المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الجنايات ‌ ‌تعريفها: لغة: جمع جناية وهي التعدي على مال أو عرض - دروس فقهية - اللهيميد - جـ ٥

[سليمان بن محمد اللهيميد]

فهرس الكتاب

‌كتاب الجنايات

‌تعريفها:

لغة: جمع جناية وهي التعدي على مال أو عرض أو بدن كما قال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم. . .).

واصطلاحاً: هي التعدي على البدن خاصة بما يوجب القود أو الدية.

فالسرقة (اصطلاحاً) لا تسمى جناية، والتعدي على العرض لا تسمى جناية على هذا الاصطلاح.

(القتل حرام).

أي: أن قتل المسلم بغير حق حرام وكبيرة من الكبائر.

قال تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً).

وقال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).

وقال تعالى (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ).

وقال تعالى (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. . .).

ص: 1

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) متفق عليه.

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ) رواه البخاري.

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَبَائِرِ قَالَ (الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّور) رواه البخاري.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاء) متفق عليه.

وعن جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (اسْتَنْصِتِ النَّاسَ). ثُمَّ قَالَ (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) متفق عليه

عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ:: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) رواه البخاري.

عَنْ ابن مسعود. قَال قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَة) متفق عليه.

ص: 2

عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْل) رواه البخاري.

عن أبي بَكْرَةَ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ) متفق عليه.

عن عبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا) رواه النسائي.

‌فائدة: 1

هل للقاتل عمداً توبة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأول: أن القاتل عمداً له توبة.

وهذا قول جماهير العلماء.

قال النووي: هذا مذهب أهل العلم وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمداً، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس.

وقال ابن كثير: والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها: أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله، فإذا تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملاً صالحاً بدل الله سيئاته حسنات.

لقوله تعالى (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) إلى قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).

ولقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).

ص: 3

قال ابن كثير: فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك.

ب-ولقوله تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

قالوا: فهذا عام في جميع الذنوب، من كفر، وشرك، ونفاق، وقتل، وفسق وغير ذلك، كل من تاب من أي ذنب تاب الله عليه.

ج-وعن أبي سعيد أنّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعينَ نَفْساً، فَسَأَلَ عَنْ أعْلَمِ أَهْلِ الأرضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ. فقال: إنَّهُ قَتَلَ تِسعَةً وتِسْعِينَ نَفْساً فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلهُ فَكَمَّلَ بهِ مئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ. فقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلى أرضِ كَذَا وكَذَا فإِنَّ بِهَا أُناساً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى فاعْبُدِ الله مَعَهُمْ، ولَا تَرْجِعْ إِلى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أرضُ سُوءٍ، فانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذَابِ. فَقَالتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِباً، مُقْبِلاً بِقَلبِهِ إِلى اللهِ تَعَالَى، وقالتْ مَلائِكَةُ العَذَابِ: إنَّهُ لمْ يَعْمَلْ خَيراً قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ في صورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ - أيْ حَكَماً - فقالَ: قِيسُوا ما بينَ الأرضَينِ فَإلَى أيّتهما كَانَ أدنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أدْنى إِلى الأرْضِ التي أرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحمةِ). مُتَّفَقٌ عليه

وفي رواية في الصحيح (فَكَانَ إلى القَريَةِ الصَّالِحَةِ أقْرَبَ بِشِبْرٍ فَجُعِلَ مِنْ أهلِهَا).

ص: 4

قالوا: وإذا كان هذا في بني إسرائيل، فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى، لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم.

د- وقالوا: إذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر - وهما أعظم إثماً من القتل - فكيف تقصر عن محو أثر القتل.

‌القول الثاني: أن القاتل عمداً لا توبة له.

وهذا مذهب ابن عباس.

أ-لقوله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً).

ب- عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ: عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، ثُمَّ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، ثُمَّ اهْتَدَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا يَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَنْزَلَهَا وَمَا نَسَخَهَا) رواه النسائي.

ج-وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) رواه أحمد.

والصحيح القول الأول، وأما الجواب عن أدلة القول الثاني:

أما الآية:

فقيل: إن الآية على ظاهرها، لكن قد يوجد مانع يمنع من ذلك.

وهذا اختيار النووي، وابن تيمية، وابن القيم، والسفاريني، والسعدي.

وقيل: إن هذا جزاؤه إن جازاه.

وهذا اختيار الطبري، والشنقيطي، واستحسنه ابن كثير.

ص: 5

قال الطبري: وَأَوْلَى الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ إِنْ جَزَاهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، وَلَكِنَّهُ يَعْفُو أَوْ يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، فَلَا يُجَازِيهِمْ بِالْخُلُودِ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ بِفَضْلِهِ فَلَا يُدْخِلُهُ النَّارَ، وَإِمَّا أَنْ يُدْخِلَهُ إِيَّاهَا ثُمَّ يُخْرِجَهُ مِنْهَا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ لِمَا سَلَفَ مِنْ وَعْدِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا).

وقيل: إن هذا وعيد، وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح.

وذهب إلى هذا الواحدي.

وقيل: حمل الآية على عمومها، وتفسير الخلود بمعنى: المكث الطويل، اعتماداً على ما ورد في كلام العرب من إطلاق الخلود على غير معنى التأبيد، كقولهم: لأخلدن فلاناً في السجن، وقولهم: خلد الله ملكه.

ورجح هذا القول ابن حزم، ومحمد رشيد رضا، وابن عثيمين، وذهب إليه الرازي، وأبو السعود.

وقيل: إن الآية للتشديد والتخويف والتغليظ في الزجر عن قتل المؤمن.

وقيل: إن هذه الآية في القاتل المستحل.

وقال بهذا عكرمة.

‌فائدة: 2

معنى قوله تعالى (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).

قيل: المعنى من قتل نبياً أو إمام عادل فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعاً.

وقيل: من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعاً.

وقيل: المعنى فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ، وقيل غير ذلك.

ص: 6

قال ابن القيم: إن هذا تشبيه ولا يلزم من التشبيه أن يكون المشبه مثل المشبه به في كل شيء، فإن من المعلوم قطعاً أن إثم من قتل مائة أعظم من إثم من قتل نفساً واحدة، فليس المراد التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة وإنما كون كل منهما:

عاص لله ولرسوله، مخالف لأمره متعرض لعقوبته.

أنهما سواء في استحقاق القصاص.

أنهما سواء في الجرأة على سفك الدم الحرام.

أن كلاً منهما يسمى فاسقاً عاصياً بقتله نفساً واحدة.

‌فائدة: 3

متى يحل دم المسلم:

يحل بإحدى ثلاث التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم:

عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ دَمُ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ; يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: اَلثَّيِّبُ اَلزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ; اَلْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٌ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٌ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ اَلْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنْ اَلْأَرْضِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ،

وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِم.

(اَلثَّيِّبُ اَلزَّانِي) فإنه يرجم، وهذا باتفاق، بخلاف البكر الزاني.

(وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ) إذا قتل معصوماً عمداً فإنه يقتل.

ص: 7

(وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ; اَلْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَة) المرتد فإنه يقتل لقوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه).

‌فائدة: 4

قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (أَوَّل مَا يُقْضَى بَيْن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فِي الدِّمَاء) فِيهِ تَغْلِيظُ أَمْر الدِّمَاء، وَأَنَّهَا أَوَّل مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة، وَهَذَا لِعِظَمِ أَمْرهَا وَكَثِير خَطَرهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيث مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُور فِي السُّنَن:"أَوَّل مَا يُحَاسَب بِهِ الْعَبْد صَلَاته"؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيث الثَّانِي فِيمَا بَيْن الْعَبْد وَبَيْن اللَّه تَعَالَى، وَأَمَّا حَدِيث الْبَاب فَهُوَ فِيمَا بَيْن الْعِبَاد. وَاللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

وقال الحافظ ابن حجر: [ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته) الحديث أخرجه أصحاب السنن لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق وقد جمع النسائي في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين ولفظه: (أول ما يحاسب العبد عليه صلاته وأول ما يقضي بين الناس في الدماء)].

(القتلُ: عمْدٌ - يختص القَوَد به -، وشبْهُ عمدٍ، وخطأ).

أن القتل (من حيث القصد وعدمه) ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ.

وعلى هذا التقسيم أكثر العلماء.

ويدل لهذا التقسيم قوله صلى الله عليه وسلم (ألا إن دية الخطأ وشبه العمد ما كان بالعصا والسوط، مائة من الإبل، منها أربعون في بطون أولادها) رواه أبوداود.

ص: 8

ويدل عليه حديث أبي هريرة قال (اقتتلت امرأتان من هذيْل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمَة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها) متفق عليه.

فالحديث يدل على أن القتل في هذه الحال كان شبه عمد، ولم يكن عمداً، لأنه لا ذكر للقصاص فيه، ولم يكن خطأ، لأن الضرب على ذلك الوجه لا يكون خطأ.

وذهب الإمام مالك إلى أن القتل ينقسم إلى قسمين: خطأ وعمد.

واستدلوا: بأنه لم يذكر في القرآن إلا العمد والخطأ. فالعمد في قوله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) والخطأ في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا).

- قوله (يختص العمد به)

(فَالْعَمْدُ أَنْ يَقْصِدَ مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيّاً مَعْصُوماً فَيَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ).

هذا اتعريف قتل العمد: أَنْ يَقْصِدَ مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيّاً مَعْصُوماً فَيَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ.

قوله (أن يقصد) أي لا بد أن يكون للقاتل قصداً، وأما الصغير والمجنون فعمدهما خطأ، لأنها ليس لهما قصد صحيح.

قوله (من يعلمه آدمياً) فلا يظنه صيداً ولا هدفاً ولا غير ذلك.

قوله (معصوماً) أي معصوم الدم فليس من المحاربين للإسلام.

ص: 9

(والآدمي المعصوم أربعة أصناف: المسلم والذمي والمستأمن والمعاهد).

قوله (فيقتله) فلو قصد الجناية بما يقتل غالباً لكن المجني عليه سَلِم، بأن ضَرَبه بالفأس على رأسه يريد قتله حتى انفلق، لكنه عُولج حتى برئ فهذا ليس بقتل عمد؛ لأنه لا بد أن يقتله.

(بما يغلب على الظن موتُه به) لا بد أن تكون الجناية بما يغلب على الظن أنها تقتل، مثل أن يضربه بسيف أو يرميه بسهم ونحو ذلك مما يغلب على الظن أنه يقتله به.

‌فائدة: 1

لو ادعى القاتل أنه لم يقصد القتل؟ الجواب: لا يقبل قوله إلا ببينة.

‌فائدة: 2

اختلف العلماء إذا أذِنَ المجني عليه للجاني بقتله، فهل هذا من العمد؟

‌القول الأول: هذا قتل عمد ويجب فيه القود.

وهذا قول المالكية.

قالوا: بأنه إذْنٌ في غير محله، فكأنه غير موجود، لأن الإنسان لا يملك نفسه فضلاً عن أن يأذن لغيره أن يقتله.

‌القول الثاني: شبه عمد.

وهذا قول الأحناف.

قالوا: إن قصد الاعتداء والقتل موجود، ولكن وجود الإذن شبهة تمنع من إلحاقه بالقتل العمد.

ص: 10

‌القول الثالث: أن هذا القتل فيه الإثم، ولا قصاص فيه ولا دية.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

قالوا: لأن القصاص والدية شرعاً لحق المجني عليه وقد تنازل عن حقه. والراجح الأول

(مِثْلُ أَنْ يَجْرَحَهُ بِمَا لَهُ مَوْرٌ فِي الْبَدَنِ، أَوْ يَضْرِبَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ حَائِطاً، أَوْ يُلْقِيَهُ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ فِي نَارٍ، أَوْ مَاءٍ يُغْرِقُهُ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُمَا، أَوْ يَخْنِقَهُ أَوْ يَحْبِسَهُ وَيَمْنَعَ عَنْهُ الطَّعَامَ أَوْ الشَّرَابَ فَيَمُوتَ مِنْ ذلِكَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِيهَا غَالِباً، أَوْ يَقْتُلَهُ بِسِحْرٍ، أوْ بِسُمٍّ).

هذه بعض صور قتل العمد:

أن يضربه بمحدد: وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين.

أن يضربه بحجر كبير ونحوه: أي بمثقل، لا بحجر صغير، لأن الحجر الصغير لا يقتل غالباً.

ويدل على أن القتل بالمثقل من القتل العمد، حديث أنس (أن يهودياً رض رأس جارية

الحديث: فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين).

أن يلقيه من شاهق أو في نار أو يلقي عليه حائط.

أو يلقيه في ماء يغرقه ولا يمكن التخلص منه.

أن يخنقه بحبل.

أو يقتله بسحر يقتل غالباً، قال في المغني (فيلزمه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً فأشبه ما لو قتله بسكين).

أن يقتله بسم: بأن يطعمه السم.

ص: 11

(فهذا يخيّر الولي فيه بين القتل والدية).

أي: يجب بالقتل العمد القود أو الدية. يخير الولي بينهما.

فيخير الولي بين القصاص أو الدية، إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا إلى غير شيء.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُودَ وإما أن يقاد) متفق عليه.

وفي حديث آخر (

فأهله بين خيرين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية) رواه أبوداود.

وسيأتي إن شاء الله مزيد بحث لهذه المسألة.

(والعفو مجاناً أفضل).

لقوله تعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) رواه مسلم.

وعن أنس. قال (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو) رواه أبوداود.

ص: 12

‌فائدة:

العفو: هو إسقاط مستحق الدم حقه في القصاص لا إلى بدل.

قال الشوكاني: ولا خلاف في مشروعية العفو في الجملة وإنما وقع الخلاف فيما هو الأولى للمظلوم هل العفو عن ظالمه أو الترك.

(وإنْ صالحَ القاتلُ بأكثر من الديةِ جازَ).

أي: أنه إذا اختار القصاص، ثم إن القاتل وأهله قالوا لولي المقتول لا تقتله، ونحن نعطيك بدل الدية ديتين، أو ثلاث ديات، أو أربعاً، أو عشراً، فهذا جائز.

مثال: إذا كانت الدية مثلاً مائة ألف، فقال الولي: أنا لا أقبل إلا مائتي ألف، أو مليون مثلاً فرضي القاتل بذلك فله الحق بذلك.

لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية، .. وما صولحوا عليه فهو لهم) رواه الترمذي.

والشاهد منه قوله (وما صالحوا عليه فهو لهم) فلم يقيد الصلح على الدية بشيء، فدل ذلك على جوازه بمثلها أو أكثر أو أقل منها.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ، لَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ، وَبِقَدْرِهَا وَأَقَلِّ مِنْهَا، لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

ص: 13

لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَتَلَ عَمْدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ؛ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، ثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً، وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ.

وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ الْقَتْل) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَرَوَيْنَا أَنَّ هُدْبَةَ بْن خَشْرَمٍ قَتَلَ قَتِيلًا، فَبَذَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ لِابْنِ الْمَقْتُولِ سَبْعَ دِيَاتٍ، لِيَعْفُوَ عَنْهُ، فَأَبَى ذَلِكَ، وَقَتَلَهُ.

وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ غَيْرِ مَالٍ، فَجَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، كَالصَّدَاقِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ عَمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، فَأَشْبَهَ الصُّلْحَ عَنْ الْعُرُوضِ.

(المغني).

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا تصح المصالحة عن الدية بأكثر منها، بل على الدية أو دونها.

وبه قال بعض الحنفية، ورجحه ابن القيم.

(وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَقْصِدَ جِنَايَةً لَا تَقْتُلُ غَالِباً وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِهَا، كَمَنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ مَقْتلٍ بِسَوْطٍ، أَوْ عَصَا صَغِيرَةٍ).

هذا شبه العمد.

قلنا (في غير مقتَل) لأن الضرب بمقتل ولو كان بشيء صغير حقير فإنه يعتبر قتل عمد كالقلب أو من النخاع.

وسمي بذلك: لتردده بين هذين النوعين (الخطأ والعمد).

فالفرق بين القتل العمد وشبه العمد: أنهما يشتركان في قصد الجناية، ويختلفان في الآلة التي حصلت الجناية بها.

(والخَطَأُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ، مِثْلُ أَنْ يَرْمِيَ مَا يَظُنُّهُ صَيْداً، أَوْ غَرَضاً، أَوْ شَخْصاً، فَيُصِيبَ آدميّاً لَمْ يَقْصِدْهُ).

أي: و قتل الخطأ: أن يفعل ما له فعله، مثل أن يرمي ما يظنه صيداً، أو يري غرضاً، أو يرمي شخصاً مباح الدم، كحربي، وزان محصن فيصيب آدمياً معصوماً لم يقصده بالقتل فيقتله.

ص: 14

‌فائدة:

ما الحكم لو فعل ما لا يباح له (كقتل شاة الغير عدواناً وانتقاماً) فأصاب إنساناً فقتله؟ (هو لم يقصد قتل الآدمي لكنه قصد قتل البهيمة).

فقيل: يكون عمداً.

لأنه فعل ما لا يباح له.

وقيل: خطأ.

وهو الصواب.

(وَعَمْدُ الْصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خطأ).

أي: فإذا تعمد الصبي أو المجنون القتل فهو خطأ.

لأنهما لا قصد لهما.

قال ابن قدامة: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ زَائِلِ الْعَقْلِ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ، مِثْلَ النَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَنَحْوِهِمَا.

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ).

وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَزَائِلِ الْعَقْلِ كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ، فَهُمْ كَالْقَاتِلِ خَطَأً.

ص: 15

(ففيه الدية والكفارة، فالدية تكون في مال العاقلة، والكفارة تكون في مالهما).

(ففي القِسْميْن الأخيرين: الكفارة على القاتل والدية على العاقلة).

أي: في قتل الخطأ وشبه العمد الكفارة على القاتل والدية على العاقلة.

الأول: الكفارة.

كما قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا).

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أي: يمتنع شرعاً أن يقتل المؤمن أخاه عمداً، لكن قد يقتله عن طريق الخطأ (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: ومن قتل مؤمناً خطأ فعليه كفارة: تحرير وتخليص رقبة مؤمنة من الرق وإعتاقها، ويجب أن تكون مؤمنة (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) الدية: ما يعطى عوضاً عن دم القتيل إلى أوليائه جبراً لقلوبهم وعوضاً عما فاتهم من قريبهم (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي: يعفوا عن الدية.

الثاني: الدية وتكون على عاقلة القاتل.

لقوله تعالى (. . . وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (اِقْتَتَلَتِ اِمْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا اَلْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا: غُرَّةٌ; عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ اَلْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا

) متفق عليه.

فهذا الحديث يدل على النوع الثالث من أنواع القتل وهو شبه العمد، حيث أن قتلها كان عن عمد لكن الآلة لا تقتل غالباً لأنه حجر صغير.

ص: 16

وقد ذهب جمهور العلماء من الأحناف والشافعية والحنابلة، إلى إثبات القتل شبه العمد كما تقدم.

استدلالاً بهذا الحديث (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر. . .).

وجه الدلالة:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب فيه الدية، ولو كان عمداً لذكر القصاص.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة إلى عاقلتها، والعاقلة لا تحمل عمداً بإجماع العلماء.

- والدية في قتل شبه العمد [وكذا الخطأ] تكون على العاقلة (أي عاقلة القاتل).

للحديث (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها).

‌مباحث العاقلة:

والدية تكون على العاقلة:

والعاقلة: هم عصبته، والمراد بالعصبة بالنفس، فيدخل فيهم: آباؤه وأبناؤه وإخوته وعمومتهم وبنوهم.

وسميت بذلك: لأن الإبل تجمع فتعقل بفناء أولياء المقتول لتسلم إليهم، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، إبلاً أو نقداً، وقيل سموا عاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل من أن يعتدي عليه أحد.

• ويشمل القريب والبعيد منهم، فكلهم يشتركون في العقْل.

• وحاضرهم وغائبهم.

• ولا عقل على رقيق:

أولاً: لأنه ليس من أهل النصرة، ثانياً: أنه لا مال له، لأن مال المملوك لسيده.

ص: 17

• ولا على غير مكلف كالصغير والمجنون.

لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) رواه أبو داود.

ولأنهما ليسا من أهل النصرة.

• ولا على فقير، لأنه ليس عنده مال.

• ولا على أنثى، لأنها ليست من أهل النصرة.

• ويجتهد الحاكم في تحميل كل منهم ما يناسبه، فيحمل الأقرب أكثر من الأبعد، والغني أكثر ممن دونه وهكذا، ولو اتفقت العاقلة فيما بينهم على تقدير معين جاز، لأن الأمر راجع إليهم.

• والمذهب: أن الجاني ليس عليه شيء من الدية ولو كان غنياً، والقول الآخر في المذهب: أنه يحمل مع العاقلة، لأنهم حملوا بسببه، ولا ينافي ذلك أن الشارع جعل الدية على العاقلة، فإنها من باب التحمل، وهذا اختيار الشيخ السعدي رحمه الله.

• لا تحمل العاقلة قتل العمد كما تقدم.

(وَمَنْ أَكْرَهَ مُكَلَّفاً عَلَى قَتْلِ مُكَافِئِهِ فَقَتَلَهُ فَالقَتْلُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا).

أي: إذا أكره مكلف مكلفاً على قتل معصوم فقتله، فالضمان عليهما: على المكرِه والمكرَه.

أي القتل عليهما إذا اختير، أو الدية إن عفي عنه.

كأن يقول له: اقتل فلان أو قتلتك فقتله.

وهذا قول مالك وأحمد.

ص: 18

واستدلوا:

لأن المكرِه تسبب إلى قتله بشيء يُفضي إليه غالباً، فوجب عليه القصاص، كما لو ألسعه حية، أو ألقاه إلى أسد في زريبة، وأما المكرَه

- بفتح الراء - فلأنه قتل شخصاً ظلماً لاستبقاء نفسه، أشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله.

القول الثاني: أن القصاص على المكرَه - بفتح الراء - دون المكرِه.

وهذا قول للشافعية وبعض الحنفية.

لأن المكرَه مباشر، وليس له أن يقتل غيره لاستبقاء نفسه.

القول الثالث: أن القصاص على المكرِه - بكسر الراء -.

وهذا قول أبي حنيفة.

لأنه هو الملجئ لغيره، والمكرَه مضطر، ولولا إكراه ذلك ما قتله.

لكن هذا تعليل ضعيف.

والراجح أن القصاص عليهما أو على المكرَه.

ص: 19

(وَإِنْ أَمَرَ بِالْقَتْلِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ أَوْ مُكَلَّفاً يَجْهَلُ تَحْرِيمَهُ، فَقَتَلَ، فَالقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَى الآمِرِ).

كما لو قال للصغير: اذهب إلى ذلك الرجل النائم واقتله، ففعل ذلك الصغير ما أُمِر به وقتل الشخص ومثله لو أمر مجنوناً بقتل شخص فقتله.

فالضمان على الآمر، فالقصاص على الآمر، فإن عفى صاحب الحق فعليه الدية.

لأنه توصل إلى قتله بشيء يقتل غالباً، والصبي والمجنون والجاهل بالتحريم بمنزلة الآلة، كما لو أنهشه حية فقتلته.

‌فائدة:

ما الحكم إذا كان المأمور كبيراً عاقلاً عالماً بالتحريم؟

إذا كان المأمور كبيراً عاقلاً عالماً بالتحريم فالقصاص على القاتل بلا خلاف.

(وَإِنِ اشْتَرَكَ فِيهِ اِثْنَانِ لَا يَجِبُ القَوَدُ عَلَى أَحَدِهِمَا مُنْفَرِداً لأِبُوَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَالْقَوَدُ عَلَى الشَّرِيك).

أي: يكون القود على الشريك وعلى الثاني نصف الدية.

مثاله: لو اشترك أب وأجنبي في قتل الولد، فالأجنبي يقتل بالولد، والأب لا يقتل بولده، فيكون القود على الشريك، والثاني (وهو الأب) لا قود عليه، لوجود المانع وهو الأبوة، وإذا نفذنا القصاص على الأجنبي فإن الأب يكون عليه نصف الدية، لأن الدية تتبعض، والقصاص لا يتبعض.

مثال آخر: رقيق وحر اشتركا في قتل رقيق، فالحر لا يقتل بالرقيق، والرقيق يقتل به، ففي هذه الحال يقتل الرقيق ولا يقتل الحر، ولكن عليه نصف ديته، أي نصف قيمته.

ص: 20

(وإنْ أمسكَ إنساناً لآخرَ ليقتله فقتلَه، قُتِلَ القاتل، وحُبِسَ الممسكُ حتى يموت).

أما القاتل فلا خلاف في قتله.

قال ابن قدامة: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ.

وأما الممسك الذي أمسكه ليقتله القاتل، فقد اختلف العلماء على أقوال:

فالمذهب: أن القاتل يقتل ويمسك الممسك حتى يموت.

وهذا المشهور من مذهب الحنابلة.

لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا أَمْسَكَ اَلرَّجُلُ اَلرَّجُلَ، وَقَتَلَهُ اَلْآخَرُ، يُقْتَلُ اَلَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ اَلَّذِي أَمْسَكَ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ.

قال ابن قدامة: ولنا، ثم ذكر حديث الباب.

ولأنه حبسه إلى الموت، فيحبس الآخر إلى الموت، كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات، فإننا نفعل به ذلك حتى يموت.

وقيل: لا قصاص على الممسك.

وهذا قول أبي حنيفة والشافعي.

قال ابن قدامة: وقال أبو حنيفة، والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يعاقب، ويأثم، ولا يقتل.

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن أعتى الناس على الله، من قتل غير قاتله) والممسك غير قاتل.

ب- ولأن الإمساك سبب غير ملجئ، فإذا اجتمعت معه المباشرة، كان الضمان على المباشر، كما لو لم يعلم الممسك أنه يقتله.

وقيل: القصاص عليهما جميعاً.

وهذا قول مالك.

ص: 21

لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله، وبإمساكه تمكن من قتله، فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكان فيه.

والراجح المذهب.

(وتُقتلُ الجماعةُ بالواحد).

أي: لو اشترك جماعة في قتل شخص عمداً، فإنه يجب عليهم القصاص جميعاً.

أ- لعموم الأدلة على مشروعية القصاص.

ب- وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ قَالَ (قُتِلَ غُلَامٌ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ اِشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ) رواه البخاري.

ج- وسداً للذريعة، فإنه لو لم يقتل الجماعة بالواحد لأدّى ذلك إلى سقوط القصاص بهذه الحيلة، فكل من أراد قتل شخص تعاون مع آخرين ليسقط عنه القصاص، فيؤدي ذلك إلى إسقاط حكمة الردع والزجر.

‌فائدة:

وشرط القصاص منهم جميعاً: أن يكون فعل كل واحد منهم يصلح لقتله لو انفرد، كأن يصوّب ثلاثة أشخاص مسدساً ضد شخص واحد ويقتلونه في آن واحد.

وهذا الحكم: حيث كان فعل كل واحد منهم يوجب القصاص لو انفرد، كأن يجتمعوا على ضربه بسيوف، كل واحد لو انفردت ضربته لقتلت غالباً.

(وإن سقطَ القَوَد أدَّوْا دِيةً واحدةً).

أي: إذا سقط القود عن الجماعة بشيء من مسقطاته - كما لو عفَى أولياء المقتول - فإن الدية تكون على الجماعة، فيؤدون دية واحدة يشتركون فيها، لأن المقتول واحد.

ص: 22

‌فائدة: 1

الفرق بين القتل العمد وبين شبه العمد:

‌أولاً: أن القصد في القتل العمد هو إزهاق روح المجني عليه،

أما في شبه العمد فالقصد هو الضرب دون القتل، فيقصد الجاني ضرب المجني عليه بما لا يقتل غالباً.

‌ثانياً: الآلة.

أن الآلة المستخدمة في القتل العمد يغلب على الظن موت المجني عليه بها، كأن يقتله بسيف أو سكين أو بخنجر كبير يقتل غالباً، أما في شبه العمد فإن الآلة فيه لا تقتل غالباً كأن يضربه بخشبة صغيرة.

‌ثالثاً: الموجَب.

موجب القتل العمد هو القود أو الدية، والقود هو قتل القاتل لمن قتله، وأما موجب قتل شبه العمد فهو الدية.

‌رابعاً: الدية.

الدية في القتل العمد تجب في مال القاتل فلا تحملها العاقلة، قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة، أما الدية في شبه العمد فلا تجب في مال القاتل، بل تحملها العاقلة. (وسيأتي تعريف العاقلة).

ص: 23

‌خامساً: تأجيل الدية.

ذهب جمهور العلماء إلى أن الدية في القتل العمد تجب حالة غير مؤجلة أو مقسطة إلا برضا ولي الدم، لأن الجاني قد ارتكب جريمة القتل باختياره والواجب فيه القصاص حالاً، والدية بدل القصاص فتكون حالة، وأما دية شبه العمد فإنها مؤجلة، قال ابن قدامة: ولا أعلم في أنها تجب مؤجلة خلافاً بين أهل العلم.

وذلك تخفيفاً على الجاني، لأنه لم يقصد القتل، وصفة التأجيل أنها توزع على ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها.

‌سادساً: الكفارة.

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجب في القتل العمد كفارة، لأن القتل العمد أعظم من أن تمحوها الكفارة، أما القتل شبه العمد فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى وجوب الكفارة على القاتل.

سابعاً: العقاب الأخروي.

فإن الله توعد قاتل العمد بقوله (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)، وأما شبه العمد، فهو وإن كان القاتل آثماً فإنه لا يدخل في هذا الوعيد.

‌فائدة: 2

يشترك الخطأ وشبه العمد في أمور:

أنه لا قصاص فيهما.

أن فيهما الدية.

أن الدية على العاقلة.

ص: 24

ويختلفان في:

أن شبه العمد قصد، والخطأ ليس بقصد.

أن دية شبه العمد مغلظة، ودية الخطأ غير مغلظة.

أن شبه العمد فيه إثم، والخطأ لا إثم عليه.

‌فائدة: 3

القتل من حيث ما يوجبه ويترتب عليه ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: قتل يوجب القود فقط، وهو القتل العمد.

القسم الثاني: قتل يوجب الكفارة والدية، وهو قتل شبه العمد والخطأ.

القسم الثالث: قتل يوجب الكفارة فقط وهذا له صور:

الصورة الأولى: إذا قتل في صف كفار من ظنه حربياً فبان مسلماً ففيه الكفارة.

الصورة الثانية: وإذا قتل مسلم ورثته كفار وهم أعداء لنا، لقوله تعالى (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ). والمعنى: وإن كان القتيل من قوم كفار محاربين فعلى قاتله عتق رقبة مؤمنة فقط، ولم يذكر الدية، لأنه لا دية على القاتل، لأن أهل المقتول كفار محاربون، لا عهد لهم ولا ذمة، وقد يتفقون بها على حرب المسلمين، ولأنه مؤمن وهم كفار، والكافر لا يرث المؤمن.

ص: 25

‌شروط القصاص

هذه الشروط إذا فقد منها شرط سقط حد القصاص.

(وهي أربعة، كون القاتل مكلفاً).

‌هذا الشرط الأول: أن يكون القاتل مكلفاً (عاقلاً بالغاً).

فلا قصاص على صغير ولا مجنون.

لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق .. ).

وأما الصبي والمجنون فحكم قتلهما قتل خطأ لأن عمدهما خطأ لكونهما لا يصح منهما قصد صحيح.

‌فائدة:

اختلف العلماء في حكم جناية السكران على قولين:

‌القول الأول: أنه يقتص منه.

وهذا قول الجمهور.

أ- لأن الصحابة أقاموا سكره مقام قذفه، فأوجبوا عليه حد القذف، فقد جاء في الموطأ (أن عمر استشار الناس في شأن شارب الخمر فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن الشارب إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى وحد المفتري ثمانون جلدة، أرى أن تجلده ثمانين جلدة، فأعجب ذلك عمر وجعل عقوبته ثمانين جلدة) فإذا وجب حد القذف على الشارب فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى.

ب- ولأن في ذلك سداً للذريعة، إذ لو لم يجب القصاص والحد لأفضَى إلى أن من أراد أن يعصي الله شرب ما يسكره ثم قتل وزنى وسرق ولا يلزمه عقوبة، فيصير عصيانه سبباً لسقوط العقوبة عنه.

ص: 26

‌القول الثاني: أنه لا يقتص منه.

وهذا وجه في مذهب الحنابلة.

قياساً على المجنون، فإن كلاً منهما زائل العقل.

ولما ثبت في صحيح البخاري (أن حمزة قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ثمل: وهل أنتم إلا عبيد أبي) ولم يقم النبي صلى الله عليه وسلم عليه حد الردة.

والراجح القول الأول.

وأما قياسه على المجنون، فهذا قياس مع الفارق، فإن السكران فقد عقله باختياره عصياناً بخلاف المجنون.

وأما قصة حمزة، فهذا كان قبل تحريم الخمر، فلا يصح الاستدلال به، وبأنه قول والقتل فعل، والفعل أشد.

(الثاني: عصمة المقتول).

هذا الشرط الثاني: أن يكون المقتول معصوماً، فإن كان حربياً أو مرتداً فلا ضمان فيه.

والعلة في ذلك: لأن القصاص شرع لحفظ الدم المعصوم دون الدم المهدر.

‌فائدة:

والمعصومون أربعة أصناف: المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن.

فالمسلم واضح.

الذمي: وهو من بين قومه وبين المسلمين عقد ذمة، أي: أنهم يدفعون الجزية للمسلمين.

والمستأمن: وهو الحربي الذي يدخل بلاد المسلمين بأمان من الإمام أو نائبه، فيؤمَّن حتى يسمع كلام الله حتى يبلغ مأمنه.

والمعاهد: وهو من بين قومه وبين المسلمين عهد، أي: صلح.

(والثالث: المكافأة في الإسلام والرق أو الحرية).

هذا الشرط الثالث: أن المساواة بين القاتل والمقتول في الإسلام والحرية أو الرق.

فإن كان القاتل أعلى من المقتول في دين أو حرية فلا قصاص.

ص: 27

(فلا يُقتلُ مسلمٌ بكافر).

لو قتل مسلم كافراً معصوماً، فلا يقتل به.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ-لما ثبت في البخاري مرفوعاً في صحيفة علي (لا يقتل مسلم بكافر).

ب-ولحديث علي مرفوعاً (المؤمنون تتكافأ دماؤهم

ولا يقتل مؤمن بكافر) رواه أبوداود.

فهذا يدل على أن غير المؤمن لا يكافئ المؤمن.

ج- ولأن المسلم أعلى وأكرم عند الله من الكافر، والإسلام يعلو ولا يُعلى عليه كما قال تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وقال تعالى (َفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ).

وذهب الحنفية: إلى أنه يقتل المسلم بالذمي خاصة.

واستدلوا بالعمومات الدالة على أن النفس بالنفس كقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

وبحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بذمي، وقال: أنا أحق من وفى بذمته).

والراجح قول الجمهور، وأما الحديث (أنه صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بذمي

) فهو حديث ضعيف جداً.

(ولا حرٌ بعبدٍ).

فالحر لا يُقتل بالعبد إذا قتله.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

فهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ- لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى).

وجه الدلالة: أن قوله (الحر بالحر) يفيد الحصر، أي: لا يقتل الحر إلا بالحر، ومفهوم ذلك عدم قتل الحر بالعبد.

ب-وعن ابن عباس. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يقتل حر بعبد) رواه الدارقطني لكنه ضعيف.

ج-وعن علي (من السنة: أن لا يقتل حر بعبدٍ) أخرجه ابن أبي شيبة وسنده لا يصح.

د- ولأن العبد لا يكافئ الحر، فإنه منقوص بالرق.

ص: 28

وذهب بعض العلماء: إلى أن الحر يقتل بالعبد.

وهو قول داود الظاهري وبعض السلف.

لعموم الأدلة في وجوب القصاص، كقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

ولقوله صلى الله عليه وسلم (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) رواه أبوداود.

فدل الحديث على أن دماء المؤمنين متكافئة، وأن العبرة بأصل الإيمان، وليست العبرة بالحرية أو الرق.

وهذا قول قوي، لقوة أدلته.

(وعكسُهُ يُقتل).

فإذا قَتلَ الكافر مسلماً، فإنه يقتل به.

وكذا إذا قتل الرقيق حراً، فإنه يقتل به.

(ويُقتلُ الذكرُ بالأنثى، والأنثى بالذكر).

إذا قتلت أنثى ذكراً: فإنها تقتل به.

وإذا قتل الذكر أنثى: فإنه يقتل بها.

قال في المغني: هذا قول عامة أهل العلم.

لقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

ولحديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهودياً بجارية قتلها على أوضاح لها) متفق عليه.

ص: 29

(الرابع: عدم الولادة، فلا يُقتلُ أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سَفَلَ).

هذا الشرط الرابع: وهو أن يكون الجاني غير الأصل، فلا يقتل الوالد بولده.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

أ-لحديث عمر. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يقاد الوالد بالولد) رواه الترمذي.

هذا الحديث ورد من طرق متعددة، وبألفاظ متقاربة يثبت بمجموعها، وقد صححه الحاكم في المستدرك، والسيوطي في الجامع الصغير، والألباني.

وضعفه جمع من أهل العلم.

قال ابن عبد البر: هذا حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يستغني بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه، حتى يكون الإسناد في مثله لشهرته تكلفاً.

وقال الجصاص: وهذا خبر مستفيض مشهور.

ب-ولأن الأب سبب لوجود الولد فلا يكون الولد سبباً لإعدامه.

ج- ولعموم الأدلة الموجبة لبر الوالدين، والإحسان إليهما.

د- أن الحدود تدرأ بالشبهات وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) فإذا لم يكن ذلك على حقيقته فلا أقل من أن يكون شبهة تدرأ الحد.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يقتل الوالد بولده.

وهذا قول داود الظاهري، وابن المنذر.

لعموم الأدلة في وجوب القصاص من القاتل، وعدم ورود ما يقوَى على تخصيصها.

وقالوا: وأما التعليل بأن الوالد سبب إيجاد الولد فلا يكون سبباً في إعدامه، فهو مردود، فإن الولد لم يكن سبباً في إعدامه، بل هو سبب إعدام نفسه.

ص: 30

قال الشيخ ابن عثيمين: والدليل الحديث المشهور: «لا يقتل والد بولده» ، هذا من الأثر، ومن النظر: أن الوالد سبب في إيجاد الولد، فلا ينبغي أن يكون الولد سببا في إعدامه.

ولننظر في هذه الأدلة، أما الحديث فقد ضعفه كثير من أهل العلم، فلا يقاوم العمومات الدالة على وجوب القصاص، وأما تعليلهم النظري، فالجواب عنه أن الابن ليس هو السبب في إعدام أبيه، بل الوالد هو السبب في إعدام نفسه بفعله جناية القتل.

والصواب: أنه يقتل بالولد، والإمام مالك رحمه الله اختار ذلك، إلا أنه قيده بما إذا كان عمدا، لا شبهة فيه إطلاقا، بأن جاء بالولد وأضجعه وأخذ سكينا وذبحه، فهذا أمر لا يتطرق إليه الاحتمال، بخلاف ما إذا كان الأمر يتطرق إليه الاحتمال فإنه لا يقتص منه، قال: لأن قتل الوالد ولده أمر بعيد، فلا يمكن أن نقتص منه إلا إذا علمنا علم اليقين أنه أراد قتله.

والراجح في هذه المسألة: أن الوالد يقتل بالولد، والأدلة التي استدلوا بها ضعيفة لا تقاوم النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على العموم، ثم إنه لو تهاون الناس بهذا لكان كل واحد يحمل على ولده، لا سيما إذا كان والدا بعيدا، كالجد من الأم، أو ما أشبه ذلك ويقتله ما دام أنه لن يقتص منه. (الشرح الممتع).

وقول الجمهور أرجح.

‌فائدة: 1

هل الأم كالأب في هذا؟

نعم، فلا تقتل بابنها.

قال ابن قدامة (وَالْأُمُّ فِي ذَلِكَ كَالْأَبِ) هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْد مُسْقِطِي الْقِصَاصِ عَنْ الْأَبِ.

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ).

وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ، فَأَشْبَهْت الْأَبَ.

وَلِأَنَّهَا أَوْلَى بِالْبِرِّ، فَكَانَتْ أَوْلَى بِنَفْيِ الْقِصَاصِ عَنْهَا.

وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَتْ فِي ذَلِكَ كَالْأُمِّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَدِّ. (المغني).

ص: 31

‌فائدة: 2

هل يقتل الجد إذا قتل ولد ولده؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يقتص من الجد بقتل حفيده.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قال في الحاوي: ولا يقتل الجد بابن ابنه.

وقال ابن قدامة: والجد وإن علا كالأب في هذا، وسواء كان من قبل الأب أو من قبل الأم، في قول أكثر مسقطي القصاص عن الأب.

أ- للحديث السابق (لا يقتل والد بولده).

وجه الاستدلال: أن الجد يعد والداً وأباً فيدخل في عموم هذا النص.

ب- أن عدم القصاص من الأب سببه الولادة، فاستوى فيه من كانت ولادته قريبة، ومن كانت بعيدة كالجد، وذلك كالمحرمية.

ج- أن الأب يشارك الجد في كثير من الأحكام، ولذلك كان مثله هنا في عدم الاقتصاص منه.

القول الثاني: أنه يقتص من الجد إذا قتل ولد ولده.

وهذا اختيار ابن تيمية.

واستدلوا: بأن الأصل القصاص من كل قاتل إلا ما ورد استثناؤه وتخصيصه بحكم من الشارع، وقد جاءت السنة بأنه لا يقتل الأب بولده، وقياس الجد على الأب في عدم القصاص منه بعيد لا يصح فيبقى على الأصل وهو القصاص.

والراجح الأول.

(ويُقتلُ الولدُ بكلٍّ منهما).

أي: إذا قتل الولد أحد الأبوين فيقتل.

قال في المغني: هذا قول عامة أهل العلم لعموم الأدلة الدالة على وجوب القصاص.

ص: 32

‌شروط استيفاء القصاص

هذه الشروط إذا توفرت يتم استيفاء القصاص.

الشروط الماضية - شروط القصاص - وهي الشروط التي يثبت بها القصاص.

فالشروط السابقة: شروط لثبوته.

وهذه الشروط: لتنفيذه.

(يُشْتَرَطُ لَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: كَوْنُ مُسْتَحِقِّهِ مُكَلَّفاً، فَإِنْ كَانَ صَبِيّاً، أَوْ مَجْنُوناً لَمْ يُسْتَوْفَ، وَحُبِسَ الْجَانِي إِلَى البُلُوغِ وَالإِفَاقَةِ).

هذا الشرط الأول: كون مستحق القصاص مكلفاً. (بالغاً عاقلاً).

أي: يشترط أن يكون ورثة المقتول مكلفين، فَإِنْ كَانَ صَبِيّاً، أَوْ مَجْنُوناً لَمْ يُسْتَوْفَ.

إذاً: ماذا يفعل بالجاني؟

يحبس حتى يبلغ الصغير ويعقل المجنون فيطالب أو يعفو.

أ- لأن معاوية حبس هُدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل.

وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص سبع ديات لابن القتيل فلم يقبلها، وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعاً.

ب- ولأنه لا يؤمن هربه فيضيع الدم.

قال الشافعي في الأم: ويحبس القاتل إلى اجتماع غائبهم وبلوغ صغيرهم.

ص: 33

وقال ابن قدامة: وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ تَأْخِيرُ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنْ الْقَاتِلَ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، وَيَعْقِلَ الْمَجْنُونُ، وَيَقْدَمَ الْغَائِبُ، وَقَدْ حَبَسَ مُعَاوِيَةُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ فِي قِصَاصٍ حَتَّى بَلَغَ ابْنُ الْقَتِيلِ، فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ، وَبَذَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِ الْقَتِيلِ سَبْعَ دِيَاتٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا.

فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يُخْلَى سَبِيلُهُ كَالْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي تَخَلَّيْتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ هَرَبُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْسِرِ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ لَا يَجِبُ مَعَ الْإِعْسَارِ، فَلَا يُحْبَسُ بِمَا لَا يَجِبُ، وَالْقِصَاصُ هَاهُنَا وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الْمُسْتَوْفِي.

الثَّانِي، أَنَّ الْمُعْسِرَ إذَا حَبَسْنَاهُ تَعَذَّرَ الْكَسْبُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا يُفِيدُ، بَلْ يَضُرُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهَا هُنَا الْحَقُّ نَفْسُهُ يَفُوتُ بِالتَّخْلِيَةِ لَا بِالْحَبْسِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ اُسْتُحِقَّ قَتْلُهُ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ نَفْسِهِ وَنَفْعِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ تَفْوِيتُ نَفْسِهِ، جَازَ تَفْوِيتُ نَفْعِهِ لِإِمْكَانِهِ. (المغني).

وقال الشيخ ابن عثيمين: فلو كان المستحق للقصاص صغيراً وله أب، كما لو قتل رجل، وورثه أبوه وابنه الصغير، فليس للأب أن يستوفي القصاص؛ لأن أحد مستحقيه صغير لم يبلغ.

والعلة أن القصاص إنما وجب للتشفي من القاتل، وليذهب الإنسان ما في قلبه من الغيظ على هذا القاتل الذي قتل مورِّثه، وهذا لا يمكن أن يقوم به أحد عن أحد؛ لأن التشفي معنى يقوم بالنفس، فأبو الرجل لا يتشفّى عن ابن ابنه.

ولهذا يحبس حتى البلوغ أو الإفاقة.

وقال في الروض: ولأن معاوية رضي الله عنه حبس هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة ولم ينكر. (الشرح الممتع)

ص: 34

‌فائدة:

ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز للأب والجد أن يستوفيا القصاص نيابة عن موليهما الصغير والمجنون.

وهذا قول بعض الحنفية، لأن ولايتهما ولاية نظر ومصلحة، فهما مخوّلان لطلب القصاص.

والراجح - كما تقدم - أنه ليس لهم ذلك.

لأن المقصود من القصاص التشفي ودرك الغيظ، ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي أو الوصي أو الحاكم.

(الثاني: اِتِّفاقُ الأَوْلِياءِ المُشْتَرِكينَ فِيهِ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِه).

هذا الشرط الثاني: وهو اتفاق جميع الأولياء المشتركين في استحقاق القصاص على استيفائه.

لأنه حق لجميعهم فلم يكن لبعضهم الاستقلال به.

فإذا عفا أحد الأولياء سقط القصاص وانتقل الأمر إلى الدية.

وهذا مذهب جمهور العلماء:

أ-لقول الله تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).

فالمراد بالعفو إسقاط القصاص، و (شَيْءٌ) نكرة تعم أي شيء قل أو كثر، فإن العفو عن البعض من القصاص كالعفو عنه كله يسقط به القصاص.

ب-ما رواه قتادة (أن عمر بن الخطاب رفع إليه رجل قتل رجلاً، فجاء أولاد المقتول وقد عفا أحدهم، فقال عمر لابن مسعود وهو إلى جنبه: ما تقول؟ فقال ابن مسعود: أقول له: قد أحرز من القتل، قال: فضرب على كتفه وقال: كُنَيِّفٌ ملئ علماً) رواه الطبراني

فقد رأى ابن مسعود رضي الله عنه سقوط القصاص بتنازل بعض الورثة، ووافقه عمر رضي الله عنه.

ص: 35

ج-أن القصاص يدرأ بالشبهة كالحد، وسقوط بعضه بتنازل بعض الورثة يوجب سرايته على النفس كلها مراعاة لحرمة النفس.

د- أن القصاص لا يتجزأ، فإذا سقط بعضه سقط كله ضرورة.

‌فائدة:

إن كان فيهم غائب انتظر قدومه.

الذين لهم حق في استيفاء القصاص هم الورثة، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين) رواه أبوداود وأصله في الصحيحين، فقوله [أهله] أي ورثته.

(الثَّالِثُ: أَنْ يُؤْمَنَ فِي الاسْتِيفَاءِ أَنْ يَتَعَدَّى الْجَانِيَ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَى حَامِلٍ أَوْ حَائِلٍ فَحَمَلَتْ لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ الوَلَدَ وَتُسْقِيَهُ اللَّبَأَ).

هذا الشرط الثالث: الأمن من التعدي في الاستيفاء.

فلو كان الجاني حاملاً لم يجز استيفاء القصاص منها حتى تضع ولدها ويستغني عنها.

- قوله (أو على حائل فحملت) مثاله: امرأة ليست حاملاً، قتلت إنساناً عمداً عدواناً، ولكن قبل أن يحكم عليها بالقصاص حملت، فتترك حتى تضع.

فإن قلت: كيف تترك مع أن الحق سابق على الحمل، والقاعدة أنه يقدم الأسبق فالأسبق؟

فالجواب: أن هذا التأخير لا يُضيع الحق، وغاية ما هنالك أنه يؤجل حتى يزول هذا المانع، فالقصاص يثبت. (الشرح الممتع).

ص: 36

‌فصل

(وَلَا يُسْتَوْفَى قِصَاصٌ إِلاَّ بِحَضْرَةِ سُلْطَانٍ أَوْ نَائِبِهِ).

الأصل أن الذي يتولى استيفاء القصاص هو ولي المجني عليه إن كان يحسنه، وإلا فينيب من يتولى إقامته، أو يرجع الأمر إلى السلطان فينيب من يتولاه.

فإن تشاح الأولياء كل يريد إقامته وكلهم يحسنه فيقرع بينهم.

إذاً: يجوز أن يستوفي القصاص أولياء المقتول بشروط:

أن يحسن القصاص - ويأمن عدم التجاوز - وبحضور السلطان أو نائبه.

- ويجب حضور السلطان أو نائبه لأمرين:

أ- لافتقاره إلى اجتهاده، وخوف الحيْف.

ب- ولأن أولياء المقتول ربما يعتدون عليه بالتمثيل أو بسوء القتل أو بغير ذلك بسبب الغيظ الذي في قلوبهم عليه.

- والدليل على أنه يجوز لولي الدم أن يتولى القصاص:

قوله تعالى (فلا يسرف في القتل).

(وآلَةٍ مَاضِيَةٍ).

أي: لا يستوفَى القصاص إلا بآلة ماضية، يجب أن يكون الاستيفاء بآلة حادة لا كالة.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة).

ب-ولأن ذلك أرفق بالمقتول.

ص: 37

(وَلَا يُسْتَوْفَى فِي النَّفْسِ إِلاَّ بِضَرْبِ الْعُنُقِ بِسَيْفٍ، وَلَوْ كَانَ الجَانِي قَتَلَهُ بِغَيْرِهِ).

أي: يستوفى القصاص بضرب العنق دون غيره، لأنه مجمع العروق.

ويكون بسيف لا بغيره ولو كان الجاني قتله بغير ذلك.

أ-لحديث ابن مسعود مرفوعاً (لا قود إلا بالسيف) رواه الطبراني وهو ضعيف.

ب-ولأنه أمضى ما يكون من الآلات التي يقتل بها.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الجاني يقتل بمثل ما قتل به ولا يتعين السيف.

وهذا قول مالك، والشافعي، وجمهور العلماء واختاره ابن تيمية رحمه الله.

أ-لقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ).

ب- ولقوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ).

ج- ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ جَارِيَةً وُجَدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا: مَنْ صَنَعَ بِكِ هَذَا? فُلَانٌ. فُلَانٌ. حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا. فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ اَلْيَهُودِيُّ، فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وهذا القول هو الصحيح.

وعليه: لو قتله بالرصاص فإننا نقتله بالرصاص، وإن قتله بأن رماه من شاهق، فإننا نرميه من شاهق.

لكن يستثنى ما لو قتله بوسيلة محرّمة فإننا لا نقتله بها، مثل أن يقتله باللواط أو بالسحر أو يقتله بإسقاء الخمر حتى يموت.

قَالَ ابن رُشد رحمه الله: اختلفوا فِي صفة القصاص فِي النفس.

فمنهم منْ قَالَ: يُقتصّ منْ القاتل عَلَى الصفة التي قَتَل، فمن قتل تغريقًا قُتل تغريقًا، ومن قتل بضرب بحجر قُتل بمثل ذلك، وبه قَالَ مالكٌ، والشافعي.

ص: 38

وَقَالَ أبو حنيفة، وأصحابه: بأيّ وجه قتله لم يُقتل إلا بالسيف، وعمدتهم ما رَوى الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ (لا قود إلا بحديدة).

وعمدة الفريق الأول حديث أنس رضي الله عنه أن يهوديّا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسه بحجر، أو قَالَ:"بين حجرين"، وقوله عز وجل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) والقصاص يقتضى المماثلة. (بداية المجتهد).

‌فصل

(ويجبُ بعمدٍ القَوَدُ أو الدية، فيُخَيّرُ الولي).

أي: أن الواجب في القتل العمد، القود أو الدية، وللولي اختيار التعيين، إن شاء استوفى القصاص، وإن شاء أخذ الدية من غير توقف على رضا القاتل.

وهذا رأي الحنابلة، وبعض الشافعية، والظاهرية.

وروي عن سعيد ابن المسيب وابن سيرين وعطاء ومجاهد وغيرهم، وهو رواية عن الإمام مالك رحمه الله.

أ-لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (

وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ) متفق عليه.

ب-وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ اَلْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذُوا

اَلْعَقْلِ. أَوْ يَقْتُلُوا) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

وجاء عند أبي داود (فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه) أي إذا أراد زيادة على القصاص أو الدية.

ب- ولقول ابن عباس: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فأنزل الله تعالى هذه الآية (كتب عليكم القصاص في القتلى)

وذهب بعض العلماء: إلى موجَب القتل العمد هو القَود عيناً أي متعيناً.

ص: 39

وعلى هذا فلا يُلزم الجاني بدفع الدية إن أرادها ولي الدم، فإما أن يقتص منه وإما أن يعفو مجاناً إن لم يرض الجاني بدفع الدية.

وهذا رأي الحنفية، والمالكية، وقول للشافعية.

أ-لقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) وهذا يفيد تعين القصاص واجباً متعيناً للعمد.

ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم (من قتل عمداً فهو قَود).

ج-ولأن القصاص بدل شيء متلف، فتعين الجزاء من جنسه، كسائر المتلفات.

والراجح الأول.

‌فائدة:

من هم أولياء المقتول الذين لهم الحق في القصاص أو العفو، اختلف العلماء على قولين:

‌القول الأول: أن حق القصاص والعفو عنه ثابت لكل من يرث بفرض أو تعصيب ذكوراً كانوا أو إناثاً، فيدخل الزوجان، والأخوات.

وهذا مذهب الحنفية، والمشهور من مذهب الشافعية والحنابلة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (فمن قتل له قتيل فأهله بين خيريين .... ).

وجه الدلالة: أن الحديث جعل حق القصاص أو العفو عنه لأهل المقتول وورثته، وهو عام يشمل من يرث بفرض أو تعصيب ويشمل الرجال والنساء.

ب- ما ورد (أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلاً، فأراد أولياء المقتول قتله، فقالت أخت المقتول - وهي زوجة القاتل - قد عفوت عن حقي من زوجي، فقال عمر: عتق الرجل من القتل) رواه البيهقي.

وجه الدلالة: أن في هذا الأثر دليلاً على أن للزوجة حق العفو عن القصاص، ومعلوم أن الزوجة ليست من العصبة.

ج- دليل عقلي: وهو أن الورثة من غير العصبة لما كانوا يرثون مال المقتول وديته كان لهم أن يرثوا حق القصاص من قاتله من باب القياس.

ص: 40

‌القول الثاني: أن حق القصاص والعفو عنه ثابت للعصبة بالنفس فقط.

وهو المشهور من مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية.

قالوا: إن استيفاء القصاص شرع لدفع العار عن ورثة المقتول، فأشبه ولاية النكاح وهي خاصة بالرجال من العصبة، فكذلك ولاية القصاص مثلها.

والراجح قول الجمهور.

(وعَفْوُهُ مجاناً أفضلُ).

تقدم ذلك.

(ومَتى اختارَ الديةَ أو عفا مطلقاً، أو هلك جانٍ، تعينت الدية).

هذه حالات تتعين فيها الدية:

‌الأولى: إذا اختارها.

فلو قال: رجعت إلى الدية، نقول: لا قصاص، لأنك باختيارك الدية سقط القصاص.

‌الثانية: إذا عفا مطلقاً.

بأن قال: عفوت: ولم يقيده بقصاص ولا دية فله الدية، لانصراف العفو إلى القصاص، لأنه المطلوب، الأعظم.

‌الثالثة: إذا هلك الجاني، فإذا مات القاتل فهنا تتعين الدية.

لفوات المَحل.

فلو أن إنساناً وجب عليه القصاص، وقبل أن يقتص منه مات، فهنا تتعين الدية للأولياء.

ص: 41

‌فائدة:

حكم من قتل بعد أخذ الدية:

قَالَ القرطبيّ: قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ) شرط وجوابه: أي قَتَلَ بعد أخذ الدية، وسقوط الدم قاتلَ وَلِيِّه فله عذاب أليم.

واختلف العلياء فيمن قتل بعد أخذ الدية.

فَقَالَ جماعة منْ العلماء، منهم: مالك، والشافعي: هو كمن قَتَل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا، وعذابه فِي الآخرة. وَقَالَ قتادة، وعكرمة، والسُّدِّي، وغيرهم: عذابه أن يُقتَل البتة، ولا يُمَكِّن الحاكم الوليَّ منْ العفو.

ورَوَى أبو داود، عن جابر بن عبد الله. قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا أُعْفِي منْ قتل بعد أخذ الدية).

وَقَالَ الحسن: عذابه أن يَرُدَّ الديةَ فقط، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة.

وَقَالَ عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإِمام، يصنع فيه ما يرى. (تفسير القرطبي).

(وَإِنْ وَكَّلَ مَنْ يَقْتَصُّ ثُمَّ عَفَا، فَاقْتَصَّ وَكِيلُهُ وَلَمْ يَعْلَمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا).

أي: و إن وكّل ولي الجناية من يقتص له ثم عفا الموكل عن القصاص، فاقتص وكيله ولم يعلم بعفوه: فلا شيء عليهما.

لا على الموكل، ولا على الوكيل.

أما الموكل: فلأنه محسن بالعفو، و (ما على المحسنين من سبيل).

ولا على الوكيل: لأنه لا تفريط منه.

مثال: كإنسان وجب له قصاص، سواء كان في النفس أو فيما دونها، فوكَّل شخصاً ليقتص له، ثم إنه عفا قبل أن ينفّذ الوكيل، ولكن الوكيل لم يعلم ونفَّذ القصاص فلا شيء عليهما.

(الشرح الممتع).

ص: 42

‌بَابُ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ

أي: فكما أن القصاص يكون بالنفس يكون فيما دونها لقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).

(فمن أقيدَ بأحد في النفس أقيدَ به في الطرف والجراح ومن لا فلا).

الطرف: هو الأعضاء والأجزاء من البدن، كاليد، والرجل، والعين، والأنف، والأذن، والسن، والذكر.

والجراح: هي الشقوق في البدن: مثل جرح يد إنسان أو ساقه، أو فخذه، أو صدره، أو ظهره.

من أُقيد بأحد في النفس (أي: قتل به قصاصاً) فإنه يقاد به في الطرف والجراح.

فالقصاص في الطرف والجروح فرع عن القصاص في النفس.

فلو أن حراً قطع يد عبد، فإنه لا يقطع الحر، لأن الحر لا يقتل بالعبد.

ولو أن مسلماً قطع يد كافر، فلا يقطع به المسلم، لأن المسلم لا يقتل بكافر، فإذا لم يقتص به في كله لا يقتص به في جزئه.

‌فائدة:

ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس وهو أن يكون عمداً،

فلا قود في الخطأ ولا في شبه العمد.

فإذا قطع أحد يد أحد عمداً وعدواناً، قطعنا يده وإلا فلا، فإن قطع يده خطأ فإنه لا يقطع.

ص: 43

(وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الطَّرَفِ، فَتُؤْخَذُ الْعَيْنُ، وَالأْنْفُ، وَالأْذُنُ، وَالسِّنُّ، وَالْجَفْنُ، وَالشَّفَةُ، وَالْيَدُ، وَالرِّجْلُ، وَالإْصْبَعُ، وَالْكَفُّ، وَالْمِرْفَقُ، وَالذَّكَرُ، وَالْخِصْيَةُ، وَالأَلْيَةُ، وَالشُّفْرُ، كُلُّ واحدٍ مِنْ ذلِكَ بِمِثْلِهِ).

‌والقصاص فيما دون النفس نوعان: في الطرف، وفي الجراح:

‌الأول في الطرف:

فتؤخذ العين بالعين: أي: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والأذن بالأذن: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والسن بالسن: الثنية بالثنية، والرباعية بالرباعية، والعليا بالعليا، والسفلى بالسفلى.

والجَفْن بالجفن: وهو غطاء العين، الأيمن بالأيمن، والأعلى بالأعلى، والأيسر بالأيسر.

والشّفه بالشفة: وهي حافة الفم. العليا بالعليا والسفلى بالسفلى.

واليد باليد: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والرجل بالرجل: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والإصبع بالإصبع: فالإبهام بالإبهام، والأيمن بالأيمن.

والخصية بالخصية: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والأصل في ذلك قوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).

(وَلِلْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ شُرُوطٌ: الأْوَّلُ: الأَمْنُ مِنَ الْحَيْفِ بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ).

أي: يشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط: [هذه شروط زائدة عما سبق من الشروط الأربعة].

الأول: الأمن من الحيف. [أن نأمن في الاستيفاء أن تتعدى الجناية الموضع].

لأن الحيف جور وظلم، وإذا لم يمكن القصاص إلا به، لم يجز فعله.

ص: 44

لأن المماثلة في غير ذلك غير ممكنة.

وذلك بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه، فإن لم يكن كذلك لم يجز القصاص.

فلو أن رجلاً قطع يد رجل من نصف الذراع فلا يقتص منه، لأن القطع ليس من مفصل.

(الثاني: التماثل بين عضوي الجاني والمجني عليه في الاسم والموضع).

هذا الشرط الثاني من شروط القصاص في الطرف: المماثلة في الاسم والموضع.

في الموضع: يمين بيمين، وفي الاسم: خنصر بخنصر، يداً بيد.

فلا تؤخذ يمين بيسار، ولا يسار بيمين من الأيدي والأرجل والأعين والآذان ونحوها، ولا تؤخذ خنصراً ببنصر.

العلة:

أ-لأن لفظ القصاص يشعر بالمماثلة والمساواة، ولا يتحقق إلا بهذا.

ب-ولأن الأعضاء تتفاوت في المنفعة بتفاوت مكانها واسمها.

‌فائدة:

لا يجوز ولو تراضيا بذلك.

