وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْأَكْلُ، لَوَجَبَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ بِالصَّوْمِ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَكْلُ، لَمْ يَلْزَمْهُ إذَا كَانَ مُفْطِرًا.
وَقَوْلُهُمْ: الْمَقْصُودُ الْأَكْلُ. قُلْنَا: بَلْ الْمَقْصُودُ الْإِجَابَةُ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى الصَّائِمِ الَّذِي لَا يَأْكُلُ. (المغني).
وقال بعض العلماء: أن الأكل واجب.
لقوله صلى الله عليه وسلم (وإن كان مفطراً فليطعم) وهذا أمر.
وقالوا: لأن المقصود من الحضور هو الأكل.
والقول الأول أصح.
(وَكُرِهَ النِّثَار).
النثار: ما ينثر ويطرح في النكاح وغيره عند اجتماع الناس من طعام أو نقود.
فالنثار مكروه.
أ- لحديث عَبْد اللهِ بْن يَزِيد قَالَ (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ) رواه البخاري.
ب- ولأن فيه دناءة.
(وَالْتِقَاطُهُ).
أي: ويكره التقاطه وأخذه. لما في ذلك من الدناءة.
آداب الأكل
(يستحب غسل اليدين قبل الطعام وبعدَه).
أي: يستحب لمن أراد الأكل أن يغسل يده قبل ذلك.
وقد ورد في ذلك أحاديث لكن لا تصح.
كحديث (بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده) رواه أبو داود. [المراد بالوضوء هنا غسل اليدين لا الوضوء الشرعي].
وحديث (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ خَيْرَ بَيْتِهِ، فَلْيَتَوَضَّأْ إذَا حَضَرَ غَدَاؤُهُ وَإِذَا رُفِع) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وحديث (الوضوء قبل الطعام وبعده ينفي الفقر وهو من سنن المرسلين).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يستحب.
قال ابن القيم في حاشية السنن: في هذه المسألة قولان لأهل العلم:
أحدهما: يستحب غسل اليدين عند الطعام.
والثاني: لا يستحب وهما في مذهب أحمد وغيره.
ورجح النووي أنه لا يستحب إلا إن كان على اليد قذر.
قال النووي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي اِسْتِحْبَاب غَسْل الْيَد قَبْل الطَّعَام وَبَعْده وَالْأَظْهَر اِسْتِحْبَابه أَوَّلًا إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّن نَظَافَة الْيَد مِنْ النَّجَاسَة وَالْوَسَخ، وَاسْتِحْبَابه بَعْد الْفَرَاغ إِلَّا أَنْ لَا يَبْقَى عَلَى الْيَد أَثَر الطَّعَام بِأَنْ كَانَ يَابِسًا وَلَمْ يَمَسّهُ بِهَا. (شرح مسلم).
(وتسن التسمية).
أي: يسن أن يقول: بسم الله قبل الأكل.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجب ذلك.
أ- لحديث عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَا غُلَامُ! سَمِّ اَللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
ب- وعن عائشة. أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال (إذَا أكَلَ أحَدُكُم فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تعَالَى، فإنْ نَسِىَ أنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ في أوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ في أوَّلِه وَآخِرِهِ). أخرجه أبو داود، والتّرمذيّ.
قال ابن القيّم: وَالصّحِيحُ: وُجُوبُ التّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَأَحَادِيثُ الْأَمْرِ بِهَا صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا، وَلَا إجْمَاعَ يُسَوّغُ مُخَالَفَتَهَا وَيُخْرِجُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، وَتَارِكُهَا شَرِيكُهُ الشّيْطَانُ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِه. (زاد المعاد).
فائدة: 1
صيغة التسمية قبل الأكل؟
قول: بسم الله.
للحديث السابق (سم الله).
قال العيني في عمدة القارئ: وأصرح ما ورد في صفة التسمية ما رواه أبو داود والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً (إذا أكل أحدكم الطعام فليقل بسم الله، فإن نسي في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره) والأمر بالتسمية عند الأكل محمول عل الندب عند الجمهور، وحمله بعضهم على الوجوب لظاهر الأمر.
فائدة: 2
لكن ما الحكم لو زاد (الرحمن الرحيم)؟
لا باس بذلك.
وهذا قول أكثر لعلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا قال عند الأكل بسم الله الرحمن الرحيم كان حسناً فإنه أكمل.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) ذهب الفقهاء إلى أن التسمية عند البدء في الأكل من السنن، وصيغتها: بسم الله، وبسم الله الرحمن الرحيم. . . " انتهى.
وقال النووي رحمه الله: من أهم ما ينبغي أن يعرف صفة التسمية
…
والأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال: بسم الله،
كفاه وحصلت السنة. (. الأذكار)
وتعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله: " لَمْ أَرَ لِمَا اِدَّعَاهُ مِنْ الْأَفْضَلِيَّة دَلِيلًا خَاصاً. (الفتح).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله: وأقول: لا أفضل من سنته صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يثبت في التسمية على الطعام إلا "بسم الله"، فلا يجوز الزيادة عليها، فضلاً عن أن تكون الزيادة أفضل منها، لأن القول بذلك خلاف ما أشرنا إليه من الحديث "وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. (السلسلة الصحيحة).
فائدة: 3
حكم من نسي التسمية قبل الأكل:
المشروع لمن نسي التسمية في أول الطعام أن يقول حين يذكرها (بسم الله أَوَّلَه وآخرَه) أو يقول (بسم الله في أوَّلِه وآخرِه)
لحديث عائشة السابق (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُم فَليَذكُرِ اسمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ، فَإِن نَسِيَ أَن يَذكُرَ اسمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَليَقُل: بِسمِ اللَّهِ فِي أَوَّلَهُ وَآخِرَه).
وقوله: (فإن نسي أن يذكر الله في أوله، فليقل .. ) شامل لمن تذكر التسمية أثناء الطعام، أو آخره، أو بعد الفراغ منه بالزمن اليسير، لعموم مفهوم الحديث.
قال في كشاف القناع (5/ 173): وظاهره ولو بعد فراغه من الأكل.
وجاء في مغني المحتاج (4/ 411: (فإن تركها (أي التسمية) في أوله أتى بها في أثنائه، فإن تركها في أثنائه أتى بها في آخره. انتهى.
وقال في نهاية المحتاج (1/ 184: (لا يأتي بها (أي التسمية) بعد فراغ وضوئه، بخلاف الأكل فإنه يأتي بها بعده " انتهى.
قال في الحاشية على نهاية المحتاج: محله إذا قَصُرَ الفصل، بحيث يُنسَبُ إليه عُرفًا " انتهى.
وقد دل الحديث أيضا على أن قول (بسم الله في أوله وآخره) يقوم مقام التسمية في البداية، ويكتب للمسلم أجر الاستعانة بالله في أول الطعام، تكرماً وتفضلاً منه سبحانه وتعالى.
يقول المناوي في "فيض القدير"(1/ 296): لا يقال كيف تَصدُقُ الاستعانة ببسم الله في الأول، وقد خلا الأول عنها؟!
لأنَّا نقول: الشرع جعله إنشاء استعانةٍ في أوله، وليس هذا إخبارا حتى يُكَذَّبَ، وبه يصير المتكلم مستعينا في أوله، ويترتَّبُ عليه ما يترتب على الاستعانة في أوله. (الإسلام سؤال وجواب)
فائدة: 4
كم مرّة يقوم الفرد بالتّسمية عندما يأكل؟
فالجواب: أنّ قول الرسول عليه السلام في الحديث السّابق (إذَا أكَلَ أحَدُكُم فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تعَالَى) يدلّ على أنّ التّسمية تكون مرّة واحدة عند الأكل، فلو وُضعت على المائدة أصناف من الطّعام، فإنّ التّسمية الواحدة تكفي؛ لأنّ المطلوب يحصل بالمرّة الواحدة.
أمّا إذا رُفعت، وأُتي بأنواع أخرى فتعاد التّسمية، وهكذا لو جيء بالشّاي بعد الأكل فعليك أن تسمّي الله كذلك؛ لأنّك تريد الشرب والتناول منه.
فائدة: 5
هل يشرع تذكير الحاضرين بالتسمية؟
نعم، بل هو السّنّة، ولك الأجر في ذلك.
لحديث عمر بن أبي سلمة السابق.
فذكّره صلى الله عليه وسلم بالتّسمية، وفيه دليل على أنّ لك تذكير غيرك بها، وإذا رأيت منهم تضايقاً، فاستعمل الحكمة واللّطف في ذلك، ويمكنك أن تجهر أنت بالتسمية من غير أن تأمرهم بها، حتى يسمعوا.
ولك أن تذكرهم بأنّ التّسمية واجبة على جميع الآكلين، ولا يكفي أن يسمي بعضهم.
فائدة: 6
هل تسمية غيره تكفي عنه؟
قال الشّيخ ابن باز: وهذا هو الصواب، أنّ تسمية غيره لا تكفي عنه، والرّسول صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن سلمة:(سمّ الله)، والرسول صلى الله عليه وسلم قد سمّى هو وأصحابه، فلم تكف تسميتهم عنه؛ ولهذا جاء في حديث حذيفة: إنَّا حضرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاماً، فجاءت جارية كأنما تُدْفَع، فذهبتْ لتضع يدها في الطعام، فأخذَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدها، ثمَّ جاء أعرابيّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فأخذ بيده، فقالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أنْ لا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وإنَّهُ جَاءَ بِهذِهِ الجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهذَا الأعْرَابيّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ يَدَهُ لَفِي يَدي مَعَ يَدَيْهِمَا)، ثم ذكرَ اسمَ اللَّه وأكل، ولو كانت تسمية الواحد تكفي، لما وضع الشيطان يده في ذلك الطّعام.
فائدة: 7
هل يلزم الجهر بالتسمية قبل الأكل؟
لا يلزم الجهر بالتسمية قبل الأكل، فلو قالها سراً، فقد امتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بالتسمية قبل الأكل، ولكن أقل ذلك أن يحرك بها لسانه، وإن لم يجهر بالصوت.
والأفضل له أن يجهر بها حتى يُذَكِّر الناس، ويُعَلِّم الجاهل.
(والأكل باليمين).
أي: ويستحب الأكل باليمين.
وهذا قول جمهور العلماء.
استدلوا بما سيأتي من الأحاديث الآمر بالأكل باليمين، وحملوا الأمر بالأكل باليمين على الاستحباب والندب، والنهي عن الأكل بالشمال على الكراهة والتنزيه؛ لأن الصارف لذلك هو قصد الإرشاد والأدب والفضيلة.
وذهب بعض العلماء: إلى وجوب الأكل باليمين.
اختاره ابن أبي موسى، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، ومحمد بن صالح العثيمين غيرهم.
أ-لحديث جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ; فَإِنَّ اَلشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وجه الدلالة: دل الحديث على النهي عن الأكل بالشمال، بدلالة قوله (لا تأكلوا) وهذا نهي، والأصل في النهي إذا ورد مجرداً عن القرائن فإنه يقتضي التحريم.
ب- ولحديث ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ) رواه مسلم.
قال ابن القيم: ومقتضى هذا تحريم الأكل بها، وهو الصحيح، فإن الآكل بها، إما شيطان، وإما مشبه به.
ج- ولحديث عمر بن أبي سلمة السابق (يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيك).
وجه الدلالة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل باليمين.
قال العيني: وأما الأكل باليمين فقد ذهب بعضهم إلى أنه واجب لظاهر الأمر.
د- وعن سَلمة بنِ عمرو بنِ الأكوع رضي الله عنه (أنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: (كُلْ بِيَمِينكَ) قَالَ: لا أسْتَطيعُ. قَالَ: (لا استَطَعْتَ) مَا مَنَعَهُ إلاَّ الكِبْرُ فمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيه) رواه مسلم.
قال الشيخ ابن عثيمين: فيه استعمال الاستطاعة بمعنى الإرادة، فقوله (لا أستطيع) أي: لا أريد، ومنه قول الحواريين (هل يستطيع ربك) أي: هل يريد ربك.
(قَالَ: لَا اسْتَطَعْتَ) هذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم عليه، لأنه لم له في ترك الأكل باليمين عذر، وإنما قصد المخالفة.
(قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ) أي: أن ذلك الرجل لم يستطع بعد ذلك اليوم أن يرفع يده اليمنى إلى فيه، وهو كناية أنها شلّت بدعائه صلى الله عليه وسلم عليه.
قال الصنعاني في شرح حديث الباب: وفي الحديث دليل على وجوب الأكل باليمين للأمر به أيضاً، ويزيده تأكيداً أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وفعل الشيطان يحرم على الإنسان ويزيده تأكيداً أن رجلاً أكل عنده صلى الله عليه وسلم بشماله فقال:"كل بيمينك" فقال: لا أستطيع قال: "لا استطعت ما منعه إلا الكبر" فما رفعها إلى فيه، أخرجه مسلم، ولا يدعو صلى الله عليه وسلم إلا على من ترك الواجب، وأما كون الدعاء لتكبره فهو محتمل أيضاً، ولا ينافي أن الدعاء عليه للأمرين معاً. (سبل السلام)
(والأكل مما يليه).
أي: يسن أن يأكل مما يليه.
ومعناه: أنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِمَّا يَلِيهِ فِي الطَّعَامِ مُبَاشَرَةً، وَلَا تَمْتَدُّ يَدُهُ إلَى مَا يَلِي الْآخَرِينَ، وَلَا إلَى وَسَطِ الطَّعَام.
لحديث عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَا غُلَامُ! سَمِّ اَللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ).
فائدة: 1
الحكمة من ذلك:
قال النووي: لِأَنَّ أَكْله مِنْ مَوْضِع يَد صَاحِبه سُوء عِشْرَة وَتَرْك مُرُوءَة فَقَدْ يَتَقَذَّرهُ صَاحِبه لَا سِيَّمَا فِي الْأَمْرَاق وَشَبَههَا، وَهَذَا فِي الثَّرِيد وَالْأَمْرَاق وَشَبَههَا، فَإِنْ كَانَ تَمْرًا أَوْ أَجْنَاسًا فَقَدْ نَقَلُوا إِبَاحَة اِخْتِلَاف الْأَيْدِي فِي الطَّبَق وَنَحْوه، وَالَّذِي يَنْبَغِي تَعْمِيم النَّهْي حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى عُمُومه حَتَّى يَثْبُت دَلِيل مُخَصِّص.
فائدة: 2
يستثنى من ذلك:
أولاً: إذا كان الطعام منوعاً.
عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ. قال (إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ. قَالَ أَنَسٌ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الصَّحْفَةِ. قَالَ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مُنْذُ يَوْمَئِذٍ) متفق عليه
ثانياً: إذا كان الإنسان لوحده.
(وأن يأكل بثلاثة أصابع).
أي: يسن أن يأكل بثلاثة أصابع.
لحديث كَعْبِ بْن مَالِك. قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا) رواه مسلم.
(وأن يلعق أصابعه بعد الأكل).
أي: ويسن أن يلعق أصابعه بعد الانتهاء من الأكل.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا) ق.
وقد جاء في الحديث بيان الحكمة من ذلك:
عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِى فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَةُ) م.
عَنْ جَابِرٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَعْقِ الأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ وَقَالَ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ) م.
قال في تحفة الأحوذي عند شرح هذا الحديث: قال النووي: معناه أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة ولا يدري أن تلك البركة فيما أكله، أو فيما بقي على أصابعه، أو فيما بقي في أسفل القصعة، أو في اللقمة الساقطة. فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة.
وأصل البركة: الزيادة وثبوت الخير والامتناع به. والمراد هنا ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوي على طاعة الله تعالى وغير
ذلك.
(ويحمد الله بعد فراغه من الطعام).
أي: ومن آداب الطعام أن يحمد الله بعد فراغه من طعامه.
وقد ورد عدة صيغ عن النبي صلى الله عليه وسلم:
عن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأكُلَ الأَكْلَةَ، فَيَحمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا) رواه مسلم
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا) رواه البخاري.
وعن مُعَاذ بْن أَنَس أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ) رواه أبو داود.
فائدة: 1
ومن الآداب: أن لا يأكل من وسط الصحفة.
عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ، فَقَالَ: "كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا، فَإِنَّ اَلْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا). رَوَاهُ اَلْأَرْبَعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِي.
- فإن قيل: لماذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل من وسط القصعة مع أن البركة تنزل فيها؟
لأنهم متى فعلوا ذلك ذهبت البركة من الطعام، وربما لم يصب أحدهم منها شيئاً؛ لأن أعلاها فيه البركة، ومتى ذهب بعضهم بأعلاها ذهبت البركة، ولم يبق شيء ينحدر منها من أعلاها إلى جوانبها، وفي هذا من سوء الأدب وسوء العشرة والشره والحرص وعدم القناعة ما يجعل الناس يشمئزون وينفرون من الطعام ومن مجلسه، وبذلك تذهب البركة أو تقل.
قال الصنعاني رحمه الله: دل على النهي عن الأكل من وسط القصعة، وعلله بأنه تنزل البركة في وسطها، وكأنه إذا أكل منه لم تنزل البركة على الطعام. (سبل السلام).
وقال الحافظ العراقي رحمه الله: وجه النهي عن الأكل من الوسط أن وجه الطعام أفضله وأطيبه، فإذا قصده بالأكل استأثر به على رفقته، وهو ترك أدب وسوء عشرة.
والمراد بالبركة هنا الإمداد من الله.
فائدة: 2
يجوز قطع اللحم بالسكين.
قال ابن القيم رحمه الله: وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَطْعِ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ: فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ: النَّهْيُ عَنْ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا (زاد المعاد).
قال العيني رحمه الله: قَالَ ابْن حزم: وَقطع اللَّحْم بالسكين للْأَكْل حسن، وَلَا يكره أَيْضا قطع الْخبز بالسكين؛ إِذْ لم يَأْتِ نهي صَرِيح عَن قطع الْخبز وَغَيره بالسكين. (عمدة القارئ).
الحديث المشار إليه: (لا تقطعوا اللحم والخبز بالسكين) ولا يصح.
وهو معارض بما اتفق عليه الشيخان: عن عمرو بن أمية قال (أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَى السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ).
باب عشرة النساء
(يَلْزَمُ الزَّوْجَيْنِ العِشْرَةُ بِالمَعْرُوفِ، من الصحبةِ الجميلة، وكف الأذى).
أي: يجب على كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بما يقره الشرع والعرف من الصحبة والقيام بحقه وكف الأذى.
أ- قال تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
أي: صاحبوهن وعاملوهن بالمعروف، فأدوا ما لهن، واصبروا على أذاهن وتقصيرهن.
ب- وقال تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).
فبينت الآية أن الحقوق بين الزوجين متبادلة، فكما أن على المرأة حقاً لزوجها، فإن لها أيضاً عليه حقاً، إلا أن حق الرجل عليها أعظم وأعلى، لأن عليه الرعاية والكفاية والحماية.
• ينبغي أن ينوي كل واحد من الزوجين بالمعاشرة بالمعروف استجابة أمر الله.
(وَيَحْرُمُ مَطْلُ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَا يَلْزَمُهُ لِلآخَرِ، وَالتَّكَرُّهُ لِبَذْلِهِ).
أي: ويجب على كل واحد من الزوجين أن يؤدي حق الآخر ويقوم به مع قدرته على أدائه، ويحرم أن يماطل أو يتكره عند الأداء، بل يؤديه ببشر وطلاقة.
كأن تقول المرأة: أريد كسوة فيقول إن شاء الله، ثم يماطل وتمضي الأيام ولم يأتي لها بشيء.
لأن المطل مع القدرة عليه حرام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم).
(وحق الزوج عليها أعظم من حقها عليه).
لقوله تعالى (وللرجال عليهن درجة).
جاء في (الموسوعة الفقهية) حَقُّ الزَّوْجِ: عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْحُقُوقِ، بَل إِنَّ حَقَّهُ عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى (وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَال عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).
قَال الْجَصَّاصُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا، وَأَنَّ الزَّوْجَ مُخْتَصٌّ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ.
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَيْهَا مُقَدَّمٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ فَوْقَهَا.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأِحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا). (الموسوعة).
(ويلزمُهَا طاعتُهُ في الاستمتاع).
أي: ويجب عليها طاعته للاستمتاع بها.
والاستمتاع معناه: الوطء، لأن المقصود من النكاح الاستمتاع.
لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) متفق عليه.
وفي رواية: (حتى ترجع).
وفي لفظ (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ).
وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلاَّ كَانَ الَّذِى فِي السَّمَاءِ سَاخِطاً عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا) رواه مسلم.
إذاً: عقوبة المرأة إذا دعاها زوجها للفراش وامتنعت من غير سبب:
أولاً: لعنتها الملائكة حتى تصبح.
ثانياً: غضب الله حتى يرضى الزوج.
فائدة: 1
صار هذا الترهيب للمرأة إذا لم تستجب لزوجها: لأن امتناعها يؤدي إلى الإضرار بالزوج، لأنه قد يؤدي به إلى الأمر المحرم، وما يسببه الامتناع من التوتر النفسي والغضب.
فائدة: 2
قوله (لعنتها الملائكة) اللعن الطرد والإبعاد من رحمة الله، واختلف في المراد بالملائكة:
فقيل: الحفظة.
وقيل: ملائكة السماء، للرواية الأخرى:(لعنتها الملائكة في السماء) وهذا هو الصحيح.
فائدة: 3
قال العلماء: هذا اللعن مقيد بما إذا كان الزوج أدى حق الزوجة من نفقة ومسكن وكسوة، ثم دعاها وامتنعت، وهذا القيد مأخوذ من عمومات الشريعة، فأما إذا ظلمها ومنعها حقها وتعدى عليها، فإنه لا يلزمها السمع والطاعة لأنه لا بد من المعاوضة.
فائدة: 4
قوله (فبات غضبان عليها) معنى هذه الرواية مقيدة بما إذا غضب زوجها عليها، أما إذا لم يغضب أو تنازل عن حقه فلن يكون هناك لعن.
فائدة: 5
قوله [حتى تصبح] وفي الرواية الأخرى (حتى ترجع):
والفرق بين الروايتين: ذكر الحافظ ابن حجر أن رواية (حتى ترجع) أكثر فائدة، لأن رواية (حتى تصبح) مقيدة بالليل [إذا امتنعت بالليل] لكن رواية حتى ترجع تشمل حتى لو دعاها بالنهار، وتحمل رواية (حتى تصبح) محمولة على الغالب، يعني غالباً أن الرجل يدعو زوجته ليلاً.
(مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا).
فإن أضر بها فإنه يحرم عليه.
مثال: لو فرض أنها حامل، والاستمتاع يشق عليها مشقة عظيمة، فإنه في هذه الحالة لا يجوز له أن يباشرها.
(أَوْ يَشْغَلْهَا عَن فَرْضٍ).
كأن يضيق وقت الصلاة، فليس له وطئها لئلا يشغلها عنه، أو حال صومها الفرض.
مثال: كأن يطلب منها الجماع وهي لم تصل الفجر وقد بقي على طلوع الشمس زمناً قليلاً (كأربع دقائق مثلاً)، فهنا لا يجوز له أن يستمتع بها، لأنه يشغلها عن فرض وهي الصلاة.
(ولا يجوزُ لها أن تتطوع بصوم وهو حاضر إلا بإذنه).
وذلك لأمرين:
أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ (غَيْرَ رَمَضَانَ).
ب- لأن حق الزوج فرض فلا يجوز تركه بنفل.
فائدة: 1
الحكمة من المنع:
لأن حق الزوج واجب، وصيام غير الفرض مستحب، ومن الفقه تقديم الواجبات، ومن ذلك تقديم طاعة الزوج على المستحبات.
فائدة: 2
صوم الفرض كرمضان لا يحتاج إذن الزوج.
لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فائدة: 3
هل يجب على الزوجة أن تستأذن زوجها في قضاء رمضان أم لا؟
هذه المسألة لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يضيق الوقت، بأن لم يبق من شعبان إلا بمقدار ما عليها من رمضان.
فهنا لا يجب أن تستأذنه.
الحال الثانية: إذا لم يضق الوقت، (الوقت موسع للقضاء) فهنا اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يجب أن تستأذنه.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
أ- لحديث عائشة قالت (كان يكون عليّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان) متفق عليه.
ب- أنه ليس لها أن تمنع الزوج حقه الذي هو على الفور بما ليس على الفور.
القول الثاني: أنه لا يجب أن تستأذنه.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تصومن امرأة تطوعاً وبعلها شاهد إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم وعبد الرزاق وهذا لفظه.
فمفهوم المخالفة من هذا الحديث يدل على أن لها أن تصوم بغير إذنه إذا لم يكن تطوعاً.
ب- أنه ليس للزوج منع الزوجة من المبادرة إلى قضاء رمضان إلا باختيارها، لأن لها حقاً في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها.
وهذا القول هو الصحيح.
فائدة: 4
نستفيد من قوله صلى الله عليه وسلم (وزوجها شاهد) نستفيد: أن الزوج إذا كان غائباً فيجوز لها أن تصوم ولا تحتاج إلى إذنه.
أ- لمفهوم الحديث.
ب- ولأن صيامها لا يضيع عليه حقاً من حقوقه.
ج- ولأن المعنى المراد من المنع لا يوجد.
(ويحْرُمُ وَطْؤُها في الحيضِ).
أي: يحرم على الزوج جماع زوجته في فرجها حال الحيض.
أ-لقوله تعالى (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
ب- ولحديث أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (اِصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا اَلنِّكَاحَ) رواه مسلم، أي: الجماع.
ج-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي.
قال الشوكاني: ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض، وهو معلوم من ضرورة الدين.
(والدُّبُرِ).
أي: ويحرم وطؤها أيضاً في الدبر.
أ- لقوله تعالى (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) والدبر ليس محلاً للحرث.
ب- عن جَابراً قال (كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
[أتى امرأته] أي جامعها. [من دبرها] أي من جهة دبرها. [في قبلها] أي أن الوطء في القبل، لكن جاءها من خلفها. [كان الولد أحول] أي جاء الولد الذي ينتج عن الوطء أحولاً. [نساؤكم] أي زوجاتكم. [حرث لكم] أي إن النساء موضع إنبات الولد. [فأتوا حرثكم] أي واقعوا زوجاتكم في موضع الحرث. [أنى شئتم] أي من أي جهةٍ شئتم، مقبلة أو مدبرة أو على جنب أو غير ذلك. وليس المعنى: من أي مكان شئتم، حيث يستدل بها على وطء الدبر، فإن سبب النزول يرد هذا المعنى.
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
قوله تعالى: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) لم يبيّن هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة (حَيْثُ) وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِتْيَانُ فِي الْقُبُلِ فِي آيَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: هِيَ قَوْلُهُ هُنَا (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ).
لِأَنَّ قَوْلَهُ: (فَأْتُوا) أَمْرٌ بِالْإِتْيَانِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ، وَقَوْلِهِ:(حَرْثَكُمْ)، يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِتْيَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ يَعْنِي بَذْرَ الْوَلَدِ بِالنُّطْفَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْقُبُلُ دُونَ الدُّبُرِ كَمَا لَا يَخْفَى; لِأَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ مَحَلُّ بَذْرٍ لِلْأَوْلَادِ، كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمُ الْوَلَدُ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَدْ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَكَمِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ، وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْتِغَاءَ الْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ بِالْجِمَاعِ فِي الْقُبُلِ. فَالْقُبُلُ إِذَنْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِيهِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَلْتَكُنْ تِلْكَ الْمُبَاشَرَةُ فِي مَحَلِّ ابْتِغَاءِ الْوَلَدِ، الَّذِي هُوَ الْقُبُلُ دُونَ غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، يَعْنِي الْوَلَدَ.
وَيَتَّضِحُ لَكَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى (أَنَّى شِئْتُمْ) يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ شَاءَ الرَّجُلُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُسْتَلْقِيَةً، أَوْ بَارِكَةً، أَوْ عَلَى جَنْبٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ جَابِرًا رضي الله عنه يَرَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: فَأْتُوهُنَّ فِي الْقُبُلِ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ شِئْتُمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ وَرَائِهَا.
وَالْمُقَرَّرُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَهُ تَعَلُّقٌ بِسَبَبِ النُّزُولِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْع. (أضواء البيان).
وقد جاءت الأدلة على تحريم وطء الدبر، يقوي بعضها بعضاً:
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ملعون من أتى امرأة في دبرها) رواه أبو داود.
وعن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في دبرها) رواه الترمذي. [وهذه الأحاديث مختلف فيها لكن بعضها يقوي البعض].
وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أتى امرأة حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد). رواه الترمذي [مختلف في صحته]
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذه الأحاديث: " لكن طرقها كثيرة فمجموعها صالح للاحتجاج به. (فتح الباري).
وقد ساق ابن القيم رحمه الله أوجها كثيرة لتحريم الوطء في الدبر فقال:
وَأَيْضًا: فَلِلْمَرْأَةِ حَقّ عَلَى الزّوْجِ فِي الْوَطْءِ وَوَطْؤُهَا فِي دُبُرِهَا يُفَوّتُ حَقّهَا وَلَا يَقْضِي وَطَرَهَا وَلَا يُحَصّلُ مَقْصُودَهَا.
وَأَيْضًا: فَإِنّ الدّبُرَ لَمْ يَتَهَيّأْ لِهَذَا الْعَمَلِ وَلَمْ يُخْلَقْ لَهُ وَإِنّمَا الّذِي هُيّئَ لَهُ الْفَرْجُ فَالْعَادِلُونَ عَنْهُ إلَى الدّبُرِ خَارِجُونَ عَنْ حِكْمَةِ اللّهِ وَشَرْعِهِ جَمِيعًا.
وأيضاً: فإن ذلك مُضِرّ بِالرّجُلِ وَلِهَذَا يَنْهَى عَنْهُ عُقَلَاءُ الْأَطِبّاءِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ لِأَنّ لِلْفَرْجِ خَاصّيّةً فِي اجْتِذَابِ الْمَاءِ الْمُحْتَقَنِ وَرَاحَةُ الرّجُلِ مِنْهُ وَالْوَطْءُ فِي الدّبُرِ لَا يُعِينُ عَلَى اجْتِذَابِ جَمِيعِ الْمَاءِ وَلَا يُخْرِجُ كُلّ الْمُحْتَقَنِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَمْرِ الطّبِيعِيّ.
وَأَيْضًا: يَضُرّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ إحْوَاجُهُ إلَى حَرَكَاتٍ مُتْعِبَةٍ جِدّا لِمُخَالَفَتِهِ لِلطّبِيعَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنّهُ مَحَلّ الْقَذَرِ وَالنّجْوِ فَيَسْتَقْبِلُهُ الرّجُلُ بِوَجْهِهِ وَيُلَابِسُهُ.
وَأَيْضًا: فَإِنّهُ يَضُرّ بِالْمَرْأَةِ جِدّا لِأَنّهُ وَارِدٌ غَرِيبٌ بَعِيدٌ عَنْ الطّبَاعِ مُنَافِرٌ لَهَا غَايَةَ الْمُنَافَرَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنّهُ يُحْدِثُ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالنّفْرَةَ عَنْ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ.
وَأَيْضًا: فَإِنّهُ يُسَوّدُ الْوَجْهَ وَيَظْلِمُ الصّدْرَ وَيَطْمِسُ نُورَ الْقَلْبِ وَيَكْسُو الْوَجْهَ وَحْشَةً تَصِيرُ عَلَيْهِ كَالسّيمَاءِ يَعْرِفُهَا مَنْ لَهُ أَدْنَى فِرَاسَةٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنّهُ يُوجِبُ النّفْرَةَ وَالتّبَاغُضَ الشّدِيدَ وَالتّقَاطُعَ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَلَا بُدّ. (زاد المعاد).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وطء المرأة في دبرها حرام بالكتاب والسنة، وهو قول جماهير السلف والخلف، بل هو اللوطية الصغرى.
(والخروج والسفر إلا بإذنهِ).
أي: ويحرم عليها الخروج من بيته ولا السفر إلا بإذنه.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) متفق عليه.
فإذا كان هذا في الصوم، فكيف بمن تسافر؟
فائدة: 1
إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها، سقط حقها من القسم، وكذلك سقط حقها من النفقة.
لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد منعت ذلك بالسفر. [قاله النووي]
- معنى قولنا (إن سافرت بغير إذنه فلا قسم) أي: لا يلزمه القضاء إذا رجعت.
فائدة: 2
فإن سافرت بإذن زوجها لحاجتها، للتجارة مثلاً،
أو للحج، أو للعمرة، أو لزيارة أقاربها، ففي هذه المسألة قولان:
القول الأول: لا قسْم لها ولا نفقة.
لأن النفقة في مقابل الاستمتاع، وقد تعذر بسبب من جهتها، فتسقط.
أما القسم فيسقط، لأنها اختارت ذلك بسفرها.
القول الثاني: لها النفقة.
لأنها سافرت بإذنه، فأشبه إذا سافرت معه، فهو الذي أسقط حقه في الاستمتاع.
وهذا الراجح.
فإن سافرت بإذنه لحاجته فلها النفقة والقسم، مثلاً، له أم في المستشفى في بلد آخر، وسافرت بإذنه، فالحاجة له هو، ففي هذه الحال نقول: لها النفقة، لأن ذلك لحاجته.
(ولا يعزِل عن الحرة بغير إذنها).
العزل: النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج.
قال القاضي عياض: العزل أن يعزل الرجل الماء عن رحم المرأة إذا جامعها حذر الحمل.
والعزل جائز:
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: (كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ اَلْقُرْآنُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَلِمُسْلِمٍ: (فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْهَنَا).
وقد جاء الجواز في العزل عن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم.
وهو جائز من الحرة بإذنها.
لأن لها في الولد حقاً، وعليها في العزل ضرر.
فائدة: 1
علة النهي عن العزل:
فقيل: لتفويت حق المرأة. وقيل: لمعاندة القدر.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الثاني هو الذي تقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك.
فائدة: 2
ترك العزل أولى لأمرين:
أولاً: أن فيه إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها.
ثانياً: أنه يفوت بعض مقاصد النكاح
فائدة: 3
ثبت كما تقدم جواز العزل، فما الجواب عن حديث جُذَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ قَالَتْ:(حَضَرْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ. . . . ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ? فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ اَلْوَأْدُ اَلْخَفِيُّ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قال النووي: الْعَزْل هُوَ أَنْ يُجَامِع فَإِذَا قَارَبَ الإِنْزَال نَزَعَ وَأَنْزَلَ خَارِج الْفَرْج، وَهُوَ مَكْرُوه عِنْدنَا فِي كُلّ حَال، وَكُلّ اِمْرَأَة، سَوَاء رَضِيَتْ أَمْ لا لأَنَّهُ طَرِيق إِلَى قَطْع النَّسْل، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث تَسْمِيَته (الْوَأْد الْخَفِيّ) لأَنَّهُ قَطْع طَرِيق الْوِلادَة كَمَا يُقْتَل الْمَوْلُود بِالْوَأْدِ. وَأَمَّا التَّحْرِيم فَقَالَ أَصْحَابنَا: لا يَحْرُم. . . . ثُمَّ هَذِهِ الأَحَادِيث مَعَ غَيْرهَا يُجْمَع بَيْنهَا بِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي النَّهْي مَحْمُول عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَمَا وَرَدَ فِي الإِذْن فِي ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْي الْكَرَاهَة. (شرح مسلم).
(ويسنّ أن يلاعِبَها قبل الجماع).
سواء بالكلام أو بالفعل، لأن ذلك يحرك الشهوة، وتكمل اللذة، وهذا من العشرة بالمعروف.
(وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الوَطْءِ، وَقَوْلُ الْوَارِدِ).
أي: يسن إذا أراد الرجل أن يجامع زوجته أن يسمي ويقول ما ورد.
لحديث ابْنِ عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اَللَّهِ. اَللَّهُمَّ جَنِّبْنَا اَلشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا; فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ اَلشَّيْطَانُ أَبَدًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ويقال هذا الدعاء قبل الشروع في الجماع.
لرواية (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله) وهي عند أبي داود.
فائدة: 1
ما المراد بالضرر المنفي في قوله (لم يضره
…
)، اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
فقيل: لم يطعن في بطنه، وهذا ضعيف.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا عيسى بن مريم) متفق عليه.
وقيل: لم يصرعه، وهذا ضعيف.
وقيل: لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية.
وقيل: لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه.
وقد جاء عن مجاهد: (أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه).
ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر.
وأقربها الأخير والذي قبله، والله أعلم بالصواب.
فائدة: 2
أن هذا الدعاء يقوله الرجل دون المرأة.
فليس هناك دعاء خاص تقوله المرأة قبل الجماع.
فائدة: 3
بركة اسم الله - أن ذكر الله يطرد الشيطان.
(وليس عليها خدمة زوجِها في عجن وخبزٍ وطبخٍ ونحوه).
هذا المذهب، أنه لا يجب على الزوجة خدمة زوجها.
قالوا: إن المعقود عليه من جهتها هو الاستمتاع فلا يلزمها غيره.
جاء في (الموسوعة الفقهية) لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الزَّوْجَةَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْدُمَ زَوْجَهَا فِي الْبَيْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا أَوْ مِمَّنْ لَا تَخْدُمُ نَفْسَهَا.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ هَذِهِ الْخِدْمَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا لَكِنَّ الأْوْلَى لَهَا فِعْل مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ)
وذهب بعض العلماء: إلى وجوب خدمة المرأة لزوجها بالمعروف من مثلها لمثله.
وبه قال المالكية، واختاره ابن تيمية.
أ-لقوله تعالى (الرجالون قوامون على النساء).
وجه الدلالة: أن مقتضى القوامة من الرجل على المرأة أن تخدمه.
ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إِلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ، وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إِلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ، لَكَانَ نَوْلُهَا أَنْ تَفْعَل) رواه ابن ماجه.
ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه بخدمته كقوله (يا عائشة اسقينا .. يا عائشة أطعمينا) رواه أحمد.
د- عن عَلِي (أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَبْىٍ فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم على عليّ بأن يأتيها بخادم، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحداً.
ه- عن أَسْمَاء بِنْت أَبِى بَكْر قَالَتْ (تَزَوَّجَنِى الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِى الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَىْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ - قَالَتْ - فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ وَأَسُوسُهُ وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ وَأَعْلِفُهُ وَأَسْتَقِى الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ لِى جَارَاتٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ - قَالَتْ - وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِى وَهْىَ عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ - قَالَتْ - فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِى فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَانِى ثُمَّ قَالَ «إِخْ إِخْ». لِيَحْمِلَنِى خَلْفَهُ - قَالَتْ - فَاسْتَحْيَيْتُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ. قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ فَكَفَتْنِى سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَتْنِي) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ما تلقاه أسماء من هذا العناء، ومع ذلك لم يقل للزبير لا خدمة عليها وأن هذا ظلم لها.
جاء في (الموسوعة الفقهية). . . . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو بَكْر بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، إِلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةَ زَوْجِهَا فِي الأْعْمَال الْبَاطِنَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجَةِ بِمِثْلِهَا.
لِقِصَّةِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رضي الله عنها، حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ، وَعَلَى عَلِيٍّ بِمَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ مِنَ الأْعْمَال، وَلِحَدِيثِ: لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأِحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُل مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إِلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ، وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إِلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ لَكَانَ نَوْلُهَا أَنْ تَفْعَل).
قَال الْجُوزَجَانِيُّ: فَهَذِهِ طَاعَتُهُ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَكَيْفَ بِمُؤْنَةِ مَعَاشِهِ؟
وَلأِنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ بِخِدْمَتِهِ فَيَقُول: يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا، يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي الْمُدْيَةَ وَاشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ.
وَقَال الطَّبَرِيُّ: إِنَّ كُل مَنْ كَانَتْ لَهَا طَاقَةٌ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى خِدْمَةِ بَيْتِهَا فِي خَبْزٍ، أَوْ طَحْنٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ، إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا أَنَّ مِثْلَهَا يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. (الموسوعة الفقهية).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: أما خدمتها لزوجها فهذا يرجع إلى العرف، فما جرى العرف بأنها تخدم زوجها فيه وجب عليها خدمته فيه، وما لم يجرِ به العرف لم يجب عليها، ولا يجوز للزوج أن يلزم زوجته بخدمة أمه أو أبيه أو أن يغضب عليها إذا لم تقم بذلك،
وعليه أن يتقي الله ولا يستعمل قوته، فإن الله تعالى فوقه، وهو العلي الكبير عز وجل، قال الله تعالى:(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً)" انتهى من "فتاوى نور على الدرب".
وقال في (الشرح الممتع) والصحيح أنه يلزمها أن تخدم زوجها بالمعروف.
فصل
(وَإِنْ سَافَرَ فَوْقَ نصف سنة وَطَلَبَتْ قُدُومَهُ وَقَدِرَ لَزِمَهُ).
أي: إذا سافر الزوج من دون زوجته فلا يخلو من أمرين:
الأول: أن لا تطلب قدومه بل يتراضيان، فالأمر راجع إليها.
والثاني: أن تطلب الزوجة قدومه، فيجب أن يقدم إذا توفرت عدة شروط:
أ-أن يكون السفر فوق نصف سنة، فإن كان أقل لم يجب أن يقدم إذا طلبت.
لأن المرأة لا تصبر غالباً عن زوجها أكثر من ستة أشهر.
ب- أن لا يكون في جهاد أو حج واجبين، أو في طلب رزق يحتاجه.
ج- أن يقدر على القدوم، فإن عجز فلا يلزمه.
(فَإِنْ أَبَى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِطَلَبِهَا).
أي: إن أبي الزوج أن يقدم من سفره وتوفرت فيه الشروط، فإنه يفرق بينهما إذا طلبت المرأة التفريق.
(ويحرمُ عليها الخروج بلا إذنه).
أي: يحرم على الزوجة أن تخرج من البيت من غير إذن زوجها.
فإن خرجت دون إذنه، كانت عاصية ناشزاً، تسقط نفقتها، وتأثم بذلك. لكن يستثنى حالات الاضطرار، وقد مثّل لها الفقهاء بأمثلة:
منها: إذا خرجت لشراء ما لا بد منه، أو خافت من انهدام المنزل، ونحو ذلك.
ولا فرق في ذلك بين أن تكون الزوجة في بيت زوجها أو بيت أهلها، فليس لها أن تخرج إلا بإذنه، فإذا منعها وجب عليها امتثال ذلك، لأنها مأمورة بطاعة زوجها في غير المعصية، وقد جعل الله تعالى له القوامة عليها، وهو مسئول عنها.
ومما يدل على اشتراط إذن الزوج في الخروج حتى لزيارة أهلها:
ما جاء في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم (أتأذن لي أن آتي أبوي) متفق عليه.
قال العراقي: فيه: أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها إلا بإذن زوجها.
جاء في (الموسوعة الفقهية) يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ بِلَا إِذْنِ الزَّوْجِ إِنْ كَانَتْ لَهَا نَازِلَةٌ، وَلَمْ يُغْنِهَا الزَّوْجُ الثِّقَةُ أَوْ نَحْوُ مَحْرَمِهَا، وَكَذَا لِقَضَاءِ بَعْضِ حَوَائِجِهَا الَّتِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهَا، كَإِتْيَانِهَا بِالْمَاءِ مِنَ الدَّارِ، أَوْ مِنْ خَارِجِهَا، وَكَذَا مَأْكَلٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا غَنَاءَ عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ إِنْ لَمْ يَقُمِ الزَّوْجُ بِقَضَائِهِ لَهَا، وَكَذَا إِنْ ضَرَبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا، أَوْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ لِقَاضٍ تَطْلُبُ عِنْدَهُ حَقَّهَا.
باب القَسْم
تعريفه:
القسْم بفتح فسكون، وهو بمعنى القسمة وهو العطاء، والمراد به هنا: القسْم بين الزوجات، وهو إعطاء المرأة حقها في البيتوتة عندها للصحبة والمؤانسة. (وقيل توزيع الزمان بين الزوجات).
وعرفه بعضهم بقوله (القسم هو مبيت الزوج مع زوجته في نوبتها سواء حصل في هذا المبيت وطء أم لم يحصل).
جاء في كشاف القناع: القسم هو توزيع الزمان على زوجاته إن كنّ ثنتين فأكثر.
(يجب عليه التسوية بين زوجاتهِ في المبيت).
أي: يجب على الزوج أن يسوي بين زوجاته في القسم. وذلك في المبيت.
أ- لقوله تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
قال ابن قدامة: وليس مع الميل معروف.
ب- ولحديث عائشة قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ، فَيَعْدِلُ، وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِك) رَوَاهُ أبو داود.
ج- ولحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل) رواه الترمذي.
قال الشوكاني: وفيه دليل على تحريم الميل إلى إحدى الزوجتين دون الأخرى إذا كان ذلك في أمر يملكه الزوج كالقسمة والطعام والكسوة.
د- وعن عَائِشَةَ قَالَتْ (لَمَّا (ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ) متفق عليه.
من هذا الحديث قال العلماء بوجوب القسم على الزوج ولو كان مريضاً هذا إذا استطاع فإن شق عليه ذلك استأذن في المكوث عند واحدة منهن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في استئذانه باقي نسوته في المكوث عند عائشة السابق الذكر فأذن له فمكث عندها حتى مات في بيتها.
عن جابر بن زيد قال: كانت لي امرأتان وكنت أعدل بينهما حتى في القبل.
وعن مجاهد قال: كانوا يستحبون أن يعدلوا بين النساء، حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه.
قال ابن قدامة: لا نعلم بين أهل العلم في وجوب القسم، والتسوية بين الزوجات في القسم خلافاً.
فائدة: 1
هل يجب أن يعدل بين زوجاته في النفقة والكسوة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يجب عليه، إذا كفّى كل واحدة وأعطى واحدة منهن زيادة.
وهذا قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
قال ابن قدامة: وَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ إذَا قَامَ بِالْوَاجِبِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.
قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ لَهُ امْرَأَتَانِ: لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي النَّفَقَةِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْكُسَى، إذَا كَانَتْ الْأُخْرَى فِي كِفَايَةٍ، وَيَشْتَرِي لِهَذِهِ أَرْفَعَ مِنْ ثَوْبِ هَذِهِ، وَتَكُونُ تِلْكَ فِي كِفَايَةٍ. (المغني).
مثال: لو أعطى الأولى 100 وهو كفايتها، وأعطى الثانية 100 كفايتها وزادها 100.
قالوا: لأنه أدى الواجب للأولى [وهو كفايتها] ولم يظلمها.
أ-أن التسوية في النفقة والكسوة فيما زاد على الواجب أمر يصعب التحرز منه، فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج، فسقط وجوبه كالتسوية في الوطء.
ب-أن حقهن في النفقة والكسوة، وقد سوى بينهن، وما زاد على ذلك فهو متطوع، فله أن يفعله إلى من شاء.
القول الثاني: يجب عليه.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أ- لعموم قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ).
ب- ولحديث (من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما
…
).
ج- ولأن عدم العدل بين الزوجات في النفقة يوغر الصدور، ويثير الأحقاد، مما يؤثر على الحياة الزوجية ويعكر صفوها، (والعدل في النفقة أن يعطي كل واحدة ما يكفيها).
وهذا القول أقرب للصواب، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واختاره الشيخ السعدي، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، وعلماء اللجنة الدائمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وأما العدل في " النفقة والكسوة " فهو السنة أيضًا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يعدل بين أزواجه في النفقة؛ كما كان يعدل في القسمة؛ مع تنازع الناس في القسم: هل كان واجباً عليه؟ أو مستحباً له؟
وتنازعوا في العدل في النفقة: هل هو واجب؟ أو مستحب؟ ووجوبه أقوى وأشبه بالكتاب والسنة.
فائدة: 2
هل القسْم كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن القسم كان واجباً عليه صلى الله عليه وسلم
-.
وهذا قول الشافعية، والحنابلة.
أ-لعموم الأدلة القاضية على وجوب القسم بين النساء، كقوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ).
ب- وبقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم.
ج- واستدلوا باستئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله في أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها
عن عَائِشَة قَالَتْ (أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِهَا وَأَذِنَّ لَهُ. . .) متفق عليه.
قالوا: لو كان القسم واجباً عليه لما احتاج إلى استئذانهن في ذلك.
القول الثاني: لم يكن واجباً.
وهذا مذهب المالكية، واختاره ابن جرير.
لقوله تعالى (تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً).
قال أبو بكر الجصاص رحمه الله: وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مخيراً في القسم لمن شاء منهن، وترك من شاء منهن. . . .
وحمل أصحاب هذا القول حديث صلى الله عليه وسلم (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك) على مكارم الأخلاق وجميل العشرة منه صلى الله عليه وسلم.
فائدة: 3
قوله (طاف على نسائه في ليلة واحدة بغسل واحد).
قال الفقهاء: أقل القسم ليلة لكل امرأة، فكيف طاف على الجميع في ليلة واحدة؟
والجواب من أوجه:
قيل: إنه برضا صاحبة النوبة.
وقيل: إنه يفعل ذلك عند استيفاء القسمة ثم يستأنف القسمة.
وقيل: إنه كان يفعل ذلك عند إقباله من السفر.
وقيل: قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون ذلك قبل وجوب القسمة، ثم ترك بعدها.
(لا في الوطء).
أي: فلا يجب أن يسوي بينهن في الوطء.
أ- لقوله تعالى (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ).
قال البغوي: أي: لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب وميل القلب ولو حرصتم على العدل.
وقال القرطبي: أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض.
وقال ابن كثير: أي: ولن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة.
وقال الرازي: المعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن وسعكم، ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك التفاوت في القول والفعل.
وقال الشنقيطي: هذا العدل الذي ذكر الله تعالى هنا أنه لا يستطاع، هو العدل في المحبة والميل الطبيعي، لأنه ليس تحت قدرة البشر، بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع.
ب- ولحديث عائشة السابق (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك).
ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن عائشة أحب نسائه إليه.
قال ابن قدامة: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّهُ لَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي الْجِمَاعِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِك وَالشَّافِعِيِّ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِمَاعَ طَرِيقُهُ الشَّهْوَةُ وَالْمَيْلُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ قَلْبَهُ قَدْ يَمِيلُ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) قَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ.
وَإِنْ أَمْكَنَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْجِمَاعِ، كَانَ أَحْسَنَ وَأَوْلَى؛ فَإِنَّهُ أَبْلُغُ فِي الْعَدْلِ (وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ فَيَعْدِلُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ) وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ حَتَّى فِي الْقُبَلِ. (المغني).