(الثالث: استواء العضوين من الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال).

هذا الشرط الثالث من شروط القصاص في الطرف: لا يكون طرف الجاني أكمل من طرف المجني عليه.

فلا يؤخذ يد صحيحة بيد شلاء، أو رجل صحيحة برجل شلاء، ولا تؤخذ عين صحيحة بعين قائمة - وهي التي بياضها وسوادها صافيان غير أنها لا تبصر - لعدم التساوي، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس.

ص: 45

مثال: إذا كانت يد الجاني سليمة، ويد المجني عليه مشلولة، فإنه لا يؤخذ يد الجاني بيد المجني عليه، فلا قصاص، لأن يد الجاني أكمل

وإذا كانت عين الجاني صحيحة، وعين المجني عليه قائمة، فلا قصاص، لعدم التساوي.

• ويؤخذ العضو الناقص بالعضو الكامل، فتؤخذ الشلاء بالصحيحة، وناقصة الأصابع بكاملة الأصابع، لأن المقتص يأخذ بعض حقه فلا حيف، وإن شاء أخذ الدية بدل القصاص.

‌فصل

(النَّوْعُ الثَّانِي: الْجِرَاحُ، فَيُقْتَصُّ فِي كُلِّ جُرْحٍ يَنْتَهِي إِلَى عَظْمٍ، كَالْمُوضِحَةِ).

أي: النوع الثاني من القصاص فيما دون النفس: القصاص في الجراح:

(فيُقْتَص في كلِ جرحٍ ينتهي إلى عَظْمٍ)

لإمكان الاستيفاء فيه بلا حيف ولا زيادة.

وذلك كالموضحة: وهي التي توضح العظم في الرأس والوجه خاصة، فإذا جنى شخص على آخر عمداً، وكشط جلد رأسه ولحمه حتى وصل إلى العظم فإنه يقتص منه، لأنه جرح ينتهي إلى عظم.

وكذلك جرح العضد والساق والفخذ والقدم.

لأن الذي لا ينتهي إلى عظم لا يمكن القصاص منه.

فلا قصاص في الهاشمة: هي الجرح الذي يبرز العظم ويهشمه، فهذه لا قصاص فيها.

ولا في المنقِّلَة: وهي التي تهشم الرأس وتنقل العظام.

ولا في المأمومة: هي الشجة التي تصل إلى جلدة الدماغ.

ص: 46

‌فائدة:

وأما القصاص في الضربة بيده أو بعصا أو سوط ونحوه ذلك:

قال ابن تيمية: فقالت طائفة: لا قصاص فيه، بل فيه التعزير، والمأثور عند الخلفاء وغيرهم من الصحابة والتابعين: أن القصاص مشروع في ذلك، وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء، وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب.

قال عمر: إني ما أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم، فوالذي نفسي بيده؛ من فعل؛ لأقصنه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه، رواه أحمد. ومعناه أن يضرب الوالي رعيته ضربا غير جائز، فأما الضرب المشروع؛ فلا قصاص فيه بالإجماع.

وقال ابن القيم: قال الشافعية والحنفية والمالكية ومتأخرو الأصحاب: لا قصاص في اللطمة والضربة، وحكى بعضهم الإجماع، وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة، وقال تعالى:(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ).

فالواجب للملطوم أن يفعل بالجاني عليه كما فعل به، فلطمة، وضربة بضربة، في محلها، بالآلة التي لطمه بها، أو مثلها أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزير بغير جنس اعتدائه وصفته، وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ومحض القياس، ونصوص أحمد.

(وَسِرَايَةُ الجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَها)

أي: السراية التي سببها الجناية مضمونة.

قال ابن قدامة: وَسِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِلَا خِلَافٍ.

لِأَنَّهَا أَثَرُ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ مَضْمُونَةٌ، فَكَذَلِكَ أَثَرُهَا. (المغني).

فلو قطع إصبعاً، فتآكلت الإصبع الأخرى أو اليد وسقطت من مفصله؛ وجب القود في اليد، وإن، سرت الجناية إلى النفس، فمات المجني عليه؛ وجب القصاص.

والقاعدة: (ما ترتب على غير المأذون فهو مضمون) فكل شيء ترتب على شيء لم يؤذن فيه، لا شرعاً ولا عرفاً، فإنه يكون مضموناً. (الشرح الممتع)

ص: 47

(وَسِرايَةُ الْقَوَدِ مَهْدُورَةٌ).

معناه: إذا قطع طرفاً يجب القود فيه فاستوفى منه المجني عليه ثم مات الجاني بسراية الجراح لم يلزم المستوفى شيء.

أ-لما روي أن عمر وعلياً قال (من مات من حد أو قصاص لا دية له، الحق قتله) أخرجه البيهقي.

ب-ولأنه قطع مستحق مقدر فلا يضمن سرايته كقطع السارق.

قال الشيخ ابن عثيمين: في الممتع: قوله: (وسراية القود مهدورة) القود أي: القصاص، فلو اقتصصنا من الجاني ثم سرت الجناية فإنها

هدر، أي: لا شيء فيها؛ لأننا نقول: أنت المعتدي، فلا شيء لك.

وهذا الضابط مبني على قاعدة عند أهل العلم وهي (ما ترتب على المأذون فليس بمضمون) وهنا القود مأذون فيه، فإذا استقدنا من هذا الرجل، وقطعنا يده ثم سرى القود، فقد ترتب هذا على شيء مأذون فلا يكون مضموناً،

(وَلَا يُقْتَصُّ مِنْ عُضْوٍ وَجُرْحٍ قَبْلَ بُرْئِهِ، كَمَا لَا تُطْلَبُ لَهُ دِيَةٌ).

قال ابن قدامة: ولَا يَجُوزُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إلَّا بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى الِانْتِظَارَ بِالْجُرْحِ حَتَّى يَبْرَأَ.

(المغني).

أ-عَنْ عَمْرِوِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ; رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَجَاءَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَقِدْنِي. فَقَالَ: "حَتَّى تَبْرَأَ". ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! عَرِجْتُ، فَقَالَ: "قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اَللَّهُ، وَبَطَلَ عَرَجُكَ". ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ.

(بِقَرْنٍ) بفتح القاف وسكون الراء، عظم ينبت في رأس الحيوان. (أَقِدْنِي) بفتح الهمزة، أمر من القود، وهو من الاقتصاص من الجاني.

فهذا الحديث دليل على أنه لا يقتص من عضو أو جرح حتى يبرأ.

ب- ولاحتمال السراية.

والسراية: تجاوز العطب من محل الجناية إلى غيرة.

ص: 48

‌كتاب الديات

الدية: جمع دية: وهي المال المؤدى إلى المجني عليه أو لوليه بسبب الجناية.

فقوله (المؤدى إلى المجني عليه) هذا فيما إذا كانت الجناية فيما دون النفس.

(أو وليه) فيما إذا كانت الجناية بالنفس - وفيما إذا كانت الجناية فيما دون النفس لكن المجني عليه غير مكلف (كأن يكون صغيراً أو مجنوناً).

والدية واجبة.

قال تعالى (ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله .. ).

وفي الحديث (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدي وإما أن يقتل).

(كُلُّ مَنْ أَتْلَفَ إِنْسَاناً بِمُبَاشَرَةٍ، أَوْ سَبَبٍ لَزِمَتْهُ دِيَتُهُ).

مثال المباشرة: أن يأخذ الإنسان آلة تقتل، فيقتل بها هذا الإنسان، سواء عمداً أو خطأ، أو يلقيه من شاهق.

مثال السبب: أن يحفر حفرة في طريق الناس، فيقع فيها إنساناً، فهذا لم يباشر لكنه تسبب، فيكون عليه الضمان.

(فَإِنْ كَانَتْ عَمْداً مَحْضاً فَفِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً).

أي: فإن كانت الجناية عمداً محضاً فإن الدية تكون على الجاني.

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل ولا تحملها العاقلة.

لأن الأصل: أن من أتلف شيئاً فعليه ضمانه.

ولأن الجاني في العمد غير معذور فلا يناسبه التخفيف.

‌فدية العمد مغلظة من وجوه:

أولاً: أنها على الجاني ولا تحملها العاقلة.

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل ولا تحملها العاقلة.

ثانياً: أنها حالة غير مؤجلة.

قال ابن قدامة: وبهذا قال مالك والشافعي.

ثالثاً: أنها مثلثة كلها إناث ليس فيها ذكور.

ص: 49

(وَشِبْهُ العَمْدِ وَالخَطَأُ عَلَى عَاقِلَتِهِ).

أي: وإن كانت الجناية شبه عمد أو خطأ، فعلى عاقلته.

ففي الخطأ على العاقلة بالإجماع.

ولأن الخطأ يكثر وقوعه، فلو أوجبنا الدية على الجاني لأجحف ذلك في ماله.

قال ابن قدامة: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَضَى بِدِيَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ.

وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ عَمْدِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، بِمَا قَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ دِيَةَ الْخَطَأِ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ جِنَايَاتِ الْخَطَأِ تَكْثُرُ، وَدِيَةَ الْآدَمِيِّ كَثِيرَةٌ، فَإِيجَابُهَا عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ يُجْحِفُ بِهِ، فَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ إيجَابَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَاتِلِ، وَالْإِعَانَةِ لَهُ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، إذْ كَانَ مَعْذُورًا فِي فِعْلِهِ، وَيَنْفَرِدُ هُوَ بِالْكَفَّارَةِ. (المغني).

وفي شبه العمد، على العاقلة أيضاً على القول الصحيح، وهو المذهب.

وهو مذهب الشافعية.

وبه قال الشعبي والنخعي والثوري وإسحاق.

لما ثبت في الصحيحين لحديث أبي هريرة. قال (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلها وما في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبداً أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها) متفق عليه

وذهب بعض العلماء: إلى أن العاقلة لا تتحمل دية شبه العمد بل تكون في مال القاتل.

وهو مذهب المالكية، واختاره ابن تيمية.

لأن القاتل في شبه العمد قصد الجناية، فهو معتد ظالم آثم، فلا يستحق التخفيف بتحمل دية جنايته غيره.

ص: 50

‌فائدة: 1

من أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه.

مثال: أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، فلما نزل زلت قدمه فسقط في البئر فمات، فلا ضمان على الآمر، لأن النازل بالغ عاقل، إلا إذا كان الآمر يعلم أن في البئر ما يكون سبباً للهلاك ولم يخبره، فعليه الضمان، لأنه غره، وكذلك لو كان في البئر حية.

‌فائدة: 2

وما ترتب على الفعل المأذون به شرعاً من تلف؛ فهو غير مضمون.

كما لو أدب الرجل ولده أو زوجته، أو أدب سلطان أحدًا من رعيته، ولم يسرف واحد من هؤلاء في التأديب، ومات المؤدَّب.

لم يجب شيء على المؤدب.

لأنه فعل ما له فعله شرعاً، ولم يتعدَّ فيه.

فإن أسرف في التأديب فزاد فوق المعتاد، فتلف المؤدَّب؛ ضمنه لتعديه بالإسراف.

‌فائدة: 3

ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئرًا أو يصعد شجرة ونحوها، ففعل، وهلك بسبب نزوله أو صعوده.

لم يضمنه الآمر، لأنه لم يجن ولم يتعد عليه في ذلك.

فإن كان المأمور غير مكلف؛ ضمنه الآمر؛ لأنه تسبب في إتلافه.

ولو استأجر شخصا لنزول البئر وصعود الشجرة فمات بسبب ذلك؛ لم يضمنه المستأجر؛ لأنه لم يجن ولم يتعد.

ومن دعا من يحفر له بئرًا بداره، فمات بهدمه لم يلقه عليه أحد؛ فهو هدر؛ لعدم التعدي عليه.

ص: 51

‌باب مقادير ديات النفس

(دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةُ بَعِيرٍ).

قال ابن قدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ.

وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ؛ مِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي دِيَةِ خَطَأِ الْعَمْدِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ. (المغني).

لقوله (وَإِنَّ فِي اَلنَّفْسِ اَلدِّيَةَ مِائَةً مِنْ اَلْإِبِلِ).

ويشهد لهذا حديث القسامة وفيه (. . . فوداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائةٍ من إبل الصدقة).

فقوله (الحر) نخرج العبد المملوك فديته قيمته. وقوله (المسلم) نخرج الكافر فديته تختلف كما سيأتي.

وهذا يشمل الصغير والكبير والعاقل والمجنون والعالم والجاهل.

‌فائدة:

ما الأصل في الدية؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

قال ابن قدامة: وظاهر كلام الخرقي أن الأصل في الدية الإبل لا غير.

وهذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ذكر ذلك أبو الخطاب. وهو قول طاووس، والشافعي، وابن المنذر.

ص: 52

وقال القاضي: لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق والبقر والغنم، فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها.

وهذا قول عمر، وعطاء، وطاووس، وفقهاء المدينة السبعة.

لأن عمرو بن حزم روى في كتابه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن (وأن في النفس المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الورق ألف دينار) رواه النسائي.

وروى ابن عباس. (أن رجلا من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً) رواه أبو داود، وابن ماجه.

وروى الشعبي، أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن عمر قام خطيباً، فقال: ألا إن الإبل قد غلت، فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة). رواه أبو داود

ثم قال ابن قدامة مرجحاً القول الأول:

أ- ولنا، قول النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا، مائة من الإبل).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطأ، فغلظ بعضها، وخفف بعضها، ولا يتحقق هذا في غير الإبل.

ج- ولأنه بدل متلف حقا لآدمي، فكان متعينا كعوض الأموال.

وحديث ابن عباس يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الورق بدلا عن الإبل، والخلاف في كونها أصلاً.

وحديث عمرو بن شعيب يدل على أن الأصل الإبل، فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم، لغلاء الإبل، ولو كانت أصولا بنفسها، لم يكن إيجابها تقويما للإبل، ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك، ولا لذكره معنى.

وقد روي أنه كان يقوم الإبل قبل أن تغلو بثمانية آلاف درهم، ولذلك قيل: إن دية الذمي أربعة آلاف درهم، وديته نصف الدية، فكان ذلك أربعة آلاف حين كانت الدية ثمانية آلاف درهم.

ص: 53

‌فائدة: قال ابن قدامة: وإن قلنا: الأصل الإبل خاصة.

فعليه تسليمها إليه سليمة من العيوب، وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها، فللآخر منعه؛ لأن الحق متعين فيها، فاستحقت، كالمثل في المثليات المتلفة.

وإن أعوزت الإبل، ولم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل، فله العدول إلى ألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم.

وهذا قول الشافعي القديم.

وقال في الجديد: تجب قيمة الإبل، بالغة ما بلغت؛ لحديث عمرو بن شعيب عن عمر في تقويم الإبل، ولأن ما ضمن بنوع من المال، وجبت قيمته، كذوات الأمثال، ولأن الإبل إذا أجزأت إذا قلت قيمتها، ينبغي أن تجزئ وإن كثرت قيمتها،

كالدنانير إذا غلت أو رخصت.

وهكذا ينبغي أن نقول إذا غلت الإبل كلها، فأما إن كانت الإبل موجودة بثمن مثلها، إلا أن هذا لم يجدها، لكونها في غير بلده، ونحو ذلك، فإن عمر قوم الدية من الدراهم اثني عشر ألفا وألف دينار. (المغني).

‌فائدة: 2

أسنان الإبل في قتل العمد:

القول الأول: مائة من الإبل مثلّثة: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلِفة.

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ وَهِىَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ) وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ.

وهذا مذهب الشافعي.

ص: 54

والقول الثاني: أن أسنان دية العمد: تؤخذ مغلظة أرباعاً.

خمس وعشرون بنت مخاض، وهي التي دخلت في السنة الثانية.

وخمس وعشرون بنت لبون، وهي التي دخلت في السنة الثالثة.

وخمس وعشرون حقة، وهي التي دخلت في السنة الرابعة.

وخمس وعشرون جذعة، وهي التي دخلت في السنة الخامسة.

وهذا مذهب الحنفية.

فائدة: جاء في زاد المستقنع (فَفِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَشِبْهِهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً

).

قال الشيخ ابن عثيمين: علم من قوله (ففي قتل العمد وشبهه) أن العمد وشبهه متفقان في أسنان الإبل.

‌فائدة: 3

تقدم أن دية العمد مغلظة من وجوه:

أولاً: أنها على الجاني ولا تحملها العاقلة.

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل ولا تحملها العاقلة.

ثانياً: أنها حالة غير مؤجلة.

قال ابن قدامة: وبهذا قال مالك والشافعي.

ثالثاً: أنها مثلثة كلها إناث ليس فيها ذكور.

وشبه العمد مغلظة من وجه ومخففة من وجهين:

مغلظة كونها مثلثة، ومخففة بكونها على العاقلة، ومؤجلة.

ص: 55

‌فائدة: 3

أسنان الإبل في دية الخطأ:

دية الخطأ مخففة أخماساً: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ.

قال البسام: هذا الحديث أفاد أنَّ دية قتل الخطأ دية مخففة، فهي تقسم أخماسًا: عشرون حِقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مَخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وهذا التحديد هو مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور السلف، إِلاَّ أنَّهم اختلفوا في

الخامس:

فقال أبو حنيفة: (إنَّه بنو مخاض).

وقال الآخرون: (هو بنو لبون) وإسناد الدارقطني أقوى، وفيه (بنو لبون) فهو أرجح.

قال ابن حجر: وإسناد هذا الحديث أقوى من الروايات الأخر، فهو أصل في تعبين أسنان إبل الدية. (توضيح الأحكام).

‌فائدة: 4

دية الخطأ مخففة من ثلاثة أوجه:

‌أولاً: كونها على العاقلة.

قال ابن قدامة: ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن دية الخطأ على العاقلة.

قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم.

وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة، وأجمع أهل العلم على القول به.

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم دية عمد الخطأ على العاقلة، بما قد رويناه من الأحاديث، وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ، والمعنى في ذلك أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة، فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة، على سبيل المواساة للقاتل، والإعانة له، تخفيفاً عنه، إذ كان معذوراً في فعله، وينفرد هو بالكفارة. (المغني).

ص: 56

‌ثانياً: كونها مؤجلة.

قال ابن قدامة: ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين؛ فإن عمر، وعلياً، رضي الله عنهما، جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين.

ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفاً، واتبعهم على ذلك أهل العلم، ولأنه مال يجب على سبيل المواساة، فلم يجب حالاً كالزكاة، وكل دية تحملها العاقلة، تجب مؤجلة؛ لما ذكرنا.

‌ثالثاً: كونها مخمسة.

وأدخل فيها الذكور، والذكور عند الناس أقل رغبة من الإناث.

(ودِيةُ الحرة المسلمة على النصفِ من ذلك).

أي: أن دية المرأة المسلمة الحر على النصف من دية الرجل.

قال النووي: دية المرأة نصف دية الرجل، هذا قول العلماء كافة إلا الأصم وابن علية فإنهما قالا: ديتها مثل دية الرجل.

وقال القرطبي في تفسيره: وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل.

وقال ابن قدامة (ودية الحرة المسلمة، نصف دية الحر المسلم) قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل.

وحكى غيرهما عن ابن علية، والأصم، أنهما قالا: ديتها كدية الرجل؛ لقوله عليه السلام (في نفس المؤمنة مائة من الإبل).

وهذا قول شاذ، يخالف إجماع الصحابة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن في كتاب عمرو بن حزم (دية المرأة على النصف من دية الرجل).

وهي أخص مما ذكروه، وهما في كتاب واحد، فيكون ما ذكرنا مفسراً لما ذكروه، مخصصاً له، ودية نساء كل أهل دين على النصف من دية رجالهم، على ما قدمناه في موضعه.

ص: 57

‌فائدة:

قالَ القرطبي: قَالَ أبو عمر: إنما صارت ديتها -والله أعلم- عَلَى النصف منْ دية الرجل منْ أجل أن لها نصف

ميراث الرجل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا إنما فِي دية الخطأِ، وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء؛ لقوله عز وجل (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وقوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ). (تفسير القرطبي).

(وديةُ الكتابي نصفُ ديةِ المسلم).

أي: أن دية الحر الكتابي نصف دية المسلم.

لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن عَقْل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين) رواه أبوداود.

ومعنى (عَقْل أهل الكتاب) أي: ديتهم، وسميت عقْلاً، لأن من عادتهم أن دافع الدية يأتي بالإبل إلى بيت من هي له، ويعقلها.

(ودية الكتابية على النصف من رجالهم).

أ في: أن دية الكتابيات كاليهودية والنصرانية نصف دية الرجال منهم، وهذا مجمع عليه، فتكون ديتها خمساً وعشرين من الإبل.

(وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ).

روي هذا عن عمر وابن مسعود في المجوسي، ولا مخالف لهم في عصرهم، وألحق به سائر المشركين لأنهم دونه.

(وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ كَالْمُسْلِمِين).

أي: فتكون دية المجوسية (400) درهم.

ص: 58

(ويَستوي الذكر والأنثى فيما يوجب ثلث الدية).

أي: دية المرأة على النصف من الرجل وهذا فيما فوق الثلث، أما ما دون الثلث فيستوي فيه الذكر والأنثى.

وقد جاء في الحديث (عَقْلُ اَلْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ اَلرَّجُلِ، حَتَّى يَبْلُغَ اَلثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا).

مثال: ثلث الدية 33 بعيراً وثلث، مثال: لو قطع أصبعاً من امرأة ففيها عشر من الإبل، وكذا لو قطع إصبعاً من رجُل فيه عشر من الإبل.

مثال: لو أتلف سناً من امرأة ففيه خمس من الإبل، وكذا لو أتلف سناً من رجُل فيه خمس كذلك.

مثال: لو قطع 4 أصابع من امرأة فيه 20 من الإبل، نصف الرجل لأنها فوق الثلث.

(وَدِيَةُ قِنٍّ قِيمَتُهُ).

القن هو العبد المملوك الذي يباع ويشترى، ويُسمَّى رقيقاً.

فدية القن قيمته بالغةً ما بلغت، وعلى هذا فتختلف الدية في الأرقاء.

والعلة: لأنه متقوم، فضمن بقيمته مهما بغت.

مثال: فلو أن أحداً قتل رقيقاً شاباً قوياً عالماً صناعياً ماهراً في كل الميادين، فهذا قيمته غالية جداً، بل يكون كدية الحر أو أكثر، ولو قتل قناً كبيراً أعمى العينين أشَل، فهذا ديته قليلة جداً.

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم أن في العبد، الذي لا تبلغ قيمته دية الحر، قيمته.

وإن بلغت قيمته دية الحر أو زادت عليها:

فذهب أحمد رحمه الله إلى أن فيه قيمته، بالغة ما بلغت، وإن بلغت ديات، عمداً كان القتل أو خطأ، سواء ضمن باليد أو بالجناية.

وهذا قول سعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، وإياس بن معاوية، والزهري، ومكحول، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبي يوسف.

ص: 59

(وَفِي جِرَاحِهِ مَا نَقَصَهُ بَعْدَ البرء).

أي: أن دية جراح القن ما نقص من قيمته بعد البرء من الجناية.

مثال ذلك: رجل جنى على رقيق، فقطع إبهام يده اليسرى وبرئ، فكيف نعرف دية هذه الأصبع؟

نقول: يُقوَّم الرقيق سليماً، ويقوَّم بعد البرء، فإذا كانت قيمته سليماً عشرة آلاف درهم، وقيمته مقطوع الإبهام تسعة آلاف درهم، فتكون دية الإبهام ألف درهم.

(وَيَجِبُ فِي الْجَنِينِ ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ غُرَّةٌ).

دية الجنين غرة (عبد أو امرأة) والمتخير في ذلك من يغرم وهو القاتل، فإذا أتى بعبد لزم أولياء الجنين قبوله، وإذا أتى بأمَة لزم أولياؤه قبولها.

وإذا لم يوجد عبد ولا أمة يرجع إلى خمس من الإبل يعطى أولياء الجنين.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (اِقْتَتَلَتِ اِمْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا اَلْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا: غُرَّةٌ; عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ اَلْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ. فَقَالَ حَمَلُ بْنُ اَلنَّابِغَةِ اَلْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! كَيْفَ يَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ، وَلَا اِسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ اَلْكُهَّانِ"; مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ اَلَّذِي سَجَعَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الجنين الذي يموت في بطن أمه له أحوال:

الأول: أن يموت معها قبل أن يخرج.

فهذا لا شيء فيه، وإنما الدية في الأم، فهو لا دية له لأنه كعضو من أعضائها.

الثاني: أن يخرج حياً فيستهل أو يعطس أو يشرب، ثم يموت متأثراً بالجناية، ففيه دية كاملة إن خرج لوقت يعيش لمثله [بعد ستة أشهر].

ص: 60

مثال: إنسان دفع حامل ولجنينها سبعة أشهر في بطنها، وسقط حياً حياة مستقرة ثم مات.

فعليه دية كاملة، لأنه قتل نفساً، فيلزم الجاني دية كاملة.

وهذا قول عامة أهل العلم.

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الجنين يسقط حياً من الضرب، دية كاملة، منهم: زيد ابن ثابت، وعروة، والزهري، والشعبي، وقتادة، وابن شبرمة، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته، في وقت يعيش لمثله، فأشبه قتله بعد رضعه ".

الثالث: أن يخرج ميتاً، أو يخرج حياً لوقت لا يعيش لمثله فيموت.

فهذا فيه غرة (عبد أو أمة).

لحديث أبي هريرة السابق.

ومقدار الغرة: خمس من الإبل في قول عامة أهل العلم.

•‌

‌ على من تكون الدية الجنين؟

على القاتل لا على العاقلة.

لأنها أقل من الثلث، وما كان أقل من ثلث الدية فإن العاقلة لا تحمله.

(وَعُشْرُ قِيمَتِهَا إِنْ كَانَ مَمْلُوكاً).

أي: إذا كانت أم الجنين رقيقة، وكان ولدها مملوكاً، فديته عُشر قيمة أمه.

مثال: قيمة المرأة التي اعتدي على جنينها تساوي عشرون ألفاً، فدية الجنين إذاً: ألفي ريال.

مثال آخر: هذه المرأة التي قُتل جنينها تساوي عشرة آلاف ريال، فدية جنينها ألف ريال.

‌تنبيه:

وتكون رقيقة وولدها مملوك إذا وطئها غير سيدها كما لو تزوجت وهي أمة، أما لو وطئها سيدها فولدها منه حر.

ص: 61

(وَإِنْ جَنَى رَقِيقٌ خَطَأً أَوْ عَمْداً لَا قَوَدَ فِيهِ، أَوْ فِيهِ قَوَدٌ وَاخْتِيرَ فِيهِ الْمَالُ، أَوْ أَتْلَفَ مَالاً بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ تَعَلَّقَ ذلِكَ بِرَقَبَتِهِ، فَيُخَيَّرُ سَيِّدُهُ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ، أَوْ يُسَلِّمَهُ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَيَمْلِكَهُ، أَوْ يَبِيعَهُ وَيَدْفَعَ ثَمَنَه).

هذه حالات تتعلق الجناية فيها برقبة الرقيق الجاني:

(وإن جنى رقيق خطأ) إذا جنى الرقيق خطأ، فليس هناك قود وإنما الدية.

مثاله: رجل له عبد مملوك، وهذا العبد أراد أن يرمي صيداً فأصاب إنساناً، فالجناية خطأ، فتجب الدية ويتعلق ذلك برقبته، أي: أن موجَب الجناية يتعلق برقبة العبد.

(أو عمداً لا قود فيه) مثل أن يقتل هذا الرقيق المسلم كافراً عمداً، فلا قود؛ لأنه أفضل منه في الدين، ومن شروط القصاص أن لا يفضل القاتل المقتول في الدين.

(أو فيه قود واختير فيه المال) يعني أن شروط القصاص تامة، ولكنَّ أولياء المقتول اختاروا المال، كما لو قتل مسلماً، أو قطع يده واختار الأولياء الدية.

(أو أتلف مالاً بغير إذن سيده) يعني أن هذا الرقيق وجد سيارة لشخص وأحرقها، أو وجد كتاباً فأحرقه أو وجد خبزاً فأكله.

ففي هذه الحالات يُخيّر سيد هذا الرقيق بين أحد أمور ثلاثة:

(أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ) سماه فداءً؛ لأن الجناية تعلقت برقبته، فكأن السيد إذا دفع موجب الجناية فداه.

(أَوْ يُسَلِّمَهُ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَيَمْلِكَهُ) أي: أن السيد يسلم هذا الرقيق إلى ولي الجناية فيملكه.

(أَوْ يَبِيعَهُ وَيَدْفَعَ ثَمَنَه) أي: أن السيد يبيع هذا الرقيق ويسلم ثمنه لولي الجناية.

ص: 62

‌باب ديات الأعضاء

(مَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِنْسَانِ مِنْهُ شَيءٌ وَاحِدٌ، كَالأْنْفِ، وَاللِّسَانِ، وَالذَّكَرِ، فَفِيهِ دِيَةُ النَّفْسِ. . . . وَمَا فِيهِ مِنْهُ شَيْئَانِ، كَالْعَيْنَيْنِ، وَالأُذُنَيْنِ. . . . فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُها).

هذه قاعدة ديات الأعضاء ومنافعها:

من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية كاملة.

كَالأْنْفِ، وَاللِّسَانِ، وَالذَّكَرِ، فَفِيهِ دِيَةُ النَّفْسِ.

وقد جاء في حديث عمرو بن حزم (. . . وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِئَةً مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَة، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ. . .) رواه النسائي.

وما في الإنسان منه شيئان ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها.

كَالْعَيْنَيْنِ، وَالأْذُنَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَاللَّحْيَيْنِ، وَثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ، وَثَنْدُؤَتَيِ الرَّجُلِ، وَاليَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالأَلْيَتَيْنِ، وَالأْنْثَيَيْنِ، وَإِسْكَتَيِ المَرْأَةِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا.

وقد جاء في حديث عمرو بن حزم (. . . وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ).

(وَفِي الأْجْفَانِ الأْرْبَعَةِ الدِّيَةُ).

وفي كل جفن ربع الدية.

لأن في الأجفان جمالاً وكمالاً ونفعاً كثيراً، لأنها تقي العينين مما يؤذيهما.

ص: 63

(وَفِي أَصَابِعِ اليَدَيْنِ الدِّيَةُ كَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِي كُلِّ أُصْبَعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ).

أي: في أصابع اليدين الدية كاملة، وكذا أصابع الرجلين دية كاملة إذا قطعت جميعاً.

وفي كل أصبع عُشْر الدية.

ففي حديث عمرو بن حزم (

وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ).

وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (دِيَةُ الأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ لِكُلِّ أُصْبُع) رواه الترمذي.

وعنه. عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي الْخِنْصَرَ وَالإِبْهَام) رواه البخاري.

قال الشيخ الفوزان: فدل الحديثان على وجوب الدية في أصابع اليدين والرجْلين، وأن في كل أصبع عُشرها.

‌فائدة:

وفي كل أنملة من أصابع اليدين والرجلين ثلث عشر الدية؛ لأن في كل إصبع ثلاثة مفاصل، فتقسم دية الإصبع على عددها، كما قسمت دية اليد على الأصابع بالسوية، والإبهام فيه مفصلان، في كل مفصل منهما نصف عشر الدية لما سبق.

(وفي السن خمسٌ من الإبل).

أي: أن دية السن خمس من الإبل، ففي كل سن خمس من الإبل ولو اختلفت منافعها.

وعلى هذا فيكون في جميع الأسنان (160) بعيراً.

ففي حديث عمرو بن حزم (. . . وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ).

ص: 64

‌فصل

(وَفِي كُلِّ حَاسَّةٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَهِيَ السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالشَّمُّ، وَالذَّوْقُ

هذا بيان دية المنافع.

وأما المنافع؛ فالمراد بها منافع تلك الأعضاء المذكورة، كالسمع، والبصر، والشم، والكلام، والمشي؛ فكل عضو له منفعة خاصة.

ومن ذلك الحواس الأربع: وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق.

ففي كل حاسة منها إذا ذهبت بسبب الجناية دية كاملة.

قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن في السمع الدية.

وقال الموفق: لا خلاف في وجوب الدية بذهاب السمع.

وفي كتاب عمرو بن حزم (وفي المشام الدية).

ولقضاء عمر رضي الله عنه في رجل ضرب رجلاً فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات والرجل حي، ولا يعرف له مخالف من الصحابة.

(وَكَذَا فِي الكَلَامِ)

أي: إذا اعتدى عليه حتى أذهبه بالكلية حتى صار أخرسَ فعليه دية كاملة

(وَالْعَقْلِ).

أي: إذا جنى عليه حتى أذهب عقله فعليه دية كاملة.

(وَمَنْفَعَةُ الْمَشْيِ، وَالأْكْلِ، وَالنِّكَاحِ، وَعَدَمِ استِمْسَاكِ الْبَوْلِ، أَوِ الْغَائِط).

‌منفعة المشي:

أي: لو جني عليه حتى أذهب منفعة مشيه، كأن شُلَّت رجلاه فأصبح لا يمشي، وهذا يقع كثيراً كما لو ضرب صلبه مثلاً، وفصل المخ حتى صار لا يتصل بالأسفل فعليه دية كاملة؛ لأنه أذهب منفعة لا نظير لها في الجسم.

‌منفعة والأكل:

بأن تذهب شهوة الطعام، أو الانتفاع به، وعدم الاستطاعة عليه.

ص: 65

‌منفعة النكاح:

أي: جني عليه حتى صار لا يشتهي النساء، أو يشتهي ولكنه لا يستطيع الجماع، كأن يصير عنيناً، أو يجامع ولكن لا ينزل، أو ينزل ولكنه لا يلقح، فإذا أفسد واحدة من هذه الأربع ففيه الدية كاملة.

عدم استمساك البول أو الغائط:

فإذا جنى عليه حتى صار لا يستطيع إمساك البول أو الغائط، فعليه كاملة.

لأن في كل واحدة من هذه منفعة كبيرة، ليس في البدن مثلها.

(وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّعُورِ الأَرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وَهِيَ شَعْرُ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالْحَاجِبَيْنِ، وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ).

لما في الشعر من الجمال، ولما فيه من منفعة للبدن والوقاية به.

وقد روي عن علي وزيد بن ثابت (في الشعر الدية).

(وَفِي عَيْنِ الأْعْوَرِ الدِّيَةُ كَامِلَةً).

أي: إذا جنى على عين الأعور السليمة فأصبح لا يرى وذهب بصره.

فعلى الجاني الدية كاملة.

لأنه الوارد عن الصحابة كعمر وعثمان وعلي.

ولأن عين الأعور تقام مقام العينين في البصر، ففي إتلافها إذهاب لمنفعة البصر التي فيها الدية.

ص: 66

‌بَابُ الشِّجَاجِ وَكَسْرِ الْعِظَامِ

(الشَّجَّةُ: الْجُرْحُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ خَاصَّةً)

الشجاج جمع شجة، وهي الجراح في الوجه والرأس خاصة، وفي غيرها لا تسمى شجة.

سميت بذلك من الشج، وهو لغة: القطع لأنها تقطع الجلد، فإن كان القطع في غير الرأس والوجه؛ سمي جرحا لا شجة.

(وَهِيَ عَشْرٌ).

الشجة لها عشر مراتب، وهذه العشر خمس منها الدية فيها مقدرة، وخمس لا دية فيها وإنما فيها حكومة.

‌الْحَارِصَةُ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ، أَيْ: تَشُقُّهُ قَليلاً وَلَا تُدْمِيهِ، ثُمَّ الْبَازِلَةُ الدَّامِيَةُ الدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ، ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الْغَائِصَةُ فِي اللَّحْمِ، ثُمَّ السِّمْحَاقُ وَهِيَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَظْمِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ، فَهذِهِ الْخَمْسُ لَا مُقَدَّرَ فِيهَا، بَلْ حُكُومَةٌ).

الحارصة: وهي التي تحرص الجلد؛ أي: تشقه قليلاً ولا تدميه، وتسمى القاشرة؛ أي: لأنها تقشر الجلد.

البازلة: وهي التي يسيل منها الدم قليلاً، وتسمى الدامعة؛ تشبيها بخروج الدمع من العين.

الباضعة: وهي التي تبضع اللحم، أي: تشقه بعد الجلد.

المتلاحمة: وهي الغائصة في اللحم، ولذلك اشتقت منه.

السمحاق: وهي التي تنفذ من اللحم، ولا يبقى بينها وبين العظم سوى جلدة رقيقة تسمى السمحاق، سميت الجارحة الواصلة إليها باسمها.

وهذه الخمس المذكورة من الشجاج ليس في ديتها مبلغ مقدر من الشارع، فيقدر فيها حكومة، يجتهد الحاكم في تقديرها.

ص: 67

(وَفِي الْمُوضِحَةِ وَهِيَ مَا تُوضِحُ اللَّحْمَ وَتُبْرِزُهُ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ).

فالموضحة: هي التي توضح العظم وتبرزه حيث بدأ شيء منه من الجناية.

ففيها: خمسة أبعرة.

ففي حديث عمرو بن حزم (. . . وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِل).

‌فائدة: 1

- وإنما كان فيها القصاص:

أولاً: لأن الله نص على القصاص في الجروح في قوله (والجروح قصاص) فلو لم يجب ههنا لسقط حكم الآية.

ثانياً: ولأنه يمكن استيفاؤها بغير حيف ولا زيادة، لأن السكين تنتهي إلى عظم فوجب فيها القصاص.

‌فائدة: 2

وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على مشروعية القصاص في الموضحة لإمكان المماثلة،

فإنهم اختلفوا في معنى المماثلة على قولين:

الجمهور: أن المماثلة تتحقق بالاستيفاء بالمساحة، فيؤخذ من رأس الجاني بطول ما أخذ من رأس المجني عليه.

‌فائدة: 3

القصاص فيما فوق الموضحة.

لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا قصاص فيما فوق الموضحة من الشجاج.

قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً خالف في ذلك.

وقال ابن قدامة: وليسَ فِي شَيْءٍ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ قِصَاصٌ سِوَى الْمُوضِحَةِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا دُون الْمُوضِحَةِ، كَالْحَارِصَةِ، وَالْبَازِلَةِ، وَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلَاحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، وَمَا فَوْقَهَا، وَهِيَ الْهَاشِمَةُ وَالْمُنَقِّلَةُ وَالْآمَّةُ.

وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.

فَأَمَّا مَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِيهَا الْقِصَاصَ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ أَقَادَ مِنْ الْمُنَقَّلَةِ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ.

ص: 68

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ؛ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ ذَلِكَ.

وَلِأَنَّهُمَا جِرَاحَتَانِ لَا تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ فِيهِمَا، أَشْبَهَا الْمَأْمُومَةَ وَالْجَائِفَةَ.

(المغني).

‌فائدة: 4

إذا كانت الشجة فوق الموضحة، فأحب أن يقتص موضحة جاز.

ذهب إليه الشافعية، والحنابلة.

لأنه يقتصر على بعض حقه، ويقتص من محل جنايته.

(ثُمَّ الْهَاشِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتُهْشِمُهُ وَفِيهَا عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ).

الهاشِمة: هي التي توضح العظم وتُبينه، وتهشمه وتكسره.

فيها: عشرة أبعرة.

روي ذلك عن زيد بن ثابت ولم يعرف له في عصره مخالف من الصحابة.

(ثُمَّ الْمُنْقِلَةُ وَهِيَ مَا تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتَهْشِمُهُ وَتَنْقُلُ عِظَامَهَا، وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإْبِلِ).

الْمُنْقِلَةُ: وهي التي توضح العظم وتهشمه وتنقل العظام بحيث تحتاج إلى جمع لتلتئم.

فيها: خمس عشرة من الإبل.

ففي حديث عمرو بن حزم (وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِبِلِ).

ص: 69

(وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَأْمُومَةِ وَالدَّامِغَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ).

المأمومة: وهي التي تصل إلى أم الدماغ؛ أي: جلدة الدماغ.

الدامغة: وهي التي تخرق تلك الجلدة.

ويجب في كل واحدة من هاتين الشجتين المأمومة، والدامغة ثلث الدية.

لحديث عمرو بن حزم (وفي المأمومة ثلث الدية).

والدامغة أبلغ منها؛ فهي أولى منها، والغالب أن صاحبها لا يسلم، ولذلك لم يرد بخصوصها تقدير.

(وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلى بَاطِنِ الْجَوْفِ).

الكلام الأن على الجراح.

الجائفة: لجراحة التي تصل إلى باطن جوف بطن وظهر وصدر وحلق ومثانة.

وفيها: ثلث الدية:

لحديث عمرو بن حزم (وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ).

قال الإمام الموفق: "وهو قول عامة أهل العلم، منهم أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأي.

(وَفِي الضِّلَعِ وَكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ التَّرْقُوَتَيْنِ بَعِيرٌ)

أي: يجب في الضلع إذا جبر بعد كسره كما كان بعير.

ويجب في كل واحدة من الترقوتين بعير.

لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال (في الضلع جمل، وفي الرقوة جمل).

والترقوة هي العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف، ولكل إنسان ترقوتان.

وإن انجبر الضلع أو الترقوة بدون استقامة؛ وجب في ذلك حكومة.

ص: 70

(وَفِي كَسْرِ الذِّرَاعِ وَهُوَ السَّاعِدُ الْجَامِعُ لِعَظْمَيِ الزِّنْدِ، وَالْعَضُدِ، وَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ إِذَا جَبَرَ ذلِكَ مُسْتَقِيماً بَعِيرَان).

يجب في كسر الذراع، وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد، إذا جبر مستقيماً: بعيران.

كما يجب ذلك أيضا في كسر الفخذ، وكسر الساق وكسر الزند.

لما روى سعيد عن عمرو بن شعيب (أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر؟، فكتب إليه عمر: أن فيه بعيرين، وإذا كسر الزندان؛ ففيهما أربعة من الإبل) ولم يظهر له مخالف من الصحابة.

(وَمَا عَدَا ذلِكَ مِنَ الْجِرَاحِ وَكَسْرِ الْعِظَامِ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَالْحُكُومَةُ: أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لَا جِنَايَةَ بِهِ، ثُمَّ يُقَوَّمَ وَهِيَ بِهِ قَدْ بَرِئَتْ، فَمَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ فَلَهُ مِثْلُ نِسْبَتِهِ مِنَ الدِّيَة).

أي: ما عدا ما سبق من الجراح وكسر العظام التي ذكرها ففيها حكومة.

وعليه:

شجاج الوجه والرأس خمس فيها حكومة، وخمس فيها دية مقدرة.

جروح البدن كلها فيها حكومة إلا الجائفة.

العظام في السن مقدرة، وفي بقية العظام حكومة، استثنوا الضلع وترقوة والزند.

معنى حكومة: أن يقوّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم يقَوّم وهي به قد برئت؛ فما نقص من القيمة؛ فللمجني عليه مثل نسبته من الدية.

مثال ذلك: لو قدر أن قيمته لو كان عبدًا سليما ستون، وقيمته بالجناية خمسون؛ ففيه سدس ديته؛ لأن الناقص بالتقويم واحد من ستة، وهو سدس قيمته، فيكون للمجني عليه سدس ديته.

ص: 71

‌باب العاقلة

(عَاقِلَةُ الإِنْسَانِ عَصَبَاتُهُ كُلُّهُمْ مِنَ النَّسَبِ وَالوَلَاءِ، قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ حَاضِرُهُمْ وَغَائِبُهُمْ، حَتَّى عَمُودَيْ نَسَبِهِ).

العاقلة: وهم عصبته والمراد بالعصبة بالنفس، فيدخل فيهم: آباؤه وأبناؤه وإخوته وعمومتهم وبنوهم.

وسميت بذلك: لأن الإبل تجمع فتعقل بفناء أولياء المقتول لتسلم إليهم، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، إبلاً أو نقداً.

وقيل سموا عاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل من أن يعتدي عليه أحد.

فائدة:

ويشمل القريب والبعيد منهم، فكلهم يشتركون في العقْل، وحاضرهم وغائبهم.

(وَلَا عَقْلَ عَلَى رَقِيق)

أ-لأنه ليس من أهل النصرة.

ب- ولأنه لا مال له، لأن مال المملوك لسيده.

(وَغَيْرِ مُكَلَّفٍ).

ولا على غير مكلف كالصغير والمجنون.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) رواه أبو داود.

ب- ولأنهما ليسا من أهل النصرة.

(وَلَا فَقِيرٍ).

أي: ولا على فقير.

لأنه ليس عنده مال.

(وَلَا أُنْثَى).

أي: ولا على أنثى.

لأنها ليست من أهل النصرة.

ص: 72

(ولا تَحْمِل العاقلة عمداً محضاً).

أي: أن العاقلة لا تتحمل دية العمد المحض.

‌فائدة: 1

يجتهد الحاكم في تحميل كل منهم ما يناسبه، فيحمل الأقرب أكثر من الأبعد، والغني أكثر ممن دونه وهكذا، ولو اتفقت العاقلة فيما بينهم على تقدير معين جاز، لأن الأمر راجع إليهم.

‌فائدة: 2

الحكمة أن قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة:

أن هذه الجنايات تكثر، ودية الآدمي كثيرة، فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل للإعانة له تخفيف عنه إذا كان معذور في فعله.

‌فائدة: 3:

الأشياء التي لا تحملها العاقلة.

أ- قتل العمد.

لأنه لا يستحق المواساة.

ب- ولا تحمل أيضاً قيمة عبد قتله الجاني.

لأنه مال، والعاقلة لا تحمل بدل الأموال المتلفة.

ج- ولا تحمل أيضاً صلحاً عن إنكار.

مثال: جاء قوم لرجل فقالوا له: أنت قتلت أبانا، فأنكر، فاصطلحوا على أن يعطيهم مالاً وينتهي الموضوع.

فالعاقلة لا تتحمل هنا.

ص: 73

لأن هذا لم يثبت ببينة.

وقد يحصل فيه مواطأة.

د - ولا ما دون الثلث.

كأن يجني على شخص جناية خطأ فيما دون النفس، وكانت الدية الواجبة عليه أقل من ثلث دية القتل، فلا تحمله العاقلة، لأنه قليل يمكن للجاني تحمله.

لقول ابن عباس: لا تحمل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً.

‌فائدة: 4

هل الجاني يتحمل مع العاقلة شيئاً من الدية أو لا يتحمل؟

‌اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأول: أنه لا يتحمل معهم شيئاً.

وهذا هو المذهب وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز عليه رحمه الله

قال ابن قدامة: ولا يلزم القاتل شيء من الدية.

وبهذا قال مالك، والشافعي.

أ-لما روى أبو هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها) وهذا يقتضي أنه قضى بجميعها عليهم.

ب- ولأنه قاتل لم تلزمه الدية، فلم يلزمه بعضها، كما لو أمره الإمام بقتل رجل، فقتله يعتقد أنه بحق، فبان مظلوماً.

ج- ولأن الكفارة تلزم القاتل في ماله، وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر منه، فلا حاجة إلى إيجاب شيء من الدية عليه. (المغني)

ص: 74

قال الشنقيطي: ذهب الإمام أحمد و الشافعي: إلى أنه لا يلزمه من الدية شيء، لظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه المتقدم (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عاقلة المرأة) وظاهره قضاؤه بجميع الدية على العاقلة. (أضواء البيان).

‌القول الثاني: أنه يتحمل معهم شيئاً من الدية.

- وقد سئل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى إذا كان الجاني غنياً فهل يلزمه أن يتحمل مع العاقلة؟

فأجاب: المذهب معروف أنه لا شي عليه مطلقاً.

والقول الآخر في المذهب أنه يحمل مع العاقلة لأنهم حملوا بسببه، ولا ينافي هذا أن الشارع جعل الدية على العاقلة فإنها من باب التحمل لأنها في الأصل على المتلف ولكن لمّا كانت الدية مبلغاً جسيماً ناسب أن يكون العصبة المتساعدون يتعاونون على حملها فلا يناسب ذلك إلا أن يتحمل القاتل وهو غني وهذا القول هو الذي نختاره.

‌فائدة: 4

إن عجزت العاقلة عن دفع الدية لفقرها أو من لا عاقلة له:

فإن الدية تكون من بيت مال المسلمين، فإن لم يمكن أخذها من بيت المال، ففي المسألة خلاف؟

منهم من قال: لا شيء على القاتل.

وهو المذهب عند الحنابلة.

والأكثر على أنه يتحملها القاتل نفسه، وهو مذهب الأكثر.

واختاره ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

قال في الإنصاف: ومن لا عاقلة له، أو لم تكن له عاقلة تحمل الجميع: فالدية أو باقيها من بيت المال، فإن لم يمكن أخذها من بيت المال، فلا شيء على القاتل، وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب

وهو من مفردات المذهب، ويحتمل أن تجب في مال القاتل. قال المصنف هنا [ابن قدامة]: وهو أولى، فاختاره " انتهى.

قال الشيخ البليهي في السلسبيل: أن من لا عاقلة له أو عجزت عن الدية أو بعضها أخذه دفعة واحدة من بيت المال فإن تعذرت سقطت، واختيار الشيخ تؤخذ من الجاني عند تعذر العاقلة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الاختيارات العلمية: تؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء.

ص: 75

‌باب كفارة القتل

(وَمن قتل نفسا مُحرمَة غير عمد اَوْ شَارك فِيهِ فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة وَهِي ككفارة ظِهَار الا انها لَا اطعام فِيهَا وَيكفر عبد بِالصَّوْم).

من قتل نفساً معصومة - وكان القتل خطأ أو شبه عمد - فإن على القاتل الكفارة.

وهي:

عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد، أو لم يقدر على ثمنها.

فصيام شهرين متتابعين.

قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيماً).

‌فائدة: 1

والحكمة في إيجاب كفارة في قتل الخطأ مع أنه لا يوصف بتحريم ولا إباحة ثلاثة أمور:

أولاً: نظراً لاحترام النفس الذاهبة وعصمتها.

ثانياً: لكون القتل لا يخلو من تفريط من القاتل.

ثالثاً: ولئلا يخلو القاتل من تحمل شيء حيث لم يحمل الدية وإنما حملتها العاقلة.

ص: 76

‌فائدة: 2

من قتل جماعة لزمته كفارات.

فمن قتل ثلاثة وجب عليه ثلاث رقاب، فإن لم يجد صام ستة أشهر، كل شهرين متتابعين

‌فائدة: 3

جاء في (الموسوعة الفقهية) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ وَاتِّحَادِ الْمَقْتُول عَلَى قَوْلَيْنِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى كُل مَنِ اشْتَرَكَ فِي قَتْلٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.

وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَالثَّوْرِي.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَجَبَتْ لَا عَلَى سَبِيل الْبَدَل عَنِ النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِهَا، لأَنَّ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الْوَاحِدِ إِذَا انْفَرَدَ يَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِذَا اشْتَرَكُوا، كَكَفَّارَةِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ.

وَبِأَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ، وَهِيَ مِنْ مُوجِبِ قَتْل الآْدَمِيِّ، فَكَمُلَتْ فِي حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِكِينَ كَالْقِصَاص.

وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة).

وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَةَ (مَنْ) تَتَنَاوَل كُل قَاتِلٍ، الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ وَلَمْ تُوجِبِ الآْيَةُ إِلاَّ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَدِيَةً، وَالدِّيَةُ لَا تَتَعَدَّدُ فَكَذَلِكَ لَا تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ. (الموسوعة الفقهية).

(ولا إطعام هنا).

لأن الله تعالى لم يذكره.

ص: 77

‌فائدة:

هذه الكفارة على الترتيب.

(ولا كفارة في العمد).

أي: ليس في قتل العمد كفارة.

لقوله تعالى (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا) فتخصيصه بها يدل على نفيها في غيره.

ولأنها لو وجبت في العمد لمحت عقوبته في الآخرة.

قال ابن قدامة: وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ.

وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

لمَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة). ثُمَّ ذَكَرَ قَتْلَ الْعَمْدِ، فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ كَفَّارَةً، وَجَعَلَ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ.

وَرُوِيَ (أَنَّ سُوَيْدٌ بْنَ الصَّامِتِ قَتَلَ رَجُلًا، فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ الْقَوَدَ، وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَة).

(وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ قَتَلَ رَجُلَيْنِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَدَاهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَة).

وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً، كَزِنَى الْمُحْصَنِ.

(المغني).

‌فائدة: 1

إذا عجز عن العتق والصيام سقطت عنه

‌فائدة: 2

لا تسقط الكفارة بعفو الورثة عن الدية،

لأن الكفارة حق لله تعالى، والدية حق الآدمي.

ص: 78

‌فائدة: 3

لا إطعام في كفارة القتل:

وإنما عتق فإن لم يجد فصيام شهرين.

وهذا المذهب.

لأنه لو كان واجباً لما أخّرَ بيانه عن وقت الحاجة.

‌فائدة: 4

وقد اختلف العلماء فيمن قتل نفسه خطأ هل تجب الكفارة في ماله أم لا؟

وهل تجب الدية فتدفع إلى ورثته أم لا؟

والراجح لا كفارة ولا دية.

قال ابن قدامة: مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ.

وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.

لعُمُومُ قَوْله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُؤْمِنٌ مَقْتُولٌ خَطَأً، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَاتِلِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ.

لِأَنَّ ضَمَانَ نَفْسِهِ لَا يَجِبُ، فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ، كَقَتْلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانِهِمْ.

ورجح هذا ابن قدامة وقال:

وهذا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ (عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ، قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بِكَفَّارَةٍ).

وقَوْله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً) إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا إذَا قَتَلَ غَيْرَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ).

وَقَاتِلُ نَفْسِهِ لَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ؛ بِدَلِيلِ قَتْلِ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ. (المغني).

ص: 79

وجاء في (الموسوعة الفقهية) مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ مَنْ قَتَل نَفْسَهُ خَطَأً لَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِهِ وَلَا تَحْمِل الْعَاقِلَةُ دِيَتَهُ.

لأِنَّ عَامِرَ بْنَ الأْكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ، وَلَمْ يَقْضِ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِدِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّارَةِ: فَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ.

وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا تَجِبُ؛ لأِنَّ الْكَفَّارَةَ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْقَتْل، فَإِذَا حَصَل الْقَتْل بَطَل الْخِطَابُ بِهَا كَمَا تَسْقُطُ دِيَتُهُ عَنِ الْعَاقِلَةِ لِوَرَثَتِه. (الموسوعة).

والراجح - والله أعلم -: أن من قتل نفسه خطأ فلا تجب الدية بقتله ولا تجب الكفارة في ماله.

وقد بوب البخاري رحمه الله لحديث عامر بن الأكوع رضي الله عنه بقوله: بَابُ إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً فَلَا دِيَةَ لَهُ.

قال ابن بطال رحمه الله:

" اختلف العلماء في من قتل نفسه، فقالت طائفة: لا تعقل العاقلة أحدًا أصاب نفسه بشيء عمدًا أو خطأ، [أي لا تتحمل العاقلة ديته] هذا قول ربيعة ومالك والثوري وأبى حنيفة والشافعي. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق: ديته على عاقلته

وحديث سلمة بن الكوع حجة للقول الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب له دية على عاقلته ولا غيرها، ولو وجبت على العاقلة لبين ذلك؛ لأن هذا موضع يحتاج إلى بيان، وأيضًا: فإن الدية إنما وجبت على العاقلة تخفيفًا على الجاني فإذا لم يجب على الجاني لأحدٍ شيء لم يحتج إلى التخفيف عنه، وجعلت الدية أيضًا على العاقلة معونة للجاني فتؤدى إلى غيره، فمحال أن يؤدى عنه إليه. (شرح البخاري)

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: من قتل نفسه خطأ فلا دية ولا كفارة عليه، ولا يجب شيء من ذلك على أحد من قرابته.

ص: 80

‌فائدة: 5

الكافر المعصوم ثلاثة أنواع:

الذمي. وهو من بيننا وبينه عقد الذمة.

المعاهَد. من بيننا وبين قومه عهد على ترك القتال.

المستأمِن. وهو من دخل بلاد الإسلام بأمان، كمن دخلها للتجارة أو العمل أو زيارة قريب أو ما أشبه ذلك.

فمن قتل كافراً معصوماً فعليه شيئان:

الأول: الدية، تسلم إلى أهله. وهذا إذا كان أهله غير محاربين. وأما إذا كان أهله محاربين لنا فلا يستحقون الدية، لأن أموالهم ودماءهم لا حرمة لها.

الثاني: الكفارة وهذا قول جمهور العلماء.

قال ابن قدامة: وَتَجِبُ (تعني الكفارة) بِقَتْلِ الْكَافِرِ الْمَضْمُونِ، سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا. وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ: لَا كَفَّارَةَ فِيهِ; لقوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. فَمَفْهُومُهُ أَنْ لا كَفَّارَةَ فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِ. وَلَنَا، قوله تعالى: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. وَالذِّمِّيُّ لَهُ مِيثَاقٌ، وَهَذَا مَنْطُوقٌ يُقَدَّمُ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَقْتُولٌ ظُلْمًا، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِهِ، كَالْمُسْلِمِ اهـ.

وقد اختار هذا القول جماعة من المفسرين منهم: الطبري (9/ 43) والقرطبي (5/ 325) وابن كثير (2/ 376)

قال ابن جرير الطبري: ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن أو كافر؟ فقال بعضهم: هو كافر، إلا أنه لزمت قاتله ديته؛ لأن له ولقومه عهدا، فواجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، ولا يحل للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طيب أنفسهم. . .

ص: 81

ثم قال الطبري: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية قول من قال: عنى بذلك المقتول من أهل العهد، لأن الله أبهم ذلك، فقال:(وإن كان من قوم بينكم وبينهم) ولم يقل: "وهو مؤمن" كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصف به القتيلين الماضي ذكرهما قبل، الدليلُ الواضح على صحة ما قلنا في ذلك.

‌فائدة: 6

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا حصل الحادث فإما أن يكون بتفريط من قائد السيارة أو بتعدٍ منه، والتفريط ترك ما يجب مثل أن يدع الإنسان تفقد السيارة في حال يحتمل أن يكون فيها خلل، فيدع تفقدها ثم يحصل الحادث من جراء هذا التفريط: فيكون في ذلك ضامناً لأنه ترك ما يجب عليه، أو بتعدٍ منه والتعدي فعل ما لا يجوز، مثل أن يسير في خط معاكس للسير أو يقطع الإشارة، أو يسرع سرعةً تُمنَع في مثل هذا المكان، وما أشبه هذا، المهم أن القاعدة هو أنه إذا كان الإنسان الذي حصل منه الحادث متعدياً بفعل ما لا يجوز، أو مفرطاً بترك ما يجب، فإنه يجب عليه لهذا الحادث شيئان إذا تلفت منه نفس:

الشيء الأول: الكفارة وهي حق لله تعالى، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما يوماً واحداً إلا بعذر حسي أو شرعي.

والأمر الثاني مما يجب عليه: الدية، لكن الدية تتحملها عنه عاقلته، وهذه حق لأولياء المقتول، وهم ورثته؛ إن عفوا عنها سقطت. أما الكفارة فإنها حقٌ لله ولابد منها، حتى لو عفا أولياء المقتول عن الدية فإن الكفارة لا تسقط؛ لأن الكفارة حق لله والدية حق للآدميين، ولا يلزم من سقوط أحد الحقين سقوط الآخر، كما أن هذا لو كان لا يجد الرقبة، ولا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين، فإن الكفارة تسقط عنه وإن كانت الدية تجب لأولياء المقتول.

ص: 82

‌كتاب الحدود

‌تعريف الحدود:

الحدود جمع حد، والحد لغة: هو الحاجز بين الشيئين فيمنع اختلاطهما، والحد المنع، ومنه قيل: للبواب حداداً، لأنه يمنع الناس عن الدخول، وللسجان أيضاً؛ لأنه يمنع من الخروج، أو لأنه يعالج الحديد من القيود.

وسميت العقوبات حدوداً، لأنها موانع من ارتكاب أسبابها ومعاودتها، وحدود الله محارمه؛ لأنه ممنوع عنها.

واصطلاحاً: عقوبة مقدرة شرعاً لمنع الجناة من العود إلى المعاصي وزجر غيرهم وتكفير ذنب صاحبها.

قوله (مقدرة شرعاً) خرج به العقوبة التي قدرها القاضي كالتعزير.

‌فائدة:

الحكمة من الحدود:

أولاً: ردع العصاة ومنع انتشار الفساد.

ثانياً: التكفير والتطهير للعاصي.

(لَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى بَالِغٍ، عَاقِلٍ).

أي: يجب الحد على كل عاقل بالغ، فلا يقام على صغير أو مجنون.

فيشترط: أن يكون مكلفاً. (وهو البالغ العاقل).

ص: 83

قال في الشرح: أما البلوغ والعقل فلا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد وصحة الإقرار.

أ- لحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق).

ب- وفي حديث ابن عباس - في قصة ماعز - (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قومه: أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس.

وفي رواية (أنه سأل عنه، أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس).

ج- ولأنهما لا قصد لهما.

(مُلْتَزِمٍ).

أي: ملتزم لأحكام المسلمين، وهو المسلم والذمي.

ودليل ذلك حديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين لما زنيا) متفق عليه.

(عَالِمٍ بالتَّحْرِيمِ).

فإن كان جاهلاً، كحديث عهد بالإسلام، أو ناشئ في بادية بعيدة عن المسلمين فلا حدّ عليه.

أ- لأن الحد يدرأ بالشبهة، والجهل بالشبهة.

ب- وقد قال تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا). جاء في الحديث عن الله تعالى (قد فعلت).

ج- وقال عمر وعلي وعثمان (لا حد إلا على من علمه).

فمن كان جاهلاً بالحكم المنهيِّ عنه، وفعله، وكان في إتيانه حدٌّ أو كفارةٌ: فلا شيء عليه.

وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن اعترف على نفسه بالزنا (فهلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟). رواه أبو داود، والحديث أصله في الصحيحين.

قال ابن القيم - وصحَّحَ رواية أبي داود - فيه: أنَّ الحدَّ لا يجب على جاهلٍ بالتحريم؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم سأله عن حكم الزنى، فقال " أَتَيْتُ مِنْها حَرَاماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً. (زاد المعاد).

ص: 84

‌فائدة:

هل يشترط أن يكون عالماً بالعقوبة؟

لا يشترط ذلك.

فلو سرق - وهو يعلم أنه حرام - لكنه لا يعلم أن في السرقة قطع اليد، فإنه يقام عليه الحد.

قال ابن القيم في فوائد حديث ماعز: فيه أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم، فإن ماعزاً لم يعلم أن عقوبته القتل، ولم يُسقط هذا الجهل الحد عنه.

(فَيُقِيمُهُ الإْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ)

أي: لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه.

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد في حياته وخلفاؤه بعده.

ب- ولأن إقامة الحد من غير الإمام أو نائبه فيها مفاسد.

ج- ولأجل أن يؤمن الحيْف في استيفائه.

ولا يلزم حضور الإمام: لقوله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها).

وأمر برجم ماعز ولم يحضر.

‌فائدة:

وينبغي للإمام أن ينوي بإقامة الحد أموراً ثلاثة:

أولاً: الامتثال لأمر الله عز وجل في إقامة الحدود.

ثانياً: أن ينوي رفع الفساد.

ثالثاً: أن ينوي إصلاح الخلق.

ص: 85

(فِي غَيْرِ مَسْجِد).

أي: لا يجوز إقامة الحدود في المسجد.

وهذا قول أكثر العلماء.

أ- لحديث ابن عباس. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل والد بولده) رواه الترمذي.

ويمكن أن يستدل أيضاً:

ب- بحديث ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا رده الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا) رواه مسلم.

(وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِي الْحَدِّ قَائِماً).

أي: يضرب الرجل إذا أقيم عليه الحد قائماً.

أ- لقول علي (لكل موضع من الجسد حظ إلا الوجه والفرج).

ب- ولأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب.

قال ابن قدامة: أَنَّ الرَّجُلَ يُضْرَبُ قَائِمًا.

وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.

لقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لِكُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْجَسَدِ حَظٌّ - يَعْنِي فِي الْحَدِّ - إلَّا الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ.

وَقَالَ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْ، وَأَوْجِعْ، وَاتَّقِ الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ.

وَلِأَنَّ قِيَامَهُ وَسِيلَةٌ إلَى إعْطَاءِ كُلِّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنْ الضَّرْبِ.

وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يُقْصَدُ سَتْرُهَا، وَيُخْشَى هَتْكُهَا. (المغني).

ص: 86

(بِسَوْطٍ لَا جَدِيدٍ وَلَا خَلَقٍ).

أي: يكون الضرب بسوط.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا شرب فاجلدوه) والجلد إنما يفهم من إطلاقه الضرب بالسوط.

ويكون بسوط لا جديد ولا خَلَق.

لأن الجديد يجرح الجلد، والقديم: لا يحصل به التأديب المطلوب.

قال علي (ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين) يعني وسطاً.

(وَلَا يُمَدُّ، وَلَا يُرْبَطُ، وَلَا يُجَرَّدُ).

لا يمد: أي على الأرض.

ولا يربط: أي لا يقيد.

ولا يجرد من ثيابه.

قال ابن مسعود (ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد).

وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثبت عليه جريمة فلم ينقل عن أحد منهم شيء من ذلك.

(وَيُتَّقى الرَّأْسُ وَالْوَجْهُ وَالْفَرْجُ وَالْمَقَاتِلُ).

أي: يجب أن يُتقَى الوجه والرأس والفرج والمقاتل كالقلب والكبد.

الوجه: لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه) متفق عليه.

تتقى هذه: لأنها مقاتل وليس القصد قتله، وإنما المقصود هو التأديب.

ص: 87

قال ابن قدامة: فَإِنَّ الضَّرْبَ يُفَرَّقُ عَلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ؛ لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ حِصَّتَهُ، وَيُكْثِرُ مِنْهُ فِي مَوَاضِعِ اللَّحْمِ، كَالْأَلْيَتَيْنِ وَالْفَخِذَيْنِ، وَيَتَّقِي الْمَقَاتِلَ، وَهِيَ الرَّأْسُ وَالْوَجْهُ وَالْفَرْجُ، مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا.

(وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِيهِ إِلاَّ أَنَّهَا تُضْرَبُ جَالِسَةً، وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَتُمْسَكُ يَدَاهَا لِئَلاَّ تَنْكَشِفَ).

أي: أن المرأة في إقامة الحد كالرجل، لأن الأصل أن ما ثبت للرجال ثبت للنساء، وما ثبت للنساء ثبت للرجال إلا بدليل.

إلا أن المرأة تختلف في أشياء:

أولاً: تضرب جالسة.

لأنه أستر لها.

ثانياً: وتشد عليها ثيابها:

لأنه ربما مع الضرب تضطرب وتتحرك وتنفك ثيابها.

ثالثاً: وتمسك يداها.

لئلا تكشف.

وجاء في حديث عمران بن حصين قال (فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت) رواه مسلم.

(مَنْ مَاتَ فِي حَدٍّ فَالْحَقُّ قَتَلَهُ).

أي: من مات في حد الجلد أو القطع فالحق قتله، لأن كل ما ترتب على الحق المأذون فيه فليس بمضمون.

لكن بشرط: عدم التعدي في إقامة الحد على الجاني بزيادة في الكم أو الكيف.

قال ابن قدامة: وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، أَنَّهُ إذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَمْرِ رَسُولِهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ التَّلَفُ مَنْسُوبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 88

وَإِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ، وَجَبَ الضَّمَانُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ الْحَدِّ.

وقال النووي: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدّ فَجَلَدَهُ الْإِمَام أَوْ جَلَّاده الْحَدّ الشَّرْعِيّ فَمَاتَ فَلَا دِيَة فِيهِ وَلَا كَفَّارَة، لَا عَلَى الْإِمَام، وَلَا عَلَى جَلَّاده وَلَا فِي بَيْت الْمَال.

• وكذا لو مات من التعزير: لا ضمان فيه ولا كفارة أيضاً.

قال النووي: وَأَمَّا مَنْ مَاتَ مِنْ التَّعْزِير: فَمَذْهَبنَا وُجُوب ضَمَانه بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَة،

هَذَا مَذْهَبنَا.

وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: لَا ضَمَان فِيهِ لَا عَلَى الْإِمَام وَلَا عَلَى عَاقِلَته وَلَا فِي بَيْت الْمَالِ. (شرح مسلم).

وقال القرطبي: وجمهور العلماء على أنه لا شيء عليه.

(ومن كان مريضاً يُرجَى برؤه أُخِّرَ حتى يبرأ).

أي: من كان سيقام عليه الحد مريضاً مرضاً يرجى السلامة منه فإنه يؤخر عنه الجلد حتى يبرأ.

عن عليّ قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَحْسَنْتَ) رواه مسلم.

‌فائدة:

فإن كان المرض لا يرجى برؤه:

قال ابن قدامة: الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَالِ وَلَا يُؤَخَّرُ، بِسَوْطٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ، كَالْقَضِيبِ الصَّغِيرِ، وَشِمْرَاخِ النَّخْلِ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، جُمِعَ ضِغْثٌ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، فَضُرِبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً.

وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.

ص: 89

وَأَنْكَرَ مَالِكٌ هَذَا، وَقَالَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) وَهَذَا جَلْدَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ اشْتَكَى حَتَّى ضَنِيَ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَهَشَّ لَهَا، فَوَقَعَ بِهَا، فَسُئِلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ.

وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَوْ لَا يُقَامَ أَصْلًا، أَوْ يُضْرَبَ ضَرْبًا كَامِلًا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَا يَجُوزُ جَلْدُهُ جَلْدًا تَامًّا؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إتْلَافِهِ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ. (المغني).

(وإنِ اجتمعتْ حدودٌ لله تعالى فيها قتلٌ قُتلَ وسقطَ سائرُها).

مثال ذلك: إن شرب، وسرق، وزنا وهو محصن، فإنها تتداخل ويستوفَى القتل ويسقط سائرها.

وهذا قول الجمهور.

قال ابن مسعود: إذا جاء القتل محا كل شيء.

قال ابن قدامة: إذَا اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، مِثْلَ أَنْ يَسْرِقَ، وَيَزْنِيَ وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَيَقْتُلَ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَهَذَا يُقْتَلُ، وَيَسْقُطُ سَائِرُهَا.

وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.

لقول ابْنِ مَسْعُودٍ: إذَا اجْتَمَعَ حَدَّانِ، أَحَدُهُمَا الْقَتْلُ، أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ.

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ يَكْفِيهِ الْقَتْلُ.

ص: 90

و عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ انْتَشَرَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا مُخَالِفٌ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا.

وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا قَتْلٌ، فَسَقَطَ مَا دُونَهُ، كَالْمُحَارِبِ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِقَتْلِهِ، وَلَا يُقْطَعُ.

وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ تُرَادُ لِمُجَرَّدِ الزَّجْرِ، وَمَعَ الْقَتْلِ لَا حَاجَةَ إلَى زَجْرِهِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَلَا يُشْرَعْ. (المغني).

(ولو زنَى مراراً، أو سرق مراراً ولم يُحَد فحدٌّ واحد).

هذه المسألة في حكم تكرار الزنا:

الحالة الأولى: إن زنا ثم أقيم عليه الحد، فإنه إن زنا ثانية فإنه يقام عليه الحد.

اتفق الفقهاء علي أن من زنا مرة وأقيم عليه الحد ثم زنا أخرى أنه يجب عليه حد آخر.

قال النووي: الزَّانِي إِذَا حُدَّ ثُمَّ زَنَى ثَانِيًا يَلْزَمهُ حَدٌّ آخَر، فَإِنْ زَنَى ثَالِثَة لَزِمَهُ حَدّ آخَر، فَإِنْ حُدَّ ثُمَّ زَنَى لَزِمَهُ حَدّ آخَر، وَهَكَذَا أَبَدًا.

الحالة الثانية: إذا تكرر منه الزنا ولم يقم عليه الحد.

هذه الحالة اختلف العلماء فيها: هل يقام حد واحد أو يقام عليه لكل مرة حد؟ على قولين:

جمهور العلماء على أن من زنا مراراً ولم يقم عليه الحد فلا يجب عليه إلا حد واحد.

قال النووي: فَأَمَّا إِذَا زَنَى مَرَّات وَلَمْ يُحَدّ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَيَكْفِيه حَدّ وَاحِد لِلْجَمِيعِ.

واستدلوا بالإجماع والمعقول:

أما الإجماع:

أ- فقد قال ابن قدامة: قد أجمعوا أنه إذا تكرر الحد قبل إقامته أجزأ حد واحد.

أما المعقول:

ص: 91

ب- أن الغرض الزجر عن إتيان مثل ذلك في المستقبل وهو حاصل بالحد الواحد، لأن الغرض هنا من جنس واحد فوجب التداخل كالكفارات.

ج- أنها طهارة سببها واحد فتداخلت.

د- أن تكرار الزنا كتكرار الإيلاج و الاجتراع جرعة بعد جرعة لأن ذلك كالأحداث إذا تواترت قبل الطهارة.

(وإنْ اجتمعتْ حدودٌ من أجناسٍ لا قتلَ فيها، اسْتُوفِيتْ كلُّها، ويُبدأُ بالأخفِ فالأخف منها).

مثال ذلك: شرب الخمر، وزنا غير محصن، فإنها لا تتداخل ويستوفى كلها.

لأن أسبابها مختلفة فلم تتداخل.

ويبدأ بالأخف فالأخف: لأننا إذا بدأنا بالأغلظ لم نأمن أن يموت فيفوت به سائرها.

قال ابن قدامة: وأخفها حد الشرب إن قلنا: هو أربعون، فيبدأ به، ثم بحد القذف، وإن قلنا: هو ثمانون، بدئ بحد القذف؛ لأنه كحد الشرب في عدده، ويرجح لكونه حق آدمي، ثم بحد الشرب، ثم بحد للزنا، ثم بقطع للسرقة، ولا يقام الثاني حتى يبرأ من الأول؛ لأننا لا نأمن من تلفه بموالاتها، والمقصود زجره لا قتله.

(الكافي).

قال ابن قدامة: النوْعُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، فَإِنَّ جَمِيعَهَا يُسْتَوْفَى مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَيُبْدَأُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، فَإِذَا شَرِبَ وَزَنَى وَسَرَقَ، حُدَّ لِلشُّرْبِ أَوَّلًا، ثُمَّ حُدَّ لِلزِّنَا، ثُمَّ قُطِعَ لِلسَّرِقَةِ.

وَلَا يُوَالِي بَيْنَ هَذِهِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى تَلَفِهِ، بَلْ مَتَى بَرِئَ مِنْ حَدٍّ أُقِيمَ الَّذِي يَلِيهِ.

(المغني).

‌فائدة: 1

قال ابن قدامة: وَيَجِبُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَدَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ).

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالطَّائِفَةُ وَاحِدٌ فَمَا فَوْقَهُ.

وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ.

ص: 92

وقال الشوكاني: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين) أي: ليحضره زيادة في التنكيل بهما، وشيوع العار عليهما، وإشهار فضيحتهما، والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشيء، من الطوف، وأقلّ الطائفة ثلاثة، وقيل: اثنان، وقيل: واحد، وقيل: أربعة، وقيل: عشرة. (فتح القدير).

تنبيه: وقد اختلفوا في حكم حضور الطائفة، هل للوجوب أو للاستحباب؟ فقال الشافعي: إنها للاستحباب، وقال غيره: بالوجوب، وهذا الرأي هو الراجح لدلالة قوله تعالى (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ).

‌فائدة: 2

قال ابن قدامة: وَلَا يَجِبُ أَنْ يَحْضُرَ الْإِمَامُ، وَلَا الشُّهُودُ.

وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِرَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ، وَلَمْ يَحْضُرْهُمَا، وَالْحَدُّ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِمَا.

وَقَالَ (يَا أُنَيْسُ، اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) وَلَمْ يَحْضُرْهَا.

وَلِأَنَّهُ حَدٌّ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَحْضُرَهُ الْإِمَامُ، وَلَا الْبَيِّنَةُ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَخَلُّفَهُمْ عَنْ الْحُضُورِ، وَلَا امْتِنَاعَهُمْ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِالرَّجْمِ، شُبْهَةٌ.

ص: 93

‌باب حد الزنا

هو فعل الفاحشة في قُبُل ودبر وزاد بعضهم: من آدمي.

قوله (في قُبُل) المراد تغييب الحشفة أو قدرها، أي: تغييب الزاني حشفته، والحشفة: القسم المكشوف من رأس الذكر بعد الختان.

قوله (ودبر) أي: تغييب الحشفة في دبر امرأة أجنبية، فإن هذا يعتبر زنا.

قال ابن قدامة: والوطء في الدبر مثله - أي مثل الوطء في القبل - في كونه زنا.

وهذا مذهب الجمهور (أي وطء المرأة في دبرها يعتبر زنا).

قوله (من آدمي) احترازاً من غير الآدمي، بأن يطأ بهيمة فلا يعتبر زنا، لا لغة ولا شرعاً، ولا يجب فيه الحد، بل يعزر على القول الراجح، لأنه فعل محرماً مجمعاً عليه، فاستحق العقوبة.

(والزنا حرام).

الزنا حرام بالكتاب والسنة والإجماع.

أ- قال تعالى (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً).

ب- وقال تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً).

ج- وعن ابن مسعود قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ فقال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك). متفق عليه. ‌

(حليلة جارك: زوجة جارك).

د- وقال صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).

هـ- وقال صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر). رواه مسلم

ص: 94

قال القرطبي: وقد أجمع أهل الملل على تحريمه، فلم يحل في ملة قط، ولذا كان حده أشد الحدود؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب، وهو من جملة الكليات الخمس، وهي حفظ النفس والدين والنسب والعقل والمال.

وقال ابن القيم: ومن خاصيته أنه يوجب الفقر، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس.

ومن خاصيته أيضاً: أنه يشتت القلب، ويمرضه إن لم يمته، ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك، ويقربه من الشيطان.

‌فائدة:

الزنا بعضه أشد من بعض:

فالزنا بالجارة أعظم من الزنا بالبعيدة:

لحديث ابن مسعود السابق (. . . قال: أن تزني بحليلة جارك).

ولحديث المقداد بن الأسود قال: قال صلى الله عليه وسلم (لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) رواه أحمد.

قال النووي: حليلة جارك: أي تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشد قبحاً وأعظم جرماً، لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية القبح.

ص: 95

والزنا بزوجات المجاهدين أعظم من غيرهن.

عن بريدة. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ الْمُجَاهِدِينَ في أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ إِلاَّ وُقِفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُم) رواه مسلم.

وزنا الشيخ الكبير أعظم من زنا الشاب.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر). رواه مسلم

وقال صلى الله عليه وسلم (أربعة يبغضهم الله: البياع الحلاف، والفقير المحتال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر) رواه النسائي.

والزنا بالمحارم أعظم من الزنا بغير المحارم.

قال صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) رواه الترمذي.

(إِذَا زَنَا الْمُحْصَنُ رُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ).

أي: حد الزاني إذا كان محصناً الرجم حتى الموت.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ اَلْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلًا مِنَ اَلْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَنْشُدُكَ بِاَللَّهِ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اَللَّهِ، فَقَالَ اَلْآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ. فَاقَضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اَللَّهِ، وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ: "قُلْ". قَالَ: إنَّ اِبْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِاِمْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنْ عَلَى اِبْنِي اَلرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمَائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلَتُ أَهْلَ اَلْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي: أَنَّمَا عَلَى اِبْنِيْ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى اِمْرَأَةِ هَذَا اَلرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ ا للَّهِ صلى الله عليه وسلم "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اَللَّهِ، اَلْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى اِبْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى اِمْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، هَذَا وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

ص: 96

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ اَلصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، اَلْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ رضي الله عنه (أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْهِ آيَةُ اَلرَّجْمِ. قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ اَلرَّجْمَ فِي كِتَابِ اَللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اَللَّهُ، وَإِنَّ اَلرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اَللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ مِنْ اَلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ اَلْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ اَلْحَبَلُ، أَوْ اَلِاعْتِرَافُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

د- ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً - كما في حديث أبي هريرة الآتي (أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْت، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ: دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ أُحْصِنْت؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) متفق عليه.

هـ- ورجم اليهوديين: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: (إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ

وَرَجُلاً زَنَيَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ، فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَك. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا. قَالَ: فَرَأَيْت الرَّجُلَ: يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ) متفق عليه.

ص: 97

قال ابن القيم رحمه الله: الَّذِينَ رَجَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الزِّنَا مَضْبُوطُونَ مَعْدُودُونَ، وَقِصَصُهُمْ مَحْفُوظَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَهُمْ: الْغَامِدِيَّةُ، وَمَاعِزٌ، وَصَاحِبَةُ الْعَسِيفِ، وَالْيَهُودِيَّان (الطرق الحكمية).

‌فائدة: 1

فالرجم خاص بالمحصن:

قال ابن قدامة: الرجم لا يجب إلا على المحصن بإجماع أهل العلم.

أ- قال عمر (إن الرجم حق على من زنا وقد أحصن).

ب- وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث:

والزاني الثيب)، وفي رواية (أو زنا بعد إحصان).

‌فائدة: 2

من هو المحصن؟

‌الشروط التي يكون الإنسان فيها محصناً:

‌الشرط الأول: الوطء في القبل.

قال ابن قدامة: وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ.

لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ).

وَالثِّيَابَةُ تَحْصُلُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ. (المغني).

فلابد من الوطء في القبل، فلو وطئها في الدبر أو بين الفخذين فإنه لا يكون محصناً.

قال في المغني: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ الْخَالِيَ عَنْ الْوَطْءِ، لَا يَحْصُلُ بِهِ إحْصَانٌ؛ سَوَاءٌ حَصَلَتْ فِيهِ خَلْوَةٌ، أَوْ وَطْءٌ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، أَوْ لَمْ يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا، وَلَا تَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْأَبْكَارِ.

ص: 98

‌الشرط الثاني: أَنْ يَكُونَ فِي نِكَاحٍ.

لِأَنَّ النِّكَاحَ يُسَمَّى إحْصَانًا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ) يَعْنِي الْمُتَزَوِّجَاتِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ الزِّنَى، وَوَطْءَ الشُّبْهَةِ، لَا يَصِيرُ بِهِ الْوَاطِئُ مُحْصَنًا.

وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ التَّسَرِّيَ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ، وَلَا تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ. (المغني).

‌الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً.

احترازاً من النكاح الباطل.

فلو تبين بعد أن تزوجها وجامعها أنها أخته من الرضاع، فإنه لا يكون محصناً، لأن النكاح غير صحيح.

‌الشرط الرابع: أن يكون حراً.

قال ابن قدامة: الحرية، وهي شرط في قول أهل العلم كلهم إلا أبا ثور. (المغني).

فإذا تزوج وهو عبد رقيق ووطئ، ثم طلقها ثم أعتق ثم زنى، فإنه لا يكون محصناً، لأنه حين النكاح ليس حراً.

‌خامساً: البلوغ، العقل.

فلو وطئ وهو صغير أو مجنون ثم بلغ أو عقل لم يكن محصناً.

- فلو عقد على امرأة وباشرها لكنه لم يجامعها، ثم زنى، فإنه لا يرجم، وهي لو زنت فإنها لا ترجم، إلا إذا كانت قد تزوجت من زوج

قبله وحصل الجماع، فإنها ترجم.

- لو تزوجها وهي صغيرة لم تبلغ وجامعها، ثم زنى فإنه لا يرجم، لأنه ليس بمحصن، لأنها لم تبلغ.

- لو تزوج مجنونة وجامعها، ثم زنى، فإنه لا يرجم، لأنه ليس بمحصن.

‌فائدة: 3

الراجح من أقوال أهل العلم أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان.

فالذمي يحصن الذمية، وإذا تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين.

وهذا مذهب الشافعي وأحمد، ورجحه ابن القيم.

ويدل عليه حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين كما سبق.

ص: 99

‌فائدة: 4

هل يشترط للإحصان الاستمرار؟

لا يشترط للإحصان استمرار.

فلو أن رجلاً تزوج ثم بعد ذلك طلق، فإن زنى فإنه يعتبر محصناً.

وكذلك لو أن امرأة مطلقة، فإنها تعتبر محصنة، فلو زنت فإنها ترجم.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَقَاءُ النِّكَاحِ لِبَقَاءِ الْإِحْصَانِ، فَلَوْ نَكَحَ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً ثُمَّ طَلَّقَ وَبَقِيَ مُجَرَّدًا، وَزَنَى رُجِم.

وقال الشيخ سيد سابق رحمه الله: ولا يلزم بقاء الزواج لبقاء صفة الإحصان، فلو تزوج مرة زواجاً صحيحاً، ودخل بزوجته، ثم انتهت العلاقة الزوجية، ثم زنى وهو غير متزوج فإنه يرجم، وكذلك المرأة إذا تزوجت، ثم طلقت فرنت بعد طلاقها، فإنها تعتبر محصنة وترجم.

‌فائدة: 5

اختلف العلماء فيمن وجب عليه الرجم، هل يجلد أولاً أم لا؟

‌القول الأول: أن الزاني المحصن يرجم فقط ولا يجلد.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

أ- لحديث أبي هريرة السابق (فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر الجلد.

ب- والنبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً ولم يجلده.

ج- ورجم الغامدية ولم يجلدها.

د- ورجم اليهوديين ولم يجلدهما.

هـ- ولأن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، وذلك إنما وضع للزجر، فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم.

ص: 100

‌القول الثاني: الجمع بين الجلد والرجم، فيجلد مائة ثم يرجم.

وهذا القول مروي عن علي وابن عباس.

أ- لحديث عبادة السابق (خذوا عني خذوا عني

والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).

ب- ومن الأدلة: أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه جَلَدَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

والراجح القول الأول.

وأما الجواب عن حديث عبادة: أنه منسوخ.

فإن الأدلة التي بها الرجم فقط كلها متأخرة عن حديث عبادة، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(قد جعل الله لهن سبيلاً) فهو دليل على أن

حديث عبادة هو أول نص ورد في الزنا.

قال الشنقيطي: وَأَقْرَبُهُمَا عِنْدِي: أَنَّهُ يُرْجَمُ فَقَطْ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ لِأُمُورٍ:

مِنْهَا: أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ رِوَايَاتِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الرَّجْمِ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، وَالْجُهَنِيَّةِ، وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْيَهُودِيِّيْنِ، كُلَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ بِلَا شَكٍّ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَقَدْ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْهَا الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ مَعَ تَعَدُّدِ طُرُقِهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيح (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)، تَصْرِيحٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ جَزَاءَ اعْتِرَافِهَا رَجْمُهَا، وَالَّذِي يُوجَدُ بِالشَّرْطِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الرَّجْمُ فَقَطْ.

وَمِنْهَا: أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنَسْخِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عَلَى أَدْنَى الِاحْتِمَالَاتِ لَا تَقِلُّ عَنْ شُبْهَةٍ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْخَطَأَ فِي تَرْكِ عُقُوبَةٍ لَازِمَةٍ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأِ فِي عُقُوبَةٍ غَيْرِ لَازِمَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 101

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالرَّجْمِ أَعْظَمُ الْعُقُوبَاتِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ عُقُوبَةٌ، فَلَا دَاعِيَ لِلْجَلْدِ مَعَهُ; لِانْدِرَاجِ الْأَصْغَرِ فِي الْأَكْبَرِ. (أضواء البيان).

وقال النووي: وَاخْتَلَفُوا فِي جَلْد الثَّيِّب مَعَ الرَّجْم:

فَقَالَتْ طَائِفَة: يَجِب الْجَمْع بَيْنهمَا، فَيُجْلَد ثُمَّ يُرْجَم.

وَبِهِ قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رضي الله عنه وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ وَدَاوُد وَأَهْل الظَّاهِر وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ، وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: الْوَاجِب الرَّجْم وَحْده.

وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث أَنَّهُ يَجِب الْجَمْع بَيْنهمَا، إِذَا كَانَ الزَّانِي شَيْخًا ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَ شَابًّا ثَيِّبًا اُقْتُصِرَ عَلَى الرَّجْم، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل لَا أَصْل لَهُ.

وَحُجَّة الْجُمْهُور أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم اِقْتَصَرَ عَلَى رَجْم الثَّيِّب فِي أَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا قِصَّة (مَاعِز) وَقِصَّة الْمَرْأَة الْغَامِدِيَّة) وَفِي قَوْله صلى الله عليه وسلم: "وَاغْدُ يَا أُنَيْس عَلَى اِمْرَأَة هَذَا فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا "قَالُوا: وَحَدِيث الْجَمْع بَيْن الْجَلْد وَالرَّجْم مَنْسُوخ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَوَّل الْأَمْر. (شرح مسلم)

‌فائدة: 6

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: شرع في حق الزاني المحصن القتل بالحجارة:

ليصل الألم إلى جميع بدنه حيث وصلت إليه اللذة بالحرام.

ولأن تلك القتلة أشنع القتلات والداعي إلى الزنا داع قوي في الطباع، فجعلت غلظة هذه العقوبة في مقابلة قوة الداعي.

ولأن في هذه العقوبة تذكيراً لعقوبة الله لقوم لوط بالرجم بالحجارة على ارتكاب الفاحشة. (الصلاة وحكم تاركها).

ص: 102

(وَيُغَسَّلَانِ، وَيُكَفَّنَانِ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمَا وَيُدْفَنَانِ).

لَا خِلَافَ فِي تَغْسِيلِهِمَا وَدَفْنِهِمَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: سُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ شُرَاحَةَ وَكَانَ رَجَمَهَا، فَقَالَ: اصْنَعُوا بِهَا كَمَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ.

وَصَلَّى عَلِيٌّ عَلَى شُرَاحَةَ.

وعَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ، فِي حَدِيثِ الْجُهَنِيَّةِ (فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَصَلَّوْا عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهَا وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً، لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْت أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا؟) وَفِيهِ: فَرُجِمَتْ، وَصَلَّى عَلَيْهَا.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ).

وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَدِّ صُلِّيَ عَلَيْهِ، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهُ، كَالسَّارِقِ.

وَأَمَّا خَبَرُ مَاعِزٍ: في قول جابر حَدِيثِ مَاعِزٍ: فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.

فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْضُرْهُ، أَوْ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِأَمْرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَاهُ. (المغني).

ص: 103

(وَإِذَا زَنَا الحُرُّ غَيْرُ الْمُحْصَنِ جُلِدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَغُرِّبَ عَاماً).

هذا حكم الزاني غير المحصن الحر: الجلد مائة، والتغريب عن وطنه سنة.

أما الجلد فلا خلاف فيه.

لقوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).

وعليه تغريب عام بالنسبة للذكر.

وهذا قول أكثر العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة.

أ- لحديث عبادة السابق (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة).

ب- ولحديث أبي هريرة وزيد (وعلى ابنِك جلد مائة وتغريب عام).

وذهب الحنفية إلى أن الزاني البكر لا يغرّب إلا إذا رأى الإمام.

واستدلوا بالآية (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) فقالوا: إن الحد هو الجلد ولم تذكر الآية التغريب.

والراجح مذهب الجمهور.

قال ابن كثير: إذا كان -الزاني- بكراً لم يتزوج، فإن حده مائة جلدة كما في الآية، ويزاد على ذلك أن يُغَرَّب عاما عن بلده عند جمهور العلماء، خلافا لأبي حنيفة، رحمه الله؛ فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام، إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب.

‌فائدة:

هل تغرب المرأة إذا زنت وهي غير محصنة؟ اختلف العلماء على أقوال:

‌القول الأول: تغرب مع محرمها.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

لعموم حديث عبادة السابق.

قال النووي في شرحه لحديث عبادة السابق: وأما قوله صلى الله عليه وسلم في البكر (ونفي سنة) ففيه حجة للشافعي والجماهير: أنه يجب نفيه سنة، رجلاً كان أو امرأة.

ص: 104

‌القول الثاني: لا تغرب.

وهذا قول المالكية.

لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ.

وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ التَّغْرِيبِ بِمَحْرَمٍ أَوْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، لَا يَجُوزُ التَّغْرِيبُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ).

وَلِأَنَّ تَغْرِيبَهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ إغْرَاءٌ لَهَا بِالْفُجُورِ، وَتَضْيِيعٌ لَهَا، وَإِنْ غُرِّبَتْ بِمَحْرَمٍ، أَفْضَى إلَى تَغْرِيبِ مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ، وَنَفْيِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِنْ كُلِّفَتْ أُجْرَتَهُ، فَفِي ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى عُقُوبَتِهَا بِمَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، كَمَا لَوْ زَادَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ.

وَالْخَبَرُ الْخَاصُّ فِي التَّغْرِيبِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَالْعَامُّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الْعَمَلِ بِعُمُومِهِ مُخَالَفَةُ مَفْهُومِهِ، فَإِنَّهُ دَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الزَّانِي أَكْثَرُ مِنْ الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، وَإِيجَابُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْمَرْأَةِ يَلْزَمُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَفَوَاتُ حِكْمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ زَجْرًا عَنْ الزِّنَا، وَفِي تَغْرِيبِهَا إغْرَاءٌ بِهِ، وَتَمْكِينٌ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُخَصَّصُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ بِإِسْقَاطِ الْجَلْدِ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، فَتَخْصِيصُهُ هَاهُنَا أَوْلَى.

ورجح هذا القول ابن قدامة.

القول الثالث: أن التغريب ليس من تمام الحد، وإنما هو عقوبة تعزيرية راجعة إلى رأي الإمام حسب المصلحة.

والراجح إن وجد محرم متبرعاً بالسفر معها فإنها تغرب عملاً بأحاديث التغريب، وإن لم يوجد فلا تغرب عملاً بأحاديث النهي عن السفر بدون محْرَم.

‌فائدة: 2

ما فوائد التغريب؟

أولاً: أنه يبتعد عن محل الفاحشة لئلا تحدثه نفسه بالعودة إليها.

ثانياً: أن التغريب يكون منشغل البال غير مطمئن.

ص: 105

‌فائدة: 3

حكم الزناة في أول الإسلام:

قال الله تعالى في سورة النساء: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ولهذا قال: "واللاتي يأتين الفاحشة" يعني الزنا "من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً.

فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.

قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم.

وكذا رُوِيَ عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء الخراساني وأبي صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة وهو أمر متفق عليه.

وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: هذه أول عقوبات الزناة، وكان هذا في ابتداء الإسلام .. قاله ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه .. غير أن ذلك الحكم كان ممدوداً إلى غاية .. وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) .. وقد قال بعض العلماء: أن الأذى والتعيير باق مع الجلد، لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بإجماع .. والله أعلم.

(والرَّقِيقُ خَمْسِينَ جَلْدَةً وَلَا يُغَرَّبُ).

أي: أن الرقيق - وهو المملوك - إذا زنا فإنه يجلد 50 جلدة.

لقوله تعالى (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ).

قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ خَمْسُونَ جَلْدَةً بِكْرَيْنِ كَانَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ.

فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَتِّيُّ، وَالْعَنْبَرِي.

ص: 106

وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمَةِ، فَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَحَدِهِمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ) ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ، ثُمَّ إنَّ الْمَنْطُوقَ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. (المغني).

وقال النووي: وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعَبْد وَالْأَمَة لَا يُرْجَمَانِ، سَوَاء كَانَا مُزَوَّجَيْنِ أَمْ لَا، لِقَوْله صلى الله عليه وسلم ‌

(فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ)

وَلَمْ يُفَرِّق بَيْن مُزَوَّجَة وَغَيْرهَا.

وقال الشنقيطي: أَمَّا إِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَإِنَّهَا تُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ

فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْحَرَائِرُ وَالْعَذَابُ الْجَلْدُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُرَّةِ الزَّانِيَةِ: مِائَةُ جَلْدَةٍ وَالْأَمَةُ عَلَيْهَا نِصْفُهُ بِنَصِّ آيَةِ «النِّسَاءِ» هَذِهِ، وَهُوَ خَمْسُونَ; فَآيَةُ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّانِيَةِ الْأُنْثَى.

وَعُمُومُ الزَّانِي فِي آيَةِ «النُّورِ» هَذِهِ، مُخَصَّصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى، بِكَوْنِ جَلْدِ الْمِائَةِ خَاصًّا بِالزَّانِي الْحُرِّ، أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ.

وَوَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ: إِلْحَاقُ الْعَبْدِ بِالْأَمَةِ فِي تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى بِالرِّقِّ; لِأَنَّ مَنَاطَ التَّشْطِيرِ الرِّقُّ بِلَا شَكٍّ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُدُودِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «النِّسَاءِ» فِي الْإِمَاءِ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَنَّ الرِّقَّ مَنَاطُ تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْحُدُود.

ص: 107

‌فائدة:

العبد لا يُغرب.

وهذا المذهب وقول مالك.

قال ابن قدامة: لَا تَغْرِيبَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ.

وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ.

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الأمَة إذا ولم تحصن فقال (إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير)

وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَغْرِيبًا، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ.

ب- وَلحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدَّ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ؛ فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ غَرَّبَهَا.

- وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عُقُوبَةٌ لِسَيِّدِهِ دُونَهُ، فَلَمْ يَجِبْ فِي الزِّنَى، كَالتَّغْرِيمِ.

بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَغْرِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُتْرِفُهُ بِتَغْرِيبِهِ مِنْ الْخِدْمَةِ، وَيَتَضَرَّرُ سَيِّدُهُ بِتَفْوِيتِ خِدْمَتِهِ، وَالْخَطَرِ بِخُرُوجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، وَالْكُلْفَةِ فِي حِفْظِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنْهُ، فَيَصِيرُ الْحَدُّ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الزَّانِي، وَالضَّرَرُ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يُغَرَّبُ نِصْفَ عَامٍ.

لِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ) وَحَدَّ ابْنُ عُمَرَ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَنَفَاهَا إلَى فَدَكَ.

وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ.

ص: 108

(ولا يَثبتُ الزنا إلا بأحدِ أمرين: إقرارهُ بهِ أربعَ مراتٍ، مُصرِّحاً بذكرِ حقيقتهِ).

الزنا يثبت بالإقرار.

لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم - (

وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ).

لكن يشترط أن يقر به أربع مرات.

وهذا المذهب.

لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (أَتَى رَجُلٌ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي اَلْمَسْجِدِ- فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ. دَعَاهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "أَبِكَ جُنُونٌ? " قَالَ. لَا. قَالَ: "فَهَلْ أَحْصَنْتَ? ". قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اِذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وجه الدلالة: النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم عليه الحد حتى شهد أربع مرات.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يثبت الزنا بإقراره مرة واحدة، ولا يشترط التكرار أربعاً.

وهذا مذهب مالك، والشافعي، ورجحه الشوكاني.

أ-لحديث (واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر تكراراً.

ب- وأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر عليهما الإقرار.

ج- والنبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة. رواه مسلم

قالوا: فلو كان تربيع الإقرار شرطاً لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الواقعات التي يترتب عليها سفك الدماء وهتك الحرم.

وأجاب هؤلاء عن حديث ماعز.

ص: 109

قال الشوكاني: وظاهر السياقات مشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك في قصة جابر لقصد التثبت، كما يشعر بذلك قوله:(أبك جنون) ثم بسؤاله بعد ذلك لقومه، فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبساً في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك، وإقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من كان معروفاً بصحة العقل وسلامة إقراره عن المبطلات.

(مُصرِّحاً بذكرِ حقيقتهِ).

أي: يشترط أن يصرح بذكْر حقيقة الوطء.

أ- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز (أنكْتَها؟ قال: نعم، قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب الميل في المكحلة أو الرِّشاء في البئر؟ قال: نعم، قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً).

وفي حديث ابن عباس: (فقال: أنكتها؟ قال: نعم، قال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرني، فأمر به فرجم).

ب- التعليل: لأنه ربما يظن ما ليس بزنا زناً موجباً للحد، فاشترط فيه التصريح.

(أو شهادةُ أربعةِ رجالٍ أحرار عدول).

الأمر الثاني الذي يثبت به الزنا: البينة، وهو شهادة أربعة رجال.

فالشهود لا بد أن يكونوا أربع رجال يشهدون بأنهم رأوا الزنا نفسه، ولا تقبل شهادة النساء.

قال تعالى: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ).

ص: 110

وقال عمر (وَإِنَّ اَلرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اَللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ مِنْ اَلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ اَلْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ اَلْحَبَلُ، أَوْ اَلِاعْتِرَافُ).

قال ابن قدامة رحمه الله في ذكر شروط الشهادة بالزنا:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً، وَهَذَا إجْمَاعٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ).

وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا وَقَالَ تَعَالَى: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُون).

وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْت لَوْ وَجَدْت مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا، أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(نَعَمْ) رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي الْمُوَطَّأ وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِه.

(المغني).

‌فائدة: 1

يشترط في هؤلاء الشهود:

أولاً: أن يكونوا عدولاً.

قال ابن قدامة: فلا خلاف في اشتراطها.

ثانياً: وأن يكونوا أحراراً.

فلا تقبل شهادة العبد، قال ابن قدامة: ولا نعلم في هذا خلافاً.

‌فائدة: 2

وهل يشترط أن يكون مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد؟

المذهب: يشترط أن يكون في مجلس واحد دون الحضور، وقيل: لا يشترط، لأن النصوص عامة.

ويشترط: أن يصرحوا بشهادتهم، فيصرحون بالزنا فيقولون: رأينا ذكره في فرجها، فلو قالوا: رأيناه عليها متجردين فلا يقبل.

ص: 111

(ولا يَنزِع عن إقرارهِ حتى يَتِمّ عليه الحد).

هذا من الشروط: ألا ينزع عن إقراره، أي: لا يرجع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، فإن رجع عن إقراره حرم إقامة الحد عليه.

وهذا قول أكثر العلماء:

أن المقر بالزنا إذا رجع، فإنه يقبل رجوعه ولا يقام عليه الحد.

وهذا قول أكثر العلماء.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما عند أبي داود: (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه).

فقالوا: هذا دليل على جواز رجوع المقر، وأنه إذا رجع في إقراره حرم إقامة الحد عليه.

القول الثاني: لا يقبل الرجوع عن الإقرار.

وهذا مذهب الظاهرية.

قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأنيس: (واغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل ما لم ترجع.

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: وأما قولكم إن ماعزاً رجع عن إقراره، فإن ماعزاً لم يرجع عن إقراره أبداً، وهربه لا يدل على رجوعه إطلاقاً، نعم ماعز هروبه قد يكون عن طلب إقامة الحد عليه، فهو في الأول يريد أن يقام عليه الحد، وفي الثاني أراد أن لا يقام عليه الحد وتكون التوبة بينه وبين الله، ولهذا قال:(ألا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) فدل هذا على أن حكم الإقرار باقي، فنحن نقول إن قصة ماعز ما فيها دليل إطلاقاً على رجوع الإقرار، ولكن فيها دليل على أنه رجع عن إقامة طلب الحد عليه، ولهذا إذا جاءنا رجل يقر بأنه زنى ويطلب إقامة الحد، ولما هيأنا الآلة لنقيم عليه الحد وآتينا بالحصى لأجل أن نرجمه، فلما نظر إلى الحصى قال: دعوني أتوب إلى الله، ما ذا نقول له؟ يجب أن ندعه يتوب إلى الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(هلاّ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) حينئذٍ ندعه يتوب فيتوب الله عليه.

وأما لو قال: إنه ما زنى، فلا يقبل، لأن هذا الرجل يريد أن يدفع عن نفسه وصفاً ثبت عليه بإقراره.

ص: 112

(وحد لوطي كزانٍ).

أي: حد اللوطي كحد الزنا: إن كان محصناً رجم حتى الموت، وإن كان غير محصن جلد وغرّب.

اتفق العلماء على تحريم اللواط.

قال في المغني: أجمع أهل العلم على تحريم اللواط، وقد ذمه الله في كتابه وعاب على من فعله، وذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ).

وقد نقل الذهبي الاتفاق عل أنه من كبائر الذنوب.

وجريمة اللواط لم يعملها أحد من العالمين قبل قوم لوط، وقد ذكر الله تعالى السور التي فيها عقوبة اللوطية وما حل بهم من البلاء في عشر سور من القرآن الكريم.

قال ابن القيم: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم

قال: (اقتلوا الفاعل والمفعول به).

-‌

‌ واختلف العلماء في عقوبة اللواط على أقوال:

‌القول الأول: أنه عقوبته كالزاني (الرجم إن كان محصناً والجلد لغير المحصن).

قال ابن القيم: وذهب الحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي في ظاهر مذهبه، والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه إلى أن عقوبته وعقوبة الزنا سواء.

أ-قالوا: لأن الله سماه فاحشة (أتأتون الفاحشة) كما سمى الزنا فاحشة في قوله (وَلا تَقْرَبُوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) واشتراكهما في الاسم يدل على اشتراكهما في الحكم.

ب- ولأن كلاً منهما إيلاج محرم في فرج محرم، فيعطى حكمه.

ص: 113

‌القول الثاني: أن فيه التعزير.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

قالوا: لأنه معصية من المعاصي لم يُقدِّر الله ولا رسوله فيه حداً مقدراً فكان فيه التعزير.

القول الثالث: أن عقوبته القتل مطلقاً (محصناً أم غير محصن).

وهو رواية عن الإمام أحمد.

قال ابن القيم: إنها أصح الروايتين، وهو مذهب مالك.

وقال ابن القيم أيضاً: فذهب أبو بكر الصديق وعلي وخالد بن الوليد وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وجابر بن زيد وعبد الله بن معمر والزهري وربيعة الرأي ومالك وإسحاق بن راهوية

إلى أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزنا، وعقوبته القتل بكل حال، محصناً كان أو غير محصن

لحديث (مَنْ وَجَدتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَومِ لُوطٍ فَاقتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ به).

قال ابن القيم: إن الإمام أحمد احتجَّ بهذا الحديث.

وقد نقل ابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهم إجماع الصحابة على قتله.

قال ابن القيم: اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتله، ولم يختلف فيه منهم رجلان، وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله، فظن بعض الناس أن ذلك اختلاف منهم في قتله، فحكاها مسألة نزاع بين الصحابة رضي الله عنهم، وهي بينهم مسألة إجماع لا مسألة نزاع.

والراجح أن عقوبته القتل مطلقاً.

ص: 114

•‌

‌ واختلف الصحابة في كيفية قتله:

فقيل: يحرق.

وهذا قول أبي بكر وعلي وابن الزبير.

قال ابن القيم: حرق باللوطية أربعة من الخلفاء: أبو بكر الصديق، وعلي، وعبد الرحمن بن الزبير، وهشام بن عبد الملك.

وقيل: يرجم بالحجارة حتى الموت.

وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس.

وقيل: يرمى من أعلى بناء في البلد ثم يتبع بالحجارة.

وهو مروي عن أبي بكر، وابن عباس.

والأظهر أن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام، حسب مصلحة الردع والزجر.

‌فائدة:

من زنى بذات محرم (كعمته أو خالته) فجمهور العلماء أن حكمه حكم الزنا (يرجم إن كان محصناً، ويجلد ويغرب إن كان غير محصن).

استدلالاً بالأدلة العامة في حكم الزاني، وأنها تشمل بعمومها من زنا بأجنبية أو بذات محرم.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يقتل بكل حال واختاره ابن القيم.

لحديث البراء قال (لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية، فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله) رواه النسائي وأحمد

وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه).

قال ابن القيم: إنه مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 115

‌فائدة: 1

عقوبة من وقع على بهيمة:

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

‌القول الأول: أنه يعزر ولا حد عليه.

وهذا قول الجمهور.

قال ابن القيم: وبه أخذ الشافعي ومالك وأبو حنيفة، وأحمد في رواية فإن ابن عباس رضي الله عنهما أفتى بذلك وهو راوي الحديث.

وقال في موضع آخر: أنه يؤدب ولا حد عليه، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، وهو قول إسحاق.

واستدل هؤلاء: أنه لم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعقوبات المقدرة لا بد فيها من دليل مثبت ولا دليل هنا ثابت فلا حد إذاً.

قال ابن القيم: ومن لم ير عليه حداً قالوا: لم يصح فيه الحديث، ولو صح لقلنا به، ولم يحل لنا مخالفته.

‌القول الثاني: أنه يقتل بكل حال.

وهذا مذهب أبي سلمة ابن عبد الرحمن والرواية الثانية عن الإمام أحمد حكى ذلك ابن القيم عنهما. وقال الشافعي إن صح الحديث قلت به.

لحديث (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه).

وجه الاستدلال من هذا الحديث على هذا القول واضح فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أتى بهيمة وقتل البهيمة معه، وليس فيه تفصيل في الفرق بين المحصن وغيره بل يفيد قتله مطلقاً.

ص: 116

‌القول الثالث: أن حده حد الزاني، يجلد إن كان بكراً ويرجم إن كان محصناً.

وهو قول الحسن البصري، وأحد أقوال الشافعي.

واستدل هؤلاء بالقياس على الزنى بجامع أن كلا منهما وطء في فرج محرم ليس له فيه شبهة فيكون حده كالزنا.

والراجح القول الأول.

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَمِثْل هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلأِنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى زَجْرٍ بِحَدٍّ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّهُ يُقْتَل مُطْلَقًا مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فلو أولج الإنسان في بهيمة عزّر، وقتلت البهيمة على أنها حرام جيفة، فإن كانت البهيمة له فاتت عليه، وإن كانت لغيره وجب عليه أن يضمنها لصاحبها.

وقيل إن من أتى بهيمة قتل لحديث ورد في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) وهذا عام أخذ به بعض أهل العلم، وقالوا: إن فرج البهيمة لا يحل بحال، فيكون كاللواط، ولكن الحديث ضعيف، ولهذا عدل أهل العلم لمّا ضعف الحديث عندهم إلى أخف الأمرين، وهو قتل البهيمة، وأما الآدمي فلا يقتل؛ لأن حرمته أعظم، ولكن يعزر لأن ذلك معصية، والقاعدة العامة أن التعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. (الشرح الممتع).

ص: 117

‌فائدة:

ما الحكمة من قتل البهيمة؟

قال ابن قدامة: واختلف في علة قتلها.

فقيل: إنما قتلت لئلا يعير فاعلها، ويذكر برؤيتها.

وقيل: لئلا تلد خلقاً مشوهاً.

وقيل: لئلا تؤكل. وإليها أشار ابن عباس في تعليله. (المغني).

وجاء في تحفة الأحوذي: قيل: لِئَلَّا يَتَوَلَّدَ مِنْهَا حَيَوَانٌ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَقِيلَ: كَرَاهَةَ أَنْ يَلْحَقَ صَاحِبُهَا الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا لِإِبْقَائِهَا.

(وَإِنْ حَمَلَتِ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا سَيِّدَ لَمْ تُحَدَّ بِمُجَرَّدِ ذلِكَ).

أي: إذا حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد فإنه لا يقام عليها الحد.

وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، ورجحه الشوكاني.

لحديث (ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً) رواه ابن ماجه.

قالوا: والشبهة هنا متحققة من وجوه متعددة:

فيحتمل أنه من وطء إكراه، والمستكرهة لا حد عليها.

ويحتمل أنه من وطء رجل واقعها في نوم وهي ثقيلة النوم.

ويحتمل أنه من وطء شبهة.

ويحتمل أنه حصل الحبل بإدخال ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها.

وذهب بعض العلماء: إلى إقامة حد الزنا بالحبل بشرط أن لا تدع شبهة موجبة لدرء الحد كدعوى أنها مكرهة.

وهذا قول عمر، وهو مذهب مالك.

لقول عمر (وَإِنَّ اَلرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اَللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ مِنْ اَلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ اَلْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ اَلْحَبَلُ).

فجعل عمر مجرد وجود الحمل موجباً لإقامة حد الزنا كإيجابه بالبينة أو الاعتراف.

قال ابن القيم: وقد حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة معه برجم المرأة التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد.

ص: 118

ولأن وجود الحمل أمارة ظاهرة على الزنا أظهر من دلالة البينة، وما يتطرق إلى دلالة الحمل يتطرق مثله إلى دلالة البينة وأكثر.

‌بَابُ حَدِّ القَذْفِ

‌تعريفه:

لغة: الرمي.

واصطلاحاً: الرمي بالزنا وباللواط ونحوه مثل قول: يا زاني، يا لوطي.

(وهو حرام).

أي: أن القذف حرام ومن كبائر الذنوب.

قال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

قال السعدي رحمه الله: ذكر الله تعالى الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) أي: العفائف عن الفجور (الْغَافِلاتِ) التي لم يخطر ذلك بقلوبهن (الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير.

وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهذا زيادة على اللعنة، أبعدهم عن رحمته، وأحل بهم شدة نقمته.

وقال صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات:

وذكر منها: وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) متفق عليه.

وقال ابن قدامة: وهو محرم بإجماع الأمة.

ص: 119

‌فائدة:

الحكمة من مشروعية حد القذف:

أولاً: منع الترامي بالفاحشة.

ثانياً: صيانة أعراض الناس عن الانتهاك، وحماية سمعتهم من التدنيس.

ثالثاً: لئلا تحصل عداءات وبغضاء، وربما تحصل حروب بسبب الاعتداء على العرض وتدنيسه.

رابعاً: تنزيه الرأي العام من أن يسري فيه هذا القول، ويسمعه الناس بآذانهم.

خامساً: منع إشاعة الفاحشة في المؤمنين، فإن كثرة الترامي بها، وكثرة سماعها، وسهولة قولها، يجرئ السفهاء على ارتكابها.

(فإِذَا قَذَفَ الْمُكَلَّفُ مُحْصَناً جُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إِنْ كَانَ حُرّاً، وَإِنْ كَانَ عَبْداً أَرْبَعِينَ).

هذا حد القذف: إذا قذف المكلف المختار محصناً جلد ثمانين جلدة إن كان حراً.

والدليل قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

‌فتضمنت هذه الآية ثلاثة أحكام في القاذف:

الأول: جلده ثمانين جلدة.

الثاني: رد شهادته أبداً.

الثالث: فسقه.

ص: 120

قال ابن كثير: فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها: أن يُجلد ثمانين جلدة، الثاني: أنه ترد شهادته أبداً، الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله، ولا عند الناس. (التفسير).

في قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ

) هذا الاستثناء يرفع الحكم الأخير، ولاشك في ذلك، وهو الفسق، فإذا تابوا زال عنهم وصف الفسق إلى العدالة، وهل يرجع الاستثناء إلى ما قبل الأخير وهو أنه إذا تاب قبلت شهادته؟ فيه تفصيل:

o إذا أقيم عليه الحد ولم يتب فإنه لا تقبل شهادته.

o‌

‌ وأما بعد توبته، فقد اختلف العلماء على قولين:

‌القول الأول: لا تقبل شهادة المحدود في قذف ولو تاب.

وهذا قول أبي حنيفة.

أ- واستدلوا بقوله تعالى (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً .. ).

وجه الدلالة: بأن الله أبّد المنع من قبول شهادتهم، وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده.

ب- ولأن رد شهادة القاذف ولو تاب عقوبة من تمام الحد، فلا تسقط هذه العقوبة بالتوبة.

‌القول الثاني: قبول شهادة القاذف إذا تاب.

وهذا قول الشافعي وأحمد ومالك.

أ- واستدلوا بالاستثناء في آية القذف وهو قوله تعالى (

إلا الذين تابوا .. ) عائد إلى الجملتين المتعاطفتين قبله في قوله تعالى (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

ص: 121

ب- ولأن الصحابة قبلوا شهادة القاذف كما ذكر ذلك ابن القيم.

ج- وقال ابن القيم: وأعظم موانع الشهادة: الكفر والسحر وقتل النفس وعقوق الوالدين والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قبلت اتفاقاً، والتائب من القذف أولى بالقبول.

د- ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

هـ- أنه ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن قذفوا المغيرة بن شعبة بعد ما جلدهم الحد، قال:(من تاب قبلت شهادته). رواه البخاري تعليقاً

مجزوماً به

وتوبته: أن يكذب نفسه في اتهام المقذوف بالزنى، ولهذا جاء لفظ عمر عند ابن جرير:(من كذب نفسه قبلت شهادته) فإذا تاب القاذف واستقام قُبلت شهادته، كغيره من المسلمين العدول.

وهذا القول هو الصحيح.

‌فائدة: 1

لا فرق بين أن يكون القاذف أو المقذوف رجلاً أو امرأة.

قال الحافظ ابن حجر: وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء.

فإن قيل: ما الحكمة من ذكر المحصنات في الآية وكذلك في الحديث؟

ص: 122

فقيل: إنما ذكر النساء دون الرجال لأن قذفهن أكثر وأشنع.

قال ابن جزي رحمه الله: والمحصنات يراد بهن هنا العفائف من النساء، وخصهن بالذكر لأن قذفهن أكثر وأشنع من قذف الرجال، ودخل الرجال في ذلك بالمعنى، إذ لا فرق بينهم، وأجمع العلماء على أن حكم الرجال والنساء هنا واحد.

وقيل: المراد بالمحصنات في الآية (الأنفس المحصنات)؛ فتعم بذلك الرجال والنساء.

وقيل: تخصيص النساء هنا لخصوص الواقعة، ومراعاة قصة كانت سبب نزول الآية، ثم يكون الحكم بالعلة الجامعة والمعنى المشترك الذي يمنع تخصيص النساء دون الرجال.

‌فائدة: 2

قوله (قَذَفَ الْمُكَلَّفُ) يشترط في القاذف:

التكليف وهو البالغ العاقل المختار (سواء كان ذكراً أو أنثى) فلو أن امرأة قذفت رجلاً فإنه يقام عليها الحد.

أ- ودليل ذلك قواعد الشريعة المأخوذة من النصوص العامة، كحديث (رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَة).

ب- وحديث (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ).

ج- ولأن القذف جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بأنه جناية.

د- فإذا كان القاذف صبياً أو مجنوناً أو مكرهاً فلا حد عليه، لأن العقل مدار التكليف ومناطه، والمجنون لا يعتد بكلامه، فلا يؤثر قذفه، فإن كان الصبي مراهقاً بحيث يؤذي قذفه فإنه يعزر تعزيراً مناسباً، لكن لا يُحدّ ما دام أنه لم يبلغ.

‌فائدة: 3

قوله (قَذَفَ الْمُكَلَّفُ مُحْصَناً) المحصن هنا:

الحر البالغ المسلم العاقل العفيف.

فإذا قذف المكلف: حراً بالغاً عاقلاً عفيفاً جلد 80 جلدة.

الحر: فلو قذف عبداً فلا حد عليه.

ص: 123

لأن الإحصان يطلق على الحرية كما في قوله تعالى (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) أي: الحرائر، فالرقيق ليس محصناً بهذا المعنى على قول الجمهور.

فجمهور العلماء يرون اشتراط الحرية في المقذوف لإقامة الحد على القاذف.

قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما.

عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (من قذف مملوكه وهو بريء مما قال، جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال).

وجه الدلالة: إنه لو وجب الجلد على السيد في قذف عبده في الدنيا لذكره صلى الله عليه وسلم؛ كما ذكر الجلد في الآخرة، و إنما خص الجلد بالآخرة تمييزاً للأحرار عن المملوكين في الدنيا، أما في الآخرة فان ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى.

قال النووي معلقاً على هذا الحديث: فيه إشارة إلى أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، ولكن يعزر قاذفه؛ لأن العبد ليس بمحصن فيه، سواء من هو كامل الرق أو فيه شائبة حرية.

ومن المعقول: أن حرمة العبد ناقصة نقصاً أوجبه الرق، كالكافر فكل نقص منع أن يقتل به الحر المسلم منع أن يحد في القذف.

ولأن كل عبد قد منعه نقص الرق أن تؤخذ بنفسه نفس الحر، فكان أولى المنع من أن يؤخذ بعرضه عرض الحر.

وقالت الظاهرية: يقام الحد على قاذف العبد.

ص: 124

لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام) ولم يفرق في ذلك بين الحر والعبد.

البالغ: بأن يكون المقذوف بالغاً، فإن كان صبياً لم يجب الحد على القاذف وإنما يعزّر.

لأن زنا الصبي لا يوجب عليه الحد فلا يجب الحد بالقذف كزنا المجنون.

وقيل: لا يشترط البلوغ، وهذا قول مالك، لأنه حر عاقل عفيف يتعيّر بهذا القول الممكن صدقه فأشبه الكبير.

والأول أظهر، وهو أن من قذف غير بالغ لا يُحد، ولكنه يعزر.

المسلم: فالكافر ليس بمحصن، فمن أشرك بالله فلا حد على قاذفه على قول الجمهور.

أ- لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

ب- ولأنه لا يتورع عن الزنا، إذ ليس هناك ما يردعه عن ارتكاب الفاحشة.

ج- ولأن عِرْض الكافر لا حرمة له، كالفاسق المعلن لا حرمة لعرضه، بل الكافر أولى، لزيادة الكفر على المعلن بالفسق، فلو قذف كافراً فلا حد عليه.

العاقل: بأن يكون المقذوف عاقلاً، فإن كان مجنوناً لم يجب الحد على القاذف ولكنه يعزر.

العفيف: أي: أن يكون عفيفاً عن الزنا لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) أي: العفيفات عن الزنا، وقال تعالى (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي: عفت.

فمن قذف المعروف بفجوره أو المشتهر بالعبث والمجون فلا يحد، لأن القذف إنما شرع لحفظ كرامة الإنسان الفاضل، ولا كرامة للفاسق الماجن، لكن كما سبق في قذف غير المحصن التعزير.

ص: 125

أمثلة: مكلف قذف صغيراً فلا حد عليه، امرأة بالغة قذفت رجلاً بالغاً فإنه يقام عليها الحد، حر قذف عبداً فلا يقام عليه الحد، مكلف عاقل قذف مجنوناً فلا يقام عليه الحد.

قوله (وَإِنْ كَانَ عَبْداً أَرْبَعِينَ) أي: وإن كان عبداً جلد أربعين.

وهذا قول جمهور العلماء: أن العبد إذا قذف حراً جلد 40.

قال الشنقيطي: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ; لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ كَحَدِّ الزِّنَى.

وذهب بعض العلماء: أن حد المملوك إذا قذف حراً ثمانون جلدة كحد الحر.

وهذا قول ابن مسعود، واختاره ابن حزم.

لعموم الآية (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).

ورجحه الشنقيطي فقال: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا جُلِدَ ثَمَانِينَ لَا أَرْبَعِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا جَلْدَهُ ثَمَانِينَ.

لِأَنَّ الْعَبْدَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا مِنْ قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ عَلَى تَشْطِيرِ الْحَدِّ عَنِ الْأَمَةِ فِي حَدِّ الزِّنَى وَأَلْحَقَ الْعُلَمَاءُ بِهَا الْعَبْدَ بِجَامِعِ الرِّقِّ، وَالزِّنَى غَيْرُ الْقَذْفِ.

أَمَّا الْقَذْفُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ فِي خُصُوصِهِ.

وَأَمَّا قِيَاسُ الْقَذْفِ عَلَى الزِّنَى فَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ; لِأَنَّ الْقَذْفَ جِنَايَةٌ عَلَى عِرْضِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، وَالرَّدْعُ عَنِ الْأَعْرَاضِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ فَيُرْدَعُ الْعَبْدُ كَمَا يُرْدَعُ الْحُرُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. (أضواء البيان).

(وهُو حقٌّ للمقذوفِ).

أي: أن حد القذف حق للمخلوق وليس حقاً لله.

وهذا قول المالكية والشافعية واختاره ابن تيمية، وهذا الراجح.

قال ابن قدامة: ويعتبر لإقامة الحد [حد القذف] مطالبة المقذوف، لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه، كسائر حقوقه

فلو طلب [يعني: إقامة الحد] ثم عفا عن الحد، سقط، وبهذا قال الشافعي.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه من حقوق الله.

وهذا قول الحنفية ورجحه ابن حزم.

ص: 126

•‌

‌ فائدة الخلاف:

إذا قلنا إنه حق للمقذوف ترتب عليه عدة أمور:

أولاً: أنه يسقط بعفوه.

ثانياً: أنه لا يقام عليه الحد حتى يطالب به.

ثالثاً: ولا يقام للولد على والده، وهذا المذهب قال ابن قدامة: مبيناً العلة: ولنا أنه عقوبة تجب حقاً لآدمي، فلا يجب للولد على الوالد كالقصاص.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يقام عليه الحد واختاره ابن المنذر لعموم الآية.

وإذا قلنا إنه حق لله ترتب عليه:

أولاً: لا يسقط بالعفو إذا بلغ الإمام.

ثانياً: يقام عليه الحد بدون طلب.

‌فائدة:

يسقط حد القذف عن القاذف في عدة حالات:

الأولى: أن يأتي بأربعة شهود فيشهدون على المقذوف بأنه زنى، لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).

الثانية: أن يقر المقذوف على نفسه بالزنى، باتفاق العلماء. (المغني).