وقال ابن القيم: إن ترك الجماع لعدم الداعي إليه من المحبة والانتشار فهو معذور، وإن وجد الداعي إليه، ولكنه إلى الضرة أقرب فليس بمعذور، وعليه أن يعدل.
(وَعِمَادُهُ اللَّيْلُ لِمَنْ مَعَاشُهُ النَّهَارُ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ)
أي: أن عماد القسم بالليل لمن كان معاشه بالنهار.
قال ابن قدامة: لَا خِلَافَ فِي هَذَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ لِلسَّكَنِ وَالْإِيوَاءِ، يَأْوِي فِيهِ الْإِنْسَانُ إلَى مَنْزِلِهِ، وَيَسْكُنُ إلَى أَهْلِهِ، وَيَنَامُ فِي فِرَاشِهِ مَعَ زَوْجَتِهِ عَادَةً، وَالنَّهَارَ لِلْمَعَاشِ، وَالْخُرُوجِ، وَالتَّكَسُّبِ، وَالِاشْتِغَالِ
…
فَعَلَى هَذَا يَقْسِمُ الرَّجُلُ بَيْنَ نِسَائِهِ لَيْلَةً وَلَيْلَةً، وَيَكُونُ فِي النَّهَارِ فِي مَعَاشِهِ، وَقَضَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ، وَمَا شَاءَ مِمَّا يُبَاحُ لَهُ
…
إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ مَعَاشُهُ بِاللَّيْلِ، كَالْحُرَّاسِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ بِالنَّهَارِ، وَيَكُونُ اللَّيْلُ فِي حَقِّهِ كَالنَّهَارِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
…
(المغني).
(وَيَقْسِمُ لِحَائِضٍ، وَنُفَسَاءَ، وَمَرِيضَةٍ).
أي: أن الزوجة إذا كانت مريضة أو حائضاً أو مريضة فإنه يقسم لها.
قال في المغني: لأن القسم للأنس، وذلك حاصل ممن لا يطأ.
وقد روت عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور على نسائه ويقول: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟).
ومن الأدلة: ما رواه البخاري عن ميمونة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض).
قال الشافعي رحمه الله: ويبيت عند المريضة التي لا جماع فيها، والحائض والنفساء؛ لأن مبيته سكن إلف وإن لم يكن جماع أو أمر تحبه المرأة وترى الغضاضة عليها في تركه. (الأم).
وفي كشاف القناع (وَيقسِمُ الزَّوْجُ لزَوْجَةٍ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَمَرِيضَةٍ؛ لأَنَّ الْقَصْدَ السَّكَنُ وَالإِيوَاءُ وَالأُنْسُ وَحَاجَتُهُنَّ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِك).
(ويجب على الزوج المريض أن يقسم بين زوجاته كالصحيح).
أ-لعموم ما تقدم من أدلة وجوب القسم.
ب- ولحديث عائشة (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ يَقُولَ أَيْنَ أَنَا غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ
…
). فلو سقط بالمرض لم يكن للاستئذان معنى.
ج- ولأن القسم للصحبة والمؤانسة، وذلك يحصل من المريض كما يحصل من الصحيح.
فائدة:
اختلف الفقهاء فيما لو شق على المريض الطواف بنفسه على زوجاته فكيف يقسم؟
قيل: يستأذن من أزواجه أن يكون عند إحداهن، فإن لم يأذن له أقام عند من تعينها القرعة ولا يقضي للباقيات.
وهذا مذهب الحنابلة.
أ- لحديث عائشة قَالَتْ (لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ
…
) متفق عليه.
ب- أنهم إذا لم يأذن لهن أقرع بينهن، لتساويهن في الحق، فتميز القرعة بينهن.
وقيل: يقيم عند من شاء الإقامة عندها لرفقها به في تمريضه، لا لميله إليها، ثم إذا صح ابتدأ القسم، ولا يقضي للأخرى.
والراجح الأول.
(ويَحرمُ دخوله في نوبة واحدة إلى غيرها إلا لضرورة، وفي نهارها إلا لحاجة).
خروج الزوج من بيت صاحبة النوبة ودخوله بيت الأخرى فيه تفصيل:
أولاً: فإن كان ذلك في النهار:
فإنه يجوز للحاجة، كوضع متاع، وتسليم نفقة وتعرف خبرٍ، وعيادة، ونحو ذلك.
أ- لحديث عائشة قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا، وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمِي لِعَائِشَةَ. فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا) رواه أبوداود.
ب- وعنها قالت (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ
…
) رواه البخاري.
ويجوز للزوج أن يستمتع بزوجته عند دخوله عليها، بغير الجماع.
لقول عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليّ في يوم غيري، فينال مني كل شيء، إلا الجماع).
ولحديثها السابق (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ. . .).
ثانياً: الخروج للزوجة الثانية ليلاً:
فلا يجوز إلا لضرورة، كمرضها المخوف، وشدة الطلق، وخوف النهب والحرق.
فإن أطال المكث قضى لصاحبة النوبة.
أ- أن الليل هم عماد القسم وأصله.
ب- ولما فيه من إبطال حق ذات النوبة، وترك الواجب عليه.
ج- ويجوز حال الضرورة، لأن حال الضرورة يباح له ترك الواجب، لإمكان قضائه في وقت آخر.
قال ابن قدامة رحمه الله: وَأَمَّا الدُّخُولُ عَلَى ضَرَّتِهَا فِي زَمَنِهَا:
فَإِنْ كَانَ لَيْلًا لَمْ يَجُزْ إلَّا الضَّرُورَةُ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مَنْزُولًا بِهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَحْضُرَهَا، أَوْ تُوصِي إلَيْهِ، أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنَّ خَرَجَ، لَمْ يَقْضِ.
وَأَمَّا الدُّخُولُ فِي النَّهَارِ إلَى الْمَرْأَةِ فِي يَوْمِ غَيْرِهَا، فَيَجُوزُ لِلْحَاجَةِ، مِنْ دَفْعِ النَّفَقَةِ، أَوْ عِيَادَةٍ، أَوْ سُؤَالٍ عَنْ أَمْرٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، أَوْ زِيَارَتِهَا لِبُعْدِ عَهْدِهِ بِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (المغني).
فائدة:
لو خرج أثناء الليل مما لم تجر العادة بالخروج في أثنائه، فإن لم يلبث وعاد لم يقض لمن خرج من عندها هذا الوقت للمسامحة به.
وغن طال زمن خروجه، فاختلف العلماء في وجوب القضاء عليه على قولين:
قيل: عدم وجوب القضاء.
وهو مذهب الحنفية، والمالكية.
وقيل: يجب عليه القضاء لصاحبة النوبة.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
أ- لعموم أدلة وجوب العدل بين النساء.
ب- أنه مع طول الزمن لا يسمح به عادة، فيكون حقها قد فات بغيبته عنها.
والله أعلم.
(وَإِنْ سَافَرَتْ بِلَا إِذْنِهِ، أَوْ بِإِذْنِهِ فِي حَاجَتِهَا، أَوْ أَبَتْ السَّفَرَ مَعَهُ، أَوْ المَبِيتَ عِنْدَهُ فِي فِرَاشِهِ، فَلَا قَسْمَ لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ).
هذه عدة أمور يسقط فيها القسم:
أولاً: (وَإِنْ سَافَرَتْ بِلَا إِذْنِهِ).
فإذا إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها، سقط حقها من القسم والنفقة، لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد منعت ذلك بالسفر. [قاله النووي]
(أَوْ بِإِذْنِهِ فِي حَاجَتِهَا).
إذا سافرت بإذنه لكن لحاجتها هي.
قالت له مثلاً: إني أريد أن أزور أقاربي أو ما أشبه ذلك، فأذن لها.
فلا قسم لها. (فلا يقضي لها).
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
أ- لأنها فوتت حقه من الاستمتاع بها، ولم تكن في قبضته، وإذنه لها بالسفر رافع للإثم خاصة.
ب- أن القسم للأنس، وقد تعذر ذلك بسبب من جهتها، فسقط كما لو تعذر ذلك قبل دخوله بها.
- فإن سافرت بإذنه لحاجته هو، فلا يسقط حقها من القسم.
مثلاً له أم في المستشفى في بلد آخر، وسافرت بإذنه، فالحاجة له هو، ففي هذه الحال لها القسم ولها النفقة.
والخلاصة: سفر المرأة له أحوال:
أولاً: أن تسافر من غير إذنه: فلا قسم لها، ولا نفقة لها لأنها ناشز.
ثانياً: أن تسافر بإذنه لحاجته هو: فهذه لها القسم والنفقة.
ثالثاً: أن تسافر بإذنه لحاجتها، فلا قسم لها.
(أَوْ أَبَتْ السَّفَرَ مَعَهُ).
فلو رفضت السفر معه فليس لها قسم ولا نفقة.
(أَوْ المَبِيتَ عِنْدَهُ فِي فِرَاشِهِ).
أي: إذا دعاها إلى الفراش فأبت ورفضت فلا قسم لها ولا نفقة. وتقدم خطر ذلك.
(وَمَنْ وَهَبَتْ قَسْمَهَا لِضَرَّتِهَا بِإِذْنِهِ جَازَ، فَإِنْ رَجَعَتْ قَسَمَ لَهَا مُسْتَقْبَلاً).
أي: يجوز للزوجة أن تنازل من حقها في القسم ووهبها نوبتها لضرتها، لكن بشرط إذن الزوج.
قال ابن قدامة: ويجوز للمرأة أن تهب حقها من القسم لزوجها، أو لبعض ضرائرها، أو لهن جميعاً، ولا يجوز إلا برضى الزوج؛ لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه. (المغني).
قال تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً).
عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
- لكن يشترط: أن يرضى الزوج بذلك.
لأن الأصل أن حق الزوج متعلق بالزوجة الواهبة، فليس لها أن تسقط حق زوجها إلا برضاه، وسودة وهبت يومها من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، وقد قبِلَ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان يقسم لعائشة يومين.
فائدة: 1
فعلت سودة ذلك لأمور:
الأمر الأول: جاء عند البخاري (تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: جاء عند مسلم (لما كبرت سودة جعلت يومها لعائشة).
الأمر الثالث: خوفها أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكْثِه عندنا،
…
ولقد قالت سودة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! يومي لعائشة، فقَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها).
وقد جاء عند ابن سعد في الطبقات أوضح من هذا (قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أبقى معك لأجل أن أبعث مع أزواجك يوم القيامة وإن يومي وهبته لعائشة).
فائدة: 2
وتصرفها هذا يدل على أمرين:
الأول: على فقهها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو طلقها لم تبقى من أمهات المؤمنين ولم تكن من أزواجه في الدار الآخرة.
الثاني: وكونها اختارت عائشة بالذات، هذا يدل على محبتها للرسول صلى الله عليه وسلم وشفقتها عليه، لأنها تعلم أن عائشة أحب نسائه إليه، فكان إهداء قسْمها لعائشة مما يسر النبي صلى الله عليه وسلم.
فائدة: 3
يجوز للمرأة أن تهب نوبتها للزوج، فيتصرف فيها كيف يشاء، وللزوج أن يجعلها لمن شاء من زوجاته.
لكن إن شاء جعلها للجميع، ومعنى للجميع: بدل ما كان يقسم لأربع، يصير الآن يقسم لثلاث، فصار الجميع اسْتفدْن من حقوق هذه الليلة، بخلاف ما لو أعطيت لواحدة.
وله أن يخص به واحدة منهن، لكن كونه للجميع هذا أقرب للعدل وأبعد عن الميل.
فائدة: 4
إسقاط الزوجة للقسم بعوض:
أولاً: كون العوض غير مالي.
يجوز للزوجة أن تسقط حقها من القسم كله أو بعضه مقابل عوض غير مالي، كأن تسقطه لأجل أن يمسكها الزوج فلا يطلقها، أو تسقط بعض القسم لكي ترضي الزوج.
أ- عنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا، أَوْ إِعْرَاضًا) قَالَتْ هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا تَقُولُ لَهُ أَمْسِكْنِي، وَلَا تُطَلِّقْنِي ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيَّ وَالْقِسْمَةِ لِي فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) متفق عليه.
ب- إسقاط سودة قسمها - كما تقدم - لأجل أن يمسكها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: كون العوض مالياً.
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: يجوز أن تتنازل الزوجة عن قسمها بعوض مالي سواء كان ذلك من الزوج،
أو من قبل الضرة الأخرى.
وهذا مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية.
لقوله تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا، أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) وهذا يشمل الصلح بإسقاط القسم بعوض.
القول الثاني: لا يجوز للزوجة أخذ العوض مقابل إسقاط قسمها.
وهذا قول جمهور العلماء.
لأنه اعتياض عن حق لم يجب.
والراجح جوازه.
فائدة: 5
هل يجوز للواهبة الرجوع؟
الجمهور أنه يجوز أن ترجع.
فائدة: 6
قال ابن قدامة: وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْن امْرَأَتَيْهِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا ضَرَرًا؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْغَيْرَةِ، وَاجْتِمَاعُهُمَا يُثِيرُ الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُقَاتَلَةَ، وَتَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِسَّهُ إذَا أَتَى إلَى الْأُخْرَى، أَوْ تَرَى ذَلِكَ، فَإِنْ رَضِيَتَا بِذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَلَهُمَا الْمُسَامَحَةُ بِتَرْكِهِ.
(وإذا أراد سفراً أقرع بين نسائه).
أي: أنه يجب على أن الرجل إذا أراد السفر بإحدى نسائه أن يقرع بينهن، فمن خرجت لها القرعة سافر بها.
أ-عن عَائِشَة قَالَت (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ) متفق عليه.
ب- ولأن السفر ببعضهن من غير قرعة فيه تفضيل وميل، وهذا لا يجوز.
قال ابن قدامة: وجُمْلَتُهُ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا، فَأَحَبَّ حَمْلَ نِسَائِهِ مَعَهُ كُلِّهِنَّ، أَوْ تَرْكَهُنَّ كُلِّهِنَّ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى قُرْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لِتَعْيِينِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْهُنَّ بِالسَّفَرِ، وَهَاهُنَا قَدْ سَوَّى، وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِبَعْضِهِنَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إلَّا بِقُرْعَةٍ.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. (المغني).
وقال النووي: فيه: أن من أراد سفراً ببعض نسائه: أقرع بينهن كذلك، وهذا الإقراع عندنا واجب.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) واتفق الشافعية والحنابلة: على أن الزوج لا يجوز له أن يسافر ببعض زوجاته - واحدة أو أكثر - إلا برضاء سائرهن أو بالقرعة.
فائدة: 1
هل يقضي للحاضرة بعد رجوعه؟
لا يقضي.
قال ابن قدومه: وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِلْحَاضِرَاتِ بَعْدَ قُدُومِهِ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ " فَإِذَا قَدِمَ ابْتَدَأَ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ ".
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يَقْضِي؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ).
وَلَنَا، أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَذْكُرْ قَضَاءً فِي حَدِيثِهَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ الَّتِي سَافَرَ بِهَا يَلْحَقُهَا مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ بِإِزَاءِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنْ السَّكَنِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ السَّكَنِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ فِي الْحَضَرِ، فَلَوْ قُضِيَ لِلْحَاضِرَاتِ، لَكَانَ قَدْ مَالَ عَلَى الْمُسَافِرَةِ كُلَّ الْمَيْلِ. (المغني).
فائدة: 2
أ- إن سافر بإحداهن بغير قرعة، أثم، وقضى للبواقي بعد سفره.
…
(المغني).
ب- إن رضين بخروج إحداهن معه بلا قرعة فلا بأس، لأن الحق لهن، إلا أن لا يرضى الزوج، ويريد غير من اتفقن عليها، فيصار إلى القرعة، وكذا لو كان كثير الأسفار، وأراد أن يجعل لكل واحدة سفرة فإنه يجوز، لأن هذا حق متميز لا خفاء فيه.
ج- ومتى سافر بأكثر من واحدة، سوى بينهن كما يسوي بينهن في الحضر.
فائدة: 3
حديث عائشة السابق دليل على العمل بالقرعة، وقد ذكرت القرعة في موضعين من القرآن:
قال تعالى (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ).
وقال تعالى (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).
وجاءت في أحاديث كثيرة: منها الحديث السابق.
وحديث (لو يعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة) رواه مسلم.
قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس، وزكريا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: أقرع النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع وهي في القرآن في موضعين.
والقرعة يعمل بها: عند التساوي في الاستحقاق وعدم إمكان الجمع، قال ابن القيم: الحقوق إذا تساوت على وجه لا يمكن التمييز بينها إلا بالقرعة صح استعمالها فيها.
فصل
(وَإِنْ تَزَوَّجَ بِكْراً أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً ثُمَّ دَارَ، وَثَيِّباً ثَلاثاً).
أي: أن الرجل إذا تزوج امرأة جديدة، فإنه يجلس عندها سبعاً إذا كانت بكراً، ويجلس عندها ثلاثاً إذا كانت الزوجة الجديدة ثيباً.
وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد.
قال في المغني: مَتَى تَزَوَّجَ صَاحِبُ النِّسْوَةِ امْرَأَةً جَدِيدَةً، قَطَعَ الدُّورَ، وَأَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا إنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَلَا يَقْضِيهَا لِلْبَاقِيَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَلَا يَقْضِيهَا.
وقال النووي: وَفِيهِ أَنَّ حَقّ الزِّفَاف ثَابِت لِلْمَزْفُوفَةِ وَتَقَدَّمَ بِهِ عَلَى غَيْرهَا فَإِنْ كَانَتْ بِكْر كَانَ لَهَا سَبْع لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا بِلَا قَضَاء، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا كَانَ لَهَا الْخِيَار إِنْ شَاءَتْ سَبْعًا، وَيَقْضِي السَّبْع لِبَاقِي النِّسَاء، وَإِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا وَلَا يَقْضِي. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن جَرِير وَجُمْهُور الْعُلَمَاء. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْحَكَم وَحَمَّاد: يَجِب قَضَاء الْجَمِيع فِي الثَّيِّب وَالْبِكْر وَاسْتَدَلُّوا بِالظَّوَاهِرِ الْوَارِدَة بِالْعَدْلِ بَيْن الزَّوْجَات.
وَحُجَّة الشَّافِعِيّ هَذِهِ الْأَحَادِيث وَهِيَ مُخَصَّصَة لِلظَّوَاهِرِ الْعَامَّة. (نووي).
مثال: رجل عنده زوجة اسمها فاطمة، ثم بعد ذلك تزوج امرأة أخرى اسمها عائشة وكانت بكراً، فنقول: يجلس عند عائشة سبع أيام ثم يقسم.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ (مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، ثُمَّ قَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَسَمَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قوله (أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ) لما طلبت منه أن لا يخرج، ففي رواية لمسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة، فدخل عليها، فأراد أن يخرج أخذت بثوبه)
وقوله (إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ) قيل: المراد بالأهل قبيلتها، وقيل: أراد بالأهل نفسه صلى الله عليه وسلم، أي: ليس اقتصاري على الثلاثة لهوانك عليّ، ولا لعدم رغبتي فيك، ولكن لأنه الحكم الشرعي.
فائدة: 1
الحكمة من ذلك:
أولاً: أن البكر تنفر من الرجل أكثر من نفور الثيب.
ثانياً: أن رغبة الرجل في البكر أكثر من رغبته في الثيب.
باب النشوز
تعريفه:
لغة: مأخوذ من النشز وهو المكان المرتفع من الأرض.
واصطلاحاً: معصية الزوجة الزوج فيما فرض الله عليها من طاعته.
(وإن خاف نشوزَ امرأتهِ، وظهرتْ منها قرائنُ معصيتهِ وعظَهَا).
أي: إذا خاف الرجل نشوز امرأته بأن ظهر منها قرائنه، كأن تمنعه حقه بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمة متكرهة، فإنه: يعظها.
هذا العلاج الأول لنشوز المرأة: الوعظ.
والوعظ التذكير بما يرغّب أو يخوف.
لقوله تعالى (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ).
بأن يذكرها بما يلين قلبها، ويصلح عملها من ثواب وعقاب، يخوفها بالله سبحانه وتعالى وأليم عقابه، ويذكرها بما أعد الله للمرأة العاصية لزوجها من أليم عقابه:
مثل قوله صلى الله عليه وسلم (إذا دعا الرجل زوجته إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح).
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها).
فإذا لم ينفع هذا العلاج ينتقل إلى الأمر الثاني وهو:
(فإن أصرّت هجَرَها في المضجع).
هذا العلاج الثاني من علاج نشوز المرأة: وهو هجرها في المضجع.
لقوله تعالى (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وتركها في المضجع على ثلاثة أوجه:
أولاً: أن لا ينام في حجرتها، وهذا أشد شيء.
ثانياً: أن لا ينام على الفراش معها، وهذا أهون من الأول.
ثالثاً: أن ينام معها في الفراش، ولكن يلقيها ظهره ولا يحدثها، وهذا أهونها.
ويبدأ بالأهون فالأهون، لأن ما كان المقصود به المدافعة فالواجب البداءة بالأسهل فالأسهل.
• ويهجرها ما شاء حتى ترتدع وترجع.
(فإن لم ترتدع ضربها ضرباً غير مبرِّح).
أي: فإن لم ترتدع ولم ينفع معها الوعظ والهجر، ضربها.
لقوله تعالى (وَاضْرِبُوهُنَّ).
لكن لهذا الضرب شروطاً:
أولاً: أن يكون غير مبرحاً أي: غير شديد.
أ-عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع (اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) رواه مسلم.
ب- ولأن المقصود التأديب والزجر والإصلاح، لا الإيذاء والضرر والانتقام.
ثانياً: أن يتقي الوجه.
عن مُعَاوِيَةَ بن حَيْدَة الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ (أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوْ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْت) قَالَ أَبُو دَاوُد: وَلَا تُقَبِّحْ: أَنْ تَقُولَ قَبَّحَكِ اللَّه.
ب- وعن جَابِرٍ رضي الله عنه قال (نهى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الضَّرْبِ في الْوَجْه) رواه مسلم.
قال النَّوَوِيُّ رحمه الله -وأما الضرب في الوجه: فمنهيٌّ عنه في كل الحيوان المحترم، مِن الآدمي، والحمير، والخيل، والإبل، والبغال، والغنم، وغيرها، لكنه في الآدمي أشد؛ لأنه مجمع المحاسن، مع أنه لطيف؛ لأنه يَظهر فيه أثر الضرب، وربما شانه، وربما آذى بعض الحواس.
جاء في (الموسوعة الفقهية) طُرُقُ تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ:
الْوَعْظ - الْهَجْرُ فِي الْمَضْجَعِ - الضَّرْبُ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ.
وَهَذَا التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَلَا يَنْتَقِل إِلَى الْهَجْرِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُجْدِ الْوَعْظُ، هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ).
جَاءَ فِي الْمُغْنِي: فِي الآْيَةِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، فَإِنْ أَصْرَرْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأْظْهَرِ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ - إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا بِالضَّرْبِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّشُوزِ مِنْهَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلَا تَرْتِيبَ عَلَى هَذَا الْقَوْل بَيْنَ الْهَجْرِ وَالضَّرْبِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّشُوزِ، وَالْقَوْل الآْخَرُ يُوَافِقُ رَأْيَ الْجُمْهُورِ. (الموسوعة الفقهية).
(ويُمنعُ من ذلك إن كان مانعاً لحقِّها).
أي: يمنع الزوج ولا يجوز له أن يستعمل هذه المراتب إذا كان مانعاً لحقها، وذلك بأن يمنع زوجته حقها من النفقة والقسْم، أو تجد منه إساءة خلق، أو أن يؤذيها، سواء كان بالضرب أو بغيره بلا سبب.
(وإن خيف الشقاق بينهُما: بعث الحاكم حكماً من أهله وحكماً من أهلها).
أي إذا كان الشقاق بين الزوجين، وعدم قيام كل واحد بما يجب عليه، فإنه يبعث القاضي حكماً من أهلها وحكماً من أهله.
قال تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً).
فالحل يكون عند الحاكم، والحاكم حينئذ يقيم حكمين أحدهما من أقارب الزوج والآخر من أقارب الزوجة.
فائدة: 1
اختلف العلماء في الرجلين المبعوثين هل هما حكمان أم وكيلان للزوجين على قولين:
أحدهما: أنهما وكيلان. والثاني: أنهما حكمان، وهذا هو الصحيح.
ورجح هذا القول ابن القيم وقال: العجب كل العجب ممن يقول: هما وكيلان لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حكمين
وعلى هذا القول فإنها يلزمان الزوج بدون إذنهما ما يريان فيه المصلحة من طلاق أو خلع.
لأن الله سمى كلاً منهما حكماً، والحكم هو الحاكم، ومن شأن الحاكم أن يلزم بالحكم.
وقد روى ابن أبي شيبة هذا القول عن عثمان، وعلي، وابن عباس، والشعبي، وسعيد بن جبير، وهو قول مالك.
واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إنه الأصح، لأن الوكيل ليس بحَكَم، ولا يحتاج فيه إلى أمر الأئمة، ولا يشترط أن يكون من الأهل.
فائدة: 2
والسر في اختيار كل واحد من الحكمين من أقارب الآخر: لأنهما أدري بحالهما وأعلم ببواطن الأمور، لأن الزوجين يفشيان لأقاربهما ما لا يفشيان لغيرهم.
قال الآلوسي: وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كلّ من حب وبغض وإرادة صحبة أو فرقة.
فائدة: 3
وعلى الحكمين المذكورين تقوى الله سبحانه وتعالى والنظر فيما يصلح شأنهما ودراسة قضيتهما من جميع الجوانب، وبعد ذلك يقرران ما يريانه من جمع أو تفريق.
فائدة: 4
قوله تعالى (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً):
الضمير في قوله (إِنْ يُرِيدَا) يعود للحكمين - وهذا قول الجمهور -
وقيل: على الزوجين.
والأول أصح، لأن الحكمين هما اللذان يريدان أن يحكما، فنية الإصلاح تكون منهما، أما الزوجان فالخلاف قائم بينهما، وكل واحد يريد الانتصار لنفسه.
باب الخلع
قال ابن حجر: الخلع بضم المعجمة وسكون اللام وهو في اللغة: فراق الزوجة على مال.
قال ابن قدامة: فإذا ثبت هذا، فإن هذا يسمى خلعاً؛ لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها.
قال الله تعالى (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) ويسمى افتداء؛ لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله.
قال الله تعالى (فلا جناح عليهما فيما افتدت به).
(وهو فراق زوجته بعوضٍ منها أو من غيرِها)
هذا تعريف الخلع، وهو فراق الزوج زوجته بعوض منها أو من غيرها.
فائدة: 1
قوله (بعوض) يخرج ما إذا كان الفراق بغير عوض، كالفسخ لوجود عيب أو غيره.
فائدة: 2
قوله (أو من غيرها).
أي: يصح عوض الخلع ولو من أجنبي، بأن يدفع العوض للزوج على أن يخالع زوجته.
وهذا قول الجمهور.
لكن بشرط أن يكون قصده:
مصلحة الزوج: كأن يكون الزوج كارهاً الزوجة، إلا أنه يشح أن يفارقها بلا عوض، فيعطيه عوضاً ليفارقها.
أو يقصد مصلحة الزوجة: كأن تكون كارهة الزوج، ولكن ليس لديها من المال ما تدفعه عوضاً.
فإن قصد غير ذلك لم يجز.
فائدة: 3
الحكمة منه: تخليص الزوجة من الزوج على وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها وعقد جديد، وسماه الله افتداء، لأن المرأة تفتدي نفسها من أسْر زوجها، كما يفتدي الأسير نفسه بما يبذله.
(والأصل فيه قوله تعالى (وإِنْ خفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).
هذه الآية: هي الدليل على إباحة الخلع:
قال تعالى (وإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)
(وإِنْ خِفْتُمْ) الخطاب في الآية لذوي السلطان من ولاة الأمر، أو لأقارب الزوجين. (أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) هي ما يجب لكل واحد منهما على الآخر. (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي: دفعته فداءً عن البقاء معه.
ومن السنة على جوازه:
حديث ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً). رواه البخاري
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ (وَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا).
وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ:(أَنَّ اِمْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اِخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجَعَلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِدَّتَهَا حَيْضَةً).
وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِوِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ اِبْنِ مَاجَهْ:(أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ كَانَ دَمِيماً وَأَنَّ اِمْرَأَتَهُ قَالَتْ: لَوْلَا مَخَافَةُ اَللَّهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَسَقْتُ فِي وَجْهِهِ).
وَلِأَحْمَدَ: مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ (وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي اَلْإِسْلَام).
فائدة: 1
[ثابت بن قيس] بن شماس الأنصاري الخزرجي، مشهور بخطيب الأنصار، أول مشاهده غزوة أحد، وقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، قتل يوم اليمامة شهيداً سنة 12 هـ.
[ما أعتب عليه] يعني ما ألوم عليه أي تصرف، وفي رواية (ما أعيب) العيب معناه الرداءة والنقص.
[في خُلق ولا دين] أي لا أريد مفارقته لسوء خلقه، ولا لنقصان دينه ولكن أكرهه بغضاً وقد جاء في رواية (لا أطيقه).
[أكره الكفر في الإسلام] هذه الجملة فيها قولان للعلماء:
القول الأول: الأخذ بظاهرها، والمعنى أنها خشيت من شدة بغضها أن يحملها ذلك الكفر لأجل أن ينفسخ النكاح.
القول الثاني: أن المراد بالكفر كفران العشير والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، وهذا أصح، وأما الذي قبله فما أبعده احتمالاً، في صحابيّة فاضلة، تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ويسكت عنها، إن هذا لشيء بعيد، قال الطيبي: المعنى أخاف على نفسي في الإسلام ما ينافي حكمه، من نشوز وفرك وغيره، مما يقع من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها إذا كان بالضد منها، فأطلقت على ما ينافي مقتضى الإسلام الكفر.
[أتردين عليه حديقته] هذا استفهام حقيقي ولذلك قالت: نعم. (الاستفهام الذي يطلب به الجواب فيكون على معناه الحقيقي) والحديقة: هي البستان من النخيل وفي رواية عند البزار (وكان قد تزوجها على حديقة نخل) وعند أبي داود (فإني أصدقتها حديقتين).
[اقبل الحديقة وطلقها] قيل: هذا أمر إيجاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نظر بحالها وواقعها أمَره أمْر إيجاب، وقيل: أمر إرشاد وإصلاح، والراجح القول الأول.
[وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً] أي طلقة واحدة بائنة فليس له رجعة عليها إلا برضاها وعقد جديد.
فائدة: 2
الحديث دليل على مشروعية الخلع إذا وجدت أسبابه ودواعيه كما سيأتي إن شاء الله.
فائدة: 3
هل مجرد وقوع الشقاق من المرأة وحدها كاف في جواز الخلع أم لا بد منهما جميعاً؟
ظاهر الحديث أن مجرد وقوع الشقاق من المرأة وحدها كافٍ في جواز الخلع، فلا يشترط أن سوء العشرة منهما معاً. وهذا قول جماهير العلماء.
لحديث ثابت السابق فهو نص صريح، فأمره بالخلع بمجرد أن سمع كلام زوجته.
وقيل: لابد أن يقع الشقاق منهما معاً.
وهؤلاء اخذوا بظاهر الآية (فإن خفتم ألا يقيما. . .).
وهذا القول قال به داود الظاهري.
قال الشوكاني: وظاهر أحاديث الباب أن مجرد وجود الشقاق من قبل المرأة كاف في جواز الخلع، واختار ابن المنذر أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق منهما جميعا وتمسك بظاهر الآية، وبذلك قال طاوس والشعبي وجماعة من التابعين، وأجاب عن ذلك جماعة منهم الطبري بأن المراد أنها إذا لم تقم بحقوق الزوج كان ذلك مقتضياً لبغض الزوج لها، فنسبت المخالفة إليهما لذلك، ويؤيد عدم اعتبار ذلك من جهة الزوج أنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتاً عن كراهته لها عند إعلانها بالكراهة له.
(فَإِذَا كَرِهَتْ خُلُقَ زَوْجِهَا، أَوْ خَلْقَهُ، أَوْ نَقْصَ دِينِهِ، أَوْ خَافَتْ إِثْماً بِتَرْكِ حَقِّهِ أُبِيحَ الخُلْعُ).
هذا بيان متى يباح الخلع:
(فإذا كرهت المرأةُ خُلُق زوجِها) الخُلُق بالضم هو الصورة الباطنة، فإذا كرهت الزوجة أخلاقه كأن تكون أخلاقه سيئة.
(أو خَلْقَه) والخلقة هي الصورة الظاهرة، فإذا كرهت الزوجة خلقَه بأن تكون صورته دميمة، فإنه في هذه الحالة يباح لها أن تخالع.
(أَوْ نَقْصَ دِينِهِ) كأن يكون متهاوناً بصلاة الجماعة ونحوها.
(أَوْ خَافَتْ إِثْماً بِتَرْكِ حَقِّهِ أُبِيحَ الخُلْعُ) أي: وإذا خافت المرأة ألا تقوم بالحقوق الواجبة عليها وهي (حدود الله) أي: شرائعه التي أوجبها الله عليها لزوجها، بسبب بغضها له فله فداء نفسها.
لحديث ابن عباس السابق، فإن امرأة ثابت بن قيس قالت (يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ) وجاء في رواية (ولكني لا أطيقه).
قال ابن تيمية: الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه، فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كل منهما مريداً لصاحبه فهذا الخلع محرم في الإسلام.
قال ابن قدامة: أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَرِهَتْ زَوْجَهَا، لِخَلْقِهِ، أَوْ خُلُقِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ كِبَرِهِ، أَوْ ضَعْفِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَخَشِيَتْ أَنْ لَا تُؤَدِّيَ حَقَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ، جَازَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِعِوَضٍ تَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهَا مِنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
فائدة:
هل يلزم الزوج قبول الخلع؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: يستحب له ولا يجب.
القول الثاني: يجب عليه.
أ- لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) وهذا الأمر للوجوب.
ب- ولما فيه من إزالة الضرر عن المرأة مع ثبوت حق الرجل وعدم ضياع حقه.
(ويُكرهُ مع استقامة).
أي: يكره الخلع مع استقامة الحال.
وذهب بعض العلماء: إلى تحريمه من غير سبب.
أ- لحديث ثوبان. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة) رواه الترمذي.
فهذا يدل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها من غير سبب من كبائر الذنوب.
ب- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَات) رواه أحمد.
قال ابن قدامة: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُخَالَعَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَلِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِهَا وَبِزَوْجِهَا، وَإِزَالَةٌ لِمَصَالِحِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَحُرِّمَ لِقَوْلِهِ عليه السلام (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ).
…
(المغني).
فائدة: 1
أكثر العلماء: إن خالعته مع استقامة الحال يكره ويقع. [ذكر ذلك ابن قدامة في المغني].
فائدة: 2
عدة المختلعة.
اختلف العلماء في عدة المختلعة على قولين:
القول الأول: عدتها ثلاث حيض.
وهذا قول جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: أكثر أهل العلم يقولون: عدة المختلعة عدة المطلقة.
وقال الشنقيطي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ.
جاء في) الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
واحتجوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ).
وَلأِنَّ الْخُلْعَ فُرْقَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُول فَكَانَتِ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ كَغَيْرِ الْخُلْع.
القول الثاني: عدتها حيضة واحدة.
أ- لحديث ابن عباس (أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة) رواه الترمذي وأبو داود
ب- وعن الربيع بنت معوذ (أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة) رواه الترمذي.
ج-وعن ابن عمر قال: (عدة المختلعة حيضة) رواه أبو داود.
قال الترمذي: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ إِنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ إِنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ. قَالَ إِسْحَاقُ وَإِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى هَذَا فَهُوَ مَذْهَبٌ قَوِىٌّ.
قال ابن القيم رحمه الله: أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُخْتَلِعَةَ. أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ بَلْ تَكْفِيهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ صَرِيحُ السّنّةِ فَهُوَ مَذْهَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّاب وَالرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ وَعَمّهَا وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ.
(وتَبِينُ به).
أي: إن الخلع طلاق بائن، فليس للزوج رجعة إلا برضاها وعقد جديد.
أ- لأن الله تعالى قال (فيما افتدت له) وإنما يكون فداء إذا خرجت من قبضته وسلطانه، ولو كان للزوج عليها رجعة في العدة لم يكن لدفع العوض معنى.
ب- ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جازت الرجعة لعاد الضرر.
قال ابن قدامة: وَلَا يَثْبُتُ فِي الْخُلْعِ رَجْعَةٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا: هُوَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ.
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ.
وقال ابن عبد البر: جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهَا إِلَّا بِرِضًى مِنْهَا، وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَصَدَاقٍ مَعْلُوم.
وقال ابن رشد: جمهور العلماء: أجمعوا على أنه لا رجعة للزوج على المختلعة في العدة
…
والجمهور أجمعوا على أن له أن يتزوجها برضاها في عدتها.
…
(بداية المجتهد).
وقال الشنقيطي: لَيْسَ لِلْمُخَالِعِ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُخْتَلِعَةَ فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ; لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِمَا بَذَلَتْ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ.
وقال رحمه الله: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُخْتَلِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فِي الْعِدَّةِ، وَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا تَزْوِيجَهَا لِمَنْ خَالَعَهَا، كَمَا يَمْنَعُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ بِحَالٍ. كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
(وهو بلفظ خلعٍ، أو فسخٍ أو مُفاداة فسخٌ).
أي: أن الخلع فسخ وليس بطلاق. (لا ينقص به عدد الطلاق).
فلو قال: خالعتك بكذا وكذا، أو فسختك بكذا وكذا (ولكنه لم يأتِ بلفظ الطلاق) فإنها تبين منه ولكن لا نحسب هذا طلاقاً.
وهذا المذهب، واختاره ابن تيمية، وابن القيم، وابن عثيمين.
واختاره الصنعاني والشوكاني والسعدي.
أ- لقوله تعالى (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
…
) ثم ذكر الخلع فقال (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
…
) ثم ذكر الطلقة الثالثة فقال (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). فلو كان الخلع طلاقاً لكانت هذه الطلقة هي الرابعة.
قالوا: وهذا هو الذي فهمه ابن عباس، فقد ورد عنه عند عبد الرزاق (أن إبراهيم بن سعد سأل ابن عباس عن رجل طلق زوجته تطليقتين ثم اختلعت منه؟ أيَنكِحُها؟ قال: نعم، ذكر الله الطلاق في أول الآية وفي آخرها والخلع بين ذلك).
ب- ما جاء عند أبي داود (أن امرأة ثابت اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة).
وجه الدلالة: أن الاعتداد بحيضة دليل على أن الخلع فسخ، لأن هذا غير معتبر بالطلاق، فلو كان طلاقاً لم يُكتفى بحيضة.
قالوا: إنه جاء في بعض الروايات ذكر الفراق وما شابهه، فقد جاء في رواية (فردت عليه [يعني حديقته] وأمره ففارقها) وعند أبي داود (قال: خذهما ففارقْها).
وقال الإمام الخطابي أيضاً معلقاً على قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة) قال: "هذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، وذلك أن الله تعالى قال (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فلو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد.
وذهب بعض العلماء: أن الخلع طلاق (طلقة بائنة بينونة صغرى).
وهذا قول الجمهور من المالكية، والحنفية، والشافعية، واختاره محمد بن إبراهيم، والشنقيطي، وابن باز.
لرواية (اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً). فهذا نص على أن الخلع طلاق.
والراجح المذهب.
فائدة:
اختلف العلماء في حكم الخلع إذا كان بلفظ الطلاق، كقوله:(طلقت زوجتي على مال قدره كذا) على قولين:
القول الأول: أنه يكون طلاقاً.
وهذا قول جماهير أهل العلم.
فهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة.
قالوا: بأنه إذا وقع بلفظ الطلاق لم يحتمل غير الطلاق، فلا يكون فسخاً بل طلاقاً.
القول الثاني: أنه فسخ وليس بطلاق.
وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إنه المنصوص عن الإمام أحمد وقدماء أصحابه، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
قال ابن عثيمين: فكل لفظ يدل على الفراق بالعوض فهو خلع، حتى لو وقع بلفظ الطلاق، بأن قال مثلاً: طلقت زوجتي على عوض قدره ألف ريال، فنقول: هذا خلع، وهذا هو المروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن كل ما دخل فيه العوض فليس بطلاق، قال عبد الله ابن الإمام أحمد: كان أبي يرى في الخلع ما يراه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أي: أنه فسخٌ بأي لفظ كان، ولا يحسب من الطلاق.
ويترتب على هذا مسألة مهمة، لو طلق الإنسان زوجته مرتين متفرقتين، ثم حصل الخلع بلفظ الطلاق، فعلى قول من يرى أن الخلع بلفظ الطلاق طلاق تكون بانت منه، لا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، وعلى قول من يرى أن الخلع فسخ ولو بلفظ الطلاق، تحل له بعقد جديد حتى في العدة، وهذا القول هو الراجح. لكن مع ذلك ننصح من يكتبون المخالعة أن لا يقولوا طلق زوجته على عوض قدره كذا وكذا، بل يقولوا: خالع زوجته على عوض قدره كذا وكذا؛ لأن أكثر الحكام (القضاة) عندنا وأظن حتى عند غيرنا يرون أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق صار طلاقاً، ويكون في هذا ضرر على المرأة، فإن كانت الطلقة الأخيرة فقد بانت، وإن كانت غير الأخيرة حسبت عليه. (الممتع).
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم للزوج المخالع (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة).
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لفظ الطلاق في معرض الخلع، وهذا يدل على أن الخلع يقع أيضاً بلفظ الطلاق.
ب-قال ابن عباس: كل ما أجازه المال فليس بطلاق. رواه البيهقي.
وهذا الراجح.
فائدة الخلاف:
على القول بأن الخلع فسخ فلا ينقص به عدد الطلاق، أي: لا يحسب من الطلقات الثلاث، أما على القول بأن الخلع طلاق فإنه يحسب من عدد الطلاق.
ب- على القول بأن الخلع فسخ يصح خلع الزوجة وهي حائض، وعلى القول بأنه طلاق لا يصح.
(فَإِنْ عَضَلَهَا ظُلْماً لِلافْتِدَاءِ حرُم).
أي: يحرم على الزوج أن يعضل زوجته ويمنعها حقها ظلماً (من غير فاحشة ولا نشوز) من أجل تفتدي هي.
والعضل: هو المنع، وفي الاصطلاح: منع الزوجة من حقها لكي تفتدي.
مثال: رجل عنده زوجة وملّ منها أو رغب عنها، فقال: لو طلقتها ذهب مالي، فبدأ يعضلها، وأصبح
لقوله تعالى (ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).
فقوله تعالى (ولا تَعْضُلُوهُنَّ) الخطاب للأزواج، والعضل المنع والحبس، والمعنى:
قال ابن كثير: أي لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد.
وقال الرازي: أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها، فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها، وهذا القول اختيار أكثر المفسرين، فكأنه تعالى قال: لا يحل لكم التزوج بهن بالإكراه، وكذلك لا يحل لكم بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن.
فالمراد هنا الأزواج كما ذهب إليه هؤلاء العلماء.
(لا إنْ زنت أو نشزت).
أي: يجوز أن يعضلها في هذه الحالة لتفتدي، فإذا جاءت بفاحشة مبينة كزنا، أو نشزت فيجوز له العضل.
لقوله تعالى (ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).
قوله (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا يحل لكم أن تعضلوهن بحال من الأحوال إلا في حالة إتياهن بفاحشة مبينة، والفاحشة كل ما فحش وظهر قبحه، واختلف في المراد بالفاحشة هنا:
فقيل: المراد الزنا، وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي.
وقيل: النشوز.
وقيل: بذاءة اللسان.
واختار الطبري وابن كثير القول بالتعميم، وهو الصحيح.
(وَلَا يَصِحُّ شَرْطُ الرَّجْعَةِ فِيهِ).
أي: لا يصح شرط الرجعة في الخلع.
بأن قال: أنا أخالعك، لكن لي أن أرجع في الخلع، فأعطيك العِوَض وأراجعك.
فهذا الشرط لا يصح، لأنه ينافي مقصود الخلع. [مقصود الخلع: أن تملك المرأة نفسها على وجه لا رجعة للزوج فيه].
(وَإِنْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَصِحَّ).
وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، والحنابلة.
قال السعدي: أما الخلع، فكما قالوا: لا بد أن يكون بعوض؛ لأنه ركنه الذي ينبني عليه، وإذا خلا منه، فليس بخلع، بل يكون طلاقاً رجعيًّا إذا نوى به الطلاق.
أ- لقوله تعالى (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به).
إذ إن الأصل عدم جواز الخلع إلا بعوض لورود النص به.
ب- لقوله صلى الله عليه وسلم (أتردين عليه حديقته).
ج- أن الخلع عقد معاوضة، فإذا لم يكن فيه عوض خرج عن أصله فلم يصح.
د- ثم إن أخْذ الزوج للفداء فيه إنصاف وعدل، لأنه هو الذي دفع المهر وقام بتكاليف الزواج، ثم قابلت هذا الزوجة بالجحود والنكران. فمن العدل أن يُعطَى ما أعطى.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يصح بدون عوض ورضي بعدم بذل العوض صح.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ويصح الخلع بغير عوض، وتقع به البينونة إما طلاقًا، وإما فسخًا على إحدى القولين، وهذا مذهب مالك المشهور عنه في رواية ابن القاسم، وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، اختارها الخرقي.
وهذا القول له مأخذان:
أحدهما: أن الرجعة حق للزوجين، فإذا تراضيا على إسقاطها سقطت.
والثاني: أن ذلك فرقة بعوض؛ لأنها رضيت بترك النفقة والسكن ورضي هو بترك استرجاعها. وكما أن له أن يجعل العوض إسقاط ما كان ثابتًا لها من الحقوق كالدين، فله أن يجعله إسقاط ما ثبت لها بالطلاق، كما لو خالفها على نفقة الولد. وهذا قول قوي وهو داخل في النفقة من غيره. (انتهى).
قالوا: إن الخلع قطع للنكاح فصح من غير عوض كالطلاق.
ولأن المقصود من الخلع تخليص الزوجة نفسها وقد حصل هذا بدون عوض، فيصح.
ولأن العوض حق للزوج، فإذا أسقطه باختياره سقط. واختاره ابن تيمية.
(ويكرهُ بأكثر مما أعطاها).
أي: يكره الخلع بأكثر مما أعطاه في المهر.
وهذا المذهب.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يجوز للزوج أخذ الزيادة.
مثال: الصداق (10) آلاف، فخالعها على (20) ألفاً، فعلى هذا القول يجوز.
وهذا قول الجمهور.
قال ابن قدامة: وأكثر أهل العلم على أنه يصح الخلع بأكثر من الصداق.
قال بن بطال ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاه وقال مالك لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك لكنه ليس من مكارم الأخلاق.
قال ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رحمهم الله فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَادِيَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).
أ- لقوله (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) قالوا: إن (ما) من صيغ العموم، لأنها اسم موصول تصدق على القليل والكثير.
ب- وعللوا: قالوا إن عوض الخلع كسائر الأعواض الأخرى بالمعاملات، فعلى أي شيء وقع الاتفاق جاز.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجوز الخلع بأكثر مما أعطاها.
وهذا القول قال به عطاء والزهري، وعلى هذا القول يرد ما أخذ من غير زيادة.
واستدلوا برواية عند ابن ماجه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثابتاً أن يأخذ حديقته ولا يزداد).
والراجح أن الزوجة إن بذلت له الزيادة ابتداءً جاز له أخذها، مع أن هذا ليس من مكارم الأخلاق، وأما إذا طلب هو الزيادة فإنه يمنع، لأمرين:
الأمر الأول: أن الزيادة ليس لها حد، والنفوس مجبولة على حب الطمع.
الأمر الثاني: أن إباحة الزيادة قد تغري الأزواج بالعضل.
(وَإِنْ خَالَعَتْ حَامِلٌ بِنَفَقَةِ عِدَّتِهَا صَحَّ).
لأن الحامل لها نفقة على زوجها.
فلو قالت: أخالعك بنفقة حملي، فقال: قبلت، صح.
فلو فرض أن نفقة حملها ألف ريال، فتكون كأنها خالعته بألف ريال.
فائدة: 1
يجوز الخلع أثناء الحيض.
لأن الخلع لا يكون إلا بطلب من المرأة لما يلحقها من سوء عشرة زوجها، فجاز وقوعه حال الحيض لإزالة الضرر.
قال ابن قدامة: وَلَا بَأْسَ بِالْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِطُولِ الْعِدَّةِ، وَالْخُلْعُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالْمُقَامِ مَعَ مَنْ تَكْرَهُهُ وَتُبْغِضُهُ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ طُولِ الْعِدَّةِ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْلَاهُمَا بِأَدْنَاهُمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُخْتَلِعَةَ عَنْ حَالِهَا، وَلِأَنَّ ضَرَرَ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، وَالْخُلْعُ يَحْصُلُ بِسُؤَالِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهَا بِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهَا فِيهِ. (المغني).
وقال البغوي في تفسيره: والخلع في حال الحيض، أو في طهر جامعها فيه: لا يكون بدعياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها، ولولا جوازه في جميع الأحوال لأشبه أن يتعرف الحال.
وقال ابن تيمية: ولهذا جوز أكثر العلماء الخلع في الحيض، لأنه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق، بل فرقة بائنة.
وفي الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين: واعلم أن الخلع ليس له بدعة، بمعنى أنه يجوز حتى في حال الحيض لأنه ليس بطلاق، والله إنما أمر بالطلاق للعدة: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ الطلاق) ولهذا يجوز أن يخالعها ولو كانت حائضاً، ويجوز أن يخالعها ولو كان قد جامعها في الحال، لأنه ليس بطلاق، بل هو فداء، ولأن أصل منع الزوج من التطليق في حال الحيض، أو في حال الطهر الذي جامعها فيه، أن فيه إضراراً بها لتطويل العدة عليها، فإذا رضيت بذلك فقد أسقطت حقها. انتهى.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) ذهب جمهور الفقهاء - الحنفية والشافعية والحنابلة - إلى جواز الخلع في زمن الحيض لإطلاق قوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) ولحاجتها إلى الخلاص بالمفارقة حيث افتدت بالمال.