الثالثة: إذا كان القاذف هو الزوج وقد قذف زوجته، فله أن يسقط الحد عن نفسه باللعان، لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ).

ص: 127

ولما قذف هلال بن أمية امرأته لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ولم يحد هلالاً حد القذف. رواه مسلم.

الرابعة: أن يعفو المقذوف عن حقه، ولا يطالب بإقامة الحد على القاذف.

(وَصَرِيحُ الْقَذْفِ: يَا زَانٍ، يَا لُوطِيُّ ونَحْوُهُ، وَكِنَايَتُهُ: يَا قَحْبَةُ، يَا فَاجِرَةُ، يَا خَبِيثَةُ، فَضَحْتِ زَوْجَكِ، أَوْ نَكَّسْتِ رَأْسَهُ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ قُبِل).

الألفاظ التي يقذف بها نوعان: صريحة، وكناية.

أما اللفظ الصريح، فهو الذي لا يفهم منه إلا القذف بالزنى أو اللواط، ولا يقبل من القاذف أن يدعي أنه أراد به معنى آخر غير القذف.

مثاله: يا زاني، زنيتَ، زنيتِ، يا لوطي.

ولا يقبل منه إذا قال: أردت بقولي له: "يا لوطي" أنه على دين لوط عليه السلام، أو أنه يعمل عمل قومه إلا إتيان الفاحشة، لأن هذا اللفظ "يا لوطي" لا يفهم منه عند الإطلاق إلا القذف بالفاحشة.

قال في الروض المربع: وصريح القذف قول: يا زاني يا لوطي ونحوه، كـ يا عاهر أو قد زنيت أو زنى فرجك ويا منيوك ويا منيوكة إن لم يفسره بفعل زوج أو سيد.

وأما الكناية.

فهو اللفظ الذي يحتمل أن يكون قذفاً، ويحتمل غير ذلك احتمالاً قوياً.

فهذا يُسأل القاذف عما أراد ويجب عليه أن يصدق، لأن إقامة الحد عليه في الدنيا أهون عليه من عقوبته في الآخرة، فإن قال: أردت القذف، فهو قذف، وإن قال: أردت غير القذف، فلا حد عليه، ولكن يعزر لسبه الناس.

ص: 128

مثال ذلك: يا خبيث، يا خبيثة، يا فاجر، يا فاجرة. . .

وينبغي أن يُعلم أنه يرجع في معاني الألفاظ إلى العرف، وذلك يختلف باختلاف البلاد والأزمان، فقد يكون اللفظ كناية عند قوم، صريحاً عند آخرين، فيجب أن يراعى ذلك.

(وَإِنْ قَذَفَ أَهْلَ بَلَدٍ، أَوْ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الزِّنَا عَادَةً عُزِّرَ).

أي: إن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا، فإنه لا يحد ولكنه يعزر.

لأنه لا عار عليهم به، للقطع بكذبه.

(وَيَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ بِالْعَفْوِ، وَلَا يُسْتَوْفَى بِدُونِ الطَّلَبِ).

لأنه حق للمقذوف.

قال ابن تيمية: فإذا رمى الحر محصناً بالزنا واللواط: فعليه حد القذف، وهو ثمانون جلدة.

وإن رماه بغير ذلك: عوقب تعزيراً.

وهذا الحد يستحقه المقذوف: فلا يُستوفى، إلا بطلبه؛ باتفاق الفقهاء.

(المجموع).

- قوله (ويسقط حد القذف بالعفو) ظاهر كلامه ولو كان بعد رفعه إلى الإمام أو الحاكم؛ لأنه حق محض للمقذوف، بخلاف السرقة فإن الرجل لو سُرق ماله فإن له أن لا يطالب السارق، والإمام لا يتعرض للسارق ما دام المسروق منه لم يطالبه، ولكن إذا رفع الأمر إلى وليّ الأمر فإنه لا يملك إسقاطه، والفرق بينهما ظاهر؛ لأن السرقة فيها شائبتان: شائبة حق الآدمي وهو ضمان المال، وشائبة قطع اليد وهو حق الله عز وجل، فلهذا صار بَيْنَ بَيْنَ، فإن رُفع إلى القاضي لم يملك المسروق منه إسقاطه، وإن لم يُرفع فله أن لا يطالب.

(الشرح الممتع).

ص: 129

‌فائدة: 1

قذف عائشة كفر بالاتفاق.

قال الإمام النووي رحمه الله: براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين.

وقال ابن القيم رحمه الله: واتفقت الأمة على كفر قاذفها.

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن.

وقال بدر الدين الزركشي: فمن قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها.

‌فائدة: 2

قال المرداوي الحنبلي: من تاب من الزنى، ثم قُذف: حُدَّ قاذفه،

على الصحيح من المذهب. (الإنصاف).

‌فائدة: 3

هل جلد النبي صلى الله عليه وسلم ممن تكلم في عائشة في قصة الإفك؟

قال ابن القيم: وَلَمّا جَاءَ الْوَحْيُ بِبَرَاءَتِهَا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ صَرّحَ بِالْإِفْكِ فَحُدّوا ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ وَلَمْ يَحُدّ الْخَبِيثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ مَعَ أَنّهُ رَأْسُ أَهْلِ الْإِفْكِ.

فَقِيلَ: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلاً لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فيكفيه ذلك عن الحد.

ص: 130

وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَسْتَوْشِي الْحَدِيثَ وَيَجْمَعُهُ وَيَحْكِيهِ وَيُخْرِجُهُ فِي قَوَالِبِ مَنْ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ.

وَقِيلَ: الْحَدّ لَا يَثْبُتُ إلّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِبَيّنَةٍ وَهُوَ لَمْ يُقِرّ بِالْقَذْفِ وَلَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَإِنّهُ إنّمَا كَانَ يَذْكُرُهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقِيلَ: حَدّ الْقَذْفِ حَقّ الْآدَمِيّ لَا يُسْتَوْفَى إلّا بِمُطَالَبَتِهِ وَإِنْ قِيلَ: إنّهُ حَقّ لِلّهِ فَلَا بُدّ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ وَعَائِشَةُ لَمْ تُطَالِبْ بِهِ ابْنَ أُبَيّ.

وَقِيلَ: بَلْ تَرَكَ حَدّهُ لِمَصْلَحَةٍ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ إقَامَتِهِ كَمَا تَرَكَ قَتْلَهُ مَعَ ظُهُورِ نِفَاقِهِ وَتَكَلّمِهِ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ مِرَارًا وَهِيَ تَأْلِيفُ قَوْمِهِ وَعَدَمُ تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِنّهُ كَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ رَئِيسًا عَلَيْهِمْ فَلَمْ تُؤْمَنْ إثَارَةُ الْفِتْنَةِ فِي حَدّهِ وَلَعَلّهُ تُرِكَ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ كُلّهَا.

فجلد مسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيراً لهم وتكفيراً. وترك عبد الله ابن أبي؛ إذاً: فليس هو من أهل ذاك.

والحافظ ابن حجر يقف على هذه الوجوه من الحكمة التي أبداها ابن القيم في ترك حد عبد الله ابن أبي فيتعقبه بأن الرواية قد وردت بإقامة الحد على عبد الله ابن أبي فيقول: وأبدى صاحب (الهدى) الحكمة في ترك الحد على عبد الله ابن أبي، وفاته أنه ورد ذكره أيضاً فيمن أقيم عليه الحد، ووقع ذلك في رواية أبي أويس عن الحسن بن زيد عن عبد الله ابن أبي بكر أخرجه الحاكم في (الإكليل).

‌فائدة: 4

قال ابن قدامة: وإذا قال الرجل يا ولد الزنى، أو يا ابن الزانية: فهو قاذف لأمه.

فإن كانت حية: فهو قاذف لها دونه، لأن الحق لها.

ويعتبر فيها شروط الإحصان، لأنها المقذوفة.

وإن كانت أمه ميتة: فالقذف له؛ لأنه قَدْحٌ في نسبه. (الكافي).

ص: 131

‌بَابُ حَدِّ المُسْكِرِ

الخمر لغة: ما خامر العقل وستره، وسمي بذلك لأنها تغطي العقل وتستره.

وهو يطلق على كل ما أسكر العقل من عصير كل شيء أو نقيعه، سواء كان من العنب أم التمر أم غيرهما.

فالخمر: اسم لكل ما أسكر العقل، أي: خامره وستره وغطاه على سبيل اللذة والنشوة والطرب، قال صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر).

‌فائدة: 1

لماذا سميت الخمر خمراً؟

ذكر علماء اللغة في ذلك خلافاً على أقوال ثلاثة:

الأول: سميت خمراً لأنها تغطى حتى تدرك أي حتى تغلي.

حكاه النووي، والقرطبي، والحافظ بن حجر، والرازي، وعزاه لابن الأعرابي.

الثاني: أنها لما كانت تستر العقل وتغطيه سميت بذلك.

حكاه القرطبي، والحافظ بن حجر، والفيروز آبادي، والنووي، وعزاه للكسائي.

الثالث: سميت خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه.

حكاه الفيروز آبادي، والقرطبي، وابن حجر، والنووي، وعزاه لابن الأنباري.

وهذه المعاني الثلاثة يجدها الناظر متقاربة بل هي متشابكة لأن أصلها الستر فلا مانع إذا أن تكون سميت الخمر خمراً لهذه الأمور الثلاثة ولا منافاة.

وهذا هو ما جنح إليه جمع منهم العلامة القرطبي إذ قال: فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت، وخمرت حتى أدركت ثم خالطت العقل، ثم خمرته والأصل الستر.

ص: 132

ومنهم الحافظ بن حجر إذ قال بعد حكايته: ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان.

قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمرة، لأنها تركت حتى أدركت وسكنت فإذ شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه. (الحدود عند ابن القيم).

(وهو محرم).

أجمع العلماء على تحريم شرب الخمر.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون).

عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ) ق.

عنِ ابْنِ عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) ق.

وفي رواية (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ) م.

وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِتْعِ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ) ق.

وعن أَبي هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَزْنِى الزَّانِي حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) متفق عليه.

ص: 133

عَنْ جَابِرٍ. قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إِنَّ عَلَى اللَّهِ عز وجل عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ). قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ قَالَ (عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ) رواه مسلم.

عَنْ أَنَسٍ قال (كُنْتُ سَاقِىَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِى طَلْحَةَ وَمَا شَرَابُهُمْ إِلاَّ الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ - قَالَ - فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا. فَهَرَقْتُهَا فَقَالُوا أَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ قُتِلَ فُلَانٌ قُتِلَ فُلَانٌ وَهِىَ فِي بُطُونِهِمْ - قَالَ فَلَا أَدْرِى هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) متفق عليه.

عن ابن عمر قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) رواه أبو داود.

وعَنْ جَابِر أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ) متفق عليه.

وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ» . قَالَ فَمَا لَبِثْنَا إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى قَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ». قَالَ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا) رواه مسلم.

ص: 134

قال النووي: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ) أَيْ: أَدْرَكَتْهُ حَيًّا وَبَلَغَتْهُ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ).

وعن أَبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ. أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا) رواه أبو داود.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) رواه أبو داود.

وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَن) رواه ابن ماجه.

وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يدخل الجنة مُدمن خمر) رواه ابن ماجه.

وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدَغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رَدَغَةُ الْخَبَالِ قَالَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّار) رواه ابن ماجه.

ص: 135

وليس معنى عدم قبول الصلاة أنها غير صحيحة، أو أنه يترك الصلاة، بل المعنى أنه لا يثاب عليها. فتكون فائدته من الصلاة أنه يبرئ ذمته، ولا يعاقب على تركها.

قال النووي: وَأَمَّا عَدَم قَبُول صَلاته فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لا ثَوَاب لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَة فِي سُقُوط الْفَرْض عَنْهُ، وَلا يَحْتَاج مَعَهَا إِلَى إِعَادَة.

قال القرطبي: لا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر.

‌فائدة: 1

اختلف العلماء رحمهم الله في تحديد السنة التي حرمت فيها الخمر:

فقيل: في السنة الثالثة بعد غزوة أحد.

وهذا القول هو أشهر أقوال أهل العلم في المسألة.

وقيل: عام الفتح في السنة الثامنة. وقيل: غير ذلك من الأقوال.

قال القرطبي رحمه الله: وَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الهجرة.

(التفسير).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وكان تحريمها [يعني: الخمر] بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة.

وقال ابن عاشور: والمشهور أن الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحد.

ص: 136

‌فائدة: 2

وقد جاء تحريم الخمر في القرآن الكريم متدرجاً في ثلاث مراحل.

وكان الناس يشربونها حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكثر سؤال الناس عن حكمها.

فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا).

ثم جاءت المرحلة الثانية فحرم شربها عن الدخول في الصلاة.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ).

ثم جاءت المرحلة الثالثة والقاطعة وفيها نزل حكم الله سبحانه وتعالى بتحريم الخمر نهائياً فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) الآيَةَ، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ يُنَادِي: أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا.

(إِذَا شَرِبَهُ الْمُسْلِمُ مُخْتَاراً عَالِماً أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، ثَمَانُونَ جَلْدَةً مَعَ الْحُرِّيَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مَعَ الرِّقِّ).

أي: عقوبة شرب الخمر حد، مقدارها 80 جلدة.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

ص: 137

قال ابن قدامة: إحداهما: أنه ثمانون، وبهذا قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة ومن تبعهم.

لحديث أَنَس (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وجه الدلالة: أن هذا الأثر نص صريح في أن الصحابة وافقوا عمر وأجمعوا على أن عقوبة الشارب ثمانون جلدة.

قال الصنعاني مبيناً وجه الاستدلال لهم: قالوا: لقيام الإجماع عليه في عهد عمر فإنه لم ينكر عليه أحد.

قال ابن قدامة: لإجماع الصحابة.

وذهب بعض العلماء: الحد أربعون، وأن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين تعزيرية.

وهذا مذهب الشافعي، وهو قول داود، ورجحه ابن تيمية وابن القيم.

قال ابن قدامة: والرواية الثانية أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي.

وقال النووي: فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَأَهْل الظَّاهِر وَآخَرُونَ: حَدّه أَرْبَعُونَ، قَالَ الشَّافِعِيّ رضي الله عنه: وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَبْلُغ بِهِ ثَمَانِينَ، وَتَكُون الزِّيَادَة عَلَى الْأَرْبَعِينَ تَعْزِيرَات عَلَى تَسَبُّبه فِي إِزَالَة عَقْله.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا أوجه القولين.

أ-لحديث أنس السابق (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْر).

أ- ولحديث علي قال (جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ).

ص: 138

قال ابن قدامة: وَفِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا خَالَفَ فِعْلَ النَّبِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما، فَتُحْمَلُ الزِّيَادَةُ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ، يَجُوزُ فِعْلُهَا إذَا رَآهُ الْإِمَامُ.

قال أصحاب هذا القول: فيحمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو الحد الشرعي، وما ثبت عن الصحابة على أنه زيادة تعزيرية تفعل عند الحاجة والمصلحة ولهذا قال علي (جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي).

قال ابن القيم: ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد، والأربعون الزائدة عليها تعزير، وقد اتفق عليه الصحابة.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الخمر لا حد فيها، وإنما فيها التعزير.

قال الحافظ ابن حجر: إن الطبري وابن المنذر حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها، وإنما فيها التعزير.

واستدلوا بأحاديث الباب؛ فإنها ساكتة عن تعيين عدد الضرب وأصرحها حديث أنس، ولم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطرق عنه.

وورد أنه لم يضربه أصلاً وذلك فيما أخرجه أبو داود والنسائي بسند قوي عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدا). (الفتح).

وقال علي (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنّ فيه - أي الخمر - شيئاً) رواه مسلم.

‌فائدة: 1

سبب استشارة عمر الناس: جاء في رواية عند مسلم (فَلَمَّا كَانَ عُمَر وَدَنَا النَّاس مِنْ الرِّيف وَالْقُرَى).

قال النووي: الرِّيف: الْمَوَاضِع الَّتِي فِيهَا الْمِيَاه، أَوْ هِيَ قَرِيبَة مِنْهَا، وَمَعْنَاهُ: لَمَّا كَانَ زَمَن عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي الله عنه وَفُتِحَتْ الشَّام وَالْعِرَاق وَسَكَنَ النَّاس فِي الرِّيف وَمَوَاضِع الْخِصْب وَسَعَة الْعَيْش وَكَثْرَة الْأَعْنَاب وَالثِّمَار أَكْثَرُوا مِنْ شُرْب الْخَمْر، فَزَادَ عُمَر فِي حَدّ الْخَمْر تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَزَجْرًا لَهُمْ عَنْهَا.

ص: 139

‌فائدة: 2

حديث علي السابق (جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ) له قصة:

عن حضين بْن الْمُنْذِرِ. قَالَ (شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَأُتِىَ بِالْوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ أَزِيدُكُمْ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا

حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ فَقَالَ عُثْمَانُ إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا فَقَالَ يَا عَلِىُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ. فَقَالَ عَلِىٌّ قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ. فَقَالَ الْحَسَنُ وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا - فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ - فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قُمْ فَاجْلِدْهُ. فَجَلَدَهُ وَعَلِىٌّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ أَمْسِكْ. ثُمَّ قَالَ جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيّ) رواه مسلم.

(شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَأُتِىَ بِالْوَلِيدِ) والوليد هو ابن عقبة بن أبي معيْط، ظهر عليه أنه شرب الخمر، فكثر على عثمان فيه، فلما شُهد عنده بأنه شربها أقام عليه الحد.

ص: 140

(قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ أَزِيدُكُمْ) لأنه سكران.

(فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ) بضم الحاء ابن أبان مولى عثمان.

(فَقَالَ عُثْمَانُ إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا) هذا بيان صريح في كون عثمان جلد الوليد لثبوت شرب الخمر منه.

(فَقَالَ يَا عَلِىُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ

) قال النووي: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْحَدّ عَلَى الْوَلِيد بْن عُقْبَة، قَالَ عُثْمَان رضي الله عنه وَهُوَ الْإِمَام لِعَلِيٍّ عَلَى سَبِيل التَّكْرِيم لَهُ وَتَفْوِيض الْأَمْر إِلَيْهِ فِي اِسْتِيفَاء الْحَدّ: قُمْ فَاجْلِدْهُ، أَيْ أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدّ بِأَنْ تَأْمُر مَنْ تَرَى بِذَلِكَ. فَقَبِلَ عَلِيّ رضي الله عنه ذَلِكَ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ: قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَامْتَنَعَ الْحَسَن، فَقَالَ لِابْنِ جَعْفَر، فَقَبِلَ فَجَلَدَهُ، وَكَانَ عَلِيّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّفْوِيض إِلَى مَنْ رَأَى كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْله:(وَجَدَ عَلَيْهِ) أَيْ غَضِبَ عَلَيْهِ.

(وَلِّ حَارّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارّهَا) الْحَارّ الشَّدِيد الْمَكْرُوه، وَالْقَارّ: الْبَارِد الْهَنِيء الطَّيِّب، وَهَذَا مَثَل مِنْ أَمْثَال الْعَرَب، قَالَ الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره مَعْنَاهُ: وَلِّ شِدَّتهَا وَأَوْسَاخهَا مَنْ تَوَلَّى هَنِيئَهَا وَلَذَّاتهَا. الضَّمِير عَائِد إِلَى الْخِلَافَة وَالْوِلَايَة، أَيْ كَمَا أَنَّ عُثْمَان وَأَقَارِبه يَتَوَلَّوْنَ هَنِيء الْخِلَافَة وَيَخْتَصُّونَ بِهِ، يَتَوَلَّوْنَ نَكِدهَا وَقَاذُورَاتهَا. وَمَعْنَاهُ: لِيَتَوَلَّ هَذَا الْجَلْد عُثْمَان بِنَفْسِهِ أَوْ بَعْض خَاصَّة أَقَارِبه الْأَدْنِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

(ثُمَّ قَالَ جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيّ) قال النووي: معْنَاهُ أَنَّ فِعْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْر سُنَّة يُعْمَل بِهَا، وَكَذَا فِعْل عُمَر، وَلَكِنَّ فِعْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْر أَحَبّ إِلَيَّ.

وَقَوْله: (وَهَذَا أَحَبّ إِلَيَّ)

ص: 141

إِشَارَة إِلَى الْأَرْبَعِينَ الَّتِي كَانَ جَلَدَهَا، وَقَالَ لِلْجَلَّادِ: أَمْسِكْ، وَمَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي قَدْ جَلَدْته، وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ الثَّمَانِينَ. وَفِيهِ: أَنَّ فِعْل الصَّحَابِيّ سُنَّة يُعْمَل بِهَا، وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّة الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ". وَاَللَّه أَعْلَم

‌فائدة: 3

قوله (إِذَا شَرِبَهُ الْمُسْلِمُ مُخْتَاراً عَالِماً) هذه شروط لإقامة الحد:

‌فيشترط لإقامة الحد على الشارب شروط:

‌أولاً: أن يكون الشارب مسلماً.

أما الذمي فلا يحد، لأنهم يُقرون على ما يعتقدون حله كالخمر.

‌ثانياً: أن يكون الشارب مختاراً لشربها.

فإن كان مكرهاً فلا حدّ عليه ولا إثم.

‌ثالثاً: أن يكون عالماً أنها خمر، وأن كثيرها يسكر.

فالجاهل لا يحد.

(وَأَرْبَعُونَ مَعَ الرِّقِّ).

أي: أن الرقيق المملوك إذا شرب الخمر فإنه يجلد: 40.

ص: 142

(ويَثبُتُ بإقرارهِ مرةً كقذفٍ، أو شهادة عدلين).

يثبت شرب الخمر بأمرين: الإقرار - أو بشهادة عدلين.

قال ابن قدامة: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ حَتَّى يَثْبُتَ شُرْبُهُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيِّنَةِ.

وَيَكْفِي فِي الْإِقْرَارِ مَرَّة وَاحِدَةٌ.

فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا، فَأَشْبَهَ حَدَّ الْقَذْفِ.

أمَّا الْبَيِّنَةُ: فَلَا تَكُونُ إلَّا رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، يَشْهَدَانِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ.

وَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى بَيَانِ نَوْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِلَى مَا لَا يُوجِبُهُ، بِخِلَافِ الزِّنَا، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّرِيحِ وَعَلَى دَوَاعِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ) فَلِهَذَا احْتَاجَ الشَّاهِدَانِ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يُسَمَّى غَيْرُ الْمُسْكِرِ مُسْكِرًا، فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى ذِكْرِ نَوْعِهِ.

‌فائدة: 1

حكم التداوي بالخمر:

لا يجوز.

عن طَارِق بْن سُوَيْد الْجُعْفِيَّ (أنه سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَا أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ) رواه مسلم.

ص: 143

قال النووي: فيه التصريح بأنها ليست بدواء، فيحرم التداوي بها.

وقال الخطابي: في الحديث بيان أنه لا يجوز التداوي بالخمر، وهو قول أكثر الفقهاء.

ويدل لذلك:

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ) رواه الترمذي.

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَام) رواه أبو داود.

‌فائدة: 2

حكم شرب الخمر لإزالة الغصة إذا لم يجد غيرها.

ذهب عامة العلماء إلى جواز ذلك.

قال ابن تيمية: وكذلك الخمر يباح لدفع الغصة بالاتفاق.

وقال النووي: لو غص بلقمة ولم يجد شيئاً يسيغها به إلا الخمر فله إساغتها به بلا خلاف نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، بل قالوا يجب عليه ذلك، لأن السلامة من الموت بهذه الإساغة قطعية بخلاف التداوي وشربها للعطش.

أ- لقوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

وجه الدلالة: أن الآية نفت الإثم حال الضرورة إذا لم يكن بغي ولا عدوان، وإزالة الغصة ليست بغي ولا عدوان.

ب- ولقوله تعالى (وقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).

وجه الدلالة: أن الله تعالى بيّن لنا أن المحرمات مفصلة في كتابه واستثنى منها حال الضرورة، وإزالة الغصة ضرورة فتكون مستثناة بنص القرآن.

ج- ولقوله تعالى (وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

ص: 144

وجه الدلالة: أن الآية نهت المسلمين عن الإلقاء بأيديهم في التهلكة، وترك إزالة الغصة بالخمر إلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو لا يجوز.

د- لأنه إحياء للنفس وهو متحقق النفع.

‌فائدة: 3

حكم شرب الخمر لسد العطش والجوع عند الضرورة، اختلف العلماء في ذلك:

فقيل: لا يجوز شربها لذلك.

وهذا قول جماهير العلماء.

أ-لأن شربها للضرورة قد يدعو على التعود على شربها في غير الضرورة.

ب- ولأن شربها لا يدفع العطش بل يزيده.

وذهب الحنفية إلى جواز شربها عند الضرورة القصوى.

لأن المعنى الذي أبيحت من أجله الميتة وما في حكمها وهو إنقاذ النفس من الهلاك موجود في الخمر، فتباح لذلك.

‌فائدة: 4

هل يقام الحد على السكران أثناء سكره؟

لا يقام.

قال ابن قدامة: وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّكْرَانِ حَتَّى يَصْحُوَ.

رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيِّ.

ص: 145

وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.

لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ وَالتَّنْكِيلُ، وَحُصُولُهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي صَحْوِهِ أَتَمُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ إلَيْهِ. (المغني).

فائدة: 5

قال ابن قدامة: أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَهُوَ خَمْرٌ حُكْمُهُ حُكْمُ عَصِيرِ الْعِنَبِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهِ.

وَرُوِيَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَقَتَادَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ،

عن ابْن عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ).

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَغَيْرُهُمَا.

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. قَالَ: وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرْقُ، فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِأَنَّهُ مُسْكِرٌ، فَأَشْبَهَ عَصِيرَ الْعِنَبِ. (المغني).

‌فائدة: 6

هل يجب الحد بوجود رائحة الخمر أو تقيأها؟

لا يجب الحد بوجود الرائحة أو القيء.

وهذا قول الجمهور.

ص: 146

قال ابن قدامة: وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوُجُودِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ فِيهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.

لِأَنَّ الرَّائِحَةَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا، أَوْ حَسِبَهَا مَاءً، فَلَمَّا صَارَتْ فِي فِيهِ مَجَّهَا، أَوْ ظَنَّهَا لَا تُسْكِرُ، أَوْ كَانَ مُكْرَهًا، أَوْ أَكَلَ نَبْقًا بَالِغًا، أَوْ شَرِبَ شَرَابَ التُّفَّاحِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ، كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ، وَإِذَا اُحْتُمِلَ ذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ الَّذِي يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَحَدِيثُ عُمَرَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَحُدَّهُ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ، وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ، لَبَادَرَ إلَيْهِ عُمَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - (المغني)

وذهب بعض العلماء: أنه يثبت الحد بالرائحة أو القيء.

وهذا مذهب مالك.

‌فائدة: 7

حكم من كرر شرب الخمر للمرة الرابعة وما بعدها:

‌اتفق العلماء على أن من شرب الخمر للمرة الأولى والثانية والثالثة فإنه يحد بالجلد في كل مرة، واختلفوا في عقوبته إذا كرر الشرب للمرة الرابعة وما بعدها على أقوال:

ص: 147

‌القول الأول: أن من كرر الشرب للمرة الرابعة فإنه يحد بالجلد ولا يقتل مطلقاً لا حداً ولا تعزيراً.

وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

أ- عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاضْرِبُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاضْرِبُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاضْرِبُوهُ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُعَيْمَانَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَرَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَقَعَ، وَأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ رُفِع) رواه النسائي في الكبرى.

ب- وعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، وَرَفَعَ الْقَتْلَ، وَكَانَتْ رُخْصَةٌ) رواه أبو داود.

وجه الدلالة: ظاهر في كونه يفيد نسخ القتل، والاكتفاء بجلد الشارب في المرة الرابعة.

ج- وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَه) رواه البخاري.

وجه الدلالة: أن ظاهر الحديث يدل على كثرة إقامة الحد بالجلد على هذا الرجل، فدل ذلك على أن قتل الشارب في الرابعة منسوخ.

د- وعَنْ عَبْدِ اللهِ قَال قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ الْجَمَاعَة) متفق عليه.

ص: 148

وجه الدلالة: أن هذا الحديث دل على حصر القتل في هذه الأمور الثلاثة، وشر الخمر في المرة الرابعة ليس منها، بل قد يكون هذا الحديث ناسخاً لقتل الشارب في الرابعة.

وأجاب هؤلاء عن حديث مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ (إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالْأَرْبَعَةُ.

‌بأجوبة؟

‌أولاً: أنه منسوخ.

قال النووي: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَل بِشُرْبِهَا، وَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاع فِيهِ التِّرْمِذِيّ وَخَلَائِق، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى - عَنْ طَائِفَة شَاذَّة أَنَّهُمْ قَالُوا: يُقْتَل بَعْد جَلْده أَرْبَع مَرَّات، لِلْحَدِيثِ الْوَارِد فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْل بَاطِل مُخَالِف لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَل وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ أَكْثَر مِنْ أَرْبَع مَرَّات، وَهَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ، قَالَ جَمَاعَة: دَلَّ الْإِجْمَاع عَلَى نَسْخه، وَقَالَ بَعْضهمْ: نَسَخَهُ قَوْله صلى الله عليه وسلم: لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: النَّفْس بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّب الزَّانِي، وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَة. (نووي).

قال الشافعي: القتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته.

قال ابن حجر عن حديث - عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ - قال: وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة.

ص: 149

‌القول الثاني: أن للحاكم أن يقتله تعزيراً لا حداً إذا رأى المصلحة في ذلك.

وهذا اختيار ابن تيمية.

قال رحمه الله: لكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك.

‌فائدة: 8

هل يجب الحد على من شرب قليلاً من المسكر؟

قال ابن قدامة: أنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ شَرِبَ قَلِيلًا مِنْ الْمُسْكِرِ أَوْ كَثِيرًا.

وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِي ذَلِكَ فِي عَصِيرِ الْعِنَبِ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَائِرِهَا، فَذَهَبَ إمَامُنَا إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَكُلِّ مُسْكِرٍ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يُحَدُّ، إلَّا أَنْ يَسْكَرَ؛ مِنْهُمْ أَبُو وَائِلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: مَنْ شَرِبَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ حُدَّ، وَمَنْ شَرِبَهُ مُتَأَوِّلًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ.

وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ.

وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، فَيَتَنَاوَلُ الْحَدِيثُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ.

وَلِأَنَّهُ شَرَابٌ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ، فَوَجَبَ الْحَدُّ بِقَلِيلِهِ، كَالْخَمْرِ.

وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ فِيهَا؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهَا. (المغني).

ص: 150

‌باب التعزير

(وَهُوَ التَّأْدِيبُ)

هذا تعريف التعزير: وهو التأديب.

وإنما قيل للتعزير تأديباً لأنه يمنع مما لا يجوز فعله.

(وَهُوَ وَاجِبٌ)

أي: أن حكمه واجب، يجب على الإمام أن يقيمه.

(فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ).

أي: أن التعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.

(لا حد فيها) فالزنا لا تعزيز فيه، لأن فيه حداً، وكذلك السرقة.

(ولا كفارة) مثل الوطء في نهار رمضان، لا تعزير فيه لأن فيه كفارة.

‌(كَاسْتِمْتَاعٍ لَا حَدَّ فِيهِ،

وَسَرِقَةٍ لَا قَطْعَ فِيهَا، وَجِنَايَةٍ لَا قَوَدَ فِيهَا، وَإِتْيَانِ المَرْأَةِ المَرْأَةَ، وَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا وَنَحْوِهِ).

هذه أمثلة لما يكون فيها التعزير.

(كَاسْتِمْتَاعٍ لَا حَدَّ فِيهِ).

كأن يقبّل الإنسان امرأة أجنبية، أو يضمها، أو يمسها بشهوة، أو ما أشبه ذلك، فهذا استمتاع محرم ولا حدَّ فيه، فالواجب فيه التعزير.

ص: 151

(وَسَرِقَةٍ لَا قَطْعَ فِيهَا).

وهو يكون اختل فيها شرط من شروط وجوب القطع الآتية إن شاء الله.

كأن يسرق درهماً، فهذه سرقة لا قطع فيها فيعزر - أو أن يسرق من غير حرز، فهذا ليس فيه قطع لكن فيه التعزير.

(وَإِتْيَانِ المَرْأَةِ المَرْأَةَ).

كالسحاق، فهذا ليس فيه حد، لكن فيه التعزير.

(وَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا وَنَحْوِهِ).

مثل السب والشتم: كأن يقول له: يا حمار، يا كلب، يا بخيل، يا سيء الخلق، وما أشبه ذلك، فهذا فيه التعزير، وليس فيه الحد.

(وَلَا يُزَادُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ).

أي: أن التعزير لا يزاد في على عشرة أسواط.

هذا هو المعتمد في المذهب الحنبلي، وهو مذهب الظاهرية، وبه قال إسحاق والليث، وبعض الشافعية.

قال ابن حزم: وقالت طائفة: أكثر التعزير عشرة أسواط فأقل لا يجوز به أكثر من ذلك، وهو قول الليث بن سعد وقول أصحابنا.

واختاره ابن دقيق العيد، والصنعاني، والشوكاني.

لحديث أبي بُرْدَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّه) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وجه الدلالة: أن الحديث صريح في أنه لا يزاد على عشر جلدات إلا في الحدود الشرعية، والتعزير ليس حداً فلا يزاد فيه على العشر.

ص: 152

‌القول الثاني: أن التعزير بالجلد ليس له حد معين، بل هو موكول إلى اجتهاد القاضي حسب المصلحة.

وهو مذهب المالكية، وقول لأبي يوسف اختاره الطحاوي.

‌القول الثالث: أن لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود.

وهو مذهب الحنفية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة.

أ- لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين) رواه البيهقي.

ونوقش بأن البيهقي قال عنه المحفوظ مرسل، وكذلك رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن الضحاك بن مزاحم.

ب- أن العقوبة على قدر المعصية، والمعاصي المنصوص على حد عقوبتها أعظم من غيرها، فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمها.

ويناقش هذا بأن خطورة المعصية وضررها على المجتمع يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة، فترك تقدير عقوبتها للقاضي، وقد يكون ضرر معصية أصغر من معصية الحد كبيراً في زمن أو حال، بحيث يكون أشد من ضرر معصية الحد.

القول الرابع: أن لا يبلغ في التعزير على معصية حداً مشروعاً في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها، وعلى هذا فالتعزير الذي سببه الوطء لا يجوز أن يبلغ المائة (حد الزنا) وما كان سببه الشتم والسب لا يجوز أن يبلغ الثمانين (حد القذف) وهكذا.

وهذا قول للشافعية، ورواية للحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 153

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد تنازع العلماء في مقدار أعلى التعزير الذي يقام بفعل المحرمات على أقوال: أحدها: وهو أحسنها. . . أنه لا يبلغ في التعزير في كل جريمة الحد المقدر فيها، وإن زاد على حد مقدر في غيرها فيجوز التعزير في المباشرة المحرمة وفي السرقة المحرمة من غير حرز بالضرب الذي يزيد على حد القذف ولا يبلغ بذلك الرجم.

وأجابوا عن حديث (لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّه) بأجوبة:

الجواب الأول: أن الحديث محمول على التأديب الصادر من غير الولاة، كتأديب الأب لولده ونحوه.

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: الصحيح أن المراد بالحد هنا حكم الله عز وجل، وقد سمى الله أحكامه حدوداً فقال:(وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه).

الجواب الثاني: أن هذا الحديث منسوخ.

ذهب جماعة من الحنفية والشافعية إلى أن هذا الحديث منسوخ، ودليل النسخ عندهم هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخلافه من غير نكير.

قال الحافظ ابن حجر: ومنها أنه منسوخ دل على نسخه إجماع الصحابة، ورد بأنه قال به بعض التابعين وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار.

وقال النووي: وَأَجَابَ أَصْحَابنَا عَنْ الْحَدِيث بِأَنَّهُ مَنْسُوخ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَة رضي الله عنه جَاوَزُوا عَشْرَة أَسْوَاط.

ص: 154

الجواب الثالث: أن الحديث مقصور على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر.

قال العلامة ابن دقيق العيد: وقال بعض المالكية: وتأول أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وهذا في غاية الضعف أيضاً، لأنه ترك للعموم بغير دليل شرعي على الخصوص وما ذكره مناسبة ضعيفة لا تستقل بإثبات التخصيص.

وقال النووي: وَهَذَا التَّأْوِيل ضَعِيف.

بَابُ القَطْعِ فِي السَّرِقَةِ

تعريف السرقة

لغة: مأخوذة من الاستخفاء والتستر.

وشرعاً: أخذ المال على وجه الخفية والاستتار.

(السرقة حرام).

السرقة حرام وكبيرة من الكبائر.

قال تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ).

عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) متفق عليه.

عَنْ عَائِشَةَ. (أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: فقال صلى الله عليه وسلم .. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالَّذِى نَفْسُ محمدٍ بيدهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا

) متفق عليه.

ص: 155

وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكن هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) متفق عليه.

‌فائدة:

لماذا قدم تعالى الرجل في قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا .. ) وفي الزنا قال تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) فقدم المرأة؟

لأن مقام السرقة يكون الأكثر فيه الرجل، فلديه من القوة والشجاعة والإقدام ما ليس عند المرأة، ومن ثم قدمه في الذكر، بينما في موضع الزنا، قدم الأنثى لأن المرأة عندها من التفنن في الافتتان ما ليس عند الرجل، ولذا قد يخرج الرجل يريد الزنا ولا يجد شيئاً، بينما المرأة لو خرجت تريد الزنا وجدته، فلذلك قدمها على الرجل.

وقال بعض العلماء: قُدِّمَ ذِكْرُ الزَّانِيَةُ عَلَى الزَّانِي لِلِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْبَاعِثُ (أي السبب) عَلَى زِنَى الرَّجُلِ وَبِمُسَاعَفَتِهَا الرَّجُلَ يَحْصُلُ الزِّنَى وَلَوْ مَنَعَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مَا وَجَدَ الرَّجُلُ إِلَى الزِّنَى تَمْكِينًا، فَتَقْدِيمُ الْمَرْأَةِ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ فِي تَحْذِيرِهَا.

فقدمت المرأة في الزنا لأنها هي من تعرض نفسها، فهي سلعة معروضة، فإذا فقدت السلعة فقد الطالب لها، فلما كانت معروضة كانت مطلوبة، ولو بقيت محجوبة متعففة لما حصل بها فتنة.

فدور المرأة في مسألة الزنا أعظم ومدخلها أوسع، فهي التي تغري الرجل وتثيره وتهيج عواطفه، وتفتنه لذلك أمر الحق تبارك وتعالى الرجال بغَضِّ البصر وأمر النساء بذلك أيضاً وبعدم إبداء الزينة، وعدم التبرج، والمكوث في البيت كل ذلك ليسُدَّ نوافذ هذه الجريمة ويمنع أسبابها.

ص: 156

قال الحافظ في الفتح: وقدم السارق وقدمت الزانية على الزاني لوجود السرقة غالباً في الذكورية، ولأن داعية الزنا في الإناث أكثر، ولأن الأنثى سبب.

(ويجب بشروط).

أي: يجب القطع بشروط.

(منها: وجود السرقة).

هذا الشرط الأول للقطع: أن يكون هناك سرقة.

والسرقة أخذ مال الغير على وجه الاختفاء.

قال ابن قدامة: وَمَعْنَى السَّرِقَةِ: أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخِفْيَةِ وَالِاسْتِتَارِ.

وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، وَمُسَارَقَةُ النَّظَرِ، إذَا كَانَ يَسْتَخْفِي بِذَلِكَ، فَإِنْ اخْتَطَفَ أَوْ اخْتَلَسَ، لَمْ يَكُنْ سَارِقًا، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَاهُ غَيْرَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: أَقْطَعُ الْمُخْتَلِسَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْفِي بِأَخْذِهِ، فَيَكُونُ سَارِقًا، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِهِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ).

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ) رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ.

وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وَهَذَا غَيْرُ سَارِقٍ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَاسَ نَوْعٌ مِنْ الْخَطْفِ وَالنَّهْبِ، وَإِنَّمَا يَسْتَخْفِي فِي ابْتِدَاءِ اخْتِلَاسِهِ، بِخِلَافِ السَّارِقِ. (المغني).

فلا قطع على المنتهب: وهو أخذ المال عَلَى وجه الغلبة، والقهر، وهو بمعنى الغاصب، إلا أن الغصب أعم.

ولا على المختلس: اسم فاعل منْ الاختلاس، وهو أخذ الشيء بسرعة عَلَى غفلة.

ص: 157

ولا على الغاصب: وهو الذي يأخذ المال قهراً بغير حق.

ولا على الخائن: وهو الآخذ مما فِي يده منْ الأمانة

لقوله صلى الله عليه وسلم (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) رواه أبوداود.

ولعدم دخولهم في اسم السارق.

‌فائدة:

الحكمة من عدم قطع هؤلاء:

قال النووي: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: صَانَ اللَّه تَعَالَى الْأَمْوَال بِإِيجَابِ الْقَطْع عَلَى السَّارِق، وَلَمْ يُجْعَل ذَلِكَ فِي غَيْر السَّرِقَة كَالِاخْتِلَاسِ وَالِانْتِهَاب وَالْغَصْب؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَة؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِن اِسْتِرْجَاع هَذَا النَّوْع بِالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى وُلَاة الْأُمُور، وَتَسْهُل إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّرِقَة فَإِنَّهُ تَنْدُر إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهَا، فَعَظُمَ أَمْرهَا، وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتهَا لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي الزَّجْر عَنْهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَطْع السَّارِق فِي الْجُمْلَة، وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي فُرُوع مِنْهُ.

وقال ابن القيم: وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضاً؛ فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطعه لسرق النَّاس بعضُهم بعضاً، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسرَّاق، بخلاف المنتهب والمختلس؛ فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلِّصوا حقَّ المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلةٍ من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريطٍ يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه.

وأيضاً: فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالباً، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخلِّيك عنه وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً، فهو كالمنتهب؛ وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال. (إعلام الموقعين).

ص: 158

‌فائدة: 2

هل يقطع من سرق من بيت المال؟

قال ابن قدامة: لا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلماً، ويروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وبه قال الشعبي، والنخعي، والحكم، والشافعي، وأصحاب الرأي.

وقال حماد ومالك وابن المنذر: يقطع، لظاهر الكتاب

اهـ.

وقد انتصر ابن حزم في المحلى لمذهب مالك في القطع.

والسبب في عدم قطع السارق من المال العام عند الجمهور هو شبهة الملك، والحدود تدرأ بالشبهات، وقد اشترطوا في القطع ألا يكون للسارق في المسروق ملك ولا تأويل الملك أو شبهته.

(لكنْ يُقطع جاحد العارية).

أي: أن جاحد العارية تقطع يده.

وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم، وابن القيم.

عَنْ عَائِشَةَ. (أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

الحديث فقال صلى الله عليه وسلم: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنِّي وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا) متفق عليه.

جاء عند مسلم (كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ، وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ الْنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا).

وهي صريحة في أن جاحد العارية يجب عليه القطع.

ص: 159

وذهب بعض العلماء: إلى أن جاحد العارية لا قطع عليه.

وهذا مذهب جمهور العلماء: المالكية، والحنفية، والشافعية، واختاره ابن قدامة.

أ- لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) رواه أبو داود.

وجاحد العارية خائن للأمانة فلا قطع عليه.

ب-أن شرط السرقة الأخذ من الحرز وهتكه، وليس في جحد العارية هتك لحرز فلا قطع عليه.

ج-أن جاحد العارية غير السارق في المعنى، لأن السارق يأخذ المال خفية بخلاف الجاحد، فإنه مؤتمن خائن لأمانته، والقطع واجب على السارق لا على الجاحد.

قال ابن قدامة: وَعَنْهُ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ

، وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا قَطْعَ عَلَى الْخَائِنِ)، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وَالْجَاحِدُ غَيْرُ سَارِقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خَائِنٌ، فَأَشْبَهَ جَاحِدَ الْوَدِيعة. (المغني).

وأجابوا على رواية: (كانت تستعير المتاع فتجحده) بأجوبة:

أولاً: أن هذه المرأة لم تقطع لجحدها العارية، وإنما قطعت لكونها قد سرقت، ويدل على ذلك أمران:

أ- الروايات الأخرى (أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت

).

ب- أن الروايات في قصة المخزومية قد عللت سبب قطعها بالسرقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم

وقال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فهذا دليل على أن قطعها كان لسرقتها.

ثانياً: أن الرواية التي فيها استعارتها للمتاع، وجحدها له، هذا لأنها كانت معروفة بهذه الصفة فسميت بها في هذه الرواية.

قال القرطبي: يترجح أن يدها قطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه: أحدها: قوله في آخر الحديث التي ذكرت فيه العارية: (لولا أن فاطمة سرقت) فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغياً، ولقال: لو أن فاطمة جحدت العارية.

ص: 160

وقال ابن قدامة: وَالْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ إنَّمَا قُطِعَتْ لِسَرِقَتِهَا، لَا بِجَحْدِهَا، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ:(إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ)، وَقَوْلَهُ:(وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَة بِنْت مُحَمَّدٍ، لَقَطَعْت يَدَهَا)، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ رِوَايَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، وَذَكَرَتْ الْقِصَّةَ. (المغني).

وقال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد أَنَّهَا قُطِعَتْ بِالسَّرِقَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْعَارِيَة تَعْرِيفًا لَهَا وَوَصْفًا لَهَا، لَا أَنَّهَا سَبَب الْقَطْع. وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم هَذَا الْحَدِيث فِي سَائِر الطُّرُق الْمُصَرِّحَة بِأَنَّهَا سَرَقَتْ وَقُطِعَتْ بِسَبَبِ السَّرِقَة، فَيَتَعَيَّن حَمْل هَذِهِ الرِّوَايَة عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْن الرِّوَايَات، فَإِنَّهَا قَضِيَّة وَاحِدَة، مَعَ أَنَّ جَمَاعَة مِنْ الْأَئِمَّة قَالُوا: هَذِهِ الرِّوَايَة شَاذَّة: فَإِنَّهَا مُخَالِفَة لِجَمَاهِير الرُّوَاة، وَالشَّاذَّة لَا يُعْمَل بِهَا. قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُر السَّرِقَة فِي هَذِهِ الرِّوَايَة؛ لِأَنَّ الْمَقْصُود مِنْهَا عِنْد الرَّاوِي ذِكْر مَنْع الشَّفَاعَة فِي الْحُدُود، لَا الْإِخْبَار عَنْ السَّرِقَة. قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء وَفُقَهَاء الْأَمْصَار: لَا قَطْع عَلَى مَنْ جَحَدَ الْعَارِيَة، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيث بِنَحْوِ مَا ذَكَرْته، وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق: يَجِب الْقَطْع فِي ذَلِكَ.

ص: 161

وجاء في (طرح التثريب) وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ

وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ، فَإِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِجَمَاهِيرِ الرُّوَاةِ، وَالشَّاذَّةُ لَا يُعْمَلُ بِهَا، حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ رَوَى أَنَّهَا سَرَقَتْ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ رِوَايَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْحَدُ الْمَتَاعَ، وَانْفَرَدَ مَعْمَرٌ بِذِكْرِ الْجَحْدِ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِحِفْظِهِ

الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ قَطْعَها إنَّمَا كَانَ بِالسَّرِقَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْعَارِيَّةُ تَعْرِيفًا لَهَا، وَوَصْفًا؛ لَا لِأَنَّهَا سَبَبُ الْقَطْعِ. وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ؛ فَإِنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَة.

وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالنَّوَوِيِّ عَنْ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ السَّرِقَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا عِنْدَ الرَّاوِي ذِكْرُ مَنْعِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ، لَا الْإِخْبَارِ عَنْ السَّرِقَةِ.

والراجح القول الثاني.

(وكون المسروق نصاباً).

هذا الشرط الثاني من شروط القطع: أن يكون المسروق نصاباً.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قال النووي: وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: وَلَا تُقْطَع إِلَّا فِي نِصَاب لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يشترط النصاب، بل تقطع اليد في القليل والكثير.

ص: 162

قال النووي: فَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: لَا يُشْتَرَط نِصَاب بَلْ وَيُقْطَع فِي الْقَلِيل وَالْكَثِير، وَبِهِ قَالَ اِبْن بِنْت الشَّافِعِيّ مِنْ أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالْخَوَارِج وَأَهْل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى (وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهمَا) وَلَمْ يَخُصُّوا الْآيَة. (نووي).

واستدلوا بالحديث السابق (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده،. . .).

والراجح مذهب الجمهور.

‌فائدة: 1

والنصاب ربع دينار، فلا قطع بسرقة ما دون ذلك.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَلَفْظُ اَلْبُخَارِيِّ: (تُقْطَعُ اَلْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا).

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ (اِقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍ، ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

قال النووي: فَقَالَ الشَّافِعِيّ النِّصَاب رُبْع دِينَار ذَهَبًا، أَوْ مَا قِيمَته رُبْع دِينَار، سَوَاء كَانَتْ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر، وَلَا يُقْطَع فِي أَقَلّ مِنْهُ.

وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ.

وَهُوَ قَوْل عَائِشَة وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْث وَأَبِي ثَوْر وَإِسْحَاق وَغَيْرهمْ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ دَاوُدَ.

وَقَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة: تُقْطَع فِي رُبْع دِينَار أَوْ ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ مَا قِيمَته أَحَدهمَا، وَلَا تُقْطَع فِيمَا دُون ذَلِكَ، وَقَالَ سُلَيْمَان بْن يَسَار وَابْن شُبْرُمَةَ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَن فِي رِوَايَة عَنْهُ: لَا تُقْطَع إِلَّا فِي خَمْسَة دَرَاهِم، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب.

ص: 163

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه: لَا تُقْطَع إِلَّا فِي عَشَرَة دَرَاهِم أَوْ مَا قِيمَته ذَلِكَ.

وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَنَّ النِّصَاب أَرْبَعَة دَرَاهِم.

وَعَنْ عُثْمَان الْبَتِّيّ أَنَّهُ دِرْهَم.

وَعَنْ الْحَسَن أَنَّهُ دِرْهَمَانِ.

وَعَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَة دَنَانِير.

ثم قال: وَالصَّحِيح مَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ.

لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَرَّحَ بِبَيَانِ النِّصَاب فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث مِنْ لَفْظه وَأَنَّهُ رُبْع دِينَار، وَأَمَّا بَاقِي التَّقْدِيرَات فَمَرْدُودَة لَا أَصْل لَهَا مَعَ مُخَالَفَتهَا لِصَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيث.

وَأَمَّا رِوَايَة أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم (قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنّ قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم) فَمَحْمُولَة عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْر كَانَ رُبْع دِينَار فَصَاعِدًا، وَهِيَ قَضِيَّة عَيْن لَا عُمُوم لَهَا، فَلَا يَجُوز تَرْك صَرِيح لَفْظه صلى الله عليه وسلم فِي تَحْدِيد النِّصَاب لِهَذِهِ الرِّوَايَة الْمُحْتَمَلَة، بَلْ يَجِب حَمْلهَا عَلَى مُوَافَقَة لَفْظه، وَكَذَا الرِّوَايَة الْأُخْرَى:(لَمْ يَقْطَع يَد السَّارِق فِي أَقَلّ مِنْ ثَمَن الْمِجَنّ) مَحْمُولَة عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبْع دِينَار، وَلَا بُدّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيل لِيُوَافِق صَرِيح تَقْدِيره صلى الله عليه وسلم. (نووي)

‌فائدة: 2

استدل بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئًا قطعت يده به، سواء كان قليلاً أو كثيرًا.

بحديث (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده،

).

وقد اختلف العلماء في معنى الحديث:

ص: 164

قال جماعة: المراد بها بيضة الحديد، وحبل السفينة، وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار، وأنكره المحققون وضعفوه.

وقيل: المراد التنبيه على عظم ما خسر، وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار، فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة.

وقيل: أراد جنس البيض وجنس الحبل.

وقيل: إنه إذا سرق البيضة فلم تقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع، فكانت سرقة البيضة هي سبب قطعه.

قال النووي: وَالصَّوَاب أَنَّ الْمُرَاد التَّنْبِيه عَلَى عَظِيم مَا خَسِرَ، وَهِيَ يَده فِي مُقَابَلَة حَقِير مِنْ الْمَال وَهُوَ رُبْع دِينَار، فَإِنَّهُ يُشَارِك الْبَيْضَة وَالْحَبْل فِي الْحَقَارَة، أَوْ أَرَادَ جِنْس الْبَيْض وَجِنْس الْحَبْل، أَوْ أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ الْبَيْضَة فَلَمْ يُقْطَع جَرَّهُ ذَلِكَ إِلَى سَرِقَة مَا هُوَ أَكْثَر مِنْهَا فَقُطِعَ، فَكَانَتْ سَرِقَة الْبَيْضَة هِيَ سَبَب قَطْعه، أَوْ أَنَّ الْمُرَاد بِهِ قَدْ يَسْرِق الْبَيْضَة أَوْ الْحَبْل فَيَقْطَعهُ بَعْض الْوُلَاة سِيَاسَة لَا قَطْعًا جَائِزًا شَرْعًا، وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا عِنْد نُزُول آيَة السَّرِقَة مُجْمَلَة مِنْ غَيْر بَيَان نِصَاب، فَقَالَهُ عَلَى ظَاهِر اللَّفْظ؛ وَاللَّهُ أَعْلَم. (نووي).

وقال ابن كثير: وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة (يَسْرقُ البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) بأجوبة:

أحدها: أنه منسوخ بحديث عائشة، وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ.

والثاني: أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه.

والثالث: أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده.

ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة. (تفسير ابن كثير).

ص: 165

(وأخرجَه من حرز، فلو قطعَ من غيرِ حرزٍ فلا قطع).

هذا الشرط الثالث من شروط القطع: أن تكون السرقة من حرز.

وهذا قول جماهير العلماء

قال ابن قدامة: الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْرِقَ مِنْ حِرْزٍ، وَيُخْرِجَهُ مِنْهُ.

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

ففرَّق الرسول صلى الله عليه وسلم بين من أخذ من التمر وهو على الشجر ومن أخذ منه بعد نقله إلى الجرين، فالأول لا قطع عليه، وإنما يعزر، والثاني عليه القطع، والفرق بينهما: أن الأول أخذ التمر من غير حرز، والثاني أخذه من الحرز.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل عند جمهور أهل العلم في مراعاة الحرز واعتباره في القطع

قال أبو عبيد: الثمر المعلق هو الذي في رؤوس النخل لم يُجَذْ ولم يحرز في الجرين " انتهى. (التمهيد).

وقال الصنعاني: أُخِذَ مِنْهُ اِشْتِرَاط الْحِرْز فِي وُجُوب الْقَطْع؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (بَعْد أَنْ يَأْوِيه الْجَرِين).

ص: 166

وقال القرطبي: تنبيه: آيةُ السَّرقة وردت عامة مطلقة، لكنها مخصَّصة مقيَّدة عند كافة العلماء؛ إذ قد خرج من عموم السَّارق من سرق أقل من نصاب، وغير ذلك. وتقيَّدت باشتراط الحِرز، فلا قطع على من سرق شيئًا من غير حرز بالإجماع، إلا ما شذَّ فيه الحسن، وأهل الظاهر، فلم يشترطوا الحِرز. (المفهم).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَلَا يَكُونُ السَّارِقُ سَارِقًا حَتَّى يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ حِرْزٍ. فَأَمَّا الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ صَاحِبِهِ وَالثَّمَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الشَّجَرِ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا حَائِطٍ، وَالْمَاشِيَةُ الَّتِي لَا رَاعِيَ عِنْدَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ، لَكِنْ يُعَزَّرُ الْآخِذُ وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ، كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ " انتهى

(وحِرز كل مال: ما حفظ فيه عادة).

أي: أن حرز كل شيء ما حفظ فيه عادة، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره، فحرز النقود غير حرز الماشية، وكذا حرز الأطعمة والأمتعة وغيرها.

(وانتفاء الشبهة: فلا قطع في بسرقته من مال فروعه وأصوله).

هذا الشرط الرابع من شروط القطع: انتفاء الشبهة.

والشبهة: هي كل ما يمكن أن يكون عذراً للسارق في الأخذ.

فلو سرق الابن من مال أبيه فلا قطع، لوجود شبهة إنفاق، لأن نفقة كل واحد منهما تجب في مال الآخر.

ولو سرق الأب من مال ابنه فلا قطع، لوجود شبهة، وهي شبهة التملك والتبسط به.

فالأصول والفروع لا يقطع بعضهم بالسرقة من مال بعض.

وذهب بعض العلماء: إلى أن كل قريب سرق من قريبه يقطع، إلا الأب إذا سرق من مال ولده فلا يقطع.

لعموم الأدلة الدالة على وجوب القطع، واستثني الأب لحديث (أنت ومالك لأبيك).

ص: 167

وهذا مذهب الشافعي.

وذهب بعض العلماء: أن من وجبت نفقته لم يقطع بالسرقة منه وإلا قطع.

وهذا القول فيه قوة وكذلك الذي قبله.

(وزوجته).

أي: لا يقطع أحد الزوجين بسرقته من مال الآخر.

لأن كل منهما يرث صاحبه بغير حجب، ويتبسط في مال الآخر عادة، فأشبه الوالد والولد.

وقيل: يقطع لعموم الآية.

وقيل: يقطع الزوج ولا تقطع الزوجة، لأن لها النفقة في مال زوجها.

(ومنها: أن يكون المسروق مالاً محترماً).

هذا الشرط الخامس من شروط القطع: أن يكون المسروق مالاً محترماً.

المال المحترم: مثل الثياب والطعام والدراهم والكتب وغيرها.

فلا قطع في سرقة آلة لهو كالمزمار والعود والربابة لتحريمها.

ص: 168

(فمتى توفرت الشروط قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحُسِمتْ).

أي: متى توفرت الشروط السابقة فإن الواجب قطع يده اليمنى من مفصل الكف.

لقوله تعالى (فاقطعوا أيهما).

وقد روي عن ابن مسعود أنه قرأ: فاقطعوا أيمانهما.

قال ابن كثير: وهي قراءة شاذة، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقاً لها، لا بها، بل هو مستفاد من دليل آخر.

وقال ابن قدامة: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ السَّارِقَ أَوَّلُ مَا يُقْطَعُ مِنْهُ، يَدُهُ الْيُمْنَى، مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ، وَهُوَ الْكُوعُ.

وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُود (فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا) وَهَذَا إنْ كَانَ قِرَاءَةً وَإِلَّا فَهُوَ تَفْسِيرٌ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا سَرَقَ السَّارِقُ، فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنْ الْكُوعِ. وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَقْوَى، فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهَا أَرْدَعَ؛ وَلِأَنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ، فَنَاسَبَ عُقُوبَتَهُ بِإِعْدَامِ آلَتِهَا. (المغني)

قال القرطبي: لا خلاف في أن اليمنى هي التي تقطع أولاً.

قوله (من مفصل الكف) أي: دون الذراع، وإنما وجب قطعها من هنا لا إلى المرفق، لأن الله أطلق ولم يقيد، واليد عند الإطلاق تحمل على الكف.

قوله (وحُسِمتْ) أي: حسم الدم أي قطعه، وذلك بأن يفلى زيت أو دهن ثم تغمس فيه وهو يغلي، فإذا غمست فيه وهو يغلي تسددت أفواه العروق.

وإنما وجب حسمها: لأنها لو تركت لنزف الدم ومات.

ص: 169

جاء في (الموسوعة الفقهية) الْحَسْمُ فِي اللُّغَةِ: يَأْتِي بِمَعْنَى الْقَطْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ السَّارِقِ: اقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ أَيِ اكْوُوهُ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ، وَحَسَمَ الْعِرْقَ: قَطَعَهُ، ثُمَّ كَوَاهُ لِئَلاَّ يَسِيل دَمُهُ.

وَيَأْتِي الْحَسْمُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَنْعِ.

وَهُوَ فِي الاِصْطِلَاحِ: أَنْ يَغْمِسَ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فِي السَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا فِي زَيْتٍ أَوْ دُهْنٍ مَغْلِيٍّ، أَوِ الْكَيُّ بِحَدِيدَةٍ مُحْمَاةٍ لِتَنْسَدَّ أَفْوَاهُ الْعُرُوقِ وَيَنْقَطِعَ الدَّمُ. (الموسوعة).

(ويسن تعليقها في عنقه ثلاثة أيام إن رآه الإمام).

أي: يُسَنُّ تَعْلِيقُ الْيَدِ فِي عُنُقِهِ.

لِمَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَارِقٍ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.

وَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ صلى الله عليه وسلم.

وَلِأَنَّ فِيهِ رَدْعًا وَزَجْرًا. (المغني).

لكن الحديث ضعيف لا يصح.

وقال النسائي عقب روايته لهذا الحديث: " الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ضَعِيفٌ، وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ ".

وكذلك ضعفه الألباني.

لكن ثبت هذا من فعل علي.

فروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ عَلِيًّا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، ثُمَّ عَلَّقَهَا فِي عُنُقِه).

فذهب طائفة من أهل العلم إلى استحباب تعليق يد السارق المقطوعة في عنقه؛ ردعا لأمثاله، وقيد بعضهم ذلك بما إذا رأى

الإمام المصلحة فيه.

ص: 170

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَيُسَنُّ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - تَعْلِيقُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ، رَدْعًا لِلنَّاسِ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ، وَقَدْ حَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ مُدَّةَ التَّعْلِيقِ بِسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُحَدِّدُوا مُدَّةَ التَّعْلِيق.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْيَدِ لَا يُسَنُّ، بَل يُتْرَكُ الأْمْرُ لِلإمَامِ، إِنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً فَعَلَهُ، وَإِلاَّ فَلَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ شَيْئًا عَنْ تَعْلِيقِ الْيَدِ " انتهى.

(فإنْ عادَ قُطعتْ رجله اليسرى من مفصل الكعب).

أي: إن عاد للسرقة بعد قطع يده اليمنى قطعت قدمه اليسرى.

قال ابن قدامة: وَإِذَا سَرَقَ ثَانِيًا، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى.

وَبِذَلِكَ قَالَ الْجَمَاعَةُ إلَّا عَطَاءً، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وَلِأَنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ وَالْبَطْشِ، فَكَانَتْ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَبِيعَةَ، وَدَاوُد.