فائدة: 2
إذا طلق الرجل زوجته وفي أثناء عدتها طلبت الخلع فأجابها صح؛ لأنها زوجة.
قال ابن قدامة: والرجعية زوجة يلحقها طلاقه، وظهاره، وإيلاؤه، ولعانه، ويرث أحدهما صاحبه، بالإجماع، وإن خالعها صح خلعه.
فائدة: 3
قال ابن قدامة: ولا يحصل الخلع بمجرد بذل المال وقبوله، من غير لفظ الزوج.
بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة
دروس فقهية
كتاب الطلاق
كتاب الطلاق - باب الرجعة - باب الإيلاء - كتاب الظهار -
كتاب اللعان - كتاب العدد - باب الإحداد - باب الاستبراء -
كتاب الرضاع - كتاب النفقات - باب الحضانة
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
الموقع/ رياض المتقين
www.almotaqeen.net
كتاب الطلاق
تعريفه:
لغة: التخلية. يقال: ناقة طالق أي مخلّاة.
واصطلاحاً: حل قيد النكاح أو بعضهِ [لأن النكاح ربط بين الزوجين] فإن كان بائناً فهو حل لكله، وإن كان رجعياً فهو لبعضه.
والطلاق ينقسم إلى ثلاثة أقسام من حيث البينونة وعدمها:
النوع الأول: الطلاق البائن بينونة كبرى، وهو الطلاق الثلاث، (المستكمل للعدد).
فإذا كان الرجل قد طلق زوجته مرتين سابقتين ثم طلقها الثالثة فنقول: إن هذا الطلاق بائن بينوة كبرى، فلا تحل له إلا بعد زوج.
النوع الثاني: طلاق بائن بينونة صغرى.
وهو الطلاق الذي لا يستطيع فيه المطلِّق ارجاع زوجته بإرادته المنفردة كما كان له ذلك في الطلاق الرجعي.
والفرق بينه وبين الطلاق البائن بينوة كبرى، أن في الطلاق البائن بينوة صغرى لا يمكن أن ترجع إليه إلا بعقد جديد، بخلاف البينونة الكبرى فإنها لا تحل إلا بعد زوج.
كالطلاق على عوض، والفسخ إذا حصل فسخ بموجب [فقد شرط أو وجود عيب] والرجعية إذا خرجت من العدة، والطلاق قبل الدخول والخلوة.
النوع الثالث: الطلاق الرجعي.
وهو: إذا طلق دون مالَه من العدد، كأن يطلق مرة أو مرتين، وسمي رجعياً لأنه يستطيع فيه الزوج خلال فترة العدة التي يجب على المرأة أن تبقى في بيت زوجها مراجعتها وإعادة الحياة الزوجية.
(يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ).
أي: أن الطلاق يكون مباحاً عند الحاجة.
فإذا كانت الزوجة فيها بعض القصور في أداء بعض حقه، وكذلك إذا ساءت العشرة بينهما ولم يستطع على الإصلاح، وإذا كان لا يستطيع الصبر على امرأته.
وهذا يدخل فيه كل ما يتصور منه القصور في النساء: الجسماني والخلقي والخَلقي.
جاء في (الروض المربع) كسوء خلق المرأة، والتضرر بها مع عدم حصول الغرض بالزوجة.
لكن يحث الزوج على إمساك المرأة وإن كانت سيئة الخلق وفيها شيء من القصور، فهذا خير من أن يطلقها، وقد قال تعالى:(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).
(وَيُكْرَهُ لِعَدَمِهَا).
أي: يكره الطلاق لعدم الحاجة (مع استقامة الحال).
أ-لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) رواه أبو داود.
ب- ولحديث جابر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِئُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِئُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ - قَالَ - فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ) رواه مسلم.
د- ولما فيه من تشتيت الأسرة، وكسر قلب المرأة.
(وَيُسْتَحَبُّ لِلضَّرَرِ).
أي: ضرر المرأة.
فإذا كان في دوام النكاح ضرر على المرأة، أو لكونها غير راغبة في الزوج، فيؤجر الزوج في فراقها.
وكذلك إذا كانت الزوجة مقصرة في حق الله.
وفي الحديث (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي) وفي الحديث الآخر (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).
(ويجب للإيلاء).
أي: ويجب الطلاق في الإيلاء (وهو أن يحلف الزوج على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر). [وسيأتي مباحثه].
فهنا تضرب له أربعة أشهر، فإن فاء ورجع عن يمينه يكفر عن يمينه والنكاح باق، وإن لم يرجع فإنه يقال له: إما أن ترجع أو تطلق، الطلاق هنا - إن لم يرجع - واجب، فيطلِّق عليه الحاكم، لأن فيه دفعاً للضرر الحاصل على الزوجة.
وكذلك يجب الطلاق إذا كانت تفعل الفاحشة ولم يمكنه الإصلاح ويمنعها، لأنه لو لم يفعل صار ديوثاً.
(وَيَحرُمُ للبدعة).
الطلاق البدعي المحرم.
أولاً: أن يطلقها في الحيض.
عَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَتَهُ - وَهِيَ حَائِضٌ - فِي عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ? فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ اَلْعِدَّةُ اَلَّتِي أَمَرَ اَللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا اَلنِّسَاءُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا)
فهذا الحديث دليل على تحريم الطلاق حال الحيض وفاعله عاصٍ لله إذا كان عالماً بالنهي، ويؤخذ هذا الحكم من وجهين:
أولاً: لقوله (فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتغيظ إلا على أمرٍ محرم.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بإمساكها بعد المراجعة ثم تطليقها في الطهر، فدل على أن تطليقها في الحيض محرماً، إذ لو لم يكن محرماً لأقر النبي صلى الله عليه وسلم التطليق في الحيض ويغني عن الطلقة التي تأتي في الطهر.
وقد نقل جماعة من العلماء: الإجماع على أن الطلاق حال الحيض محرم (ابن المنذر - ابن قدامة - النووي).
وهذا التحريم خاص بالمدخول بها، أما غير المدخول بها فيجوز تطليقها مطلقاً حائضاً أو طاهراً، لأن غير المدخول بها ليس عليها عدة. [وهذا مذهب الأئمة الأربعة]
- ويستثنى: ما إذا كان الطلاق على عوض (فيجوز أن يخالعها وهي حائض).
ثانياً: أن يطلقها في طهر مسها فيه.
لقوله صلى الله عليه وسلم (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ).
وفي رواية (
…
ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا).
ثالثاً: أن يطلق امرأته ثلاث تطليقات بلفظ واحد.
(ولا يَصِحّ الطلاقُ إلا من زوجٍ).
أي: لا يصح الطلاق إلا إذا كان من زوج أو من يقوم مقامه كوليه.
فإذا طلق غير الزوج فلا يصح ولا يقع.
- وقوله (من زوج) فلو طلق قبل الزواج فلا يصح.
فمن قال: إذا تزوجت فلانة فهي طالق فقوله لا يعتبر ولا تقع به طلقة ولا غيرها.
أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ). فذكر الله النكاح قبل الطلاق،
ب- ولحديث المسور مرفوعاً (لا طلاق قبل نكاح) رواه ابن ماجه وحسنه ابن حجر.
(مُكلّف).
أي: يشترط أن يكون الزوج مكلفاً: بالغاً عاقلاً.
فالمجنون لا يصح طلاقه، لحديث:(رفع القلم عن ثلاث: وعن المجنون حتى يفيق).
فالصبي الغير المميز لا يقع طلاقه بالاتفاق.
أما المميز فيه قولان:
فقيل: لا يقع طلاقه.
وهذا قول الجمهور.
لحديث: (رفع القلم عن ثلاثة:
…
وعن الصبي حتى يبلغ).
وقيل: يقع.
جاء في (الموسوعة الفقهية) الطَّلَاقُ رَفْعُ قَيْدِ الزَّوَاجِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْتِزَامَاتٌ مَالِيَّةٌ، فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ طَلَاقُ الصَّبِيِّ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ طَلَاقَ مُمَيِّزٍ يَعْقِل الطَّلَاقَ وَلَوْ كَانَ دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ وَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَهَا.
(مُختار).
أي: لا بد أن يكون الزوج مختاراً غير مكره.
- فلا يقع طلاق المكره.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ- لقوله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ).
وجه الدلالة: أن الإنسان إذا أكره على الكفر وتلفظ به ظاهراً فلا يكون كافراً، وهذا في العقيدة، فلئلا يقع طلاقاً عند الإكراه على الطلاق من باب أولى وأحرى.
ب-ولحديث اِبْنِ عَبَّاس عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي اَلْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ). رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ
ج- ولحديث عائشة قالت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) رواه أبو داود.
والمكره مغلق عليه.
د-ولأن المكرَه لم يكن قاصداً وقوع الطلاق، وإنما قصد دفع الأذى والضرر عن نفسه.
هـ- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه موقوفاً (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمكره).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يقع طلاقه.
وهذا مذهب الحنفية.
معللين ذلك بأنه طلاق من مكلف في محل يملكه فوقع.
والراجح الأول.
ففي الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية: ولا يقع طلاق المكره، والإكراه يحصل إما بالتهديد أو بأن يغلب على ظنه أنه يضره في نفسه أو ماله بلا تهديد إكراها. انتهى.
وفي القوانين الفقهية لابن جزي المالكي: وأما من أكره على الطلاق بضرب أو سجن أو تخويف فإنه لا يلزمه عند الإمامين وابن حنبل خلافا لأبي حنيفة. انتهى. يقصد بالإمامين مالك والشافعي.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: أفتى الصحابة بعدم وقوع طلاق المكره وإقراره. (زاد المعاد).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا أكره الإنسان على فعل محرم، فهل يترتب على هذا الفعل إثم أو فدية أو كفارة؟
الجواب: لا يترتب، ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم:(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل/ 106. فإذا كان الرجل لا يؤاخذ في الإكراه على الكفر وهو أعظم المعاصي، فعدم مؤاخذته في الإكراه على ما دونه من باب أولى.
سئل رحمه الله: ما تقولون في رجل أجبرته زوجته على أن يطلقها، وقالت: إما أن تطلق وإما أن تقتل نفسها، وهي قادرة على أن تنفذ هذا، السكين بيدها، فطلق، هل يقع الطلاق أو لا؟
لا يقع الطلاق لأنه مكره.
فائدة: 1
شروط الإكراه:
ذكر أهل العلم شروطاً للإكراه منها:
قال ابن قدامة: مِنْ شَرْطِ الْإِكْرَاهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ قَادِرٍ بِسُلْطَانِ أَوْ تَغَلُّبٍ، كَاللِّصِّ وَنَحْوِهِ.
وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ: إنَّ أَكْرَهَهُ اللِّصُّ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ وَقَعَ.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لِأَنَّ اللِّصَّ يَقْتُلُهُ.
وَعُمُومُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي دَلِيلِ الْإِكْرَاهِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، وَاَلَّذِينَ أَكْرَهُوا عَمَّارًا لَمْ يَكُونُوا لُصُوصًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَعَمَّارٍ (إنْ عَادُوا فَعُدْ).
وَلِأَنَّهُ إكْرَاهٌ، فَمَنَعَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، كَإِكْرَاهِ اللُّصُوصِ.
الثَّانِي: أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ، إنْ لَمْ يُجِبْهُ إلَى مَا طَلَبَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَسْتَضِرُّ بِهِ ضَرَرًا كَثِيرًا، كَالْقَتْلِ، وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَالْقَيْدِ، وَالْحَبْسِ الطَّوِيلِ، فَأَمَّا الشَّتْمُ، وَالسَّبُّ، فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْمَالِ الْيَسِيرِ.
فَأَمَّا الضَّرَرُ الْيَسِيرُ فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُبَالِي بِهِ، فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ، عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ إخْرَاقًا بِصَاحِبِهِ،
وَغَضًّا لَهُ، وَشُهْرَةً فِي حَقِّهِ، فَهُوَ كَالضَّرْبِ الْكَثِيرِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
وَإِنْ تَوَعَّدَ بِتَعْذِيبِ وَلَدِهِ، فَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا حَقَّ بِغَيْرِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ إكْرَاهًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ، وَالْوَعِيدُ بِذَلِكَ إكْرَاهٌ، فَكَذَلِكَ هَذَا. (المغني).
فائدة: 2
معنى الإغلاق الوارد في الحديث (لا طلاق وعتاق في إغلاق):
قال الحافظ في التلخيص: الإغلاق فسره علماء الغريب بالإكراه، وقال: هو قول ابن قتيبة والخطابي وابن السيد وغيرهم، وقيل: الجنون، وقيل: الغضب، ووقع في سنن أبي داود في رواية ابن الأعرابي، وكذا فسره أحمد
وقال ابن القيم: أما الإغلاق فقد نص عليه صاحب الشرع، والواجب حمل كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي، فكل من أغلق عليه باب قصده وعلمه كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلم في الإغلاق. ومن فسره بالجنون أو السكر أو بالغضب أو بالإكراه فإنما قصد التمثيل لا التخصيص، ولو قدر أن اللفظ يختص بنوع من هذه الأنواع لوجب تعميم الحكم بعموم العلة، فإن الحكم إذا ثبت لعلة تعدى بتعديها وانتفى بانتفائه.
(فلا يصح طلاق المكرهِ)
وقد تقدم ذلك قبل قليل.
(ولا زائل العقل).
أي: ولا يقع طلاق زائل العقل، كطلاق النائم، والمغمى عليه، والمجنون.
لأنه ليس قاصداً للطلاق. ولأنه معذور بزوال عقله.
فائدة: 1
اختلف العلماء في زوال العقل بالسكر، هل يقع طلاق السكران أم لا؟
طلاق السكران: له حالتان:
الحالة الأولى: أن يقع السكر عن غير عمد.
كأن يشرب الخمر يظنها عصيراً، فهذا لا يقع الطلاق بإجماع.
الحالة الثانية: أن يتعمد السكر، ففيه قولان:
القول الأول: يقع الطلاق.
وهذا المذهب.
قال في المغني: وهو مذهب سعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة.
أ- لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى).
فنهاهم حال السكر من قربان الصلاة، وهذا يقتضي عدم زوال التكليف.
ب- لأنه عاص بشربه هذا المسكر، والعاصي لا يناسبه التخفيف.
القول الثاني: لا يقع طلاقه.
وهو قول عثمان، ومذهب عمر بن عبد العزيز، واختاره ابن تيمية.
قال الإمام البخاري رحمه الله: وَقَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ.
قال ابن المنذر رحمه الله: هذا ثابت عن عثمان، ولا نعلم أحدا من الصحابة خلافه.
وهذا القول هو الصحيح الذي رجع إليه الإمام أحمد حيث كان يقول بطلاق السكران فرجع عنه.
أ-لقوله تعالى: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى).
فهذه الآية دلت على أن السكران غير مكلف، لأن الله أسقط الصلاة عنه حال السكر.
ب- لقول علي (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله) رواه البخاري.
ج- ولأن السكران زائل العقل كالمجنون فهو لا يدري ما يقول.
د- ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره.
هـ- ولأن العقل شرط التكليف ولا يتوجه التكليف إلى من لا يفهمه.
و- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ حمزة لما سكر فقال: وهل أنتم إلا عبيد أبي.
وهذا القول هو الصحيح.
فائدة: 2
طلاق الغضبان.
الغضب ثلاثة أقسام:
الأول: أن يحصل للإنسان مبادئ الغضب وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ويعلم ما يقول.
فهذا يقع طلاقه بلا إشكال؛ فإنه مكلف عالم بأقواله ومريد للتكلم بها.
الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته فيزيل عقله فلا يعلم ما يقول.
وهذا لا يقع طلاقه، قال ابن القيم (بلا نزاع).
وذلك أنه لم يعلم صدور الطلاق منه، فهو أشبه ما يكون بالنائم والمجنون ونحوهم.
الثالث: أن يستحكم الغضب بصاحبه ويشتد به فهو قد تعدى مبادئه ولم ينته إلى آخره.
فهذا موضع خلاف بين العلماء على قولين:
القول الأول: وقوع طلاقه.
وهذا مذهب المالكية والحنابلة.
أ- عن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنها راجعت زوجها فغضب فظاهر منها، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه وضجر، وإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت تشكوا إليه ما تلقى من سوء خلقه، فأنزل الله آية الظهار وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفارة في قصة طويلة.
فهذا الرجل ظاهر في غضبه فألزم بالكفارة ولم يلغه؛ لكونه غضباناً والظهار كالطلاق.
ب- ما روي عن مجاهد عن ابن عباس أن رجلاً قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثا وأنا غضبان. فقال: ابن عباس لا أستطيع أن أحل لك ما حرم الله عليك، عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك.
ج - قول الحسن: طلاق السنة أن يطلقها واحدة طاهراً من غير جماع، وهو بالخيار ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيض، فإن بدا له أن يراجعها كان أملك بذلك، فإن كان غضبان ففي ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض، ما يذهب غضبه.
القول الثاني: عدم وقوعه.
وهذا مذهب الحنفية.
أ- لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق).
والإغلاق يتناول الغضبان؛ فإنه قد انغلق عليه رأيه.
ب- قوله تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) قال ابن عباس: (لغوا اليمين أن تحلف وأنت غضبان) فلما رفع الله المؤاخذة عن الغضبان فيما تلفظ به علمنا إلغاءه لكلامه ومنه طلاقه.
ج-حديث أبي بكرة مرفوعاً (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)، ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينه عن الحكم حال الغضب، فدل على نفي القصد فيبطل قوله ومنه طلاقه.
د-أن السكران بسبب مباح طلاقه غير واقع؛ لأنه غير قاصد للطلاق، ومعلوم أن الغضبان كثيراً ما يكون أسوأ حالا من السكران.
فصل
(وَالسُّنَّةُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ).
هذا بيان طلاق السنة:
أي: وَالسُّنَّةُ لِمَنْ أَرَادَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ.
قوله (أن يطلقها واحدة) فلو طلقها مرتين، بأن قال: أنت طالق طلقتين، أو أنت طالق ثنتين، أو أنت طالق مرتين، أو أنت طالق أنت طالق، فهذا ليس بسنة.
قوله (أن يكون في طهر) خرج ما لو طلقها وهي حائض، فليس بسنة، وتقدم أن طلاق الحائض طلاق بدعي.
وقوله (في طهر لم يجامع فيه) خرج ما لو طلقها في طهر جامع فيه فليس بسنة.
لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر (
…
فليطلقها قبل أن يمسها
…
).
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
(فَتَحْرُمُ الثَّلَاثُ إِذاً).
أي: يحرم إيقاع الطلقات الثلاث جميعاً: بأن يقول: أنتِ طالق ثلاثاً، أو يقول: أنتِ طالق، أنت طالق، أنت طالق.
فإنه لا فرق بين الصورتين كما نص على ذلك ابن تيمية. (فقه الدليل).
والقول بالتحريم: هو مذهب الحنفية والمالكية، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول شيخ الإسلام وابن القيم:
لحديث مَحْمُود بْنِ لَبِيدٍ قَالَ (أُخْبِرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ اِمْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اَللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ". حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَلَا أَقْتُلُهُ?) رَوَاهُ النَّسَائِي.
قال ابن قدامة: وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ طَلَاقُ بِدْعَةٍ، مُحَرَّمٌ.
اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو حَفْصٍ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ،.
قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَا يُطَلِّقُ أَحَدٌ لِلسُّنَّةِ فَيَنْدَمُ.
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ إذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ ثَلَاثًا، أَوْجَعَهُ ضَرْبًا.
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا. فَقَالَ: إنَّ عَمَّك عَصَى اللَّهَ، وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ، فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ مخرَجًا. وَوَجْهُ ذَلِكَ:
أ- قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) إلَى قَوْلِهِ (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا). (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).
وَمَنْ جَمَعَ الثَّلَاثَ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَمْرٌ يَحْدُثُ، وَلَا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا وَلَا مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا.
ب- وَرَوَى النَّسَائِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ (أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟. حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ).
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا؟ قَالَ: إذَا عَصَيْت رَبَّك، وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتُك).
ج- وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلْبُضْعِ بِقَوْلِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَحُرِّمَ كَالظِّهَارِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُهُ بِالتَّكْفِيرِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ لِلزَّوْجِ إلَى رَفْعِهِ بِحَالٍ، وَلِأَنَّهُ ضَرَرٌ وَإِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ وَبِامْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَرُبَّمَا كَانَ وَسِيلَةً إلَى عَوْدِهِ إلَيْهَا حَرَامًا، أَوْ بِحِيلَةٍ لَا تُزِيلُ التَّحْرِيمَ، وَوُقُوعِ النَّدَمِ، وَخَسَارَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، الَّذِي ضَرَرُهُ بَقَاؤُهَا فِي
الْعِدَّةِ أَيَّامًا يَسِيرَةً، أَوْ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ، الَّذِي ضَرَرُهُ احْتِمَالُ النَّدَمِ بِظُهُورِ الْحَمْلِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَ جَمْعِ الثَّلَاثِ يَتَضَاعَفُ عَلَى ذَلِكَ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.
ثم قال ابن قدامة:
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا فِي عَصْرِهِمْ خِلَافُ قَوْلِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا. (المغني).
فائدة: 1
حكم الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، كقولك: أنت طالق بالثلاث؟
اختلف العلماء في حكم الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، هل يقع ثلاثاً أم واحدة على قولين:
القول الأول: أن طلاق الثلاث واحدة.
وهذا اختيار ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم.
أ- لقوله تعالى (الطلاق مرتان).
وجه الدلالة: أن المرتين في لغة العرب إنما تكون مرة بعد مرة، وهذا ما يدل عليه القرآن أيضاً كما في قوله تعالى (سنعذبهم مرتين).
ب- ولقوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن).
وجه الاستدلال: أن الآية بينت أن الطلاق المشروع هو ما كان للعدة، أي: لاستقبال العدة، بأن تطلق المرأة واحدة لتستقبل العدة، والقول بجمع الثلاث مخالف لمقتضى الآية، لأنه لا يكون فيه استقبال لعدتها حيث تكون الطلقة الثانية والثالثة في وقت عدتها فلا تصح وإذا لم يصح لم يقع.
ج-ولحديث اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (كَانَ اَلطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ اَلثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ: إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ اِسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ? فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ) رَوَاهُ مُسْلِم.
وجه الدلالة: أن الطلاق بلفظ واحد كان يعد طلقة واحدة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأن عمر لم يجعله ثلاثاً إلا لما رأى استعجال الناس في جمع الطلاق، وهذا من باب السياسة الشرعية التي توجد مع الحاجة والمصلحة، وإلا فإن الأمر مستقر عند الصحابة في ذلك.
د- عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعِ امْرَأَتَكَ "، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا. قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: (طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ اِمْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ) وَفِي سَنَدِهَا اِبْنُ إِسْحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ.
وجه الاستدلال: ظاهر حيث جعل صلى الله عليه وسلم الثلاث واحدة.
القول الثاني: أن طلاق الثلاث يقع ثلاثاً.
وهذا قول جماهير العلماء، بل حكي إجماعاً.
قال ابن قدامة: وإن طلق ثلاثاً بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وأنس، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين، والأئمة بعدهم.
وقال القرطبي: قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول الجمهور.
قال ابن القيم: أنه يقع، وهذا قول الأئمة الأربعة، وجمهور التابعين وكثير من الصحابة.
وقال ابن عبد الهادي: قال ابن رجب: اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام- شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سبق بلفظ واحد.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: وعلى هذا القول -أي: اعتبارها ثلاثاً- جل الصحابة وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة. ا. هـ
أ- لقوله تعالى (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
وجه الدلالة: أن قوله (الطلاق مرتان) يدل على جواز جمع التطليقتين معاً وأنه يقع بهما، وإذا وقع بالاثنتين وقع بالثلاث إذا جمعت.
ب-قال النووي: واحتج الجمهور بقوله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
قالوا: معناه: أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعياً فلا يندم.
قال الشنقيطي: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الْقُرْآنِيَّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ، فَلَا أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ.
وَأَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ مُتَابَعَاتٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْآيَةِ بِأَنَّهَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يَجْمَعِ الطَّلَاقَ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ جَمَعَ الطَّلَقَاتِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بِهَا مُجْتَمِعَةً، هَذَا هُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ، الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ; لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ بِهِ قُرْآنًا، وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُلُّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةِ. وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ.
ج- سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ (أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ أَرَأَيْتَ يَا عَاصِمُ لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَسَلْ لِي عَنْ ذَلِكَ يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا. قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا. فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِى صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا». قَالَ سَهْلٌ فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْن) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن عويمراً جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ومع ذلك لم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الطلاق مما يدل على أنه جائز وواقع.
د-عن عائشة رضي الله عنها (أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول) متفق عليه.
وجه الدلالة: ذكر البخاري هذا الحديث تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق ثلاثاً) وقال ابن حجر والعيني: هو ظاهر في كونها مجموعة.
هـ- ثبت في الصحيحين من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن (أن فاطمة بنت قيس أخبرته: أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثاً، ثم انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثاً فهل لها نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لها نفقة وعليها العدة).
وجه الدلالة: أن فاطمة أخبرت بأن زوجها طلقها ثلاثاً، ومع ذلك لم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدل على أنه جائز وواقع.
لكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن المراد: أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات كما جاء عند مسلم، وليس المراد الثلاث المجتمعة.
و- حديث ركانة (أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف ركانة، أنه ما أراد بالبتة إلا واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق الحال لم يحلفه، وممن استدل بهذا الحديث لمذهب الجمهور أبو بكر الرازي الجصاص قال: لو لم تقع الثلاث إذا أرادها لما استحلفه بالله ما أردت إلا واحدة.
وكذلك ابن قدامة قال: ومتى طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة أو بكلمات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره؛ لما روي أن «ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فقال: هو ما أردت فردها إليه رسول الله) رواه الترمذي والدارقطني وأبو داود وقال: الحديث صحيح. فلو لم تقع الثلاث لم يكن للاستحلاف معنى.
ز- حديث محمود بن لبيد وقد تقدم ..
وجه الاستدلال: أنه لو كانت الثلاث المجموعة لا تقع، لبيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة
ك- واستدلوا بحديث ابن عباس: بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمضاها على الناس.
وجه الدلالة: أن هذا قول عمر وقد وافقه الصحابة ولم يخالفوه، فكأنه إجماع منهم على ذلك، وهو ليس مخالفة لما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قد يكون عند الصحابة ما ينسخ جعل الثلاث واحدة، إذ يبعد أن يجمعوا على أمر مخالف لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
فائدة: 2
أجاب الجمهور عن حديث ابن عباس (كَانَ اَلطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ اَلثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ
…
). بأجوبة:
أولاً: أنه منسوخ.
قال ابن حجر: دعوى النسخ، فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال يشبه أن يكون بن عباس علم شيئاً نسخ ذلك قال البيهقي: ويقويه ما أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن بن عباس قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك.
وممن رجح النسخ ابن حجر فقال بعد بحث للمسألة: فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني: قول جابر: أنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث؛ للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحداً في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود.
الجواب الثاني: حمل الحديث على غير المدخول بها.
قال ابن حجر: وهو جواب إسحاق بن راهويه وجماعة وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية.
قال الشيخ الشنقيطي: وحجة هذا القول: أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا.
الجواب الثالث: ليس في الحديث ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل ذلك ولا أنه علم به وأقر عليه، وهذا جواب ابن المنذر وابن حزم ومن وافقهما.
وهناك أجوبة أخرى ذكرها ابن حجر والشنقيطي.
فائدة: 3
قال ابن رجب في آخر كتابه: اعلم أن ما قضى به عمر على قسمين:
أحدهما: ما جمع فيه عمر الصحابة وشاورهم فيه فأجمعوا معه عليه، فهذا لا يشك أنه الحق كهذه المسألة، والعمريتين، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ومسائل كثيرة.
الثاني: ما لم يجمع الصحابة فيه مع عمر، بل مختلفين فيه في زمنه، وهذا يسوغ فيه الاختلاف كمسائل الجد مع الإخوة.
(وَإِنْ طَلَّقَ مَدْخُولًا بِهَا فِي حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ فبِدْعَةٌ، مُحَرَّمٌ).
وقد تقدم ذلك في الكلام على حديث ابن عمر لما طلق امرأته.
فالطلاق حال الحيض أو حال الطهر الذي جامع فيه بدعة محرم.
(ويقع).
أي: مع تحريمه لكنه إذا طلقها وهي حائض فإن هذا الطلاق واقع.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال ابن قدامة: فإن طلقها للبدعة، وهو أن يطلقها حائضاً
…
وقع طلاقه في قول عامة أهل العلم.
أ-لقوله تعالى (الطلاق مرتان
…
).
ب- وقوله تعالى (فإن طلقها فلا تحل
…
).
وجه الدلالة: أن الآيات عامة تدل على وقوع الطلاق في أي وقت ممن له حق وقوعه، فلم يفرق بين أن يكون الطلاق في حال الحيض أو الطهر، ولم يخص حالاً دون حال توجب حمل الآيات على العموم.
ج- ولحديث ابن عمر لما طلق امرأته قال صلى الله عليه وسلم: (
…
مره فليراجعها
…
) فهذا دليل على أن الطلاق يقع، إذ لا تكون المراجعة إلا بعد الطلاق الذي يعتد به.
د- وروى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: (حسبت علي تطليقة).
وفي رواية للدار قطني: (أن عمر قال: يا رسول الله، فيحسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم).
وعن نافع عن ابن عمر: (أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فجعلها واحدة) رواه الدار قطني.
قال الحافظ في الفتح: وهو نص في موضع الخلاف، فيجب المصير إليه.
هـ- أن ابن عمر مذهبه الاعتداد بها، وهو صاحب القصة، وصاحب القصة أعلم.
قال النووي: أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَحْرِيم طَلَاق الْحَائِض الْحَائِل بِغَيْرِ رِضَاهَا فَلَوْ طَلَّقَهَا أَثِمَ وَوَقَعَ طَلَاقه وَيُؤْمَر بِالرَّجْعَةِ لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر الْمَذْكُور فِي الْبَاب، وَشَذَّ بَعْض أَهْل الظَّاهِر، فَقَالَ: لَا يَقَع طَلَاقه لِأَنَّهُ غَيْر مَأْذُون لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ طَلَاق الْأَجْنَبِيَّة. وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاء كَافَّة وَدَلِيلهمْ أَمْره بِمُرَاجَعَتِهَا وَلَوْ لَمْ يَقَع لَمْ تَكُنْ رَجْعَة. فَإِنْ قِيلَ الْمُرَاد بِالرَّجْعَةِ الرَّجْعَة اللُّغَوِيَّة وَهِيَ الرَّدّ إِلَى حَالهَا الْأَوَّل لَا أَنَّهُ تُحْسَب عَلَيْهِ طَلْقَة قُلْنَا هَذَا غَلَط لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّ حَمَلَ اللَّفْظ عَلَى الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة يُقَدَّم عَلَى حَمَلَهُ عَلَى الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة كَمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُول الْفِقْه، الثَّانِي أَنَّ اِبْن عُمَر صَرَّحَ فِي رِوَايَات مُسْلِم وَغَيْره بِأَنَّهُ حَسَبَهَا عَلَيْهِ طَلْقَة وَاَللَّه أَعْلَم. (نووي).
وذهب بعض العلماء: إلى عدم وقوعه.
وهذا قول الظاهرية، واختيار شيخ الإسلام، ونصره ابن القيم، واختاره ابن باز، وابن عثيمين.
أ- لقوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن).
وجه الدلالة: أن المطلق في حال الحيض لا يكون مطلقاً للعدة، لأن الطلاق المشروع المأذون فيه أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، وما عدا هذا لا يكون طلاقاً للعدة في حق المدخول بها.
ب- واستدلوا بما رواه أبو داود من حديث أبي الزبير عن ابن عمر (أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
قال عبد الله: فردها عليّ ولم يرها شيئاً).
والجواب عن هذا:
أن قوله (ولم يرها شيئاً) بأنها لا تصح، فإن أبا الزبير خالف في روايته رواية الجمهور، وهي أكثر عدداً وأثبت حفظاً، فروايتهم أولى من روايته.
قال ابن عبد البر: قوله: (ولم يرها شيئاً) منكر، لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف فيمن هو أثبت منه.
قال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا.
ج- قالوا: المراد بالمراجعة هنا إمساكها على حالها، لان المراجعة لها معنى أعم من إعادة المطلقة.
(وتُسَنُّ رجعَتُها).
أي: إذا طلقها وهي حائض - فإنه يقع الطلاق كما تقدم - لكن يسن رجعتها، لكي يطلقها في طهر لم يجامع فيه.
لحديث اِبْنِ عُمَر (أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَتَهُ -وَهِيَ حَائِضٌ- فِي عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ? فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا
…
).
قال النووي: أجمعوا على أنه إذا طلقها يؤمر برجعتها.
- لكن اختلف العلماء: هل الرجعة واجبة أم مستحبة على قولين:
فقيل: مستحبة.
وهذا مذهب جمهور العلماء، كما نقله النووي والشوكاني.
قالوا: لأن ابتداء النكاح لا يجب، فاستدامته كذلك، فكان القياس قرينة على أن الأمر للندب.
وقيل: واجب.
فمن طلق زوجته وهي حائض وجب مراجعتها.
وهو قول جماعة من العلماء كداود وغيره.
للأمر به (مره فليراجعها).
وقالوا: لما كان الطلاق في حال الحيض محرماً كان استدامة النكاح واجبة.
وقالوا: لأن المراجعة تتضمن الخروج من المعصية.
والراجح الوجوب للأمر به في قوله (مره
…
).
فائدة:
الحكمة من الأمر برجعتها وإعادتها إلى عصمتها:
قيل: لأجل أن يقع الطلاق الذي أذن الله فيه في زمن الإباحة (وهو زمن الطهر الذي لم يجامعها فيه).
وقيل: عقوبة المطلق الذي طلق في زمن الحيض، فعوقب بنقيض قصده.
وقيل: ليزول المعنى الذي حرم الطلاق في الحيض لأجله (وهو تطويل العدة).
(وَلَا سُنَّةَ وَلَا بِدْعَةَ لِمُسْتَبِينٍ حَمْلُهَا، وَ صَغِيرَةٍ، وَ آيِسَةٍ، وَ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا).
في هذه الأصناف الأربعة لا يوجد طلاق سنة ولا بدعة في الزمن، بل يصح أن يطلق في أي وقت، سواء أكانت طاهرة أم حائضاً.
الحامل:
ففي حديث ابن عمر (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْىَ حَائِضٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلاً).
قوله: (فليطلقها حاملاً
…
).
قال النووي: فيه دلالة لجواز طلاق الحامل التي تبين حملها، وهو مذهب الشافعي، قال ابن المنذر: وبه قال أكثر العلماء.
وقال الحافظ ابن حجر: وقد تمسك بهذه الزيادة: (ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً) من استثنى من تحريم الطلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل، فإنه لا يحرم، والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطلاق، وأيضاً فإن زمن الحمل زمن رغبته في الوطء، فإقدامه على الطلاق فيه يدل على رغبته عنها، ومحل ذلك أن يكون الحمل من المطلق.
الصغيرة:
وهي من لم يأتها الحيض.
الآيسة:
وهي التي لا ترجو الحيض حيث انقطع عنها لكبرها.
لأنها لا تعتد بالأقراء، فلا تختلف عدتها.
وغير مدخول بها.
لأنها لا عدة عليها فتتضرر بتطويلها.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا).
فائدة:
طلاق هؤلاء لا يوصف ببدعة ولا سنة من حيث الزمن، أما من حيث العدد فالصواب أنه يوصف بالبدعة.
(وصريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه فيقع وإن لم ينوِهِ).
أي: أن ألفاظ الطلاق تنقسم إلى قسمين: صريحه، وكناية.
النوع الأول: الصريحة.
وهي الألفاظ الموضوعة له التي لا تحتمل غيره. (وهو لفظ الطلاق وما تصرف منه).
وحكمه: يقع الطلاق بمجرد نطقه به ولو لم ينوه، لأنه فراق معلق على لفظ فحصل به، وليس عملاً يتقرب به الإنسان إلى ربه حتى نقول: إنما الأعمال بالنيات. [قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله].
مثل: أنتِ طالق، أنتِ مطلقة، طلقتك، فلو قال رجل لزوجته: أنت طالق، فإنها تطلق ولو لم ينوه.
فائدة:
لو قال الزوج: أنا أقصد بقولي: أنتِ طالق، طالق من وثاق، فهل يقبل؟ فيه تفصيل: أما حكماً فلا يقبل، بمعنى أن الزوجة لو حاكمته عند القاضي فلا يقبل، لأن هذا اللفظ صريح في الطلاق لا يحتمل غيره، لكن إن ديّنته الزوجة (وكلته إلى دينِه) فلا يقع في الظاهر، فلها ذلك (فالزوجة تخير) فإن كان زوجها معروفاً بالصدق فلتدينه، وإن كان معروفاً بالكذب والفجور فيجب أن تديّنه.
(جاد أو هازل).
أي: يقع الطلاق من الجاد ومن الهازل.
والفرق بين الجاد والهازل: الجاد قصد اللفظ والحكم، والهازل: قصد اللفظ دون الحكم.
فيقع الطلاق من الهازل.
وهذا قول الأكثر، وهو قول الحنفية والشافعية.
قال ابن القيم: أما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور.
فإذا تلفظ ولو هازلاً بصريح لفظ الطلاق فإن الطلاق يقع.
أ-لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: اَلنِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ). رَوَاهُ اَلْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ
والحديث مختلف في صحته، لكن قد ورد معناه موقوفاً على بعض الصحابة:
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (أربع جائزات إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر).
وعن علي رضي الله عنه: (ثلاث لا لعِب فيهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (ثلاث اللعب فيهن كالجد: الطلاق، والنكاح، والعتق).
ب- ولو قلنا لا يقع لصار مفسدة، وهي أن كل إنسان يطلق امرأته ثم يقول: إنه لم ينوِ.
قال ابن قدامه: قدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، بَلْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَلِأَنَّ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ الْقَوْلُ يَكْتَفِي فِيهِ بِهِ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، إذَا كَانَ صَرِيحًا فِيهِ، كَالْبَيْعِ.
وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْمَزْحَ أَوْ الْجِدَّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ؛ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ جِدَّ الطَّلَاقِ وَهَزْلَهُ سَوَاءٌ. (المغني).
وقال البغوي في شرح السنة: اتفق أهلُ العلم على أن طلاق الهازل يقع، فإذا جرى صريح لفظ الطلاق على لسان العاقل البالغ لا ينفعه أن يقول: كنت فيه لاعباً أو هازلاً لأنه لو قُبِلَ ذلك منه، لتعطلت الأحكام، وقال كل مطلِّق، أو ناكح، إني كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك إبطال أحكام الله تعالى، فمن تكلم بشئ مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه، وخص هذه الثلاث بالذكر لتأكيد أمر الفرج. والله أعلم.
وذهب بعض العلماء: إلى أن طلاق الهازل لا يقع.
وهو قول جماعة من العلماء.
واستدلوا بقوله تعالى (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فدل على اعتبار العزم، والهازل لا عزم له.
قالوا: ولأن الهازل لم يرد الطلاق ولا نوى معناه، فكيف يترتب عليه مقتضاه؟
والراجح قول الجمهور.
(وغيره كناية: كنحو أنتِ خَليّة، وبريّة، وبَتّة، فيقع بنيته).
الكناية: هي الألفاظ التي تحتمل الطلاق وغيره.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكِنَائِيَّ فِي الطَّلاقِ هُوَ: مَا لَمْ يُوضَعِ اللَّفْظُ لَهُ، وَاحْتَمَلَهُ، وَغَيْرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ أَصْلا لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً، وَكَانَ لَغْوًا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين: كل ما يحتمل الفراق، فهو كناية " انتهى من " الشرح الممتع "
مثال: كأن يقول الحقي بأهلك، أنت حرة، أنت خلية، اذهبي.
حكمه: لا يقع به الطلاق إلا مع نية أو قرينة.
فإنه إذا قال الحقي بأهلك فإنه يحتمل مجرد الطلب إليها أن تذهب إلى أهلها، ويحتمل إرادة الطلاق.
مع النية: أن يقول لها: الحقي بأهلك، وينوي أنه طلاق.
فائدة:
اختلف العلماء في لفظ (السراح، والفراق) هل يعد التلفظ بها طلاقاً دون اعتبار النية على قولين:
قيل: أن هذين اللفظين (السراح والفراق) لفظان صريحان في الطلاق، فيقع بهما الطلاق دون اعتبار النية.
فلو قال الرجل لزوجته (فارقيني) أو (سرحتك) فإن هذا طلاق ولا ينظر في ذلك إلى النية.
لكونهما جاءا في القرآن بمعنى الطلاق في قوله (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً) وقوله (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).
وقوله (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ).
فإن هذه الآيات صريحة في الطلاق، لأنها وردت في القرآن بهذا اللفظ، أي: بمعنى الطلاق.
وقيل: أن هذين اللفظين لا بد من اعتبار النية فيهما كغيرهما كسائر الكنايات.
وهذا اختيار ابن تيمية.
وهذا الراجح.
(وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي»: تَطْلُقُ فِي الحَالِ).
لأنه ما قبل موته يكون من حين تلفظه.
(وبعدَه لا تَطلق).
لِحُصُولِ البَيْنُونَةِ بِالمَوْتِ.
لأن الموت أعظم فرقة.
ولأن من شرط صحة الطلاق كونه من زوج، وهو بعد موته ليس زوجاً.
وفي "الاختيارات الفقهية" لابن تيمية (1/ 576): "وإذا قال: أنت طالق مع موتي أو مع موتك فليس هذا بشيء" انتهى.
وفي "الروض المربع"(6/ 529): "إذا قال: أنت طالق مع موتي أو بعده فلا يقع؛ لأن البينونة حصلت بالموت، فلم يبق نكاح يزيله الطلاق" انتهى.
(وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ (فِي هَذَا الشَّهْرِ»، أَوْ فِي هَذَا اليَوْمِ»، أَوْ فِي هَذِهِ السَّنَة: تَطْلُقُ فِي الحَالِ).
قال لها: أنت طالق في هذا الشهر، فإنها تطلق في الحال.
لأن ما يلي لفظه من الشهر.
لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّهْرَ وَاليَوْمَ وَالسَّنَةَ ظَرْفًا لِوُقُوعِهِ، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا صَالِحٌ لِلْوُقُوعِ فِيهِ.
(وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا»، أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ» وَنَحْوَهُ: تَطْلُقُ بِأَوَّلِهِ).
لأنه علق الطلاق على صفة متى وجدت وجد الطلاق.
(وَإِنْ قَالَ: إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ: فَأَنْتِ طَالِقٌ»: تَطْلُقُ بِمُضِيِّ اِثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا).
لأنه علقه على صفة وقد وجدت.
الخلاصة:
متى علق الطلاق على زمن فوجد الزمن تطلق بأوله
لأنه علق الطلاق على صفة وقد وجدت.
(ومن قال لزوجته أنتِ عليّ حرام فهو ظهارٌ ولو نوى بهِ الطلاق).
اختلف العلماء: في تحريم الرجل زوجته على أقوال كثيرة:
القول الأول: يكون ظهاراً.
وهذا هو المشهور من المذهب، واختاره ابن تيمية والشنقيطي.
القول الثاني: أنه يمين مطلقاً، يكفرها بكفارة يمين.
القول الثالث: أنه لغو لا يترتب عليه شيء، واختاره الصنعاني.
القول الرابع: التفصيل على حسب نيته:
إن نوى الظهار فهو ظهار.
وإن نوى الطلاق فهو طلاق.
وإن نوى اليمين فهو يمين.
وإن لم ينو شيئاً ففيه كفارة يمين. واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
باب تعليق الطلاق
(ويقع الطلاقُ منجزاً).
أي: ويقع الطلاق منجزاً، والطلاق المنجز هو الذي يقع في الحال، كأن يقول: هي طالق، فتطلق من الآن، أي: يقع الطلاق في الحال.
(أو معلقاً على شرط كقوله: إذا جاء الوقت الفلاني فأنت طالق، فمتى وجد الشرط الذي علق عليه الطلاق وقع).
تعليق الطلاق ينقسم إلى أقسام:
أولاً: أن يكون تعليقاً محضاً. (سمي محضاً لأنه لا اختيار للزوج فيه).
كأن يقول: إذا طلعت الشمس فأنتِ طالق، فيقع الطلاق إذا طلعت الشمس. (فطلوع الشمس لا تملك منعه).
ومثله: إذا دخل رمضان فأنت طالق، وإذا غربت الشمس فأنت طالق.
ثانياً: أن يعلق الطلاق على فعل زوجته أو فعله هو، كأن يقول لزوجته: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، أو ذهبت لبيت أختك فأنت طالق:
فهذه إن قصد إيقاع الطلاق بالفعل إذا حصل المعلق عليه، فإن هذا الطلاق يقع عند حصول ما عُلق عليه قولاً واحداً بلا خلاف.
وإن لم يقصد الطلاق ولكنه يريد بذلك حملها على فعل أو منعها من فعل، فهذه اختلف فيها العلماء على قولين:
القول الأول: يقع الطلاق إذا حصل المعلق عليه.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
القول الثاني: أنه لا يقع الطلاق إذا حصل ما علق عليه، وإنما فيه كفارة يمين.
وهذا مذهب داود الظاهري وجماعة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. والله أعلم.
فائدة:
إذا علق طلاق امرأته على شرط فهل له أن ينقضه قبل وقوع الشرط أم لا؟
جمهور العلماء يقولون لا يمكن أن يتنازل عنه، لأنه أخرج الطلاق من فيه على هذا الشرط، فلزم كما لو كان الطلاق منجزاً.
(ومَنْ شكّ في طلاقٍ لم يلزمه).
أي: شك هل طلق زوجته أم لا؟ فلا يلزمه الطلاق، لأن الأصل بقاء النكاح.
والشك: التردد بين الأمرين لا مزية لأحدهما عن الآخر.
والشك في الطلاق له عدة صور:
الصورة الأولى: أن يشك في وقوع أصل الطلاق - يشك هل طلق أم لم يطلق -.
الأصل عدم الطلاق، لأن النكاح متيقن والطلاق مشكوك فيه والشك لا يعارض اليقين (اليقين لا يزول بالشك).
الصورة الثانية: أن يشك في عدد الطلاق، بأن يتيقن بأنه طلق امرأته لكنه شك هل طلقها واحدة أو اثنتين أو ثلاثة، فاليقين الأقل وهو واحدة، وما زاد على الواحدة مشكوك فيه.
الصورة الثالثة: أن يشك في وجود الشرط وعدمه، هل طلاق زوجته كان معلقا أو كان منجزاً، فالأصل عدم الشرط.
الصورة الرابعة: الشك في تحقق الشرط وجوداً أو عدماً، تيقن أنه طلق وأنه علق زوجته على شرط لكن يشك بحصول الشرط، كأن يقول: إن فعلتُ كذا فزوجتي طالق، وشك هل حصل الأمر أم لا، فالأصل عدم الوقوع.
(وَإِنْ قَالَ لِمَنْ ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ: طَلَقَتْ زَوْجَتُهُ لا عكسُها).
اعْتِبَارًا بِالقَصْدِ دُونَ الخِطَابِ.
جاء في الشرح الممتع: أي: وجد امرأة تشبه زوجته في اللباس، وفي الجسم، وفي المشي فظنها زوجته، فقال: أنت طالق، وتبين أنها غير زوجته، يقول المؤلف: تطلق الزوجة؛ لأنه أوقع الطلاق بصيغته التي يقع بها، مع أنه تبين أنها أجنبية ليست زوجة له، فنقول: العبرة بالمقاصد، وهذا الرجل قصد طلاق زوجته في شخص يظنها زوجته.
قوله (لَا عَكْسُهَا).
بِأَنْ لَقِيَ امْرَأَتَهُ، فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تَطْلُقِ امْرَأَتُهُ.
(وإن قال لنسائهِ إحداكُنَّ طالقٌ ولم ينو واحدةً بعينها خرجت بالقرعة).
أي: وجب إخراج من لم يعينه منهن بالقرعة، فمن خرجت عليها القرعة فهي الطالقة بتلك اللفظة التي تلفظ بها.
وذهب بعض العلماء: أنه يتخير أيتهما شاء.
(وإنِ خَيّر امرأتَه فاختارت نفسَها طلُقتْ واحدةً، وإنْ لم تخترْ أو اختارت زوجها لم يقعْ شيء).
أي: لو خيّر الرجل زوجته فقال لها اختاري، فخيرها بين أن تبقى معه زوجة، وبين أن يطلقها، فاختارت الطلاق، أي: اختارت نفسها فإنه يقع طلقة واحدة، وإن لم تختر، أو اختارت البقاء معه لم يحصل بذلك طلاق ولا شيء.
عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقاً) متفق عليه.
فهذا الحديث دليل على أن من خيّر أمرأته بين البقاء معه وبين مفارقته، فاختارته لا يقع عليها بذلك طلاق.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
فإن اختارت نفسها فطلقة واحدة على القول الراجح.
وقيل: هو طلاق رجعي، وقيل: يقع به طلقة بائنة، لكن هذه الأقوال ضعيفة.
فائدة:
قال الخطابي: يؤخذ من قول عائشة (فاخترناه فلم يكن طلاقاً) أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقاً، ووافقه القرطبي في المفهم فقال: في الحديث أن المخيّرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الاختيار يكون طلاقاً من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدل على الطلاق، قال: وهو مقتبس من مفهوم قول عائشة المذكور.
فوائد منوعة عن الطلاق:
فائدة: 1
طلاق الأمة تطليقتان.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا؛ فَطَلَاقُهُ ثَلَاثٌ حُرَّةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ أَمَةً وَإِنْ كَانَ عَبْدًا؛ فَطَلَاقُهُ اثْنَتَانِ حُرَّةً كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَةً.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِر.
لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الرِّجَالَ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِهِمْ.
وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ خَالِصُ حَقِّ الزَّوْجِ وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ اخْتِلَافُهُ بِهِ كَعَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ. (المغني).
فقد ورد عن عمر أنه قال (ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين) أخرجه الدارقطني.
ولأن العبد على النصف من الحر، ولم يُجعل الطلاق طلقة ونصف لأن الطلاق لا يتنصف.
وقد وقع خلاف في هذه المسألة:
فذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن عدد الطلاق معتبر بالزوج.