وَهَذَا شُذُوذٌ، يُخَالِفُ قَوْلَ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ، مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ.

ثم قال ابن قدامة:. . . وَلِأَنَّ قَطْعَ يَدَيْهِ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، فَلَا تَبْقَى لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا، وَلَا يَتَوَضَّأُ، وَلَا يَسْتَطِيبُ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ كَالْهَالِكِ، فَكَانَ قَطْعُ الرِّجْلِ الَّذِي لَا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى.

وَلِأَنَّ قَطْعَ الْيُسْرَى أَرْفَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَى خَشَبَةٍ، وَلَوْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ بِحَالٍ. (المغني).

-وتقطع الرجِل من مفصل الكعب.

ص: 171

قال ابن قدامة: وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنْ مَفْصِلِ الْكَعْبِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ عُمَر.

وقال القرطبي: فقال الكافة: تقطع (يعني اليد) من الرسغ، والرجِل من المفصل، ويحسم الساق إذا قطع.

(فإنْ عاد لم يقطع وحُبِس).

أي: فإن عاد وسرق بعد قطع يده اليمنى ورجله اليسرى فسرق ثالثاً حبس ولا يقطع.

وهذا هو مذهب الحنفية والمعتمد لدى الحنابلة.

قال ابن قدامة: يَعْنِي إذَا عَادَ فَسَرَقَ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ وَحُبِسَ.

وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يقطع في الثالثة يسري يديه وفي الرابعة يمنى رجليه فإن سرق خامسة عزر.

وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.

‌فائدة: 1

هل يجوز رد اليد بعد قطعها؟

لا يجوز.

لأن هذا خلاف مقصود الشارع، فليس مقصود الشارع الإيلام فقط حتى نقول: إنه حصل بقطعها، وإنما مقصود الشارع أن يبقى، وليس له يد. (الشرح الممتع).

‌فائدة: 2

هل يجوز أن يبنج محل القطع حتى لا يحس به المقطوع؟

نعم يجوز ذلك.

لأن المقصود هو إتلاف اليد، وهو حاصل سواء بنج أم لم يبنج.

‌فائدة: 3

هل يجوز ذلك في اليد المقطوعة قصاصاً؟

لا يجوز.

لأننا لو بنجناها لم يتم القصاص. (شرح البلوغ لابن عثيمين).

ص: 172

(ولا تثبتُ السرقةُ إلا بشهادة عدلين).

أي: أن السرقة تثبت السرقة بشهادة عدلين.

وهذا متفق عليه عند أهل العلم كما حكاه ابن رشد وابن قدامة.

فلا تثبت عقوبة القطع بشهادة رجل واحد، ولا بشهادة النساء.

(أو اعترافٍ مرتين).

أي: أن السرقة تثبت بالإقرار.

والمذهب لابد أن يكون الاعتراف مرتين.

أ-لحديث أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ (أُتِيَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ»، قَالَ: بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ، وَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ:«اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» ، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» ثَلَاثًا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ.

ب- ولأنه يتضمن إتلافاً في حد، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا.

والصحيح أنه يكفي الإقرار مرة واحدة.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قياساً على القصاص وحد القذف، فإنه يكفي فيه الإقرار مرة واحدة.

والحديث - على فرض صحته - فالمراد به الاستثبات.

ص: 173

(ولا يُقطعُ حتى يطالبُ المسروقُ منهُ بمالِه).

من شروط القطع: أن يطالب المسروق منه بماله، فإن لم يطالب فإنه لا يقطع، ولو ثبتت السرقة.

وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.

أ-أن الجناية على مال الغير لا تثبت إلا بالخصومة والمطالبة، فإذا لم يطالب المسروق منه بماله فلا خصومة، وحينئذ فلا يقام الحد.

ب-أن قطع السارق شرع لصيانة مال الآدمي فله به تعلق وحق، فلم يستوف من غير مطالبته به.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا تشترط المطالبة.

وهذا مذهب مالك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

أ-لأن النصوص التي توجب إقامة حد السرقة عامة ليس فيها اشتراط مطالبة المسروق منه بماله، كقوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا

أَيْدِيَهُمَا).

ب- لحديث صَفْوَان بْنِ أُمَيَّة قَالَ (كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَيَّ خَمِيصَةٌ لِي ثَمَنُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأُخِذَ الرَّجُلُ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا؟ قَالَ: فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِه) رواه أبو داود.

ص: 174

جاء في رواية (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهُ) وفي رواية الأوزاعيّ (يا رسول الله، هو له) وفي رواية عكرمة (ما كنت أردت أن تُقطع يده فِي ردائي).

(قَالَ: فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِه) أي: قبل أن ترفعه إليّ متحاكمًا، يعني أنه لو تركه قبل إحضاره عنده صلى الله عليه وسلم ليحكم به لنفعه ذلك، وأما بعد رفعه، وثبوت السرقة عليه، فالحقّ للشرع، لا للمالك.

وجه الدلالة: أن المسروق منه - وهو صفوان بن أمية - لم يطالب بالمسروق، ومع ذلك أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حد السرقة، وبيّن أن عدم المطالبة إنما ينفع قبل رفع أمر السارق إليه، فهذا دليل صريح على أنه لا يشترط مطالبة المسروق منه.

ج- أن قطع السارق حق لله، فوجب أن يقام على من ثبت عليه من دون انتظار المسروق منه ومطالبته كحد الزنا، فإنه يقام على الزاني، وإن لم يحضر المزني بها.

وهذا القول هو الصحيح، لما في ذلك من حفظ الأموال واستتاب الأمن.

‌فائدة:

أن تجاوز المسروق منه عن السارق بعد رفعه إلى الإمام لا يجوز.

قال ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: لا أعلم بين أهل العلم اختلافاً فِي الحدود، إذا بلغت إلى السلطان، لم يكن فيها عفو، لا له ولا لغيره، وجائز للناس أن يتعافوا الحدود ما بينهم، ما لم يبلغ السلطان، وذلك محمود عندهم.

ص: 175

(وإنْ قُطعَ فعليه رد المسروق إن كان باقياً، أو قيمتُه إن كان تالفاً).

قَالَ ابن قدامة: لا يختلف أهل العلم فِي وجوب رد العين المسروقة عَلَى مالكها، إذا كانت باقية.

فَأَمَّا إنْ كَانَتْ تَالِفَةً، فَعَلَى السَّارِقِ رَدُّ قِيمَتِهَا، أَوْ مِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا.

وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَالْبَتِّيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.

ثم قال: وَلَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ يَجِبُ ضَمَانُهَا بِالرَّدِّ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً، فَيَجِبُ ضَمَانُهَا إذَا كَانَتْ تَالِفَةً، كَمَا لَوْ لَمْ يُقْطَعْ.

وَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ حَقَّانِ يَجِبَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ، فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا، كَالْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ فِي الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ الْمَمْلُوكِ. (المغني).

وقال في (سبل السلام): وذهب الشافعي وأحمد وآخرون ورواية عن أبي حنيفة إلى أنه يغرم.

أ- لقوله صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه).

وحديث عبد الرحمن هذا لا تقوم به حجة مع ما قيل فيه.

ب- ولقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل).

ج- ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه).

د- ولأنه اجتمع في السرقة حقان حق لله تعالى وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه.

هـ- ولأنه قام الإجماع أنه إذا كان موجوداً بعينه أخذ منه، فيكون إذا لم يوجد في ضمانه قياساً على سائر الأموال الواجبة.

ولا يخفى قوة هذا القول. (سبل السلام).

ص: 176

‌فائدة: 1

تحرم الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان.

قال ابن قدامة رحمه الله: ولا بَأْسَ بِالشَّفَاعَةِ فِي السَّارِقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ،

فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ وَجَب).

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْإِمَامَ، لَمْ تَجُزْ الشَّفَاعَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إسْقَاطُ حَقٍّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَفَعَ أُسَامَةُ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، وَقَالَ:(أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى)، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِه. (المغني).

وقال النووي: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم الشَّفَاعَة فِي الْحَدّ بَعْد بُلُوغه إِلَى الْإِمَام، لِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَعَلَى أَنَّهُ يَحْرُم التَّشْفِيع فِيهِ، فَأَمَّا قَبْل بُلُوغه إِلَى الْإِمَام فَقَدْ أَجَازَ الشَّفَاعَة فِيهِ أَكْثَر الْعُلَمَاء إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوع فِيهِ صَاحِب شَرٍّ وَأَذًى لِلنَّاسِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْفَع فِيهِ. وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَوَاجِبهَا التَّعْزِير فَتَجُوز الشَّفَاعَة وَالتَّشْفِيع فِيهَا، سَوَاء بَلَغَتْ الْإِمَام أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا أَهْوَن، ثُمَّ الشَّفَاعَة فِيهَا مُسْتَحَبَّة إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوع فِيهِ صَاحِب أَذًى وَنَحْوه. (نووي).

وقد ترجم البخاري - بباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان.

ص: 177

ويؤيد هذا ما ورد في بعض روايات هذا الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لأسامة لما تشفع (لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة).

وأخرج أبو داود حديث عمرو بن شعيب عَنْ أَبِيِهِ عن جده يرفعه (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) وصححه الحاكم، ترجم له أبو داود: العفو عن الحد ما لم يبلغ السلطان.

وأخرج أبو داود والحاكم، وصححه من حديث ابن عمر، قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه، فقد ضاد اللَّه في أمره).

وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قَالَ: (لقي الزبير سارقاً فشفع فيه فقيل: حتى يبلغ الإمام، فقال: إذا بلغ الإمام فلعن اللَّه الشافع والمشفع).

فلا يجوز للإمام العفو عن الحد، ولا تجوز الشفاعة فيه إذا وصل الأمر إلى الحاكم.

ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن الجارود، والحاكم، عن صفوان بن أمية رضي الله عنه: أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟).

‌فائدة: 2

هل يقتل السارق في المرة الخامسة؟

جاء في حديث جَابِر قَالَ (جِيءَ بِسَارِقٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا سَرَقَ. قَالَ: «اقْطَعُوهُ» فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ» فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الْخَامِسَةَ، فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَاسْتَنْكَرَهُ.

ص: 178

ذهب جماهير العلماء إلى أن من تكرر منه السرقة للمرة الرابعة وما بعدها أنه يعزر بالحبس ونحوه ولا يقتل.

فهذا مذهب المالكية، والحنابلة، والمشهور من مذهب الحنفية، والشافعية.

‌وأجابوا عن حديث جابر السابق بعدة مسالك:

‌المسلك الأول: أنه حديث لا يصح.

قَالَ النسائي: وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ.

وقَالَ الخطّابيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث فِي بعض إسناده مقال، وَقَدْ عارض الْحَدِيث الصحيح، وهو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يحلّ دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس"، والسارق ليس بواحد منْ الثلاثة، فالوقوف عن دمه واجبٌ، ولا أعلم أحدا منْ الفقهاء، يبيح دم السارق، وإن تكررت منه السرقة مرّة بعد أخرى.

ومنهم ابن حجر إذ تعقب أسانيده بالتضعيف.

ومنهم الزيلعي حيث تعقب أسانيده بالتضعيف أيضاً.

ومنهم ابن عبد البر إذ قال (حديث القتل منكر لا أصل له).

وهذا المسلك هو الذي تقتضيه قواعد النقد وأصول المنهج في البحث والله أعلم. (الحدود عند ابن القيم).

‌المسلك الثاني: أن هذا الحديث جاء في حق رجل مستحق للقتل.

قال ابن القيم: ومنهم من يحسنه ويقول: هذا حكم خاص بذلك الرجل وحده لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المصلحة في قتله.

ص: 179

وقال ابن حجر: وقال بعضهم هو خاص بالرجل المذكور فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه واجب القتل ولذلك أمر بقتله من أول مرة.

‌المسلك الثالث: أن هذا الحديث منسوخ.

وهذا محكي عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

حكاه ابن حجر، والآبادي، ومن قبلهما البيهقي رحمهم الله تعالى.

‌المسلك الرابع: حمل الحكم بقتله على أنه كان من المفسدين في الأرض.

حكى، الخطابي، وابن حجر، والآبادي، على أن هذا الحديث قد يخرج على مذاهب بعض الفقهاء، وهو أن يكون هذا من المفسدين في الأرض، فيكون هذا من باب العقوبة التعزيرية للمفسدين في الأرض، وهذا يعزى للإمام مالك رحمه الله تعالى.

‌تنبيه:

هل قال أحد بموجب الحديث؟

قال ابن القيم: وطائفة ثالثة تقبله وتقول به، وأن السارق إذا سرق خمس مرات قتل في الخامسة وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو مصعب من المالكية.

وقال ابن حجر: وقيل يقتل في الخامسة قاله: أبو مصعب الزهري المدني صاحب مالك.

وهذا المسلك مبني على القول بقبول الحديث وصحته.

ص: 180

‌باب حد قطاع الطريق

(وهم الذين يخرجون على الناس، ويقطعون الطريق عليهم بنهب أو قتل).

(فمن قتل منهم وأخذ مالاً: قُتِل وصُلب، ومن قَتَل: تحتم قتله، ومن أخذ مالاً: قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن أخاف الناس: نُفيَ من الأرض).

هذا بيان الحكم الشرعي للمحاربين.

كما قال تعالى (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْض ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

فمن جمع بين القتل وأخذ المال: فهذا يقتل ويصلب.

ومن قتل ولم يأخذ المال: فهذا يقتل ولا يصلب.

ومن أخذ المال ولم يقتل: فهذا تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى.

ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالاً: فإنه ينفى من الأرض.

-اختلف في هذه الآية (أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم .... ) هل هي على التخيير أم الترتيب:

فقيل: على التخيير (فالإمام يخير بين القتل أو الصلب أو النفي) لأن (أو) تقتضي التخيير.

وقيل: ليست على التخيير ويكون حكمهم كالتالي:

إذا قتلوا وأخذوا المال، فإنهم يقتلون ويصلبون.

وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، فإنهم يقتلون ولا يصلبون.

ص: 181

وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم (اليمين) وأرجلهم (اليسرى).

وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً نفوا.

هذا الترتيب في حكمهم وهو قول جمهور العلماء.

- إذا أخذ مالاً ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ويقطعان معاً، لأن الله قال (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) والواو للجمع والاشتراك.

- فإذا لم يقتل ولم يسرق فإنه ينفى، فلا يُترك يأوي إلى بلد، وهذا قول الحنابلة لظاهر الآية (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)

وذهب بعض العلماء - وهو قول الحنفية والشافعية - أن النفي هو السجن.

وذهب بعض العلماء - وهو قول لمالك واختاره ابن جرير والشنقيطي - أنه ينفى إلى بلد آخر ويُسجن فيه.

ولا يزال منفياً حتى تظهر توبته.

‌فائدة: 1

إذا قتل فإنه يتحتم قتله، فيقام عليه القصاص، وليس فيه خيار لأولياء المقتول، لأن القتل هنا ليس قصاصاً، ولكنه حد، فلا يجوز العفو عنه، وآية المحاربة بينت أن عقوبة القتل عقوبة تثبت جزاء المحاربة لله تعالى، وما كان كذلك فهو حق لله تعالى لا يجوز إسقاطه، ولأن ضرر هذه الجريمة ضرر عام للمجتمع بأسره غير مختص بالمجني عليه.

‌فائدة: 2

إذا قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب، لقوله تعالى (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا).

والصلب: أن يربط على خشبة لها يدان معترضتان وعود قائم.

ص: 182

قيل: يقتل ثم يصلب، وقيل: بل يصلب قبل القتل، والله أعلم.

والراجح في مدة الصلب، أنه يصلب حتى يشتهر أمره، لأن المقصود يحصل به.

‌فائدة: 3

هل هناك فرق بين كون المحاربين لله ورسوله والسعي في الأرض فساداً في الأمصار أو في الطرق؟

قيل: هو خاص بمن يقطع الطريق بالصحراء دون البنيان.

وقيل: لا فرق بين كون ذلك في الأمصار أو في الصحراء، وهذا قول جمهور العلماء.

لعموم الآية.

قال ابن تيمية: بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء، لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة.

‌فائدة: 4

قال الشنقيطي: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا) فَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُحَارِبِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَهُمَا الْمُحَارَبَةُ، وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَلَمْ يَخُصَّ شَرِيفًا مِنْ وَضِيعٍ، وَلَا رَفِيعًا مِنْ دَنِيءٍ. اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمُكَافَأَةِ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ، إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ عَفْوَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَّابَةِ لَغْوٌ لَا أَثَرَ لَهُ، وَعَلَى الْحَاكِمِ قَتْلُ الْمُحَارِبِ الْقَاتِلِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةُ قِصَاصٍ خَالِصٍ، بَلْ هُنَاكَ تَغْلِيظٌ زَائِدٌ مِنْ جِهَةِ الْمُحَارَبَةِ. (الأضواء).

ص: 183

‌فائدة: 5

إذا تاب المحاربون بعد القدرة عليهم، فتوبتهم حينئذ لا تغير شيئاً من إقامة الحدود المذكورة عليهم، وأما إن جاؤوا تائبين قبل القدرة عليهم،

فليس للإمام عليهم حينئذ سبيل. لأنهم تسقط عنهم حدود الله، وتبقى عليهم حقوق الآدميين، فيقتص منهم في الأنفس والجراح، ويلزمهم غرم ما أتلفوه من الأموال، ولولي الدم حينئذ العفو إن شاء، ولصاحب المال إسقاطه عنهم.

وهذا قول أكثر العلماء مع الإجماع على سقوط حدود الله عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم، كما هو صريح قوله تعالى (إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ) الآية، وإنما لزم أخذ ما بأيديهم من الأموال، وتضمينهم ما استهلكوا. لأن ذلك غصب، فلا يجوز لهم تملكه.

(ويُدفعُ صائلٌ بالأخفِ فالأخفَّ، فإنْ لم يندفعْ إلا بالقتل فلا ضمان، ويلزمُ الدفعُ عن نفسهِ وحرمتهِ دون مالهِ).

الصائل: الصول في اللغة: التعدي.

وأما في الاصطلاح: فهو التعدي على النفس أو المال أو العرض.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَالصَّائِل هُوَ مَنْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِشَرٍّ سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّائِل مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا أَمْ عَبْدًا أَمْ حُرًّا أَمْ صَبِيًّا أَمْ مَجْنُونًا أَمْ بَهِيمَةً، فَيَجُوزُ دَفْعُهُ عَنْ كُل مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ، أَوْ طَرَفٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَعَنِ الْبُضْعِ، وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَعَنِ الْمَال وَإِنْ قَل.

ص: 184

فإذا صال على الإنسان يعنى أراد نفسه أو ماله أو عرضه فإنه يدفعه بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بقتله فلا ضمان لا شيء عليه.

أ- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي قَالَ «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي قَالَ «قَاتِلْهُ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي قَالَ «فَأَنْتَ شَهِيدٌ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ قَالَ «هُوَ فِي النَّارِ) رواه مسلم.

ب- وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) متفق عليه.

قال النووي: وَفِيهِ جَوَاز قَتْل الْقَاصِد لِأَخْذِ الْمَال بِغَيْرِ حَقّ سَوَاء كَانَ الْمَال قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِعُمُومِ الْحَدِيث.

وَهَذَا قَوْلٌ لِجَمَاهِير الْعُلَمَاء.

وَقَالَ بَعْض أَصْحَاب مَالِك: لَا يَجُوز قَتْله إِذَا طَلَبَ شَيْئًا يَسِيرًا كَالثَّوْبِ وَالطَّعَام وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالصَّوَاب مَا قَالَهُ الْجَمَاهِير.

وقال القرطبي: مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلماً، للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتاً دون وقت، ولا حالاً دون حال إلا السلطان. فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه. (التفسير).

وجاء في (الموسوعة الفقهية) إِنْ قَتَل الْمَصُول عَلَيْهِ الصَّائِل دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ وَنَحْوِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ.

ص: 185

‌فائدة: 1

كيفية مقاتلة الصائل:

قال العلماء: لا يقتله بمجرد طلبه، بل يدافع بالأسهل فالأسهل، فإن دفع بالأسهل لم يجز ما فوقه، وإن لم يندفع إلا بالقتل فليقتله، فإن كان يندفع بقطع يديه، بأن يكون مع المعتدى عليه سيف يستطيع أن يبتر به يديه، فإنه لا يجوز أن يقتله، لأن قطع اليدين أهون من القتل.

فقد جاء في رواية (فانشده بالله) وفي رواية (ذكّره بالله).

‌فائدة: 2

أنه لا فرق بين أن يكون المال قليلاً أو كثيراً لعموم الحديث وهو قول الجماهير من العلماء، كما تقدم.

وقال بعض أصحاب مالك لا يجوز قتله إذا طلب شيئاً يسيراً كالثوب والطعام، وهذا ليس بشيء والصواب ما قاله الجماهير.

قال الشوكاني: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُقَاتَلَةُ مَنْ أَرَادَ أَخْذَ مَالِ إنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إذَا كَانَ الْأَخْذُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَالْحَافِظُ فِي الْفَتْح.

‌فائدة: 3

هل دفع الصائل واجب أم لا؟

‌أولاً: الدفاع عن المال واجب أم مباح؟

أكثر العلماء على أنه مباح غير واجب.

فالمعتدى عليه مخير بين أن يدفع عن ماله، وبين أن يعطيه المال.

ص: 186

قال النووي: وَالْمُدَافَعَة عَنْ الْمَال جَائِزَة غَيْر وَاجِبَة.

‌ثانياً: الدفاع عن العرض.

يجب الدفاع عن العرض.

لحديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) رواه النسائي.

قال النووي: وَأَمَّا الْمُدَافَعَة عَنْ الْحَرِيم فَوَاجِبَة بِلَا خِلَاف.

‌ثالثاً: الدفاع عن النفس.

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ دَفْعِ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا.

فقيل: يجب، وقيل: يجب إلا في وقت الفتنة، وقيل: لا يجب إذا كان الصائل مسلماً.

جاء في (الموسوعة الفقهية) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ دَفْعِ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الصَّائِل كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، عَاقِلاً أَوْ مَجْنُونًا، بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا، مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ ....

وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ:

أ-بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

فَالاِسْتِسْلَامُ لِلصَّائِل إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ لِلتَّهْلُكَةِ، لِذَا كَانَ الدِّفَاعُ عَنْهَا وَاجِبًا.

ص: 187

ب-وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

ج-وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ، فَهُوَ شَهِيد).

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِل كَافِرًا، وَالْمَصُول عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَجَبَ الدِّفَاعُ

أمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِل مُسْلِمًا غَيْرَ مَهْدُورِ الدَّمِ فَلَا يَجِبُ دَفْعُهُ فِي الأْظْهَرِ، بَل يَجُوزُ الاِسْتِسْلَامُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّائِل صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَسَوَاءٌ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ ....

عن بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي» قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي؟ قَالَ: «كُنْ كَابْنِ آدَمَ).

وعَنِ الحَسَنِ، قَالَ: خَرَجْتُ بِسِلَاحِي لَيَالِيَ الفِتْنَةِ، فَاسْتَقْبَلَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ نُصْرَةَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَوَاجَهَ المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ» قِيلَ: فَهَذَا القَاتِلُ، فَمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِه).

وَلأِنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه تَرَكَ الْقِتَال مَعَ إِمْكَانِهِ، وَمَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ نَفْسَهُ، وَمَنَعَ حُرَّاسَهُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْهُ - وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ يَوْمَ الدَّارِ وَقَال: مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.

ص: 188

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِل عَنِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْفِتْنَةِ.

لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

وَلأِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْل نَفْسِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا.

أَمَّا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ.

لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ).

وَلأِنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه تَرَكَ الْقِتَال عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ غَيْرَهُ قِتَالَهُمْ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لأَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. . . . اهـ (الموسوعة الفقهية)

‌فائدة: 4

ما الحكم إن قتل المصول عليه الصائل؟

إِنْ قَتَل الْمَصُولُ عَلَيْهِ الصَّائِل دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ وَنَحْوِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لأِنهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ.

أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ الصَّائِل مِنْ قَتْل الْمَصُول عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.

ص: 189

‌فائدة: 5

كيف يدفع الصائل؟

تقدم أنه يدفع بالأخف فالأخف.

جاء في (الموسوعة الفقهية) يُدْفَعُ الصَّائِل بِالأْخَفِّ فَالأْخَفِّ إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِكَلَامٍ أَوِ اسْتِغَاثَةٍ بِالنَّاسِ حَرُمَ الضَّرْبُ، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِضَرْبٍ بِيَدٍ حَرُمَ بِسَوْطٍ، أَوْ بِسَوْطٍ حَرُمَ بِعَصًا، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِقَطْع عُضْوٍ حَرُمَ دَفْعُهُ بِقَتْلٍ، لأِنَّ ذَلِكَ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الأْثْقَل مَعَ إِمْكَانِ تَحْصِيل الْمَقْصُودِ بِالأْخَفِّ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عُدِيَ عَلَى مَالِي؟ قَالَ: " انْشُدِ اللهَ، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ، قَالَ: " انْشُدِ اللهَ "، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ، قَالَ: " فَانْشُدِ اللهَ "، قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ، قَالَ: " فَقَاتِلْ، فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِي النَّارِ) رواه أحمد.

قال الشوكاني: ولكنه ينبغي تقديم الأخف فالأخف فلا يعدل المدافع إلى القتل مع امكان الدفع بدونه ويدل على ذلك امره صلى الله عليه وسلم بإنشاد الله قبل المقاتلة.

‌فائدة: 6

هل يستثنى من ذلك شيء؟

اسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا مِنْهَا:

أ - لَوْ كَانَ الصَّائِل يَنْدَفِعُ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا وَنَحْوِهِمَا، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ إِلاَّ السَّيْفَ فَلَهُ الضَّرْبُ بِهِ، لأِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إِلاَّ بِهِ، وَلَيْسَ بِمُقَصِّرٍ فِي تَرْكِ اسْتِصْحَابِ السَّوْطِ وَنَحْوِهِ.

ب - لَوِ الْتَحَمَ الْقِتَال بَيْنَهُمَا، وَاشْتَدَّ الأْمْرُ عَنِ الضَّبْطِ فَلَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا لَدَيْهِ، دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ.

ص: 190

ج - إِذَا ظَنَّ الْمَصُولُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّائِل لَا يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْل فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا إِنْ خَافَ أَنْ يَبْدُرَهُ بِالْقَتْل إِنْ لَمْ يَسْبِقْ هُوَ بِهِ فَلَهُ ضَرْبُهُ بِمَا يَقْتُلُهُ، أَوْ يَقْطَعُ طَرَفَهُ. وَيُصَدَّقُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ التَّخَلُّصِ بِدُونِ مَا دَفَعَ بِهِ، لِعُسْرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ.

د - إِذَا كَانَ الصَّائِل مُهْدَرَ الدَّمِ - كَمُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ وَزَانٍ مُحْصَنٍ - فَلَا تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي حَقِّهِ بَل لَهُ الْعُدُول إِلَى قَتْلِهِ، لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ.

‌فائدة: 7

هل يجب عليه الهرب إذا أمكنه ذلك؟

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْمَصُول عَلَيْهِ أَنْ يَهْرُبَ أَوْ يَلْتَجِئَ إِلَى حِصْنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ حَاكِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِتَال، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ بِالأْهْوَنِ فَالأْهْوَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِل إِلَى الأْشَدِّ مَعَ إِمْكَانِ الأْسْهَل وَلأِنَّهُ أَمْكَنَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ إِضْرَارِ غَيْرِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ.

‌فائدة: 8

في الحديث: أن من قتل دون ماله فهو شهيد.

المراد أنه شهيد الآخرة دون الدنيا، بل يغسل ويكفن ويصلى عليه. لأن الشهداء أقسام.

ص: 191

قال النووي: اعلم أن الشهيد ثلاثة أقسام:

أحدها: المقتول في حرب الكفار بسبب من أسباب القتال.

فهذا له حكم الشهداء في ثواب الآخرة وفى أحكام الدنيا، وهو أنه لا يغسل ولا يصلى عليه.

والثاني: شهيد في الثواب دون أحكام الدنيا.

وهو المبطون، والمطعون، وصاحب الهدم، ومن قتل دون ماله، وغيرهم ممن جاءت الأحاديث الصحيحة بتسميته شهيداً، فهذا يغسل ويصلى عليه وله في الآخرة ثواب الشهداء، ولا يلزم أن يكون مثل ثواب الأول.

والثالث: من غل في الغنيمة وشبهه ممن وردت الآثار بنفي تسميته شهيداً إذا قتل في حرب الكفار.

فهذا له حكم الشهداء في الدنيا، فلا يغسل ولا يصلى عليه وليس له ثوابهم الكامل في الآخرة.

وقال النووي في المجموع: والدليل للقسم الثاني أن عمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم غسلوا وصلي عليهم بالاتفاق واتفقوا على أنهم شهداء. والله أعلم

ص: 192

‌بَابُ قِتَالِ أَهْلِ البَغْيِ

(إِذَا خَرَجَ قَوْمٌ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَمَنَعَةٌ عَلَى الإْمَامِ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ فَهُمْ بُغَاةٌ).

البغاة جمع باغ، وهو لغة: الظلم ومجاوزة الحد، سموا بذلك لظلمهم وعدولهم عن الحق.

واصطلاحاً: هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ ولهم شوكة.

سموا بغاة لعدولهم عن الحق وما عليه أئمة المسلمين.

-والأصل في هذا الباب الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

وقوله صلى الله عليه وسلم (من خرج على أمتي وهم جميع، فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله) رواه مسلم.

والبغي حرام، والبغاة آثمون.

قوله (إِذَا خَرَجَ قَوْمٌ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَمَنَعَةٌ. . . .).

-‌

‌ يشترط في الخارجين على الإمام لكي يكونوا بغاة شروط:

‌أولاً: أن يكونوا مسلمين.

قال تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا

).

فإذا خرج على الإمام ذميون أو مستأمنون فلا يعتبرون بغاة ولهم أحكامهم الخاصة.

ص: 193

‌ثانياً: أن يكون لهم منعة وشوكة.

وهو أن يكون للبغاة منعة وقوة وشوكة يحتاج معها الإمام إلى إعداد جيش لقتالهم.

‌ثالثاً: أن يكون لهم تأويل سائغ.

والدليل على ذلك: هو ما حصل من الخارجين على علي من أهل الجمل وصفين، وذلك بأن قالوا إن علياً يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم، وهذا تأويل اعتقدوا به على جواز الخروج على الإمام وهو علي بن أبي طالب.

ولا بد أن يكون التأويل سائغاً يصلح أن يعتمد عليه.

وقد ذكر ابن تيمية في تفريقه بين البغاة والخوارج بأن قتال أهل الجمل وصفين علياً كان بسبب اعتمادهم على تأويل سائغ.

أما المارقون من الخوارج فقاتلهم علي بسب تأويلهم الفاسد.

-فإن اختل شرط من ذلك بأن لم يخرجوا على إمام أو خرجوا على إمام بلا تأويل أو بتأويل غير سائغ أو كانوا جمعاً يسيراً لا شوكة لهم فقطاع طريق.

ص: 194

‌فائدة:

ويعتبرون بغاة ولو كان الإمام ظالماً جائراً ما لم يحدث كفراً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح برٌ أو يُستراح من فاجر، ويدل لذلك قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

فهذه الآية دلت على وجوب طاعة ولي الأمر ولم تشترط عدالته.

(وعلى الإمام مراسلة البغاة، وإزالة ما ينقمون عليه مما لا يجوز وكشف شبههم).

هذا موقف الإمام من البغاة:

وهو أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه، لأن علياً أرسل ابن عباس إلى الخوارج الذين خرجوا عليه ليناظرهم، فناظرهم فرجع كثير منهم إلى الحق.

(فإن ذكروا مظلمة أزالها).

لقوله تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).

لأن إزالة المظلمة وسيلة إلى الصلح المأمور به.

(وَإِنِ ادَّعَوْا شُبْهَةً كَشَفَهَا).

لأن في كشف شبهتهم رجوعاً إلى الحق.

لأن الله أمر بالإصلاح أولاً، والإصلاح إنما يكون بمراسلتهم وكشف شبهتهم وإزالة ما يدعونه من مظلمة.

ص: 195

(فَإِنْ فَاؤُوا، وَإِلاَّ قَاتَلَهُمْ).

أي: انتهوا ورجعوا إلى صوابهم فهذا المطلوب، وإلا قاتلهم وجوباً لدفع شرهم.

أ-لقوله تعالى (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ).

ب-ولدفع شرهم وأذاهم على المسلمين.

ج- وللحفاظ على وحدة الدولة الإسلامية وعزتها.

(وعلى رعيته: معونته على قتالهم).

أي: ويجب على رعية الإمام مساعدته وتأييده على قتال البغاة.

لأن الصحابة قاتلوا مانعي الزكاة مع أبي بكر، وقاتلوا الخوارج مع علي.

ولأنهم لو تركوا معونة الإمام لقهره أهل البغي وظهر الفساد في الأرض.

(وإن قُتِل الدافع كان شهيداً).

الدافع: هو الذي يقاتل مع الإمام، لأن الإمام يلزمه قتال هؤلاء البغاة حتى يكف شرهم. فإذا قُتلَ هذا الدافع كان شهيداً لأنه قتل

مظلوماً، فهو يقاتل مع أهل الحق ضد أهل البغي.

(ولا يتّبع لهم مدبر)

أي: لا يقاتَل مدبرهم.

والمدبر: من ولى دبره وهرب.

(ولا يجهز على جريح).

أي: لا يقتل لهم جريح.

ص: 196

(ولا يُغنمُ لهم مال).

أي: لا يجوز أخذ مال البغاة، لأنهم لم يكفروا ببغيهم وقتالهم.

(ولا تُسبَى لهم ذرية).

الذرية النساء والصبيان، والسبي الأخْذ.

فهؤلاء لا يجوز سبيهم.

لأن قتال البغاة إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم.

(ومن مات منهم غُسّل وكُفّنَ وصُليَ عليه).

لأنهم مسلمون.

‌الخلاصة:

أن قتال أهل البغي يختلف عن قتال الكفار من حيث القصد والهدف:

لأن القصد من قتالهم ردهم إلى الطاعة وردعهم عن التمرد ودرء الفتنة، لأنهم مسلمون.

الفرق بين قتالهم وقتال المشركين:

أولاً: أن القصد من قتالهم ردعهم بخلاف المشركين.

ثانياً: عدم جواز الإجهاز على جريح البغاة بعكس جريح المشركين فإنه يجوز الإجهاز عليه.

ثالثاً: أنه لا يقتل أسير البغاة بخلاف أسير المشركين فإنه يجوز قتله.

رابعاً: لا يتبع مدبرهم.

خامساً: أن أموال البغاة لا يجوز قسمتها ولا تسبى ذريتهم، لأنهم لم يكفروا ببغيهم وقتالهم، بخلاف أموال المشركين فإنها غنيمة للمسلمين.

سادساً: أنه لا ينصب عليهم المنجنيق ومثله في عصرنا الحاضر المدافع والقنابل والطيارات.

سابعاً: لا تحرق مساكن البغاة ولا مصانعهم ولا يقطع نخيلهم وأشجارهم ولا يقطع الماء عنهم، بخلاف المشركين فإنه يستعمل معهم الوسائل المؤدية إلى استسلامهم والنصر عليهم.

ص: 197

‌باب حكم المرتد

(وهو: من خرج عن دين الإسلام إلى الكفر بفعل أو قولٍ أو اعتقاد أو شك).

المرتد لغة: هو الراجع.

واصطلاحاً: هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر.

(فمن ارتد وهو مكلف مختار استتيب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل).

فالمرتد كافر يقتل كفراً لا حداً.

قال ابن قدامة: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ، فَكَانَ إجْمَاعاً.

أ-عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ - (لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأُمِرَ بِهِ، فَقُتِلَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ (وَكَانَ قَدْ اُسْتُتِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ) متفق عليه.

ب-وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

ص: 198

ج-وعن ابن مسعود. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه.

د-وقال صلى الله عليه وسلم (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن تاب وإلا فاضرب عنقه، وإيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها) سنده حسن كما قال الحافظ ابن حجر.

وهذا يدل على أن المرأة كالرجل وهو قول أكثر العلماء.

قال الترمذي بعد روايته لحديث (من بدل دينه فاقتلوه) هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ فِي المُرْتَدد.

وقال ابن عبد البر: وفقه هذا الحديث، أن من ارتد عن دينه حل دمه وضربت عنقه، والأمة مجتمعة على ذلك، وإنما اختلفوا في استتابته. (التمهيد).

وجاء في (الموسوعة الفقهية) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِ تُهْدِرُ دَمَهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ) رواه البخاري ومسلم، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) رواه البخاري، وَيَقْتُلُهُ الإِمَامُ أَوْ نَائِبُه.

قال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - والمرتد في الاصطلاح: هو الذي يكفر بعد إسلامه طوعاً، بنطق، أو اعتقاد، أو شك، أو فعل.

ص: 199

والمرتد: له حكم في الدنيا، وحكم في الآخرة:

أما حكمه في الدنيا: فقد بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (مَنْ بدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)، وأجمع العلماء على ذلك، وما يتبع ذلك من عزل زوجته عنه، ومنعه من التصرف في ماله قبل قتله.

وأما حكمه في الآخرة: فقد بيَّنه الله تعالى: بقوله (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون).

والردة تحصل بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام، سواء كان جادّاً، أو هازلاً، أو مستهزئاً، قال تعالى:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم). (الملخص الفقهي).

‌فائدة: 1

هل المرأة المرتدة كالرجل تقتل كما يقتل؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن المرأة المرتدة تقتل كالرجل.

قَالَ ابْن الْمُنْذِر: قَالَ الْجُمْهُور: تُقْتَل الْمُرْتَدَّة.

وقال ابن قدامة: أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل.

روي ذلك عن أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما.

وبه قال الحسن، والزهري، والنخعي، وحماد، ومالك، والليث، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق. (المغني).

أ- لعموم (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ).

ص: 200

ب- وللحديث السابق (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن تاب وإلا فاضرب عنقه، وإيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن

عادت وإلا فاضرب عنقها) سنده حسن كما قال الحافظ ابن حجر.

وهذا يدل على أن المرأة كالرجل وهو قول أكثر العلماء.

قال ابن حجر: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث مَعَاذ صلى الله عليه وسلم (أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرسَلَهُ إِلَى الْيَمَن، قَالَ لَهُ: "أَيّمَا رَجُل ارْتَدَّ عَنْ الإسْلَام، فَادْعُهُ، فَإِنْ عَادَ، وَإلَّا فَاضْرِبْ عُنُقه، وَأَيّمَا امْرَأَة ارْتَدَّتْ عَنْ الإسْلَام، فادْعُها، فَإِنْ عَادَتْ، وَإِلَّا فَاضْرِبْ عُنُقها)

وَسَنَده حَسَن، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِع النِّزَاع، فَيَجِب الْمَصِير إِلَيْهِ.

وُيؤيِّدهُ اشْتِرَاك الرِّجال والنِّسَاء فِي الْحُدُود كُلّهَا، الزِّنَا، وَالسَّرِقَة، وَشُرْب الْخَمْر، وَالقَذْف، وَمِنْ صُوَر الزِّنَا رَجْم الْمُحْصَن حَتَّى يَمُوت، فَاسْتُثنِي ذَلِكَ مِنْ النَّهْي عَنْ قَتْل النِّسَاء، فَكَذَلِكَ يُسْتَثْنَى قَتْل الْمُرْتَدَّة. (الفتح).

ص: 201

‌فائدة: 2

الحكمة من قتل المرتد دون الكافر الأصلي.

قال ابن تيمية رحمه الله: فإنه لَوْ لَمْ يُقْتَلْ ذَلِكَ - أي المرتد - لَكَانَ الدَّاخِلُ فِي الدِّينِ يَخْرُجُ مِنْهُ، فَقَتْلُهُ حِفْظٌ لِأَهْلِ الدِّينِ وَلِلدِّينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ النَّقْصِ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيه.

وقال ابن عاشور: وَحِكْمَةُ تَشْرِيعِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ - مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ بِالْأَصَالَةِ لَا يُقْتَلُ - أَنَّ الِارْتِدَادَ خُرُوجُ فَرْدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَهُوَ بِخُرُوجِهِ مِنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ لَمَّا خَالَطَ هَذَا الدِّينَ وَجَدَهُ غَيْرَ صَالِحٍ، وَوَجَدَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلَحَ، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالدِّينِ وَاسْتِخْفَافٌ بِه.

وَفِيهِ أَيْضًا تَمْهِيدُ طَرِيقٍ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْسَلَّ مِنْ هَذَا الدِّينِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْحِلَالِ الْجَامِعَةِ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ لِذَلِكَ زَاجِرٌ، مَا انْزَجَرَ النَّاسُ، وَلَا نَجِدُ شَيْئًا زَاجِرًا مِثْلَ تَوَقُّعِ الْمَوْتِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْمَوْتُ هُوَ الْعُقُوبَةَ لِلْمُرْتَدِّ، حَتَّى لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ فِي الدِّينِ إِلَّا عَلَى بَصِيرَةٍ، وَحَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ هُوَ إِكْرَاهُ النَّاسِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَدْيَانِهِمْ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا هَذَا فَهُوَ مِنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي الْإِسْلَام.

(التحرير والتنوير).

‌فائدة: 3

هل يستتاب أم لا؟

بعد أن اتفق أهل العلم على وجوب قتل المرتد، اختلفوا في وجوب استتابته على قولين:

‌القول الأول: أنه يستتاب وإلا قتل.

وهذا مذهب أكثر أهل العلم.

ص: 202

قال ابن قدامة: المرتد لا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلاثًا. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ; مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. . . . لأَنَّ الرِّدَّةَ إنَّمَا تَكُونُ لِشُبْهَةٍ، وَلا تَزُولُ فِي الْحَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْتَظَرَ مُدَّةً يَرْتَئِي فِيهَا، وَأَوْلَى ذَلِكَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ اهـ.

‌القول الثاني: أنه لا يجب استتابته.

وهذا قول الحسن وطاووس وأهل الظاهر.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) ولم يذكر الاستتابة.

والراجح أن الأمر راجع إلى رأي الإمام ينظر حسب المصلحة.

‌فائدة: 4

من الذي يتولى قتل المرتد؟

ولي الأمر.

قال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله: قتل المرتد إلى الإمام، حراً كان أو عبداً، وهذا قول عامة أهل العلم، إلا الشافعي، في أحد الوجهين في العبد.

ويقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: لا يجوز الافتئات عَلَى الأئمة ونوابهم، ولا إظهار مخالفتهم، ولو كانوا مفرطين في نفس الأمر، فإن تفريطهم عليهم لا عَلَى من لم يفرط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) خرَّجه البخاري.

ص: 203

‌فائدة: 5

ما الفرق بين الكافر الأصلي والمرتد؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة.

منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعقد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلي.

ومنها: أن المرتد يقتل وإن كان عاجزا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد.

ومنها: أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي

إلى غير ذلك من الأحكام.

‌فائدة: 6

بعض أسباب الردة:

قال مرعي الكرمي (في دليل الطالب) المرتد وهو من كفر بعد إسلامه ويحصل الكفر بأحد أربعة أمور:

بالقول: كسب الله تعالى ورسوله أو ملائكته أو ادعاء النبوة أو الشرك له تعالى.

وبالفعل: كالسجود للصنم ونحوه وكإلقاء المصحف في قاذورة.

وبالاعتقاد: كاعتقاده الشريك له تعالى أو أن الزنا أو الخمر حلال أو أن الخبز حرام ونحو ذلك مما أجمع عليه إجماعا قطعيا.

ص: 204

وبالشك في شيء من ذلك.

جاء في (الموسوعة الفقهية) الرِّدَّةُ: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ، أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ، أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ، أَوْ هِيَ: قَطْعُ الإِسْلَامِ بِنِيَّةِ الْكُفْرِ، أَوْ قَوْل الْكُفْرِ، أَوْ فِعْلٍ مُكَفِّرٍ، سَوَاءٌ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً، أَمْ عِنَادًا، أَمِ اعْتِقَادًا، وَالرِّدَّةُ أَفْحَشُ الْكُفْرِ وَأَغْلَظُهُ حُكْماً.

وقال ابن قدامة: الْمُرْتَدُّ: هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ.

‌فائدة: 7

من ارتد في عهد النبوة:

أ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والحاكم.

وقد بيّنت رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاره بسبب أنه جاء تائبا من ردته، ورجع إلى الإسلام، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم.

ب-وعَن البَرَاءِ، قَالَ:(مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَمَعَهُ لِوَاءٌ، فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ؛ أَنْ آتِيَهُ بِرَأْسِه) رواه الترمذي.

قال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى: سألت أبي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلا تزوج امرأة أبيه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وأخذ ماله) قال أبي: نرى، والله أعلم: أن ذلك منه على الاستحلال، فأمر بقتله بمنزلة المرتد، وأخذ ماله؟

ص: 205

قال أبي: وكذلك المرتد: لا يرثه أهله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يرث المسلم الكافر). انتهى. "مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله).

ج- وعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (

اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى، أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، إِلَى اليَمَنِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، قَالَ: انْزِلْ، فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. . .) رواه البخاري ومسلم.

‌فائدة: 8

إشكال:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:(لَمَّا نَزَلْنَا عَلَى تُسْتَرَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْفَتْحِ، وَفِي قُدُومِهِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ عُمَرُ: يَا أَنَسُ! مَا فَعَلَ الرَّهْطُ السِّتَّةُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: فَأَخَذْتُ بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِيَشْغَلَهُ عَنْهُمْ، قَالَ: مَا فَعَلَ الرَّهْطُ السِّتَّةُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قُتِلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهَلْ كَانَ سَبِيلُهُمْ إِلَّا الْقَتْلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوَا اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ) رواه البيهقي.

وهذا الأثر، لا يدل على أن عمر رضي الله عنه كان لا يرى قتل المرتد، فقد نقل أهل العلم اتفاق السلف على قتل المرتد، ولم يذكروا أن عمر خالف في ذلك، وإنما غاية ما نقلوا عنه أنه كان يرى استتابة المرتد والتأنّي به قبل قتله.

ص: 206

وقد ورد عنه الأمر بقتل المرتد:

فقد روى عبد الرزاق عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:(أَخَذَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَوْمًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ اعْرِضْ عَلَيْهِمْ دِينَ الْحَقِّ، وَشَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ قَبِلُوهَا فَخَلِّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا فَاقْتُلْهُمْ، فَقَبِلَهَا بَعْضُهُمْ فَتَرَكَهُ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا بَعْضُهُمْ فَقَتَلَه).

ولهذا قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى عن رواية السجن تلك: يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا، فإن لم يتوبوا قتلوا، هذا لا يجوز غيره؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه، فاضربوا عنقه).

(الاستذكار).

‌فائدة: 9

المرتد إذا قُتل فإنه يموت كافراً فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويوم القيامة يكون من أصحاب النار الذي هم فيها خالدون.

وقد لفظت الأرض مرتدّاً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، عبرةً وعظة للناظرين.

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَادَ نَصْرَانِيًّا فَكَانَ يَقُولُ مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقُوهُ فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَصْبَحَ قَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ فَأَلْقَوْه) رواه البخاري ومسلم وفي آخره - عنده - فتركوه منبوذاً -.

ص: 207

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مراراً، وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله وأنه كان كاذباً إذ كان عامَّة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله صلى الله عليه وسلم ممن طعن عليه وسبَّه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذ لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. (الصارم).

‌فائدة: 10

قتل المرتد لا يعتبر حدًّا، وإنما هو عقوبة دنيوية يعقبها العقاب الأخروي، ومن الخطأ إدخاله في الحدود.

قال في (كشاف القناع) ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه، حرا كان المرتد أو عبدا لأنه قتل لحق الله تعالى، فكان إلى الإمام أو نائبه، كقتل

الحر، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم)؛ لأن قتل المرتد لكفره، لا حداً " انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين: الحد إذا بلغ الإمام لا يستتاب صاحبه، بل يقتل بكل حال. أما الكفر، فإنه يستتاب صاحبه.

وهذا هو الفرق بين الحد، وبين عقوبة الكفر.

وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود، وذكروا من الحدود قتل الردة، فقتل المرتد ليس من الحدود؛ لأنه يستتاب، فإذا تاب، ارتفع عنه القتل.

وأما الحدود، فلا ترتفع بالتوبة؛ إلا أن يتوب قبل القدرة عليه، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها، وليس بكافر.

والقتل بالردة ليس كفارة، وصاحبها كافر، لا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين.

ص: 208

‌كِتَابُ الأْطْعِمَةِ

الطعام في اللغة يطلق في الغالب على ما يؤكل، وقد يطلق على ما يشرب بقلة.

كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ).

وقال صلى الله عليه وسلم في زمزم (إنها طعام طُعْم).

(الأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ).

أي: أن الأصل في الأطعمة الحل.

أ-لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

قال في تفسير المنار: وهذه نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء: أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة، والمراد إباحة الانتفاع بها أكلاً وشرباً ولباساً وتداوياً وركوباً وزينة.

ب- وقال تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ).

دلت هذه الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة، لأن الاستفهام في (مَن) للإنكار، ومن هذا يعلم أن هذه الآية تدل على أن الأصل في هذه الأشياء التي هي من أنواع الزينة وكل ما يتجمل به ومن الطيبات من الرزق هو الحل.

ج- وقال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ).

وجه الدلالة: أنه إذا كان ما في الأرض مسخراً لنا، جاز استمتاعنا به، وهذا معنى الإباحة.

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) رواه الدار قطني.

ص: 209

(وهو نوعَان حيوانٌ وغيرهُ).

اعلم أن الأطعمة نوعان:

حيوانية: والحيوان بري وبحري.

غير حيوانية: مثل النبات والثمار والجامدات والمائعات.

(فأما غير الحيوانِ فكلهُ مباحٌ إلا ما كان نجساً أو مُضراً).

لأن الأصل في الأطعمة الحل كما سبق.

(إلا ما كان نجساً).

أي: يستثنى من هذا النوع النجس، فلا يجوز أكله: كالدم والميتة.

والدليل على تحريم ما فيه نجاسة:

قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ).

(أو مُضراً).

ويستثنى أيضاً ما كان مضراً: كالسم ونحوه، فإنه حرام.

والدليل على تحريم ما فيه مضرة:

قوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وقال تعالى (ولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

والنهي عن قتل النفس نهي عن أسباب القتل. ولذا عُدّ من أطعم السم لغيره قاتلاً.

ومثل السم الدخان، حيث أثبتت التجارب أنه مضر بالصحة، وفيه أيضاً إضاعة للمال.

‌تنبيه:

ما كان مضراً سواء كان ضرره عاماً أو خاصاً. العام: كالسم، والخاص: أكل ما فيه مضرة لهذا الشخص بعينه، كما لو كان أكله لهذا الطعام يسبب له مرضاً أو هلاكاً. وإن كان هذا الطعام لو أكله غيره لم يتضرر.

ص: 210

(والأشربةُ كلُّها مباحٌ إلا ما أسكر).

كما تقدم أن الأصل في ذلك الإباحة، إلا ما كان مسكراً فإنه يحرم كما تقدم أدلة ذلك في باب حد الخمر.

فيستثنى من الأشربة المسكر فيحرم شربه.

ضابط الإسكار: إذهاب العقل على وجه اللذة والطرب، ولهذا قال عمر (الخمر ما خامر العقل) أي ما غطاه.

والدليل على تحريم شرب المسكر:

قال تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام).

وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) رواه أبوداود.

وقال صلى الله عليه وسلم (من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرَق فملء الكف منه حرام) رواه أبوداود. [الفرق] إناء يسع 3 آصع.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما أسكر كثيره فقليله حرام).

معنى هذا الحديث: أن هذا الشراب لو أكثرت منه سكرت وإذا لم تكثر منه لم تَسْكر، فالقليل منه حرام.

مثال: لو شربت منه قارورة سكرت، ولو شربت فنجان لم تسكر - فنقول شرب الفنجان حرام.

وسبقت الأدلة.

ص: 211

(وإنْ تخللتْ الخمرُ طهرتْ وحلّتْ).

أي: إن تخللت بنفسها بدون فعل آدمي: فإنها تطهر.

قال النووي: وأجمعوا على أنها إذا انقلبت بنفسها خلاً طهرت، وقد حكي عن سحنون أنها لا تطهر، فإن صح عنه فهو محجوج بإجماع من قبله.

(وإنْ خُلِّلتْ لم تطهرْ).

أي: وإن تخللت بفعل آدمي؟ كما لو تخللت بأن أضاف إليها إنسان شيئاً، أو نقلها من الشمس إلى الظل أو العكس؟

فإنها لا تطهر.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِك قَالَ: (سُئِلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا? قَالَ: لَا) رواه مسلم.

وجاء في رواية عند أبي داود وأحمد: (أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: لا).

(تُتَّخَذُ خَلًّا) المراد باتخاذها خلاً هو علاجها حتى تصير خلاً بعدما تشتد وتقذف الزبد، وذلك بوضع شيء فيها، كبصل أو خبز أو

خميرة ونحو ذلك، أو ينقلها من الظل إلى الشمس أو بالعكس.

ووجه الدلالة: أنه لو كان هناك طريق للانتفاع لتطهير الخمر لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً للأموال، وأيضاً كما في الرواية الأخرى:(كانت لأيتام) والأيتام أولى بحفظ أموالهم، فلو كان تخليلها جائزاً لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك قوله (أهرقها) دليل على أنه لا يجوز تخليلها، لأنه يجب إراقتها ولا يجوز اقتناؤها.

ص: 212

(والحيوانات قسمان: بحريّ وبريّ، فأما البحري فكلُّه حلال).

أي: أن الحيوانات تنقسم إلى قسمين كما سبق بحري وبري.

أما البحري: فهو حلال كله.

والمراد بالبحري: ما لا يعيش إلا في البحر بحيث لو خرج من البحر لهلك.

أ-قال تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة).

قال ابن عباس: صيد البحر ما أخذ حي، وطعامه ما أخذ ميتاً.

ب-وعن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه أبوداود.

وهذا دليل على حل جميع حيوان البحر سواء أخذ حياً أو ميتاً.

فكلب البحر حلال، وخنزير البحر حلال.

(إلا الحية).

يعني إلا حية البحر فإنها لا تحل.

والراجح أن جميع ما في البحر حلال.

(والتمساح).

أي: إلا التمساح فلا يحل.

وهذا قول الجمهور.

وذهب المالكية إلى الجواز، وهو رواية عن أحمد رحمه الله.

ص: 213

واختاره الشيخ ابن عثيمين.

وحجة من حرمه أن له نابا يفترس به.

وحجة من أباحه دخوله في عموم قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته).

وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: أيحل أكل التمساح؟

فأجابوا: أما التمساح فقيل: يؤكل كالسمك؛ لعموم ما تقدم من الآية والحديث، وقيل: لا يؤكل؛ لكونه من ذوات الأنياب من السباع، والراجح الأول.

(والضفدع).

أي: وإلا الضفدع فلا يحل أكله.

لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها.

كما في حديث عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ (أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ، يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا) رواه أبو داود

والقاعدة: أن كل ما نهي عن قتله فلا يجوز أكله، إذ لو جاز أكله جاز قتله.

قَالَ الخطابي: فِي هَذَا دليل عَلَى أن الضفدع مُحَرَّم الأكل، وأنه غير داخل فيما أبيح منْ دواب الماء، وكل منهي عن قتله منْ الحيوان، فإنما

هو لأحد أمرين: إما لحرمة فِي نفسه، كالآدمي، وإما لتحريم لحمه، كالصرد، والهدهد، ونحوهما، وإذا كَانَ الضفدع ليس بمحرم، كالآدمي، كَانَ النهي فيه منصرفا إلى الوجه الآخر، وَقَدْ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان، إلا لمأكله.

ص: 214

وقال الشنقيطي: وَالظَّاهِرُ مَنْعُ أَكْلِ الضَّفَادِعِ مُطْلَقًا; لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الصَّحَابِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا.

وذهب بعض العلماء إلى جواز أكله.

لعموم قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ).

ولقوله صلى الله عليه وسلم (. . . الحل ميتته).

(وأما البري فمباحة).

لما سبق أن الأصل في الأشياء الحل.

(إِلاَّ الْحُمُرَ الأَهْليَّةَ)

أي: أن الحمُر الأهلية حرام.

أ-عَنْ جَابِرٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّه صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمُرِ اَلْأَهْلِيَّةِ، وَأْذَنْ فِي لُحُومِ اَلْخَيْلِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ب-و أنس قال (لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَمَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى: إِنَّ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمُر اَلْأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْس) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

ج- وعن ابن عمر صلى الله عليه وسلم قال (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية) متفق عليه.

د- وعن علي صلى الله عليه وسلم قال (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية) متفق عليه.

هـ- وعن ابن أبي أوفى قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر) رواه البخاري.

فهذه الأحاديث فيها النهي الصريح عن لحوم الحمر الأهلية.

ص: 215

قال ابن قدامة: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، قَالَ أَحْمَدُ: خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَرِهُوهَا.

وقال النووي: فَقَالَ الْجَمَاهِير مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ بِتَحْرِيمِ لُحُومهَا لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، وَعَنْ مَالِك ثَلَاث رِوَايَات: أَشْهَرهَا أَنَّهَا مَكْرُوهَة كَرَاهِيَة تَنْزِيه شَدِيدَة، وَالثَّانِيَة: حَرَام، وَالثَّالِثَة: مُبَاحَة، وَالصَّوَاب التَّحْرِيم كَمَا قَالَهُ الْجَمَاهِير لِلْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَة.

وقال ابن القيم: أحاديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم علي، وجابر، والبراء، وابن أبي أوف، و. . .، والعرباض، وأبو ثعلبة، وابن عمر، وأبو سعيد، وسلمة،

‌فائدة: 1

العلة في النهي عنها:

قيل: لحاجتهم إليها.

فقد جاء في حديث ابن عمر (. . . وكان الناس قد احتاجوا إليها).

لكن يرد هذا القول حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر وأذن في لحوم الخيل) فلو كان النهي من أجل أنها حمولة الناس لكان النهي عن لحوم الخيل أولى.

وقيل: لأنها كانت تأكل العذرة.

عَنْ غَالِب بْن أَبْجَرَ قَالَ (أَصَابَتْنَا سَنَة فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي شَيْء أُطْعِم أَهْلِي إِلَّا شَيْء مِنْ حُمُر، وَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لُحُوم الْحُمُر

الْأَهْلِيَّة، فَأَتَيْت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت: يَا رَسُول اللَّه أَصَابَتْنَا السَّنَة فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِم أَهْلِي إِلَّا سِمَان حُمُر، وَإِنَّك حَرَّمْت لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة، فَقَالَ: أَطْعِمْ أَهْلَك مِنْ سَمِين حُمُرك، فَإِنَّمَا حَرَّمْتهَا مِنْ أَجْل جَوَّال الْقَرْيَة). (يَعْنِي بِالْجَوَّالِ الَّتِي تَأْكُل الْجُلَّة، وَهِيَ الْعُذْرَة).

ص: 216

قال النووي: فَهَذَا الْحَدِيث مُضْطَرِب مُخْتَلَف الْإِسْنَاد شَدِيد الِاخْتِلَاف، وَلَوْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى الْأَكْل مِنْهَا فِي حَال الِاضْطِرَار وَاللَّهُ أَعْلَم.

وقال الشنقيطي: قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى تَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ يُخْتَلَفُ فِي إِسْنَادِهِ، يَعْنُونَ مُضْطَرِبًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تُعَارَضُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا.

وقيل: إنه إنما حرمت لأنها رجس في نفسها.

قال ابن القيم: وهذا أصح العلل، فإنها هي التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه في الصحيحين.

(إِنَّ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمر اَلْأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْس).

‌فائدة: 2

أكل الحمر الوحشية: حلال.

فقد جاء في حديث جابر قال (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي) رواه مسلم.

وفي حديث أبي قتادة قال: (قلت: يا رسول الله، أصبت حمار وحش وعندي منه فاضلة، فقال للقوم: كلوا، وهم محرمون). متفق عليه

فقد أمر صلى الله عليه وسلم الصحابة بالأكل من حمار الوحش وهم محرمون، وهذا دليل على حله.

ص: 217

(والبغال).

أي: وكذا البغال محرمة.

والبغل: حيوان متولد بين الحمار والفرس.

لحَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ (حَرَّمَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ، لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، وَلُحُومَ الْبِغَالِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ) أَصْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ، بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالشَّوْكَانِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تفسيره: وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ (ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِغَالِ وَالْحُمُرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنِ الْخَيْلِ).

قال الشنقيطي: وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ عَنِ الْحَمِيرِ وَهِيَ حَرَامٌ قَطْعًا; لِصِحَّةِ النُّصُوصِ بِتَحْرِيمِهَا وقال ابن قدامة: وَالْبِغَالُ حَرَامٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ حَرَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهَا، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ.

قَالَ قَتَادَةُ: مَا الْبَغْلُ إلَّا شَيْءٌ مِنْ الْحِمَارِ.

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ (ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْ الْخَيْلِ).

قال ابن قدامة رحمه الله: والبغال حرام (أي: أكلها) عند كل من حرم الحمر الأهلية; لأنها متولدة منها، والمتولد من الشيء له حكمه في التحريم.

جاء في (الموسوعة الفقهية): مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَالثَّانِي حَلَالٌ مَعَ الإْباحَةِ أَوْ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الصِّنْفِ: الْبِغَال:

قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْبَغْل وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُتَوَلِّدَاتِ يَتْبَعُ أَخَسَّ الأْصْلَيْنِ.

وَحُجَّتُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ يَتْبَعُ أَخَسَّ الأْصْلَيْنِ، أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُمَا فَيَجْتَمِعُ فِيهِ حِلٌّ وَحُرْمَةٌ، فَيُغَلَّبُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي، أَوِ الْحَاظِرُ وَالْمُبِيحُ، غُلِّبَ جَانِبُ الْمَانِعِ الْحَاظِرِ احْتِيَاطًا.

ص: 218

(وَمَا لَهُ نَابٌ يَفْتَرِسُ بِه).

أي: ويحرم كل ما له ناب من السباع.