فإن كان حراً فإنه يملك على زوجته ثلاث تطليقات ولو كانت أمة، وإن كان الزوج عبداً فإنه يملك تطليقتين لا غير ولو كانت زوجته حرة، فإن طلقها الثانية بانت منه ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
لما ورد عن عمر كما تقدم.
ولأن الرجل هو المخاطب بالطلاق فهو المعتبر به.
ولأن الطلاق خالص حق الزوج.
وذهب الحنفية إلى أن الطلاق معتبر بالنساء، فإن كانت الزوجة حرة فطلاقها ثلاث ولو كان زوجها عبداً، وإن كانت الزوجة أمَة فطلاقها اثنتان وإن كان زوجها حراً.
قالوا: لأن المرأة محل الطلاق، فيعتبر بها كالعدة.
وذهب بعض العلماء إلى أن العبد كالحر في هذه المسألة.
لأن النصوص لم تخص الحر دون العبد.
فائدة: 2
الطلاق لا يقع بمجرد النية.
أ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اَللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فهذا الحديث دليل: على أن الطلاق بمجرد النية أو دون النطق به لا يقع.
وهذا هو قول جمهور أهل العلم كما نقله الحافظ في الفتح (9/ 394)، ونقله ابن قدامة في المغني (7/ 121) عن عامة أهل العلم.
ب- ولأن الفرقة في الشرع علقت على لفظ الطلاق، ونية الطلاق ليست لفظاً.
ج-أن إيقاع الطلاق بالنية لا يثبت إلا بالدليل، وليس ثمت دليل على ذلك.
قال ابن قدامة: جُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِلَفْظٍ، فَلَوْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، لَمْ يَقَعْ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ.
لقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ).
وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِالنِّيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ.
فائدة: 3
إذا كتب الرجل بيده صريح الطلاق، فإنه لا يقع إلا إذا نواه، عند جمهور العلماء؛ لأن الكتابة محتملة.
قال ابن قدامة: ولا يقع الطلاق بغير لفظ الطلاق، إلا في موضعين:
أحدهما: من لا يقدر على الكلام، كالأخرس إذا طلق بالإشارة، طلقت زوجته. وبهذا قال مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي. ولا نعلم عن غيرهم خلافهم
الموضع الثاني: إذا كتب الطلاق، فإن نواه طلقت زوجته، وبهذا قال الشعبي، والنخعي، والزهري، والحكم، وأبو حنيفة، ومالك وهو المنصوص عن الشافعي
فأما إن كان كتب ذلك من غير نية، فذهب بعض العلماء إلى أنه يقع وهو قول الشعبي، والنخعي، والزهري، والحكم; لما ذكرنا.
والقول الثاني: أنه لا يقع إلا بنية، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، ومنصوص الشافعي; لأن الكتابة محتملة، فإنه يقصد بها تجربة القلم، وتجويد الخط، وغم الأهل، من غير نية. (المغني).
وقال الشيخ ابن باز: هذا قول الجمهور، لأن الكتابة في معنى الكناية، والكناية لا يقع بها الطلاق إلا مع النية في أصح قولي العلماء، إلا أن يقترن بالكتابة ما يدل على قصد إيقاع الطلاق فيقع بها الطلاق.
فائدة: 4
إذا قال الزوج: أنت طلاق، أو قال: أنت الطلاق، ففي هذا خلاف، هل هو صريح فيقع بدون نية، أو كناية لا يقع معها الطلاق إلا بالنية.
فالجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة على أنه صريح.
قال ابن قدامة: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ.
فَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهِ، نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِه، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ.
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ. (المغني).
فائدة: 5
قال الشيخ ابن عثيمين: إن قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق، ثم طلقها وبانت منه، ثم تزوجها قبل أن تكلم زيداً، ثم كلمت زيداً بعد التزويج، فعلى المذهب وغير المذهب تطلق؛ لأن يمينه لم تنحل، فالصفة لم توجد فتطلق بكل حال.
وعند شيخ الإسلام في هذه المسألة أنها لا تطلق؛ لأن الظاهر أنه أراد وقوع الصفة في النكاح الأول الذي علق عليه، وفي الحقيقة أنك
إذا تدبرت الأمر وجدت أن هذا القول أرجح من غيره؛ لأن الظاهر من هذا الزوج أنه لم يطرأ على باله أن هذا التعليق يشمل النكاح الجديد، اللهم إلا إذا كان علقها على صفة يريد ألا تتصف بها مطلقا، فهذا قد يقال: إنها تعود الصفة " انتهى من " الشرح الممتع "
بابُ الرَّجْعَة
(مَنْ طَلَّقَ مَدْخُولًا بها بلا عِوَض دُون مَا له من العَدد فله رجعَتها في عدتها ولوْ كرهت).
تعريف الرجعة: إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد ما دامت في العدة (وسيأتي محترزات هذا التعريف بعد قليل).
(مَنْ طَلَّقَ) هذا الشرط الأول.
فلا رجعة إلا بعد طلاق، فلو فسخ النكاح لفقد مانع فليس له حق الرجعة.
(مَدْخُولًا بها) هذا الشرط الثاني.
فإن لم يكن مدخولاً بها فلا رجعة، لأنه لا عدة عليها.
(بلا عِوَض) هذا الشرط الثالث.
فإن كان بعوض فلا رجعة إلا بعقد جديد.
(دُون مَا له من العَدد) هذا الشرط الرابع.
كأن يطلق طلقة أو تطليقتين.
فلو طلقها الطلقة الثالثة فلا رجعة.
(فله رجعَتها في عدتها) هذا الشرط الخامس.
فإن راجعها بعد العدة فلا رجعة.
لقوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ). أي: في العدة.
فعلم من الآية أنه لا حق للأزواج بعد انتهاء العدة.
قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الحرّ إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها، وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلّق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها، وتصير أجنبية منه لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي، وهذا إجماع من العلماء.
مثال: رجل قال لزوجته أنت طالق، فتطلق، فله الحق ما دامت في العدة أن يراجعها، لكن بالشروط السابقة.
- أدلة مشروعية الرجعة:
أ- قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً). والمراد بالبعل هنا الزوج.
قال ابن كثير: أي وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها.
قوله تعالى (فِي ذَلِكَ) الإشارة إلى التربص المفهوم من قوله تعالى (يتربصن).
والمعنى: وأزواجهن أحق بإرجاعهن إذا رغبوا في ذلك مادمن في العدة.
قال الشنقيطي: كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت بانقضاء العدة لا رجعة له عليها، وذلك في قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) لأن الإشارة بقوله (ذَلِكَ) راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية بثلاثة قروء.
ب- قال تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
فقوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) هو الرجعة مع المعروف (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) وهو تطليقها.
ج- وفي قصة ابن عمر حينما طلق زوجته قال صلى الله عليه وسلم لعمر (مره فليراجعها).
د- وثبت في سنن أبي داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها).
وأجمع العلماء على مشروعية الرجعة.
(ولوْ كرهت).
أي: ولو كرهت الزوجة الرجوع، فإنه لا يشترط رضاها، وكذا لا يشترط علمها.
قال ابن حجر: وقد أجمعوا على أن الحر إذا طلق الحرة بعد الدخول بها تطليقة أو تطليقتين فهو أحق برجعتها، ولو كرهت المرأة ذلك.
وقال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى وَلِيٍّ، وَلَا صَدَاقٍ، وَلَا رِضَى الْمَرْأَةِ، وَلَا عِلْمِهَا. بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ، وَالرَّجْعَةُ إمْسَاكٌ لَهَا، وَاسْتِبْقَاءٌ لِنِكَاحِهَا، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ سبحانه وتعالى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا، وَتَرْكَهَا فِرَاقًا وَسَرَاحًا، فَقَالَ:(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
وَإِنَّمَا تَشَعَّثَ النِّكَاحُ بِالطَّلْقَةِ وَانْعَقَدَ بِهَا سَبَبُ زَوَالِهِ، فَالرَّجْعَةُ تُزِيلُ شُعْثَهُ، وَتَقْطَعُ مُضِيَّهُ، إلَى الْبَيْنُونَةِ، فَلَمْ يَحْتَجْ لِذَلِكَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ. (المغني).
(بلفظِ: راجعتُ امرأتي ونحوهِ).
أي: أن الرجعة تحصل بالقول: كقوله: راجعتك.
وهذا محل اتفاق بين العلماء.
كقول: راجعت امرأتي، رددتها، أمسكتها، أعدتها.
قال ابن قدامة: فأما القول فتحصل به الرجعة بغير خلاف.
فائدة:
هل تحصل الرجعة بالفعل (وهو الوطء)؟ يعني لو وطء زوجته الرجعية دون أن يتلفظ هل مجرد الوطء يكون رجعة:
اختلف العلماء على أقوال:
القول الأول: إن الرجعة لا تحصل بالفعل، فلا تحصل إلا بالقول.
وهذا قول الشافعي وهو قول ابن حزم.
أ- لان إعادة الزوجية بعد الطلاق إنشاء للزواج من وجه، فلا بد من القول.
ب- أن الله سمى الرجعة رداً (وبعولتهن أحق بردهن
…
) والرد إنما يكون بالكلام دون الفعل.
القول الثاني: أن مجرد الوطء يكفي ولو لم ينو.
وهذا مذهب الحنفية.
أ-لأنه استباح منها ما لا يستباح.
ب-لقوله (مره فليراجعها) فلم يخص قولاً من فعل، ومن ادعى الاختصاص فعليه الدليل.
القول الثالث: يصح بشرط نية الرجوع. (أن يجامعها بنية الرجعة).
وهذا قول مالك، واختاره ابن تيمية.
لعموم (إنما الأعمال بالنيات).
لأن المرتجع الواطئ إذا نوى بوطئه إحداث الرجعة حصلت له كما نواها، وإن وطئ دون نية الرجعة فلا تكون رجعة لانتفاء شرطها وهو النية.
والراجح تحصل بالوطء مع نية المراجعة، واختاره ابن تيمية.
قال السعدي: وإن كان قد طلقها رجعياً فلا يخلو إما أن تكون العدة قد فرغت فلا تحل له إلا بنكاح جديد مجتمعة فيه شروطه، وإما أن تكون في العدة، فإن قصد بالوطء الرجعة: صارت رجعة وصار الوطء مباحاً، وإن لم يقصد به الرجعة: فعلى المذهب تحصل به الرجعة، وعلى الصحيح: لا تحصل به رجعة، فعليه: يكون الوطء محرَّماً.
وقال ابن عثيمين: القول الثاني: أنها لا تحصل الرجعة بالوطء إلا بنية المراجعة؛ لأن مجرد الوطء قد يستبيحه الإنسان في امرأة أجنبية مثل الزنا، فهذا الرجل قد تكون ثارت شهوته عليها، أو أنه رآها متجملة وعجز أن يملك نفسه فجامعها، وما نوى الرجعة، ولا أرادها، ولا عنده نية أن يرجع لها، فعلى هذا القول لا تحصل الرجعة بالوطء إلا بنية الرجعة، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن الوطء قد يكون عن رغبة في إرجاعها فيكون نية إرجاع، وقد يكون لمجرد الوطء والشهوة فلا يدل على الإرجاع .... إلى أن قال: فالصواب أن الرجعة لا تحصل بمجرد الوطء إلا إن كان من نيته أنه ردها، وأنه استباحها على أنها زوجة، فإذا كان كذلك فهذه مراجعة، لكن على هذا القول لو أنه جامعها بغير نية الرجوع، وأتت بولد من هذا الجماع، فهل يكون ولدا له؟ الجواب: نعم، يكون ولداً له، لأن هذا الوطء وطء شبهة، لأنها زوجته ولم تخرج من عدتها، ولا يحد عليه حد الزنا، وإنما يعزر عليه تعزيراً. (الشرح الممتع)
(وَيُسنّ الإِشهاد).
أي: يسن للزوج إذا أراد أن يرجع زوجته في العدة أن يشهد على ذلك.
وقد اتفق العلماء على استحباب الإشهاد.
قال ابن قدامة: ولا خلاف بين أهل العلم في أن السنة الإشهاد.
لكن اختلف العلماء هل هو واجب أم لا على قولين:
القول الأول: أنه واجب.
وهو قول الشافعي في القديم وابن حزم ونقله ابن كثير عن عطاء.
أ- لقوله تعالى (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) والضمير يعود على الطلاق والرجعة.
ب- أثر عمران بن الحصين (أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اَلرَّجُلِ يُطَلِّقُ، ثُمَّ يُرَاجِعُ، وَلَا يُشْهِدُ? فَقَالَ: أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا، وَعَلَى رَجْعَتِهَا).
ج- ولما يترتب على ذلك من المصلحة، من عدم الإنكار، فإذا كان الزوج قد أشهد على الرجعة فلا تستطيع الزوجة أن تنكر.
القول الثاني: أنه مستحب.
وهذا مذهب الحنفية في المشهور عنهم، والشافعي في قوله الجديد، ومالك، وأحمد في أشهر الروايتين عنه.
أ- لحديث ابن عمر (مره فليراجعها) ولم يذكر الإشهاد والمقام مقام بيان.
ب-ولأنها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة.
قال ابن قدامة: وهي اختيار أبي بكر، وقول مالك، وأبي حنيفة; لأنها لا تفتقر إلى قبول، فلم تفتقر إلى شهادة، كسائر حقوق الزوج، ولأن ما لا يشترط فيه الولي لا يشترط فيه الإشهاد، كالبيع، وعند ذلك يحمل الأمر على الاستحباب، ولا خلاف بين أهل العلم، في أن السنة الإشهاد. (المغني).
والراجح القول بالاستحباب، والقول بالوجوب قول قوي:
أ-لأن فيه قطعاً للنزاع فيما لو ادعت الزوجة أنه لم يراجع.
ب-ولأن فيه احتياطاً والنكاح ينبغي فيه الاحتياط.
وأما أثر عمران بن حصين فلا يدل على الوجوب لأمور:
أولاً: أنه من قول الصحابي واجتهاده.
ثانياً: مما يؤكد تضعيف هذا الاستدلال، أن عمران بن حصين قد أمر السائل بأن يشهد على أمرين: الطلاق والرجعة، والإجماع منعقد على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق.
ثالثاً: أن الأمر الوارد في أثر عمران قد خرج مخرج الحث والتشديد، وذلك أن المقام مقام إفتاء، وإلا فقد ثبت عن عمران - في الخبر نفسه - أنه أجاب السائل بقوله: طلقت لغير السنة، ورجعت لغير السنة، فهذا اللفظ مفهومه أن الإشهاد على الطلاق والرجعة سنة.
(أحكام الرجعة).
(وَهِيَ زَوْجَةٌ، لَهَا وَعَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجَاتِ، لَكِنْ لَا قَسْمَ لَهَا).
أي: أن المطلقة الرجعية - ما دامت في العدة - حكمها حكم الزوجات من وجوب النفقة والكسوة والمسكن، ويرث كل منهما صاحبه إذا مات في العدة
أ-لقوله تعالى (وبعولتهن أحق بردهن) فسماهم بعولة، والبعل الزوج.
ب- ولأن الصحابة أجمعوا على توريث الرجعية، وهذا دليل على أنها زوجة.
قال ابن قدامة: وإذا مات زوج الرجعية، استأنفت عدة الوفاة، أربعة أشهر وعشراً، بلا خلاف.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك. وذلك لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه، وينالها ميراثه، فاعتدت للوفاة، كغير المطلقة.
…
(المغني).
قال ابن القيم: ومما يُبيِّن الفرق بين عدة الرجعية والبائن: أن عِدَّة الرجعية لأجل الزوج، وللمرأة فيها النفقة والسكنى باتفاق المسلمين. (زاد المعاد).
وجاء في (الموسوعة الفقهية) الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاقٍ رَجْعِيٍّ تُعْتَبَرُ زَوْجَةً؛ لأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ، فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الطَّلاقِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ جَمِيعًا عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى فِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ).
فائدة:
حكم بقاء المطلقة الرجعية في بيت زوجها:
يجب على المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً أن تبقى في بيت زوجها، ويحرم على زوجها أن يخرجها منه.
لقوله تعالى: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
وما عليه الناس الآن من كون المرأة إذا طلقت طلاقاً رجعياً تنصرف إلى بيت أهلها فوراً هذا خطأ ومحرم، لأن الله قال:(لا تُخْرِجُوهُنَّ)، (وَلا يَخْرُجْنَ)، ولم يستثن من ذلك إلا إذا أتين بفاحشة مبيّنة، ثم قال بعد ذلك:(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). ثم بيّن الحكمة من وجوب بقائها في بيت زوجها بقوله: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) فقد يكون بقاؤها في البيت سبباً لتراجع الزوج عن الطلاق، فيراجعها، وهذا أمر مقصود ومحبوب للشرع.
قال القرطبي رحمه الله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة. والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل.
وهذا معنى إضافة البيوت إليهن؛ كقوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) وقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك. وقوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ) يقتضي أن يكون حقا في الأزواج. ويقتضي قوله: (وَلا يَخْرُجْنَ) أنه حق على الزوجات. انتهى.
فائدة: 2
الذي يجوز للمطلقة الرجعية في أثناء العدة مع زوجها:
قال الشيخ ابن عثيمين: لها أن تكشف له وأن تتزين وأن تتجمل وأن تتطيب وأن تكلمه ويكلمها وتجلس معه وتفعل كل شيء ما عدا الاستمتاع بالجماع أو المباشرة فإن هذا إنما يكون عند الرجعة وله أن يرجعها بالقول فيقول راجعت زوجتي وله أن يراجعها بالفعل فيجامعها بنية المراجعة. " انتهى من "فتاوى إسلامية".
(لَكِنْ لَا قَسْمَ لَهَا).
أي: لكن يستثنى شيء واحد: وهو القسم، فلا يقسم لها.
أي: لو كان له زوجات أُخَر، فليس لها حق في القسْم، لأنها مطلقة.
(ولا تصحُّ مُعلقةً بشرطٍ).
أي: لا يصح أن تكون الرجعة معلقة بشرط.
مثال: أن بقول إذا جاء آخر الشهر راجعتكِ، أو إن قدم زيد راجعتك.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يصح تعليقها.
(فَإِذَا طَهَرَتْ مِنَ الحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَلَمْ تَغْتَسِلْ، فَلَهُ رَجْعَتُهَا).
أي: إذا طهرت الرجعية من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فلزوجها أن يراجعها.
أ- وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود
…
، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، فيكون إجماعاً.
ولأن أكثر أحكام الحيض لا تزول إلا بالغسل، وكذلك هذا. (المغني).
ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه ليس له رجعتها.
لقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، والقرء: الحيض، وقد زالت، فيزول التربص.
(وَإِنْ فَرَغَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ رَجْعَتِهَا بَانَتْ وحَرُمَتْ قَبْلَ عَقْدٍ جَدِيدٍ).
أي: إذا فرغت من العدة ولم يراجعها فقد بانت منه، ولا يقدر على مراجعتها إلا بعقد جديد.
وهذا بالإجماع.
قال تعالى (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) أي في العدة، فمفهوم الآية أنها إذا فرغت عدتها لم تبح إلا بعقد جديد بشرطه.
(وتعودُ على ما بقي مِن طَلَاقِها، ولو نَكَحَتْ غيره).
أي: إذا طلق الرجل زوجته دون ما يملك من العدد، بأن طلقها واحدة أو اثنتين، فإذا راجعها في أثناء العدة، أو أن العدة انتهت وتزوجها بعقد جديد، فإنه يعود على ما بقي من طلاقها، ولا تلتغي الطلقات السابقة.
(ولو نَكَحَتْ غيره).
أي: حتى ولو تزوجت.
فلو أنه طلقها طلقتين، ثم انتهت عدتها، ثم تزوجت رجلاً ثم طلقها، ثم عاد الزوج الأول وعقد عليها، فإنه يعود على ما بقي له، وهنا بقي له طلقة واحدة.
الخلاصة:
أولاً: لا خلاف بين الفقهاء أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً ثم تزوجت غيره بعد انتهاء عدتها من الأول، ثم طلقها الثاني بعد الدخول بها أنها ترجع إلى الأول بعد انتهاء عدتها من الثاني بثلاث تطليقات.
وحكم الإجماع ابن المنذر وغيره.
ثانياً: لا خلاف بين الفقهاء أن الرجل إذا طلق زوجته بما دون الثلاث ثم عادت إليه برجعة أو نكاح جديد قبل زوج ثانٍ فإنها ترجع إليه على ما بقي من طلاقها.
قال ابن قدامة: وَإِنْ رَغِبَ مُطَلِّقُهَا فِيهَا فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ يَتَزَوَّجُهَا بِرِضَاهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَتَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَلْقَتَيْنِ وَإِنْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْم.
ثالثاً: وقع الخلاف بين الفقهاء: فيما إذا طلق الرجل زوجته بأقل من ثلاث، وانتهت عدتها منه، ثم تزوجت غيره ودخل بها، ثم طلقها أو مات عنها، وانتهت عدتها من الثاني، ثم تزوجها الأول، فهل يستأنف الأول ثلاث طلقات أو تكون عنده على ما بقي من الثلاث على قولين:
القول الأول:
أنها تكون عنده على ما بقي من الثلاث،
فإن طلقها واحدة بقي له طلقتان، وإن طلقها اثنتين بقي له واحدة.
وهذا قول الجمهور.
قال ابن قدامة: وَهَذَا قَوْلُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيٍّ وَمُعَاذٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُبَيْدَةُ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ الْمُنْذِر.
أ- لأنه الوارد عن كبار الصحابة كعمر وعلي وعمران.
عن عمر بن الخطاب قال (أيما امرأة طلقها زوجها تطليقة أو تطليقتين ثم تركها حتى تحل وتنكح زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها ثم ينكحها زوجها الأول فإنها تكون عنده على ما بقي من طلاقها) رواه مالك في الموطأ.
قال مالك: وعلى ذلك السنة عندنا التي لا اختلاف فيها.
ب- ولأَنَّ وَطْءَ الثَّانِي لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الطَّلَاقِ كَوَطْءِ.
ج- وَلِأَنَّهُ تَزْوِيجٌ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّلَاثِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَجَعَتْ إلَيْهِ قَبْلَ وَطْءِ الثَّانِي.
القول الثاني:
أنه يستأنف ثلاث طلقات.
وهذا مذهب الحنفية.
(وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِي زَمَنٍ يُمْكِنُ انْقِضَاؤُهَا فِيهِ، أَوْ بِوَضْعِ الحَمْلِ المُمْكِنِ، وَأَنْكَرَهُ فَقَوْلُهَا).
أي: إذا ادعت المرأة انقضاء عدتها فالقول قولها بشرط أن يكون في زمن يمكن انقضاؤها فيه.
لأنه أمر لا يعرف إلا من قِبلها، فقبل قولها فيه.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا، فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُ انْقِضَاؤُهَا فِيهَا، قُبِلَ قَوْلُهَا.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ).
فَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهُنَّ مَقْبُولٌ، لَمْ يُحْرِجْنَ بِكِتْمَانِهِ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ تَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا فِيهِ، كَالنِّيَّةِ مِنْ الْإِنْسَانِ فِيمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ، أَوْ أَمْرٍ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ.
…
(المغني).
فائدة: 1
ما الحكم إذا ادعى الزوج بعد انقضاء عدتها أنه قد راجعها فأنكرته؟
الحكم:
إن كان الزوج له بيّنه حُكم له بها.
وإن لم يكن له بيّنة فالقول قولها.
أ- لأن الأصل عدم الرجعة.
ب-ولأن جانب العدد يرجح على جانب الزوج.
فائدة: 2
الحكم إذا راجع الرجل زوجته بالعدة وهي لا تعلم،
وبعد انقضاء عدتها تزوجت؟
لو أن المرأة تزوجت بعد انقضاء عدتها، ثم ادعى زوجها الأول أنه راجعها دون علمها، وأقام البينة على ذلك: رُدت إليه.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ زَوْجَ الرَّجْعِيَّةِ إذَا رَاجَعَهَا، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، صَحَّتْ الْمُرَاجَعَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى رِضَاهَا، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى
عِلْمِهَا كَطَلَاقِهَا.
فَإِذَا رَاجَعَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ، فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَتَزَوَّجَتْ، ثُمَّ جَاءَ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَأَنَّ نِكَاحَ الثَّانِي فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ غَيْرِهِ، وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا.
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رحمه الله رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، إنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَوَّلِ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
…
(المغني).
باب الإيلاء
(الإيلاء أن يحلفَ على ترك وطء زوجتهِ أبداً أو مدة تزيد على أربعة أشهر).
الإيلاء لغة: الحلف.
واصطلاحاً: حلف زوج على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر.
مثال: كأن يقول لزوجته: والله لا أطأكِ خمسة أشهر.
فقوله (حلف) أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته على ترك الوطء.
فإن حلف على ترك الوطء بغير ذلك، مثل أن يحلف بالطلاق أو العتق كأن يقول: إن وطئتك فأنتِ طالق، أو فلله عليّ صوم شهر، فقد اختلف العلماء هل يكون مولٍ أم لا؟ والجمهور أنه يكون إيلاء، وقد روي عن ابن عباس أنه قال (كل يمين منعت جماعاً فهي إيلاء).
وقوله (على ترك وطء) هذا الشرط الثاني، أن يحلف على ترك الجماع في القبل، فلو حلف أن لا يباشر زوجته لمدة سنة ونيته المباشرة دون الفرج، فليس بمولٍ.
وقوله (زوجته) هذا الشرط الثالث، وهو أن يكون المحلوف عليها زوجته، سواء كانت مدخولاً بها أم غير مدخول.
لقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ).
ولأن غير الزوجة لا حق لها في وطئه فلا يكون مولياً عنها، فلو حلف على ترك وطء أجنبية ثم نكحها لم يكن مولياً لذلك.
قوله (أكثر من أربعة أشهر) هذا الشرط الرابع.
وهو أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر، ولا خلاف في ذلك أنه إيلاء، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن مولياً، ولا يتعلق به أحكام الإيلاء، لقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فجعل الله للزوج تربص أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر فما دونها فلا معنى للتربص، لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضائه، وتقدير التربص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدة يتناولها الإيلاء، وهو ما كان أكثر من أربعة أشهر.
واختار بعض العلماء - ومنهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه إذا حلف على ترك الوطء أربعة أشهر أو أقل فإنه يعتبر إيلاء، لأن الله قال (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) فأثبت الله الإيلاء، لكن جعل المدة التي ينظرون فيها أربعة أشهر، فلو قال: والله لا أجامع زوجتي ثلاثة أشهر، فإن هذا مولٍ، لأنه حلف أن لا يجامعها، ولكننا لا نقول له شيئاً الآن، لأنه إذا تمت المدة انحلت اليمين.
فائدة:
حكم الإيلاء:
إن كان فوق أربعة أشهر فإنه حرام
وإن كان دونها فهو جائز للمصلحة. وقد ثبت في البخاري عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهراً).
ومعنى إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم هنا: اعتزال نساءه شهراً.
(فإذا طلبت الزوجة حقَّها من الوطء أُمِرَ بوطئِها).
أي: إذا طلبت الزوجة حقها من الوطء، فإنه يؤمر بذلك.
لأن في عدم ذلك إضراراً بالزوجة.
(وضربت له أربعة أشهر).
أي: إذا رفض الرجوع والفيئة للوطء، وطلبت المرأة حقها، فإن القاضي يضرب له أربعة أشهر.
لقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقد اختلف العلماء متى تبدأ مدة الإيلاء؟
فقيل: تبدأ من المطالبة.
وقيل: تبدأ من الإيلاء، وهذا هو الصحيح.
لقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فجعل الله التربص مقروناً بالوصف وهو الإيلاء، ويثبت هذا الوصف من اليمين، لأنه من حين أن يحلف يصدق عليه بأنه مولي.
مثال: فإذا آلى في اليوم (27) من شهر محرم، ولم تطالبه إلا في (27) من شهر ربيع الأول، فيكون مضى عليه شهران، فهل تبدأ المدة من (27) محرم أو من (27) ربيع الأول؟ تبدأ من (27) محرم ويكون بقي له شهرين.
(فإذا وطئ كفّر كفارة يمين).
أي: إذا مضت المدة وهي أربعة أشهر، ورجع وفاء وجامع، فإنه يكفر كفارة يمين عن يمنيه.
لقوله (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(فَإِنْ فَاءُوا) أي رجعوا إليهن بالجماع.
فائدة: 1
فإن وطئ في الدبر فما فاء، لأن الوطء في الدبر حرام، ولا يسمى جماعاً، لأنه لا يحصل به كمال الاستمتاع.
فائدة: 2
أو بما دون الفرج كالفخذين فما فاء، لأن هذا ليس جماعاً تحصل به كمال اللذة.
(وإن امتنع ألزم بالطلاق).
أي: بعد مضي أربعة أشهر - إن لم يرجع للجماع - يأمره القاضي بالطلاق إذا طلبت الزوجة ذلك، لأن الحق لها، وأما إذا لم تطلب المرأة الطلاق فلا يجوز للحاكم أن يأمره.
عَنِ اِبْنِ عُمَر قَالَ: (إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَقَفَ اَلْمُؤْلِي حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ اَلطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
فائدة: 1
ذهب جمهور العلماء إلى أن الزوجة لا تطلق بمجرد مضي المدة، وإنما يخير بين الرجوع أو الطلاق إذا طلبت الزوجة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه بمجرد مضي المدة تطلق المرأة من زوجها، وهذا القول ضعيف.
فائدة: 2
إن ترك الوطء إضراراً بها بلا يمين ولا عذر.
فقال بعضهم: يعتبر إيلاء، وهذا قول مالك.
وقال أبو حنيفة والشافعي، لا يكون مولياً، وهذا القول هو الصحيح.
وإنما يطالب بالمعاشرة بالمعروف وإلا تملك الفسخ أو الطلاق.
فائدة: 3
هل إذا طلق الحاكم يكون طلاقاً بائناً أم رجعياً؟
قيل: إذا فرق الحاكم بينهما فإنه يكون طلاقاً رجعياً.
وهذا قول الجمهور.
وقيل: يكون طلاقاً بائناً.
لأنه طلاق شرع لرفع الضرر عن المرأة. والأول أصح.
كتاب الظهار
(والظهار أن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي).
هذا تعريف الظهار، وهو أن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي.
مثال: أن يقول الرجل لامرأته أنتِ عليّ كظهر أمي.
قال في المغني: والظِّهَارُ: مُشْتَقُّ مِنْ الظَّهْرِ، وَإِنَّمَا خَصُّوا الظَّهْرَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرْكُوبٍ يُسَمَّى ظَهْرًا، لِحُصُولِ الرُّكُوبِ عَلَى ظَهْرِهِ فِي الْأَغْلَبِ، فَشَبَّهُوا الزَّوْجَةَ بِذَلِكَ.
فائدة: 1
وقد ذكر المفسرون أن آيات الظهار نزلت في أوس بن الصامت الأنصاري الخزرجي، لما ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة، فأرادها فأبت عليه حتى تأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم وجعلت تجادله، والنبي صلى الله عليه وسلم يحاورها، والله يسمع ذلك، فأنزل الله الآيات من أول سورة المجادلة.
فائدة: 2
قوله (أن يقول لزوجته) يَصِحُّ الظِّهَار مِنْ كُلِّ زَوْجَةٍ، كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً، مُمْكِنًا وَطْؤُهَا أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
أ- لعُمُومُ الْآيَةِ.
ب- وَلِأَنَّهَا زَوْجَةٌ يَصِحُّ طَلَاقُهَا، فَصَحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا، كَغَيْرِهَا.
فائدة: 3
قوله (أن يقول لزوجته) فيه أن الظهار يكون من الزوجة، فلا يصح من أجنبية.
وهذا قول أبي حنيفة والشافعي.
أ- لقوله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم) والأجنبية ليست من نسائه.
ب-وَلِأَنَّ الظِّهَارَ يَمِينٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِحُكْمِهَا مُقَيَّدًا بِنِسَائِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا فِي الْأَجْنَبِيَّة.
وذهب بعض العلماء: إلى انه يصح الظهر من الأجنبية.
وهذا قول مالك وهو المذهب.
فإذا قال لأجنبية: أنتِ عليّ كظهر أمي، فإنه لا يطؤها إذا تزوجها حتى يكفّر.
لأنها يمين مكفّرة فصح انعقادها قبل النكاح.
وأجاب هؤلاء عن الآية بأنها خرجت مخرج الغالب.
قال ابن قدامة: أَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُظَاهِرُ مِنْ نِسَائِهِ، فَلَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِهِنَّ. (المغني).
فائدة: 4
قوله (كظهر أمي) من شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ فهو ظهار وهو على ثلاث أضرب:
الضرب الأول: إذا شبه زوجته بأمه، كأنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
فَهَذَا ظِهَارٌ إجْمَاعًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ تَصْرِيحَ الظِّهَارِ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيِّ.
وَفِي حَدِيثِ خُوَيْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُشَبِّهَهَا بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، كَجَدَّتِهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ وَأُخْتِهِ.
فَهَذَا ظِهَارٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قال ابن قدامة مستدلاً لهذا القول:
أ- وَلَنَا أَنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ، فَأَشْبَهْنَ الْأُمَّ فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ فِيهَا (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا).
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَجَرَى مَجْرَاهُ.
ب- وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأُمِّ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهَا إذَا كَانَتْ مِثْلَهَا.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشَبِّهَهَا بِظَهْرِ مِنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ سِوَى الْأَقَارِبِ، كَالْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَحَلَائِلِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَالرَّبَائِبِ اللَّائِي دَخَلَ بِأُمِّهِنَّ، فَهُوَ ظِهَارٌ أَيْضًا.
وَالْخِلَافُ فِيهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا.
فائدة: 5
اختلف العلماء: إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا؛ كَأُخْتِ امْرَأَتِهِ، وَعَمَّتِهَا.
فقيل: لا يكون ظهاراً.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَلَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهَا ظِهَارًا.
وقيل: يكون ظهاراً.
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَقَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
لأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ.
وهذا ظاهر اختيار ابن قدامة.
فائدة: 6
أذا قال لزوجته: أنتِ عليّ كأبي يريد تحريمها؟
فقيل: يكون ظهاراً.
وقيل: ليس بظهار.
وهذا قول جمهور العلماء.
لأنه تشبيه لامرأته بما ليس بمحل لاستمتاع الرجال.
فائدة: 7
إذا قال لزوجته أنتِ عندي أو مني كظهر أمي فإنه يعتبر ظهاراً.
لأنه بمنزلة [عليّ]، لأن هذه الألفاظ بمعناها.
قال ابن قدامة: وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي. أَوْ: مِثْلُ أُمِّي. وَنَوَى بِهِ الظِّهَارَ، فَهُوَ ظِهَارٌ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ; مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَإِنْ نَوَى بِهِ الْكَرَامَةَ وَالتَّوْقِيرَ، أَوْ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي الْكِبَرِ، أَوْ الصِّفَةِ، فَلَيْسَ بِظِهَارٍ. وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّته. (المغني)
سئل شيخ الإسلام: عن رَجُلٍ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَنْت عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي، وَأُخْتِي؟
فَأَجَابَ: "إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي فِي الْكَرَامَةِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ يُشَبِّهُهَا بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ فِي " بَابِ
النِّكَاحِ " فَهَذَا ظِهَارٌ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ فَإِذَا أَمْسَكَهَا فَلا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ ظِهَار.
فائدة: 7
إذا قال الرجل لزوجته: إن فعلت كذا أو إن لم تفعلي كذا، فأنت حرام علي كأمي، أو تكونين حراما كأمي، أو كظهر أمي، فهذا ظهار معلق على شرط، والجمهور على أنه إن وقع الشرط وقع الظهار.
(وهو محرّم).
أي: الظهار حرام.
أ- لقوله تعالى (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً).
[منكراً] أي: حرام. [وزوراً] أي كذب، لأن إخبار الرجل عن زوجته أنها أمه كذب.
ب- ولحديث ابن عباس (أن رجلاً ظاهر من امرأته، ثم وقع عليها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني وقعتُ عليها قبل أن أكفرَ، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله) رواه أبو داود.
وجه الدلالة على التحريم: أنه أمِر بالكفارة.
وقد نقل الصنعاني الإجماع على تحريمه.
(ولا تحرمُ الزوجة به).
أي: لا يصير الظهار طلاقاً.
أ- لقوله تعالى (. . . فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) ولو كان طلاقاً لم تحلها الكفارة.
ب- وأيضاً لو جعلناه طلاقاً لكنا قد وافقنا حكم الجاهلية، لأنهم في الجاهلية يجعلون الظهار طلاقاً.
(وإنْ قالتْهُ لزوجها فليس بظهارٍ، وعليها كفارَتُه).
أي: إذا قالت المرأة لزوجها أنتَ علي كظهر أبي فليس بظهار.
وهذا قول أكثر العلماء.
لأن الله خصه بالرجال دون النساء بقوله (والذين يظاهرون منكم من نسائهم
…
).
لكن عليها: عليها كفارته، أي: كفارة الظهار.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها عليها كفارة يمين.
وهذا الراجح.
(ويصح منجزاً ومعلقاً ومطلقاً ومؤقتاً).
أي: يصح الظهار أن يكون:
منجزاً: كأن يقول أنتِ عليّ كظهر أمي.
ومعلقاً: كأن يقول: إن قمتِ فأنت علي كظهر أمي، إن كلمت زيداً فأنت علي كظهر أمي.
ومؤقتاً: كأن يقول أنتِ عليّ كظهر أمي شهر رمضان.
قال ابن قدامة: وَيَصِحُّ الظِّهَارُ مُؤَقَّتًا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا، أَوْ حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ.
فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ زَالَ الظِّهَارُ، وَحَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِلَا كَفَّارَةٍ، وَلَا يَكُونُ عَائِدًا إلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ.
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
لحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، وَقَوْلُهُ (ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ) وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي الشَّهْرِ، فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ.
وَلَمْ يَعْتَبِرْ عَلَيْهِ تَقْيِيدَهُ، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهَا بِيَمِينٍ لَهَا كَفَّارَةٌ، فَصَحَّ مُؤَقَّتًا كَالْإِيلَاءِ.
…
(المغني).
ومثّل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله للظهار المؤقت بقوله: وهذا ربما يجري ويحصل من الإنسان أن يغضب من زوجته لإساءة عشرتها فيقول:
أنت علي كظهر أمي كل هذا الأسبوع، أو كل هذا الشهر، أو ما أشبه ذلك، فهذا يصح ظهاراً، وليس معنى قولنا:"إنه يصح" أنه يحِل، بل المعنى أنه ينعقد. فإذا مضت المدة التي وقّت بها الظهار وجامعها بعد مضي الوقت لا تجب الكفارة؛ لأن المدة انتهت فزال حكم الظهار. فإن وطئ الزوج زوجته في الوقت الذي وقّت فيه الظهار وجبت عليه الكفارة، وإن فرغ الوقت ووطئ بعد الفراغ زال الظهار.
(الشرح الممتع)
جاء في (الموسوعة الفقهية) الأْصْل فِي الظِّهَارِ إِنْ أَطْلَقَهُ أَنْ يَقَعَ مُؤَبَّدًا، فَإِنْ أَقَّتَهُ كَأَنْ يُظَاهِرَ مِنْ زَوْجَتِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الأْظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ مُؤَقَّتًا، وَلَا يَكُونُ الْمُظَاهِرُ عَائِدًا إِلاَّ بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ سَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبَطَل الظِّهَارُ عَمَلاً بِالتَّأْقِيتِ؛ لأِنَّ التَّحْرِيمَ صَادَفَ ذَلِكَ الزَّمَنَ دُونَ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَضِيَ بِانْقِضَائِهِ.
وَلأِنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْل وَزُورٌ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَالظِّهَارِ الْمُعَلَّقِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي غَيْرِ الأْظْهَرِ إِلَى أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَقْبَل التَّأْقِيتَ، فَإِنْ قَيَّدَهُ بِوَقْتٍ تَأَبَّدَ كَالطَّلَاقِ، فَيُلْغَى تَقْيِيدُهُ، وَيَصِيرُ مُظَاهِرًا أَبَدًا لِوُجُودِ سَبَبِ الْكَفَّارَةِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ أَنَّ الظِّهَارَ الْمُؤَقَّتَ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَبِّدِ التَّحْرِيمَ فَأَشْبَهَ مَا إِذَا شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَى التَّأْبِيد. (الموسوعة).
(وَيَحْرُمُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَطْءٌ وَدَوَاعِيهِ مِمَّنْ ظَاهَرَ مِنْهَا).
أي: يحرم على المظاهر وطء زوجته حتى يخرج الكفارة.
أ-لقوله تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا .. ) أي: من قبل أن يمس أحدهما الآخر بالجماع.
ب- ولحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمظاهر (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به).
فالإخراج شرط لحل الوطء.
فإذا كفّر زال حكم التحريم.
فائدة: 1
قوله (قبل أَنْ يُكَفِّرَ) لا فرق بين أن تكون الكفارة عتقاً، أو صوماً، أو إطعاماً.
فائدة: 2
قال السعدي: لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس، أن ذلك أدعى لإخراجها، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع، وعلم أنه لا يمكّن من ذلك إلا بعد الكفارة بادر إلى إخراجها.
فائدة: 3
الصحيح من أقوال العلماء فيمن جامع امرأته قبل الكفارة: أنها لا تسقط عنه، ولا تتضاعف عليه، بل تلزمه الكفارة ذاتها، مع وجوب التوبة، والكف الفوري عن جماعها حتى يكفِّر
قال ابن القيم: الكفارة لا تسقُط بالوطء قبلَ التكفير، ولا تتضاعف، بل هي بحاله، كفارةٌ واحدة، كما دل عليه حكمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تقدم، قال الصلتُ بنُ دينار: سألتُ عشرة مِن الفقهاء عن المظاهر يُجامع قبل أن يُكفر، فقالوا: كفارة واحدة، قال: وهم الحسنُ، وابنُ سيرين، ومسروق، وبكر، وقتادة، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وعكرمة، قال: والعاشر: أراه نافعاً، وهذا قولُ الأئمة الأربعة. (زاد المعاد).
(وَدَوَاعِيهِ).
أي: دواعي الوطء: كالتقبيل، والنظر إليها بشهوة، وتكراره، والضم، فهذه أيضاً تحرم.
أ-أخذاً بعموم الآية.
ب- والنظر يقتضي ذلك: فإن لفظ المظاهر يقتضي ذلك: فإنه قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وهذا يقتضي المنع من الدواعي،
لأن الدواعي محرمة عليه تجاه أمه، وقد شبه امرأته بأمه.
ج- ولأن القبلة والمس ونحوهما من ذرائع الوطء.
وذهب بعض العلماء: إنه لا يحرم.
قالوا: لأن لفظ المسيس كناية عن الجماع، فيقتصر عليه.
والراجح الأول.
فصل
(كَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِيناً).
أي: وكفارة الظهارة: عتق رقبة، فإن يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
والدليل على ذلك:
قال تعالى (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا).
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: ابْنُ الْعَلَاءِ الْبَيَاضِيُّ قَالَ: كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنَ امْرَأَتِي شَيْئًا يُتَابَعُ بِي حَتَّى أُصْبِحَ، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَبَيْنَا هِيَ تَخْدُمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ، إِذْ تَكَشَّفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ نَزَوْتُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ خَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَقُلْتُ امْشُوا مَعِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَنْتَ بِذَاكَ يَا سَلَمَةُ؟ قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ مَرَّتَيْنِ وَأَنَا صَابِرٌ لِأَمْرِ اللهِ، فَاحْكُمْ فِيَّ مَا أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: حَرِّرْ رَقَبَةً، قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا، وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إِلاَّ مِنَ الصِّيَامِ، قَالَ: فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) رواه أبو داود.
أولاً: عتق رقبة. [أي تخليصها من الرق].
أولاً: قال ابن قدامة: أَنَّ كَفَّارَةَ الْمُظَاهِرِ الْقَادِرِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، عِتْقُ رَقَبَةٍ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
ثانياً: يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
أ- حملاً للمطلق هنا على المقيد في آية القتل
ب- ولحديث الجارية (قال لها رسول الله: أين الله؟ قالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أنه علل جواز إعتاقها عن الرقبة بأنها مؤمنة فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليه إلا مؤمنة.
ثالثاً: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا رَقَبَةٌ سَالِمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا.
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمْلِيكُ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ، وَيُمْكِنُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا مَعَ مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا، فَلَا يُجْزِئُ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ فِي أَكْثَرِ الصَّنَائِعِ، وَلَا الْمُقْعَدُ، وَلَا الْمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَيْنِ آلَةُ الْبَطْشِ، فَلَا يُمْكِنْهُ الْعَمَلُ مَعَ فَقْدِهِمَا، وَالرِّجْلَانِ آلَةُ الْمَشْيِ، فَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ تَلَفِهِمَا، وَالشَّلَلُ كَالْقَطْعِ فِي هَذَا.
وَلَا يُجْزِئُ الْمَجْنُونَ جُنُونًا مُطْبِقًا، لِأَنَّهُ وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ، ذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَحُصُولُ الضَّرَرِ بِالْعَمَلِ.
وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي. (المغني).
رابعاً: وَيُجْزِئُ الْأَعْوَرُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ وَالْإِجْزَاءَ فِي الْهَدْيِ، فَأَشْبَهَ الْعَمَى.
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ، وَتَمْلِيكُ الْعَبْدِ الْمَنَافِعَ، وَالْعَوَرُ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، فَأَشْبَهَ قَطْعَ
إحْدَى الْأُذُنَيْنِ.
وَيُفَارِقُ الْعَمَى؛ فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَيَمْنَعُ كَثِيرًا مِنْ الصَّنَائِعِ، وَيَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ.
وَيُفَارِقُ قَطْعَ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِإِحْدَاهُمَا مَا يَعْمَلُ بِهِمَا، وَالْأَعْوَرُ يُدْرِكُ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ مَا يُدْرِكُ بِهِمَا. (المغني).
خامساً: وَيُجْزِئُ الْأَحْمَقُ، وَهُوَ الَّذِي يُخْطِئُ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَيَصْنَعُ الْأَشْيَاءَ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَيَرَى الْخَطَأَ صَوَابًا، وَمَنْ يُخْنَقُ فِي الْأَحْيَانِ، وَالْخَصِيُّ، وَالْمَجْبُوبُ، وَالرَّتْقَاءُ، وَالْكَبِيرُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، لَا يَمْنَعُ تَمْلِيكَ الْعَبْدِ مَنَافِعَهُ، وَتَكْمِيلَ أَحْكَامِهِ، فَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِهِ كَالسَّالِمِ مِنْ الْعُيُوبِ.
…
(المغني).
ثانياً: صيام شهرين متتابعين.
أجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً، أَنَّ فَرْضَهُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.
وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).
أولاً: يجب التتابع في صيامهما، فلو أفطر بينهما يوماً واحداً من غير عذر استأنف من جديد.
قال ابن قدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ بَعْضَ الشَّهْرِ، ثُمَّ قَطَعَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَفْطَرَ، أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافَ الشَّهْرَيْنِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِوُرُودِ لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِهِ، وَمَعْنَى التَّتَابُعِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ صِيَامِ أَيَّامِهَا، فَلَا يُفْطِرُ فِيهِمَا، وَلَا يَصُومُ عَنْ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ.
…
(المغني).
وقال: وَإِنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرَيْنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ قَطَعَ التَّتَابُعَ بِصَوْمِ نَذْرٍ، أَوْ قَضَاءٍ، أَوْ تَطَوُّعٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالتَّتَابُعِ الْمَشْرُوطِ، وَيَقَعُ صَوْمُهُ عَمَّا نَوَاهُ.
ثانياً: فإن تخلل هذا القضاء شهر رمضان، فإنه يصوم رمضان ثم يكمل من اليوم الثاني من شوال.
ثالثاً: إن تخلله فطر واجب كعيد الفطر أو الأضحى أو أيام التشريق لم ينقطع.
رابعاً: إن أفطر بعذر يبيح الفطر فإن التتابع لا ينقطع، أما إذا تحيل بالسفر على الفطر فإن التتابع ينقطع.
فالخلاصة: أن التتابع في الصيام لا ينقطع في ثلاث مسائل:
إذا انقطع التتابع بصوم واجب كرمضان.
وإذا انقطع لفطر واجب كالعيدين وأيام التشريق.
وإذا انقطع التتابع لعذر يبيح الفطر في رمضان.
خامساً: إن أفطر لصوم مستحب انقطع التتابع.
سادساً: المذهب: المعتبر بالشهرين الأهلة إذا ابتدأ من أول الشهر سواء كان 30 يوماً أو كان 29 يوماً.
وإن ابتدأ من أثناء الشهر فالمعتبر العدد.
مثال: رجل صام من (1) محرم، وكان محرم (29) يوماً ينتهي الشهر، وكان مثلاً صفر (29) يوماً فإنه يجزي ويكون صام (58) يوماً.
لكن إن صام من أثناء الشهر فالمعتبر العدد، فلو صام من اليوم (11) من محرم، فإنه ينقضي الشهر الأول (11) من صفر، ثم يشرع في (12) صفر وينقضي الشهر ب (12) من ربيع الأول. فيكون قد صام (60) يوماً.
والصحيح أن المعتبر بالشهرين الأهلة مطلقاً سواء صام من أول الشهر أو من أثنائه.
سابعاً: فإذا جامعها في أثناء الشهرين نهاراً فإنه يستأنف الصيام من جديد وهذا بالإجماع.
أما الجماع بالليل هل يقطع التتابع؟ قولان للعلماء:
قيل: يقطع التتابع.
لعموم الآية (. . . فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). فالله أمر بصيام الشهرين خاليين من الوطء، فإن وطئ ليلاً لم يصدق أنه صام الشهرين خاليين من الوطء.
وقيل: إذا أصابها ليلاً أثم بوطئه قبل إتمام الصوم، لكن لا ينقطع التتابع.
وهذا قول الشافعي واختاره ابن المنذر وابن قدامة.
لأن وطء الليل لا يبطل الصيام، فلا يُوجب الاستئناف.
وقالوا: لأن التتابع في الصيام معناه: اتباع صيام يوم بالذي قبله، وهذا حاصل.
ثالثاً: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً.