كَالأْسَدِ، وَالنِّمْرِ، وَالذِّئْبِ، وَالْفِيلِ، وَالْفَهْدِ، وَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَابْنِ آوَى، وَابْنِ عِرْسٍ، وَالسِّنَّوْرِ، وَالنِّمْسِ، وَالْقِرْدِ، وَالدُّبِّ

أ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ اَلسِّبَاعِ، فَأَكَلَهُ حَرَامٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ) رواه مسلم.

ج- وعَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ) متفق عليه.

وهذا قول جماهير العلماء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وإحدى الروايتين عن مالك.

قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَدَاوُد وَالْجُمْهُور أَنَّهُ يَحْرُم أَكْل كُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع وَكُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر.

وقال ابن قدامة: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ كُلِّ ذِي نَابٍ قَوِيٍّ مِنْ السِّبَاعِ، يَعْدُو بِهِ وَيَكْسِرُ، إلَّا الضَّبُعَ.

وقال الشوكاني: وفي الحديث دليل على تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وإلى ذلك ذهب الجمهور.

ص: 219

‌فائدة: 1

الحكمة من تحريم أكلها:

قال ابن القيم: السبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المتغذي بها شبهها، فإن الغاذي شبيه بالمغتذي.

وقال ابن عثيمين: ولأن الحكمة تقتضيه؛ لأن للغذاء تأثيراً على المُتَغَذِّي به، فالإنسان ربما إذا اعتاد التغذِّي على هذا النوع من اللحوم صار فيه محبة العدوان على الغير؛ لأن ذوات الناب من السباع تعتدي، فإن الذئب مثلاً إذا رأى الغنم عدى عليها، ومع ذلك فإن بعض الذئاب إذا دخل في القطيع ما يكتفي بقتل واحدة ويأكلها، بل يمر على القطيع كله فيقتله كله، ويأكل ما شاء ثم يخرج.

‌فائدة: 2

ما الجواب عن قوله تعالى (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) حيث استدل بها بعض العلماء على الكراهة دون التحريم؟

الجواب: أن الآية مكية نزلت قبل الهجرة، قصد بها الرد على أهل الجاهلية في تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ثم بعد ذلك حرم أمور كثيرة كالحمر الإنسية ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، فالآية ليس فيها إلا الإخبار بأنه لم يجد في ذلك الوقت محرماً إلا المذكورات في الآية، ثم أوحي إليه بتحريم كل ذي ناب من السباع. (أحكام الأطعمة الفوزان).

وقال النووي: وَاحْتَجَّ أَصْحَابنَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيث قَالُوا: وَالْآيَة لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْإِخْبَار بِأَنَّهُ لَمْ يَجِد فِي ذَلِكَ الْوَقْت مُحَرَّمًا إِلَّا الْمَذْكُورَات فِي الْآيَة، ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِتَحْرِيمِ كُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع، فَوَجَبَ قَبُوله وَالْعَمَل بِهِ.

ص: 220

وقال الشنقيطي: الَّذِي يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِطَرِيقٍ صَحِيحَةٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُّنَّةٍ فَهُوَ حَرَامٌ، وَيُزَادُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَيُّ مُنَاقَضَةٍ لِلْقُرْآنِ; لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَزِيدَةَ عَلَيْهَا حُرِّمَتْ بَعْدَهَا،

فَوَقْتُ نُزُولِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا غَيْرَ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَحَصْرُهَا صَادِقٌ قَبْلَ تَحْرِيمِ غَيْرِهَا بِلَا شَكٍّ، فَإِذَا طَرَأَ تَحْرِيمُ شَيْءٍ آخَرَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْحَصْرَ.

(غَيْرَ الضَّبُعِ).

أي: فإنه حلال.

و (اَلضَّبُع) هو الواحد الذكر والأنثى ضبعان ولا يقال ضبعة، ومن عجيب أمره أنه يكون سنة ذكراً، وسنة أنثى فيلقح في حال الذكورة ويلد في حال الأنوثة وهو مولع بنبش القبور لشهوته للحوم بني آدم. (نيل الأوطار).

فالمذهب أنه حلال.

وروى ابن أبي شيبة في (المصنف) وعبد الرزاق في (المصنف) هذا القول عن علي، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم جميعاً.

وعزاه ابن المنذر في (الأوسط) لأكثر أهل العلم.

قال ابن المنذر: وقد اختلف أهل العلم في أكل الضبع فرخص أكثر أهل العلم فيه.

وعَنْ اِبْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ (قُلْتُ لِجَابِرٍ: اَلضَّبُعُ صَيْدُ هِيَ? قَالَ: نِعْمَ. قُلْتُ: قَالَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نِعْمَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةَ.

ولفظ أبي داود عن جابر قال (هو صيد ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم).

وجه الدلالة من الحديث: أن جعل الضبع صيداً.

ص: 221

وذهب بعض العلماء: إلى أنه حرام.

وهو قول الحنفية وجماعة من العلماء.

واستدلوا بعموم حديث (نهى عن كل ذي ناب من السباع).

قالوا: والضبع لها ناب تصيد به فتدخل تحت الحديث.

والراجح الأول.

فائدة:

فإن قيل: ما الجواب عن حديث (نهى عن كل ذي ناب من السباع)؟

أجابوا بجوابين:

الأول: قالوا بتخصيص الضبع من عموم حديث تحريم كل ذي ناب من السباع، ودليل التخصيص هو حديث جابر رضي الله عنه، فيحرم كل ذي ناب من السباع إلا الضبع.

الثاني: أجاب بعضهم بأن الضبع لا يشمله حديث التحريم أصلاً، لأنه ليس من السباع العادية.

قال ابن القيم: فإنه صلى الله عليه وسلم إنما حرم ما اشتمل على الوصفين، أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد، والذئب، والنمر، والفهد، وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين؛ وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية، ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المتغذي بها شبهها، فإن الغاذي شبيه بالمتغذي، ولا ريب أن القوة السبعية في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم، ولا تعد الضبع من السباع لغة ولا عرفاً. (إعلام الموقعين).

ص: 222

وقال رحمه الله: فَحرم على الأمة أكلها (أي السباع ذوات الأنياب) وَلم يحرم عَلَيْهِم الضبع وان كَانَ ذَا نَاب فَإِنَّهُ لَيْسَ من السبَاع عِنْد أحد من الأمم، وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا كَانَ لما تضمن الوصفين أن يكون ذَا نَاب وأن يكون من السبَاع. (مفتاح دار السعادة).

تنبيه: استدل بعضهم على تحريم أكل الضبع بما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال أو يأكل الضبع أحد) وفي رواية (ومن يأكل الضبع) فيجاب بأن هذا الحديث ضعيف لأن في إسناده عبد الكريم بن أمية وهو متفق على ضعفه والراوي عنه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف. (نيل الأوطار).

(وَمَا لَهُ مِخْلَبٌ مِنَ الطَّيْرِ يَصِيدُ بِهِ).

أي: ومما يحرم أكله ماله مخلب من الطير يصيد به.

للأحاديث السابقة.

كَالْعُقَابِ، وَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالبَاشِقِ، وَالحِدَأَةِ، وَالْبُومَةِ، وَمَا يَأْكُلُ الجِيَفَ كَالنِّسْرِ، وَالرَّخْمِ، وَاللَّقْلَقِ، وَالْعَقْعَقِ، وَالْغُرَابِ الأْبْقَعِ، وَالْغُدَافِ، وَهُوَ أَسْوَدُ صَغِيرٌ أَغْبَرُ، وَالْغُرَابِ الأْسْوَدِ الْكَبِير.

(وجميع الخبائث محرمة كالحشرات ونحوها).

لأنها مستخبثة، وقد قال تعالى (ويحرم عليهم الخبائث).

كالخنافس والذباب والصراصير والعقارب والحيات والوزغ.

قال الشنقيطي: هذه خبائث لا يكاد طبع سليم يستسيغها، فضلاً عن أن يستطيبها، والذين يأكلون مثل هذه الحشرات من العرب

إنما يدعوهم لذلك شدة الجوع.

ص: 223

‌فائدة:

حكم ما تولد بين نوعين:

ما تولد بين نوعين حلالين: فهذا حلال ولا إشكال.

ما تولد بين نوعين محرّمين، فهذا محرم ولا إشكال.

ما تولد بين نوعين أحدهما محرم والآخر مباح: فهذا محرم.

كالبغل فإنه تولد من الفرس والحمار، فهذا حرام وهو قول الجماهير.

لأنه اجتمع فيه حل (نظراً إلى الفرس) وحرمة (نظراً إلى الحمار) فيغلب جانب الحرمة احتياطاً.

(وكل ما أمر الشارع بقتله، أو نهى عن قتله فهو حرام).

هذه قاعدة مفيدة:

فالذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها:

عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ أَرْبَعِ مِنْ اَلدَوَابِّ: اَلنَّمْلَةُ، وَالنَّحْلَةُ، وَالْهُدْهُدُ، وَالصُّرَدُ) رواه أبو داود.

فنستفيد: تحريم أكل هذه الدواب، لأنه لو حلّ أكلها لما نهي عن قتلها، فكل شيء نهى الشرع عن قتله فأكله حرام.

ولأنا لو قتلناه لوقعنا فيما نهى الشارع عنه.

ولأنه لو كان حلال الأكل لما نهىَ عن قتله.

والذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله:

عن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خَمْسٌ مِنَ اَلدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي [اَلْحِلِّ وَ] اَلْحَرَمِ: اَلْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ اَلْعَقُورُ) متفق عليه.

وكذلك الوزغ (فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها) متفق عليه.

فهذه يحرم أكلها:

لأنه لو كان الانتفاع بأكلها جائزاً لما أذن صلى الله عليه وسلم بقتلها.

ولما فيها من الإيذاء والتعدي.

ص: 224

‌فائدة:

اختلف العلماء في أكل القنفذ على قولين:

‌القول الأول: أنه حلال.

وهذا مذهب الشافعي.

واختاره ابن حزم، وابن المنذر، والشوكاني، وابن باز.

لأن العرب تستطيبه لطيب أكله.

‌القول الثاني: أنه حرام.

وهذا قول الحنفية والحنابلة.

لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اَلْقُنْفُذِ، فَقَالَ (قُلْ لَا أَجدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ) فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: - ذُكِرَ عِنْدَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (خِبْيثَة مِنْ اَلْخَبَائِثِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيف.

حيث جعل القنفذ من جملة الخبائث.

وهذا الحديث ضعيف لا يصح.

قال الإمام البيهقي: لم يرو إلا من وجه واحد وهو ضعيف لا يحتج به، فلم يثبت شيء في تحريم القنفذ.

قال ابن حزم: والخبر الذي فيه (أن القنفذ خبيث من الخبائث) فهو عن شيخ مجهول لم يسمّ، ولو صح لقلنا به وما خالفناه.

وجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) القنفذ حلال أكله.

ص: 225

(وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَحَلَالٌ).

أي: ما عدا ما سبق من المحرمات فحلال، لأنه الأصل.

(كَالْخَيْلِ).

فالخيل حلال، أكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذنَ في أكلها.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قال النووي: فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَالْجُمْهُور مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف أَنَّهُ مُبَاح لَا كَرَاهَة فِيهِ، وَبِهِ قَالَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَفَضَالَة بْن عُبَيْد وَأَنَس بْن مَالِك وَأَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر وَسُوَيْد بْن غَفَلَة وَعَلْقَمَة وَالْأَسْوَد وَعَطَاء وَشُرَيْح وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ وَحَمَّاد بْن سُلَيْمَان وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَدَاوُد وَجَمَاهِير الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرهم. (شرح مسلم)

وقال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه حلال لا كراهة فيه وبه قال أكثر العلماء.

أ-عَنْ جَابِرٍ قَالَ (نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمُرِ اَلْأَهْلِيَّةِ، وَأْذَنْ فِي لُحُومِ اَلْخَيْلِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ب-عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها قَالَتْ (نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ) متفق عليه. وَفِي رِوَايَةٍ (وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ).

ج- وعن جابر قال: (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا نأكل لحم الخيل ونشرب ألبانها) رواه الدارقطني والبيهقي. قال النووي: بإسناد صحيح.

ص: 226

ج- وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ مُسْتَطَابٌ، لَيْسَ بِذِي نَابٍ وَلَا مِخْلَبٍ، فَيَحِلُّ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْمُبِيحَةِ. (المغني)

وذهب بعض العلماء إلى أنها حرام.

وهذا مذهب أبي حنيفة، والأشهر عند مالك.

أ- لقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً).

وجه الدلالة من الآية: (ذكرها ابن حجر في الفتح).

أَحَدهَا: أنَّ اللام لِلتَّعْلِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّها لَمْ تُخْلَق لغَيْرَ ذَلِكَ، لأَنَّ الْعِلَّة المَنْصُوصَة، تُفِيد الْحَصْر، فَإِبَاحَة أَكْلهَا تَقْتَضِي خِلَاف ظَاهِرِ الآيَة.

ثَانِيهَا: عَطْف الْبِغَال، وَالْحَمِير، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكهَا مَعَهَا فِي حُكْم التَّحْرِيم، فَيَحْتَاجُ مَنْ أَفْرَدَ حُكْمهَا عَن حُكْم مَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ إِلَى دَلِيل.

ثَالِثهَا: أَنَّ الآية سِيقَتْ مَسَاق الامْتِنَان، فَلَوْ كَانَت يُنْتَفَع بِها فِي الأَكْل، لَكَانَ الامْتِنَان بهِ أَعْظَم؛ لأَنَّهُ يَتَعَلَّق بِهِ بَقَاء الْبنْيَة، بِغَيْرِ وَاسِطَة، وَالْحَكِيم لا يَمْتَنّ بِأَدْنَى النِّعَم، وَيَترُكَ أَعْلاهَا، وَلاسِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ الامْتِنَان بِالأَكْلِ فِي المَذْكُورَات قَبْلهَا.

رَابِعِهَا: لَوْ أُبِيحَ أَكْلهَا، لَفَاتَتِ الْمَنْفَعَة بِهَا، فِيْمَا وَقَعَ بِهِ الامْتِنَان، مِنْ الرُّكُوب، وَالزِّينَة، هَذَا مُلَخَّص مَا تَمَسَّكُوا بِهِ منْ هَذِهِ الآيَة. (الفتح)

ب- ولحديث خالد بن الوليد قال (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد شرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام حمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من السباع) رواه أبو داود.

والصحيح الأول.

ص: 227

وأما الجواب عن الآية:

فإنها نزلت في مكة اتفاقاً، والإذن في أكل لحوم الخيل يوم خيبر، كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين.

وأما الحديث فلا يصح.

قال النووي: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء مِنْ أَئِمَّة الْحَدِيث وَغَيْرهمْ عَلَى أَنَّهُ حَدِيث ضَعِيف وَقَالَ بَعْضهمْ: هُوَ مَنْسُوخ، رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ مُوسَى بْن هَارُون الْحَمَّال (بِالْحَاءِ) الْحَافِظ قَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، قَالَ: وَلَا يُعْرَف صَالِح بْن يَحْيَى وَلَا أَبُوهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيّ: هَذَا الْحَدِيث فِيهِ نَظَر، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إِسْنَاد مُضْطَرِب، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي إِسْنَاده نَظَر، قَالَ: وَصَالِح بْن يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه لَا يُعْرَف سَمَاع بَعْضهمْ مِنْ بَعْض، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدِيث الْإِبَاحَة أَصَحّ، قَالَ: وَيُشْبِه إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا أَنْ يَكُون مَنْسُوخًا. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِأَحَادِيث الْإِبَاحَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم وَغَيْره، وَهِيَ صَحِيحَة صَرِيحَة، وَبِأَحَادِيث أُخَر صَحِيحَة جَاءَتْ بِالْإِبَاحَةِ، وَلَمْ يَثْبُت فِي النَّهْي حَدِيث. (نووي).

ص: 228

وقال ابن حجر: من حجج من منع أكل الخيل حديث خالد بن الوليد المخرج في السنن (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل) وتعقب بأنه شاذ منكر لأن في سياقه أنه شهد خيبر وهو خطأ فإنه لم يسلم الا بعدها على الصحيح والذي جزم به الأكثر أن إسلامه كان سنة الفتح. (الفتح).

وقَالَ رحمه الله فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فِي بَابِ " لُحُومِ الْخَيْلِ " مَا نَصُّهُ: وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَ خَالِدٍ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَعَبْدُ الْحَقِّ، وَآخَرُونَ.

(وَبَهِيمَةِ الأْنْعَامِ)

وبهيمة الأنعام حلال، وهي الإبل، والبقر، والغنم.

أ-قال تعالى (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ).

ونقل الإجماع ابن المنذر فقال: دلت أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم على إباحة لحوم الأنعام، وأجمع أهل العلم على القول به.

ب- أنَّ العُلَماءَ أجمعوا على جوازِ التَّضحيةِ مِن جَميعِ بَهيمةِ الأنعامِ، وإذا أجمَعوا على جوازِ التَّضحيةِ بها، كان إجماعًا لحِلِّ أكلِها؛ لقَولِه تعالى (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).

(وَالدَّجَاجِ).

أي: والدجاج حلال، فقد أكله صلى الله عليه وسلم.

عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ دَجَاجًا) متفق عليه.

ص: 229

(وَالْوَحْشِيِّ مِنَ الْحُمُرِ).

أي: الحمار الوحشي حلال.

عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّه قال (أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ وَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ) رواه مسلم.

عن أَبِى قَتَادَة قَالَ (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا وَخَرَجْنَا مَعَهُ - قَالَ - فَصَرَفَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ «خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى تَلْقَوْنِي، قَالَ فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ. فَلَمَّا انْصَرَفُوا قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلاَّ أَبَا قَتَادَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا - قَالَ - فَقَالُوا أَكَلْنَا لَحْمًا وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ - قَالَ - فَحَمَلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِ الأَتَانِ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا فَقُلْنَا نَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ. فَحَمَلْنَا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا. فَقَالَ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ». قَالَ قَالُوا لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا). متفق عليه

وفي رواية (فَقَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالُوا مَعَنَا رِجْلُهُ. قَالَ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا).

قال الشوكاني: وأما الحمر الوحشية فالإجماع على حلها ثابت.

وقال الصنعاني: عند حديث أبي قتادة - فِي قِصَّةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ. فَأَكَلَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهِ وَهُوَ إجْمَاعٌ. وَفِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ أَنَّهُ إذَا عُلِفَ وَأُنِسَ صَارَ كَالْأَهْلِيِّ.

ص: 230

(وَالْبَقَرِ)

أي: الوحشي، فهو حلال.

(وَالضبِ).

وهو حلال. وهذا قول جماهير العلماء.

حيث أكلَ على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أ-عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ) متفق عليه.

(محنوذ) أي مشوي بالحجارة المحماة، (لم يكن بأرض قومي) جاء في رواية:(هذا لحم لم آكله قط).

وجه الدلالة: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لخالد على أكله، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على الجواز.

ب- وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الضب لست آكله ولا أحرمه).

وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر قال (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب فقال: لست بآكله ولا محرمه).

وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي).

ص: 231

وهذا نص صريح على عدم الحرمة الشرعية، وإشارة إلى الكراهة الطبيعية.

قال النووي: ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم وَغَيْره. . . وَأَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الضَّبّ حَلَال لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة مِنْ كَرَاهَته، وَإِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ حَرَام، وَمَا أَظُنّهُ يَصِحّ عَنْ أَحَد، وَإِنْ صَحَّ عَنْ أَحَد فَمَحْجُوج بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاع مَنْ قَبْله. (شرح مسلم).

‌فائدة:

قوله (وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي) نستفيد بيان علة عدم أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الضب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (لم يكن بأرض قومي).

قال ابن حجر: وقد ورد سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار، فذكر نص حديث ابن عباس وفي آخره (قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا - يعني لخالد بن الوليد، وعباس - فإنني يحضرني من الله حاضرة).

قال المازري: يعني الملائكة، وكأن للحم الضب ريحاً فترك أكله لأجل ريحه، وهذا إن صح يمكن ضمه إلى الأول ويكون لتركه الأكل من الضب سببان. (فتح الباري).

(وَالظِّبَاءِ)

وهو حلال، بناء على الأصل.

ولأن في صيده حال الإحرام فدية، وكل شيء فيه فدية فهو حلال.

(وَالنَّعَامَةِ).

حلال، بناء على الأصل.

وقد نص الفقهاء على حل النعام في مواضع، منها:

الذبح: فعند ذكر ما يريح الحيوان قالوا: وأن يكون الذبح في العنق لما قصر عنقه، وفي اللبة لما طال عنقه كالإبل والنعام والإوز لأنه أسهل لخروج الروح.

ص: 232

جزاء صيد المحرم: قال الشافعي: فإذا أصاب المحرم نعامة ففيها بدنة. (الأم).

حِلُّ أجزائه: قال ابن حزم: ومن حلف أن لا يأكل بيضاً لم يحنث إلا بأكل بيض الدجاج خاصة ولم يحنث بأكل بيض النعام وسائر الطير، ولا بيض السمك لما ذكرنا؛ وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان. (المحلى).

(وَالأْرْنَبِ).

وهو حلال.

عَنْ أَنَسٍ - فِي قِصَّةِ اَلْأَرْنَبِ - قَالَ (فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قال النووي: وَأَكْل الْأَرْنَب حَلَال عِنْد مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِي وَأَحْمَد وَالْعُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وَابْن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمَا كَرِهَاهَا. دَلِيل الْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث مَعَ أَحَادِيث مِثْله، وَلَمْ يَثْبُت فِي النَّهْي عَنْهَا شَيْء.

وقال ابن قدامة: وَالْأَرْنَبُ مُبَاحَةٌ، أَكَلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.

وَرَخَّصَ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَائِلًا بِتَحْرِيمِهَا، إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.

ص: 233

وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ (أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَخَذْتهَا، فَجِئْت بِهَا إلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا - أَوْ قَالَ - فَخِذِهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِأَنَّهَا حَيَوَانٌ مُسْتَطَابٌ، لَيْسَ بِذِي نَابٍ؛ فَأَشْبَهَ الظَّبْيَ. (المغني). (مَعْنَى اِسْتَنْفَجْنَا: أَثَرْنَا وَنَفَرْنَا).

وقال ابن حجر: وفي الحديث جواز أكل الأرنب وهو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمرو من الصحابة، وعن عكرمة من التابعين، وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء.

واحتج بحديث خزيمة بن جزء (قلت يا رسول الله ما تقول في الأرنب؟ قال: لا آكله ولا أحرمه، قلت فإني أكل ما لا تحرمه ولم يا رسول الله قال نبئت أنها تدمى) وسنده ضعيف ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة.

جاء في (الموسوعة الفقهية) الأْرْنَبُ حَلَالٌ أَكْلُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَال: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَخَذْتُهَا وَجِئْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ بِوَرِكِهَا - أَوْ قَال: بِفَخِذِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ (أَوْ صَفْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَنَّهُ قَال: صِدْتُ أَرْنَبَيْنِ فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةَ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا.

ثُمَّ إِنَّهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُسْتَطَابِ، وَلَيْسَتْ ذَاتَ نَابٍ تَفْتَرِسُ بِهِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهَا، فَهَذِهِ الْمَنَاطَاتُ تَسْتَوْجِبُ حِلَّهَا كَمَا سَيُرَى فِي الأْنْوَاعِ الْمُحَرَّمَةِ.

وَقَدْ أَكَلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه وَرَخَّصَ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

‌فائدة:

قد يستخبث العرب أو أكثرهم نوعاً من الأطعمة كأن يستخبثوا حيواناً معيناً لم يرد نص بتحريمه أو تحليله، فهل يؤثر استخباثهم لذلك الشيء فيكون حراماً؟ أو لا يؤثر؟ اختلف العلماء:

فقيل: عدم تأثير استخباث العرب في تحريم الأطعمة.

ص: 234

وهو المشهور من مذهب الحنفية، والمالكية، وهو اختيار ابن تيمية.

أ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ (أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ فَأَهْوَى إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ ضَبٌّ فَأَمْسَكَ يَدَهُ فَقَالَ خَالِدٌ أَحَرَامٌ هُوَ قَالَ: لا وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ فَأَكَلَ خَالِدٌ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ) متفق عليه.

وجه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره لحم الضب ولم يعتبر ذلك تحريماً له، فدل على أن استخباث قريش أو غيرها من العرب لطعام ما ليس له أثر في تحريمه.

ب- أن بعض العرب بل قريش نفسها كانوا في الجاهلية يأكلون بعض الخبائث ويعافون بعض الطيبات، فكيف إذاً يعتبر استخباثهم في تحريم الطعام.

وقيل: أن ما استخبثته العرب وإن لم يرد نص بتحريمه - فهو حرام -.

وهو مذهب الشافعية، والحنابلة.

لقوله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث).

وجه الاستدلال: أن الله تعالى بيّن أنه حرم الخبائث، وحيث لم يرد نص بتعيينها فيرجع في ذلك إلى من نزل القرآن بلغتهم وفي أرضهم، وهم العرب، فما استخبثوه كان حراماً.

والراجح الأول.

ص: 235

(وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى مُحَرَّمٍ ـ غَيْرَ السُّمِّ ـ حَلَّ لَهُ مِنْهُ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ).

أي: من ألجأته الضرورة إلى محرّم من المأكولات حل له أن يأكل من هذا المحرّم - كالميتة - ما يسد رمقه.

ويدل لذلك:

قوله تعالى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

وقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وأجمع العلماء على ذلك:

قال ابن قدامة: أجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا فِي الِاضْطِرَارِ، وكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ. (المغني)

وقال ابن حزم: واتفقوا على أن الميتة والدم ولحم الخنزير حلال لمن خشي على نفسه الهلاك من الجوع.

ص: 236

•‌

‌ وهنا مباحث:

‌أولاً: تعريف الضرورة لغة وشرعاً:

قال ابن منظور: الاضطرار الاحتياج إلى الشيء وقد اضطره إليه أمر.

وشرعاً: للضرورة تعاريف متقاربة في المعنى عند الفقهاء، ومن ذلك ما يأتي:

قيل: إنها بلوغه حداً إن لم يتناول الممنوع هلك إذا قارب وهذا يبيح تناول الحرام.

وقيل: ومعنى الضرورة هاهنا خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل، والمعنى متقارب.

‌ثانياً: الدليل على جواز الأكل من الميتة عند الضرورة.

قال ابن قدامة: أجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا فِي الِاضْطِرَارِ.

وَتقدمت الأدلة.

‌ثالثاً: بيان حد الاضطرار الذي يبيح تناول المحرم:

حد الاضطرار هنا يتبين من مجموع الآيات الواردة في الموضوع، وهي:

قوله تعالى (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).

فأطلق في هذه الآية الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها.

قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

فقيد الإباحة في هذه الآية بأن يكون المضطر غير باغ ولا عاد لكنه لم يبين سبب الاضطرار ولم يبين المراد بالباغي والعادي.

ص: 237

قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فبين سبحانه سبب الاضطرار وهو المخمصة.

وإذاً: يمكننا أن نقول: إن حد الاضطرار المبيح لتناول المحرم: هو أن يخاف على نفسه التلف بسبب الجوع ولم يجد ما يتغذى به من الحلال، بشرط أن يكون غير متجانف لإثم، وهو الباغي والعادي.

قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ، هِيَ الَّتِي يَخَافُ التَّلَفَ بِهَا إنْ تَرَكَ الْأَكْلَ.

قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جُوعٍ، أَوْ يَخَافُ إنْ تَرَكَ الْأَكْلَ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ، وَانْقَطَعَ عَنْ الرُّفْقَةِ فَهَلَكَ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ الرُّكُوبِ فَيَهْلَكُ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مَحْصُورٍ. (المغني).

وقال الشنقيطي: حَدُّ الِاضْطِرَارِ الْمُبِيحِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَهُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْهَلَاكِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا.

‌رابعاً: اختلف العلماء في المراد بالباغي والعادي على قولين:

‌القول الأول: أن المراد بالباغي هو الخروج على إمام المسلمين،

والإثم الذي يتجانف إليه العادي هو إخافة الطريق وقطعها على المسلمين، ويلحق بذلك كل سفر معصية لله، لأن في ذلك إباحة على المعصية وذلك لا يجوز.

فعلى هذا القول: الباغي: الخارج على الإمام، والعادي: قاطع الطريق، وكل مسافر سفر معصية.

‌القول الثاني: أن المراد بالباغي: الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال،

والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه.

ص: 238

ورجح هذا التفسير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: وأما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب، وهو قول أكثر السلف. . . وليس في الشرع ما يدل على أن العاصي بسفره لا يأكل الميتة ولا يقصر، بل نصوص الكتاب والسنة عامة مطلقة.

ورجح هذا القول القرطبي والإمام ابن جرير.

‌خامساً: بيان حكم تناول الطعام المحرم في حال الضرورة.

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

‌القول الأول: يجب على المضطر الأكل من الميتة ونحوها.

وهذا قول الحنفية، والصحيح من مذهب المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة، وأصح الوجهين عند الشافعية.

لقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

ولقوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

وترك الأكل مع إمكانه في هذه الحال؛ إلقاء بيده إلى التهلكة.

ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحل الله له فلزمه، كما لو كان معه طعام حلال.

‌القول الثاني: أنه لا يلزمه في هذه الحال الأكل من المحرم.

لأن له غرضاً في تركه وهو أن يتجنب ما حرم عليه، ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص.

والراجح القول الأول أنه يجب عليه أن يأكل في هذه الحال، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال:

قال ابن تيمية: ويجب على المضطر أن يأكل ويشرب ما يقيم به نفسه، فمن اضطر إلى الميتة أو الماء النجس فلم يشرب ولم يأكل حتى مات دخل النار.

ص: 239

وقال الشنقيطي: هَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا إِنْ خَافَ الْهَلَاكَ، أَوْ يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْوُجُوبُ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، وَقَوْلِهِ:(وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا).

‌سادساً: بيان مقدار ما يباح للمضطر تناوله من المحرم.

يباح له أكل ما يسد به الرمق ويأمن معه الموت بالإجماع، ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع.

قال ابن قدامة: وَيُبَاحُ لَهُ أَكْلُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ، بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا. (المغني).

‌واختُلف في حكم الشبع على ثلاثة أقوال:

‌القول الأول: لا يباح له الشبع.

وهو قول أبي حنيفة وأحد الروايتين عن أحمد وأحد القولين للشافعي.

وهو قول ابن الماجشون من المالكية.

قالوا: لأن الآية دلت على تحريم ما ذكر فيها، واستثنى ما اضطر إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الأكل كحال الابتداء.

ولأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية، يحققه أن حاله بعد سد رمقه كحاله قبل أن يضطر وثم لم يبح له الأكل كذا هاهنا.

ص: 240

‌القول الثاني: أن له الشبع.

وهذا قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي.

لحديث جابر بن سمرة (أن رجلاً نزل الحرة فنفقت عنده ناقة، فقالت له امرأته: اسلخها حتى نقدر شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله?، فسأله فقال: (هل عندك غنى يغنيك؟) قال: لا، قال: فكلوها) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بأكل ولم يحدد.

‌القول الثالث: التفصيل بين من يخشى استمرار الضرورة فيحل له الشبع،

ومن ضرورته مرجوة الزوال فلا يحل له إلا سد الرمق، لأن من ضرورته مستمرة إذا اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ولا يتمكن من البعد من الميتة مخافة الضرورة، ويفضي إلى ضعف بدنه، وربما أدى ذلك إلى تلفه بخلاف من ليست ضرورته مستمرة فإنه يرجو الغنى عنها بما يحل له.

وهذا احتمال في مذهب الحنابلة، ذكره صاحب المغني، وقول في مذهب الشافعي.

وهذا القول هو الراجح.

‌سابعاً: هل يجوز للمضطر أن يتزود من الطعام المحرم؟

الصحيح أنه يجوز له ذلك، وهذا قول مالك ورواية عن أحمد وهو قول الشافعية.

لأنه لا ضرر في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته، ولا يأكل منها إلا عند ضرورته.

ثامناً: كل المحرمات إذا اضطر إليها، وزالت بها الضرورة كانت مباحة.

قلنا (وزالت بها الضرورة) احترازاً مما لا تزول به الضرورة، كما إذا ما اضطر الإنسان إلى أكل سم، فلا يجوز أن يأكل، لأنه لا تزول بها ضرورته، بل يموت به، ولو اضطر إلى شرب خمر لعطش لم يحل له، لأنه لا تزول به ضرورته، ولذلك لو احتاج إلى شربه لدفع لقمة غص بها حل له، لأنه تزول به ضرورته.

ص: 241

قال الشيخ ابن عثيمين: ليس هناك ضرورة تبيح المحرم إلا بشرطين:

أن نعلم أنه لا تزول ضرورته إلا بهذا.

أن نعلم أن ضرورته تزول به. (لقاء الباب المفتوح).

الخلاصة: فشروط إباحة المحرم للضرورة هي:

الأول: وجود الضرورة.

الثاني: ألا توجد وسيلة لدفع الضرر إلا بفعل هذا المحرم.

الثالث: أن يكون فعل المحرم مزيلاً للضرورة قطعاً، فإن حصل شك هل تزول الضرورة بهذا الفعل أم لا؟ فلا يجوز فعل المحرم حينئذ.

الرابع: ألا يعارض هذه الضرورة ما هو مثلها أو أعظم منها.

‌تاسعاً: لو اضطر لميتة آدمي.

فالمشهور عند الحنابلة أنه لا يجوز أن يأكلها، وقالت الشافعية: إنه يجوز أكلها عند الضرورة.

(وإنْ وجدَ متفقاً على تحريمهِ ومُختلفاً فيه أكلَ من المُختلف فيه).

لأنه أخف تحريماً.

كالخنزير متفق على تحريمه والثعلب مختلف فيه والقنفذ وما شاكل ذلك، فهنا يأكل من المختلف فيه، لأنه أخف تحريماً من المتفق عليه.

(فإن لم يجد إلا طعامًا لغيرهِ به مِثْلُ ضرورتهِ لم يبح له أخذُهُ).

لأن صاحب الطعام ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة.

لأن المالك يزيد على غيره بالملكية ويتساوى معه في الاضطرار فقدّم.

قال الشيخ ابن عثيمين: إذا اضطر إلى مال الغير، فإن صاحب المال إن كان مضطراً إليه فهو أحق به.

ص: 242

مثاله: رجل معه خبزة وهو جائع وصاحبه جائع، وليس معه خبز، فالصاحب محتاج إلى عين مال الغير، لكن الغير - أيضاً - محتاج إليه، ففي هذه الحال لا يحل للصاحب أن يأخذ مال الغير؛ لأن صاحبه أحق به منه. (الشرح الممتع).

ولكن هل يجوز لصاحبه أن يؤثره أو لا؟

لا يجوز له إيثاره على نفسه، لأن ذلك يعتبر قتلاً للنفس وهو محرم.

وقال الشيخ ابن عثيمين: المذهب أن الإيثار في هذه الحال لا يجوز، وقد سبق لنا قاعدة في ذلك، وهي أن الإيثار بالواجب غير جائز، ومن أمثلتها في باب التيمم إذا كان الإنسان ليس معه من الماء إلا ما يكفي لطهارته، ومعه آخر يحتاج إلى ماءٍ فلا يعطيه إياه والثاني يتيمَّم؛ لأن هذا إيثار بالواجب، والإيثار بالواجب حرام.

وعلى هذا فإذا كان صاحب الطعام محتاجاً إليه، يعني مضطراً إليه كضرورة الصاحب فإنه لا يجوز أن يؤثر به الصاحب؛ لأن هذا يجب عليه أن ينقذ نفسه، وقد قال النبي عليه السلام (ابدأ بنفسك) فلا يجوز أن يؤثر غيره؛ لوجوب إنقاذ نفسه من الهلكة قبل إنقاذ غيره، هذا هو المشهور من المذهب. (الشرح الممتع).

(وإن كان مستغنيًا عنه أخذَهُ منه بثمنهِ).

أي: وإن كان صاحب الطعام غير مضطر له لزمه بذله للمضطر.

لأن فيه إنقاذ حياة آدمي معصوم فلزمه بذله.

قال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).

ففي هذه الآية دليل على أن إنقاذ النفس من أسباب الهلاك كأنه إحياء للناس جميعاً.

قال النووي: إذا لم يكن المالك مضطراً فيلزمه إطعام المضطر مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً.

- وعلى آكل طعام الغير عند الضرورة ضمان ما أكل.

وهذا قول الجمهور.

ص: 243

‌فائدة:

عند جمهور العلماء: أن المضطر إلى طعام غيره لا يجوز له أن يشبع، بل يأكل مقدار ما يسد الرمق فقط.

(فإنْ منعَهُ منهُ، أخذَهُ قهْراً، وضمِنَهُ له متى قَدِرَ).

أي: فإن أبَى صاحب الطعام أن يعطيه، فللمضطر أن يأخذه قهراً بالقوة.

(فإنْ قُتِلَ المضطرّ فهو شهيد، وعلى قاتله ضمانه، وإن قُتِلَ المانع فلا ضمان فيه).

أي: إن لم يتمكن المضطر من أخذ الطعام إلا بالقتال فإنه يقاتله.

فإن قُتل المضطر فهو شهيد، وإن قتل صاحب المال فهو ظالم.

قوله (وعلى قاتله ضمانه) أي: إذا مات المضطر فإن صاحب الطعام يضمنه.

لأنه تعدى بترك الواجب عليه.

‌فائدة: 1

أذا وجد المضطر الميتة وطعام الغير: فإنه يقدِّمُ المَيْتةَ على طعامِ الغيرِ.

وهذا مذهبُ الشَّافعيَّةِ- في أصحِّ الأوجُه، والحنابلة، وهو قولُ بعضِ السَّلف، واختارَه ابنُ تيميَّة.

أ - لأنَّ حقوقَ اللهِ تعالى مَبنيَّةٌ على المُسامحةِ والمُساهلةِ، وحقوقَ الآدميِّ مَبنيَّةٌ على الشُّحِّ والتَّضييقِ؛ ولأنَّ حقَّ الآدميِّ تَلزَمُه غَرامتُه،

وحقَّ اللهِ لا عِوَضَ له.

ب- أنَّ أكْلَ المَيْتةِ مَنصوصٌ عليه، ومالَ الآدميِّ مُجتهَدٌ فيه؛ والعُدولُ إلى المنصوصِ عليه أَوْلى.

وذهب بعض العلماء: إِلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ مَالَ الْغَيْرِ إِنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يُجْعَلَ سَارِقًا وَيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ.

وهذا قول مالك.

ص: 244

فَفِي «مُوَطَّئِهِ» مَا نَصُّهُ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ أَيَأْكُلُ مِنْهَا وَهُوَ يَجِدُ ثَمَرًا لِقَوْمٍ، أَوْ زَرْعًا، أَوْ غَنَمًا بِمَكَانِهِ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: إِنْ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الثَّمَرِ، أَوِ الزَّرْعِ، أَوِ الْغَنَمِ يُصَدِّقُونَهُ بِضَرُورَتِهِ حَتَّى لَا يُعَدَّ سَارِقًا فَتُقْطَعُ يَدُهُ، رَأَيْتُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ، وَلَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ. وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَلَّا يُصَدِّقُوهُ، وَأَنْ يُعَدَّ سَارِقًا بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ; فَإِنْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدِي، وَلَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَعَةٌ.

‌فائدة: 2

إذا خاف الإنسان على نفسه الهلاك من الجوع ولم يجد إلا إنساناً حياً معصوماً لم يبح له قتله إجماعاً، ولا قطع عضو من أعضائه لأنه مثله.

فلا يجوز له أن يبقي نفسه بإتلاف غيره، لأن الضرر لا يزال بضرر مثله ولا بأكثر منه، وهذا لا خلاف فيه.

‌فائدة: 3

حكم أكل المضطر من الآدمي الميت؟

قيل: لا يجوز.

وهو قول الجمهور: من الحنفية، والمالكية، والحنابلة.

أ-لقوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم).

ص: 245

وجهُ الدَّلالةِ: أنَّ مِن إكرامِ بَني آدَمَ حمايةَ جسدِه مِنَ الاعتِداءِ حَيًّا ومَيِّتًا؛ فلا يُباحُ لأحدٍ أكْلُه.

ب-وعن عائشة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ ككَسْرِه حَيّاً) رواه ابن ماجه.

وجهُ الدَّلالة: أنَّ الميِّتَ كالحيِّ في الحُرمةِ؛ فيَحرُمُ أذيَّتُه في جِسمِه كعظْمِه.

ج- أنَّ الآدميَّ لا يُسمَّى مَيْتةً؛ فلمْ يَجُزْ للمُضطَرِّ أنْ يَأكُلَه بإباحةِ اللهِ تعالى له أكْلَ المَيْتة.

وقيل: يجوز.

لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، فيجوز الأكل من الميت قدر الحاجة فقط.

قال ابن قدامة: وإن وجد معصوماً ميتا لم يبح أكله في قول أصحابنا، وقال الشافعي وبعض الحنفية يباح، وهو أولى لأن حرمة الحي أعظم.

وقال الشيخ ابن عثيمين: لكن إذا كان ميتًا فالمشهور عندنا -يعني في مذهب الحنابلة- أنه لا يجوز أكله حتى وإن كان ميتًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (كسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَياً) فإذا قال: يا جماعة، أنا أموت إذا لم آكل منه، قلنا: ولتمت، هذا أجلك، وذهب بعض العلماء، وهو مذهب الشافعي أنه يجوز للحي أن يأكل الميت عند الضرورة، وعلّلوا ذلك بأن حُرمة الحي أعظم من حرمة الميت.

‌فائدة: 4

اختلف الفقهاء في حكم الأكل للمضطر من الآدمي الحي غير المعصوم (كالحربي مثلاً):

فقيل: له قتله وأكله.

وقيل: لا يجوز للمضطر أن يقتل الإنسان ليأكله وإن كان غير معصوم.

ص: 246

(وَمَنْ مَرَّ بِثَمَرِ بُسْتَانٍ فِي شَجَرَةٍ، أَوْ مُتَسَاقِطٍ عَنْهُ، وَلَا حَائِطَ عَلَيْهِ، وَلَا نَاظِرَ، فَلَهُ الأَكْلُ مِنْهُ مَجَّاناً مِنْ غَيْرِ حَمْل).

إذا مرّ الإنسان على بستان فيه ثمر فله الأكل منه مجاناً بشروط:

أولاً: أن يكون الثمر على الشجر، أو متساقط منه.

ثانياً: ألا يكون على البستان ناظر وليس له حائط.

فإن كان له ناظر أو حائط فلا بد من الإذن، لأن وضعها قرينة على عدم الرضى بالأكل.

ثالثاً: أن لا يحمل شيئاً.

فإن حمل أو أخذ شيئاً فهو حرام.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

(غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً) بضم الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحّدة، ونون- قَالَ الخطّابيّ: الخُبْنة: ما يأخذه الرجل فِي ثوبه، فيرفعه إلى فوقُ، ويقال للرجل إذا رفع ذيله فِي المشي: قد رفع خُبْنته. انتهى.

ص: 247

وَقَالَ فِي (النهاية) الْخُبْنة: مِعْطف الإزار، وطرف الثوب: أي لا يأخذ منه فِي ثوبه، يقال: أخبن الرجل: إذا خبأ شيئًا فِي خُبْنة ثوبه، أو سراويله.

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ وَلا يَتَّخِذْ خُبْنَةً) ورواه ابن ماجه بلفظ: (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ وَلا يَتَّخِذْ خُبْنَةً).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا أَتَيْتَ عَلَى رَاعٍ فَنَادِهِ ثَلاثَ مِرَارٍ فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلا فَاشْرَبْ فِي غَيْرِ أَنْ تُفْسِدَ، وَإِذَا أَتَيْتَ عَلَى حَائِطِ بُسْتَانٍ فَنَادِ صَاحِبَ الْبُسْتَانِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلا فَكُلْ فِي أَنْ لا تُفْسِدَ).

فدلت هذه الأحاديث على جواز أن يأكل الإنسان من ثمر غيره، دون أن يحمل معه، بشرط أن ينادي صاحبه أولاً ثلاثاً، فإن أجابه استأذنه، وإن لم يجبه أكل.

واشترط بعضهم: ليس عليه حائط.

فإن كان عليه حائط فإنه لا يأكل منه؛ لأن تحويط صاحبه عليه دليل على أنه لا يرضى أن يأكله أحد.

قال الشيخ ابن عثيمين: اشتراط انتفاء الحائط فيه نظر؛ لأن لفظ الحديث (من دخل حائطاً) والحائط هو المحوطُ بشيء، وعلى هذا فلا فرق بين الشجر الذي ليس عليه حائط، وبين الشجر الذي عليه حائط.

فالذي تبين من السنة أن الشرط هو أن يأكل بدون حمل، وألا يرمي الشجر، بل يأخذ بيده منه، أو ما تساقط في الأرض، وأيضاً يشترط أن ينادي صاحبه ثلاثاً، إن أجابه استأذن، وإن لم يجبه أكل.

ص: 248

هذا الذي دل عليه الحديث هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله. (الشرح الممتع).

وذهب جمهور العلماء: إلى أن ذلك ليس بجائز.

قَالَ النوويّ فِي "شرح المهذب": اختلف العلماء، فيمن مر ببستان، أو زرع، أو ماشية، قَالَ الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئاً، إلا فِي حال الضرورة، فيأخذ، وَيغرَم عند الشافعيّ، والجمهور. (المجموع).

لأن الأصل في مال المسلم التحريم، فلا يجوز بغير إذنه.

وأجابوا عن أحاديث الجواز: بأن حديث النهي أصح، فهو أولى بأن يُعمل به.

وبأنه معارِضٌ للقواعد القطعية، فِي تحريم مال المسلم، بغير إذنه، فلا يُلتفت إليه.

ومنهم منْ جمع بين الحديثين بوجوه منْ الجمع، منها: حمل الإذن عَلَى ما إذا علم طيب نفس صاحبه، والنهي عَلَى ما إذا لم يعلم.

ومنها: تخصيص الإذن بابن السبيل، دون غيره، أو بالمضطرّ، أو بحال المجاعة مطلقاً، وهي متقاربة.

وحكى ابن بطال عن بعض شيوخه: أن حديث الإذن كَانَ فِي زمنه صلى الله عليه وسلم وحديث النهي أشار به إلى ما سيكون بعده منْ التشاح، وترك المواساة. (الفتح).

قال الشوكاني في (نيل الأوطار) عند كلامه على هذا الحديث: وأحاديث في الباب بمعناه: ظاهر أحاديث الباب جواز الأكل من حائط الغير، والشرب من ماشيته بعد النداء المذكور من غير فرق بين أن يكون مضطراً إلى الأكل أو لا إلى أن يقول: والممنوع إنما هو الخروج بشيء من ذلك من غير فرق بين القليل والكثير.

ص: 249

(وَتَجِبُ ضِيَافَةُ المُسْلِمِ الْمُجْتَازِ بِهِ فِي الْقُرَى يَوْماً وَلَيْلَةً).

هذا بيان حكم الضيافة.

وقد أمر الشرع بالضيافة وحث عليها.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ [وفي رواية: فلا يؤذ جاره] وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) متفق عليه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفا بإكرام الضيف حتى قبل البعثة.

فحين رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة من غار حراء فزعاً من لقائه جبريل عليه السلام قال لخديجة: أي خديجة، ما لي لقد خشيت على نفسي) أخبرها الخبر، قالت خديجة (كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) متفق عليه.

قال القسطلاني: وتَقرِي الضيف أي: تهيئ له طعامه ونزله.

ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للضيف حقا على المُضيف: ففي حديث ابن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وإن لزَوْرِك عليك حقاً) رواه البخاري.

قال ابن حجر: قوله: (لزَورك) بفتح الزاي، أي: لضيفك.

وأما حكمها:

فهي واجبة في حق أهل البوادي دون القرى.

وهذا المذهب.

قال ابن حجر: وخصه أحمد بأهل البوادي دون القرى.

ص: 250

قال النووي: وقد جاء في حديث: (الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر) لكنه حديث موضوع.

قال: ولأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول.

وقيل: واجبة مطلقاً.

وبه قال الليث مطلقاً.

لحديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ (قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِى يَنْبَغِي لَهُم) متفق عليه.

قال النووي: واحتج بحديث: (ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم).

وبحديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم تفعلوا فخذوا منهم حق الضيف) رواه البخاري

وقيل: أنها سنة مؤكدة غير واجبة.

قال النووي: وهو قول عامة الفقهاء.

وقال ابن حجر: وقال الجمهور الضيافة سنة مؤكدة.

وأجاب الجمهور عن حديث عقبة:

قيل: حمله على المضطرين.

وقيل: أن ذلك كان في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة، ورجح هذا النووي.

وقيل: أن هذا خاص بالعمال المبعوثين لمقتضى الصدقات من جهة الإمام.

وقيل: أن هذا خاص بأهل الذمة.

والراجح -والله أعلم- أن ضيافة المسافر المجتاز - لا المقيم - واجبة، وأن وجوبها على أهل القرى، والأمصار، دون تفريق.

ص: 251

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ سُنَّةٌ، وَمُدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَالرِّوَايَةُ الأْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ - وَهِيَ الْمَذْهَبُ - أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَمُدَّتُهَا يَوْمٌ لَيْلَةٌ، وَالْكَمَال ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَبِهَذَا يَقُول اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الضِّيَافَةِ فِي حَالَةِ الْمُجْتَازِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُبَلِّغُهُ وَيَخَافُ الْهَلَاكَ.

وَالضِّيَافَةُ عَلَى أَهْل الْقُرَى وَالْحَضَرِ، إِلاَّ مَا جَاءَ عَنِ الإْمَامِ مَالِكٍ وَالإْمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ ضِيَافَةٌ.

قال الشيخ ابن عثيمين: حكم الضيافة واجب، وإكرام الضيف - أيضاً - واجب، وهو أمر زائد على مطلق الضيافة، قال النبي عليه السلام:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).

قوله: (المجتاز به) يعني: الذي مرَّ بك وهو مسافر، وأما المقيم: فإنه ليس له حق ضيافة.

قوله (في القرى) دون الأمصار، والقرى: البلاد الصغيرة، والأمصار: البلاد الكبيرة.

قالوا: لأن القرى هي مظنة الحاجة، والأمصار بلاد كبيرة فيها مطاعم، وفنادق، وأشياء يستغني بها الإنسان عن الضيافة. وهذا -أيضاً- خلاف القول الصحيح؛ لأن الحديث عامّ، وكم من إنسان يأتي إلى الأمصار وفيها الفنادق، وفيها المطاعم، وفيها كل شيء، لكن يكرهها ويربأ بنفسه أن يذهب إليها، فينزل ضيفاً على صديق، أو على إنسان معروف، فلو نزل بك ضيف - ولو في الأمصار: فالصحيح: الوجوب. (الشرح الممتع).

ص: 252

وقال الشوكاني: والحق وجوب الضيافة لأمور:

الأول: إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب.

والثاني: التأكد البالغ بجعل ذلك فرع الإيمان بالله واليوم الآخر يفيد أن فعل خلافه فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومعلوم أن فروع الإيمان مأمور بها، ثم تعليق ذلك بالإكرام وهو أخص من الضيافة فهو دال على لزومها بالأولي.

والثالث: قوله: (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) فإنه صريح في أن ما قبل ذلك غير صدقة بل واجب شرعاً.

قال الخطابي: يريد أن يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وألطاف، ويقدم له في اليوم الثاني ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته، فما جاوز الثلاث فهو معروف وصدقة إن شاء فعل وإن شاء ترك. (نيل الأوطار).

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الضِّيَافَةِ فِي حَالَةِ الْمُجْتَازِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُبَلِّغُهُ وَيَخَافُ الْهَلَاكَ.

وَالضِّيَافَةُ عَلَى أَهْل الْقُرَى وَالْحَضَرِ، إِلاَّ مَا جَاءَ عَنِ الإْمَامِ مَالِكٍ وَالإْمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ ضِيَافَةٌ، وَقَال سَحْنُونٌ: الضِّيَافَةُ عَلَى أَهْل الْقُرَى، وَأَمَّا أَهْل الْحَضَرِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا قَدِمَ الْحَضَرَ وَجَدَ نُزُلاً - وَهُوَ الْفُنْدُقُ - فَيَتَأَكَّدُ النَّدْبُ إِلَيْهَا وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ تَعَيُّنَهَا عَلَى أَهْل الْقُرَى لَمَعَانٍ:

أحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ يَتَكَرَّرُ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ، فَلَوِ الْتَزَمَ أَهْل الْحَضَرِ الضِّيَافَةَ لَمَا خَلَوْا مِنْهَا، وَأَهْل الْقُرَى يَنْدُرُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَلَا تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ.

ثَانِيها: أَنَّ الْمُسَافِرَ يَجِدُ فِي الْحَضَرِ الْمَسْكَنَ وَالطَّعَامَ، فَلَا تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ لِعَدَمِ الضِّيَافَةِ، وَحُكْمُ الْقُرَى الْكِبَارِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الْفَنَادِقُ وَالْمَطَاعِمُ لِلشِّرَاءِ وَيَكْثُرُ تَرْدَادُ النَّاسِ عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَضَرِ، وَهَذَا فِيمَنْ لَا يَعْرِفُهُ الإْنْسَانُ، وَأَمَّا مَنْ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةَ مَوَدَّةٍ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ أَوْ صِلَةٌ وَمُكَارَمَةٌ، فَحُكْمُهُ فِي الْحَضَرِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ.

ص: 253

‌فائدة: 1

وجوب الضيافة مقيد بيوم وليلة.

عَنْ أَبِى شُرَيْحٍ الْعَدَوِىِّ أَنَّهُ قَالَ. قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ». قَالُوا وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ -وَقَالَ- مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) متفق عليه.

وفي لفظ (وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يُؤْثِمُهُ قَالَ «يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ).

قال الخطابي: قوله: (جائزته يوم وليلة) سئل مالك بن أنس عنه فقال: يُكرمه، ويتحفه، ويخصه، ويحفظه، يوماً وليلة، وثلاثة أيام ضيافة.

قلت: يريد أنه يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له من بِر، وألطاف، ويقدِّم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته، ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاث: فهو صدقة، ومعروف، إن شاء فعل، وإن شاء ترك. (معالم السنن).

وقال ابن القيم: إن للضيف حقّاً على مَن نزل به، وهو ثلاث مراتب: حق واجب، وتمام مستحب، وصدقة من الصدقات، فالحق الواجب: يوم وليلة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المراتب الثلاثة في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي شريح الخزاعي -وساق الحديث السابق.) زاد المعاد).

وقال ابن قدامة: والواجب يوم ليلة، والكمال ثلاثة أيام؛ لما روى أبو شريح الخزاعي - وساق الحديث -.

ص: 254

‌فائدة: 2

قوله (وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ) لفظ البخاري (حتى يحرجه).

قال النووي: مَعْنَاهُ لَا يَحِلّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُقِيم عِنْده بَعْد الثَّلَاث حَتَّى يُوقِعهُ فِي الْإِثْم؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْتَابهُ طُول مَقَامه، أَوْ يُعَرِّض بِمَا يُؤْذِيه، أَوْ يَظُنّ بِهِ مَا لَا يَجُوز، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى (اِجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وَهَذَا كُلّه مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا أَقَامَ بَعْد الثَّلَاث مِنْ غَيْر اِسْتِدْعَاء مِنْ الْمُضِيف، أَمَّا إِذَا اِسْتَدْعَاهُ وَطَلَبَ زِيَادَة إِقَامَته، أَوْ عِلْم أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُكْرَه إِقَامَته فَلَا بَأْس بِالزِّيَادَةِ، لِأَنَّ النَّهْي إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ يُؤْثِمهُ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْحَالَة هَذِهِ فَلَوْ شَكَّ فِي حَال الْمُضِيف هَلْ تُكْرَه الزِّيَادَة وَيَلْحَقهُ بِهَا حَرَج أَمْ لَا تَحِلّ الزِّيَادَة إِلَّا بِإِذْنِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيث. وَاللَّهُ أَعْلَم.

جاء في (الموسوعة الفقهية) مَنْ نَزَل ضَيْفًا فَلَا يَزِيدُ مُقَامَهُ عِنْدَ الْمُضِيفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا زَادَ فَصَدَقَةٌ لِئَلاَّ يَتَبَرَّمَ بِهِ وَيَضْطَرَّ لإِخْرَاجِهِ، إِلاَّ إِنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَنْزِل بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ عَنْ خُلُوصِ قَلْبٍ فَلَهُ الْمُقَامُ.

‌فائدة: 3

قال حاتم الأصم: العجلة من الشيطان إلا خمسة فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إطعام الضيف، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب.

‌فائدة: 4

إذا ترك المضيف حق ضيفه عليه،

فلم يقدم له ما يحتاجه، فهل له أن يأخذ بقدر ضيافته بالمعروف، ولو لم يأذنوا به؟

إلى ذلك ذهب بعض أهل العلم القائلين بوجوب الضيافة. وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.

ص: 255

لأن الشرع قد جعل ذلك حقا له، فإن لم يعطه المضيف طوعاً، كان له أن يأخذه قهراً؛ إما بنفسه، أو عن طريق القضاء.

لما رواه أبو داود عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَأَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمًا فَلَمْ يَقْرُوهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاه).

وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْه).

وروى البخاري ومسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: (قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُم).

قال الإمام أحمد رحمه الله: يعني أن يأخذ من أرضهم وزرعهم وضرعهم بقدر ما يكفيه بغير إذنهم. (المغني).

وقال الشيخ ابن عثيمين: الضيف إذا نزل بشخص وامتنع من ضيافته فإن للضيف أن يأخذ من ماله ما يكفيه لضيافته بالمعروف من غير علمه؛ لأن الحق في هذا ظاهر؛ فإن الضيف إذا نزل بالشخص يجب عليه أن يضيفه يوماً وليلة حقاً واجباً، لا يحل له أن يتخلف عنه.

وذهب جمهور العلماء إلى أن الضيف لا يحل له أن يأخذ من مال مضيفه شيئا بغير إذنه، حتى ولو يقدم له ما ينبغي في ضيافته، أو لم يضفه أصلا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) رواه أحمد.

وهذا ظاهر على مذهب الجمهور الذين يرون الضيافة مكرمة ومستحبة، ولا يرون وجوبها من حيث الأصل.

ص: 256

‌بَابُ الذَّكَاةِ

‌تعريفها:

لغة: تمام الشيء، ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل.

وشرعاً: ذبح أو نحر الحيوان المأكول البري بقطع حلقومه ومريئه أو عقر ممتنع.

وقيل: إنهار الدم من بهيمة تحل، إما في العنق إن كان مقدوراً عليها، أو في أي محل من بدنه إن كان غير مقدور عليها.

(لَا يُبَاحُ شَيْءٌ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ).

أي: أن الذكاة شرط لحل الحيوان المباح.

أجمع العلماء على أنه لا يحل الحيوان المأكول اللحم غير السمك والجراد إلا بذكاة.

لقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) فاشترط الله الذكاة.

والحكمة منها: تطييب الحيوان المذكى، فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طِيْب، لأنه يسارع إليه التجفف.

والميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها، والذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات كانت سبب الحل.

(إِلاَّ الْجَرَادُ وَالسَّمَكُ، وَكُلُّ مَا لَا يَعِيشُ إِلاَّ فِي الْمَاءِ).

أي: أن السمك وكذا حيوانات البحر لا تحتاج إلى ذكاة، لأن ميتته حلال.

لحديث أبي هريرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه أبوداود.

وكذا الجراد، لا يحتاج إلى تذكية.

ص: 257

لأن ميتته حلال، لقوله صلى الله عليه وسلم (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد

) رواه أحمد، والراجح أنه حديث موقوف لكن له حكم الرفع.

(وَيُشْتَرَطُ لِلذَّكَاةِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ).

هذه شروط الذكاة التي لا بد من توفرها تكون صحيحة يحل بها الحيوان المذكى.

(أَهْلِيَّةُ الْمُذَكِّي، بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلاً).

هذا الشرط الأول: أن يكون المذكي عاقلاً.

وهذا قول جماهير العلماء.

لأن الذكاة يعتبر لها قصد كالعبادة، ومن لا عقل له لا يصح منه القصد، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق الشاة فذبحتها.

فلا تصح تذكية المجنون والسكران أو الطفل غير المميز لعدم إمكان القصد منهم.

(مُسْلِماً أَوْ كِتَابِيّاً، وَلَوْ مُرَاهِقاً، أَوِ امْرَأَةً، أَوْ أَقْلَفَ، أَوْ أَعْمَى).

هذا الشرط الثاني: أن يكون المذكي مسلماً أو كتابياً.

أما المسلم فظاهر.

ولو امرأة أو أعمى تحل تذكيتهم.

عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا) رَوَاهُ اَلْبُخَاري.

فهذا الحديث يفيد حل ذبيحة المرأة ولو كانت حائضاً.

وقد بوب البخاري على الحديثين: باب ذبيحة المرأة والأمَة.

ص: 258

قال ابن حجر: كأنه يشير إلى الرد على من منع ذلك، وقد نقل محمد بن عبد الحكم عن مالك كراهته وفي المدونة جوازه وفي وجه للشافعية يكره ذبح المرأة الأضحية وعند سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال في ذبيحة المرأة والصبي لا بأس إذا أطلق الذبيحة وحفظ التسمية وهو قول الجمهور. (الفتح).

قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الذَّبْحُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، إذَا ذَبَحَ، حَلَّ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى إبَاحَةِ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ.

وَقَدْ رُوِي (أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كُلُوهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

‌وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ سَبْعٌ:

أَحَدُهَا: إبَاحَةُ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ

وَالثَّانِيَة: إبَاحَةُ ذَبِيحَةِ الْأَمَةِ.

وَالثَّالِثَةُ: إبَاحَةُ ذَبِيحَةِ الْحَائِضِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْصِلْ.

وَالرَّابِعَةُ: إبَاحَةُ الذَّبْحِ بِالْحَجَرِ.

وَالْخَامِسَةُ: إبَاحَةُ ذَبْحِ مَا خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ.

وَالسَّادِسَةُ: حِلُّ مَا يَذْبَحُهُ غَيْرُ مَالِكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.

وَالسَّابِعَةُ: إبَاحَةُ ذَبْحِهِ لِغَيْرِ مَالِكِهِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَيْهِ. (المغني).

وأما الكتابي: (وهو اليهودي والنصراني) فتحل بالكتاب والسنة والإجماع.

ص: 259

قال تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم.