قال ابن قدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا لَمْ يَجِدْ الرَّقَبَةَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ، أَنَّ فَرْضَهُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَجَاءَ فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم سَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ لِكِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ يَخَافُ بِالصَّوْمِ تَبَاطُؤَهُ أَوْ الزِّيَادَةَ فِيهِ،
أولاً: الواجب إطعام ستين مسكيناً لا يجزئ أقل من ذلك، فمن أطعم واحداً [60] يوماً لم يكن أطعم إلا واحداً فلم يمتثل الأمر.
قال ابن قدامة: الْوَاجِبُ فِي الْإِطْعَامِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي سِتِّينَ يَوْمًا، أَجْزَأَهُ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا).
وَهَذَا لَمْ يُطْعِمْ إلَّا وَاحِدًا، فَلَمْ يَمْتَثِلْ الْأَمْرَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَلَمْ يُجْزِئْه.
…
(المغني).
ثانياً: يجزئ كل شيء يكون قوتاً للبلد، لأن الله تعالى قال (إطعام ستين مسكيناً) ولم يخصص من أي نوع، فيرجع ذلك إلى ما جرى به العرف. وهذا اختيار ابن تيمية.
وذهب بعض العلماء: أنه لا يجزئ من الطعام إلا ما يجزئ في صدقة الفطر.
ثالثاً: لا يجزئ إخراج القيمة في كفارة الظهار.
وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
لقوله تعالى (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا).
وجه الدلالة: أن الشارع أمر بالإطعام، ومن أخرج القيمة لم يصدق عليه أن أطعم المساكين.
(فَإِنْ مَاتَ، أَوْ مَاتَتْ، أَوْ طَلَّقَهَا، لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ).
أي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ فَارَقَهَا قَبْلَ الْعَوْدِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
أ- لقوله تَعَالَى (وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ).
فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِأَمْرَيْنِ، ظِهَارٍ وَعَوْدٍ، فَلَا تَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا.
ب- وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الظِّهَارِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِغَيْرِ الْحِنْثِ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَالْحِنْثُ فِيهَا هُوَ الْعَوْدُ، وَذَلِكَ فِعْلُ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَتَرْكُ طَلَاقِهَا لَيْسَ بِحِنْثٍ فِيهَا، وَلَا فِعْلٍ لَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، فَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ.
ج- وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِمْسَاكُ عَوْدًا، لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُظَاهِرِ الْمُوَقِّتِ وَإِنْ بَرَّ.
(فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا، لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ).
أي: فإن طلقها - لم تجب عليه الكفارة - كما تقدم، فلو تزوجها فيما بعد فإنه لا يطأها حتى يكفّر كفارة الظهار.
أ-لعُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).
وَهَذَا قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَلَا يَحِلُّ أَنْ يَتَمَاسَّا حَتَّى يُكَفِّرَ.
ب- وَلِأَنَّهُ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ مَسُّهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، كَاَلَّتِي لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَيَمِينُ الظِّهَارَ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ، فَلَمْ يَبْطُلْ حُكْمُهَا بِالطَّلَاقِ، كَالْإِيلَاءِ.
(ومنْ كرَّرَهُ قبل التكفير فواحدةٌ كاليمين).
أي: من كرر الظهار قبل أن يكفّر فعليه كفارة واحدة.
يعني إذا قال: أنت علي كظهر أمي، ثم عاد فقال: أنت علي كظهر أمي، ثم قال: أنت علي كظهر أمي.
فيلزمه كفارة واحدة.
لأن المظاهر منها واحدة.
- وقوله (قبل التكفير) أي: إن كفَّر عن الأول ثم أعاد الظهار فإن الكفارة تتعدد؛ لأن هذا الظهار غير الأول، ولأنه صادفه وذمته قد برئت من الظهار الأول، فيلزمه أن يعيد الكفارة.
(ولظهارِهِ من نسائهِ بكلمةٍ واحدة).
أي: إن ظاهر من نسائه بكلمة واحدة، بأن قال لزوجاته: أنتُنّ علي كظهر أمي، فعليه كفارة واحدة.
لأنه ظهار واحد.
قال ابن قدامة: إذَا ظَاهَرَ مِنْ نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ.
بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ وَعُرْوَةَ، وَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.
أ-لعُمُومُ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما رَوَاهُ عَنْهُمَا الْأَثْرَمُ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا.
ب- وَلِأَنَّ الظِّهَارَ كَلِمَةٌ تَجِبُ بِمُخَالَفَتِهَا الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا وُجِدَتْ فِي جَمَاعَةٍ أَوْجَبَتْ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
وَفَارَقَ مَا إذَا ظَاهَرَ بِكَلِمَاتٍ؛ فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تَقْتَضِي كَفَّارَةً تَرْفَعُهَا، وَتُكَفِّرُ إثْمَهَا.
وَهَاهُنَا الْكَلِمَةُ وَاحِدَةٌ، فَالْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ تَرْفَعُ حُكْمَهَا، وَتَمْحُوا إثْمَهَا، فَلَا يَبْقَى لَهَا حُكْمٌ. (المغني).
(وإنْ ظاهرَ منهُنَّ بكلماتٍ فكفارات).
أي: وإن ظاهر من زوجاته بكلمات، بأن قال لكل واحدة منهن: أنتِ عليّ كظهر أمي، فعليه كفارات بعددهن.
لتعدد الظهار والمظاهَر منها.
أ-لأنها أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُتَكَرِّرَةٌ عَلَى أَعْيَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ ثُمَّ ظَاهَرَ.
ب- وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ لَا يَحْنَثُ فِي إحْدَاهَا بِالْحِنْثِ فِي الْأُخْرَى، فَلَا تُكَفِّرُهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، كَالْأَصْلِ.
ج- وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَعْنًى يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَتَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِهِ فِي الْمَحَالِّ الْمُخْتَلِفَةِ، كَالْقَتْل. (المغني).
(ويجوز الظهار مطلقاً، أو مؤقتاً بوقت كرمضان ونحوه).
أي: أن الظهار يكون مطلقاً ويكون مؤقتاً.
المؤقت: كأن يقول: أنتِ علي كظهر أمي شهر رمضان.
المطلق: الذي لم يؤقت، كأن يقول: أنتِ علي كظهر أمي.
ويكون أيضاً: منجّزاً ويكون معلقاً:
المنجّز: كأن يقول لزوجته: أنتِ علي كظهر أمي.
المعلق: إن فعلت كذا فأنتِ علي كظهر أمي.
فإذا قال: أنتِ علي كظهر أمي شهر رمضان، فهذا ظهار مؤقت، فإذا انتهى رمضان زال حكمه.
كتاب اللعان
تعريفه:
هو مشتق من اللعن، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً.
واصطلاحاً: هو شهادات مؤكدات من الجانبين مقرونة بلعن من الزوج وغضب من الزوجة.
قال ابن حجر: هو مأخوذ من اللعن، لأن الملاعن يقول لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، واختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية لأنه قول الرجل وهو الذي بدئ به في الآية، وهو أيضاً يبدأ به وله أن يرجع عنه فيسقط عن المرأة بغير عكس، وقيل سمي لعاناً لأن اللعن الطرد والابعاد وهو مشترك بينهما، وإنما خصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها لأن الرجل إذا كان كاذباً لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم، لما فيه من تلويث الفراش والتعرض لالحاق من ليس من الزوج به.
• وسببه أن يقذف الرجل زوجته بالزنا.
سواء قذفها بمعين كقوله: زنى بك فلان، أو بغير معين كقوله: يا زانية.
(وأما اللعان: فإذا رمى الرجل زوجته بالزنى فعليه حد القذف ثمانون جلدة إلا أن يقيم البينة: أربعة شهود فيقام عليها الحد، أو يلاعن فيسقط عنه حد القذف).
الاصل أن من قذف شخصاً بالزنا أن يأتي ببينة وإلا جلد ثمانين جلدة.
لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
واللعان خارج عن هذا الأصل، لأن الزوج لا يمكن أن يقذف زوجته إلا وهو متأكد من ذلك، ولأنه لا يمكن أن يدنس فراشه.
فمن قذف زوجته بالزنا فله أحوال:
الأولى: أن يأتي ببينة - وهي أربعة شهود على صحة دعواه - لحديث ابن عباس الآتي (أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّنَةَ، أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) فإذا أقام البينة أقيم على المرأة حد الزنا.
الثانية: ألا يكون هناك بيّنة، ولكن تقر هي بذلك، فيقام عليها حد الزنا.
الثالثة: أن لا يكون بيّنة ولا إقرار، فيقام عليه حد القذف، لعموم آية القذف (والذين يرمون المحصنات
…
) ولحديث ابن عباس المتقدم، إلا أن يُسقط حد القذف باللعان.
فإذا لا عن ولا عنت ثبت اللعان وله أحكام ستأتي إن شاء الله.
-فإن نكل الزوج عن اللعان فعليه حد القذف.
لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
قال ابن قدامة: إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْمُحْصَنَةَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَحُكِمَ بِفِسْقِهِ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ يُلَاعِنَ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ اللِّعَانِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
أ-لقَوْلُه تعالى (وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) وَهَذَا عَامٌّ فِي الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الزَّوْجَ بِأَنْ أَقَامَ لِعَانَهُ مَقَامَ الشَّهَادَةِ، فِي نَفْيِ الْحَدِّ وَالْفِسْقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ عَنْهُ.
ب-وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك).
ج-وَقَوْلُهُ لَمَّا لَاعَنَ (عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ).
د- وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَلَزِمَهُ إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ الْمَشْرُوعَةِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. (المغني).
- فإذا نكلت الزوجة فإنه يقام عليها حد الزنا.
لأن الملاعنة بمنزلة البينة، وقد قال الله تعالى (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) والعذاب هو الحد.
- والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة.
قال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّنَةَ، أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الْبَيِّنَةَ وَإِلاَّ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَالَ هِلَالٌ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ ثُمَّ قَالَتْ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهْوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ) رواه البخاري.
- فإذا رمى الرجل زوجته بالزنا ولم تقر هي بذلك، ولم يرجع هو عن رميه فقد شرع الله لهما اللعان.
فائدة:
سبب نزول آيات الملاعنة:
لنزول هذه الآية سببان:
الأول: الحديث السابق (أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّنَةَ، أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ
…
).
الثاني: عن سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِىَّ (أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأَنْصَارِىِّ فَقَالَ لَهُ أَرَأَيْتَ يَا عَاصِمُ لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَسَلْ لِى عَنْ ذَلِكَ يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ لَمْ تَأْتِنِى بِخَيْرٍ قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِى سَأَلْتُهُ عَنْهَا. قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِى حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا. فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِى صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا». قَالَ سَهْلٌ فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ). متفق عليه
قال النووي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي نُزُول آيَة اللِّعَان هَلْ هُوَ بِسَبَبِ عُوَيْمِر الْعَجْلَانِيّ أَمْ بِسَبَبِ هِلَال بْن أُمَيَّة؟
فَقَالَ بَعْضهمْ: بِسَبَبِ عُوَيْمِر الْعَجْلَانِيّ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيث الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الْبَاب أَوَّلًا لِعُوَيْمِر: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّه فِيك وَفِي صَاحِبَتك).
وَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء: سَبَب نُزُولهَا قِصَّة هِلَال بْن أُمَيَّة. وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا فِي قِصَّة هِلَال قَالَ: وَكَانَ أَوَّل رَجُل لَاعَنَ فِي الْإِسْلَام.
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ مِنْ أَصْحَابنَا فِي كِتَابه الْحَاوِي: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: قِصَّة هِلَال بْن أُمَيَّة أَسْبَق مِنْ قِصَّة الْعَجْلَانِيّ. قَالَ: وَالنَّقْل فِيهِمَا مُشْتَبَه وَمُخْتَلِف. وَقَالَ اِبْن الصَّبَّاغ مِنْ أَصْحَابنَا فِي كِتَابه الشَّامِل فِي قِصَّة هِلَال: تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِيهِ أَوَّلًا، قَالَ: وَأَمَّا قَوْله صلى الله عليه وسلم لِعُوَيْمِر (إِنَّ اللَّه قَدْ أَنْزَلَ فِيك وَفِي صَاحِبَتك) فَمَعْنَاهُ مَا نَزَلَ فِي قِصَّة هِلَال لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْم عَامّ لِجَمِيعِ النَّاس. قُلْت: وَيُحْتَمَل أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمَا جَمِيعًا فَلَعَلَّهُمَا سَأَلَا فِي وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ فَنَزَلَتْ الْآيَة فِيهِمَا وَسَبَقَ هِلَال اللِّعَان فَيَصْدُق أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذَا وَفِي ذَاكَ وَأَنَّ هِلَالًا أَوَّل مَنْ لَاعَنَ وَاَللَّه أَعْلَم. (نووي).
وقال ابن حجر: وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع:
فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر.
ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال.
ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضاً فنزلت في شأنهما معاً في وقت واحد وقد جنح النووي إلى هذا وسبقه الخطيب فقال لعلهما اتفق كونهما جائى في وقت واحد. (الفتح).
قوله (فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا)
قال النووي: الْمُرَاد كَرَاهَة الْمَسَائِل الَّتِي لَا يُحْتَاج إِلَيْهَا لَا سِيَّمَا مَا كَانَ فِيهِ هَتْك سِتْر مُسْلِم أَوْ مُسْلِمَة أَوْ إِشَاعَة فَاحِشَة أَوْ شَنَاعَة عَلَى مُسْلِم أَوْ مُسْلِمَة قَالَ الْعُلَمَاء: أَمَّا إِذَا كَانَتْ الْمَسَائِل مِمَّا يُحْتَاج إِلَيْهِ فِي أُمُور الدِّين وَقَدْ وَقَعَ فَلَا كَرَاهَة فِيهَا وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَاد فِي الْحَدِيث. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ الْأَحْكَام الْوَاقِعَة فَيُجِيبهُمْ وَلَا يَكْرَههَا، وَإِنَّمَا كَانَ سُؤَال عَاصِم فِي هَذَا الْحَدِيث عَنْ قِصَّة لَمْ تَقَع بَعْد وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا، وَفِيهَا شَنَاعَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات، وَتَسْلِيط الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ وَنَحْوهمْ عَلَى الْكَلَام فِي أَعْرَاض الْمُسْلِمِينَ وَفِي الْإِسْلَام، وَلِأَنَّ مِنْ الْمَسَائِل مَا يَقْتَضِي جَوَابه تَضْيِيقًا وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: أَعْظَم النَّاس حَرْبًا مَنْ سَأَلَ عَمَّا يُحْرَم فَحُرِمَ مِنْ أَجْل مَسْأَلَته.
(يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ).
هذا الشرط الأول: يعني بين زوج وزوجته.
لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ. . .).
قال ابن قدامة: لَا لِعَانَ بَيْنَ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً مُحْصَنَةً، حُدَّ وَلَمْ يُلَاعَنْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً عُزِّرَ، وَلَا لِعَانَ أَيْضًا، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا.
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
ثُمَّ خَصَّ الزَّوْجَاتِ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى (وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) فَفِيمَا عَدَاهُنَّ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ.
وقال رحمه الله: ولا فرق بين كون الزوجة مدخولاً بها، أو غير مدخول بها، في أنه يلاعنها.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار؛ منهم عطاء، والحسن، والشعبي، والنخعي، وعمرو بن دينار، وقتادة، ومالك، وأهل المدينة، والثوري، وأهل العراق، والشافعي، بظاهر قول الله تعالى:(والذين يرمون أزواجهم).
(وَمَنْ عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يَصِحَّ لِعَانُهُ بِغَيْرِهَا).
هذا الشرط الثاني: أن يكون باللغة العربية إن كان يحسن العربية.
قال ابن قدامة: وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ يَعْرِفَانِ الْعَرَبِيَّةَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَعِنَا بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَا لَا يُحْسِنَانِ ذَلِكَ، جَازَ لَهُمَا الِالْتِعَانُ بِلِسَانِهِمَا؛ لِمَوْضِعِ الْحَاجَة. (المغني).
(وأن يقذِفَ زوجتَه بالزنا).
هذا الشرط الثالث: أن يقذف الزوج زوجته بالزنا.
فلو قال أتيت بشبهة، أو قبّلك فلان، فإن اللعان لا يثبت، لأن هذا لا يثبت به حد القذف.
(وأن يبدأ الزوج باللعان).
هذا الشرط الرابع: أن يبدأ الزوج قبل الزوجة، فإن بدأت به هي لم يصح.
أ-لقوله تعالى (
…
فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ).
ب- وفي الحديث السابق ( .. فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ .. ).
ج-لأن لعان الرجل بينة لإثبات زناها، ولعان المرأة للإنكار، فقدمت بينة الإثبات كتقديم الشهود على الأيمان.
د- ولأن لعان المرأة لدرء العذاب عنها ولا يتوجه عليها ذلك إلا بلعان الرجل.
(وصفة العان: على ما ذكره الله في سورة النور (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ. وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ). فيشهد خمس شهادات بالله إنها لزانية، ويقول الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد هي خمس مرات بالله إنه لمن الكاذبين، وتقول في الخامسة: وأن
غضب الله عليها إن كان من الصادقين).
هذا صفة اللعان:
قال في المغني: وَصِفَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالزَّوْجِ، فَيُقِيمُهُ: وَيَقُولُ لَهُ: قُلْ أَرْبَعَ مَرَّات: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنْ الزِّنَا، وَيُشِيرُ إلَيْهَا إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ الْحُضُورِ وَالْإِشَارَةِ إلَى نَسَبِهِ وَتَسْمِيَتِهِ، كَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً أَسْمَاهَا وَنَسَبَهَا، فَقَالَ: امْرَأَتِي فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهَا حَتَّى يَنْفِي الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرهَا، فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَقَفَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُ رَجُلًا فَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، حَتَّى لَا يُبَادِرَ بِالْخَامِسَةِ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرَّجُلَ، فَيُرْسِلُ يَدَهُ عَنْ فِيهِ، فَإِنْ رَآهُ يَمْضِي فِي ذَلِكَ، قَالَ لَهُ: قُلْ: وَإِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنْ الزِّنَا.
ثُمَّ يَأْمُرُ الْمَرْأَةَ بِالْقِيَامِ، وَيَقُولُ لَهَا قُولِي: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ زَوْجِي هَذَا لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا.
وَتُشِيرُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَسْمَتْهُ وَنَسَبَتْهُ، فَإِذَا كَرَّرَتْ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَقَفَهَا، وَوَعَظَهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَيَأْمُرُ امْرَأَةً فَتَضَعُ يَدَهَا عَلَى فِيهَا، فَإِنْ رَآهَا تَمْضِي عَلَى ذَلِكَ، قَالَ لَهَا: قُولِي: وَإِنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كَانَ زَوْجِي هَذَا مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا. (المغني)
فائدة: 1
الحكمة في كونها أربع شهادات: لأنها في مقابل أربعة شهود.
فائدة: 2
الحكمة من ذكر الغضب في المرأة: لأنه اشد من اللعن، إذ اللعن أثر من آثار الغضب، لأن الرجل كما تقدم تدل القرائن في الغالب أنه لا يرم زوجته وهو كاذب، فجعل في جانبه اللعن لأنه أخف بخلاف المرأة، ولهذا غلظ عليها.
فائدة: 3
لا بد من حضور اللعان الحاكم أو نائبه.
لحديث سهل بن سعد وفيه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فأت بها فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ).
(فإذا تم اللعان).
أي: إذا تم اللعان بين الزوجين على الصفة المذكورة فيما سبق، فإنه يترتب عليه ما يلي:
(سقط عنه الحد).
أي: فيسقط عن الزوج الحد - وهو حد القذف - إذا كانت الزوجة محصنة (يعني عفيفة) والتعزير إن كانت غير محصنة.
فائدة:
فإن أكذبَ نفسه فعليه الحد.
قال ابن قدامة: أن الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَلَهَا عَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكْذَبَهَا قَبْلَ لِعَانِهَا أَوْ بَعْدَهُ.
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا.
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللِّعَانَ أُقِيمَ مُقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، فَإِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَانَ أَنَّ لِعَانَهَا كَذِبٌ، وَزِيَادَةٌ فِي هَتْكِهَا، وَتَكْرَارٌ لِقَذْفِهَا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا بِالْقَذْفِ الْمُجَرَّدِ. (المغني).
(واندرأ عنها العذاب).
أي: ومما يترتب على اللعان أيضاً: أنه يدرأ عن الزوجة العذاب وهو الحد.
لقوله تعالى (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ).
يدرأ: أي يدفع. العذاب: المراد به هنا الحد.
(وحصلت الفرقة بينهما والتحريم المؤبد).
أي: ومما يترتب على اللعان أن الفرقة بينهما تكون فرقة مؤبدة.
أ-عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرّق بين رجل وامرأة قذفها وأحلفهما) متفق عليه.
ب-وعنه قال (لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأة من الأنصار وفرق بينهما) متفق عليه.
ج- وعن علي وابن مسعود قالا (مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبداً) أخرجه البيهقي.
ج- ولأنه وقع بينهما من التباغض والتقاطع ما أوجب القطيعة بينهما بصفة دائمة.
فائدة: 1
لا تحل له ولو أكذب الرجل نفسه.
قال ابن قدامة: أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِاللِّعَانِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ.
وَأَمَّا إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَاَلَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ أَيْضًا.
وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا.
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ.
فائدة: 2
اختلف العلماء متى يقع التفريق، هل بمجرد قذف الرجل لامرأته؟ أم بعد حلفه وشهادته؟ أم بعد ملاعنتهما معاً؟
الجمهور على أن التفريق يقع بعد ملاعنتهما معاً للأحاديث السابقة.
وقال الشافعي: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة، والأول أصح.
قال ابن قدامة: قالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ تَلْتَعِنْ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَاصِلَةٌ بِالْقَوْلِ، فَتَحْصُلُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، كَالطَّلَاقِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ الشَّافِعِيَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. (المغني).
فائدة: 3
اختلف العلماء في اللعان هل هو في حد ذاته تفريق؟ أم يلزم حكم الحاكم (القاضي)؟
ذهب فريق من أهل العلم -كالإمام مالك وأهل الظاهر- إلى أن اللعان في حد ذاته موجب للفرقة، وهو قول الجمهور كما نقله النووي عنه.
لحديث سهل. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ذاكم التفريق بين كل متلاعنين) رواه مسلم.
بينما ذهب آخرون من أهل العلم كأبي حنيفة إلى أنه يلزم قضاء القاضي.
لحديث ابن عمر وفيه (ثم فرّق بينهما).
(وانتفى الولد إذا ذكر في اللعان).
أي: ومما يترتب على اللعان انتفاء الولد، وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين:
فقيل: أن الولد ينتفي بمجرد اللعان.
ويكون انتفاء الولد تبعاً للعان.
واختاره ابن عثيمين.
وقيل: لابد أن ينفيه، فإن لم ينفيه فالولد له.
واستدلوا بحديث (الولد للفراش) وهذا ولد على فراشه له.
(واَلْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ اَلْحَجَرُ).
هذا لفظ حديث صحيح.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ. قال صلى الله عليه وسلم (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) متفق عليه.
(اَلْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) فراش الزوجية إذا كانت زوجة، وفراش التسري إذا كانت أمة، والمعني: أن الولد تابع له ومحكوم له به. (وَلِلْعَاهِرِ) أي الزاني.
(اَلْحَجَر) أي: للزاني الخيبة والحرمان، ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدعيه، وجرت العرب أن تقول لمن خاب: له الحجر، وبفيه الحجر والتراب. وقيل: المراد بالحجر هنا أنه يرجم، لكنه قول ضعيف.
ويؤيد الأول ما أخرجه أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وفي فم العاهر الحَجَر).
فهذا الحديث دليل: أن الولد يحكم بأنه للفراش إذا أمكن اللحاق به.
أ- لقوله (اَلْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ اَلْحَجَرُ).
ب- ولحديث عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ (قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانًا ابْنِي عَاهَرْتُ بِأُمِّهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا دَعْوَةَ فِي الإِسْلَامِ، ذَهَبَ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر) رواه أبو داود وحسنه ابن حجر.
قال ابن قدامة: أن المرأة إذا كانت فراشاً، أي متزوجة، وأتت بولد بعد ستة أشهر من زواجها، فإنه ينسب إلى الزوج، ولا ينتفي عنه إلا بملاعنته لزوجته. ولو ادعى رجل أنه زنى بالمرأة وأن هذا ابنه من الزنا، لم يلتفت إليه بالإجماع، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر.
وقال: وأجمعوا على أنه إذا ولد على فراش رجل، فادعاه آخر. أنه لا يلحقه، وإنما الخلاف فيما إذا ولد على غير فراش.
وهذا هو الأصل حفظاً للأنساب من الضياع فلو أن رجلاً غاب عن زوجته فولدت فالولد لاحق به مالم ينفه باللعان. (المغني).
- مثال لا يمكن اللحاق به: كأن يتزوج شخص امرأة وولدت غلاماً بعد ثلاثة أشهر، فهذا لا يمكن أن يكون من هذا الزوج، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر.
قال النووي: قوله (الولد للفراش) معناه أنه إذا كان للرجل زوجة أو مملوكة، صارت فراشاً له، فأتت بولد لمدة الإمكان منه لحقه الولد وصار ولداً يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة، سواء كان موافقاً له في الشبه أو مخالفاً ومدة إمكان كونه منه ستة أشهر من حين اجتماعهما.
فائدة: 1
متى تكون الزوجة فراشاً؟
اختلف العلماء متى تكون الزوجة فراشاً؟ على قولين:
القول الأول: بمجرد العقد تكون فراشاً، ويلحق الولد بالزوج.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش
…
).
القول الثاني: تصير فراشاً بالعقد مع إمكان الوطء.
وهذا قول الشافعي وأحمد.
القول الثالث: لا تصير فراشاً حتى يتحقق اجتماعه معها مع الوطء.
وهذا اختيار ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم.
أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش).
وجه الدلالة: أهل العرف واللغة لا يعدون المرأة فراشاً قبل الدخول بها.
ب-أنه لم يعهد في الشريعة أن تأتي بإلحاق نسب بمن لم يبن بامرأته ولم يدخل بها.
وهو الصحيح، لأن الفراش لا يتحقق إلا بالمجامعة.
وعلى القول الأول: لو عقد على امرأة وهو في أقصى المغرب، وهي في أقصى المشرق، ثم ولدت له بعد العقد بنصف سنة، فإن الولد يلحق به وإن لم يسافر إليها. [لكن هذا القول ضعيف].
فائدة: 2
اختلف العلماء: لو زنى رجل بامرأة وجاءت بولد فادعاه الزاني، فهل يلحق به؟ على قولين:
القول الأول: أنه لا ينسب إليه. وهذا قول جمهور العلماء.
قال ابن قدامة: وولد الزنى لا يلحق الزاني في قول الجمهور.
وبناء على هذا القول: فإن ولد الزنا - ذكراً كان أو أنثى - لا ينسب إلى الزاني، ولا يقال إنه ولده، وإنما ينسب إلى أمه، وهو محرَم لها، ويرثها كبقية أبنائها.
أ- لقوله (. . . وَلِلْعَاهِرِ اَلْحَجَرُ).
بيّن صلى الله عليه وسلم أنه ليس للزاني إلا الحجر، وذلك بفوات نسب المولود له، فلا ينسب ولد الزنى بالزاني.
ب-لحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَضَى النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا، أَوْ مِنْ حُرَّةٍ عَاهَرَ بِهَا فَإِنَّهُ لا يَلْحَقُ بِهِ وَلا يَرِثُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُدْعَى لَهُ هُوَ ادَّعَاهُ فَهُوَ وَلَدُ زِنْيَةٍ مِنْ حُرَّةٍ كَانَ أَوْ أَمَةٍ.
فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن ولد الزنى لا يلحق بالزاني ولا يرثه، حتى لو ادعاه الزاني.
القول الثاني: أنه ينسب إليه.
وهذا نقل عن الحسن وابن سيرين وعروة والنخعي وإسحاق وسليمان بن يسار، أنه ينسب إليه.
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقال ابن مفلح رحمه الله: واختار شيخنا [ابن تيمية] أنه إن استلحق ولده من زنا ولا فراش لحقه اهـ.
وقال المرداوي: وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله: إنْ اسْتَلْحَقَ وَلَدَهُ من الزنى وَلَا فِرَاشَ: لَحِقَهُ.
قال ابن القيم: كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ مِنَ الزِّنَى إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشٍ يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ، وَادَّعَاهُ الزَّانِي: أُلْحِقَ بِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، رَوَاهُ عَنْهُ إسحاق بِإِسْنَادِهِ فِي رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا، فَادَّعَى وَلَدَهَا فَقَالَ: يُجْلَدُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَد، وَهَذَا مَذْهَبُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَار.
…
(زاد المعاد).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الجمهور على أنه عام، وأنه لا حق للزاني في الولد الذي خلق من مائه، وذهب بعض العلماء إلى أن هذا خاص في المخاصمة، يعني إذا تخاصم الزاني وصاحب الفراش قضينا به لصاحب الفراش، أما إذا كان لا منازع للزاني، واستلحقه فله ذلك ويلحق به، وهذا القول هو الراجح المناسب للعقل، وكذلك للشرع عند التأمل. (الشرح الممتع)
وقال: حديث (الولد للفراش وللعاهر الحجر) يدل أن هناك رجلين، زان وصاحب فراش كل واحد منهما يدعي أن الولد له، صاحب الفراش يقول: هذا ولدي ولد على فراشي، والزاني يقول: هذا ولدي خلق من مائي، فهنا نغلب جانب الشرع كما قال النبي عليه السلام:(الولد للفراش وللعاهر الحجر) أما إذا كان الزاني لا ينازعه أحد في ذلك، يعني: زنا بامرأة بكر -مثلاً- أو امرأة ليس لها زوج ولم يدّعِ أحدٌ هذا الولد وقال الزاني: إنه ولدي فهو له. (الباب المفتوح).
أدلة هذا القول:
أ- إن في إلحاق ولد الزنى بالزاني إذا لم يكن ثمّ فراش فيه حفظ لنسب الولد من الضياع، حتى لا يصيبه الضرر والعار بسبب جريمة لم يرتكبها.
ب- قوله صلى الله عليه وسلم (اَلْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ اَلْحَجَرُ).
قالوا: إن نص الحديث يثبت النسب بسبب الفراش، فإذا ولد للزاني ولا فراش يعارضه أصلاً لم يتناوله الحديث.
وقال شيخ الإسلام: وأيضاً ففي استلحاق الزاني ولده إذا لم تكن المرأة فراشاً قولان لأهل العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، فجعل الولد للفراش; دون العاهر. فإذا لم تكن المرأة فراشاً لم يتناوله الحديث، وعمر ألحق أولاداً ولدوا في الجاهلية بآبائهم، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة.
ج- يشهد لما سبق من جواز الإلحاق ما جاء في قصة جريج العابد، لما قال للغلام الذي زنت أمه بالراعي: (قالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ، قَالَ: الرَّاعِي
…
) متفق عليه.
فكلام الصبي كان على وجه الكرامة وخرق العادة من الله، وقد أخبر أن الراعي أبوه، مع أن العلاقة علاقة زنى؛ فدل على إثبات الأبوة للزاني.
قال ابن القيم: وَهَذَا إِنْطَاقٌ مِنَ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَذِب.
وقال القرطبي: النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني، وصدَّق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فثبتت البنوة وأحكامها. (التفسير).
وقال الشيخ ابن عثيمين: واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن ولد الزنى يلحق الزاني؛ لأن جريجاً قال: من أبوك؟ قال: أبي فلان الراعي، وقد قصها النبي صلى الله عليه وسلم علينا للعبرة، فإذا لم ينازع الزاني في الولد واستلحق الولد فإنه يلحقه، وإلى هذا ذهب طائفة يسيرة من أهل العلم. (ش رياض الصالحين).
د- القياس.
قال ابن القيم: الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ الْأَبَ أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ، وَهُوَ إِذَا كَانَ يُلْحَقُ بِأُمِّهِ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهَا، وَتَرِثُهُ وَيَرِثُهَا، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِ أُمِّهِ مَعَ كَوْنِهَا زَنَتْ بِهِ، وَقَدْ وُجِدَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ الزَّانِيَيْنِ، وَقَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُمَا، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ لُحُوقِهِ بِالْأَبِ إِذَا لَمْ يَدِّعِهِ غَيْرُهُ؟ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاس. (زاد المعاد).
هـ- أن الشارع يتشوف لحفظ الأنساب ورعاية الأولاد، والقيام عليهم بحسن التربية والإعداد، وحمايتهم من التشرد والضياع.
- وفي نسبة ولد الزنا إلى أبيه تحقيق لهذه المصلحة، خصوصًا أن الولد لا ذنب له، ولا جناية حصلت منه، ولو نشأ من دون أب ينسب إليه ويعني بتربيته والإنفاق عليه لأدى ذلك في الغالب إلى تشرده وضياعه وانحرافه وفساده، وربما نشأ حاقدًا على مجتمعه، مؤذيًا له بأنواع الإجرام والعدوان. ينظر:"فقه الأسرة عند ابن تيمية"(2/ 759). والله أعلم.
الخلاصة:
أولاً: أن تكون المرأة المزني بها ذات فراش، أي متزوجة، وأتت بولد بعد ستة أشهر من زواجها، ففي هذه الحال ينسب الولد إلى الزوج، ولا ينتفي عنه إلا بملاعنته لزوجته.
ولو ادعى رجل آخر أنه زنى بهذه المرأة وأن هذا ابنه من الزنا، لم يلتفت إليه بالإجماع، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ).
قال ابن قدامة: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا وُلِدَ عَلَى فِرَاشٍ رَجُلٍ، فَادَّعَاهُ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ.
ثانياً: أن لا تكون المرأة ذات فراش، ولا يستلحقه الزاني به، ولا ادَّعي أنه ابنه من الزنا، ففي هذه الحال لا يُلحق به أيضاً قولاً واحداً.
فلم يقل أحد من أهل العلم بإلحاق ولد الزنا بالزاني من غير أن يدعيه الزاني.
وقد أشار الماوردي في "الحاوي الكبير (8/ 455) " إلى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالزِّنَا.
ثالثاً: إذا لم تكن المرأة فراشاً لأحد، وأراد الزاني استلحاق هذا الولد به.
فهذه الصورة محل الخلاف بين العلماء.
قال ابن قدامة: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وُلِدَ عَلَى غَيْرِ فِرَاش.
كتاب العدد
(العدة تربص من فارقَها زوجها بموتٍ أو طلاق).
هذا تعريف العدة.
هي: تربص محدود شرعاً بسبب فرقة نكاح وما ألحق به، والمراد بالتربص الانتظار.
قوله (محدود شرعاً) أي: أن هذا التربص محدد من قبل الشرع، إما ثلاث حيض، وإما وضع الحمل، وإما ثلاثة أشهر ونحو ذلك.
قوله (بسبب فرقة نكاح) كما لو طلق الرجل زوجته.
قوله (وما ألحق به) كوطء الشبهة، فإنه على المذهب تجب فيه العدة.
(وهي واجبة).
أي: أن العدة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.
أ-قال تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قال العلماء: هذا خبر بمعنى الأمر.
ب- وقال تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) هذا بالنسبة للمفارقة في الحياة.
ج- وأما بالنسبة للمفارقة للوفاة:
فقد قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).
د- وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم) متفق عليه.
وأجمعت الأمة على وجوب العدة في الجملة.
فائدة: 1
الحكمة من العدة عدة أمور:
أ-استبراء رحم المرأة من الحمل لئلا يحصل اختلاط الأنساب.
ب - وكذلك إتاحة الفرصة للزوج المطلق ليراجع إذا ندم وكان الطلاق رجعياً.
ج-وتعظيم عقد النكاح وأن له حرمة.
د- تعظيم حق الزوج وخطره.
(فالمفارقة بالموت إذا مات عنها تعتد على كل حال، مدخولاً بها أو غير مدخول بها).
أي: أن المرأة إذا مات عنها زوجها فإنه يجب عليها العدة على كل حال، أي مدخولاً بها أو غير مدخول بها.
لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).
والرجل إذا عقد على المرأة فإنها تعتبر زوجة.
مثال: رجل عقد على امرأة ولم يدخل بها، ثم مات عنها، فإنه يجب عليها العدة.
(فإن كانت حاملاً فعدتها وضع جميع ما في بطنها).
أي: إذا مات عنها زوجها وهي حامل فعدتها وضع جميع حملها.
أ- لقوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
ب- ولحديث سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ (أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً - فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ حَامِلٌ. فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا: تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ - فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاك مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّينَ لِلنِّكَاحِ، وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ
سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ: جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إنْ بَدَا لِي) متفق عليه.
وفي رواية للبخاري (فوضعت بعد موته بأربعين ليلة) متفق عليه.
عن أُم سَلَمَةَ قَالَتْ (إِنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ وَإِنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ). متفق عليه
(نُفست: أي ولدت).
عن الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ (أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ). رواه البخاري
قال النووي: أَخَذَ بِهَذَا جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف فَقَالُوا: عِدَّة الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِوَضْعِ الْحَمْل، حَتَّى لَوْ وَضَعَتْ بَعْد مَوْت زَوْجهَا بِلَحْظَةٍ قَبْل غَسْله اِنْقَضَتْ عِدَّتهَا وَحَلَّتْ فِي الْحَال لِلْأَزْوَاجِ. هَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد.
وقال الحافظ ابن حجر: قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار، أن الحامل إذا مات عنها زوجها تحل بوضع الحمل وتنقضي عدة الوفاة.
قال النووي: وهو مخصوص، لعموم قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)، ومبين أن قوله تعالى:(وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) عام في المطلقة المتوفى عنها، وأنه على عمومه.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها تعتد بأقصى الأجلين، وهو قول ابن عباس وجماعة.
قال الحافظ: ومعناه أنها إن وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر، تربصت إلى انقضائها ولا تحل بمجرد الوضع، وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع.
مثال على هذا القول: رجل مات وزوجته حامل في الشهر الأول: عدتها: وضع الحمل.
مات عنها وهي في الشهر السابع، فعدتها - على هذا القول - أربعة أشهر وعشراً.
والراجح القول الأول وهو قول الجمهور.
فائدة: 1
ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز لها أن تنكح ولو لم تطهر من دم النفاس.
لدلالة ألفاظ الحديث عليه. ففي رواية: (فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي).
وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى (يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ) فعلق الحل بحين الوضع وقصره عليه، ولم يقل إذا طهرت، ولا إذا انقطع دمك.
لكن لا يطؤها زوجها حتى تطهر من نفاسها وتغتسل.
قَالَ اَلزُّهْرِيُّ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَزَوَّجَ وَهِيَ فِي دَمِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حتَّى تَطْهُرَ.
وذهب بعض العلماء إلى أنها لا تنكح حتى تطهر، لقوله في الحديث:(فلما تعلت من نفاسها) ومعناه: طهرت.
والراجح قول الجمهور.
وأما الجواب عن فعلها: (فلما تعلت من نفاسها):
قال النووي: هذا إخبار عن وقت سؤالها، ولا حجة فيه، وإنما الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنها حلت حين وضعت، ولم يعلل بالطهر من النفاس.
وقال القرطبي: وقول ابن شهاب: فلا باس أن تتزوَّج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر؛ هذا مذهب الجمهور.
(ولو كانتْ حاملاً بتَوْأَمين لم تَنقضِ عِدتُها حتى تضَعَ الثاني منهما).
وهذا باتفاق أهل العلم، أنه لا تنقضي عدتها حتى تضع الثاني منهما.
وإذا كان في بطنها ثلاثة أولاد، وخرج الأول، فلا تنتهي العدة، ثم وضعت الثاني، فلا تنتهي العدة، فلا تنتهي حتى تضع جميع ما في بطنها.
وهذا أيضاً يشمل الطفل الواحد، فلو خرج بعضه فإنه لا تنتهي العدة حتى يخرج كله.
أ- لأن الحمل اسم لجميع ما في الرحم.
ب- ولأن العدة إنما شرعت لمعرفة براءة الرحم من الحمل، فإذا علم وجود الولد الثاني فقد تُيقن وجود الموجب للعدة وانتفت البراءة الموجبة لانقضائها.
فائدة:
الحمل الذي تنقضي به العدة:
أن تضع ما يتبين فيه خلق إنسان، بأن تتبين مفاصله ويداه ورجلاه ورأسه ولا عبرة بالخطوط، فإذا تميز بأن عرف رأسه وبانت رجلاه ويداه ووضعت فحينئذ تنقضي العدة.
والمدة التي يتبين فيها خلق إنسان: لا يتبين إلا بعد 81 يوماً. وقبل ذلك لا يمكن، وبعد (90) متيقن، وقبل (80) لا يمكن.
مثال: امرأة مات عنها زوجها وهي حامل ووضعت من شهرين: فلا تنتهي عدتها، لأنه في شهرين لا يتبين فيه خلق إنسان، وتعتد بأربعة أشهر وعشراً.
مثال آخر: امرأة مات عنها زوجها وهي حامل، فوضعت من ثلاثة أشهر، فهنا تنقضي عدتها، لأنه في هذه المدة يتبين فيه خلق إنسان.
(وإن لم تكن حاملاً فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام إن كانت حرة).
أي: إذا كانت المرأة المتوفى عنها زوجها غير حامل فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام (سواء كان مدخولاً بها أم غير مدخول بها).
أ- لقوله تعالى (والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا).
ب- عن زيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قالت: قال صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) متفق عليه.
قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن عدة المرأة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، مدخولاً بها أو غير مدخول بها. (المغني).
والدليل على أن غير المدخول بها يشملها هذا الحكم:
عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ اِمْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ اِبْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا اَلْعِدَّةُ، وَلَهَا اَلْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ - اِمْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بِهَا اِبْنُ مَسْعُودٍ) رواه أبوداود.
وقد سبق أن هذا الحديث يدل على ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: وجوب العدة على المرأة المتوفى عنها زوجها ولو قبل الدخول.
المسألة الثانية: أن المرأة التي مات عنها زوجها قبل الدخول عليها العدة.
المسألة الثانية: أن المرأة التي مات عنها زوجها لها الميراث ولو قبل الدخول.
فائدة: 1
عدة الأَمَة نصفها، شهران وخمس ليال، في قول عامة أهل العلم، لإجماع الصحابة على تنصيف عدة الأمَة في الطلاق فكذا عدة الوفاة.
فائدة: 2
اختلف العلماء في المرأة يموت عنها زوجها وهو غائب، أو طلقها وهو غائب، من متى تبدأ العدة؟
فقيل: تعتد من يوم مات زوجها.
وهذا مذهب الجمهور.
وقيل: تعتد من يوم يأتيها الخبر، وستأتي المسألة إن شاء الله قريباً.
فائدة: 3
لو مات زوج الرجعية:
قال في المغني: وإذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً بلا خلاف، لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه، فاعتدت للوفاة كغير المطلقة.
(وأما المفارقة في حال الحياة، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا عدة له عليها).
أي: إذا فارق الرجل زوجته في الحياة بطلاق أو فسخ قبل الخلوة والدخول فلا عدة عليها.
لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا).
قال ابن كثير: هذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها، فتذهب وتتزوج من فورها متى شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضاً.
فائدة: 1
قوله (المؤمنات) خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالإتفاق. [قاله ابن كثير].
فائدة: 2
من المسائل التي نستفيدها من الآية: إباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.
فائدة: 3
استدل بهذه الآية بعض العلماء على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لأن الله تعالى قال (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) فعقب النكاح بالطلاق، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله. [قاله ابن كثير].
وقد سبقت المسألة ومثالها: أن يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، ثم فيما بعد تزوجها، فلا تطلق.
(وإن كان قد دخل بها أو خلا بها، فإن كانت حاملاً فعدتها وضع حملها، قصرت المدة أو طالت).
أي: وعدة الزوجة المدخول بها أو خلا بها زوجها وطلقها زوجها وكانت حاملاً أن تضع حملها.
لعموم قوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن).
[وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ] أي: صاحبات الحمل. [أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن] أي: انقضاء عدتهن بوضع الحمل.
(وإن لم تكن حاملاً، فإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض كاملة).
أي: وإن كانت الزوجة غير حامل وطلقها زوجها وكانت ممن تحيض فعدتها ثلاث حيض كاملة.
لقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي: ثلاث حيض.
[يَتَرَبَّصْنَ] ينتظرن، وهو خبر بمعنى الأمر، فدلت الآية على أن زمن العدة ثلاث حيض.
قال ابن قدامة: إن عدة المطلقة، إذا كانت حرة وهي من ذوات القروء، ثلاثة قروء بلا خلاف بين أهل العلم.
وذلك لقول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء).
…
(المغني).
فائدة: 1
قال ابن قدامة: أَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي تَطْلُقُ فِيهَا، لَا تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا.
بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
أ- لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، فَتَنَاوَلَ ثَلَاثَةً كَامِلَةً، وَاَلَّتِي طَلَّقَ فِيهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهَا مَا تَتِمُّ بِهِ مَعَ اثْنَتَيْنِ ثَلَاثَةٌ كَامِلَةٌ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا.
ب- وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا حُرِّمَ فِي الْحَيْضِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، فَلَوْ احْتَسَبَتْ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ قُرْءًا، كَانَ أَقْصَرَ لِعِدَّتِهَا، وَأَنْفَعَ لَهَا، فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّماً.
فائدة: 2
قال ابن قدامة: فَإِنْ كَانَتْ عَادَةُ الْمَرْأَةِ أَنْ يَتَبَاعَدَ مَا بَيْنَ حَيْضَتَيْهَا، لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَإِنْ طَالَتْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَمْ يَرْتَفِعْ حَيْضُهَا، وَلَمْ تَتَأَخَّرْ عَنْ عَادَتِهَا، فَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، بَاقِيَةٌ عَلَى عَادَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ يَتَبَاعَدْ حَيْضُهَا.
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا مُخَالِفًا.
فائدة: 3
اختلف العلماء في المراء بالقرء في قوله تعالى (ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ) على قولين:
القول الأول: أنه الحيض.
وهو مروي عن الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة والصحيح عند الإمام أحمد وهو مذهب الحنفية.
قال ابن القيم: هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَعُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ وَأَبِي الدّرْدَاءِ وَابْنِ عَبّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنهم وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كُلّهِمْ كَعَلْقَمَةَ وَالْأُسُودِ وَإِبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ وَقَوْلُ الشّعْبِيّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَقَوْلُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبّاسٍ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُوسٍ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَهُوَ قَوْلُ أَئِمّةِ الْحَدِيثِ كَإِسْحَاقِ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله فَإِنّهُ رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بَهْ وَاسْتَقَرّ مَذْهَبُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَذْهَبٌ سِوَاهُ.
وتفسير القروء بالحيض مستقر معلوم مستفيض وأدلتهم في ذلك.
أ-أن الأصل الاعتداد بالحيض، فإن لم يكن فبالأشهر قال تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).
والمبدل -الحيض- هو الذي يشترط عدمه لجواز إقامة البدل -الأشهر- مقامه، والمبدل هو الحيض فكان هو المراد من القرء.
قال ابن قدامة: فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر، فدل ذلك على أن الأصل الحيض، كما قال تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً).
ب-ظاهر النص في قوله تعالى (والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
…
).
أن العدة ثلاثة، فمن جعل معنى القروء الطهر لم يوجب ثلاثة لأنه يحسب لها الطهر الذي طلقت فيه ولو بقي منه جزء يسير، وهذا يخالف ظاهر النص، ومن جعل معناه الحيض فاشترط له ثلاثة كاملة وهذا الموافق للنص.
ج-قوله صلى الله عليه وسلم (دعي الصلاة أيام أقرائك).
والصلاة لا تترك إلا في الحيض، لذلك استعمل لفظ القروء هنا بمعنى الحيض وهو أصل ما تنقضي به العدة، ولفظ القرء لم يستعمل في الشرع إلا للحيض، وحمله في الآية على ذلك متعين.
قال ابن قدامة: ولأن المعهود في لسان الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض، قال النبي صلى الله عليه وسلم (تدع الصلاة أيام أقرائها).
وقال لفاطمة بنت أبي حبيش (انظري، فإذا أتى قرؤك، فلا تصلي، وإذا مر قرؤك، فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء). رواه النسائي
ولم يعهد في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع، فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه. (المغني).
د-قوله صلى الله عليه وسلم (طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان) وفيه تصريح بأن القرؤ هو الحيض، وقد أمرت عائشة رضي الله عنها بريرة أن تعتد ثلاث حيض.
هـ-ما يدل على الاستبراء هو الحيض، والاستبراء من حكم العدة، والطهر بعد الطلاق لا يدل على براءة الرحم فلا يجوز إدخاله في العدة الدالة على البراءة.
القول الثاني: هو الطهر.
قال ابن القيم: وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ. وَيُرْوَى وَالشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ عَنْ الْفُقَهَاءِ السّبْعَةِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَالزّهْرِيّ وَعَامّةِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، والشافعي. (زاد المعاد).
ورجحه ابن حزم، والشنقيطي.
أ-قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ
…
).
أي في وقت عدتهن كقوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي: في يوم القيامة، فدل على أنه وقت العدة.
والطلاق في الحيض محرم، فلزم إيقاعه في الطهر.
ب-أمره صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يراجع ابن عمر زوجته والحديث الوارد في ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مره فليراجعها. ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء).
وهنا قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القرء بالطهر بأن جعله زمان العدة والطلاق؛ لأن الطلاق المأمور به في الطهر فوجب أن يكون الطهر هو العدة دون الحيض.
وفي رواية أخرى (طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: مره فليراجعها، قلت: تحتسب؟ قال: أرأيته إن عجز واستحمق؟).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال (حسبت على تطليقة).
والراجح القول الأول القائل بأن معنى القروء الحيض لا الطهر لذهاب أكابر الصحابة رضوان الله عليهم إليه ومنهم الخلفاء الراشدون، وقد رجحه وصوبه جمع من العلماء.
فائدة: 4
عدة الأمَة حيضتان.
قال ابن قدامة: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: عِدَّةُ الْأَمَةِ بِالْقُرْءِ قُرْءَانِ.
مِنْهُمْ؛ عُمَرُ وَعَلِيُّ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
أ-لقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قُرْءُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ).
ب-وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ.
وَلِأَنَّهُ مَعْنًى ذُو عَدَدٍ، بُنِيَ عَلَى التَّفَاضُلِ، فَلَا تُسَاوِي فِيهِ الْأَمَةُ الْحُرَّةَ، كَالْحَدِّ.
وَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ حَيْضَةً وَنِصْفًا، كَمَا كَانَ حَدُّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرَّةِ، إلَّا أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَكَمَّلَ حَيْضَتَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجْعَلَ الْعِدَّةَ حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْت. (المغني).
(وإن لم تكن تحيض - كالصغيرة، ومن لم تحض، والآيسة - فعدتها ثلاثة أشهر).
عدة بعض النساء اللاتي لا يحضن وهن:
الصغيرة: التي لم يأتها الحيض بعد - أو البالغات اللائي لم يأتهن حيض بالكلية - والآيسة: وهي من أيست من الحيض: ثلاثة أشهر.
قال ابن قدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ (وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ).
فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ، اُعْتُبِرَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).
وَقَالَ سُبْحَانَهُ (إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ).
وَلَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْأَهِلَّةِ.
وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ اعْتَدَّتْ بَقِيَّتَهُ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ تَمَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. (المغني).
فائدة:
وقد اختلف العلماء في سن اليأس:
فبعض العلماء يرى أنه سن الخمسين، وبعضهم: يرى أنه يختلف باختلاف النساء، وليس له سن معين تتفق فيه النساء، لأن اليأس ضد الرجاء، فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض لم ترج رجوعه فهي آيسة، سواء كان لها أربعون أو خمسون أو أقل من ذلك أو أكثر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
(فإن كانت تحيض وارتفع حيضها لرضاع أو نحوه انتظرت حتى يعود الحيض فتعتد به).
أي: فإن كانت مما تحيض لكن ارتفع حيضها بسبب معلوم كرضاع أو مرض أو غيرهما، كدواء يمنع نزول الحيض وقد تناولته، فإنها تبقى في عدتها حتى يعود الحيض فتعتد به وإن طال الزمن.
لأنها مطلقة لم تيأس من الحيض، فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض، أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها تنتظر زوال ما رفع الحيض، كانتهاء الرضاع، أو الشفاء من المرض، فإن عاد الحيض عند زوال ما رفعه اعتدت به، وإلا اعتدت سنة، كالتي ارتفع حيضها ولم تدر سببه.
واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال صاحب الإنصاف: وهو الصواب، وهذا هو اللائق بيسر الإسلام وسهولته، لأن القول الأول فيه مشقة عظيمة وحرج لا تأتي الشريعة بمثله.
(وان ارتفع ولا تدري ما رفعه، انتظرت تسعة أشهر احتياطاً للحمل، ثم اعتدت بثلاثة أشهر عدة آيسة).
أي: من ارتفع حيضها ولا تدري سبب رفعه، فتعتد سنة:
تسعة أشهر للحمل، لأنها غالب مدة الحمل.
وثلاثة أشهر، عدة الآيسة.
لأنه يحتمل أن تكون حاملاً، فتعتد تسعة أشهر لأن هذا غالب الحمل، فإن مكثت تسعة أشهر وتبين أنها غير حامل، فإنها تعتد ثلاثة أشهر وهي عدة الآيسة.
وهذا القول هو الصحيح في هذه المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، فَلَمْ تَرَ الْحَيْضَ فِي عَادَتِهَا، وَلَمْ تَدْرِ مَا رَفَعَهُ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ سَنَةً؛ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ مِنْهَا تَتَرَبَّصُ فِيهَا لِتَعْلَمَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ هِيَ غَالِبُ مُدَّةُ الْحَمْلِ، فَإِذَا لَمْ يَبْنِ الْحَمْلُ فِيهَا، عُلِمَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ظَاهِرًا، فَتَعْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ، ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ.
هَذَا قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا قَضَاءُ عُمَرَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، لَا يُنْكِرُهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ عَلِمْنَاهُ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. (المغني).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: يعني امرأة من ذوات الحيض عمرها ثلاثون سنة، لم تبلغ سن اليأس، ارتفع حيضها، فطلقها زوجها، وهي في هذه الحال، فتعتد سنة، لأن ذلك هو الذي روي عن عمر، وقضى به الصحابة، هذا من حيث الاستدلال بالأثر، أما النظر فلاحتمال أنها حامل تعتد تسعة أشهر، لأن ذلك غالب الحمل، ولاحتمال أنها آيسة تعتد ثلاثة أشهر، لأن عدة الآيسة والتي لم تحض ثلاثة أشهر، فتعتد اثني عشر شهراً من فراق زوجها لها، وهذا من باب الاحتياط.
(وإذا ارتابت بعد انقضاء العدة لظهور أمارات الحمل لم تتزوج حتى تزول الريبة).
أي: لو أن المرأة اعتدت سنة وانتهت، وبعد السنة ظهر عندها ريبة في بطنها مما يشكك وجود حمل، فهنا لا تتزوج حتى تزول الريبة.
وتزول الريبة: إما بظهور الحمل، أو تيقن عدم الحمل، إما بكلام طبيب أو نزول حيض.
(ومن ماتَ زوجُها الغائبُ، أو طلقها اعتدت منذُ الفُرقَةِ).
أي: من مات زوجها - وهي لم تعلم - أو طلقها، فإنها تعتد من الوفاة لا من حين وصلها الخبر.
وهذا القول هو الراجح، وهو قول الجمهور: أنها تعتد من يوم مات زوجها.
لعموم الأدلة.
فلو فرض أنه طلقها، ولم تعلم، وحاضت حيضتين ثم علمت، فإنه يبقى عليها حيضة واحدة، وكذلك إذا مات عنها زوجها، ولم تعلم إلا بعد مضي شهرين، فإنه يبقى عليها شهران وعشرة أيام.
وقيل: تعتد من يوم يأتيها الخبر.
وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز.
لأن العدة اجتناب أشياء وما اجتنبتها.
والراجح قول الجمهور ..
فائدة: 1
امرأة المفقود:
أي: ومن المعتدات امرأة المفقود، وهو من خفي أمره فلم يعلم أحي هو أم ميت؟ لسفر أو أسر ونحوهما.
اختلف العلماء في امرأة المفقود متى تعتد؟
القول الأول: لا تتزوج امرأته حتى يتبين موته أو فراقه لها.
قال ابن حجر في فتح الباري: وجاء عن علي: إذا فقدت المرأة زوجها لم تتزوج حتى يقدم أو يموت. أخرجه أبو عبيد في كتاب النكاح. وقال عبد الرزاق: بلغني عن ابن مسعود أنه وافق علياً في امرأة المفقود أنها تنتظره أبداً.
القول الثاني: من فقد زوجها -بأي صورة تم فقده
- أن ترفع أمرها للحاكم، ثم تنتظر أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، ثم تتزوج -إن شاءت-.
قضى بهذا الخليفتان عمر وعثمان وغيرهم من الصحابة والتابعين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: فإن مذهب الزهري في امرأة المفقود أنها تتربص أربع سنين.
وقد أخرجه عبد الرزاق وسعيد ابن منصور وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عمر، منها لعبد الرزاق من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قضيا بذلك.
وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن عمر وابن عباس قالا: تنتظر امرأة المفقود أربع سنين.
وثبت أيضاً عن عثمان وابن مسعود في رواية وعن جمع من التابعين كالنخعي وعطاء والزهري ومكحول والشعبي.
واتفق أكثرهم على أن التأجيل من يوم ترفع أمرها للحاكم وعلى أنها تعتد عدة الوفاة بعد مضي الأربع سنين واتفقوا أيضاً على أنها إن تزوجت فجاء الزوج الأول خُير بين زوجته وبين الصداق، وقال أكثرهم: إذا اختار الأول (الصداق) غرمه الثاني، ولم يفرق أكثرهم بين أحوال الفقد إلا ما تقدم عن سعيد بن المسيب. (الفتح).
القول الثالث: تنتظر أربع سنين ثم تعتد، وهؤلاء قالوا بالتفصيل:
قالوا: إذا كان ظاهر غيبته الهلاك انتظر به أربع سنين منذ فُقِد، وإن كان ظاهر غيبته السلامة انتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد.
مثال: فمن فقد وعمره (80) سنة، فإن كان غالب سفره الهلاك انتظر أربع سنين، وإن كان غالب سفره السلامة انتظر عشر سنوات.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يرجع في تقدير مدة الانتظار إلى اجتهاد الحاكم، لعدم الدليل على التحديد، لأنه إذا تعذر الوصول إلى اليقين، يُرجع إلى غلبة الظن في كل مسائل الدين، فيجتهد الحاكم في تقدير مدة الانتظار، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والبلدان
والأشخاص واختلاف وسائل البحث.
قال السعدي: وامرأة المفقود تنتظرُ حتى يحكمَ بموتهِ، بحسب اجتهاد الحاكم ثم تعتد.
فإذا حكم الحاكم وقضى بأنه ينتظر سنتين، فبعد مرور السنتين نحكم بموته، وبعد ذلك تعتد المرأة أربعة أشهر وعشراً، وبعد هذه العدة لها أن تتزوج.
فائدة: 2
ما الحكم إن تزوجت امرأة المفقود ثم قدم زوجها الأول؟
إن تزوجت امرأة المفقود بعد خروجها من العدة، ثم قدم زوجها الأول:
الحالة الأولى: إن كان قدومه قبل وطء الثاني فهي للأول. لماذا؟ قالوا: لأنه لما قدم الزوج الأول تبيّن أن نكاح الثاني باطل، لأنه نكاح امرأةٍ ذات زوج، ونكاح المرأة ذات الزوج باطل.
الحالة الثانية: أن يكون قدومه بعد وطء الثاني، فهو يخيّر الزوج الأول، فإن شاء استردها، وإن شاء أبقاها مع الزوج الثاني.
فإن استردها فهل يحتاج إلى تجديد عقد؟ الجواب: لا، لأنها زوجة له.
وإن اختار أن تبقى عند الثاني؟ فهل يحتاج الثاني إلى تجديد عقد؟ الجواب: لا يحتاج إلى تجديد عقد لأن هذا العقد صحيح في حكم الظاهر. وقيل: لابد من تجديد العقد، وهذا أقيس لأنه بقدوم الأول تبين أن نكاح الثاني باطل.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن الزوج الأول له الخيار حتى لو قبل الوطء، فإن اختار أن يأخذها فله ذلك وان اختار أن يتركها مع الثاني فله ذلك.
• بالنسبة لبعد الوطء واختار الزوج الأول أن يأخذها، فإنه لا يطأ حتى تعتد من الثاني.
• وإن اختار أن تبقى مع الثاني؟ المذهب لا يحتاج الثاني لتجديد عقد، وقيل: لابد من تجديد العقد، وهذا أصح.
• بالنسبة للصداق: إذا اختار أن تبقى مع الثاني؟ الزوج الأول يرجع للزوج الثاني، ويرجع بما أعطاها هو.
ويرجع الثاني على الزوجة عند بعض العلماء، وقيل: لا يرجع الثاني على المرأة إلا إذا كان منها غرور بحيث لم تعلمه بأنها امرأة مفقود، أما إذا أعلمته بأنها امرأة مفقود فلا يرجع، لأنه دخل على بينّة وبصيرة.
(ومتى نَكَحَتْ المُعتدةُ فنكاحها باطلٌ ويُفرّق بينَهما).
أي: أن المرأة المعتدة من الغير لا يحل نكاحها حتى تنقضي عدتها، فإن نكحت فنكاحها باطل.
لقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) أي: ولا تعقدوا عقد النكاح حتى تنتهي العدة
والمراد: ببلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدة.
وقد نقل ابن رشد الاتفاق على أن النكاح لا يجوز في العدة.
قال ابن قدامة: المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها، إجماعاً، أي عدة كانت; لقول الله تعالى:(وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) .. وإن تزوجت، فالنكاح باطل.
جاء في (الموسوعة الفقهية) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلأْجْنَبِيِّ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ أَيًّا كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ شُبْهَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَمْ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى. وَذَلِكَ لِحِفْظِ الأْنْسَابِ وَصَوْنِهَا مِنَ الاِخْتِلَاطِ وَمُرَاعَاةً لِحَقِّ الزَّوْجِ الأْوَّل.
- فإذا وقع فإنه يجب التفريق بينها وبين زوجها الثاني، ثم تكمل عدتها من الأول، ثم إذا فرغت من عدة الأول جاز للثاني أن يعقد عليها عقداً جديداً.
قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ فِي عِدَّتِهَا، إجْمَاعًا، أَيَّ عِدَّةٍ كَانَتْ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ).
وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَامْتِزَاجِ الْأَنْسَابِ.
وَإِنْ تَزَوَّجَتْ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ النِّكَاحِ لِحَقِّ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَالْعِدَّةُ بِحَالِهَا، وَلَا تَنْقَطِعُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ شَيْءٌ، وَتَسْقُطُ سُكْنَاهَا وَنَفَقَتُهَا عَنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا نَاشِزٌ، وَإِنْ وَطِئَهَا، انْقَطَعَتْ الْعِدَّةُ سَوَاءٌ عَلِمَ التَّحْرِيمَ أَوْ جَهِلَهُ.
ثم قال:
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَعَلَيْهِ فِرَاقُهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ فَارَقَهَا أَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، وَعِدَّتُهُ وَجَبَتْ عَنْ وَطْءٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَإِذَا أَكْمَلَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ الثَّانِي، وَلَا تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ رَجُلَيْنِ. (المغني).
قال ابن كثير: قد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة، واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها، فإنه يفرق بينهما، وهل تحرم عليه أبدا؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد. (التفسير).
فائدة: 1
عدة المختلعة.
تقدم أن العلماء اختلفوا في ذلك على قولين:
قيل: ثلاث حيض.
وقيل: حيضة واحدة.
واختاره ابن تيمية.
وتقدمت المسألة.
فائدة: 2
عدة الزانية.
تقدم أيضاً أن العلماء اختلفوا في عدتها:
فقيل: تعتد كالمطلقة، بثلاث حيض.
وقيل: تستبرأ بحيضة واحدة.
واختاره ابن تيمية.
تنبيه:
قال ابن قدامة: وَكَّلَ فُرْقَةٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ فَعِدَّتُهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِخُلْعٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ فَسْخٍ بِعَيْبٍ، أَوْ إعْسَارٍ، أَوْ إعْتَاقٍ، أَوْ اخْتِلَافِ دِينٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عِدَّةَ الْمُلَاعَنَةِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ.
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ. (المغني)
باب الإحداد
الإحداد لغة المنع، ومنه سمي البواب حداداً لمنعه الداخل.
واصطلاحاً: تربص تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى جماعها أو يرغب في النظر إليها من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة.
-
الحكمة من الإحداد:
أولاً: تعظيم خطر هذا العقد ورفع قدره.
ثانياً: تعظيم حق الزوج وحفظ عشرته.
ثالثاً: تطييب نفس أقارب الزوج ومراعاة شعورهم.
رابعاً: سد ذريعة تطلع المرأة للنكاح أو تطلع الرجال إليها.
خامساً: موافقة الطباعة البشرية.
(وهُوَ واجب).
أي: الإحداد واجب على المرأة التي توفي عنها زوجها، سواء كانت مدخولاً بها أم لا.
عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) متفق عليه.
وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى الْمَيِّتِ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلا عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وَلا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلا تَكْتَحِلُ، وَلا تَمَسُّ طِيباً، إلاَّ إذَا طَهُرَتْ: نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ).
فالحديث ظاهر في المنع من الإحداد على أحد فوق ثلاث إلا الزوج، فإنه يحد عليه أربعة أشهر وعشراً، ويدل لذلك رواية مسلم:(. . . إلا على زوجها فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً) فقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنها تحد) خبر بمعنى الأمر.
فائدة: 1
والإحداد منه واجب، ومنه جائز، ومنه ممنوع، فالواجب على المتوفى عنها، والجائز على من مات له صديق أو قريب لمدة ثلاثة أيام، والممنوع ما زاد على ذلك؛ كأربعة أيام أو خمسة أو أكثر.
…
(الشرح الممتع).
فائدة: 2
الإحداد على غير الزوج جائز.
فيجوز للمرأة أن تحد على غير زوجها، كالأخ، أو الأب، أو أم، أو أي قريب - ثلاثة أيام فأقل، لكنه غير واجب.
فالحديث السابق يدل على الجواز والإباحة.
قال ابن القيم: فإن الإحداد على الزوج واجب وعلى غيره جائز.
قال الحافظ ابن حجر: وليس ذلك واجباً لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه في تلك الحال.
وقال ابن بطال: الإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلى والكحل، وكل ما كان من دواعي الجماع، يقال: امرأة حادّ ومحدّ، وأباح النبي صلى الله عليه وسلم أن تحد المرأة على غير زوجها من ذوى محارمها ثلاثة أيام، لما يغلب من لوعة الحزن، ويهجم من أليم الوجد، ولم يوجب ذلك عليها، وهذا مذهب الفقهاء، وحرم عليها من الإحداد ما فوق ذلك.
ومما يدل على أن الإحداد في الثلاثة أيام على غير الزوج غير واجب إجماع العلماء على أن من مات أبوها، أو ابنها، وكانت ذات زوج، وطالبها زوجها بالجماع في الثلاثة الأيام التي أبيح لها الإحداد فيها أنه يقضى له عليها بالجماع فيها، ونص التنزيل أن الإحداد على ذوات الأزواج أربعة أشهر وعشرًا واجب.
(مُدةَ العِدةِ).
أي: زمن العدة سواء طالت أم قصرت، فإذا كانت حائلاً فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، وإحدادها أربعة أشهر وعشرة أيام، وإذا كانت حاملاً فعدتها إلى وضع الحمل، فإحدادها إلى وضع الحمل، وإذا لم تعلم بموت زوجها إلا بعد تمام العدة فلا إحداد؛ لأنه تابع للعدة.
(على كل امرأةٍ مات عنها زوجها).
كما تقدم في الأحاديث السابقة.
(ولوْ كتابيةً).
أي: يجب الإحداد ولو كانت الزوجة من أهل الكتاب.
لعموم الأدلة الموجبة للإحداد، فإن الأدلة لم تفرق بين مسلمة وكتابية.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب عليها الإحداد.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ
…
) فَخَصَّهُ بِالْمُؤْمِنَةِ.
والراجح قول الجمهور.
وأما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالله واليوم الآخر
…
) الإغراء، أي إغراء المرأة على الفعل.
قال النووي: فَيَجِب عَلَى كُلّ مُعْتَدَّة عَنْ وَفَاة سَوَاء الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْرهَا وَالصَّغِيرَة وَالْكَبِيرَة وَالْبِكْر وَالثَّيِّب وَالْحُرَّة وَالْأَمَة وَالْمُسْلِمَة وَالْكَافِرَة هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَغَيْره مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَأَبُو ثَوْر وَبَعْض الْمَالِكِيَّة: لَا يَجِب عَلَى الزَّوْجَة الْكِتَابِيَّة بَلْ تَخْتَصّ بِالْمُسْلِمَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ) فَخَصَّهُ بِالْمُؤْمِنَةِ.
وَدَلِيل الْجُمْهُور أَنَّ الْمُؤْمِن هُوَ الَّذِي يَشْمَل خِطَاب الشَّارِع وَيَنْتَفِع بِهِ وَيَنْقَاد لَهُ، فَلِهَذَا قَيَّدَ بِهِ.
(أَوْ أَمَةً).
أي: يجب الإحداد على المتوفى عنها زوجها ولو كانت أمة، وتكون أمة إذا كان زوجها رقيقاً، أو كان حراً ممن يجوز له نكاح الإماء، فتلزمها العدة والإحداد.
(أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ).
أي: يجب الإحداد على المتوفى عنها زوجها ولو كانت مجنونة.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
لعموم الأدلة الدالة على وجوب الإحداد.
- ويجب أيضاً الإحداد على الصغيرة.
أ-لعموم الأدلة الدالة على وجوب الإحداد.
ب- واستدلوا أيضاً بحديث أم سلمة وفيه (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ قال: لا).
وجه الدلالة: قال القرطبي: ولم يسأل عن سنها؛ ولو كان الحكم يفترق بالصغر والكبر لسأل عن سنها حتى يبين الحكم، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز، وأيضا فإن كل من لزمتها العدة بالوفاة لزمها الإحداد كالكبيرة. (التفسير).
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب الإحداد على الصغيرة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لامرأة. . .).
فقد تمسك بمفهومه الحنفية، فقالوا: لا يجب الإحداد على الصغيرة.
وذهب جمهور العلماء على وجوب الإحداد عليها.
قالوا: إن التقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب.
(وتجتنبُ المحادة الزينة).
هذا بيان ما تجتنبه المحادة في أيام إحدادها.
الزينة:
فيحرم على المحادة أن تلبس كل ما فيه زينة من الثياب.
لحديث أُمِّ عَطِيَّةَ السابق (
…
وَلا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ
…
).
وفي حديث أم سلمة عند أبي داود: (. . . ولا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشَّقة. . .).
(الممشقة: المصبوغة بالمشق، بكسر الميم، وهو الطيب الأحمر).
فائدة:
ذهب بعض العلماء إلى أن المحادة لا تلبس النقاب، لأن المعتدة من وفاة زوجها مشبهة بالمحْرِمَة، والمحرمة تمنع من ذلك، لكن هذا القول فيه بعد.
(والطيب).
أي: فيحرم على المحادة أن تتطيب.
قال ابن قدامة: ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد.
لحديث أم عطية السابق (
…
وَلَا تَمَسَّ طِيبًا).
قال ابن قدامة: ولأن الطيب يحرك الشهوة، ويدعو إلى المباشرة.
فائدة: 1
الأدهان غير المطيبة لا بأس أن تستعملها المحادة لأنها ليست طيباً، فلا يشملها النص.
فائدة: 2
استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الشيء اليسير عند الطهر للحاجة، لقوله (
…
إلاَّ إذَا طَهُرَتْ: نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ).
(والحلي).
أي: ومما يحرم على المحادة لبس الحلي بأنواعه.
قال ابن المنذر: أجمعوا على منع المرأة المحادة من لبس الحلي.
لحديث أم سلمة عند أبي داود: (. . . ولا تلبس الحلي. . .).
فائدة: 1
وهذا المنع شامل لما ظهر من الحلي وما استتر تحت الثياب.
والحلي يشمل كل ما تتجمل به المرأة وتتحلى به من قرط أو سوار أو خاتم، سواء ذلك من فضة أو غيرها.
فائدة: 2
ما كان بمعنى الذهب والفضة فله حكم الحلي، لأن قوله صلى الله عليه وسلم:(ولا الحلي) والحلي اسم يصدق على الذهب والفضة وغيره كاللؤلؤ والزمرد والألماس.
فائدة: 3
إذا كانت المحادة متلبسة بشيء من الحلي قبل وفاة زوجها، فإن الواجب عليها إزالة ما يمكن إزالته منها.
(والتحسين بحناء ونحوه).
أي: ومما يحرم على المحادة الخضاب بالحناء ونحوه.
ففي حديث أم سلمة: (ولا تختضب. . .). رواه أبو داود
قال ابن القيم: فيحرم عليها الخضاب والنقش والحمرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الخضاب منبهاً على هذه الأنواع التي هي أكثر زينة منه وأعظم فتنة، وأشد مضادة لمقصود الحداد.
(والكحل).
لحديث أم عطية: (. . . ولا تكتحل. . .). متفق عليه
وحديث أم سلمة قالت: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا). متفق عليه، فلم يرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم مع حاجتها إليه.
(وَتَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي الْمَنْزِلِ حَيْثُ وَجَبَتْ).
هذا من الأمور التي يجب على المحادة فعله: وهو المكث في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه.
لحديث الفُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ (أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ. قَالَتْ: فَسَأَلْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي; فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً، فَقَالَ: "نَعَمْ". فَلَمَّا كُنْتُ فِي اَلْحُجْرَةِ نَادَانِي، فَقَالَ: " اُمْكُثِي فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَبْلُغَ اَلْكِتَابُ أَجَلَهُ". قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَقَضَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عُثْمَانُ) رواه أبو داود.
قال الترمذي بعد إخراجه للحديث: والعمل على هذا الحديث عند أكثر العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لم يروا للمعتدة أن تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدتها، وهو قول سفيان، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: للمرأة أن تعتد حيث شاءت، وإن لم تعتد في بيت زوجها.
والأول أصح. (جامع الترمذي).
وقال ابن قدامة: وَمِمَّنْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الِاعْتِدَادَ فِي مَنْزِلِهَا، عُمَرُ، وَعُثْمَانُ رضي الله عنهما وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، بِالْحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَمِصْرَ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ. (المغني).
وقال ابن القيم: بعد أن ذكر القائلين بوجوب العدة في منزلها: وَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله وَأَصْحَابِهِمْ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ. قَال أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ: وَبِهِ تَقُولُ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالشّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ. وَحُجّةُ هَؤُلَاءِ حَدِيثُ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ وَقَدْ تَلَقّاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رضي الله عنه بِالْقَبُولِ وَقَضَى بِهِ بِمَحْضَرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَتَلَقّاهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالشّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ بِالْقَبُولِ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنّ أَحَدًا مِنْهُمْ طَعَنَ فِيهِ وَلَا فِي رِوَاتِهِ وَهَذَا مَالِكٌ مَعَ تَحَرّيهِ وَتَشَدّدِهِ فِي الرّوَايَةِ. وَقَوْلُهُ لِلسّائِلِ لَهُ عَنْ رَجُلٍ أَثِقَةٌ هُوَ؟ فَقَالَ لَوْ كَانَ ثِقَةً لَرَأَيْته فِي كُتُبِي: قَدْ أَدْخَلَهُ فِي " مُوَطّئِهِ " وَبَنَى عَلَيْهِ مَذْهَبَهُ. قَالُوا: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ النّزَاعَ بَيْنَ السّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنّ السّنّةَ تَفْصِلُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ: أَمّا السّنّةُ فَثَابِتَةٌ بِحَمْدِ اللّهِ. وَأَمّا الْإِجْمَاعُ فَمُسْتَغْنًى عَنْهُ مَعَ السّنّةِ لِأَنّ الِاخْتِلَافَ إذَا نَزَلَ فِي مَسْأَلَةٍ كَانَتْ الْحُجّةُ فِي قَوْلِ مَنْ وَافَقَتْهُ السّنّة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يلزمها لزوم بيت زوجها، بل تعتد حيث شاءت.
وهذا قول علي وابن عباس وجابر، وهو قول ابن حزم.
فائدة: 1
ما الحكم لو بلغها الخبر وهي في غير بيتها؟
لو بلغها الخبر وهي في بيت غير بيتها، فذهب أكثر العلماء إلى أنه يجب عليها الاعتداد في المنزل الذي توفي زوجها وهي فيه، فإذا بلغها الخبر وهي في غيره وجب عليها الرجوع.
قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ الِاعْتِدَادُ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَمْلُوكًا لِزَوْجِهَا، أَوْ بِإِجَارَةٍ، أَوْ عَارِيَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ لِفُرَيْعَةَ: اُمْكُثِي فِي بَيْتِك) وَلَمْ تَكُنْ فِي بَيْتٍ يَمْلِكُهُ زَوْجُهَا.
وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ (اعْتَدِّي فِي الْبَيْتِ الَّذِي أَتَاك فِيهِ نَعْيُ زَوْجِك) وَفِي لَفْظٍ (اعْتَدِّي حَيْثُ أَتَاك الْخَبَرُ) فَإِنْ أَتَاهَا الْخَبَرُ فِي غَيْرِ مَسْكَنِهَا، رَجَعَتْ إلَى مَسْكَنِهَا فَاعْتَدَّتْ فِيهِ. (المغني).
فائدة: 2
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فتاة مات عنها زوجها بعد العقد، وقبل الدخول، فأين تعتد؟
فأجاب: في بيت أهلها، لكونها لم تنتقل بعد إلى بيت الزوج. (ثمرات التدوين).
(وَلَهَا الْخُرُوجُ لِحَاجَتِهَا نَهَاراً لَا لَيْلاً).
أي: يجوز للمحادة أن تخرج من بيتها إذا كان لحاجة في النهار دون الليل.
-
خروج المحادة من منزلها له أحوال:
أولاً: أن يكون لضرورة، فيجوز ليلاً أو نهاراً.
مثل: إذا خيف هدم، أو عدو، أو حريق، أو كانت الدار غير حصينة يخشى فيها من اقتحام اللصوص، أو كانت بين فسقة تخاف على نفسها، فإن لها الانتقال.
ثانياً: الخروج المؤقت، فهذا جائز إذا كان لحاجة نهاراً.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
واستدلوا بحديث الفريعة السابق.
ووجه الدلالة فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها خروجها من منزلها لما جاءته سائلة عن جواز انتقالها.
قال الشيخ ابن عثيمين: مثل لو ذهبت تشتري مثلاً عصيراً؛ أو تشتري شاياً، ومنها أن تكون مدرِّسة فتخرج للتدريس في النهار، ومنها أن تكون دارسة فتخرج للدراسة في النهار لا في الليل، ومنها أنها إذا ضاق صدرها فإنها تخرج إلى جارتها في البيت لتستأنس بها في النهار فقط؛ لأن أزمة ضيق الصدر قد تتطور إلى مرض نفسي، ومنها أن تخرج لتزور أباها المريض، فهي حاجة من جهة الأب، ومن جهتها هي، أما هي فستكون قلقة؛ حيث لم ترَ بعينها حال أبيها، وأما أبوها فإن قلب الوالد يحن إلى ولده، فنقول: لا بأس أن تخرج لتعود أباها إذا مرض، أو أمها، أو أحداً من أقاربها، فلها أن تخرج نهاراً لا ليلاً؛ ووجه التفريق بين الليل والنهار أن الناس في النهار في الخارج والأمن عليها أكثر، وبالليل الناس مختفون والخوف عليها أشد. (الشرح الممتع).
ثالثاً: إذا كان لغير حاجة ولا ضرورة، فلا يجوز.
كما تقدم.
كما لو قالت: أريد أن أخرج للنزهة، أو للعمرة، فإنه لا يجوز؛ لأنه ليس لحاجة ولا لضرورة.
فائدة:
هل يجوز للمحادة الذهاب لحج الفرض؟
لا يجوز.
قال ابن قدامة: الْمُعْتَدَّة مِنْ الْوَفَاةِ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى الْحَجِّ، وَلا إلَى غَيْرِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، رضي الله عنهما. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالثَّوْرِيُّ.
وَإِنْ خَرَجَتْ، فَمَاتَ زَوْجُهَا فِي الطَّرِيقِ، رَجَعَتْ إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً; لأَنَّهَا فِي حُكْمِ الإِقَامَةِ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: تُرَدُّ مَا لَمْ تُحْرِمْ.
ويدل عَلَى وُجُوبِ الرُّجُوعِ إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً، مَا رَوَى سَعِيدٌ بن منصور عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: تُوُفِّيَ أَزْوَاجٌ، نِسَاؤُهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ، فَرَدَّهُنَّ عُمَرُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، حَتَّى يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ ....
وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهَا حِجَّةُ الإِسْلامِ، فَمَاتَ زَوْجُهَا، لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فِي مَنْزِلِهَا وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ; لأَنَّ الْعِدَّةَ فِي الْمَنْزِلِ تَفُوتُ، وَلا بَدَلَ لَهَا، وَالْحَجُّ يُمْكِنُ الإِتْيَانُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْعَام. (المغني).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها فمات زوجها في شعبان: فهل يجوز لها أن تحج؟
فأجاب: ليس لها أن تسافر في العدة عن الوفاة إلى الحج في مذهب الأئمة الأربعة. (مجموع الفتاوى).
وجاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ إلَى الْحَجِّ، لأَنَّ الْحَجَّ لا يَفُوتُ، وَالْعِدَّةُ تَفُوت.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن امرأة توفي عنها زوجها وأدركها حج الفريضة، وهي في الحداد وهي مستطيعة وقادرة وعندها محرم هل تحج أو لا؟
فأجاب: لا تحج، بل تبقى في بيتها، وفي هذه الحال لا يجب عليها الحج، لقول الله تعالى:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهذه المرأة لا تستطيع شرعاً، وإن كان معها محرم، وتؤجل إلى السنة الثانية، أو الثالثة حسب استطاعتها. (مجموع فتاوى ابن عثيمين)
(فَإِنْ تَحَوَّلَتْ خَوْفاً، أَوْ قَهْراً، أَوْ بِحَقٍّ، انْتَقَلَتْ حَيْثُ شَاءَتْ).
قال ابن قدامة: فَإِنْ خَافَتْ هَدْمًا أَوْ غَرَقًا أَوْ عَدُوًّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ حَوَّلَهَا صَاحِبُ الْمَنْزِلِ لِكَوْنِهِ عَارِيَّةً رَجَعَ فِيهَا، أَوْ بِإِجَارَةٍ انْقَضَتْ مُدَّتُهَا، أَوْ مَنَعَهَا السُّكْنَى تَعَدِّيًا، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ إجَارَتِهِ، أَوْ طَلَبَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، أَوْ لَمْ تَجِدْ مَا تَكْتَرِي بِهِ، أَوْ لَمْ تَجِدْ إلَّا مِنْ مَالِهَا، فَلَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ؛ لِأَنَّهَا حَالُ عُذْرٍ، وَلَا يَلْزَمُهَا بِذَلِكَ أَجْرِ الْمَسْكَنِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهَا فِعْلُ السُّكْنَى، لَا تَحْصِيلُ الْمَسْكَنِ، وَإِذَا تَعَذَّرَتْ السُّكْنَى، سَقَطَتْ، وَلَهَا أَنْ تَسْكُنَ حَيْثُ شَاءَتْ.
…
(المغني).
وسئل علماء اللجنة الدائمة عن امرأة مات زوجها وليس في مدينتهم أحد يقوم بمسئوليتها، فهل لها أن تعتد في مدينة أخرى؟
فأجابوا: إذا كان الواقع كما ذكر من أنها لا يوجد في البلد الذي مات فيه زوجها من يقوم بمسئولياتها وشئونها، ولا تستطيع أن تقوم هي بشئون نفسها شرعاً، جاز لها أن تنتقل إلى بلد آخر تأمن فيه على نفسها، وتجد فيه من يقوم بشئونها شرعاً. (فتاوى اللجنة الدائمة)
وجاء فيها أيضاً: إذا كان تحول أختك المتوفى عنها زوجها من بيت الزوجية إلى بيت آخر في أثناء عدة الوفاة للضرورة، كأن تخاف على نفسها من البقاء فيه وحدها، فلا بأس بذلك، وتكمل عدتها في البيت الذي انتقلت إليه " انتهى
- قوله (حَيْثُ شَاءَتْ) هذا القول هو الصحيح، خلافاً لمن قال إنها تنتقل إلى أقرب مكان آمن من بيتها.
مثلاً لزوجها بيتان، بيت هي ساكنته، وبيت آخر ساكنته زوجة أخرى، والزوجة الأولى تخاف على نفسها، فهل نقول: يجب أن تنتقل إلى البيت القريب، أو لها أن تنتقل عند أهلها ولو كانوا بعيدين؟ نقول: لها أن تنتقل إلى بيت أهلها ولو كانوا بعيدين؛ لأنه لما تعذر المكان الأصلي سقط الوجوب.
(وَإِنْ ترَكَتِ الإِحْدَادَ أَثِمَتْ، وَتَمَّتْ عِدَّتُهَا بِمُضِيِّ زَمَانِهَا).
أي: وإن تركت المحادة الإحداد عمداً (بأن تطيبت أو لبست الحلي) فإنها تعتبر آثمة: لأنها تركت واجباً.
وتمت عدتها بِمُضِيِّ زَمَانِهَا: أي زمان العدة، لأن الإحداد ليس شرطاً في انقضاء العدة.
(وإنْ خرجتْ لسفرٍ أو حجٍ فتوفيَ زوجُها وهي قريبة، رجعت لتعتد في بيتِها، وإن تباعدتْ مضتْ في سفرِها).
المعتدة التي مات عنها زوجها في الحج، لا تخلو من حالتين:
الحال الأولى: أن يأتيها خبر وفاة زوجها قبل أن تخرج من بيتها للحج، فهذه لا يجوز لها الخروج للحج.
قال ابن قدامة: ولو كانت عليها حجة الإسلام، فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها، وإن فاتها الحج; لأن العدة في المنزل تفوت، ولا بدل لها، والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام". (المغني).
الحال الثانية: أن يأتيها خبر وفاة زوجها بعد أن خرجت للحج، فهذه ينظر في حالها:
أ- فإن كانت قريبة، بحيث لم تقطع مسافة القصر، فترجع وتعتد في بيت زوجها.
ب- وإن كانت قد قطعت مساقة القصر، فتمضي في سفرها، ولا يلزمها الرجوع.
قال ابن قدامة: وإن خرجت، فمات زوجها في الطريق، رجعت إن كانت قريبة; لأنها في حكم الإقامة، وإن تباعدت، مضت في سفرها. وقال مالك: ترد ما لم تحرم. والصحيح أن البعيدة لا ترد. (المغني).
وقد سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا خرجت المرأة حاجة، وبعد وصولها إلى جدة سمعت بوفاة زوجها، فهل لها أن تتم الحج، أو أن تجلس للحداد؟
فأجاب: تتم الحج؛ لأنها إن رجعت سترجع بسفر، وإن بقيت بقيت بسفر مستمر، فتتم الحج لا سيما إذا كان فريضة، ثم ترجع، وحتى لو كان نافلة فإنها تتمه.
فائدة: 1
كيف حساب مدة الإحداد (أربعة أشهر وعشراً)؟
تعتد المرأة المتوفى عنها زوجها بالأشهر القمرية لا بالأشهر الشمسية؛ وذلك لأن الأحكام الشرعية إنما تناط بالأشهر القمرية.
ويحتسب الشهر بهلاله إذا كانت الوفاة في أول الشهر، فلو كانت بعض الشهور تامة ثلاثين يوما، وبعضها ناقصة تسعة وعشرين يوما، فالاعتداد صحيح ولا يلزم المعتدة قضاء ما نقص من أيام ذلك الشهر الناقص.
جاء في "الموسوعة الفقهية": إن حساب أشهر العدة في الطلاق أو الفسخ أو الوفاة يكون بالشهور القمرية لا الشمسية، فإذا كان الطلاق أو الوفاة في أول الهلال اعتبرت الأشهر بالأهلة؛ لقوله تعالى:(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) حتى ولو نقص عدد الأيام; لأن الله أمرنا بالعدة بالأشهر، فقال سبحانه (فعدتهن ثلاثة أشهر)، وقال تعالى:(أربعة أشهر وعشراً)، فلزم اعتبار الأشهر، سواء أكانت ثلاثين يوما أو أقل " انتهى.
وأما إذا كانت الوفاة في أثناء الشهر:
فإنها تعتد بقية الشهر الأول، وثلاثة شهور بالأهلة - كاملة أو ناقصة-، وعشرة أيام، وما فاتها من الشهر الأول لها في حسابه طريقتان لأهل العلم:
الأولى: أن تحسب ثلاثين يوماً، سواء كان الشهر في واقع الأمر تاماً أم ناقصاً؛ فإذا كانت قد اعتدت منه عشرين يوماً، أكملت عشراً في الشهر الخامس، وهكذا.
الثانية: أن تعتد من الشهر الخامس بقدر ما فاتها من الأول، سواء كان الشهر تاماً أم ناقصاً.
وينظر: المغني (8/ 85)، كشاف القناع (5/ 418)، الموسوعة الفقهية (29/ 315).
وقد اختار القول الثاني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ورجحه من علمائنا المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
فقد ذكر الشيخ ابن عثيمين فيمن صام شهرين متتابعين ابتداء من يوم 15 جمادى الأولى، وكان كل من جمادى الأولى والآخرة تسعة وعشرين يوما، أنه ينتهي صيامه بصوم اليوم الخامس عشر من رجب، على القول بأنه يتم الشهر الأول ثلاثين يوماً.
وعلى القول الراجح يعتبر الشهرين بالهلال، فينتهي صومه بصوم اليوم الرابع عشر من رجب.
وكذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه "لا حاجة إلى أن نقول بالعدد، بل ننظر اليوم الذي هو المبدأ من الشهر الأول، فتكون النهاية مثله من الشهر الآخر" انتهى من (مجموع الفتاوى).
مثال ذلك في عدة الوفاة: لو توفي الرجل في يوم 12 من محرم، فتعتد امرأته إلى 12 جمادى الأولى، فهذه أربعة أشهر، سواء كانت كاملة أم ناقصة، ثم تزيد عشرة أيام، فتنتهي عدتها يوم 22 جمادى الأولى في الساعة التي مات فيها زوجها.
وعلى هذا، فليس على أمك إلا أن تزيد عشرة أيام فقط، وليس عليها أن تكمل الأشهر الناقصة ثلاثين يوماً.
وما قلناه هنا في عدة الوفاة ينطبق على من صام شهرين متتابعين، وينطبق أيضاً على عدة الطلاق إذا حسبت بالشهور، وذلك في حال كون المطلقة صغيرة أو يائسة لا تحيض. (الاسلام س ج).
فائدة: 2
الإحداد على المطلقة البائن؟ الصحيح أنه لا يجب عليها الإحداد.
قال ابن قدامة: وهو قول عطاء، وربيعة، ومالك، وابن المنذر ونحوه قول الشافعي. ورجحه ابن القيم، والشوكاني.
أ-لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
وَهَذِهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْدَادَ إنَّمَا يَجِبُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ.
ب- وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ غَيْرِ وَفَاةٍ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ، كَالرَّجْعِيَّةِ، وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ.
ج- وَلِأَنَّ الْإِحْدَادَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِإِظْهَارِ الْأَسَفِ عَلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا وَمَوْتِهِ، فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ فَارَقَهَا بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، وَقَطَعَ نِكَاحَهَا، فَلَا مَعْنَى لَتَكْلِيفِهَا الْحُزْنَ عَلَيْهِ.
…
(المغني).
وقال ابن القيم: فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدّةِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًى أَوْ اسْتِبْرَاءِ إحْدَادٍ؟
قُلْنَا: هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْخَامِسُ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ أَنّهُ لَا إحْدَادَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لِأَنّ السّنّةَ أَثْبَتَتْ وَنَفَتْ فَخَصّتْ بِالْإِحْدَادِ الْوَاجِبِ الزّوْجَاتِ وَبِالْجَائِزِ غَيْرَهُنّ عَلَى الْأَمْوَاتِ خَاصّةً وَمَا عَدَاهُمَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ التّحْرِيمِ عَلَى الْأَمْوَاتِ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ دُخُولُهُ فِي الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُطَلّقَةِ الْبَائِن.
…
(زاد المعاد).
فائدة: 3
أحدث بعض الناس أموراً في الإحداد لا أصل لها في الشرع، منها:
o التزام بعض النساء لباساً معيناً (كالأسود) للإحداد.
o امتناع المحادة من مشط شعرها.
o امتناع المحادة من الاغتسال للتنظف.
o امتناع المحادة عن العمل في بيتها من خياطة وغيرها.
o امتناع المحادة من البروز للقمر.
o امتناع المحادة من الظهور على سطح البيت.
باب الاستبراء
الاستبراء: لغة طلب البراءة.
واصطلاحاً: تربص يقصد منه العلم ببراءة الرحم.
(ومن ملَكَ أَمَةً يوطأ مثلُها من أي شخصٍ كان، حرُمَ عليهِ وطءٌ ومقدماتهِ قبل استبراءِ حامل بوضع، ومن تحيض بحيضة).
أي: إذا اشترى أمَة أو وهبتْ له أو ملكها بعد زوج، فلا يجوز أن يجامعها حتى يستبرئها بحيضة، ليعلم براءة رحمها، لأنها قد تكون حاملاً من مالكها الأول، وإن كانت حاملاً فلا يطأها حتى تضع.
وقد جاء في الحديث:
أ-عَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
[لا يحل] أي: يحرم. [أن يسقي ماء غيره] أي: أن يطأ امرأة وهي حبلى من غيره.
ب- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ (لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
فائدة: 1
قوله (حرُمَ عليهِ وطءٌ ومقدماتهِ)
أي: يحرم الوطء ومقدماته من المباشرة وغيرها.
وهذا المذهب:
وذهب بعض العلماء: أنه لا يحرم إلا الوطء.
واختاره ابن القيم.
لأن النهي إنما جاء عن الوطء فلا يستدل به على تحريم المباشرة.
فائدة: 2
قوله (من مَلَكَ أمَةً)
ظاهره أن الاستبراء واجب مطلقاً، سواء ملك الأمة من طفل أو امرأة، أو كانت بكراً أو ثيباً.
أخذاً بعموم الحديث.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يجب استبراء الأمة إذا ملكها من طفل أو امرأة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
لأن المقصود من الاستبراء العلم ببراءة الرحم، فحيث تيقنَ المالك براءة رحم الأمَة فله وطؤها ولا استبراء عليه.
- وكذا لو ملكها وهي بكر فلا استبراء عليه.
والصحيح يجب الاستبراء ولو كانت بكراً.
أ- لعموم الأحاديث التي فيها الأمر باستبراء الإماء، وهي أدلة عامة لم تفرق بين البكر والثيب كما تقدم.
ب-قول عمر: من ابتاع جارية قد بلغت المحيض فليتربص بها حتى تحيض. رواه أبو داود.
ج- أن العدة تجب على المرأة الحرة البكر مع العلم ببراءة الرحم، فكذلك تقاس عليها الأمَة البكر في وجوب الاستبراء.
د- أن السيد ملك جارية كانت محرمة عليه فلم تحل له قبل استبرائها كالثيب التي تحمل.
كتاب الرضاع
الرضاع لغة: مص الثدي.
واصطلاحاً: هو مص طفل صغير لبن امرأة أو شربه ونحوه.
(يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ).
هذا لفظ حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) متفق عليه.
معنى الحديث: ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب: من سببية والتقدير: ويحرم النكاح بسبب الرضاعة كما يحرم بسبب النكاح.
وقد ذكر الله تعالى المحرمات بالنسب وهن سبع:
قال تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ).
فيحرم مثلهن من الرضاع، وهن سبع نظير المحرمات بالنسب.
والدليل على التحريم بالرضاع الحديث السابق (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
قال ابن قدامة: كُلُّ امْرَأَةٍ حَرُمَتْ مِنْ النَّسَبِ حَرُمَ مِثْلُهَا مِنْ الرَّضَاعِ، وَهُنَّ الأُمَّهَاتُ، وَالْبَنَاتُ، وَالأَخَوَاتُ، وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالاتُ، وَبَنَاتُ الأَخِ، وَبَنَاتُ الأُخْتِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلافاً.
فتحرم عليك أمك من الرضاع، وأختك من الرضاع، وبنتك من الرضاع. . . الخ.
- والتحريم بالرضاع ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) ذكرهما في جملة المحرمات.
وعن عائشة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) متفق عليه.
وعن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) متفق عليه.
وأجمع العلماء على التحريم بالرضاع. قاله في المغني.
(وَالمُحَرِّمُ خَمْسُ رَضَعَاتٍ).
هذا الشرط الأول من شروط الرضاع: أن يكون خمس رضعات.
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ
فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) رواه مسلم.
قال ابن قدامة: هذا هو الصحيح في المذهب، وروي هذا عن عائشة وابن الزبير وابن مسعود وعطاء وطاووس.
ورجحه الصنعاني والشوكاني.
وذهب بعض العلماء: إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرِّم.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
أ- واستدلوا بالعمومات، كقوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
…
) ففي هذه الآية علقت التحريم على مطلق الإرضاع، فحيث وجد وجد حكمه.
ب- وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
ج- وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي. قَالَ: فَتَنَحَّيْت، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ. قَالَ: كَيْفَ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزوج أن يترك زوجته لمجرد علمه بأنهما رضعا من ثدي واحد دون أن يسأل عن عدد الرضعات، فدل ذلك على أن مطلق الإرضاع يثبت به التحريم.
ج- وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة) متفق عليه.
وذهب بعضهم: إلى أن المحرّم ثلاث رضعات.
وهو قول داود، وأبي ثور، وابن المنذر.
لحديث عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح فيها أن المصة والمصتان لا تحرمان، فيكون ما فوقهما مُحرِّم، وهو الثلاث، لأن ذلك لو لم يكن محرماً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
والراجح أن المُحرّم خمس رضعات.
أما أدلة من قال أن قليل الرضاع وكثيره محرّم: فهي عمومات، وقد قيدت بالسنة بعدد معين من الرضاعة، كما في حديث عائشة
وأما أدلة من قال إن المحرّم ثلاث رضعات: هذا الاستدلال بالمفهوم، وهو لا يعمل به إلا عند القائلين به، إلا إذا لم يكن هناك منطوق يعارضه، وقد جاء ما يعارضه مثل حديث عائشة المثبت للتحريم بخمس رضعات.
فائدة: مقدار الرضعة:
الرضعة: المراد بها الوجبة التامة التي يأخذها الطفل وإن تخللها تنفّس او انفصال من ثدي الى آخر أو جاء الطفل ما يلهيه، فالمراد: أن يترك الثدي عن ريٍ وطيب نفس. [هذا هو ضابط الرضعة].
فاذا جاءت امرأة ووضعت الطفل على حضنها ثم التقم الثدي ثم تركه للتنفس ثم رجع أو أنها نقلته من ثدي الى آخر في الحال فهذه كلها رضعة واحدة، لأن ضابط الرجعة لم يرد لها دليل من الشرع فيرجع فيها الى اللغة والى العرف.
ففي اللغة: الرضعة اسم للمرة، وأما العرف، فان الناس لا يعدون الأكلة إلا الوجبة التامة وان تخللها ما تخللها.
وهذا قول الشافعي ونصره ابن القيم في زاد المعاد واختاره الشيخ السعدي.
قال ابن القيم: الرضعة مرة من الرضاع بلا شك، كضربة وجلسة وأكلة، فمتى التقم الثدي فامتص منه ثم تركه من غير عارض كان ذلك رضعة.
لأن الشرع ورد بذلك مطلقاً فحمل على العرف، والعرف هذا، والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيرة أو لشيء يلهيه ثم يعود عن قرب لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك ثم عاد عن قريب لم يكن أكلتين بل واحدة، هذا مذهب الشافعي ولو انتقل من ثدي المرأة إلى ثديها الآخر كانا رضعة واحدة.
وقيل: الرضعة أن يلتقم الطفل الثدي ثم يتركه سواء يتركه اضطراراً او اختياراً ولو للتنفس فهذه رضعة فلو عاد فرضعة ثانية.
(فِي الحَوْلَيْن).
هذا الشرط الثاني من شروط الرضاعة: يعني أن تكون الرضعات الخمس كلها في الحولين من ولادة الطفل.
أ- لقوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة).
قال ابن قدامة: فجعل تمام الرضاعة حولين، فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما.
وقال ابن كثير: هذا إرشاد من الله للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك، ولهذا قال [لمن أراد أن يتم الرضاعة] وذهب أكثر الإئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقها لم يحرم.
ب- وعن عَائِشَةُ قالت (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَتْ فَقَالَ «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) متفق عليه.
أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته، لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة. [قاله في الفتح]
وقال القرطبي: قوله (ِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ)، وهذا منه صلى الله عليه وسلم تقعيد قاعدة كلية؛ تُصرِّح بأن الرَّضاعة المعتبرة في التحريم؛ إنما هي في الزمان الذي تغني فيه عن الطعام، وذلك إنما يكون في الحولين وما قاربهما. (المفهم).
ج- عن أم سلمة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام) رواه الترمذي.
قوله (الثدي) أي وقت الحاجة إلى الثدي، أي في الحولين.
د- وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم). رواه أبو داود
فإن قال قائل: ما الجواب عن حديث عائشة قَالَتْ: (جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيْتِنَا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ اَلرِّجَالُ. قَالَ: "أَرْضِعِيهِ. تَحْرُمِي عَلَيْهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فالجواب: أجاب العلماء بأجوبة:
أولاً: أن هذه الحادثة رخصة خاصة بسالم، فلا يتعداه إلى غيره، ولذلك فإن أمهات المؤمنين سوى عائشة، أبَيْن أن يعملن بهذه الحادثة، لأنهن كنا يرين أن ذلك رخصة لسالم.
ثانياً: أنه حكم منسوخ، وبه جزم المحب الطبري في أحكامه، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة، فدل على تأخره، وهو مستند ضعيف، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي، ولا صغره، أن لا يكون ما رواه متقدماً. [قاله في الفتح]
ثالثاً: قول الشوكاني، حيث قال: إن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها منه، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا هو الراجح عندي، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، وذلك بأن تجعل قصة سالم المذكورة مخصصة لعموم:(إنما الرضاع من المجاعة)(ولا رضاع إلا في الحولين)(ولا رضاع إلا ما فتق الأمعاء).
قال النووي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة، فَقَالَتْ عَائِشَة وَدَاوُد:
تَثْبُت حُرْمَة الرَّضَاع بِرَضَاعِ الْبَالِغ كَمَا تَثْبُت بِرَضَاعِ الطِّفْل لِهَذَا الْحَدِيث. وَقَالَ سَائِر الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَعُلَمَاء الْأَمْصَار إِلَى الْآن: لَا يَثْبُت إِلَّا بِإِرْضَاعِ مَنْ لَهُ دُون سَنَتَيْنِ، إِلَّا أَبَا حَنِيفَة فَقَالَ: سَنَتَيْنِ وَنِصْف، وَقَالَ زُفَر: ثَلَاث سِنِينَ وَعَنْ مَالِك رِوَايَة سَنَتَيْنِ وَأَيَّام.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَالْوَالِدَات يَرْضِعْنَ أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ الرَّضَاعَة) وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا " إِنَّمَا الرَّضَاعَة مِنْ الْمَجَاعَة " وَبِأَحَادِيث مَشْهُورَة وَحَمَلُوا حَدِيث سَهْلَة عَلَى أَنَّهُ مُخْتَصّ بِهَا وَبِسَالِمٍ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِم عَنْ أُمّ سَلَمَة وَسَائِر أَزْوَاج رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنَّهُنَّ خَالَفْنَ عَائِشَة فِي هَذَا وَاَللَّه أَعْلَم.
(ولبن ميتةٍ كغيره، لا لبن بهيمة، ومن لم تحمل).
أي: أن لبن الميتة يُحرّم ويثبت به التحريم.
وهذا قول الجمهور.
لعموم الأدلة، فهي لم تفرق بين لبن من هي على قيد الحياة ومن فقدت الحياة.
قال ابن قدامة: وَلَنَا، أَنَّهُ وُجِدَ الِارْتِضَاعُ، عَلَى وَجْهٍ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ مِنْ امْرَأَةٍ، فَأَثْبَتِ التَّحْرِيمَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً.
وَلِأَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ شُرْبِهِ فِي حَيَاتِهَا وَمَوْتِهَا إلَّا الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ أَوْ النَّجَاسَةُ، وَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّبَنَ لَا يَمُوتُ، وَالنَّجَاسَةُ لَا تَمْنَعُ، كَمَا لَوْ حُلِبَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ حُلِبَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا، فَشَرِبَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، لَنَشَرَ الْحُرْمَةَ، وَبَقَاؤُهُ فِي ثَدْيِهَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ ثَدْيَهَا لَا يَزِيدُ عَلَى الْإِنَاءِ فِي عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ لَا تَزِيدُ عَلَى عَظْمِ الْمَيْتَةِ فِي ثُبُوتِ النَّجَاسَةِ. (المغني).
فلو أنه رضع أربع رضعات من امرأة وهي حية، ثم رضع منها الخامسة وهي ميتة، فإن هذا الرضاع مؤثر، لأنه هذا يسمى رضاعاً ويحصل به ما يحصل بلبن الحيّة.
(لا لبن بهيمة)
أي: أن لبن البهيمة غير مُحرّم.
فلو فرضنا أن طفلين ارتضعا من بهيمة، كل واحد خمس مرات، هل يكونان أخوين من الرضاع؟ لا.
(ومن لم تحمل).
أي: لو أن امرأة أرضعت طفلاً بدون حمل، فإنه لا يثبت به التحريم.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يثبت به التحريم.
وهذا قول الجمهور.
ورجحه ابن قدامة.
وعليه فلو كانت المرأة بكراً ودرّ منها لبن فإنه يثبت به التحريم.
أ- لقوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم .. ).
ب- قال في المغني: ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم كما لو ثاب بوطء.
قال ابن قدامة: وَإِنْ ثَابَ لَامْرَأَةٍ لَبَنٌ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا، نَشَرَ الْحُرْمَةَ، فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَكُلِّ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
أ- لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ).
ب- وَلِأَنَّهُ لَبَنُ امْرَأَةٍ فَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ، كَمَا لَوْ ثَابَ بِوَطْءٍ، وَلِأَنَّ أَلْبَانَ النِّسَاءِ خُلِقَتْ لِغِذَاءِ الْأَطْفَالِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا نَادِرًا، فَجِنْسُهُ مُعْتَادٌ. (المغني).
وقال الماوردي الشافعي رحمه الله لبن النساء مخلوق للاغتذاء، وليس جماع الرجل شرطاً فيه، وإن كان سبباً لنزوله في الأغلب، فصار كالبكر إذا نزل لها لبن فأرضعت به طفلاً: انتشرت به حرمة الرضاع، وإن كان من غير جماع. "الحاوي في فقه الشافعي"(11/ 413)
(ورجل).
أي: أن لبن الرجل لا يُحرّم.
فلو ارتضع طفلان من رجل لم يصيرا أخوين.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
لقوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ولفظ الأم لا يتناول إلا الإناث.
(فمَتَى أَرْضَعَتِ امْرَأَةٌ طِفْلاً صَارَ وَلَدَهَا فِي النِّكَاحِ، وَالنَّظَرِ، وَالْخَلْوَةِ، وَالْمَحْرَمِيَّةِ).
هذا ما يترتب على الرضاع:
إذا أرضعت المرأة طفلاً دون الحولين فإنه يصير ولدها في: النكاح، والنظر، والخلوة، والمحرمية.
في النكاح [في تحريم النكاح].
والنظر [في جوازه].
والخلوة [في جوازها].
والمحرمية في السفر ونحوه، وولد من نُسبَ لبنها إليه، دون بقية الأحكام.
فلا يصير ولداً لها في وجوب نفقتها عليه، وكونها ترثه ويرثها، والولاية في النكاح والمال، فهذه لا تترتب على الرضاع.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:. . .، فهذه أربعة أحكام من النسب تثبت بالرضاع، وغير هذه من الأحكام لا يثبت، فالنفقة لا تثبت، فلا يجب أن ينفق الإنسان على بنته من الرضاع، كما ينفق على بنته من النسب، والميراث لا يثبت، فابنته من الرضاع لا ترث منه شيئاً، وتحمُّلُ الدية في قتل الخطأ وشبهه لا يثبت بالرضاع، ووجوب صلة الأرحام لا يثبت بالرضاع، فكل أحكام النسب لا يثبت منها، إلا أربعة أحكام فقط، وهي: النكاح، والنظر، والخلوة، والمحرمية. (الممتع).
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: إذا توفيت امرأة ولها مال وليس بعدها وارث وأقرب شخص إليها هو من قامت بإرضاعه رجلاً كان أو امرأة فهل هو أحق بتركتها أم تؤول إلى بيت مال المسلمين؟
فأجاب: ليست الصلة بالرضاع من أسباب الإرث، فأخوه من الرضاع وأبوه من الرضاع ليس له إرث ولا ولاية ولا نفقة ولا شيء من حقوق القرابات، ولكن لا شك أن له شيئاً من الحقوق التي ينبغي أن يكرم بها، وأما الإرث فلا حق له في الإرث، وذلك لأن أسباب الإرث ثلاثة: القرابة والزوجية والولاء [العتق]؛ وليس الرضاع من أسبابها.
وعلى هذا فالمرأة المذكورة يكون ميراثها لبيت مال المسلمين، يصرف إلى بيت المال، ولا يستحقه هذا الابن من الرضاع.
• وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل تعطى الأم من الرضاعة والأخت من الرضاعة من الزكاة؟
فأجاب: "نعم، تعطى الأم من الرضاعة من الزكاة، والأخت من الرضاعة إذا كن مستحقات للزكاة، وذلك لأن الأم من الرضاعة والأخت من الرضاعة لا يجب النفقة عليهن، فهن يعطين من الزكاة بشرط أن تثبت فيهما صفة الاستحقاق.
(والرضاع المُحرّم ما دخلَ الحلق من اللبن، سواء دخل بارتضاع من الثدي، أو وَجُور، أو سَعُوطٍ).
هذا بيان صفة اللبن الذي يحصل به الرضاع، وهو ما كان عن طريق الحلق، سواء دخل بارتضاع من الثدي، أو وَجُور، أو سَعُوطٍ.
الوَجور: هو أن يصب اللبن في فم الطفل.
والسعوط: هو أن ينقط اللبن في الأنف.
قال ابن قدامة: معْنَى السَّعُوطِ: أَنْ يُصَبَّ اللَّبَنَ فِي أَنْفِهِ مِنْ إنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَالْوَجُورُ: أَنْ يُصَبَّ فِي حَلْقِهِ صَبًّا مِنْ غَيْرِ الثَّدْيِ. (المغني).
أ- لعموم قوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم .. ) فلم تفرق الآية بين أن يكون الإرضاع عن طريق امتصاص الثدي أو غيره.
ب- ولأن العلة في التحريم بالارتضاع هو وصول اللبن إلى جوف الرضيع فيتغذى به ويسد جوعه وذلك متحقق في الوجور والسعوط.
فالرضاع المحرِّم لا يتوقف على مص اللبن من الثدي، بل لو وضع في إناء وشرب منه الطفل، كان ذلك رضاعاً معتبراً في قول جمهور العلماء.
قال ابن قدامة: وَلِأَنَّ هَذَا يَصِلُ بِهِ اللَّبَنُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ بِالِارْتِضَاعِ، وَيَحْصُلُ بِهِ مِنْ إنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الِارْتِضَاعِ، فَيَجِبُ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي التَّحْرِيمِ، وَالْأَنْفُ سَبِيلُ الْفِطْرِ لِلصَّائِمِ، فَكَانَ سَبِيلًا لِلتَّحْرِيمِ، كَالرَّضَاعِ بِالْفَمِ.
(وينتشر إلى المرتضع وفروعه فقط دون أصوله وحواشيه).
أي: وينتشر الرضاع إلى المرتضع وفروعه فقط دون أصول وحواشي المرتضع، فلا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ومن هو في درجته من
إخوته وأخواته، ولا إلى من فوقه من آبائه وأمهاته، ومن في درجتهم من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته.
وينتشر إلى أصول وفروع وحواشي المرضعة، فأولاد الزوج والمرضعة إخوة المرتضع وأخواته، وآباؤهما أجداده وجداته، وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته، وإخوة صاحب اللبن وأخواته أعمامه وعماته.
مثال: فإذا أرضعت المرأة طفلاً صار ولداً لها، وصار إخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته، وإخوة الرجل وأخواته أعمامه وعماته.
فلا تحرم المرضعة على أبي المرتضع ولا أخيه، ولا تحرم أم المرتضع ولا أخته على أبيه من الرضاع ولا أخيه.
فائدة: قال ابن قدامة: ولا تنتشر الحرمة بغير لبن الآدمية بحال، فلو ارتضع اثنان من لبن بهيمة، لم يصيرا أخوين، في قول عامة أهل العلم؛ منهم الشافعي، وابن القاسم وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
ولو ارتضعا من رجل، لم يصيرا أخوين، ولم تنتشر الحرمة بينه وبينهما، في قول عامتهم.
(وَلبَنُ الفحلِ مُحَرّم).
الفحل: الرجل، ونسبة اللبن إليه مجازيه لكونه السبب فيه.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن لبن الفحل يحرّم.
عن عائشة (أَنْ أَفْلَحَ -أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ- جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ اَلْحِجَابِ. قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْتُهُ بِاَلَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ. وَقَالَ: إِنَّهُ عَمُّكِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(أَنْ أَفْلَحَ -أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ) أفلح: هو عم عائشة من الرضاعة، لأنه أخو أبي القعيس نسباً الذي رضعت عائشة من زوجته. (بَعْدَ اَلْحِجَابِ) أي: بعد نزول آيات الحجاب، وذلك آخر سنة خمس من الهجرة.
فهذا الحديث على ثبوت الأبوة من الرضاعة وأن زوج المرضعة يعتبر أباً للرضيع من الرضاعة. ووجهه: أن زوجة أبي القعيس أرضعت عائشة، فصارت أماً لها وصار زوجها أباً لها من الرضاعة وإخوانه أعمام عائشة من الرضاعة ولهذا قال أخو أبي القعيس لعائشة:" أتحتجبين عني وأنا عمك " رواه البخاري، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على أنه عمٌ لعائشة بقوله:"ائذني له فإنه عمك تربت يمينك".
قال ابن قدامة: (ولبن الفحل محرم) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَرْضَعَتْ طِفْلًا بِلَبَنٍ ثَابَ مِنْ وَطْءِ رَجُلٍ حَرُمَ الطِّفْلُ عَلَى الرَّجُلِ وَأَقَارِبِهِ، كَمَا يَحْرُمُ وَلَدُهُ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْ الرَّجُلِ كَمَا هُوَ مِنْ الْمَرْأَةِ، فَيَصِيرُ الطِّفْلُ وَلَدًا لِلرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ أَبَاهُ، وَأَوْلَادُ الرَّجُلِ إخْوَتَهُ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ وَأَخَوَاتُهُ أَعْمَامُ الطِّفْلِ وَعَمَّاتُهُ، وَآبَاؤُهُ وَأُمَّهَاتُهُ أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ.
قَالَ أَحْمَدُ لَبَنُ الْفَحْلِ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ، فَتُرْضِعَ هَذِهِ صَبِيَّةً وَهَذِهِ صَبِيًّا لَا يُزَوَّجُ هَذَا مِنْ هَذَا وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَتَانِ، أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا جَارِيَةٍ وَالْأُخْرَى غُلَامًا، فَقَالَ: لَا، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا تَفْسِيرُ لَبَنِ الْفَحْلِ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَدِيث. (المغني).
وقال أيضاً في عمدة الفقه: عمدة الفقه: ولبنُ الفحلِ مُحَرِّمٌ، فإذا كان لرجلٍ امرأتانِ فأرضعتْ إحداهما بلبَنِهِ طفلاً والأخرى طفلة صارا أخوين لأن اللقاح واحد.
قال الشيخ الفوزان: إذا رضع طفل من امرأة الرضاع المعتبر شرعاً بأن يكون في الحولين وأن يكون خمس رضعات فأكثر فإنه يكون ابنًا للمرضعة، وتكون بنات المرضعة كلهن أخوات له، وكذلك يكون ابنًا لمن له اللبن وهو زوجها، وتكون بنات الزوج كلهن أخوات لهذا المرتضع سواء كن من المرضعة أو من غيرها كما عليه جمهور أهل العلم وهذا ما يسمى بلبن الفحل.
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: رضعتُ من امرأة ثم تزوج زوجها من أخرى، وأنجبت زوجته أبناء، فهل هم إخوة لي؟
فأجاب: إذا كان الرضاع خمس رضعات فأكثر وكان اللبن منسوباً للزوج لكونها أنجبت منه فهم إخوة لك من أبيك وأمك من الرضاع،
وأما أولاده من الزوجة الثانية فهم إخوة لك من أبيك من الرضاع.
(وَإِذَا شُكَّ فِي الرَّضَاعِ أَوْ عددهِ فَلَا تَحْرِيمَ).
أي: إذا شُك في الرضاع: يعني أن أهل الطفل شَكُّوا هل رضع من هذه المرأة أم لا؟ فلا تحريم.
لأن الأصل عدم الرضاع.
وإذا شُك في عدده:، بأن قالوا: نعم الطفل رضع من هذه المرأة عدة مرات، لكن لا ندري أرضع خمساً أم دون ذلك؟ فلا تحريم.
لأن الأصل الحل، وهنا لم نتيقن إلا ما دون الخمس، وهذا من أكثر ما يقع.
قال ابن قدامة: وَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِ الرَّضَاعِ، أَوْ فِي عَدَدِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ، هَلْ كَمُلَا أَوْ لَا؟ لَمْ يَثْبُتْ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَلَا نُزُولَ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ. (المغني).
(ويَثبُتُ بقولِ امرأةٍ عدْلٍ).
أي: أن الرضاع يثبت بشهادة امرأة واحدة، بشرط أن تكون مرضية.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ اَلْحَارِثِ (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ اِمْرَأَةٌ. فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَسَأَلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ? " فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ. وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِي.
ففي هذا الحديث: أن الرضاع يثبت ويترتب عليه أحكامه بشهادة امرأة واحدة.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال: (ذكر الخلاف ابن قدامة في المغني).
القول الأول: أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع، إذا كانت مرضية.
وبهذا قال طاوس، والزهري، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وسعيد بن عبد العزيز.
القول الثاني: لا يقبل من النساء أقل من أربع؛ لأن كل امرأتين كرجل.
وهذا قول عطاء، وقتادة، والشافعي:
القول الثالث: لا يقبل فيه إلا رجلان، أو رجل وامرأتان.
وهو قول أصحاب الرأي.
وروي ذلك عن عمر؛ لقول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان).
قال ابن قدامة مرجحاً القول الأول:
ولنا: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ اَلْحَارِثِ (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ اِمْرَأَةٌ. فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَسَأَلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ? " فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ. وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ
وهذا يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة.
وقال الزهري: فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان رضي الله عنه بشهادة امرأة في الرضاع.
وقال الأوزاعي: فرق عثمان بين أربعة وبين نسائهم، بشهادة امرأة في الرضاع.
وقال الشعبي: كانت القضاة يفرقون بين الرجل والمرأة، بشهادة امرأة واحدة في الرضاع.
ولأن هذا شهادة على عورة، فيقبل فيه شهادة النساء المنفردات، كالولادة. (المغني).
فائدة: 1
استحب العلماء أن يختار المرضعةَ الحسنة الخَلْق والخُلُق، فإن الرضاع يُغير الطِبَاع.
والأحسن أن لا يرضعه إلا أمه، لأنه أنفع وأمرأ، وقد يكون ذلك واجباً عليها إذا لم يقبل الطفل ثدي غيرها.
وقد حث الأطباء على لبن الأم لا سيما في الأشهر الأولى.
فائدة: 2
هل للزوجة حق في طلب أجرة على إرضاع الطفل؟
ذهب بعض العلماء إلى أن الزوجة إذا طلبت من زوجها أجرة على إرضاعها أولادها منه وجب عليه ذلك، واستدلوا بقول الله تعالى:(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
ولكن الصحيح في ذلك أن الزوجة إذا كانت في عصمة الزوج، فلا يجوز لها أن تطلب أجرة مقابل إرضاعها لأولادها، لأن ذلك واجب عليها، وليس لها حينئذ إلا النفقة فقط، لقول الله تعالى:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
وأما إذا كانت مطلقة، وليست في عصمة زوجها، فلها أن تطلب أجرة على إرضاعها أولادها منه، وذلك لقوله تعالى:(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)، فهذه الآية في حق المطلقة، والآية الأولى في حق الزوجة.
وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ورجحه من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإرضاع الطفل واجب على الأم، بشرط أن تكون مع الزوج، وهو قول ابن أبي ليلى وغيره من السلف. ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها، وهو اختيار القاضي وقول الحنفية؛ لأن الله تعالى يقول:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فلم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة بالمعروف، وهو الواجب بالزوجية.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وظاهر كلام المؤلف أن عليه أن يؤدي الأجرة سواء كانت الأم معه، أو بائناً منه، فإذا طلبت الأم من زوجها أن يؤدي الأجرة عن إرضاع الولد، ولو كانت تحته، فعليه أن يؤدي الأجرة، نأخذ ذلك من قول المؤلف (وعلى الأب أن يسترضع لولده) ولم يقيده بما إذا كانت الأم بائناً، والدليل على ذلك عموم قوله تعالى:(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وهذا الذي ذهب إليه المؤلف هو المشهور من المذهب [يعني: مذهب الإمام أحمد]، وأن الأجرة حق لها.
واختار شيخ الإسلام: أنه إذا كانت المرأة تحت الزوج فليس لها إلا الإنفاق فقط، وليس لها طلب الأجرة، وما قاله الشيخ أصح؛ لأن الله قال:(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وهذا في المطلقات، والمطلقة ليست مع الزوج، وأما التي مع زوجها فقال تعالى:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فإن قلت: إذا كانت زوجة فعلى الزوج النفقة والكسوة بالزوجية، سواء أرضعت أم لم ترضع؟ قلنا: لا مانع من أن يكون للإنفاق سببان، فإذا تخلف أحدهما بقي الآخر، فلو كانت الزوجة في هذه الحال ناشزاً، فليس لها الإنفاق بمقتضى الزوجية، لكن بمقتضى الإرضاع لها نفقة، ومن المعلوم أنك لو استقرأت أحوال الناس من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ما وجدت امرأة من النساء تطالب زوجها بأجرة إرضاع الولد، وهذا هو القول الصحيح. (الممتع)
فائدة: 3
قال ابن قدامة: إذَا كَانَ لِامْرَأَةٍ لَبَنٌ مِنْ زَوْجٍ، فَأَرْضَعَتْ طِفْلًا ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ، وَانْقَطَعَ لَبَنُهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَصَارَ لَهَا مِنْهُ لَبَنٌ، فَأَرْضَعَتْ مِنْهُ الصَّبِيَّ رَضْعَتَيْنِ، صَارَتْ أُمًّا لَهُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْسَ مُحَرِّمَاتٌ، وَلَمْ يَصِرْ وَاحِدٌ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أَبًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ عَدَدَ الرَّضَاعِ مِنْ لَبَنِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ؛ لِكَوْنِهِ رَبِيبَهَا، لَا لِكَوْنِهِ وَلَدَهُمَا.
فائدة: 4
قال ابن قدامة: وَيُكْرَهُ الِارْتِضَاعُ بِلَبَنِ الْحَمْقَاءِ، كَيْلًا يُشْبِهَهَا الْوَلَدُ فِي الْحُمْقِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّ الرَّضَاعَ يُغَيِّرُ الطِّبَاعَ.
كتاب النفقات
تعريفها:
النفقات جمع نفقة: وهي كفاية من يمونه طعاماً وشراباً وكسوة وسكنى وعفافاً.
وأسباب النفقة ثلاثة: الزوجية _ والقرابة _ والملك.
وبدأ المصنف رحمه الله بالنفقة على الزوجات لأمرين:
أولاً: لأنها أقوى النفقات.
ثانياً: لأنها معاوضة، فتطالب بها أو لها الفسخ.
(يجبُ على الإنسان نفقة زوجتِه وكسوتها ومسكنها).
أي: يجب على الزوج أن ينفق على زوجته [من طعام وشراب] وكسوتها [من لباس ونحوه] ومسكنها.
قال ابن قدامة: نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.
أ- قال تعالى (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ).
ب- وقال تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ).
ج- وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال (. . . فَاتَّقُوا اللَّهَ فِى النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) رواه مسلم.
د- وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَتْ بِنْتُ عُتْبَةَ -اِمْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ- عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنْ اَلنَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلِيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ? فَقَالَ: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ، وَيَكْفِي بَنِيك) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
هـ- وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ اَلْقُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ? قَالَ (أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اِكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ اَلْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّح) رواه أبو داود.
و- ومن جهة المعنى: أن المرأة محبوسة على الزوج بمنعها من التصرف والاكتساب للتفرغ لحقه، فلا بد أن ينفق عليها كالعبد مع سيده.
قال ابن قدامة: اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشزين، ذكره ابن المنذر وغيره.
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقهنَّ وَكِسْوَتهنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فِيهِ وُجُوب نَفَقَة الزَّوْجَة وَكِسْوَتهَا وَذَلِكَ ثَابِت بِالْإِجْمَاعِ.
وقال الحافظ ابن حجر: وانعقد الإجماع على الوجوب.
فائدة:
والنفقة على الزوجة فضلها عظيم:
عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة) متفق عليه.
وعن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك). متفق عليه
(بالمَعروفِ)
أي: نفقة الزوجة مقدرة بالمعروف.
وهذا قول الجمهور.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
ولقوله صلى الله عليه وسلم لهند (خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ، وَيَكْفِي بَنِيك).
فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف، ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع كما بين فرائض الزكاة والديات.
قال ابن حجر عند شرحه لحديث هند: وفيه وجوب نفقة الزوجة، وأنها مقدرة بالكفاية، وهو قول أكثر العلماء.
وقال النووي: وفيه أَنَّ النَّفَقَة مُقَدَّرَة بِالْكِفَايَةِ لَا بِالْأَمْدَادِ، وَمَذْهَب أَصْحَابنَا أَنَّ نَفَقَة الْقَرِيب مُقَدَّرَة بِالْكِفَايَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث، وَنَفَقَة الزَّوْجَة مُقَدَّرَة بِالْأَمْدَادِ عَلَى الْمُوسِر كُلّ يَوْم مُدَّانِ، وَعَلَى الْمُعْسِر مُدّ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّط مُدّ وَنِصْف، وَهَذَا الْحَدِيث يَرُدّ
عَلَى أَصْحَابنَا. (شرح مسلم).
وقال ابن قدامة: وَالنَّفَقَةُ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ فِي مِقْدَارِهَا.
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ.
لقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدٍ (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ).
فَأَمَرَهَا بِأَخْذِ مَا يَكْفِيهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَرَدَّ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ إلَيْهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَدْرَ كِفَايَتِهَا لَا يَنْحَصِرُ فِي الْمُدَّيْنِ، بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ عَنْهُمَا وَلَا يَنْقُصُ.
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
وَإِيجَابُ أَقَلِّ مِنْ الْكِفَايَةِ مِنْ الرِّزْقِ تَرْكٌ لِلْمَعْرُوفِ، وَإِيجَابُ قَدْرِ الْكِفَايَةِ (المغني).
(بحسبِ حالِ الزوج).
أي أن المعتبر بالإنفاق حال الزوج لا حال الزوجة.
لقوله تعالى (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا).
وهذا مذهب الشافعي وهو الصحيح، فالآية نص صريح في اعتبار النفقة بحال الزوج، فيجب العمل به.
وعلى هذا القول: فإذا كان فقيراً فليس لها إلا نفقة فقير، وإذا كان غنياً ألزم بنفقة غني ولو كانت الزوجة فقيرة.
وذهب بعض العلماء إلى أن المعتبر حال الزوجة.
وهو قول مالك وأبي حنيفة.
لقوله صلى الله عليه وسلم لهند (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وعلى هذا القول: فإذا كانت فقيرة، فليس لها إلا نفقة فقيرة ولو كان زوجها من أغنياء العالم.
وقال بعضهم: المعتبر بحالهما، والراجح الأول.
(وعَليه مؤنةُ نظافتِها)
أي: على الزوج تكاليف مؤنة نظافة زوجته من دهنٍ وسدر وما أشبه ذلك.
لأن ذلك كله من حوائجها المعتادة.
(لا دواء وأُجْرةُ طبيبٍ).
أي: لا يلزم الزوج أجرة الطبيب الذي يعالج زوجته ولا ثمن دواء.
لأن ذلك ليس من حاجتها الضرورية المعتادة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه يلزمه ذلك.
لقوله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) وليس من المعاشرة بالمعروف أن تمرض الزوجة ثم لا يقوم بعلاجها وشراء الدواء لها، إلا إن شق عليه ذلك، كدواء كثير أو غالي الثمن. (فقه الدليل للفوزان).
(وإذا أَعْسَرَ بنفقةِ القوتِ، أو الكِسْوَةِ فلها فَسْخُ النكاحِ).
أي: إذا اعسر الزوج عن نفقة زوجته واختارت فراقة فإنه يفرق بينهما.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
أ- لحديث أبي هريرة قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) تَقُولُ الْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي وَيَقُولُ الاِبْنُ أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي فَقَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَة) رواه البخاري.
ب- وعن سفيان عن أبي الزناد قال (سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قال: نعم، قلت: سنة، قال: سنة) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه.
ج- وقياساً على الرقيق والحيوان، قالوا: إن من أعسر بالإنفاق عليه أجبر على بيعه اتفاقاً.
قال الصنعاني: وقد اختلف العلماء في هذا الحكم وهو فسخ الزوجية عند إعسار الزوج على أقوال:
الأول: ثبوت الفسخ.
وهو مذهب علي وعمر وأبي هريرة وجماعة من التابعين ومن الفقهاء مالك والشافعي وأحمد وبه قال أهل الظاهر.
مستدلين بما ذكر وبحديث (لا ضرر ولا ضرار).
وبأن النفقة في مقابل الاستمتاع بدليل أن الناشز لا نفقة لها عند الجمهور فإذا لم تجب النفقة سقط الاستمتاع فوجب الخيار للزوجة.
وبأنهم قد أوجبوا على السيد بيع مملوكه إذا عجز عن إنفاقه فإيجاب فراق الزوجة أولى، لأن كسبها ليس مستحقاً للزوج كاستحقاق السيد لكسب عبده.
وبأنه قد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على الفسخ بالعنة، والضرر الواقع من العجز عن النفقة أعظم من الضرر الواقع بكون الزوج عنيناً.
وبأنه تعالى قال (وَلا تُضَارُّوهُنَّ) وقال (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) وأي إمساك بمعروف وأي ضرر أشد من تركها بغير نفقة. (سبل السلام)
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يفرق بينهما.
قال ابن قدامة: وذهب عطاء، والزهري، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وصاحباه إلى أنها لا تملك فراقه بذلك، ولكن يرفع يده عنها لتكتسب؛ لأنه حق لها عليه.
وقال الصنعاني: والثاني ما ذهب إليه الهادوية والحنفية وهو قول للشافعي أنه لا فسخ بالإعسار من النفقة.
أ- لقوله تعالى (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) قالوا وإذا لم يكلفه الله النفقة في هذه الحال فقد ترك ما لا يجب عليه ولا يأثم بتركه فلا يكون سبباً للتفريق بينه وبين سكنه.
ب- أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما سألْنه النفقة قام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها، وأن عمر قام إلى حفصة كذلك فوجأ عنقها.
وذهب بعض العلماء: إلى أن المرأة إذا تزوجت عالمة بإعساره أو كان موسراً ثم أصابته جائحة فإنه لا فسخ لها وإلا كان لها الفسخ وكأنه جعل علمها رضا بعسرته.
واختار هذا ابن القيم، فقال في زاد المعاد: وَاَلّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الشّرِيعَةِ وَقَوَاعِدُهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الرّجُلَ إذَا غَرّ الْمَرْأَةَ بِأَنّهُ ذُو مَالٍ فَتَزَوّجَتْهُ عَلَى ذَلِكَ فَظَهَرَ مُعْدِمًا لَا شَيْءَ لَهُ أَوْ كَانَ ذَا مَالٍ وَتَرَكَ الْإِنْفَاقَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ كِفَايَتِهَا مِنْ مَالِهِ بِنَفْسِهَا وَلَا بِالْحَاكِمِ أَنّ لَهَا الْفَسْخَ وَإِنْ تَزَوّجَتْهُ عَالِمَةً بِعُسْرَتِهِ أَوْ كَانَ مُوسِرًا ثُمّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَلَا فَسْخَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَلَمْ تَزَلْ النّاسُ تُصِيبُهُمْ الْفَاقَةُ بَعْدَ الْيَسَارِ وَلَمْ تَرْفَعْهُمْ أَزْوَاجُهُمْ إلَى الْحُكّامِ لِيُفَرّقُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنّ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.
والراجح قول الجمهور.
(فَإِنْ مَنَعَهَا مَا يَجِبُ لَهَا، أَوْ بَعْضَهُ، وَقَدَرَتْ لَهُ عَلَى مَالٍ، أَخَذَتْ مِنْهُ مِقْدَارَ حَاجَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ).
أي: أَنَّ الزَّوْجَ إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَى امْرَأَتِهِ مَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، أَوْ دَفَعَ إلَيْهَا أَقَلَّ مِنْ كِفَايَتِهَا، فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ الْوَاجِبَ أَوْ تَمَامَهُ، بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ.
لحديث عَائِشَة قَالَتْ (دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ -اِمْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ- عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنْ اَلنَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلِيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ? فَقَالَ: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ، وَيَكْفِي بَنِيكِ) متفق عليه.
قال ابن قدامة: وَهَذَا إذْنٌ لَهَا فِي الْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَرَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهَا فِي أَخْذِ تَمَامِ الْكِفَايَةِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ.
أ- لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ لَا غِنَى عَنْهَا، وَلَا قَوَامَ إلَّا بِهَا، فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهَا الزَّوْجُ وَلَمْ تَأْخُذْهَا، أَفْضَى إلَى ضَيَاعِهَا وَهَلَاكِهَا، فَرَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهَا فِي أَخْذِ قَدْرِ نَفَقَتِهَا، دَفْعًا لِحَاجَتِهَا.
ب- وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الزَّمَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَتَشُقُّ الْمُرَافَعَةُ إلَى الْحَاكِمِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِهَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ. (المغني).
فائدة:
فوائد من حديث هند:
أن نفقة الزوجة مقدرة بالكفاية لا بالأمداد، لقوله:(بالمعروف)، كما تقدم.
أنه لا يجوز للمرأة إذا أُذن لها بالأخذ من مال زوجها للنفقة أن تأخذ ما خرج عن العادة والعرف.
قال ابن القيم: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَفَرّدِ الْأَبِ بِنَفَقَةِ أَوْلَادِهِ وَلَا تُشَارِكُهُ فِيهَا الْأُمّ وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلّا قَوْلٌ شَاذّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ أَنّ عَلَى الْأُمّ مِنْ النّفَقَةِ بِقَدْرِ مِيرَاثِهَا.
استدل بحديث هند على جواز الحكم على الغائب.
قال ابن القيم: ولا دليل فيه، لأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد لم يكن مسافراً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة ولا يُعطى المدعي بمجرد دعواه، وإنما كان هذا فتوى منه صلى الله عليه وسلم.
استدل بالحديث على مسألة الظفر، وهي: أن للإنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه.
قال ابن القيم: ولا يدل لثلاثة أوجه:
أحدها: أن سبب الحق ها هنا ظاهر، وهو الزوجية، فلا يكون الأخذ خيانة في الظاهر، فلا يتناوله قول النبي صلى الله عليه وسلم:(أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقاً بينهما فمنع من الأخذ في مسألة الظفر، وجوّز للزوجة الأخذ، وعمل بكلا الحديثين.
الثاني: أنه يشق على الزوجة أن ترفعه إلى الحاكم، فيُلزمه بالإنفاق أو الفراق، وفي ذلك مضرة عليها مع تمكنها من أخذ حقها.
الثالث: أن حقها يتجدد كل يوم، فليس هو حقاً واحداً مستقراً يمكن أن تستدين عليه، أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين.
قال ابن القيم: وفي حديث هند دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه، وأن ذلك ليس بغيبة، ونظير ذلك قول الآخر في خصمه: يا رسول الله، إنه فاجر ولا يبالي ما حلف به.
أن الإنفاق في الزوجية من جانب واحد للزوج على زوجها.
ذم الشح، وأنه يمنع الإنسان ما وجب عليه.
جواز سماع كلام الأجنبية للحاجة.
(وتَجبُ لرجعيّةٍ وبائنٍ حامل).
أي: وتجب النفقة للمطلقة الرجعية سواء كانت حاملاً أم لا، لها النفقة والسكنى والكسوة.
لأنها زوجة فحكمها حكم الزوجات، فتشملها النصوص السابقة من الكتاب والسنة.
لقوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ).
فسمى الله تعالى المطلّق بعلاً، والبعل هو الزوج، إلا أنه لا قسْم لها.
(وبائنٍ حامل).
أي: وتجب النفقة للبائن بفسخ أو طلاق إذا كانت حاملاً.
أ- لقوله تعالى (وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
ب- وفي حديث فاطمة بنت قيس قال صلى الله عليه وسلم (لا نفقة لكِ إلا أن تكوني حاملاً).
قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثاً.
فائدة: 1
واختلف العلماء هل النفقة للحمل أو للحامل من أجل الحمل؟
قيل: النفقة للحمل، وهذا المذهب.
وقيل: للحامل من أجل الحمل.
فائدة: 2
قوله (وبائنٍ حامل) مفهومه أن البائن غير الحامل لا نفقة لها ولا سكنى.
وهذا مذهب الإمام أحمد، وهذا القول هو الصحيح.
لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة (لا نفقة لها ولا سكنى).
ولفظ الحديث: عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ (أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ) وَفِي رِوَايَةٍ (طَلَّقَهَا ثَلاثاً - فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْهُ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ: فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: [لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَلا سُكْنَى] فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي. قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ. وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ: فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَرِهَتْهُ ثُمَّ قَالَ: انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَنَكَحَتْهُ. فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً، وَاغْتَبَطَتْ بِهِ) متفق عليه.
فهذا الحديث نص في الباب.
قال ابن عبد البر رحمه الله: لكن من طريق الحجة وما يلزم منها قول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأحج.
لأنه لو وجب السكنى عليها، وكانت عبادة تعبدها الله بها، لألزمها ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرجها عن بيت زوجها إلى بيت أم شريك، ولا إلى بيت ابن أم مكتوم
…
وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس وقد طلقت طلاقاً باتاً (لا سكنى لك ولا نفقة وإنما السكنى والنفقة لمن عليها رجعة) فأي شيء يعارَض به هذا؟ هل يعارَض إلا بمثله عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو المبين عن الله مراده من كتابه. ولا شيء عنه عليه السلام يدفع ذلك، ومعلوم أنه أعلم بتأويل قول الله عز وجل:(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) من غيره. (التمهيد).
وذهب بعض العلماء: إلى أن لها السكنى دون النفقة.
وهذا قول عائشة وهو مذهب عائشة وفقهاء المدينة السبعة.
واستدلوا بقوله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُم).
لكن هذا القول ضعيف، لأن الآية جاءت في حكم الرجعية لا في حكم البائن، ويوضح ذلك قوله تعالى (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً)، وإحداث الأمر معناه تغيره نحو الزوجة ورغبته فيها في زمن العدة، وهو مستحيل في البائن.
وذهب بعضهم: أن لها النفقة والسكنى.
وهذا مذهب أبي حنيفة، وهذا القول ضعيف.
(لا لمتوفَّى عنها).
المتوفى عنها زوجها تنقسم إلى قسمين:
الأول: أن تكون حائلاً (غير حامل).
فهذه لا نفقة لها بالإجماع.
الثاني: أن تكون حاملاً.
فلا نفقة لها أيضاً، وهذا قول الجمهور.
فالمتوفى عنها زوجها لا نفقة لها ولو كانت حاملاً.
قال صلى الله عليه وسلم (إنما النفقة والسكن للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة) رواه النسائي.
ومن المعلوم أن المتوفى عنها زوجها لا رجعة لها.
قال صاحب الروض: ولا نفقة ولا سكنى من تركة لمتوفى عنها ولو حاملاً، لأن المال انتقل عن الزوج إلى الورثة، ولا سبب لوجوب النفقة عليهم، فإن كانت حاملاً فالنفقة من حصة الحمل من التركة إن كانت وإلا فعلى وارثه الموسر.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه: المعتدات ثلاثة أقسام: قسم لها السكنى والنفقة بكل حال وهي الرجعية، وقسم ليس لها نفقة ولا سكنى إلا إن كانت حاملاً، وهي البائن في الحياة، وقسم ليس لها نفقة ولا سكنى مطلقاً وهي المتوفى عنها، وهي البائن بالموت
فالمتوفى عنها زوجها لا نفقة لها، ولا سكنى، ولو كانت حاملاً، أما إذا لم تكن حاملاً فالأمر ظاهر؛ لأنها بانت، وأما إن كانت حاملا فلا نفقة لها أيضاً.
فإن قيل: أي فرق بينها وبين البائن في حال الحياة؟
الجواب: أن البائن في حال الحياة ـ إذا كانت حاملاً أوجبنا الإنفاق على زوجها في ماله، وأما المتوفى عنها زوجها فالمال انتقل للورثة فكيف نجعل النفقة في التركة؟! فنقول: لا نفقة لها وإن كانت حاملاً.
فإن قيل: ماذا نصنع فيما إذا حملت، وقد قلنا فيما سبق: إن النفقة للحمل، لا لها من أجله؟
يقولون: إن النفقة تجب في حصة هذا الجنين من التركة، فإن لم يكن تركة، كأن يموت أبوه ولا مال له، فإن النفقة تجب على من تلزمه نفقته من الأقارب، كأن يكون له إخوة أغنياء أو أعمام. (الشرح الممتع).
ولا خلاف بين الفقهاء في أن المعتدة من وفاة إن كانت حائلا (غير حامل) لا نفقة لها في العدة، وجمهورهم على أنه لا نفقة لها أيضاً إن كانت حاملاً. (الموسوعة الفقهية).
وقد ذكر الحافظ ابن حجر حديث فاطمة بنت قيس هنا مع أنه ليس في المتوفى عنها، والمعنى: أنه إذا كانت البائن حال الحياة لا نفقة لها فالمتوفى عنها من باب أولى.
- وأما قوله تعالى (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهم) فهذه في الحامل المبتوتة وهو قول أكثر المفسرين.
قال الشوكاني: فأما الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال عليّ، وابن عمر، وابن مسعود، وشريح، والنخعي، والشعبي، وحماد، وابن أبي ليلى، وسفيان وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة وأصحابه: لا ينفق عليها إلاّ من نصيبها، وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة.
(وَمَنْ حُبِسَتْ وَلَوْ ظُلْماً، أَو نَشَزَتْ، أَوْ تَطَوَّعَتْ بِلَا إِذْنِهِ بِصَوْمٍ، أَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا وَلَوْ بإِذْنِهِ سَقَطَتْ).
هذه مسقطات النفقة:
أولاً: (وَمَنْ حُبِسَتْ وَلَوْ ظُلْماً).
فإذا حبست الزوجة سقطت نفقتها.
وهذا قول الحنفية والشافعية والحنابلة.
لفوات التمكين، المقابل للنفقة، وله البيتوتة معها في حبسها.
…
(الروض المربع).
وذهب بعض العلماء: إلى أنها لو حبست ظلماً فإن نفقتها لا تسقط.
قال الشيخ ابن عثيمين: لأن تعذر استمتاعه بها ليس من قبلها، فيكون كما لو تعذر استمتاعه بها لمرض أو نحو ذلك.
ثانياً: (أَو نَشَزَتْ).
فلا نفقة للناشز ما دامت قائمة على نشوزها.
قال ابن قدامة: معنى النشوز: معصيتها لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له النكاح .. فمتى امتنعت من فراشه أو خرجت من منزله بغير
إذنه أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها أو السفر معه فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم.
فائدة:
إذا نشزت المرأة وهي حامل، فهل يلزم الزوج نفقة الحمل، أم لا؟
فيه خلاف بين الفقهاء، وهو مبني على اختلافهم في نفقة الحامل، هل هي للحمل أم للحامل؟ وجمهور العلماء على أن الناشز الحامل لها النفقة، وهو مذهب المالكية والحنابلة، وقول للشافعية
قال ابن قدامة رحمه الله: وَهَلْ تَجِبُ نَفَقَةُ الْحَمْلِ لِلْحَامِلِ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ أَوْ لِلْحَمْلِ، فِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: تَجِبُ لِلْحَمْلِ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِوُجُودِهِ، وَتَسْقُطُ عِنْدَ انْفِصَاله، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَهُ.
وَالثَّانِيَةُ: تَجِبُ لَهَا مِنْ أَجْلِهِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَكَانَتْ لَهُ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَأَشْبَهَتْ نَفَقَتَهَا فِي حَيَاتِهِ.
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فُرُوعٌ وَإِنْ نَشَزَتْ امْرَأَةُ إنْسَانٍ، وَهِيَ حَامِلٌ، وَقُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ وَلَدِهِ لَا تَسْقُطُ بِنُشُوزِ أُمِّهِ وَإِنْ قُلْنَا: لَهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا نَاشِزٌ. (المغني).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "هذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، فمنهم من يقول:
إن النفقة للحامل من أجل الحمل، ومنهم من يقول: إن النفقة للحمل، لا للحامل من أجله .... وهذا القول الثاني أرجح، لكنه لما كان لا طريق لنا إلى إيصال النفقة إلى الحمل إلا عن طريق تغذيته بالأم، صار الإنفاق على هذه الأم من أجل الحمل.
ينبني على هذا الخلاف: لو كانت الزوجة ناشزاً وهي حامل، فهل لها نفقة؟
إن قلنا: النفقة للحمل [وهو الأرجح كما سبق] وجب لها النفقة، لأن الحمل ليس بناشز، وإن قلنا: إن النفقة لها، سقطت نفقتها، لأنها ناشز. (الشرح الممتع).
وعلى هذا؛ فنفقة الحمل واجبة على الأب، حتى ولو كانت أمه ناشزاً.
ثالثاً: (أَوْ تَطَوَّعَتْ بِلَا إِذْنِهِ بِصَوْمٍ).
أي: إذا صامت الزوجة تطوعاً بلا إذن الزوج سقطت نفقتها، وكذلك إذا حجت.
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ (غَيْرَ رَمَضَانَ).
فلا يجوز للزوجة أن تصوم نفلاً إلا بأذن زوجها.
أ-لهذا الحديث.
ب- لأن حق الزوج فرض فلا يجوز تركه بنفل.
فائدة:
في قوله صلى الله عليه وسلم (وزوجها شاهد) نستفيد: أن الزوج إذا كان غائباً فيجوز لها أن تصوم ولا تحتاج إلى إذنه.
أ- لمفهوم الحديث.
ب- ولأن صيامها لا يضيع عليه حقاً من حقوقه.
ج- ولأن المعنى المراد من المنع لا يوجد.
فائدة: 2
صوم الفرض كرمضان لا يحتاج إذن الزوج.
لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فائدة: 3
هل يجب على الزوجة أن تستأذن زوجها في قضاء رمضان أم لا؟
هذه المسألة لا تحلو من حالين:
الحال الأولى: أن يضيق الوقت، بأن لم يبق من شعبان إلا بمقدار ما عليها من رمضان.
فهنا لا يجب أن تستأذنه.
الحال الثانية: إذا لم يضق الوقت، (الوقت موسع للقضاء) فهنا اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يجب أن تستأذنه.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
أ- لحديث عائشة قالت (كان يكون عليّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان) متفق عليه.
ب- أنه ليس لها أن تمنع الزوج حقه الذي هو على الفور بما ليس على الفور.
القول الثاني: أنه لا يجب أن تستأذنه.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تصومن امرأة تطوعاً وبعلها شاهد إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم وعبد الرزاق وهذا لفظه.
فمفهوم المخالفة من هذا الحديث يدل على أن لها أن تصوم بغير إذنه إذا لم يكن تطوعاً.
ب- أنه ليس للزوج منع الزوجة من المبادرة إلى قضاء رمضان إلا باختيارها، لأن لها حقاً في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها
وهذا القول هو الصحيح.
رابعاً: (أَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا وَلَوْ بإِذْنِهِ سَقَطَتْ).
أحوال سفر المرأة:
أولاً: إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها، سقط حقها من القسم، وكذلك سقط حقها من النفقة.
لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد منعت ذلك بالسفر. [قاله النووي]
معنى قولنا (إن سافرت بغير إذنه فلا قسم) أي: لا يلزمه القضاء إذا رجعت.
ثانياً: فإن سافرت بإذن زوجها لحاجتها، للتجارة مثلاً، أو للحج، أو للعمرة، أو لزيارة أقاربها.
ففي هذه المسألة قولان:
القول الأول: لا نفقة.
لأن النفقة في مقابل الاستمتاع، وقد تعذر بسبب من جهتها، فتسقط.
القول الثاني: لها النفقة.
لأنها سافرت بإذنه، فأشبه إذا سافرت معه، فهو الذي أسقط حقه في الاستمتاع.
وهذا الراجح.
ثالثاً: إن سافرت بإذنه لحاجته فلها النفقة والقسم.
مثلاً؛ له أم في المستشفى في بلد آخر، وسافرت بإذنه، فالحاجة له هو، ففي هذه الحال نقول: لها النفقة، لأن ذلك لحاجته.
- والخلاصة: سفر المرأة له أحوال:
أولاً: أن تسافر من غير إذنه: فلا قسم لها، ولا نفقة لها لأنها ناشز.
ثانياً: أن تسافر بإذنه لحاجتها، فلا قسم لها، ولها النفقة على الراجح.
ثالثاً: أن تسافر بإذنه لحاجته هو: فهذه لها القسم والنفقة.
(ومتَى لم يُنْفِقْ تبقىَ في ذمتِهِ).
أي: إذا لم ينفق الزوج فإن النفقة تبقى في ذمته ولا تسقط بمضي الزمان.
قال ابن قدامة: وَمَنْ تَرَكَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لَامْرَأَته مُدَّةً، لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ، وَكَانَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا لَعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
أ- وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ، يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا، فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى.
ب- وَلِأَنَّهَا حَقٌّ يَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، كَأُجْرَةِ الْعَقَارِ وَالدُّيُونِ.
ج-قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذِهِ نَفَقَةٌ وَجَبَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَزُولُ مَا وَجَبَ بِهَذِهِ الْحُجَجِ إلَّا بِمِثْلِهَا.
د- وَلِأَنَّهَا عِوَضٌ وَاجِبٌ فَأَشْبَهْت الْأُجْرَةَ.
…
(المغني).
فصل
في هذا الباب النفقة على الأقارب.
الأقارب: جمع قريب، وهو الاتصال بين شخصين بولادة قريبة أو بعيدة.
والمراد بالأقارب هنا: من يرثه بفرض أو تعصيب.
(وعلى الإنسان نفقة أصوله وفروعه الفقراء إذا كان غنياً، وكذلك من يرثه بفرض أو تعصيب).
- قوله (وعلى الإنسان نفقة
…
) دليل على وجوب النفقة على الأقارب.
والأدلة على وجوب نفقة الأقارب.
أ- قوله تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما، بل هو من أعظم الإحسان.
ب- وقوله تعالى (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
ج- وقوله تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ).
د- وَعَنْ طَارِقِ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ (قَدِمْنَا اَلْمَدِينَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ وَيَقُولُ: "يَدُ اَلْمُعْطِي اَلْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ) رَوَاهُ النَّسَائِي.
هـ_ وعن عائشة. قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم).
- قوله (. . . الفقراء إذا كان غنياً. .) هذه شروط النفقة على الأقارب:
الشرط الأول: قوله (إذا كان غنياً) أي: غِنَى المنفِق.
فإن كان فقيراً فإنه لا يلزمه الإنفاق.
والمراد بالغنى هنا: أن يفضل عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه يوم وليلته.
والدليل على هذا الشرط:
أ-قوله صلى الله عليه وسلم (ابدأ بنفسك) رواه مسلم.
ب-ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار).
الشرط الثاني: قوله (الفقراء .. ) أي: عجز المنفَق عليه [أن يكونوا فقراء]، بأن يكون معدماً عاجزاً عن التكسب.
فالمراد بالفقر هنا: فقر مال [بأن لا يجد مالاً] وفقر عمل [ما لكونه ضعيفاً لا يستطيع العمل، وإما لكونه لا يجد عملاً].
فإن كان غنياً بماله أو بكسبه فإنه لا نفقة له، لأنه إن كان غنياً بماله فالمال عنده، وإن كان غنياً بكسبه فإننا نلزمه بأن يكتسب.
الشرط الثالث: قوله (وكذلك من يرثه بفرض أو تعصيب) أي: أن يكون المنفِق وارثاً للمنفَق عليه بفرض أو تعصيب (سوى عمودي النسب فلا يشترط).
والدليل على وجوب نفقة القريب الذي يرثه المنفِق بفرض أو تعصيب:
أ- قوله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك).
ب- ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس.
الشرط الرابع: اتفاق الدين بين المنفق وبين المنفق عليه.
لأن الله قطع الموالاة بين الكافرين والمسلمين.
وهناك قول آخر في المسألة: أن هذا شرط إلا في عمودي النسب، فالأب ينفق عليه وإن كان كافراً، والولد ينفق عليه وإن كان كافراً، أما الأخ فلا ينفق عليه إلا أن يكون مسلماً.
وقيل: أن هذا لا يشترط مطلقاً لعموم قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)، وهكذا قوله:(وبالوالدين إخساناً) وقوله: (وآت ذا القربى حقه) فالأدلة عامة، نعم لو كان من المحاربين للإسلام فإنه لا ينفق عليه لأن الحربي المقصود اتلاف نفسه لا إبقاؤه.
أمثلة:
رجل عنده أب فقير وجد فقير، فيجب أن ينفق على أبيه، لأنه ابنه ووارثه، ويجب أن ينفق على جده مع أنه لا يرثه في هذه الصورة.
رجل غني، وأبُ أمهِ فقير، فإنه يجب أن ينفق عليه مع أنه لا يرثه، لأنه من عمودي النسب.
رجل غني له ابن عم فقير، وليس هناك غيرهما من القرابة، فتجب عليه النفقة، لأنه يرثه بالتعصيب.
ابن أخت غني وخاله فقير، فعلى المذهب لا يجب عليه النفقة، وعلى القول الراجح تجب النفقة.
رجل فقير، أمه فقيرة، وجدته موسرة، فنفقته على الجدة وإن كانت غير وارثة، لأن الأصول والفروع لا يشترط فيهم التوارث.
فائدة: 1
هل تجب النفقة لذوي الرحم أم لا؟ اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: أن النفقة لا تجب على ذوي الأرحام.
وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة.
أ- أن الأصل عدم وجوب النفقة إلا بدليل، ولم يوجد دليل صريح في ذلك.
أن قرابة ذوي الأرحام ضعيفة، بدليل أنها لا تمنع من دفع الزكاة لهم ولا يدخلون في العاقلة، ولذا لا تجب بهذه القرابة النفقة.
القول الثاني: أن النفقة تجب على ذوي الأرحام مطلقاً حتى لو لم يرثوا.
وهذا اختيار ابن تيمية.
لقوله تعالى (وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ).
وجه الدلالة: أن الآية دلت على أن ذوي الأرحام أولى وأحق ببعض، وإذا كان كذلك دل على وجوب النفقة فيما بينهم.
ب- ولقوله تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ).
وجه الدلالة: أن ذوي الأرحام من القرابة، وقد أمر الله بإيتائهم حقهم، ومن حقهم النفقة عليهم.
مثال: ابن أختٍ غني له خال فقير، وهذا الخال ليس له أحد يرثه سوى ابن أخته، الراجح يجب الإنفاق عليه لأنه يرث.
فائدة: 2
من يقدم بالنفقة؟
الزوجة. لأنها معاوضة، فتطالب بها أو لها الفسخ.
عَنْ جَابِرٍ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا، بَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِك).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (تَصَدَّقُوا. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ. فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: أَنْتَ أَبْصر). رواه أبو داود.
وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم النفقة على الأهل صدقة لا يعني أنها مستحبة فقط.
قَالَ الْمُهَلَّب: النَّفَقَة عَلَى الْأَهْل وَاجِبَة بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا الشَّارِع صَدَقَة خَشْيَة أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ قِيَامهمْ بِالْوَاجِبِ لَا أَجْر لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ عَرَفُوا مَا فِي الصَّدَقَة مِنْ الْأَجْر فَعَرَّفَهُمْ أَنَّهَا لَهُمْ صَدَقَة، حَتَّى لَا يُخْرِجُوهَا إِلَى غَيْر الْأَهْل إِلَّا بَعْد أَنْ يَكْفُوهُمْ; تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي تَقْدِيم الصَّدَقَة الْوَاجِبَة قَبْل صَدَقَة التَّطَوُّع ". نقله عنه في " فتح الباري" (9/ 623)
قال الْخَطَّابِيُّ: " هَذَا التَّرْتِيب إِذَا تَأَمَّلْته عَلِمْت أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرب.
وقال النووي: إذا اجتمع على الشخص الواحد محتاجون ممن تلزمه نفقتهم، نظرَ: إن وفَّى ماله أو كسبه بنفقتهم فعليه نفقة الجميع قريبهم وبعيدهم، وإن لم يفضل عن كفاية نفسه إلا نفقة واحد، قدَّم نفقة الزوجة على نفقة الأقارب
…
لأن نفقتها آكد، فإنها لا تسقط بمضي الزمان، ولا بالإعسار.
وقال المرداوي: الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: وُجُوبُ نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ وَإِنْ عَلَوَا، وَأَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا بِالْمَعْرُوفِ
…
إذَا فَضَلَ عَنْ نَفْسِهِ وَامْرَأَتِهِ.
والشوكاني: وقد انعقد الإجماع على وجوب نفقة الزوجة، ثم إذا فضل عن ذلك شيء فعلى ذوي قرابته.
فلم يختلف العلماء في تقديم الزوجة على الوالدين في النفقة، وإنما اختلفوا في الزوجة والولد أيهما يقدم؟
قال الشيخ ابن عثيمين: فالصواب أنه يبدأ بنفسه، ثم بالزوجة، ثم بالولد، ثم بالوالدين، ثم بقية الأقارب.
(وإن كان للفقير وارثان فأكثر، فنفقته عليهم على قدْر إرثهم).
لأن الله تعالى علق وجوب النفقة على الإرث، والحكم يدور مع علته فبقدر الإرث يلزم بالنفقة.
أمثلة:
رجل فقير له أم موسرة، وجد موسر.
فهنا يكون على الأم الثلث وعلى الجد الباقي وهو الثلثان، لأنه لو مات ميت عن أم وجد من قِبل أبيه لورثه كما ذكرنا: الأم الثلث والجد الباقي.
(إلا من له أبٌ فإن نفقتَه على أبيهِ خاصةً).
أي: أن الأب ينفرد بنفقة ولده.
أ-لقوله تعالى (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
ب- ولحديث هند السابق في قوله صلى الله عليه وسلم (خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك).
قال ابن القيم: وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده ولا يشاركه فيها الأم وهذا إجماع من العلماء إلا قول شاذ لا يلتفت إليه، وأن على الأم من النفقة بقدر ميراثها. (زاد المعاد).
المراد بالأب هنا الأب الأدنى، وليس المراد به الجد.
فإذا وجد أم أغنية وأب غني ولهما ولد، فالنفقة على الأب.
فائدة:
مسألة: لو كان رجل فقير، وله أب غني وابن غني، فهل ينفرد الأب بالنفقة؟ أو نقول: إنها على الابن، أو نقول: إن على الأب السدس والباقي على الابن؛ لأنهما يرثان كذلك؟
أمَّا المذهب فظاهر كلامهم في هذه الصورة أن النفقة على الأب، لعموم قوله تعالى:(وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
والقول الثاني: اختاره ابن عقيل من أصحابنا، أن النفقة على الابن.
والقول الثالث: أن على الأب السدس، والباقي على الابن.
ويمكن أن نجيب على القول الأول بأن الآية في الرضيع، والرضيع ليس له ولد، والله ـ تعالى ـ يقول في الرضيع:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)(وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) فالآية ليست شاملة، إنما هي حكم في صورة معيَّنة، وهي أمٌّ ترضع طفلاً لشخص، فعليه أن ينفق عليه، أما الصورة التي ذكرناها فلا تدخل في الآية.
والراجح في المسألة أن يقال: إنها تجب على الابن فقط؛ وذلك لأن الابن مأمورٌ بِبِرِّ أبيه أكثر من أمر الأب ببرِّ ابنه.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم).
ويقول (أنت ومالك لأبيك).
ويقول في فاطمة رضي الله عنها (إنها بضعة مني)، فالإنسان جزء من أبيه. (الشرح الممتع).
(وَعلَى الأَبِ أنْ يَسْتَرْضِعَ لِوَلَدِهِ وَيُؤَدِّيَ الأُجْرَةَ).
أي: أن الزوجة إذا طلبت من زوجها أجرة على إرضاعها أولادها منه وجب عليه ذلك.
لقول الله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
ولكن الصحيح في ذلك أن الزوجة إذا كانت في عصمة الزوج، فلا يجوز لها أن تطلب أجرة مقابل إرضاعها لأولادها.
لأن ذلك واجب عليها، وليس لها حينئذ إلا النفقة فقط.
لقول الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
وأما إذا كانت مطلقة، وليست في عصمة زوجها، فلها أن تطلب أجرة على إرضاعها أولادها منه، وذلك لقوله تعالى:(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)، فهذه الآية في حق المطلقة، والآية الأولى في حق الزوجة.
وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ورجحه من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
قال ابن تيمية: وإرضاع الطفل واجب على الأم، بشرط أن تكون مع الزوج، وهو قول ابن أبي ليلى وغيره من السلف. ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها، وهو اختيار القاضي وقول الحنفية؛ لأن الله تعالى يقول:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فلم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة بالمعروف، وهو الواجب بالزوجية.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وظاهر كلام المؤلف أن عليه أن يؤدي الأجرة سواء كانت الأم معه، أو بائناً منه، فإذا طلبت الأم من زوجها أن يؤدي الأجرة عن إرضاع الولد، ولو كانت تحته، فعليه أن يؤدي الأجرة، نأخذ ذلك من قول المؤلف (وعلى الأب أن يسترضع لولده) ولم يقيده بما إذا كانت الأم بائناً، والدليل على ذلك عموم قوله تعالى:(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وهذا الذي ذهب إليه المؤلف هو المشهور من المذهب [يعني: مذهب الإمام أحمد] وأن الأجرة حق لها.
واختار شيخ الإسلام: أنه إذا كانت المرأة تحت الزوج فليس لها إلا الإنفاق فقط، وليس لها طلب الأجرة.
وما قاله الشيخ أصح؛ لأن الله قال: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وهذا في المطلقات، والمطلقة ليست مع الزوج، وأما التي مع زوجها فقال تعالى:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فإن قلت: إذا كانت زوجة فعلى الزوج النفقة والكسوة بالزوجية، سواء أرضعت أم لم ترضع؟ قلنا: لا مانع من أن يكون للإنفاق سببان، فإذا تخلف أحدهما بقي الآخر، فلو كانت الزوجة في هذه الحال ناشزاً، فليس لها الإنفاق بمقتضى الزوجية، لكن بمقتضى الإرضاع لها نفقة، ومن المعلوم أنك لو استقرأت أحوال الناس من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ما وجدت امرأة من النساء تطالب زوجها بأجرة إرضاع الولد، وهذا
هو القول الصحيح. (الممتع).
النفقة على المماليك
(وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ رَقِيقِهِ طَعَاماً، وَكِسْوَةً، وَسُكْنَى).
أي: يجب على الإنسان أن ينفق على رقيقه.
أ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ اَلْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ب- وعَن أبي ذر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِخْوَانُكُمْ أَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْه) متفق عليه.
قال ابن قدامة: وأجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده، ولأنه لا بد له من نفقة، ومنافعه لسيده، وهو أخص الناس به، فوجبت نفقته عليه، كبهيمته.
فائدة:
مقدار النفقة على الرقيق: بالمعروف.
ينفق عليه بالمعروف من المسكن والملبس والمأكل ما يكفيه. (بالمعروف: ما تعارف عليه الناس).
والنفقة على الرقيق على قسمين:
نفقة واجبة (أن ينفق عليه ما يكفيه وإن كان دون ما يأكل هو ويلبس).
ونفقة مستحبة (أن ينفق عليه من جنس ما ينفق على نفسه من المطعم والملبس والمسكن).
قال ابن قدامة: والواجب من ذلك قدر كفايته من غالب قوت البلد، سواء كان قوت سيده، أو دونه، أو فوقه، وأدم مثله بالمعروف.
لقوله صلى الله عليه وسلم (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف).
والمستحب أن يطعمه من جنس طعامه.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فليطعمه مما يأكل).
فجمعنا بين الخبرين، وحملنا خبر أبي هريرة على الإجزاء، وحديث خبر أبي ذر على الاستحباب.
(وأن يُزوّجَه إن طلب).
أي: إن طلب العبد من السيد تزويجه وجب على السيد أن يزوجه.
لقوله تعالى (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ).
ولأن تزويجه من الإنفاق.
أو يبيعه على شخص يغلب على الظن تزويجه.
(وَإِنْ طَلَبَتْهُ أَمَةٌ وَطِئَهَا، أَوْ زَوَّجَهَا، أَوْ بَاعَهَا).
إذا طلبت الأمَة الزواج فيلزم السيد إعفافها بواحدة من أمور ثلاثة:
إما بأن يطأها. . . أو يزوجها. . . أو يبيعها.
(ويحرم أن يكلفه ما لا يطيق).
للأحاديث السابقة:
(ولا يكلف ما لا يطيق).
(وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْه).
(وأن يضربه على وجهه).
أي: يحرم أن يضرب عبده على وجهه. (وقد تقدمت أدلة تحريم ضرب الوجه في كتاب النكاح)
وعن ابْنَ عُمَر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَه) رواه مسلم.
(ويجبُ أن يريحَه وقت القيلولة، ووقت النوم، ووقت الصلاة).
أي: يجب على السيد أن يريح رقيقه من الخدمة في هذه الأوقات الثلاثة:
وقت القيلولة: ليأخذ نصيبه من النوم والراحة.
ووقت النوم بالليل.
ووقت الصلاة المفروضة ليؤديها.
(ويُسَن مداواته إن مرِض).
أي: يسن أن يعالج رقيقه إذا مرض.
إزالة للضرر عنه.
وذهب بعض العلماء: إلى وجوب ذلك.
لأنه محبوس عليه.
وهذا أرجح.
النفقة على البهائم
(وعلَى مالكِ البهيمة إطعامها وسقيها).
أي: يجب على الإنسان نفقة بهائمه بالمعروف من علفها وسقيها وما يصلحها ويقيها من البرد والحر.
أ- عنِ ابنِ عُمر أنّْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (عُذِّبتِ امْرَأةٌ في هِرَّةٍ حبستها حَتَّى ماتَتْ، فَدَخلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أطْعمتْهَا وسقَتْها، إذ هي حبَستْهَا وَلَا هِي تَرَكتْهَا تَأكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأرض) متفق عليه.
فدل هذا الحديث على وجوب النفقة على الحيوان المملوك، لأن السبب في دخول تلك المرأة النار ترك الهرة بدون إنفاق.
ب- وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ) رواه مسلم.
(فإنْ امتنع اُجبِر).
أي: إن امتنع من النفقة على بهائمه أجبره الحاكم على ذلك.
(فَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهَا، أَوْ إِجَارَتِهَا، أَوْ ذَبْحِهَا، إِنْ أُكِلَتْ).
أي: إذا عجز مالك البهيمة عن الإنفاق عليها فإنه يخير بين:
بيعها. . . أو يؤجرها. . . أو يذبحها إن كانت مما تؤكل.
لأن بقاءها مع عدم الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته.
فائدة:
وإن كانت لا تؤكل ولا تشترى وهو عاجز عن الإنفاق عليها فإنه يسيبها.
لحديث جابر (أنه كان يسير على جمل له قد أعْيا، فأراد أن يسيبَه،
…
) متفق عليه.
(ويَحرُم لعنُها).
أي: يحرم لعن الحيوان.
أ-عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ (بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ» . قَالَ عِمْرَانُ فَكَأَنِّى أَرَاهَا الآنَ تَمْشِى فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ. رواه مسلم.
ب-عَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ (بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَضَايَقَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَقَالَتْ حَلْ اللَّهُمَّ
الْعَنْهَا. قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُصَاحِبُنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ) رواه مسلم.
(حَلْ) كلمة تقال لزجر الإبل حتى تسرع المشي.
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي النَّاقَة الَّتِي لَعَنَتْهَا الْمَرْأَة: (خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَة) وَفِي رِوَايَة: (لَا تُصَاحِبنَا نَاقَة عَلَيْهَا لَعْنَة): إِنَّمَا قَالَ هَذَا زَجْرًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا، وَكَانَ قَدْ سَبَقَ نَهْيهَا، وَنَهْي غَيْرهَا عَنْ اللَّعْن، فَعُوقِبَتْ بِإِرْسَالِ النَّاقَة. وَالْمُرَاد النَّهْي عَنْ مُصَاحَبَته لِتِلْكَ النَّاقَة فِي الطَّرِيق، وَأَمَّا بَيْعهَا وَذَبْحهَا وَرُكُوبهَا فِي غَيْر مُصَاحَبَته صلى الله عليه وسلم، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَات الَّتِي كَانَتْ جَائِزَة قَبْل هَذَا: فَهِيَ بَاقِيَة عَلَى الْجَوَاز; لِأَنَّ الشَّرْع إِنَّمَا وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُصَاحَبَة، فَبَقِيَ الْبَاقِي كَمَا كَانَ" انتهى.
وقال الخطابي: قلت: زعم بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بذلك فيها لأنه قد استجيب لها الدعاء عليها باللعن: واستدل على ذلك بقول: فإنها ملعونة، وقد يحتمل أن يكون إنما فعل ذلك عقوبة لصاحبتها، لئلا تعود إلى مثل قولها" انتهى.
وقال ابن القيم: وَالصَّوَاب أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عُقُوبَة لَهَا، لِئَلَّا تَعُود إلى مِثْل قَوْلهَا، وَتَلْعَن مَا لَا يَسْتَحِقّ اللَّعْن
…
(وتحميلها مشقاً).
أي: يحرم أن يحمل فوق الحيوان ما يشق عليه.
لما في ذلك من الضرر عليها.
(وضربها في وجهها ووسمها فيه).
وقد جاء الأحاديث في تحريم ذلك.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ) ق. ولمسلم (إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ).
وفي رواية (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) م.
عَنْ جَابِرٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ وَعَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ) م.
وفي لفظ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الَّذِى وَسَمَهُ) م.
قال النووي: وأما الوسم في الوجه فمنهي عنه بالإجماع للحديث
…
وقال جماعة من أصحابنا: يكره، وقال البغوي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى تحريمه، وهو الأظهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، واللعن يقتضي التحريم. (نووي).
وأما الوسم في غير الوجه؛ فقد نص الفقهاء على أنه يجوز الوسم في الأذن ويجوز في غير الأذن من بدن البهيمة.
قال النووي رحمه الله: وأما وسم غير الوجه من غير الآدمي فجائز بلا خلاف عندنا". انتهى
وقد ورد في السنة ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وسم الدابة في أذنها:
فعن أنس رضي الله عن قال: (دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِرْبَدًا وَهُوَ يَسِمُ غَنَمًا. قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ فِى آذَانِهَا.) رواه مسلم.
باب الحضانة
(وهي حفظ الطفل عما يضره والقيام بمصالحه).
هذا تعريف الحضانة: هي حفظ الطفل عما يضره، والقيام بمصالحه في سن معينة.
قال النووي: هي القيام بحفظ من لم يميز ولا يستقل بأمره، وتربيته بما يصلحه، ووقايته عما يؤذيه.
وقال الماوردي: هي الحفظ والمراعاة وتدبير الولد والنظر في مصالحه.
فائدة: 1
وهي من محاسن الشريعة الإسلامية وعنايتها ورعايتها بالضعفاء والمحتاجين، لأن المقصود منها أمور ثلاثة:
الأول: القيام بمؤن المحضون من طعامه وشرابه ولباسه ومضجعه وتنظيف جسمه.
الثاني: حفظه عما يؤذيه برعاية حركاته وسكناته في منامه ويقظته.
الثالث: تربيته بما يصلحه، سواء كان ذلك في دينه أو دنياه.
فائدة: 2
وسبب الحضانة: الفراق بين الزوجين، فان الحضانة لا يأتي موضوعها الا إذا حصل نزاع بين الزوجين بطلاق أو غيره وبينهما أطفال.
- وليُعلم أن مدة الحضانة هي إلى سن التمييز والاستغناء، أي: أنه تستمر الحضانة إلى أن يميِّز المحضون ويستغني عن حاضنه، بمعنى أن يأكل وحده ويشرب وحده، ويستنجي وحده ونحو ذلك.
(وهي واجبة على من تجب عليه النفقة).
أي: أن رعاية المحضون واجبة على الحاضن، لأنه قد يهلك بترك الحفظ، فوجب حفظه عن الهلاك، فهي في حق من وجبت عليه تعد من الواجبات العينية خاصة إذا لم يوجد إلا الحاضن، أو وجِد ولكن لم يقبل الصبي غيره، أما في حالة تعدد الحاضن فيكون الوجوب كفائياً.
قال ابن قدامة: كَفَالَةُ الطِّفْلِ وَحَضَانَتُهُ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ بِتَرْكِهِ، فَيَجِبُ حِفْظُهُ عَنْ الْهَلَاكِ، كَمَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَإِنْجَاؤُهُ مِنْ الْمَهَالِكِ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِقَرَابَتِهِ، لِأَنَّ فِيهَا وِلَايَةً عَلَى الطِّفْلِ وَاسْتِصْحَابًا لَهُ، فَتَعَلَّقَ بِهَا الْحَقُّ، كَكَفَالَةِ اللَّقِيط.
(وَالأَحَقُّ بِهَا أُمٌّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى، ثُمَّ أَبٌ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذلِكَ، ثُمَّ جَدٌّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذلِكَ، ثُمَّ أُخْتٌ لأَبَوَيْنِ ثُمَّ لأَمٍّ، ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ خَالَةٌ لأِبَوَيْنِ، ثُمَّ لأِمٍّ، ثُمَّ لأِبٍ، ثُمَّ عَمَّاتٌ كَذلِكَ، ثُمَّ خَالَاتُ أُمِّهِ، ثُمَّ خَالَاتُ أَبِيهِ، ثُمَّ عَمَّاتُ أَبِيهِ، ثُمَّ بَنَاتُ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، ثُمَّ بَنَاتُ أَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ، ثُمَّ بَنَاتُ أَعْمَامِ أَبِيهِ، وَبَنَاتُ عَمَّاتِ أَبِيهِ، ثُمَّ لِبَاقِي الْعَصَبَةِ، الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ).
أي: أن الأحق بحضانة الطفل أمه، لشفقتها.
ولحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اِمْرَأَةً قَالَتْ: - يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنَّ اِبْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ، مَا لَمْ تَنْكِحِي) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
فائدة: 1
نستفيد: أن الأم أحق بالحضانة من الزوج مالم تتزوج وكانت صالحة للحضانة.
قال ابن المنذر رحمه الله: أجمعوا أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أن الأم أحق به ما لم تنكح، وأجمعوا على أن لا حق للأم في الولد إذا تزوجت.
وقال في المغني: وجملته أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل، فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها ذكراً كان أو أنثى.
وهذا قول يحيي الأنصاري والزهري والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم أحداً خالفهم. (المغني).
وقال ابن القيم رحمه الله: ودل الحديث - أي: حديث (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) - على أنه إذا افترق الأبوان وبينهما ولد: فالأم أحق به من الأب، ما لم يقم بالأم ما يمنع تقديمها، أو بالولد وصف يقتضي تخييره، وهذا ما لا يُعرف فيه نزاع.
فائدة: 2
الحكمة من هذا التفصيل:
هذا التفصيل من الشارع الحكيم راعى فيه حق الطفل وحق الزوج الجديد، فالأم قبل الزواج متفرغة للطفل وإصلاح شؤونه فحقه عليها باق، أما بعد الزواج فإنها ستهمل أحد الحقين إما حق زوجها وهو آكد وإما أن تعتني بزوجها فتهمل الطفل الذي يحتاج إلى العناية
الدائمة.
فائدة: 3
الأم إذا تزوجت سقطت حضانتها.
لحديث الباب (أنت أحق به ما لم تنكحي).
فائدة: 4
الحكمة من سقوط حضانتها بالزواج؟
التمس الفقهاء عدة حكم لسقوط حضانتها إذا تزوجت:
أولاً: لأنها قد تكون مشغوله عن الولد بمعاشرة الزوج الجديد.
ثانياً: أن هذا الصغير قد يلحقه شيء من الجفاء والغلظة من قِبَل الزوج الجديد، وهذا يؤثر على الطفل.
فائدة: 5
متى يسقط حقها من الحضانة إذا تزوجت؟
فقيل: يسقط حقها من الحضانة بمجرد العقد.
وهذا مذهب الجمهور
فإذا عقد على المرأة ونازعها زوجها سقط حقها من الحضانة.
قالوا: لأنها قد تكون مشغولة بمهام زوجها ومتطلبات الحياة الزوجية الجديدة.
وقيل: إن الحضانة لا تسقط إلا بالدخول.
وهذا قول المالكية.
قالوا: إن الدخول هو الأمر الذي تنشغل به الأم عن طفلها.
والراجح القول الأول.
قال ابن القيم: وَالْأَشْبَهُ سُقُوطُ حَضَانَتِهَا بِالْعَقْدِ لِأَنّهَا حِينَئِذٍ صَارَتْ فِي مَظِنّةِ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْوَلَدِ وَالتّهَيّؤِ لِلدّخُولِ وَأَخْذِهَا حِينَئِذٍ فِي أَسْبَابِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
فائدة: 6
قوله في الحديث (ما لم تنكحي) هل هو على ظاهره أم لا؟
ذهب بعض العلماء أنه على ظاهره، سواء تزوجت قريباً للمحضون أو بعيداً.
لكن ذهب بعض العلماء إلى أنها إذا تزوجت بقريب من الطفل المحضون فلا تسقط حضانتها، لأن القريب له حق في الحضانة وله شفقة تحمله على رعاية الطفل.
اختار ابن القيم واختاره أيضاً الشيخ السعدي أن الأم أحق بالحضانة إذا رضي الزوج، وذلك لأن حقها سقط لحق الزوج الجديد، فإذا رضي بإسقاط حقه في حضانة هذه المرأة فلا وجه لإسقاط حقها.
فائدة: 7
للوالد الحق في زيارة ولده المحضون عند أمه، وذلك باتفاق العلماء.
جاء في (الموسوعة الفقهية) لكل من أبوي المحضون إذا افترقا حق رؤيته وزيارته، وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء، لكنهم يختلفون في بعض التفاصيل " انتهى.
وجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) إذا خرجت الزوجة من بيت الزوجية أو حصلت فرقة بين الزوجين بطلاق مثلا، وبينهما مولود أو أكثر: فإنه لا يجوز في الشريعة الإسلامية أن يمنع أحدهما الآخر من رؤية المولود بينهما وزيارته، فإذا كان المولود مثلا في حضانة أمه، فلا يجوز لها منع والده من رؤيته وزيارته؛ لأن الله سبحانه أوجب صلة الأرحام بقوله تعالى:(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) وفي الحديث: (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة).
فائدة: 8
قال ابن قدامة: وَإِنْ تَرَكْت الْأُمُّ الْحَضَانَةَ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا لَهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَنْتَقِلُ إلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ أُمَّهَاتِهَا فَرْعٌ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِذَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا، سَقَطَ فُرُوعُهَا وَالثَّانِي: تَنْتَقِلُ إلَى أُمِّهَا وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَبْعَدُ، فَلَا تَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ أَقْرَبَ مِنْهُ. (المغني).
(ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى).
فأمهات الأم مقدمات على الأب، وعلى أمهات الأب.
فلو تنازعت جدة لأم مع الأب في حضانة الولد فإن هذه الجدة تقدم على الأب؛ لأنها مدلية بالأم، والأم أحق من الأب، فصارت هي أحق من الأب أيضاً، وإن كانت من حيث الدرجة أبعد.
وهذا قول جمهور العلماء: أن أحق الناس بالحضانة بعد الأم إذا ماتت أو لم تكن أهلاً للحضانة: أمهاتها المدليات بإناث، القربى فالقربى، أي جدة الطفل لأمه، وإن علت.
قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع مالك والشافعي وأبو ثور والنعمان على: أن الرجل إذا طلق امرأته، ولها منه أولاد صغار، أنها أحق بولدها، ما داموا صغاراً، فإن تزوجت، فإنها أحق بهم إن كان لها أم. (الإشراف).
وفي " فتاوى اللجنة الدائمة: أحق الناس بحضانة الطفل أمه إذا افترق الزوجان، فإن تزوجت انتقلت الحضانة إلى أم الأم، فإن عدمت انتقلت إلى أم الأب؛ لأن الحضانة للنساء، وأمه أشفق عليه من غيرها.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أن الأب مقدم على أم الأم.
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.
(ثُمَّ أَبٌ)
أي: إن لم يكن هناك أم، ولا أمهات للأم، انتقلت الحضانة إلى الأب.
لقوله صلى الله عليه وسلم: أنتِ أحق به، أي: منه، فيدل على أن درجته بعدها.
ولأن الأب هو أصل النسب فكان أولى من غيره.
(ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذلِكَ).
لأنهن يدلين بعصبة قريبة.
(ثُمَّ الجَدٌّ) لأب.
لأنه في معنى الأب.
ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذلِكَ، ثُمَّ أُخْتٌ لأَبَوَيْنِ ثُمَّ لأَمٍّ ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ خَالَةٌ لأِبَوَيْنِ، ثُمَّ لأِمٍّ، ثُمَّ لأِبٍ، ثُمَّ عَمَّاتٌ كَذلِكَ،
…
الخ.).
ذهب جمهور العلماء: إلى أن الخالة مقدمة على العمة المشاحة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (الخالة بمنزلة الأم) متفق عليه.
ولأن الخالة تدلي بالأم، والعمة تدلي بالأب.
ولأن الخالة أشفق - غالباً - بولد أختها من العمة.
وذهب ابن تيمية أن العمة أحق من الخالة.
والراجح مذهب الجمهور.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه: وهذا الترتيب الذي ذكره المؤلف ليس مبنياً على أصل من الدليل، ولا من التعليل، وفيه شيء من التناقض، والنفس لا تطمئن إليه، ولهذا اختلف العلماء في الترتيب في الحضانة على أقوال متعددة، ولكنها كلها ليس لها أصل يعتمد عليه، لذلك ذهب شيخ الإسلام رحمه الله: إلى تقديم الأقرب مطلقاً، سواء كان الأب، أو الأم، أو من جهة الأب، أو من جهة الأم، فإن تساويا قدمت الأنثى، فإن كانا ذكرين أو أنثيين فإنه يقرع بينهما في جهة واحدة، وإلا تقدم جهة الأبوة.
(ولا تَثبتُ لمن فيه رق).
فالحضانة لا تكون لمن فيه رق، فلو كانت الأم رقيقة فلا حق لها في الحضانة.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة [أنت أحق به ما لم تنكحي]، فأسقط حقها بالنكاح وذلك لحق الزوج فإن المرأة تنشغل بحق زوجها فكانت أحق به ما لم تنكح، وكذلك الرقيق مشغول بحق سيده ولا شك أن شغله في حق سيده أعظم من شغل المرأة بحق زوجها.
جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ لَا تَثْبُتُ لِلرَّقِيقِ.
لأِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ، وَالْحَضَانَةُ إِنَّمَا تَحْصُل بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ.
وَلأِنَّ الْحَضَانَةَ وِلَايَةٌ، وَلَا وِلَايَةَ لِرَقِيقٍ.
وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَتْ أُمُّ الطِّفْل مَمْلُوكَةً وَكَانَ وَلَدُهَا حُرًّا فَحَضَانَتُهُ لِمَنْ يَلِي الأْمَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ إِنْ كَانَ حُرًّا، وَكَذَا إِنْ كَان الأْبُ عَبْدًا فَلَا حَضَانَةَ لَهُ. (الموسوعة).
واختار ابن القيم: أن له حقاً في الحضانة، إذ لا دليل على إسقاط حقه عنها، ولأنه أشفق من غيره.
فقال رحمه الله: وَأَمّا اشْتِرَاطُ الْحُرّيّةِ فَلَا يَنْتَهِضُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَرْكَنُ الْقَلْبُ إلَيْهِ وَقَدْ اشْتَرَطَهُ أَصْحَابُ الْأَئِمّةِ الثّلَاثَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي حُرّ لَهُ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ إنّ الْأُمّ أَحَقّ بِهِ إلّا أَنْ تُبَاعَ فَتَنْتَقِلُ فَيَكُونُ الْأَبُ أَحَقّ بِهَا وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ. (زاد المعاد).
(ولا لكافرٍ على مسلم).
أي: أنه يشترط أن يكون الحاضن مسلماً، فلا حضانة لكافر.
أ- لقوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).
ب- ولأن الفاسق لا حضانة له [عند الجمهور] فالكافر من باب أولى.
ج- ولأن الفتنة بالأب الكافر أو الأم الكافرة عظيمة جدا فإن ذلك فتنة عن دينه وقد قال صلى الله عليه وسلم[فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] ولا سيما بعد تمييزه أي حيث صار الطفل مميزاً وأصبح يتلقى ويتعلم ويتربى.
قال ابن قدامة: وَلَنَا، أَنَّهَا وِلَايَةٌ، فَلَا تَثْبُتُ لَكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْمَالِ، وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ لِلْفَاسِقِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى، فَإِنَّ ضَرَرَهُ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ يَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، وَيُخْرِجُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِتَعْلِيمِهِ الْكُفْرَ، وَتَزْيِينِهِ لَهُ، وَتَرْبِيَتِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ الضَّرَرِ وَالْحَضَانَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ لَحَظِّ الْوَلَدِ، فَلَا تُشْرَعُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ هَلَاكُهُ وَهَلَاكُ دِينه. (المغني).
وقال ابن القيم: لا حضانة لكافرٍ على مسلم لوجهين:
أحدهما: أن الحاضن حريص على تربية الطفل على دينه وأن ينشأ عليه ويتربى عليه فيصعب بعد كبره وعقله انتقاله عنه، وقد يغيِّره عن فطرة الله التي فطر عليها عباده فلا يراجعها أبداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه) فلا يُؤمن تهويدُ الحاضن وتنصيره للطفل المسلم.
فإن قيل: الحديث إنما جاء في الأبوين خاصة، قيل: الحديث خرج مخرج الغالب، إذ الغالب المعتاد نشوء الطفل بين أبويه فإن فقد أو أحدهما قام ولي الطفل من أقاربه مقامهما.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه قطع الموالاة بين المسلمين والكفار، وجعل المسلمين بعضَهم أولياء بعض، والكفار بعضهم مِن بعض، والحضانة من أقوى أسباب الموالاة التي قطعها الله بين الفريقين. (زاد المعاد).
(ولا لفاسق).
أي: أن من شروط الحاضن أن يكون عدلاً فلا حضانة لفاسق. (الفاسق: من أتى بكبيرة ولم يتب منها أو أصر على صغيرة).
وهذا مذهب جماهير العلماء أنه لا حضانة لفاسق.
أ- لأنه لا يوثق بحضانته.
ب- ولأن في الحضانة ذريعة إلى إفساد الطفل وتربيته على مساوئ الأخلاق.
واختار ابن القيم واختاره الشيخ السعدي: أن الفاسق له حق في الحضانة، قالوا: وعليه العمل المستمر في الأعصار والأمصار وأن الحضانة تكون للوالد أباً كان أو أماً وإن كان فاسقاً، ولأن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يخلون من الفسق ومع ذلك لم يثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم نزع الحضانة من أحد ممن ثبت فسقه وللو كان هذا ثابتاً لنقل إلينا نقلاً بيناً.
(ولا لِمزوجةٍ بأجنبي من محضون).
أي: أن هذه المرأة لو تزوجت سقطت حضانتها إذا تزوجت بأجنبي من المحضون. (من ليس قريباً للمحضون).
ومفهوم هذا الكلام: أنها لو تزوجت بقريب من المحضون لا تسقط حضانتها.
فلو تزوجت هذه المرأة بابن عم زوجها مثلاً، فإن حضانتها لا تسقط، لأنها تزوجت بقريب للمحضون.
- فتلخص أن لزواج الأم مع الحضانة حالتان:
الأولى: زواجها بأجنبي عن المحضون.
فهنا تسقط حضانتها.
وبهذا قال أكثر العلماء.
الثانية: زواجها بقريب للمحضون كعمه.
فلا تسقط حضانتها.
وهذا مذهب أحمد وأبي حنيفة.
وقيل: وتسقط حضانتها.
لأن الدليل لم يفصل، والله أعلم.
فائدة: 1
تقدم أن المرأة إذا تزوجت بأجنبي فإنها حضانتها تسقط بمجرد العقد.
وهذا مذهب الجمهور
فإذا عقد على المرأة ونازعها زوجها سقط حقها من الحضانة.
قالوا: لأنها قد تكون مشغولة بمهام زوجها ومتطلبات الحياة الزوجية الجديدة.
فائدة: 2
قال ابن قدامة: وَلَا تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ لَطِفْلٍ، وَلَا مَعْتُوهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يَكْفُلُهُ، فَكَيْفَ يَكْفُلُ غَيْرَهُ.
وقال ابن القيم: الْعَقْلُ مُشْتَرَطٌ فِي الْحَضَانَةِ فَلَا حَضَانَةَ لِمَجْنُونٍ وَلَا مَعْتُوهٍ وَلَا طِفْلٍ لِأَنّ هَؤُلَاءِ يَحْتَاجُونَ إلَى مَنْ يَحْضُنُهُمْ وَيَكْفُلُهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُونَ كَافِلِينَ لِغَيْرِهِمْ.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) تَسْقُطُ الْحَضَانَةُ بِوُجُودِ مَانِعٍ مِنْهَا، أَوْ زَوَال شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِهَا، كَأَنْ تَتَزَوَّجَ الْحَاضِنَةُ بِأَجْنَبِيٍّ عَنِ الْمَحْضُونِ، وَكَأَنْ يُصَابَ الْحَاضِنُ بِآفَةٍ كَالْجُنُونِ وَالْعَتَهِ، أَوْ يَلْحَقَهُ مَرَضٌ يَضُرُّ بِالْمَحْضُونِ كَالْجُذَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ.
(ومتى زال المانع عاد الحق إليه).
أي: إذا زال المانع الموجود في الحاضن عاد حق الحضانة إليه.
لزوال المانع.
فإذا تاب الفاسق عادت إليه الحضانة، وإذا طلقت الأم عادت إليها الحضانة.
قال ابن قدامة: وَكُلُّ قَرَابَةٍ تُسْتَحَقُّ بِهَا الْحَضَانَةُ، مَنَعَ مِنْهَا مَانِعٌ، كَرِقٍّ، أَوْ كُفْرٍ، أَوْ فُسُوقٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ صِغَرٍ، إذَا زَالَ الْمَانِعُ، مِثْلُ أَنْ عَتَقَ الرَّقِيقُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَعَدَلَ الْفَاسِقُ، وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ، وَبَلَغَ الصَّغِيرُ، عَادَ حَقُّهُمْ مِنْ الْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبهَا قَائِمٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ لِمَانِعٍ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ، عَادَ الْحَقُّ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ الْمُلَازِمِ، كَالزَّوْجَةِ إذَا طَلُقَتْ.
(فإذا بلغ سبعاً، فإن كان ذكراً خيّر بين أبويهِ فكان مع من اختار).
أي: إذا بلغ المحضون سبع سنوات [وهو سن التمييز]، فإن كان ذكراً خير بين أبويه.
لحديث أبي هريرة. (أن امرأة قالت يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهِما شئت، فأخذ بيد أمِه فانطلقتْ به) رواه أبوداود.
وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
قال ابن قدامة: وجملته أن الغلام إذا بلغ سبعاً، وليس بمعتوه، خير بين أبويه، إذا تنازعا فيه، فمن اختاره منهما، فهو أولى به قضى بذلك عمر، وعلي، وشريح وهو مذهب الشافعي.
للحديث السابق.
قال ابن قدامة: إنما يُخَيَّرُ الْغُلَامُ [يعني: يخير بين أبويه إذا بلغ سبع سنوات] بِشَرْطَيْن:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَضَانَةِ، كَانَ كَالْمَعْدُومِ، وَيُعَيَّنُ الْآخَرُ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْغُلَامُ مَعْتُوهًا، فَإِنْ كَانَ مَعْتُوهًا كَانَ عِنْدَ الْأُمِّ، وَلَمْ يُخَيَّرْ; لِأَنَّ الْمَعْتُوهَ بِمَنْزِلَةِ الطِّفْلِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَةِ وَلَدِهَا الْمَعْتُوهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَلَوْ خُيِّرَ الصَّبِيُّ، فَاخْتَارَ أَبَاهُ، ثُمَّ زَالَ عَقْلُهُ، رُدَّ إلَى الْأُمِّ، وَبَطَلَ اخْتِيَارُهُ; لِأَنَّهُ إنَّمَا خُيِّرَ حِينَ اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا زَالَ اسْتِقْلَالُهُ بِنَفْسِهِ، كَانَتْ الْأُمُّ أَوْلَى; لِأَنَّهَا أَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَأَقْوَمُ بِمَصَالِحِهِ، كَمَا فِي حَالِ طُفُولِيَّتِهِ " انتهى
فائدة: 1
قال العلماء: إذا كان بين الأبوين فرق فلا اعتبار باختيار الطفل في هذه الحالة، لأن الطفل قد يؤثر البطالة واللعب، فربما يختار من يجد عنده اللعب والتساهل والعبث، فلا يعرف مصلحة نفسه.
قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا رحمه الله أي: ابن تيمية - يقول: تنازع أبوان صبيّاً عند بعض الحكام، فخيَّره بينهما فاختار أباه، فقالت له أمه: سله لأي شيء يختار أباه فسأله، فقال: أمي تبعثني كل يوم للكتَّاب والفقيه يضربني، وأبي يتركني للعب مع الصبيان، فقضى به للأم قال: أنت أحق به
فائدة: 2
قالوا: وإن خير فلم يختر فإنه يقرع بينهما. أو اختارهما معاً، فإنه يقرع بينهما.
فائدة: 3
قال العلماء: إذا اختار الطفل أباه كان عنده ليلاً ونهاراً، من أجل أن يحفظه ويعلمه ويؤدبه ولكن لا يجوز له أن يمنعه من زيارة أمهِ، وأما إذا اختار أمه فإنه يكون عندها بالليل ويكون عند أبيه بالنهار، من أجل أن يحفظه ويعلمه ويؤدبه.
(وإن كانت أنثى فعند أبيها)
أي: أن الأنثى بعد السابعة تكون عند أبيها.
وهذا مذهب الحنابلة.
لأنه أحفظ لها، بشرط حفظها والعناية بها، ولا يتركها عند ضرة تسيء لها، وإلا فلا حضانة له.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها تكون عند أمها. [قال بعضهم: حتى تبلغ، وبعضهم قال حتى تتزوج].
وهذا قول مالك وأبي حنيفة ورجحه ابن القيم.
لأن الأم أعلم بما يصلح ابنتها وأقوم بتربيتها وتعليمها ما تحتاج إليه من شؤون النساء.
وذهب بعضهم: إلى أنها تخير كالغلام.
وهذا قول الشافعي.
والراجح الله أعلم.
(ويَكونُ الذَّكرُ بعد رشدهِ حيث شاء).
أي: أن الذكر بعد رشده يملك نفسه.
قال في الروض: لأنه لم يبق عليه ولاية لأحد.
وقال الحاشية: ولقدرته على إصلاح أموره، إلا أن يكون أمرد يخاف عليه الفتنة، فيمنع من مفارقتهما.
(ولا يترك المحضون بيد من لا يَصونه ويصلحه).
أي: لا يترك المحضون بيد من لا يَصونه ويصلحه، لفوات المقصود من الحضانة.
لأن المقصود من الحضانة رعاية المحضون وتربيته وإصلاحه والقيام عليه بما ينفعه في الدنيا والآخرة
قال في (الروض المربع) ولا يقر محضون بيد من لا يَصونه ويصلحه لفوات المقصود من الحضانة.
وقال ابن قدامة: والحضانة إنما تثبت لحظ الولد فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه.
وقال ابن القيم: على أنا إذا قدمنا أحد الأبوين فلا بد أن نُراعي صيانته وحفظَه للطفل، ولهذا قال مالك والليث: إذا لم تكن الأم في موضع حرزٍ وتحصين، أو كانَتْ غيرَ مرضية، فللأب أخذُ البنت منها، وكذلك الإِمامُ أحمد رحمه الله في الرواية المشهورة عنه، فإنه يعتبر قدرتَه على الحفظ والصيانة. فإن كان مهملاً لذلك، أو عاجزاً عنه، أو غيرَ مرضي، أو ذا دِياثة والأم بخلافه، فهي أحقُّ بالبنتِ بلا ريب، قال شيخنا: وإذا ترك أحدُ الأبوين تعليم الصبي، وأمره الذي أوجبه اللّه عليه، فهو عاصٍ، ولا وِلاية له عليه، بل كُلُّ من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إما أن تُرفع يدُه عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب، وإما أن يُضم إليه مَنْ يقومُ معه بالواجب، إذ المقصودُ طاعةُ الله ورسوله بحسب الإِمكان
…
فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته، ولا تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة، فالحضانة للأم قطعاً. (زاد المعاد).
وقال الشيخ السعدي: فأما إذا أهمل أحدها ما يجب عليه من حضانة ولده وأهمله عما يصلحه فإن ولايته تسقط ويتعين الآخر.
فائدة: 1
قال ابن قدامة: وإن تركت الأم الحضانة مع استحقاقها لها، ففيه وجهان:
أحدهما: تنتقل إلى الأب؛ لأن أمهاتها فرع عليها في الاستحقاق، فإذا أسقطت حقها، سقط فروعها.
والثاني: تنتقل إلى أمها وهو أصح؛ لأن الأب أبعد، فلا تنتقل الحضانة إليه مع وجود أقرب منه. (المغني).
فائدة: 2
قال ابن القيم: قَوْلُهَا: (كَانَ بَطْنِي وِعَاءً) إلَى آخِرِهِ إدْلَاءٌ مِنْهَا وَتَوَسّلٌ إلَى اخْتِصَاصِهَا بِهِ كَمَا اخْتَصّ بِهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الثّلَاثَةِ وَالْأَبُ لَمْ يُشَارِكْهَا فِي ذَلِكَ فَنَبّهَتْ وَالْمُخَاصَمَةِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَحْكَامِ وَإِنَاطَتِهَا بِهَا وَأَنّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَقِرّ فِي الْفِطَرِ السّلِيمَةِ حَتّى فِطَرِ النّسَاءِ وَهَذَا الْوَصْفُ الّذِي أَدْلَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَجَعَلَتْهُ سَبَبًا لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ قَدْ قَرّرَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَرَتّبَ عَلَيْهِ أَثَرَهُ وَلَوْ كَانَ بَاطِلًا أَلْغَاهُ بَلْ تَرْتِيبُهُ الْحُكْمَ عُقَيْبَهُ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِيهِ وَأَنّهُ سَبَبُهُ.
وَاسْتُدِلّ بِالْحَدِيثِ عَلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَإِنّ الْأَبَ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ حُضُورٌ وَلَا مُخَاصَمَةٌ وَلَا دِلَالَةٌ فِيهِ لِأَنّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَاضِرًا فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْمَرْأَةُ إنّمَا جَاءَتْ مُسْتَفْتِيَةً أَفْتَاهَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمُقْتَضَى مَسْأَلَتِهَا وَإِلّا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَى الزّوْجِ إنّهُ طَلّقَهَا حَتّى يُحْكَمَ لَهَا بِالْوَلَدِ بِمُجَرّدِ قَوْلِهَا. (زاد المعاد).
والله أعلم