وعن أنس. (أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها) رواه أحمد.

وعنه أيضاً (أن يهودياً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبز وشعير وإهالة سنخة فأجابه) رواه أحمد.

[الإهالة السنخة] الشحم المذاب إذا تغيرت رائحته.

قال شيخ الإسلام: ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.

فغير الكتابي لا تحل ذبيحته: كالمجوسي والوثني والمرتد والعلماني والرافضي وغيرهم من المشركين.

‌فائدة:

اختلف العلماء: هل يشترط لحل ما ذكاه الكتابي أن يكون أبواه كتابيين أو أن المعتبر هو بنفسه؟

الصحيح أن ذلك ليس بشرط وأن المعتبر هو بنفسه، فإذا كان كتابياً حل ما ذكاه وإن كان أبواه أحدهما من غير أهل الكتاب، كأن يكونا من الوثنيين أو المجوس.

وهذا مذهب والحنفية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم ولا أعلم في ذلك بينهم نزاعاً.

وقيل: لا تحل ذبيحته.

وهذا المشهور من مذهب الشافعية، والحنابلة.

لأن قد وجد في ذبيحته ما يقتضي الإباحة وهو كونه كتابياً، ووجد فيها ما يقتضي التحريم وهو كون أحد أبويه غير كتابي فغلب ما يقتضي التحريم.

ص: 260

والصحيح - كما تقدم - أن ذبيحته حلال مطلقاً.

أ-لأن الأدلة الدالة على إباحة ذبائح أهل الكتاب أدلة عامة لم تفرق بين من كان أبواه كتابيين وبين غيره من أهل الكتاب.

ب-أن هناك عرباً دخلوا في دين اليهودية مع أن آباءهم لم يكونوا يهوداً (كتابيين) ومع ذلك لم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين من كان أبواه يهوديين في أكل طعامهم وحل نسائهم، بل حكم في الجميع بحكم واحد.

ج- أن الشخص يأخذ حكم المسلمين إذا كان مسلماً ولو كان أبواه كافرين، ويأخذ حكم المشركين ولو كان أبواه مسلمين، لأن الدين يتعلق بالنفس والاعتقاد والإرادة، وإن تقرر هذا فكذلك من كان كتابياً أخذ حكم أهل الكتاب ولو كان أبواه غير كتابيين.

(وأن يقصد التذكية).

هذا الشرط الثالث: أن يقصد التذكية.

لأن الله تعالى قال (إلا ما ذكيتم) فأضاف الفعل إلى المخاطبين.

فلو لم يقصد التذكية لم تحل الذبيحة: مثل أن تصول عليه البهيمة فيذبحها للدفاع عن نفسه فقط.

فائدة:

هل يشترط مع قصد التذكية قصد الأكل أم لا؟

قيل: يشترط ذلك.

وأنه لا بُد أن يقصد الأكل، فإن لم يقصد الأكل لم تحل الذبيحة.

وقيل: لا يشترط.

وهذا الأقرب.

ص: 261

(وأن يكون بآلة محددة).

هذا الشرط الرابع: أن يكون الذبح بآلة محددة.

(بآلة) أي: فلا بد أن يكون الذبح بآلة، فلا يصح الخنق، ولا التردية ـ أي: أن يرديها من الجبل حتى تموت ـ ولا الحذف بأن يحذفها بشيء حتى تموت، ولا الضرب، فكل هذا لا تحل به الذبيحة، بل لا بد من آلة.

(محددة) ولا بد أن تكون الآلة محددة، أي لها حد يقطع، فكل محدد تصح به الذكاة: من حديد أو حجر.

أ-عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا أُنْهِرَ اَلدَّمُ، وَذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ لَيْسَ اَلسِّنَّ وَالظُّفْرَ; أَمَّا اَلسِّنُّ; فَعَظْمٌ; وَأَمَّا اَلظُّفُرُ: فَمُدَى اَلْحَبَشِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

(مَا أُنْهِرَ اَلدَّمُ) أي: أساله، وصبه بكثرة، ووزنه أفعل، منْ النهر، شُبِّهَ خُروج الدم بجري الماء فِي النهر، والذي ينهر الدم ما له نفوذ في البدن، وهو المحدد كالسهم والحديد والخشب الذي له حد والزجاج.

ب-ولحديث شَدَّادِ بْن أَوْس قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) رواه مسلم.

ج- ولأن الذبح بغير المحدد فيه إيلام للبهيمة، بخلاف المحدد ففيه إراحة لها وتعجيل بزهوق النفس.

فكل ما أنهر الدم فإن التذكية به صحيحة مجزئة كالحديد والحجر والخشب.

فإن ذبحها بغير محدد مثل أن يقتلها بالخنق، أو بالصعق الكهربائي، أو غيره، أو بالصدم أو بضرب الرأس ونحوه حتى تموت لم تحل، وإن

ذبحها بالسن أو بالظفر لم تحل وإن جرى دمها بذلك.

ص: 262

(إِلاَّ السِّنَّ والظُّفُرَ).

هذا مستثنى مما سبق، أي: كل شيء يكون محدداً ينهر الدم، فإنه تباح التذكية به، وتحل الذبيحة إلا السن والظفر ولو كان محدداً.

للحديث السابق (مَا أُنْهِرَ اَلدَّمُ، وَذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ لَيْسَ اَلسِّنَّ وَالظُّفْرَ; أَمَّا اَلسِّنُّ; فَعَظْمٌ; وَأَمَّا اَلظُّفُرُ: فَمُدَى اَلْحَبَشِ).

‌فائدة: 1

لا فرق في السن والظفر أن يكونا متصلين أو منفصلين من آدمي أو غيره لظاهر الحديث.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

وقالت الحنفية: تجوز الذكاة بالسن والظفر المنفصلين، وإنما تحرم الذكاة بهما إذا كانا متصلين، وأجابوا عن حديث رافع السابق، بأن المراد به النهي عن الذبح بالسن القائم والظفر القائم، لأن الحبشة إنما كانت تفعل لإظهار الجلادة وذلك بالقائم لا بالمنزوع.

والصحيح مذهب جمهور العلماء وهو عدم صحة التذكية بالسن والظفر مطلقاً لعموم الحديث.

قال في المغنى رداً عليهم: ولنا عموم حديث رافع، ولأن مالم تجز الذكاة به متصلاً لم تجز به منفصلاً.

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: والأقرب عندي أن الأصل في ذلك أن الحبشة كانوا يذبحون بأظافرهم فنهى الشارع عن ذلك لأنه يقتضي مخالفة الفطرة من وجهين:

أحدهما: أنه يستلزم توفير الأظافر ليذبح بها وهذا مخالف للفطرة التي هي تقليم الأظافر.

الثاني: أن في القتل بالظفر مشابهة لسباع البهائم والطيور التي فضلنا عليها ونهينا عن التشبه بها.

ص: 263

‌فائدة: 2

علل النبي صلى الله عليه وسلم منع الذكاة بالسن بأنه عظم.

فاختلف العلماء: هل الحكم خاص في محله وهو السن، أو عام في جميع العظام؟

القول الأول: أنه خاص في محله وهو السن، وأما ما عداه من العظام فتحل الذكاة به.

وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد العموم لقال غير العظم والظفر، لكونه أخصر وأبين، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم ومفاتيح البيان.

ولأننا لا نعلم وجه الحكمة في تأثير العظم، فكيف نعدي الحكم مع الجهل.

القول الثاني أن الحكم عام في جميع العظام.

وهذا قول الشافعي.

لعموم العلة، لأن النص على العلة يدل على أنها مناط الحكم متى وجدت وجد الحكم.

(قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ).

هذا الشرط الخامس: قطع ما يجب قطعه.

فإن في رقبة الحيوان أربعة عروق:

الحلقوم: وهو مجرى النفس خروجاً ودخولاً.

المريء: وهو مجرى الطعام والشراب.

ص: 264

والودجان: وهما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم والمريء.

إذا قطع هذه الأشياء الأربعة حلت المذكاة بإجماع العلماء.

ثم اختلفوا إذا قطع بعض هذه الأربعة هل يجزئ أم لا؟

فالمشهور من مذهب الحنابلة: أن الشرط قطع الحلقوم والمرئ.

وقيل: لا بد من قطع الأربعة، فلا يكفي قطع بعضها فقط. واختاره ابن المنذر.

وقيل: لا بد من قطع ثلاثة بدون تعيين.

وهذا مذهب أبي حنيفة (وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية).

وقيل: أنه لا بد من قطع ثلاثة معينة وهي: الحلقوم والودجان.

وهذا مذهب مالك.

وسبب الخلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما أنهر الدم. . .) ولم يحدد، فلذلك اختلفوا.

والراجح الله أعلم.

ص: 265

(أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِاسْمِ اللهِ، لَا يُجْزِيهِ غَيْرُهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا سَهْواً أُبِيحَتْ لَا عَمْداً).

هذا الشرط السادس: التسمية عند الذبح.

‌وقد اختلف العلماء في حكم التسمية على ثلاثة أقوال:

‌القول الأول: أنها شرط لا تسقط مطلقاً، حتى لو تركها نسياناً أو جاهلاً فلا تحل.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: وهذا أظهر الأقوال، فإن الكتاب والسنة قد علقا الحل بذكر اسم الله عليه في غير موضع.

أ-لقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).

قالوا: وهذا عام، ففيه النهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وتسميته فسقاً.

ب- ولحديث رافع بن خديج. قال: قال صلى الله عليه وسلم (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل).

فقرن بين إنهار الدم وذكر اسم الله على الذبيحة في شرط الحل، فكما أنه لو لم ينهر الدم ناسياً أو جاهلاً لم تحل الذبيحة، فكذلك إذا لم يسم، لأنهما شرطان قرن بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في جملة واحدة، فلا يمكن التفريق بينهما إلا بدليل.

‌القول الثاني: أنها واجبة في حال الذكر دون حال النسيان.

وهذا قول الحنفية، والمالكية، والمشهور في مذهب الحنابلة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

ص: 266

‌القول الثالث: أنها سنة مطلقاً.

وهذا مذهب الشافعي.

أ- لقوله تعالى (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ).

قال النووي: فأباح التذكي من غير اشتراط التسمية.

ب-ولقوله تعالى (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) وهم لا يسمون.

والجواب عن الآية: بأن المراد (إلا ما ذكيتم) وذكرتم اسم الله عليه، لما ثبت من الأدلة الأخرى على الأمر بالتسمية.

وأما آية (وطعام الذين أوتوا الكتاب. . .) أن المراد بذبائح أهل الكتاب المباحة هي ما ذبحوها بشرطها كذبائح المسلمين.

ج- ولحديث (ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله) وهو حديث ضعيف.

والصحيح الأول وأنها لا تسقط مطلقاً، واختاره ابن عثيمين رحمه الله.

قال ابن تيمية: وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ " مَشْرُوعَةٌ.

لَكِنْ قِيلَ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

وَقِيلَ: وَاجِبَةٌ مَعَ الْعَمْدِ وَتَسْقُطُ مَعَ السَّهْوِ.

كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.

وَقِيلَ: تَجِبُ مُطْلَقًا؛ فَلَا تُؤْكَلُ الذَّبِيحَةُ بِدُونِهَا سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ.

فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ عَلَّقَ الْحَلَّ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ).

وَقَوْلِهِ (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).

ص: 267

(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).

(وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا).

وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لَعَدِيٍّ (إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَقَتَلَ فَكُلْ وَإِنْ خَالَطَ كَلْبَك كِلَابُ آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِه).

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْجِنَّ سَأَلُوهُ الزَّادَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ فَقَالَ (لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفًا لِدَوَابِّكُمْ) قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا؛ فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ) فَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبِحْ لِلْجِنِّ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَكَيْفَ بِالْإِنْسِ. (مجموع الفتاوى).

‌فائدة: 1

يشترط أن يكون بلفظ: بسم الله.

فلو قال: بسم الرحمن أو باسم رب العالمين:

فقيل: لا يجزئ.

وهذا قول الشافعية، والحنابلة.

لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى: بسم الله.

وقيل: يجزئ.

وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

قالوا: المراد بالتسمية ذكر الله من حيث هو، لا خصوص: بسم الله، وهذا الراجح.

ص: 268

‌فائدة: 2

قال الشيخ ابن عثيمين: ويعتبر أن تكون التسمية على ما أراد ذبحه، فلو سمى على شاة ثم تركها إلى غيرها أعاد التسمية، وأما تغيير الآلة فلا يضر، فلو سمى وبيده سكين ثم ألقاها وذبح بغيرها فلا بأس.

أما في الصيد، لو سمى على صيد فأصاب غيره حل، مثال: أرسل كلبه على أرنب، ثم إن الكلب صاد غزالاً فإنه يحل.

والفرق: أن التسمية في باب الصيد تقع على الآلة، والتسمية في باب الذكاة تقع على عين المذبوح.

‌فائدة: 3

وقت التسمية: وقتها عند الجميع وقت الذبح، لأنه لا يتحقق معنى ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة إلا إذا كان وقت الذبح، ويجوز تقديمها عليه بزمن يسير لا يمكن التحرز منه.

(وَذَكَاةُ مَا عُجِزَ عَنْهُ مِنَ الصَّيْدِ، وَالنَّعَمِ الْمُتَوَحِّشَةِ، وَالْوَاقِعَةِ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهَا، بِجَرْحِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَدَنِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُبَاحُ).

أي: أن الحيوان الذي هرب ولا يمكن إدراكه من الإبل أو البقر أو الغنم أو غيرها من الحيوانات المستأنسة، فإنه يكفي إنهار دمه من أي مكان.

لحديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إبِلاً وَغَنَماً، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ. فَقَالَ: إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) متفق عليه.

ص: 269

(فأصاب الناسَ جوع، فأصبنا إبلًا وغنمًا) قَالَ فِي "الفتح": كأن الصحابيّ قَالَ هَذَا ممهّدًا لعذرهم فِي ذبحهم الإبل، والغنم التي أصابوا. وفي رواية:"وتقدّم سَرَعان النَّاس، فأصابوا منْ المغانم"، وفي رواية:(فأصبنا نَهْب إبل وغنم).

(وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ) جمع أخرى، وفي رواية:"فِي آخر النَّاس"، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم، يَفعَل ذَلِكَ؛ صَوْنًا للْعَسْكَر، وَحِفْظًا؛ لِأَنَّه لو تَقَدَّمَهُم لَخَشِيَ أَن يَنقَطِع الضَّعِيف مِنْهُمْ دُونه، وَكَانَ حِرْصِهمْ عَلَى مُرَافَقَته شَدِيدًا، فَيَلْزَم مِنْ سَيْره فِي مَقَام السَّاقَة، صَوْن الضُّعَفَاء؛ لِوُجُودِ مَن يَتَأَخَّر مَعَهُ قَصْدًا منْ الأَقْوِيَاء.

(فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ) يعني مِن الجُوع الَّذِي كَانَ بهِمْ، فَاستَعجَلُوا، فَذَبَحُوا الَّذِي غَنِمُوهُ، وَوَضَعُوهُ فِي القُدُور، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة (فَانْطَلَقَ نَاس، منْ سَرَعَان النَّاس، فَذَبَحُوا، وَنَصَبُوا قُدُورهمْ، قَبل أن يُقْسَم) وَفِي رِوَايَة (فَأَغْلَوْا القُدُور) أَي أَوْقَدُوا النَّار تَحْتهَا، حَتَّى غَلَتْ

(فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ) -بِضَم الهَمْزَة، وَسُكُون الكَاف- أَي قُلِبَتْ، وَأُفْرغَ مَا فِيهَا.

(ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ) قَالَ القرطبيّ: يعني أنه صلى الله عليه وسلم قسم ما بقي منْ الغنيمة عَلَى الغانمين، فجعل عشرة منْ الغنم بإزاء جَزور، ولم يَحتج إلى القرعة؛ لرضا كلّ منهم بما صار إليه منْ ذلك، ولم يكن بينهم تشاحّ فِي شيء منْ ذلك. قَالَ: وكأن هذه الغنيمة لم يكن فيها إلا الإبل، والغنم، ولو كَانَ فيها غيرهما، لقُوّم جميع الغنيمة، ولَقُسم عَلَى القِيَم.

(فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ) بفتح النون، وتشديد الدال المهملة: أي هرب منْ تلك الإبل المقسومة بعيرٌ نافرًا.

ص: 270

(وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ) فِيهِ تَمهِيد لِعُذْرِهِم فِي كَوْن الْبَعِير الَّذِي نَدَّ أَتْعَبَهُم، وَلَمْ يَقدِرُوا عَلَى تَحْصِيله، فَكَأنَّهُ يَقُول: لَوْ كَانَ فِيهِم خُيُول كَثِيرَة؛ لأَمكَنَهُمْ أَنْ يُحِيطُوا بِهِ، فَيَأخُذُوهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة عند البخاريّ":"وَلَمْ يَكُن مَعَهُم خَيل": أَي كَثِيرَة، أَو شَدِيدَة الْجَرْي، فَيَكون النَّفْي لِصِفَةٍ فِي الْخَيْل، لا لِأَصْلِ الْخَيْل، جمَعًا بَين الرِّوَايَتَينِ.

(فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ) أَي أَتْعَبَهُم، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تحَصِيلِه.

(فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْم) أي: قصد نحوه، ورماه. قَالَ الحافظ: ولم أقف عَلَى اسم هَذَا الرامي.

(فَحَبَسَهُ اللهُ) أي أصابه السهم، فوقف.

(إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ) وفِي رِوَايَة: (إِنَّ لِهَذِه الإبِل).

(أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ) جَمْع آبِدَة -بِالْمَدِّ، وَكَسْر المُوَحَّدَة-: أَيْ غَرِيبَة، يُقَال: جَاءَ فُلَان بِآبِدَةٍ: أَي بِكَلِمَةٍ، أَو فَعْلَة مُنَفِّرَة، ويُقَال: أَبَدَتْ -بِفَتْح المُوَحَّدَة- تَأبُدُ -بِضَمِّهَا- وَيَجُوز الكَسْر، أُبُودًا، وَيُقَال: تَأَبَّدَتْ: أَيْ تَوَحَّشَتْ، وَالمُرَاد أنَّ لَهَا تَوَحُّشًا. قاله فِي "الفتح"

(فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) وَفِي رِوَايَة لَه (فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا، فَافعَلُوا مِثْل هَذَا) وفي رواية الطبرانيّ (فَاصْنَعُوا بِهِ ذَلِكَ، وَكُلُوهُ).

هذا الحديث دليل على أن البهائم الإنسيّة، إذا توحّشت، ونفرت، تُعْطَى حُكْم المُتَوَحِّش الأصليّ، فيجوز عَقْر النَّادّ منها لِمَن عَجَزَ عَن ذَبحِهِا، كَالصَّيْدِ البَرِّيّ، وَيَكُون جمَيع أَجْزَائِها مَذْبَحًا، فَإِذَا أُصِيبَت فَمَاتَت مِنْ الإصَابَة حَلَّت، أمَّا المَقْدُور عَلَيْهِ، فَلا يُبَاح إِلَّا بِالذَّبْحِ، أَو النَّحْر إِجْمَاعًا، وبهذا قَالَ الجمهور.

قَالَ الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى فِي "صحيحه": "باب ما ندّ منْ البهائم، فهو بمنزلة الوحش"، وأجازه ابن مسعود، وَقَالَ ابن عباس: ما أعجزك منْ البهائم، مما فِي يديك، فهو كالصيد، وفي بعير تردّى فِي بئر، منْ حيث قدرتَ عليه، فذكّه. ورأى ذلك عليّ، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم. انتهى.

ص: 271

وَقَدْ نقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور، وخالفهم فِي ذلك مالكٌ، والليث. ونقل أيضاً عن سعيد بن المسيب، وربيعة، فقالوا: لا يحلّ أكل الإنسيّ إذا توحّش، إلا بتذكيته فِي حلقه، أو لبّته، وحجة الجمهور حديث رافع رضي الله تعالى عنه المذكور فِي الباب. أفاده فِي (الفتح)

وقال ابن قدامة: وَكَذَلِكَ إنْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَذْكِيَتِهِ، فَجَرَحَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ، أُكِلَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ، فَلَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ.

هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.

وَلَنَا، ثم ذكر حديث الباب.

وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الذَّكَاةِ بِحَالِ الْحَيَوَانِ وَقْتَ ذَبْحِهِ، لَا بِأَصْلِهِ، بِدَلِيلِ الْوَحْشِيِّ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَجَبَتْ تَذْكِيَتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، فَكَذَلِكَ الْأَهْلِيُّ إذَا تَوَحَّشَ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِ.

فَأَمَّا إنْ كَانَ رَأْسُ الْمُتَرَدِّي فِي الْمَاءِ، لَمْ يُبَحْ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُعِينُ عَلَى قَتْلِهِ، فَيَحْصُلُ قَتْلُهُ بِمُبِيحٍ وَحَاظِرٍ، فَيَحْرُمُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ. (المغني).

قال النووي: قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: الْحَيَوَان الْمَأْكُول الَّذِي لَا تَحِلّ مَيْتَته ضَرْبَانِ:

مَقْدُور عَلَى ذَبْحه، وَمُتَوَحِّش.

فَالْمَقْدُور عَلَيْهِ: لَا يَحِلّ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْق وَاللَّبَة كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ.

وَسَوَاء فِي هَذَا الْإِنْسِيّ وَالْوَحْشِيّ إِذَا قَدَرَ عَلَى ذَبْحه بِأَنْ أَمْسَكَ الصَّيْد أَوْ كَانَ مُتَأَنِّسًا فَلَا يَحِلّ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْق وَاللَّبَة.

ص: 272

وَأَمَّا الْمُتَوَحِّش: كَالصَّيْدِ فَجَمِيع أَجْزَائِهِ يُذْبَح مَا دَامَ مُتَوَحِّشًا، فَإِذَا رَمَاهُ بِسَهْمٍ أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ جَارِحَة فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْهُ وَمَاتَ بِهِ حَلَّ بِالْإِجْمَاعِ.

وَأَمَّا إِذَا تَوَحَّشَ إِنْسِيّ بِأَنَ نَدَّ بَعِير أَوْ بَقَرَة أَوْ فَرَس أَوْ شَرَدَتْ شَاة أَوْ غَيْرهَا فَهُوَ كَالصَّيْدِ، فَيَحِلّ بِالرَّمْيِ إِلَى غَيْر مَذْبَحه، وَبِإِرْسَالِ الْكَلْب وَغَيْره مِنْ الْجَوَارِح عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ تَرَدَّى بَعِير أَوْ غَيْره فِي بِئْر وَلَمْ يُمْكِن قَطْع حُلْقُومه وَمَرِيئُهُ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ النَّادّ فِي حِلّه بِالرَّمْيِ

ثم قال النووي: قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالتَّوَحُّشِ مُجَرَّد الْإِفْلَات، بَلْ مَتَى تَيَسَّرَ لُحُوقه بَعْد وَلَوْ بِاسْتِعَانَةٍ بِمَنْ يُمْسِكهُ وَنَحْو ذَلِكَ فَلَيْسَ مُتَوَحِّشًا، وَلَا يَحِلّ حِينَئِذٍ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَح.

(شرح مسلم).

وقال الشيخ محمد بن عثيمين: إنهار الدم له حالات:

الحالة الأولى: أن يكون المذكى غير مقدور عليه، مثل أن يهرب أو يسقط في بئر أو في مكان سحيق لا يمكن الوصول إلى رقبته أو نحو ذلك، فيكفي في هذه الحال إنهار الدم في أي موضع كان من بدنه حتى يموت، لحديث الباب.

الحالة الثانية: أن يكون مقدوراً عليه، بحيث يكون حاضراً أو يمكن إحضاره بين يدي المذكي، فيشترط أن يكون الإنهار في موضع معين وهو الرقبة.

(وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَ بِآلَةٍ كَالَّةٍ).

أي: يكره الذبح بآلة كآلة (أي غير حادة قد استعملت مراراً وتكراراً حتى صارت لا تنهر الدم إنهاراً تاماً).

أ-لقوله صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم.

فقوله (وليحد أحدكم شفرته) هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.

ب-ولأن في الذبح بالآلة الكآلة إيلام للبهيمة بدون فائدة.

والصحيح أن الذبح بآلة كالة حرام، وأنه يجب إحداد الشفرة لقوله صلى الله عليه وسلم (وليحد .. ) وهذا أمر والأمر للوجوب.

ص: 273

(وَأَنْ يَحُدَّهَا وَالْحَيَوَانُ يُبْصِرُهُ).

أي: يكره أن يحد السكين ونحوها والحيوان يبصره.

أ-وقد ورد في حديث في مسند أحمد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم) وفيه ضعف.

الشفار جمع شفرة وهي السكين.

ب- ولأن في ذلك أذية للحيوان.

ج- أنَّها تَعرِفُ رَبَّها سبحانه وتعالى، وتُسَبِّحُ بحَمدِه، وتَعرِفُ المَوتَ؛ ولهذا تَهرَب، فإذا كانت تَعرِفُ ذلك وهو يَذبَحُ أُختَها عِندَها، كان فيه زيادةُ ألَمٍ غَيرِ مُحتاجٍ إليه.

قال النووي: قوله (وَلْيُحِدَّ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاء يُقَال: أَحَدّ السِّكِّين وَحَدَّدَهَا وَاسْتَحَدَّهَا بِمَعْنًى، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَته، بِإِحْدَادِ السِّكِّين وَتَعْجِيل إِمْرَارهَا وَغَيْر ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبّ أَلَّا يُحِدّ السِّكِّين بِحَضْرَةِ الذَّبِيحَة، وَأَلَّا يَذْبَح وَاحِدَة بِحَضْرَةِ أُخْرَى، وَلَا يَجُرّهَا إِلَى مَذْبَحهَا. وَقَوْله صلى الله عليه وسلم:(فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَة) عَامّ فِي كُلّ قَتِيل مِنْ الذَّبَائِح، وَالْقَتْل قِصَاصًا، وَفِي حَدّ وَنَحْو ذَلِكَ. وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ الْأَحَادِيث الْجَامِعَة لِقَوَاعِد الْإِسْلَام. (شرح مسلم)

جاء في (الموسوعة الفقهية) في بيان أداب الذبح: إِحْدَادُ الشَّفْرَةِ قَبْل إِضْجَاعِ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَاتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ أَنْ يَحُدَّ الذَّابِحُ الشَّفْرَةَ بَيْنَ يَدَيِ الذَّبِيحَةِ، وَهِيَ مُهَيَّأَةٌ لِلذَّبْحِ لِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً أَضْجَعَ شَاةً يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهَا وَهُوَ يَحُدُّ شَفْرَتَهُ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟ هَلاَّ حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْل أَنْ تُضْجِعَهَا.

ص: 274

(وَأَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ).

أي: يكره أن يوجه الحيوان عند الذبح إلى غير القبلة.

لحديث جابر قال (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد بكبشين فقال حين وجههما .. ) رواه ابن ماجه وفيه مقال.

فالسنة في الذبح توجيه الذبيحة إلى القبلة، وليس ذلك بلازم، فلو ذبحها إلى جهة أخرى حلت الذبيحة، لكن يكون تاركا للسنة.

روى أحمد وأبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (ذَبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِاسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ ذَبَح).

وجاء في (الموسوعة الفقهية) في بيان آداب الذبح: أنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، وَالذَّبِيحَةُ مُوَجَّهَةً إِلَى الْقِبْلَةِ بِمَذْبَحِهَا لَا بِوَجْهِهَا إِذْ هِيَ جِهَةُ الرَّغْبَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ؛ وَلأِنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْكُل ذَبِيحَةً لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ

(وَأَنْ يَكْسِرَ عُنُقَهُ، أَوْ يَسْلُخَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْرُدَ).

أي: يكره أن يكسر العنق قبل أن يذبح، ويكره أن يسلخها قبل أن تخرج روحه.

لحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. وفيه: وليرح ذبيحته).

قال الشيخ ابن عثيمين: الصحيح أن كسر العنق والسلخ قبل الموت حرام، لأنه إيلام بلا حاجة.

ص: 275

‌فائدة:

لا حرج على الجنب أن يذبح أو يصطاد، وذبيحته حلال باتفاق العلماء، لأن الجنابة لا تمنع التسمية.

قال النووي رحمه الله في "المجموع"(9/ 74): نقل ابن المنذر الاتفاق على حل ذبيحة الجنب، قال: وإذا دل القرآن على حل إباحة ذبيحة الكتابي مع أنه نجس، فالذي نفت السنة عنه النجاسة أولى. قال: والحائض كالجنب.

وقال ابن قدامة رحمه الله: (وإن كان جنباً جاز أن يسمّي ويذبح) وذلك أن الجنب له التسمية ولا يُمنع منها؛ لأنه إنما يمنع من القرآن لا من الذكر، ولهذا تشرع له التسمية عند اغتساله، وليست الجنابة أعظم من الكفر، والكافر يسمي ويذبح. وممن رَخص في ذبح الجنب: الحسن والحكم والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً منع من ذلك. وتباح ذبيحة الحائض؛ لأنها في معنى الجنب. (المغني).

ص: 276

‌باب الصيد

الصيد: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعاً غير مقدور عليه.

‌حكم الصيد على أقسام:

‌القسم الأول: صيد للانتفاع بالمصيد،

إما بالأكل، أو البيع، أو التصدق به على المحتاجين، أو إهدائه للأصدقاء والأقارب، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع.

فهذا مباح بإجماع العلماء.

قال الشيخ ابن عثيمين: فهذا لا شك في جوازه، وهو مما أحله الله عز وجل في كتابه، وثبتت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه المسلمون.

‌القسم الثاني: أن يكون الصيد على سبيل اللهو والعبث والتسلية فقط،

وإذا صاده تركه دون أن ينتفع به بشيء.

فهذا النوع من الصيد مكروه عند بعض العلماء، ومنهم من مال إلى تحريمه.

ومن الأدلة على كراهته ما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قِيلَ: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ (أَنْ تَذْبَحَهَا فَتَأْكُلَهَا، وَلَا تَقْطَعْ رَأْسَهَا فَيُرْمَى بِهَا) رواه النسائي.

ص: 277

وقال الذهبي في "المهذب"(7/ 3614): "إسناده جيد"، وصححه ابن الملقن في "البدر المنير"(9/ 376)، وحسنه ابن كثير في "إرشاد الفقيه"(1/ 368).

قال الشيخ ابن عثيمين: " فهذا مكروه، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه؛ لأنه عبث، وإضاعة مال، وإضاعة وقت.

وقال ابن حجر: فَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الِانْتِفَاعَ بِهِ حَرُمَ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، بِإِتْلَافِ نَفْسٍ عَبَثاً.

وفي "فتاوى اللجنة الدائمة"(22/ 512): " أما قتله لمجرد اللعب واللهو فممنوع؛ لما فيه من ضياع المال، مع تعذيب الحيوان، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك" انتهى.

جاء في (الموسوعة الفقهية) إِذَا عُلِمَ أَنَّ الأْصْل فِي الصَّيْدِ الإْبَاحَةُ، فَلَا يُحْكَمُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الأْوْلَى أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ، إِلاَّ فِي صُوَرٍ خَاصَّةٍ بِأَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي

وَيُكْرَهُ الصَّيْدُ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّلَهِّيَ وَالْعَبَثَ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا) رواه مسلم (1957)؛ أَيْ هَدَفًا " انتهى.

قال ابن تيمية: الصيد لحاجة جائز، وأما الصيد الذي ليس فيه إلا اللهو واللعب فمكروه، وإن كان فيه ظلم للناس بالعدوان على زرعهم وأموالهم فحرام. (الفتاوى الكبرى).

وقال الشيخ منصور البهوتي: يكره الصيد لهواً؛ لأنه عبث، وإن كان في الصيد ظلم الناس بالعدوان على زروعهم وأموالهم فهو حرام؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. (كشاف القناع).

‌فائدة: 1

فإن قيل: ما الجواب عن حديث: (من اتبع الصيد غفل) رواه الترمذي.

فالجواب: المراد الإكثار منه حتى يشغله.

ص: 278

‌فائدة: 2

صيد الطيور في الأشهر الحرم جائز؛ لأن الأشهر الحرم إنما يحرم فيها القتال، على أن كثيراً من العلماء أو أكثر العلماء يقولون: إن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ.

(لَا يَحِلُّ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ فِي الاصْطِيَادِ إِلاَّ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ).

هذا الشرط الأول: أن يكون الصائد من أهل الذكاة.

وهو المميز العاقل المسلم أو الكتابي.

لأن الاصطياد كالذكاة وقائم مقامها، لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن أخذ الكلب ذكاة) متفق عليه.

فلا يحل صيد مجوسي، أو وثني، أو مرتد.

قال الشيخ ابن عثيمين: وصيد غير العاقل لا يحل، ويتفرع على هذا أن يكون قاصداً.

فلو أن رجلاً يرمي على هدف، من خرق، أو عمود، أو ما أشبه ذلك، فإذا بصيد يمر فقتله، فلا يحل؛ لأنه ما قصده، لكن لو سمى على صيد فأصاب غيره حل؛ لأنه قصد الصيد، مثل أن يرى طيراً على غصن شجرة، فيرميه قاصداً هذا الطير، فإذا هو يصيد آخر على غصن آخر، فإنه يحل؛ ولهذا لو أنه رمى على فِرْق من الطير، وأصاب عشرة جميعاً تحل؛ لأنه قصد الصيد.

(الثاني: الآلَةُ وَهِيَ نَوْعَانِ: مُحَدَّدٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي آلَةِ الذَّبْحِ، وَأَنْ يَجْرَحَ، فَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَمْ يُبَحْ، وَمَا لَيْسَ بِمُحَدَّدٍ كَالْبُنْدُقِ، وَالْعَصَا، وَالشَّبَكَةِ، وَالْفَخِّ لَا يَحِلُّ مَا قُتِلَ بِهِ).

‌آلة الصيد نوعان:

‌أولاً: ما يرمى به الصيد من كل محدد.

كالرماح، والسيوف، والسهام وما جرى مجراها مما يجرح بحده كرصاص البنادق اليوم.

ص: 279

‌ثانياً: الجوارح، وهي الكواسر من السباع، كالكلاب والطير،

كما سيأتي إن شاء الله.

فالنوع الأول: ماله حد يجرح كسيف، وسكين، وسهم.

فهذا يشترط له ما يشترط لآلة الذكاة:

وتقدم أن آلة الذبح يشترط فيها أن تكون غير سن ولا ظفر.

وأن يجرح.

أي: ويشترط أيضاً أن يجرح الصيد.

(فلو قتل الصيد بثقله لم يبح).

فمن أجل ثقله مات الصيد فإنه لا يحل، لأنه لا بد أن يجرح.

عَنْ عَدِي بن حاتم قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ اَلْمِعْرَاضِ فَقَالَ (إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ، فَقُتِلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِي.

(صَيْدِ اَلْمِعْرَاض) قال النووي: بكسر الميم، هي خشبة ثقيلة أو عصا في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة، هذا هو الصحيح في تفسيره.

وفي رواية (إذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ).

(إذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ) أي: بأن نفذ في اللحم، وقطع شيئاً من الجلد.

(فَكُلْ) لأنه قد ذكي ذكاة شرعية.

(وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ) أي: بغير طرفه المحدد.

(فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ) أي: فهو حرام، لعدّ الله تعالى الموقوذة منْ المحرّمات. و"الوقيذ": -بِالْقَافِ، وآخِره ذال مُعْجَمة، وَزْن عَظِيم، فعِيل بِمعنى مفْعُول، وهُوَ مَا قُتِل بِعصًا، أو حَجَر، أوْ مَا لا حَدّ لهُ، والموْقُوذَة: هي الَّتِي تُضْرب بِالخَشَبةِ حتَّى تَمُوت.

ص: 280

قال النووي: وَالْوَقْذ وَالْمَوْقُوذ هُوَ الَّذِي يُقْتَل بِغَيْرِ مُحَدَّد مِنْ عَصًا أَوْ حَجَر وَغَيْرهمَا.

فهذا الحديث يفيد: أن المعراض وغيره من السلاح إن قتل الصيد بحده ونفوذه فهو مباح، لحصول المقصود وهو إنهار الدم، وإن قتله بصدمه وثقله فلا يباح، لأنه وقيذ محرم.

قال النووي: وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَالْجَمَاهِير: أَنَّهُ إِذَا اِصْطَادَ بِالْمِعْرَاضِ فَقَتَلَ الصَّيْد بِحَدِّهِ حَلَّ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِعَرْضِهِ لَمْ يَحِلّ لِهَذَا الْحَدِيث.

وَقَالَ مَكْحُول وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرهمَا مِنْ فُقَهَاء الشَّام: يَحِلّ مُطْلَقًا. (شرح مسلم)

وقال ابن حجر: وَحَاصِله أنَّ السَّهْم، وما فِي معناهُ، إِذَا أصَابَ الصَّيد بِحدِّهِ حَلَّ، وكانت تِلك ذكاته، وإِذَا أصَابهُ بِعَرْضِهِ لمْ يحِلّ؛ لِأنَّهُ فِي مَعْنى الخَشَبة الثَّقِيلة، والحَجَر، وَنَحْو ذَلِكَ مِن المُثَقَّل.

(وَمَا لَيْسَ بِمُحَدَّدٍ كَالْبُنْدُقِ، وَالْعَصَا، وَالشَّبَكَةِ، وَالْفَخِّ لَا يَحِلُّ مَا قُتِلَ بِهِ).

أي: إذا كانت الآلة ليست محددة، فإنه لا يحل ما قتل بها:

كالبندق: واحدها بندقة، وهي عبارة عن حصاة يرمى بها.

فهذه البندق لو رمى بها صيد فمات فلا يحل، لأنه غير محدد.

العصا: أن يضرب الصيد بالعصا فيقتل فلا يحل، لأنه لا يجرح.

الشبكة والفخ: إذا مات الصيد فيها اختناقاً فلا يحل.

ص: 281

(وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الجَارِحَةُ، فَيُبَاحُ مَا قَتَلَتْهُ إِذَا كَانَتْ مُعَلَّمَةً).

النوع الثاني من آلات الصيد: الجارحة. ويدخل فيها نوعان:

ما يصيد بمخلبه: كالصقر، والبازي، والعقاب ونحوها.

ما يصيد بنابه: كالفهد، والكلب.

وكلاهما يحل به الصيد.

لقوله (يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ).

فائدة:

قال ابن قدامة: وَكُلُّ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَيُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، كَالْفَهْدِ، أَوْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَلْبِ فِي إبَاحَةِ صَيْدِهِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْله تَعَالَى (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ) هِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ، وَكُلُّ طَيْرٍ تَعَلَّمَ الصَّيْدَ، وَالْفُهُودُ وَالصُّقُورُ وَأَشْبَاهُهَا.

وَبِمَعْنَى هَذَا قَالَ طاووس، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ.

وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّيْدُ إلَّا بِالْكَلْبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِين) يَعْنِي كَلَّبْتُمْ مِنْ الْكِلَابِ.

وَلَنَا؛ مَا رُوِيَ عَنْ عَدِيٍّ، قَالَ (سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْبَازِي، فَقَالَ: إذَا أَمْسَكَ عَلَيْك، فَك).

وَلِأَنَّهُ جَارِحٌ يُصَادُ بِهِ عَادَةً، وَيَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، فَأَشْبَهَ الْكَلْب. (المغني).

ص: 282

(إِذَا كَانَتْ مُعَلَّمَةً).

أي: يشترط لحل الصيد بهذه الجوارح أن تكون معلمة.

قال ابن قدامة: أَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ مُعَلَّمًا، وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ.

أ- لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).

ب- وَعَنْ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُل) متفق عليه.

(بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لا يأكل).

هذه صفة تعليم الكلب:

أولاً: بأن يسترسل إذا أرسل.

ثانياً: وينزجر إذا زجر.

وهذا يكون لأحد غرضين: يكون بطلب وقوفه وكفه عن العدو، ويكون الزجر لإغراء الجارح بزيادة العدو في طلب الصيد.

وهذان الشرطان اتفقت المذاهب الأربعة على اعتبارهما.

(وإذا أمسك لا يأكل).

فإن أكل لم يبح.

وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.

قال النووي: وبه قال أكثر العلماء.

أ-لحديث عدي -فقد جاء في رواية- (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِه). وهذا نص.

ب-ولقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وهذا مما لم يمسك علينا بل على نفسه.

وذهب بعض العلماء: أنه يحل.

ص: 283

وهو قول مالك.

واستدلوا بحديث أبي ثعلبة قال (يا رسول الله، إن لي كلاباً مكلبة، فأفتني في صيدها؟ قال: كل مما أمسكن عليك، قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه) رواه أبو داود، وقال الحافظ: لا بأس بسنده.

والراجح القول الأول.

وأما الجواب عن حديث أبي ثعلبة:

أن حديث عدي مقدم عليه، لأنه أصح.

ومنهم من حمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن قتله وخلاه وفارقه ثم عاد فأكل منه، فهذا لا يضر.

وأيضاً رواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم، وهو خوف الإمساك على نفسه متأيّدة بأن الأصل في الميتة التحريم.

فائدة: وأما تعليم الطير فإنه يكون بأمرين:

أن يسترسل إذا أرسل - أن ينزجر إذا زجر.

واختلفوا هل يشترط أن لا يأكل أم لا على قولين:

فقيل: يشترط.

وهذا مذهب الشافعي قياساً على جارحة الكلب.

وقيل: لا يشترط.

وهذا قول الحنفية والحنابلة.

وهذا الراجح.

قال ابن قدامة: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصَّيْدِ بِالْبَازِي مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّيْدِ بِالْكَلْبِ، إلَّا تَرْكُ الْأَكْلِ، فَلَا يُشْتَرَطُ، وَيُبَاحُ صَيْدُهُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ.

ص: 284

وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ.

لإجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ، فَلَا تَأْكُلْ مِنْ الصَّيْدِ، وَإِذَا أَكَلَ الصَّقْرُ، فَكُلْ؛ لِأَنَّك تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَ الْكَلْبَ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَ الصَّقْرَ.

وَلِأَنَّ جَوَارِحَ الطَّيْرِ تُعَلَّمُ بِالْأَكْلِ، وَيَتَعَذَّرُ تَعْلِيمُهَا بِتَرْكِ الْأَكْلِ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي تَعْلِيمِهَا، بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ. (المغني).

(الثَّالِثُ: إِرْسَالُ الآلَةِ قَاصِداً).

هذا الشرط الثالث: إرسال الآلة بنوعيها قاصداً الصيد.

لأن الكلب أو البازي آلة، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة بل لا بد من الاستعمال، وذلك فيهما: بالإرسال مع القصد.

قال ابن قدامة الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يُرْسِلَ الْجَارِحَةَ عَلَى الصَّيْدِ، فَإِنْ اسْتَرْسَلَتْ بِنَفْسِهَا فَقَتَلَتْ، لَمْ يُبَحْ.

وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك، وَسَمَّيْت، فَكُلْ).

وَلِأَنَّ إرْسَالَ الْجَارِحَةِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرْت التَّسْمِيَةُ مَعَهُ.

(فَإِنِ اسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يُبَحْ).

أي: إذا استرسل الكلب بنفسه فقتل صيداً، لم يحل.

لفقدان الشرط، وهو الإرسال، لأن الإرسال يقوم مقام التذكية.

ص: 285

(إِلاَّ أَنْ يَزْجُرَهُ فَيَزِيدَ فِي عَدْوِهِ فِي طَلَبِهِ فَيَحِلُّ).

أي: إذا استرسل الكلب بنفسه على صيد فزجره صاحبه وسمى فزاد في عدوه وقتل، فإنه يحل.

لأن زجره أثّر في عدوه فصار كما لو أرسله.

وذهب بعض العلماء: أنه لا يحل.

وهو مذهب الشافعي.

لاجتماع الاسترسال المانع والإغراء المبيح، فتغلب جانب المنع.

‌فائدة:

حكم من أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره؟

يحل.

وهذا قول الجمهور.

لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (كل ما أمسك عليك).

وقال مالك: لا يحل.

والراجح الأول.

(الرَّابِعُ: التَّسْمِيَةُ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ أَوِ الْجَارِحَةِ،)

هذا الشرط الرابع: التسمية، بأن يقول: باسم الله عند إرسال السهم أو الجارحة لا عند التعبئة.

وقد تقدم حكمها في الذكاة: وأنها شرط لا تسقط مطلقاً، حتى لو تركها نسياناً أو جاهلاً فلا تحل.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الراجح.

ص: 286

(وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ مَعَهَا: اللهُ أَكْبَرُ، كَالذَّكَاة).

أي: يسن أن يقول مع التسمية: الله أكبر.

فالتسمية (واجبة) والله أكبر (سنة).

‌فائدة: 1

قوله صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلّم

) في إطلاقه دليل لإباحة الصيد بجميع أنواع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها.

‌وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأول: يجوز الاصطياد بجميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها.

قال النووي: وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء.

لعموم النص (إذا أرسلت كلبك المعلم).

‌القول الثاني: يحرم الصيد بالكلب الأسود البهيم.

قال النووي: وبه قال الحسن البصري، والنخعي، وقتادة، وأحمد، وإسحاق.

لأنه شيطان.

والأول أرجح.

(ويحرم اقتناء الكلب إلا ما استثني).

اقتناء الكلاب حرام إلا ما ورد الشرع بجواز اقتنائه، ككلب الصيد، والحراسة، والزرع.

أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنِ اتَّخَذَ كَلْباً، إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، اِنْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

ص: 287

(مَنِ اتَّخَذَ كَلْباً) وفي رواية (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا) قَالَ القرطبيّ: اقتنى، واتّخذ، واكتسب كلّها بمعنى واحد (قِيرَاطٌ) قَالَ النوويّ: القيراط هنا مقدار معلوم عند الله تعالى، والمراد نقص جزء منْ أجزاء عمله.

فهذا الحديث: دليل على تحريم اقتناء الكلاب - إلا ما استثني - وأن من فعل ذلك نقص من أجره كل يوم قيراط.

ب-عن أبي طلحة. قال: قَال صلى الله عليه وسلم (لَا تَدْخُل الْمَلَائِكَة بَيْتًا فِيهِ كَلْب وَلَا صُورَة) رواه مسلم.

قال النووي: وقد اتفق أصحابنا وغيرهم على أنه يحرم اقتناء الكلب لغير حاجة، مثل أن يقتني كلبا إعجابا بصورته، أو للمفاخرة به: فهذا حرام، بلا خلاف.

وأما الحاجة التي يجوز الاقتناء لها: فقد ورد هذا الحديث بالترخيص لأحد ثلاثة أشياء، وهي الزرع والماشية والصيد، وهذا جائز بلا خلاف. واختلف أصحابنا في اقتنائه لحراسة الدور والدروب، وفي اقتناء الجرو ليُعَلَّم.

فمنهم من حرمه، لأن الرخصة إنما وردت في الثلاثة المتقدمة.

ومنهم من أباحه، وهو الأصح؛ لأنه في معناها. (شرح مسلم).

وقال النووي: وَسَبَب اِمْتِنَاعهمْ مِنْ بَيْت فِيهِ كَلْب لِكَثْرَةِ أَكْله النَّجَاسَات، وَلِأَنَّ بَعْضهَا يُسَمَّى شَيْطَانًا كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيث، وَالْمَلَائِكَة ضِدّ الشَّيَاطِين، وَلِقُبْحِ رَائِحَة الْكَلْب وَالْمَلَائِكَة تَكْرَه الرَّائِحَة الْقَبِيحَة، وَلِأَنَّهَا مَنْهِيّ عَنْ اِتِّخَاذهَا؛ فَعُوقِبَ مُتَّخِذهَا بِحِرْمَانِهِ دُخُول الْمَلَائِكَة بَيْته، وَصَلَاتهَا فِيهِ، وَاسْتِغْفَارهَا لَهُ، وَتَبْرِيكهَا عَلَيْهِ وَفِي بَيْته، وَدَفْعهَا أَذًى لِلشَّيْطَانِ. (شرح مسلم)

قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: فِي هَذَا الْحَدِيث إِبَاحَة اِتِّخَاذ الْكِلَاب لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَة، وَكَذَلِكَ الزَّرْع.

ص: 288

‌فائدة: 1

الجمع بين رواية (اِنْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ) وفي رواية أخرى (نقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَان):

قال الحافظ العيني رحمه الله:

أ- يجوز أنْ يكونا في نوعين مِن الكلاب، أحدُهما أشدُّ إيذاءً.

ب- وقيل: القيراطان في المدن والقرى، والقيراط في البوادي.

جـ- وقيل: هما في زمانين، ذكر القيراط أولاً، ثم زاد التغليظ، فذكر القيراطين. (عمدة القارئ).

‌فائدة: 2

هل يجوز اقتناء الكلب لحراسة البيوت؟

قال النووي: اختلف في جواز اقتنائه لغير هذه الأمور الثلاثة كحفظ الدور والدروب، والراجح: جوازه قياساً على الثلاثة عملاً بالعلَّة المفهومة من الحديث وهي: الحاجة. (شرح مسلم).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وعلى هذا فالمنزل الذي يكون في وسط البلد لا حاجة أنْ يتخذ الكلب لحراسته، فيكون اقتناء الكلب لهذا الغرض في مثل هذه الحال محرماً لا يجوز وينتقص من أجور أصحابه كل يوم قيراط أو قيراطان، فعليهم أنْ يطردوا هذا الكلب وألا يقتنوه، وأما لو كان هذا البيت في البر خالياً ليس حوله أحدٌ فإنَّه يجوز أنْ يقتني الكلب لحراسة البيت ومَن فيه، وحراسةُ أهلِ البيت أبلغُ في الحفاظ مِن حراسة المواشي والحرث. (مجموع فتاوى ابن عثيمين).

‌فائدة: 3

هل الكلاب التي يباح اقتناؤها تمنع دخول الملائكة للبيت؟

قيل: لا تمنع.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا لَا تَدْخُل الْمَلَائِكَة بَيْتًا فِيهِ كَلْب أَوْ صُورَة مِمَّا يَحْرُم اِقْتِنَاؤُهُ مِنْ الْكِلَاب وَالصُّوَر، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحِرَامٍ مِنْ كَلْب الصَّيْد وَالزَّرْع وَالْمَاشِيَة وَالصُّورَة الَّتِي تُمْتَهَن فِي الْبِسَاط وَالْوِسَادَة وَغَيْرهمَا فَلَا يَمْتَنِع دُخُول الْمَلَائِكَة بِسَبَبِهِ.

ص: 289

وقيل: تمنع.

قال النووي: وَالْأَظْهَر أَنَّهُ عَامّ فِي كُلّ كَلْب، وَكُلّ صُورَة، وَأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْجَمِيع.

لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيث.

وَلِأَنَّ الْجِرْو الَّذِي كَانَ فِي بَيْت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تَحْت السَّرِير كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْر ظَاهِر؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَم بِهِ، وَمَعَ هَذَا اِمْتَنَعَ جِبْرِيل صلى الله عليه وسلم مِنْ دُخُول الْبَيْت، وَعَلَّلَ بِالْجِرْوِ، فَلَوْ كَانَ الْعُذْر فِي وُجُود الصُّورَة وَالْكَلْب لَا يَمْنَعهُمْ لَمْ يَمْتَنِع جِبْرِيل. وَاللَّه أَعْلَم. (نووي).

وتعقبه العراقي بقوله: فِيمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ نَظَرٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ مِمَّا نَقَلَ هُوَ عَنْ الْعُلَمَاءِ التَّعْلِيلَ بِهِ أَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْ اتِّخَاذِهَا، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُهُ بِذَلِكَ الْجَرْوِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِي اتِّخَاذِهِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِهِ أَسْقَطَ الْإِثْمَ فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْغَفْلَةِ عَنْهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ دُخُولِهِمْ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي اتِّخَاذِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَى أَصْحَابِ الْبَيْتِ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ. امْتِنَاعُهُمْ مِنْ دُخُولِ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ مَأْذُونٌ فِي اتِّخَاذِهِ؛ لِعَدَمِ التَّقْصِيرِ مَعَ الْإِذْنِ، وَمَا جَاءَ نُقْصَانُ أَجْرِ الْعَمَلِ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْإِذْنِ فِي الِاتِّخَاذِ فَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (طرح التثريب).

وعليه: فالأظهر: أن الكلب المأذون في اقتنائه لا يمنع دخول الملائكة.

‌فائدة: 4

قتل الكلاب.

أولاً: اتفق أهل العلم على جواز قتل الكلب العقور الذي يعتدي على الناس، والكلب الكَلِب أي المصاب بداء الكلب.

قال النووي: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قتل الكلْب الكلِب والكلب العقور واختلفوا في قتل مالا ضَرَرَ فِيه.

ثانياً: وكذلك اتفق أهل العلم على حرمة قتل الكلب الذي أذن الشرع في اقتنائه مثل كلب الصيد والماشية.

ص: 290

قال ابن قدامة: أَمَّا قَتْلُ الْمُعَلَّمِ فَحَرَامٌ، وَفَاعِلُهُ مُسِيءٌ ظَالِمٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ كَلْبٍ مُبَاحٍ إمْسَاكُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ، فَحُرِّمَ إتْلَافُهُ، كَالشَّاةِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافاً.

ثالثاً: اختلف أهل العلم في حكم قتل ما سوى ذلك من الكلاب على عدة أقوال:

الأول: أن الأمر بقتل الكلاب منسوخ، ولا يجوز قتل شيء منها سوى المؤذي فقط.

وهو قول الحنفية، والمعتمد عند الشافعية.

الثاني: جواز قتل الكلاب إلا كلب الصيد والماشية.

وهو قول الإمام مالك.

الثالث: أنه يجوز قتل الكلب الأسود البهيم.

وهو المعتمد عند الحنابلة.

قال ابن قدامة: فَأَمَّا قَتْلُ مَا لَا يُبَاحُ إمْسَاكُهُ، فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ يُبَاحُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ: سَأَلْت أَبَا ذَرٍّ فَقُلْت: " مَا بَالُ الْأَسْوَدِ مِنْ الْأَحْمَرِ مِنْ الْأَبْيَضِ؟ فَقَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتنِي، فَقَالَ: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ لَأَمَرْت بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيم. (المغني).

وسبب الخلاف بين أهل العلم في ذلك:

هو التعارض الظاهري بين النصوص الواردة في المسألة.

فقد وردت أحاديث بالأمر بقتل الكلاب عامة دون تخصيص.

عن ابن عمر (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الكِلَاب) متفق عليه.

ووردت أحاديث أخرى بالأمر بقتل الكلاب باستثناء كلب الصيد والماشية.

ص: 291

عَنِ ابْنِ عُمَر (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ، أَوْ مَاشِيَة) رواه مسلم.

ووردت أحاديث تبين أن أول الأمرين كان الأمر بقتل الكلاب، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها بعد ذلك.

عن عبد الله بْنِ الْمُغَفَّلِ، قَال (أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: " مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟ " ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ، وَقَالَ: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَاب).

ووردت أحاديث بالتنصيص على قتل نوعين من الكلاب خاصة، وهما الكلب العقور، والكلب الأسود البهيم، وفي بعض هذه الأحاديث ما يفيد أنها كانت بعد النهي عن قتل الكلاب.

فأما الكلب العقور: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُور) متفق عليه.

وأما الكلب الأسود البهيم: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال (أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدَمُ مِنَ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَان) رواه مسلم.

تفسيره كما قال النووي: معنى البهيم: الخالص السواد، وأما النقطتان فهما نقطتان معروفتان بيضاوان فوق عينيه، وهذا مشاهد معروف".

والراجح من هذه الأقوال: هو النهي عن قتل الكلاب إلا الكلب العقور والأسود البهيم.

تنبيه: الأمر بقتل الكلب الأسود ليس على سبيل الوجوب، حتى عند من قال إن الأمر بقتله لم ينسخ.

قال ابن مفلح: وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا صَرَّحَ بِوُجُوبِ قَتْلِه.

(الفروع).

وعلى ذلك: فلا إثم على من ترك قتله، لا سيما إذا لم يكن مملوكاً له.

ص: 292

‌كِتَابُ الأَيْمَانِ

‌تعريف الأيمان:

الأيمان جمع يمين.

قال الجوهري: سميت اليمين بذلك لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل امرئ منهم بيمينه على يمين صاحبه.

وهي شرعاً: توكيد الشيء بذكر اسم الله أو صفة لله.

‌فائدة: 1

الأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ).

وقال تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

كما أن الله عز وجل أمر نبيه بالقسم في ثلاثة مواضع من كتابه.

فقال تعالى (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).

وقال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

وقال تعالى (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ).

وأما من السنة فأحاديث كثيرة:

منها قوله صلى الله عليه وسلم (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) متفق عليه.

وكان أكثر قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومقلب القلوب) رواه البخاري.

قال ابن قدامة: وأجمعت الأمة على مشروعية اليمين وثبوت أحكامها.

‌فائدة: 2

أحرف القسم ثلاثة هي: الباء، والواو، والتاء.

الباء: مثال (أقسم بالله لأفعلن .. ).

الواو: مثال (والله لأفعلن)(والرحمن لأفعلن). وهي أكثر شيوعاً في الاستعمال من الباء.

التاء: مثال: قوله تعالى (تالله لأكيدن أصنامكم) وهي لا تدخل إلا على لفظ الجلالة.

ص: 293

‌فائدة: 3

يجوز الحلف على الشيء ابتداء وإن لم يطلب من الحالف الحلف.

قال صلى الله عليه وسلم (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً

).

وقال صلى الله عليه وسلم (والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة).

(لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى)

أي: أن اليمين - التي تجب فيها الكفارة إذا حنث - هي اليمين بالله.

كقول: والله لا أزور فلاناً.

(أو اسمٍ منْ أسمائِهِ).

كقول: والرحمن لأفعلن كذا - ورب العالمين لا أزور فلاناً.

(أَوْ صِفةٍ م صفاتهِ، كعزة اللهِ وقدرتهِ).

كأن يقول: أقسم بعزة الله _ أو بوجه الله.

والأدلة على جواز الإقسام بصفات الله تعالى.

قال تعالى (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أجمعين).

وعن أَنَس أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعِزَّةِ تبارك وتعالى قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ) رواه البخاري.

وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً، وفيه قول الذي يخرج من النار (وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ) متفق عليه.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ) رواه البخاري.

ص: 294

عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ قَالَ: فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا).

(وتنعقِدُ بالقرآن وبالمصحف).

لأن القرآن كلام الله، وكلام الله تعالى صفة من صفاته لذلك يجوز القسم به.

‌فائدة:

الحلف بآيات الله ينقسم إلى قسمين:

الآيات الكونية: كالليل والنهار، والشمس والقمر، والجبال والأشجار، فهذا لا يجوز الحلف بها لأنها قَسَم بالمخلوق.

الآيات الشرعية: كالقرآن فهذا يجوز.

(وَالحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ مُحَرَّمٌ).

الحلف بغير الله حرام، ولو كان المحلوف به ملكاً أو نبياً.

أ-عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ اَلْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ، وَعُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا إِنَّ اَللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ب-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال صلى الله عليه وسلم (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاَللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاَللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ).

ص: 295

ج- وعن ابْن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ). وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا فَقَالَ (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) رواه مسلم.

د-وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِى وَلَا بِآبَائِكُم) رواه مسلم.

هـ- وعن ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه أبوداود.

د- وعن ابن مسعود قال (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ أن أحلف بغيره صادقاً) رواه عبدالرزاق.

لأن الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله محرم إذا كان الحالف كاذباً.

قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله إجماعاً.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشايخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة.

قال ابن القيم: ومن الكبائر- الحلف بغير الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف بغير الله، فقد أشرك)، وقد قصّر ما شاء أن يقصر من قال: إن ذلك مكروه، وصاحب الشرع يجعله شركا؛ فرتبته فوق رتبة الكبائر. (إعلام الموقعين).

‌فائدة: 1

لماذا خص حديث عمر النهي عن الحلف بغير الله بالآباء؟

وإنما خصّ في حديث عمر بالآباء؛ لوروده على سبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم مرّ به، وهو يحلف بأبيه، فقال له ذلك.

أو خصّ لكونه غالبًا عليهم، كما بيّنه في رواية (وكانت قريش تحلف بآبائها) ويدلّ على التعميم قوله: من كان حالفًا، فلا يحلف إلا باللَّه.

‌فائدة: 2

ما الحكمة من النهي عن الحلف بغير الله؟

لأن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده.

قال ابن حجر: قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة لله وحده.

وقال ابن قدامة: وَلِأَنَّ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ عَظَّمَ غَيْرَ اللَّهِ تَعْظِيمًا يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ تبارك وتعالى، وَلِهَذَا سُمِّيَ شِرْكًا؛ لِكَوْنِهِ أَشْرَكَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِهِ بِالْقَسَمِ بِهِ.

ص: 296

‌فائدة: 3

متى يعتبر الحلف بغير الله شركاً أكبر؟

إذا اعتقد أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في العظمة.

قال الشيخ ابن باز: وقد يكون الشرك الأصغر شركاً أكبر إذا اعتقد صاحبه أن من حلف بغير الله أو قال: ما شاء الله وشاء فلان، فإن له التصرف في الكون، أو أن له إرادة تخرج عن إرادة الله وعن مشيئته سبحانه، أو أن له قدرة يضر وينفع من دون الله، أو اعتقد أنه يصلح أن يعبد من دون الله وأن يستغاث به، فإنه يكون بذلك مشركاً شركاً أكبر بهذا الاعتقاد.

أما إذا كان مجرد حلف بغير الله من دون اعتقاد آخر، لكن ينطق لسانه بالحلف بغير الله؛ تعظيماً لهذا الشخص، يرى أنه نبي أو صالح أو

لأنه أبوه أو أمه وتعظيمها لذلك، أو ما أشبه ذلك فإنه يكون من الشرك الأصغر وليس من الشرك الأكبر.

قال الشيخ ابن عثيمين: والحلف بغير الله شرك أكبر؛ إن اعتقد أن المحلوف به مساو لله تعالى في التعظيم والعظمة، وإلا؛ فهو شرك أصغر.

‌فائدة: 4

- فإن قيل: ما الجواب عن حديث طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ: لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ فَقَالَ: لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ. وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ: لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْلَحَ [وأَبِيهِ] إِنْ صَدَقَ) رواه مسلم.

ص: 297

‌كيف حلف بأبيه مع أن الحلف بغير الله شرك؟

قد أجاب العلماء عن هذا بعدة أجوبة:

قيل: يحتمل أن هذا قبل النهي.

وقيل: إن هذا ليس حلفاً وإنما كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة حقيقة الحلف، ورجحه النووي.

قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (أَفْلَحَ وَأَبِيهِ) لَيْسَ هُوَ حَلِفًا إِنَّمَا هُوَ كَلِمَة جَرَتْ عَادَة الْعَرَب أَنْ تُدْخِلَهَا فِي كَلَامهَا غَيْرَ قَاصِدَةٍ بِهَا حَقِيقَةَ الْحَلِفِ. وَالنَّهْي إِنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ قَصَدَ حَقِيقَة الْحَلِف لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْظَام الْمَحْلُوفِ بِهِ وَمُضَاهَاتِهِ بِهِ اللَّهَ سبحانه وتعالى. فَهَذَا هُوَ الْجَوَاب الْمَرْضِيُّ. وَقِيلَ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُون هَذَا قَبْل النَّهْي عَنْ الْحَلِف بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى وَاَللَّه أَعْلَمُ.

وقيل: أن ذلك كان جائزاً ثم نسخ.

قال في الفتح: قاله الماوردي وحكاه البيهقي، وقال السبكي أكثر الشراح عليه حتى قال ابن العربي: وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك.

وقيل: إن في الجواب حذفاً تقديره: أفلح ورب أبيه، ذكره البيهقي.

وقيل: إن ذلك خاص بالشارع دون غيره من أمته وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. (الفتح).

‌فائدة: 5

ما الجواب عن القسم بغير الله الوارد في القرآن؟

قال في (الفتح) وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير اللَّه، ففيه جوابان:

أحدهما: أن فيه حذفاً، والتقدير ورب الشمس، ونحوه.

والثاني: أن ذلك يختصّ باللَّه تعالى، فهذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به، وليس لغيره ذلك.

ص: 298

‌فائدة: 6

اختلف أهل العلم في حكم قول المسلم (لعمري)، أو (لعمرك) وذلك على ثلاثة أقوال:

‌القول الأول: الجواز.

وهو قول أكثر أهل العلم، بل ما زال العلماء يستعملون هذه الكلمات في كتبهم وخطاباتهم.

ويمكن الاستدلال لهذا القول بأدلة كثيرة، منها

أولاً: ثبوت هذا اللفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ عَمِّهِ (أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ بِخَيْرٍ، فَارْقِ لَنَا هَذَا الرَّجُلَ. فَأَتَوْهُ بِرَجُلٍ مَعْتُوهٍ فِي الْقُيُودِ، فَرَقَاهُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَكُلَّمَا خَتَمَهَا جَمَعَ بُزَاقَهُ ثُمَّ تَفَلَ، فَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا،

فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَهُ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (كُلْ فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةٍ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةٍ حَق) رواه أبو داود.

ثانياً: كما ورد إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن تكلم بهذه الكلمة.

عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَال (نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ. فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِم، فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ. فَتَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرِي إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ لَا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا. قَالَ الْأَسَدِيُّ: فَقُلْتُ: لَلِقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.

قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ شَعِيرٌ وَزَبِيبٌ فَقَسَمَ لَنَا مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ حَتَّى أَغْنَانَا اللَّهُ عز وجل. رواه أبو داود

ثالثاً: وقد ثبت عن نحو سبعة من الصحابة أنهم قالوا في معرض كلامهم: " لعمري "، أو " لعمرك ".

ص: 299

‌القول الثاني: التحريم.

باعتبارها حلفا بغير الله.

‌القول الثالث: الكراهة.

لما يخشى أن يكون فيه شبه من الحلف بغير الله، أو ذريعة للوقوع بذلك.

والراجح الأول.

‌تنبيه:

قوله تعالى (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون).

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ).

أكثر المفسرين من السلف والخلف، بل لا يعرف عن السلف فيه نزاع، أن هذا قسم من الله بحياة رسوله، وهذا من أعظم فضائله، أن يقسم الرب عز وجل بحياته، وهذه مزية لا تعرف لغيره.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لعمرك) أي: وحياتك. قال: وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره. (التبيان في أقسام القرآن).

وقال الشنقيطي: وَقَوْلُهُ (لَعَمْرُكَ) مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ بِحَيَاتِكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يُقْسِمْ فِي الْقُرْآنِ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يَخْفَى.

وَلَا يَجُوزُ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت)، وَقَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَعَمْرُكَ قَسَمِي. (أضواء البيان).

ص: 300

‌فائدة: 7

وقال الشيخ ابن عثيمين: الحلف وهو اليمين والقسم: لا يجوز إلا بالله تعالى أو صفة من صفاته

، وإذا حلف بالله سبحانه وتعالى: فإنه لا حاجة إلى أن يأتي بالمصحف؛ ليحلف عليه، فالحلف على المصحف أمر لم يكن عند السلف الصالح، لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة، حتى بعد تدوين المصحف لم يكونوا يحلفون على المصحف، بل يحلف الإنسان بالله سبحانه وتعالى بدون أن يكون ذلك على المصحف.

(فتاوى نور على الدرب لابن عثيمين).

‌فائدة: 8

عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللاَّتِ. فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ. فَلْيَتَصَدَّقْ) متفق عليه.

اللات والعزى: وثنان كان العرب يعبدونهما في الجاهلية.

واللات: اسم صنم لرجل كما في البخاري عن ابن عباس قال: كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج.

قال ابن حجر: كان اللات بالطائف، وقيل: بنخلة، وقيل: بعكاظ، والأول أصح، وهدمها المغيرة بن شعبة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

في الحديث أمْر من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله.

قال الخطابي: اليمين إنما تكون بالمعبود المعظم، فإذا حلف باللات ونحوها فقد ضاهى الكفار، فأمر أن يتدارك بكلمة التوحيد.

وقال القرطبي: قال العلماء: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيراً لتلك اللفظة، وتذكيراً من الغفلة، وإتماما للنعمة، وخص اللات بالذكر لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينها. (التفسير).

ص: 301

وقال السندي: قوله (باللات) أي بلا قصد بل على طريق جرى العادة بينهم، لأنهم كانوا قريبي العهد بالجاهلية، وقوله: لا إله إلا الله استدراك لما فاته من تعظيم الله تعالى في محله ونفى لما تعاطى من تعظيم الأصنام صورة، وأما من قصد الحلف بالأصنام تعظيما لها فهو كافر نعوذ بالله منه.

(وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ).

أي: لا تنعقد هذه اليمين التي بغير الله.

فلو حلف بالملك أو بالصنم أو بالنبي فإن هذه اليمن غير منعقدة.

قال ابن قدامة: وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقٍ؛ كَالْكَعْبَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا، هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.

وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَلِفُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينٌ مُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَلَفَ بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَنِثَ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: لِأَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ، فَالْحَلِفُ بِهِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ، كَالْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ).

وَلِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَلِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ بِالْحَلِفِ بِهِ، كَإِبْرَاهِيمَ عليه السلام.

وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.

ص: 302

وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى اسْمِهِ؛ لِعَدَمِ الشَّبَهِ، وَانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ. (المغني).

وقال ابن حزم: من حلف بغير الله فليس حالفاً، ولا هي يميناً، وهو باطل ليس فيه إلا استغفار الله تعالى والتوبة فقط.

وقال ابن تيمية: الحلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة، والمشايخ والملوك والآباء وتربتهم ونحو ذلك يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء، بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم، والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم. (الفتاوى الكبرى).

- قول من قال: يجوز الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنها يمين منعقدة موجبة للكفارة، قول ضعيف.

قال ابن قدامة: وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقٍ؛ كَالْكَعْبَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا، هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.

وقال ابن تيمية: ولو حلف حالف بحق المخلوقين لم تنعقد يمينه، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء والملائكة وغيرهم.

وقال القرطبي: لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ.

وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ، وَهَذَا حَصْرٌ فِي عَدَمِ الْحَلِفِ بكل شي سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا.

(ويُكرهُ كثرة الحلف).

لأن كثرة الحلف يدل على الاستخفاف وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي التوحيد الواجب أو كماله.

ويستدل لذلك:

أ- بقوله تعالى (ولا تطع كل حلاف مهين).

قال الطبري: ولا تطع يا محمد كل ذي إكثار للحلف بالباطل.

وقال القرطبي: الحلاف: كثير الحلف.

ب- قوله تعالى (واحفظوا أيمانكم).

ص: 303

فقد ورد في تفسير هذه الآية جملة أقوال أحدها: أن المراد بحفظ اليمين هو عدم الإكثار منها.

ج - قوله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم).

فقد ورد في تفسيرها عدة أوجه، من هذه الأوجه ما يفيد أن المقصود منها عدم الإكثار من الحلف.

قال ابن الجوزي: وفي معنى الآية ثلاثة أقوال، الثالث: أن معناها لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارين مصلحين، فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه.

قال ابن قدامة: وَيُكْرَهُ الْإِفْرَاطُ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى.

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِين) وَهَذَا ذَمٌّ لَهُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ فِعْلِهِ.

فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ، فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُوجِبُ كَرَاهَتَهُ.

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَيْمَانُ كُلُّهَا مَكْرُوهَةٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم).

وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْلِفُ كَثِيرًا، وَقَدْ كَانَ يَحْلِفُ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ أَيْمَانًا كَثِيرَةً، وَرُبَّمَا كَرَّرَ الْيَمِينَ الْوَاحِدَةَ ثَلَاثًا.

فَإِنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ: وَاَللَّهِ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا.

وَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، مَعَهَا أَوْلَادُهَا، فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً.

وَلَوْ كَانَ هَذَا مَكْرُوهًا، لَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ.

وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَعْظِيمٌ لَهُ، وَرُبَّمَا ضَمَّ إلَى يَمِينِهِ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِتَعْظِيمِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَيَكُونُ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ.

ص: 304

وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ فِي الْحَلِفِ، فَإِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ الْكَذِبِ.

فَأَمَّا قَوْلُهُ (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم).

فَمَعْنَاهُ لَا تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ بِاَللَّهِ مَانِعَةً لَكُمْ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِرًّا وَلَا تَقْوَى وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ يَمْتَنِعَ مِنْ فِعْلِهِ، لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَلَا يَحْنَثَ فِيهَا، فَنُهُوا عَنْ الْمُضِيِّ فِيهَا. (المغني).

(ويشترط لوجوب الكفارة: أن يكون عاقلاً).

فلا تجب الكفارة على مجنون، ومغمى عليه.

فالمجنون لا تنعقد يمينه.

أ-لقوله تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ).

والمجنون لا يصح عقد اليمين منه، لأنه لا قصد له معتبر.

ب- ولحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير جتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل).

ج- ولأن المجنون غير مخاطب ولا مكلف بالأحكام الشرعية.

(بالغاً).

فغير البالغ - الصبي - لا تنعقد يمينه.

‌والصبي لا يخلو من حالين:

‌أولاً: إن كان غير مميز: فلا عبرة بيمينه.

للحديث السابق (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ).

ب- أن الصبي في أول أحواله عديم التمييز، فكان كالمجنون، بل أدنى حالاً منه.

ص: 305

‌ثانيا: أن يكون مميزاً لكنه لم يبلغ.

فالجمهور أن يمينه غير منعقدة.

للأدلة المتقدمة في عدم انعقاد يمين المجنون.

(مختاراً).

أي: مختاراً لليمين، فإن كان مكرهاً فلا تنعقد يمينه.

وهذا مذهب الجمهور.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

(كونهُ قاصداً لليمين، فلا تنعقد ممن سبق على لسانه بلا قصد كقوله: لا والله، وبلى والله، في عرض حديثه).

لأنه لا مؤاخذة إلا بقصد ونية، ولذلك أسقط الله تبارك وتعالى الكفارة في لغو اليمين.

فإذا لم يقصد اليمين فليست منعقدة، وهي لغو اليمين.

والمراد بها: ما يجري على لسان المتكلم بلا قصد كقول الرجل في معرض كلامه: لا والله لن أذهب، بلى والله سأذهب ونحو ذلك. فهذه لا كفارة فيها.

لقوله تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) قَالَتْ: هُوَ قَوْلُ اَلرَّجُلِ: لَا وَاَللَّهِ. بَلَى وَاَللَّهِ). أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ

فلغو اليمين أن يتلفظ بالقسم وهو لا ينوي ولا يريد القسم.

ولغو اليمين: لا كفارة فيها.

ص: 306

قال ابن جزي في (القوانين الفقهية) فاللغو لا كفارة فيه بالاتفاق.

قال ابن قدامة: وجملته أن اليمين اللغو لا كفارة فيها في قول أغلب أهل العلم.

وجه ذلك قول الله تَعَالَى (لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ).

فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ الَّتِي يُؤَاخَذُ بِهَا، وَنَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِاللَّغْوِ، فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا إيجَابَ الْكَفَّارَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي لَا مَأْثَمَ فِيهَا، وَإِذَا كَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ، فَقَدْ نَفَاهَا فِي اللَّغْوِ، فَلَا تَجِبُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ، وَبَيَانِ الْأَيْمَانِ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ، خَرَجَ مِنْهَا تَفْسِيرًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ مَقْبُول.

(وكونها على أمرٍ مستقبل).

أي: أن من شروط اليمين التي توجب الكفارة: أن تكون على أمر مستقبل.

مثال: كأن يقول: والله لأسافرنّ غداً، أو يقول: والله لا أدخل دار فلان.

والدليل:

أ-قوله تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ

أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).

فقوله (إِذَا حَلَفْتُمْ) أي: إذا حصل منكم الحنث بترك ما حلفتم على فعله، أو فعل ما حلفتم على تركه، فدل على أن اليمين المنعقدة هي التي يحلفها على أمر مستقبل.

ب-وحديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (

وَإِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) متفق عليه.

فالحديث ظاهر في أن اليمين المكفَّرة هي التي تكون على أمر مستقبل.

ص: 307

(فإنْ حَلَفَ على أمرٍ ماضٍ كاذباً عالماً فهي الغَموس).

أي: إذا حلف الإنسان على أمر ماضٍ، وهو يعلم كذبه فهو آثم.

وهذه هي اليمين الغموس:

تعريفها: أن يحلف كاذباً عالماً على أمر ماض.

كأن يقول: والله لقد سافرت إلى الرياض، وهو لم يسافر.

وكأن يقول: والله ما قرأت هذا الكتاب، وهو قد قرأه.

سميت بذلك:

لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار.

وهي حرام ومن كبائر الذنوب:

أ-عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ). رواه البخاري

ب-وعَنْ ابن مسعود عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} الآيَةَ) متفق عليه.

ج-وعنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ). فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ (وَإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ) متفق عليه.

وقد ذهب بعض العلماء: إلى أن اليمين الغموس هي التي يقتطع فيها مال امرئ مسلم للحديثين السابقين.

ص: 308

(ولا كفارة فيها).

وهذا قول جمهور العلماء، أن اليمين الغموس لا كفارة فيها، وإنما التوبة والاستغفار.

قال ابن قدامة: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ.

وَهَذِهِ الْيَمِينُ تُسَمَّى يَمِينَ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ.

وقال القرطبي: اخْتُلِفَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هَلْ هِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا يَمِينُ مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ وَكَذِبٍ فَلَا تَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، لِأَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَلْبِ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. (التفسير).

جاء في (الموسوعة الفقهية) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْل الأْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ.

الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ. (الموسوعة).

واستدل الجمهور بما يلي:

أ-عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قال (كُنَّا نَعُدُّ الذَّنْبَ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ لَهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ، أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُل عَلَى مَال أَخِيهِ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَهُ)

وهذا قول صحابي ولا يعلم له مخالف له من الصحابة.

بل نقل محمد بن نصر في اختلاف العلماء ثم ابن المنذر ثم ابن عبد البر اتفاق الصحابة على عدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس.

ب- أنّ الأحاديث التي فيها تحريم اليمين الغموس لم يأت فيها ذكر الكفارة.

جاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) اليمين الغموس من كبائر الذنوب، ولا تجدي فيها الكفارة لعظيم إثمها، ولا تجب فيها الكفارة على الصحيح من قولي العلماء، وإنما تجب فيها التوبة والاستغفار.

ص: 309

(الحنث بفعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله).

أي: من شروط وجوب الكفارة: الحنث، وهو: أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله مختاراً.

مثال: لو أن رجلاً قال: والله لأصومن غداً، فلما جاء الغد صام، فإنه لا كفارة عليه لأنه لم يحنث.

(ذاكراً).

فلو حنث ناسياً فلا شيء عليه.

كأن يقول: والله لا أسافر إلى مكة، ثم نسي فسافر إلى مكة، فإنه لا يحنث، لكن لا تنحل يمينه بل لا تزال باقية.

(وَمَنْ قَالَ فِي يَمِينٍ مُكَفَّرَةٍ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَحْنَثْ).

أي: إذا حلف الإنسان يميناً تدخلها الكفارة، ثم استثنى فيها وقال: إن شاء الله، فإنه حينها لا يحنث لو خالف ما حلف عليه، فلا تلزمه الكفارة.

مثال: قال: والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله، ثم لبسه فليس عليه شيء؛ لأنه قال: إن شاء الله.

ولو قال: والله لألبسن هذا الثوب اليوم إن شاء الله، فغابت الشمس ولم يلبسه، فليس عليه شيء.

أ-عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ نَبِيُّ اللَّهِ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِى بِغُلَامٍ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ أَوِ الْمَلَكُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِىَ. فَلَمْ تَأْتِ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَائِهِ إِلاَّ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ غُلَامٍ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَته) متفق عليه.

ص: 310

ب- وعن اِبْنِ عُمَر أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ حَلِفِ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اَللَّهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) رَوَاهُ أبوداود.

فهذا الحديث يفيد: أن اليمين إذا علقها الحالف بالمشيئة لم بحنث ولم تلزمه كفارة.

قال الترمذي: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ إِذَا كَانَ مَوْصُولاً بِالْيَمِينِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.

وقال ابن قدامة: وَإِذَا حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْيَمِينِ كَلَامٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَهَذَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً.

فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال (مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ اسْتِثْنَاءً، وَأَنَّهُ مَتَى اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ لِمَ يَحْنَثْ فِيهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد (مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) وَلِأَنَّهُ مَتَى قَالَ: لَأَفْعَلَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَتَى شَاءَ اللَّهُ فَعَلَ، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. (المغني).

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث قوله: (لم يحنث) فيه دليل على أن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين أو يحل انعقادها، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.

وقال الشيخ ابن عثيمين: والأفضل لكل حالف أن يعلق يمينه بالمشيئة لأن في ذلك فائدتين:

الأمر الأول: تيسير الأمر كما قال تعالى (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً).

الأمر الثاني: أن الإنسان إذا حنث لم تلزمه الكفارة.

ص: 311

‌فائدة: شروط الاستثناء:

أولاً: يشترط في الاستثناء أن يكون بلسانه فلو استثنى بقلبه لم ينفعه بالإجماع.

قال ابن قدامة: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بِلِسَانِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْقَلْبِ.

فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا.

أ-لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ حَلَفَ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ) وَالْقَوْلُ هُوَ النُّطْقُ.

ب- وَلِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ. (المغني).

ثانياً: وأن يكون متصل بيمينه حقيقة وحكماً:

حقيقة: والله لا أكلم فلاناً اليوم إن شاء الله [هذا اتصال حقيقي].

حكماً: لو قال والله لا ألبس هذا الثوب - فأخذه عطاس وجلس ربع ساعة وهو يعاطس - فلما هدأ قال: إن شاء الله [هذا اتصال حكماً لأنه منعه مانع من اتصال الكلام].

قال ابن قدامة: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ، بِحَيْثُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ، وَلَا يَسْكُتُ بَيْنَهُمَا سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، فَأَمَّا السُّكُوتُ لِانْقِطَاعِ نَفَسِهِ أَوْ صَوْتِهِ، أَوْ عَيٍّ، أَوْ عَارِضٍ، مِنْ عَطْسَةٍ، أَوْ شَيْءٍ غَيْرِهَا، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَثُبُوتَ حُكْمِهِ.

وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ الرَّأْيِ.

أ-لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى) وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَقِيبَهُ.

ب-وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ، فَاعْتُبِرَ اتِّصَالُهُ بِهِ، كَالشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا.

ج- وَلِأَنَّ الْحَالِفَ إذَا سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ يَمِينِهِ، وَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِحُكْمِهَا، وَبَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ.

ص: 312

‌فائدة:

اشترط بعض العلماء: أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه.

وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

لكنه قول ضعيف، والراجح أن هذا ليس بشرط.

ويدل لذلك:

حديث أبي هريرة السابق (. . . قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ نَبِيُّ اللَّهِ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِى بِغُلَامٍ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ أَوِ الْمَلَكُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِىَ. فَلَمْ تَأْتِ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَائِهِ. . .).

وجه الدلالة: أن سليمان لم ينو الاستثناء، ولو استثنى كان دركاً لحاجته ونفَعه ذلك، فدل ذلك على عدم اشتراط النية.

(وَيُسَنُّ الحِنْثُ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَ خَيْراً).

أي: يسن للحالف أن يحنث في اليمين إذا كان حلفه على ترك مندوب أو فعل مكروه.

عَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ اَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ (فَائِت اَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ).

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ (فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ اِئْتِ اَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ.

قال النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث: دَلَالَة عَلَى مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل شَيْء أَوْ تَرْكه، وَكَانَ الْحِنْث خَيْرًا مِنْ التَّمَادِي عَلَى الْيَمِين، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْث، وَتَلْزَمهُ الْكَفَّارَة وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ. (شرح مسلم).

والخيرية في الحنث تارة تكون واجبة، وتارة تكون مستحبة، فإن كانت خيرية واجبة كان الحنث واجباً، وإن كانت خيرية تطوع صار الحنث تطوعاً.

ص: 313

‌مثال:

قال: والله لا أصلي اليوم، فهذا حلف على ترك واجب، فالحنث واجب.

قال: والله ما أوتر، هنا الأفضل أن يحنث، فنقول أوتر وكفر عن يمينك.

-‌

‌ والمسألة لها [3] أحوال:

الأولى: أن يكون الحنث خير، فإنه يحنث.

للحديث السابق (فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ اَلَّذِي هُوَ خَيْر).

مثال: قال والله لا أدخل دار خالي، فهنا نقول الأفضل أن يحنث ويدخل دار خاله ويكفر عن يمينه.

ثانياً: أن يكون عدم الحنث خير، فإنه لا يحنث.

ثالثاً: أن يتساوى الأمران، فالأفضل أن لا يحنث.

(وَمَنْ حَرَّمَ حَلَالاً - سِوَى زَوْجَتِهِ - مِنْ أَمَةٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ لِبَاسٍ، أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَحْرُمْ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلَهُ).

أي: إذا حرم الإنسان على نفسه أمراً حلالاً عليه، فلا يحرم عليه، وعليه كفارة يمين إن فعله.

مثال: أن يقول هذا التفاح حرام عليّ، أو يقول: حرام عليّ أن آكل طعامك.

فإذا حرم الرجل على نفسه شيئاً حلالاً، فحكمه حكم اليمين، فإن حنث فعليه كفارة يمين.

أ- لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم قال سبحانه: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ).

ص: 314

فجعل الله تعالى تحريم الحلال يميناً.

ب-وقد نزلت بسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم لإحدى زوجاته: شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له.

عن عَائِشَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ} لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً) متفق عليه.

ج- عن ابْن عَبَّاس قَالَ فِي الْحَرَامِ: يمين يُكَفَّرُ وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَة) متفق عليه.

د-وقد ثبت عَنْ اِبْن مَسْعُود رضي الله عنه (أَنَّهُ جِيءَ عِنْده بِطَعَامٍ فَتَنَحَّى رَجُل، فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْته أَنْ لَا آكُلَهُ فَقَالَ: إِذَنْ فَكُلْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينك، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين)(الفتح).

هـ-وروى ابن أبي شيبة عَنْ عُمَرَ وابْنِ عَبَّاسٍ وعائشة وَعَنِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ ومَكْحُولٍ أنهم قالوا: الْحَرَامُ يَمِين.

وقال ابن قدامة: إذا قال: هذا حرام علي إن فعلت وفعل، أو قال: ما أحل الله علي حرام إن فعلت ثم فعل، فهو مخير، إن شاء ترك ما حرمه على نفسه، وإن شاء كفر، وإن قال: هذا الطعام حرام علي فهو كالحلف على تركه. (المغني).

‌فائدة:

قوله (سوى زوجته) تقدم الخلاف في تحريم الزوج لزوجته، وأن فيه خلافاً طويلاً.

ص: 315

‌فصل

(يُخَيَّرُ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بَيْنَ إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينِ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ، أَوْ عَتْقِ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعة).

‌كفارة اليمين تتمثل فيما يلي:

إطعام عشرة مساكين أو أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

قال تعالى (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).

فالثلاثة الأولى على التخيير (إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة).

فإن لم يجد فإنه ينتقل لصيام ثلاثة أيام، فلا يجوز أن يصوم وهو قادر على الإطعام أو الكسوة أو العتق.

‌فائدة: 1

كفارة اليمين واجبة إذا حنث الحالف.

لقوله تعالى (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم).

والمراد بالتحلَّة هي الكفارة قبل الحنث.

ولقوله صلى الله عليه وسلم (

وكفر عن يمينك).

‌فائدة: 2

وقت وجوبها هو الحنث

[وهو فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله].

ص: 316

‌فائدة: 3

الصحيح أنه لا يجزئ إخراج القيمة في الكفارة،

لقوله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين

).

قال ابن قدامة: لا يُجْزِئُ في الكفارة إِخراج قيمة الطعام ولا الكسوة، لأن الله ذكر الطعام فلا يحصل التكفير بغيره، ولأن الله خَيَّرَ بين الثلاثة أشياء ولو جاز دفع القيمة لم يكن التَخْيِيرُ منحصراً في هذه الثلاث. (المغني).

‌فائدة: 4

كيفية الإطعام:

أن يصنع طعاماً ويدعو إليه عشرة مساكين فيعشيهم أو يغديهم، أو أن يعطي كل واحد بنفسه.

‌فائدة: 5

يجب استيعاب العشرة،

فلا يجوز أن يعطي خمسة مساكين مرتين، لأن الله نص على عدد عشرة.

‌فائدة: 6

لم يرد تحديد كم الإطعام فيرجع فيه إلى العرف.

‌فائدة: 7

الذي يجزئ في الكسوة:

قيل: ما يجزئ في الصلاة كالقميص أو الإزار والرداء، وقيل: يرجع فيه إلى العرف لأنه لم يرد تحديده في الشرع وهذا الراجح.

‌فائدة: 8

يشترط في عتق الرقبة أن تكون مؤمنة لقوله صلى الله عليه وسلم (أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم.

‌فائدة: 9

يجب التتابع في الصوم،

لقراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعة).

ص: 317

‌فائدة: 10

اختلف أهل العلم رحمهم الله في وجوب أداء الكفارة،

هل هو على الفور أم على التراخي؟

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَنَّهَا تَجِبُ بِالْحِنْثِ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي.

‌فائدة: 11

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن رجلٍ حلف على شيء ثم حنث في يمينه، وصام مع قدرته على الإطعام، فما الحكم؟

هل يجزئه الصيام مع أن الله بدأ بالإطعام وجعل الصيام عند عدم الاستطاعة، ولو كان غير عالم بالحكم هل يختلف الحكم؟

فأجاب:

إذا صام الإنسان في كفارة اليمين وهو قادر على إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن الصوم يكون نافلة، وعليه أن يأتي بالكفارة، لكن الصوم لا يضيع، يكون نافلة له، وليطعم.

ولقد اشتهر عند كثير من الناس أن كفارة اليمين هي الصيام، ولهذا إذا حلف على أخيه وقال: والله أن تفعل كذا، يقول: لا

تجعلني أصوم ثلاثة أيام، وهذا خطأ، الإطعام مقدم أو الكسوة أو عتق الرقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة " انتهى.

(وهو مُخيّر بين تقديم الكفارة على الحِنثِ وتأخيرِها عنه).

أي: من وجب عليه التكفير فهو مخير بين أن يكفر قبل الحنث أو بعده.

‌وهذه المسألة لها أحوال: (وقت دفع الكفارة).

‌أولاً: أن تكون قبل اليمين.

فهذه لا تجزئ بالإجماع.

قال النووي: وأجمعوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز تَقْدِيمهَا عَلَى الْيَمِين.

ص: 318

وقال ابن قدامة: فَأَمَّا التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْيَمِينِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَبْلَ الْجَرْحِ.

جاء في (الموسوعة الفقهية) لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز التكفير قبل اليمين؛ لأنه تقديم الحكم قبل سببه، كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب، وكتقديم الصلاة قبل دخول وقتها.

‌ثانياً: أن تكون بعد الحلف والحنث.

فهذه تجزئ اتفاقاً.

‌ثالثاً: أن تكون بعد الحلف وقبل الحنث.

فهذه موضع خلاف، وجماهير العلماء على جواز ذلك.

لحديث أبي موسى. قال: قال صلى الله عليه وسلم (. . . وَإِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) متفق عليه.

وجاء عند أبي داود (كفّر عن يمينك ثم ائتِ الذي هو خير).

وهذا صريح في جواز تقديم الكفارة على الحث، لأن ثم تفيد الترتيب.

قال الخطابي: فيه دليل على جواز تقديم الكفارة على الحنث، وهو قول أكثر أهل العلم.

قال النووي: وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازهَا بَعْد الْيَمِين وَقَبْل الْحِنْث:

فَجَوَّزَهَا مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيّ وَأَرْبَعَة عَشَر صَحَابِيًّا وَجَمَاعَات مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْل جَمَاهِير الْعُلَمَاء، لَكِنْ قَالُوا: يُسْتَحَبّ كَوْنهَا بَعْد الْحِنْث.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَأَشْهَب الْمَالِكِيّ: لَا يَجُوز تَقْدِيم الْكَفَّارَة عَلَى الْحِنْث بِكُلِّ حَال.

وَدَلِيل الْجُمْهُور ظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَالْقِيَاس عَلَى تَعْجِيل الزَّكَاة. (نووي).

ص: 319

وقال ابن قدامة: فَأَمَّا كَفَّارَةُ سَائِرِ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ، صَوْمًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ تَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مَخْلَدٍ رضي الله عنهم، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد.

أ-لحديث عَبْدُ الرَّحْمَن بْن سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظٍ (وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

ب- وَلِأَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ بَعْدَ الْجَرْحِ، وَقَبْلَ الزَّهُوقِ، وَالسَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ). (المغني).

‌تنبيه:

اختلف القائلون بجواز إخراج الكفارة قبل الحنث، هل الأفضل إخراجها قبله أو بعده على ثلاثة أقوال:

قيل: أن التكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة.

وهذا المذهب عند الحنابلة.

لورود النصوص بكل منهما.

وقيل: أن الأفضل بعد الحنث.

وهو قول مالك، والشافعي.

لما فيه من الخروج من الخلاف، وحصول اليقين ببراءة الذمة.

وقيل: أنه قبل الحنث أفضل.

لما فيه من تعجيل النفع للفقراء.

والله أعلم.

ص: 320

‌فائدة:

إذا كرر اليمين فلها أحوال:

الحالة الأولى: إذا كرر اليمين على شيء واحد.

كأن يقول: والله لا آكل هذا الخبز، والله لا آكل هذا الخبز.

فهذه تعتبر يميناً واحدة ولا تجب فيها إلا كفارة واحدة، وهذا قول أكثر العلماء.

الحالة الثانية: تكرار اليمين على أشياء مختلفة.

كأن يقول: والله لا آكل اليوم، والله لا أشرب اليوم، والله لا أسافر اليوم.

فهذه إن كفر عن الأولى ثم حنث في الثانية تلزمة كفارة ثانية.

قال ابن قدامة: لا أعلم فيه خلافاً.

فإن لم يكفر عن الثانية (هذا موضع خلاف):

والراجح قول الجمهور: بكل يمين كفارة إن حنث فيها.

قال ابن قدامة: وهو قول أكثر أهل العلم.

الحالة الثالثة: أن يكون المحلوف عليه متعدد واليمين واحدة.

كأن يقول: والله لا أكلت، ولا شربت، ولا لبست، فحنث في الجميع.

فهذه تلزمه كفارة واحدة، لأن اليمين واحدة.

قال ابن قدامة: لا أعلم فيه خلافاً.

ص: 321

(ويرجع في الأيْمان إلى نية الحالف).

أي: إذا حلف إنسان على أمر، فإنه يرجع في تحديد المحلوف عليه إلى نية الحالف، لكن بشرط أن يحتملها اللفظ.

والدليل قوله تعالى (ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه.

لكن بشرط أن يحتملها اللفظ، بأن يكون هذا اللفظ يمكن أن يراد به ما نواه الحالف، فإن لم يمكن لم يقبل.

مثال ما يحتمله اللفظ:

والله لا أنام الليلة إلا على فراش ليّن، فخرج وذهب ونام في الصحراء على الرمل، فلما قيل له: كفّر، قال: لا أكفر، لأني نويت بالفراش الأرض، فهنا يصح، لأن اللفظ يحتمله، قال تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً) والرمل لين، فلا شيء عليه.

مثال آخر: قال: والله لأبيتنّ اليلة على وتد، فذهب إلى جبل وبات عليه، فقلنا له: كفّر، فقال: لقد بت على الوتد، وقد أردت بالوتد الجبل، فهنا لا شيء عليه لأن اللفظ يحتمله.

ومثله: لو نوى بالسقف السماء ونحو ذلك، قدمت نيته على عموم لفظه. لو حلف ألا ينام إلا تحت سقف، ثم خرج إلى البر ووضع فراشه ونام، وليس فوقه إلا السماء، فقيل له: عليك أن تكفر، لأنك لم تنم تحت سقف، فقال: أردت السماء، فهذا يصح لقوله تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً).

• أما إذا كان اللفظ لا يحتمله فلا يقبل:

مثال: قال: والله لا أشتري اليوم خبزاً، فذهب واشترى خبزاً، فقيل له: كفر عن يمينك، فقال: لا، لأني أردت بقولي: والله لا أشتري اليوم خبزاً، يعني والله لا أكلم فلاناً، فهذا لا يصح، لأن اللفظ لا يحتمله.

ص: 322

(ثم إلى السبب الذي هيّج اليمين).

أي: فإن عدمت النية يرجع إلى سبب اليمين وما هيّجها، فتحمل اليمين عليه.

مثال: قيل لرجل: إن ابنك يصاحب الأشرار، فقال: والله لا أكلمه ما حييت، فجاءه شخص وقال: إن ابنك يصاحب الأخيار وليس الأشرار، فكلمه أبوه، فليس على الوالد كفارة، لأنه عندما حلف، كان سبب اليمين، من أجل أن ابنه يصاحب الأشرار، فلما ظهر أنه يصاحب الأخيار علم أنه لم يكن قصده الحلف المطلق، وإنما الحلف المقيد ولم يتحقق هذا الشرط، فكأنه قال: إن كان ابني مصاحباً للأشرار فلا أكلمه، وهو وإن لم يقل هذا الشرط بلفظه فهو مضمر له في نفسه.

مثال آخر: قال والله لا أكلم زيداً لشربه الخمر، فكلمه وقد تركه، لم يحنث، لدلالة الحال على أن المراد ما دام على ذلك، وقد انقطع ذلك.

(ثم إلى التعيين).

أي إذا عدم السبب فإننا نرجع إلى التعيين، فإذا قصد عين الشيء المحلوف عليه [قصد ذاته] فإننا نرجع إلى ذلك.

فإذا حلف ألا يأكل من لحم هذه السخلة ثم إن السخلة أصبحت شاة فلا يأكل من لحمها، لأنها نفس العين التي حلف عليها

وكذلك لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم إن هذا الثوب شقق وأصبح سراويل، فإنه لا يلبسه، لأنه عيّن الثوب.

إلا إذا نوى أنه ما دام على تلك الصفة فهو نيته كما سبق: أن النية هي المرجع الأول، فلو قال، أنا قلت: والله لا ألبس هذا القميص،

ولم أقصد عين القميص لكن قصدي صفته، أي: لا ألبسه ما دام قميصاً، فشققه وجعله سراويل، فلا يحنث.

(ومن تأوَّلَ في يمينهِ فله تأويلُه إلا يكونَ ظالماً فلا ينفعُهُ تأويلُه).

التأويل في اليمين: أن يقصد بكلامه شيئاً محتملاً يخالف ظاهر اللفظ.

كأن يقول: والله إنه أخي، ويريد أخوة الإسلام، أو يقول، والله فلان ما هو بموجود، يريد محلاً معيناً.

وحكم هذا التأويل: لا بأس به في اليمين إلا يكون ظالماً فلا ينفعه.

ص: 323

وقد قسم العلماء التأويل في اليمين إلى ثلاثة أقسام:

قال ابن قدامة: وَإِذَا حَلَفَ، فَتَأَوَّلَ فِي يَمِينِهِ، فَلَهُ تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ مَظْلُومًا.

وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا، لَمْ يَنْفَعْهُ تَأْوِيلُهُ.

لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُك) مَعْنَى التَّأْوِيلِ، أَنْ يَقْصِدَ بِكَلَامِهِ مُحْتَمَلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ، نَحْوَ أَنْ يَحْلِفَ إنَّهُ أَخِي، يَقْصِدُ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ الْمُشَابَهَةَ.

وَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَالِفِ الْمُتَأَوِّلِ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، مِثْلَ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ ظَالِمٌ عَلَى شَيْءٍ، لَوْ صَدَقَهُ لَظَلَمَهُ، أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُ، أَوْ نَالَ مُسْلِمًا مِنْهُ ضَرَرٌ.

فَهَذَا لَهُ تَأْوِيلُهُ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ (خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْت أَنَّهُ أَخِي، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَصْدَقُهُمْ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ).

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ) يَعْنِي سَعَةَ الْمَعَارِيضِ الَّتِي يُوهِمُ بِهَا السَّامِعَ غَيْرَ مَا عَنَاهُ.

ص: 324

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ يَعْنِي لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَكْذِبَ؛ لِكَثْرَةِ الْمَعَارِيضِ، وَخَصَّ الظَّرِيفَ بِذَلِكَ؛ يَعْنِي بِهِ الْكَيِّسَ الْفَطِنَ، فَإِنَّهُ يَفْطِنُ لِلتَّأْوِيلِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْكَذِبِ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ ظَالِمًا، كَاَلَّذِي يَسْتَحْلِفُهُ الْحَاكِمُ عَلَى حَقٍّ عِنْدَهُ.

فَهَذَا يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ الَّذِي عَنَاهُ الْمُسْتَحْلِفُ، وَلَا يَنْفَعُ الْحَالِفَ تَأْوِيلُهُ.

وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا.

فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُك بِهِ صَاحِبُك) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْيَمِينُ عَلَى مَا وَقَعَ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ.

وَلِأَنَّهُ لَوْ سَاغَ التَّأْوِيلُ، لَبَطَلَ الْمَعْنَى الْمُبْتَغَى بِالْيَمِينِ، إذْ مَقْصُودُهَا تَخْوِيفُ الْحَالِفِ لِيَرْتَدِعَ عَنْ الْجُحُودِ، خَوْفًا مِنْ عَاقِبَةِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، فَمَتَى سَاغَ التَّأْوِيلُ لَهُ، انْتَفَى ذَلِكَ، وَصَارَ التَّأْوِيلُ وَسِيلَةً إلَى جَحْدِ الْحُقُوقِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.

الْحَالُ الثَّالِثُ: لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَا مَظْلُومًا، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ لَهُ تَأْوِيلَهُ. (المغني).

ص: 325

‌باب النذر

‌تعريفه:

لغة: الإيجاب.

واصطلاحاً: إلزام المكلف نفسه شيئاً يملكه غير محال.

قوله (شيئاً يملكه) فإن نذر شيئاً لا يملكه لا يلزمه الوفاء به.

لحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا وفاء بنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد).

ولحديث ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَم) رواه أبو داود.

(وهُوَ منهي عنه).

أي: أن النذر وردت أحاديث في النهي عنه.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ قَالَ إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) ق.

وفي رواية (النَّذْرُ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ).

وفي رواية (إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ).

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَنْذُرُوا فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِى مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيل) م.

قال النووي: وَأَمَّا قَوْله صلى الله عليه وسلم (يُسْتَخْرَج بِهِ من الْبَخِيل) فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لا يَأْتِي بِهَذِهِ الْقُرْبَة تَطَوُّعًا مَحْضًا مُبْتَدِئًا وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهَا فِي مُقَابَلَة شِفَاء الْمَرِيض وَغَيْره مِمَّا تَعَلَّقَ النَّذْر عَلَيْهِ. (شرح مسلم).

ص: 326

-‌

‌ الحكمة من النهي عن النذر:

أولاً: أن النذر لم تتمحض فيه نية التقرب إلى الله تعالى، بل سلك الناذر فيه سبيل المعاوضات.

مثل: إن نجحت في الاختبار فسأصوم كذا، فهو لن يصوم ذلك الصيام إلا بتحقق النجاح فإن لم ينجح فلن يصوم ذلك الصوم، وهذا من عمل البخلاء، كما قال صلى الله عليه وسلم (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل).

ثانياً: أن الناذر يتوهم أنه إن نذر ربما حصل له ما علق النذر عليه، وهذا وهم جاء الشرع بإبطاله.

فيظن أن الله تعالى يفعل ذلك الغرض لأجل النذر وإذا لم ينذر لا يحققه سبحانه له، وهذا باطل، فكأن الناذر غير واثق بالله عز وجل، بحيث يعتقد أن الله لا يعطيه الشفاء إلا إذا أعطاه مقابله؛ ولهذا إذا أيس بعض الناس من الشفاء ذهبوا ينذرون! وفي هذا سوء ظن بالله عز وجل.

ثالثاً: أن النذر لا يقدِّم ولا يؤخر شيئاً من قضاء الله وقدره.

فلا يقع به ما لم يكن في قضاء الله وقدره أنه سيقع، ولا يدفع به ما كان واقعاً، ولهذا في الحديث (النَّذْرُ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ).

رابعاً: أن الشرع لم يمدح عقد النذر، وإنما مدح الموفين به.

وفرق بين الأمرين، فمن وفى بنذره مُدح شرعاً؛ لأنه أدى ما وجب عليه، ولكنه لا يمدح لإيجابه ذلك الواجب على نفسه.

خامساً: أن النذر إلزام للإنسان بما جعله الله في حل منه.

وفي ذلك زيادة تكليف على نفسه، ففيه زيادة واجبات على المرء قد لا يتمكن من القيام بها أو يتساهل فيها فيكون مذموماً عند الله.

سادساً أن الغالب أن الذي ينذر يندم.

وتجده يسأل العلماء يمينًا وشمالاً يريد الخلاص مما نذر لثقله ومشقته عليه.

سابعاً: أن النذر لو كان مستحبًا لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. (مقال في موقع الألوكة).

ص: 327

قال النووي: قَالَ الْمَازِرِيّ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون سَبَب النَّهْي عَنْ كَوْن النَّذْر يَصِير مُلْتَزَمًا لَهُ، فَيَأْتِي بِهِ تَكَلُّفًا بِغَيْرِ نَشَاط، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سَبَبه كَوْنه يَأْتِي بِالْقُرْبَةِ الَّتِي اِلْتَزَمَهَا فِي نَذْره عَلَى صُورَة الْمُعَاوَضَة لِلْأَمْرِ الَّذِي طَلَبَهُ فَيَنْقُص أَجْره، وَشَأْن الْعِبَادَة أَنْ تَكُون مُتَمَحِّضَة لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَيَحْتَمِل أَنَّ النَّهْي لِكَوْنِهِ قَدْ يَظُنّ بَعْض الْجَهَلَة أَنَّ النَّذْر يَرُدّ الْقَدَر، وَيَمْنَع مِنْ حُصُول الْمُقَدَّر فَنَهَى عَنْهُ خَوْفًا مِنْ جَاهِل يَعْتَقِد ذَلِكَ، وَسِيَاق الْحَدِيث يُؤَيِّد هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم).

-‌

‌ وقد اختلف العلماء في حكم النذر على أقوال:

‌القول الأول: أنه حرام.

للأحاديث السابقة.

‌القول الثاني: أنه مكروه.

وهذا قول أكثر العلماء.

للأحاديث السابقة في النهي عنه، قالوا: والصارف عن التحريم أن الله أثنى على الموفين فقال (يوفون بالنذر).

‌القول الثالث: أنه مستحب، والذي ورد النهي عنه هو نذر المجازاة.

ونذر المجازاة هو: أن يعلق فعل الطاعة على وجود النعمة أو دفع النقمة كما لو قال: إن شفى الله مريضي فلله عليّ أن أصوم شهراً، قالوا: هذا هو المنهي عنه، أما ماعدا ذلك كما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهراً، فهذا مستحب.

واختار هذا القول النووي.

ص: 328

‌فائدة:

عقوبة من لم يفِ بالنذر:

أولاً: أن الشرع جاء بذمه، وبيَّن أنهم سيأتون بعد خير القرون.

عن عِمْرَان بْن حُصَيْن عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ فَمَا أَدْرِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَن). متفق عليه

ثانياً: ويخشى إذا لم يفعله أن يُعاقبه الله تعالى بالنِّفاق في قلبه.

قال تعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ* وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ).

(ولا ينعقد إلا بالقول).

أي: أن النذر لا ينعقد إلا بالتلفظ به.

قال النووي (الصحيح بالاتفاق أنه لا يصح إلا بالقول، ولا تنفع النية وحدها، وليس له صفة معينة، بل كل ما دل على النذر فهو نذر مثل: لله علي عهد. . .، ولله على نذر. . .).

وقال في (الإنصاف) ولا يصح (النذر) إلا بالقول، فإن نواه من غير قول: لم يصح، بلا نزاع. انتهى.

فلو نذر بقلبه فهذا لا عبرة به، فلو نوى إن شفى الله مريضه أن يصوم شهراً، فلا يلزمه شيء ما دام أنه لم يتلفظ به.

(من مكلف مختار).

أي: أن النذر لا يصح إلا من بالغ عاقل مختار.

لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة .. وذكر: الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق).

ص: 329

‌فائدة:

يصح النذر من الكافر.

لحديث عمر قال: (قلت يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: فأوف بنذرك) متفق عليه.

فإن وفى به حال كفره برئت ذمته، وإن لم يف به لزمه أن يوفي به بعد إسلامه.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يشترط إسلام الناذر.

جاء في (الموسوعة الفقهية) فَيُشْتَرَطُ إِسْلَامُ النَّاذِرِ، لأِنَّ النَّذْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، وَفِعْل الْكَافِرِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. قَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَيَصِحُّ النَّذْرُ مِنْ كَافِرٍ وَلَوْ بِعِبَادَةٍ، لِحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. (الموسوعة).

‌فائدة:

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ فَصَرَّحَ فِي صِيغَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ أَوِ الْكِتَابِيَّةِ بِلَفْظِ (النَّذْرِ) أَنَّهُ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَيَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي صِيغَةِ النَّذْرِ إِذَا خَلَتْ مِنْ لَفْظِ (النَّذْرِ) كَمَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، وَلَمْ يَقُل نَذْرًا، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَيَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ أَمْ لَا؟ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

الاِتِّجَاهُ الأْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ النَّذْرَ يَنْعَقِدُ وَيَلْزَمُ النَّاذِرَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي صِيغَتِهِ بِلَفْظِ النَّذْرِ، إِذَا أَتَى بِصِيغَةٍ تُفِيدُ الْتِزَامَهُ بِذَلِكَ.

رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذْ قَال فِي رَجُلٍ قَال: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْكَعْبَةِ لِلَّهِ. هَذَا نَذَرَ فَلْيَمْشِ.

ص: 330

وَقَال بِمِثْل قَوْلِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَال أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ: إِنَّ عَدَمَ ذِكْرِ لَفْظِ النَّذْرِ فِي الصِّيغَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي لُزُومِ النَّذْرِ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالأْقَاوِيل الَّتِي مَخْرَجُهَا مَخْرَجُ النَّذْرِ النَّذْرَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِلَفْظِ النَّذْرِ.

وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ مَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ النَّذْرِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ " عَلَيَّ " فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلإْيجَابِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا قَال عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَال: هُوَ عَلَيَّ نَذْرٌ.

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَنْعَقِدُ إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ فِي صِيغَتِهِ بِلَفْظِ النَّذْرِ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ.

وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِالْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ إِخْبَارٌ بِوُجُوبِ شَيْءٍ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاذِرِ إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِجِهَةِ الْوُجُوبِ. (الموسوعة).

(والصَّحِيحُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ، الْمُطْلَقُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئاً فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ).

هذا النوع الأول من أنواع النذر: النذر المطلق.

فلو نذر المسلم نذراً ولم يسم المنذور بل تركه مطلقا من غير تسمية أو تعيين كأن يقول: عليَّ نذر إن شفى الله مرضي ولم يُسمّ شيئا كان عليه كفارة يمين.

لحديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كَفَّارَةُ اَلنَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَزَادَ اَلتِّرْمِذِيُّ فِيهِ (إِذَا لَمْ يُسَمِّ) وَصَحَّحَه.

وَلِأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعاً (مِنْ نَذَرَ نَذْراً لَمْ يُسَمِّهِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْراً فِي مَعْصِيَةٍ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْراً لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ; إِلَّا أَنَّ اَلْحُفَّاظَ رَجَّحُوا وَقْفَهُ.

ص: 331

قال النووي في ما معنى حديث (كَفَّارَةُ اَلنَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِهِ، فَحَمَلَهُ جُمْهُور أَصْحَابنَا عَلَى نَذْر اللِّجَاج، وَهُوَ أَنْ يَقُول إِنْسَان يُرِيد الِامْتِنَاع مِنْ كَلَام زَيْد مَثَلًا: إِنْ كَلَّمْت زَيْدًا مَثَلًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّة أَوْ غَيْرهَا، فَيُكَلِّمهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْن كَفَّارَة يَمِين وَبَيْن مَا اِلْتَزَمَهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا.

وَحَمَلَهُ مَالِك وَكَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى النَّذْر الْمُطْلَق، كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْر.

وَحَمَلَهُ أَحْمَد وَبَعْض أَصْحَابنَا عَلَى نَذْر الْمَعْصِيَة، كَمِنْ نَذَرَ أَنْ يَشْرَب الْخَمْر.

وَحَمَلَهُ جَمَاعَة مِنْ فُقَهَاء أَصْحَاب الْحَدِيث عَلَى جَمِيع أَنْوَاع النَّذْر، وَقَالُوا: هُوَ مُخَيَّر فِي جَمِيع النُّذُورَات بَيْن الْوَفَاء بِمَا اِلْتَزَمَ، وَبَيْن كَفَّارَة يَمِين. وَاللَّهُ أَعْلَم. (شرح مسلم).

وقال الشوكاني: والظاهر اختصاص الحديث بالنذر الذي لم يسم لأن حمل المطلق على المقيد واجب.

قال ابن قدامة: النَّذْرُ الْمُبْهَمُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَى نَذْرٌ.

فَهَذَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ.

وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا إلَّا الشَّافِعِيَّ، قَالَ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّذْرِ مَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ.

أ-وَلَنَا، مَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كَفَّارَةُ النَّذْرِ إذَا لَمْ يُسَمِّهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ب-وَلِأَنَّهُ نَصٌّ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إجْمَاعًا.

ص: 332

(الثاني: نذر الطاعة، فيجب الوفاء به).

هذا النوع الثاني من أنواع النذر: نذر الطاعة.

فهذا يجب الوفاء به، سواء كان مطلقاً أو معلقاً.

مثال المطلق: لله عليّ أن أصلي ركعتين.

مثال المعلق: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر أن أصوم شهر.

عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ) رواه البخاري.

قال ابن قدامة: نَذْرُ طَاعَةٍ وَتُبَرَّرُ.

فَهَذَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِلْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ.

أَحَدُهَا: الْتِزَامُ طَاعَةٍ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ اسْتَجْلَبَهَا، أَوْ نِقْمَةٍ اسْتَدْفَعَهَا، كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ.

فَتَكُونُ الطَّاعَةُ الْمُلْتَزَمَةُ مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ.

فَهَذَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْتِزَامُ طَاعَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، كَقَوْلِهِ ابْتِدَاءً: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ.

فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: نَذْرُ طَاعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْوُجُوبِ، كَالِاعْتِكَافِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ.

فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ فَرْعٌ عَلَى الْمَشْرُوعِ. (المغني).

‌فائدة:

من شق عليه وعجز عن الاستمرار في النذر الواجب، فعليه أن يكفر كفارة يمين.

لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ، فَلْيَفِ بِهِ) رواه أبو داود.

ص: 333

قال الحافظ ابن حجر: رواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفاً، وهو أشبه".

قال ابن قدامة: وجملته أن من نذر طاعة لا يطيقها، أو كان قادراً عليها فعجز عنها: فعليه كفارة يمين.

وقال الشوكاني: النذور المسماة إن كانت طاعة، فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين وإن كانت مقدورة وجب الوفاء بها ـ سواء كانت متعلقة بالبدن، أو بالمال.

‌فائدة:

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقُرْبَةِ الْمَنْذُورَةِ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الإْنْسَانِ ابْتِدَاءً، كَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ؛ لأِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ، وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لَازِمٌ لَهُ.

(الثالث: نذرُ المعصيةِ كشربِ خمْرٍ، وصوم يومِ الحيْض، فلا يجوز الوفاءُ به ويُكفّر).

هذا النوع الثالث من أنواع النذر: نذر المعصية.

فهذا لا يجوز الوفاء به، وعليه كفارة يمين.

مثال: رجل قال: لئن حدث كذا وكذا فلله علي نذر أن أشرب الخمر، فهذا لا يجوز أن يشرب الخمر.

لحديث عائشة السابق (. . . وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ).

- وعليه كفارة يمين.

وهذا المذهب.

لحديث عائشة قالت: قال صلى الله عليه وسلم (لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين) رواه أبوداود، واحتج به أحمد وكذا إسحاق وصححه الطحاوي.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا كفارة عليه.

ص: 334

وهذا قول جماهير العلماء.

لحديث عائشة - السابق - ( .. ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) قالوا: لو كانت الكفارة واجبة لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على عدم وجوبها.

قال الشنقيطي: فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ» ، وَنَفْيُ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ أَثَرِهِ، فَإِذَا انْتَفَى النَّذْرُ مِنْ أَصْلِهِ انْتَفَتْ كَفَّارَتُهُ; لِأَنَّ التَّابِعَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْمَتْبُوعِ.

قَالُوا: وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ الْكَفَّارَةِ.

قَالُوا: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِأَنَّهُ (لَا نَذْرَ إِلَّا فِيمَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ).

وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: «إِنَّمَا النَّذْرُ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَفِي إِسْنَادِهِ مُنَاقَشَاتٌ تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا (أضواء البيان).

والراجح القول الأول.

(الرابع: نذرُ المُباح، كلبسِ ثوبهِ، وركوبِ دابته، فيُخيّر بين فعلهِ، وكفارة يمين).

هذا النوع الرابع من أنواع النذر: نذر المباح.

فهذا حكمه أنه يخيّر بين فعله وبين كفارة يمين.

كأن يقول الرجل: لله علي نذر أن ألبس هذا الثوب.

فهنا يخير بين فعله وبين كفارة اليمين.

فنقول هو بالخيار: إن شئت البس الثوب وإن شئت كفر.

ص: 335

‌فائدة:

وقد ذهب بعض العلماء: إلى أن نذرح المباح لا ينعقد ولا تجب فيه كفارة.

جاء في (الموسوعة الفقهية) نَذْرُ الْمُبَاحِ: هُوَ نَذْرُ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَرْغِيبٌ مِنْ قِبَل الشَّارِعِ، كَالأْكْل وَالشُّرْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالنَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ وَصِحَّةِ الاِلْتِزَامِ بِالْمُبَاحَاتِ وَحُكْمِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ بِهَا إِنْ قِيل بِانْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

الاِتِّجَاهُ الأْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَلَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ بِالأْوْلَى، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ:

بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَال (بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَل عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِل وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِل وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ).

وَبِحَدِيثِ (لَا نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ).

وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال (نَذَرَتِ امْرَأَةٌ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَسُئِل نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَال: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهَا، مُرُوهَا فَلْتَرْكَبْ).

وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَال: مَا بَال هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَال: إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ).

ص: 336

فَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الأْحَادِيثُ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرٌ لَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَنَذْرُ الْمَشْيِ أَوِ الْوُقُوفِ أَوْ تَرْكِ الاِسْتِظْلَال أَوِ الْكَلَامِ لَيْسَ نَذْرًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُهُ سُبْحَانَهُ، وَمِثْل هَذَا النَّذْرِ لَا يَنْعَقِدُ، وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ هَذِهِ الأْمُورِ بِالنَّذْرِ، وَلِهَذَا أَمَرَ مَنْ نَذَرَ الْقِيَامَ بِالْقُعُودِ، وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ بِالرُّكُوبِ، وَمَنْ نَذَرَ تَرْكَ الاِسْتِظْلَال بِأَنْ يَسْتَظِل، وَمَنْ تَرَكَ الْكَلَامَ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ، وَهَذَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم يَدُل عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ النَّذْرِ بِذَلِكَ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَمَرَ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ سَاكِتَةً بِأَنْ تَتَكَلَّمَ).

وَقَالُوا: إِنَّ الْمُبَاحَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ قُرْبَةٌ لاِسْتِوَاءِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ.

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، بَل يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَدَل هَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ:

مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ قَال (خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْهَا جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى. فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلاَّ فَلَا، فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ).

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ قَدِ الْتَزَمَتْ بِمُقْتَضَى هَذَا النَّذْرِ أَنْ تَضْرِبَ بِالدُّفِّ، وَأَنْ تُغَنِّيَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنْ رَدَّهُ اللَّهُ سَالِمًا مِنَ الْغَزْوِ، وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ وَالْغِنَاءُ عِنْدَ قُدُومِ الْغَائِبِ أَبَاحَهُ الْفُقَهَاءُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا الْتَزَمَتْهُ بِالنَّذْرِ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، وَأَنَّ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَفِيَ بِهِ إِنْ شَاءَ.

ص: 337

وَقَالُوا: إِنَّ مِنَ الْمَعْقُول أَنَّ الْمَرْءَ لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ بَرَّ بِفِعْلِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَذَرَهُ، لأَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ.

(الخامس: نَذْرُ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَهو تَعْلِيقُ نَذرِهِ بِشَرْطٍ يَقْصِدُ الْمَنْعَ مِنْهُ، أَوِ الْحَمْلَ عَلَيْهِ، أَوِ التَّصْدِيقَ أَوِ التَّكْذِيبَ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ، وكَفَّارَةِ يَمِينٍ).

هذا النوع الخامس من أنواع النذر: نذر اللجاج والغضب.

أي النذر الذي سببه الخصومة أو المنازعة، وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب.

فهذا يخير بين فعله أو كفارة يمين.

[أن يقصد المنع منه] كأن يقول: لله علي نذر أن أصوم سنة إن فعلت كذا.

[أن يقصد الحمل عليه] كأن يقول: إن لم أصل في الجماعة في المسجد فلله علي صوم سنة.

[أو تصديق خبره] كرجل قيل له - لما أخبر بخبر - أنت كاذب، فقال: إن كنت كاذباً فلله علي صوم سنة.

[أو تكذيبه] كأن يقول السامع: إن كنت صادقاً فلله علي أن أصوم سنة.

فإذا كان المراد منه المنع أو الحمل على الفعل أو التصديق أو التكذيب فقد جرى مجرى اليمين فيخير بين فعله وبين كفارة اليمين

فإذا قال مثلاً: إن زرت فلاناً فعليّ صيام سنة، فنقول: إن شئت أن تزوره وعليك كفارة يمين وإن شئت ألا تزوره.

مثال آخر: لو قال: إن لم أسافر اليوم إلى مكة فعليّ صيام شهر، ولم يسافر، فحكمه هنا حكم اليمين، فهو مخير، إن سافر فلا شيء عليه، وإن لم يسافر فعليه كفارة يمين.

ودليل ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من نذر في غضب فعليه كفارة يمين) رواه أبوداود.

لكن الحديث إسناده ضعيف لكنه ثابت عن عمر، وعن عائشة كما في موطأ مالك.

قال ابن قدامة: إذَا أَخْرَجَ النَّذْرَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، بِأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ بِهِ شَيْئًا، أَوْ يَحُثَّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ، أَوْ صَدَقَةُ مَالِي، أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ.

ص: 338

فَهَذَا يَمِينٌ، حُكْمُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَحْنَثَ، فَيَتَخَيَّرَ بَيْنَ فِعْلِ الْمَنْذُورِ، وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَيُسَمَّى نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ نَذْرُ التَّبَرُّرِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ.

وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ.

وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

أ-لمَا رَوَى عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَا نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.

ب-وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ، أَوْ الْهَدْيِ، أَوْ جَعْلِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ).

ج- وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ.

د- وَلِأَنَّهُ يَمِينٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ).

وَدَلِيلُ أَنَّهُ يَمِينٌ، أَنَّهُ يُسَمَّى بِذَلِكَ، وَيُسَمَّى قَائِلُهُ حَالِفًا، وَفَارَقَ نَذْرَ التَّبَرُّرِ؛ لِكَوْنِهِ قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْبِرَّ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَهَا هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ قُرْبَةً وَلَا بِرًّا، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ مِنْ وَجْهٍ وَالنَّذْرَ مِنْ وَجْهٍ، فَخُيِّرَ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ. (المغني).

ص: 339

(وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ لَزِمَهُ التَّتَابُعُ).

من نذر صوم شهر لزمه التتابع. كأن يقول: لله علي نذر أن أصوم شهراً، فيلزمه التتابع.

وذلك لأن هذا هو مقتضى إطلاق اللفظ.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يلزمه التتابع إلا بنية أو شرط.

وهذا القول هو الصحيح.

لقوله تعالى في الكفارة (فصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فلو كان إطلاق الشهر يقتضي التتابع لما احتيج أن يقيده الله تعالى بالتتابع.

‌تنبيه:

إن نذر صوم شهراً بعينه كصفر، فهذا يلزمه التتابع.

‌فائدة:

إذا نذرت المرأة أن تصوم شهراً، فإنها تقضي أيام حيضها، كما أنها تقضي أيام حيضها في شهر رمضان.

وجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) يجب عليك صوم الشهر الذي نذرت صيامه، وإن أفطرت منه شيئا بسبب الحيض فعليك قضاء عدد الأيام التي أفطرتيها من الشهر.

(وَإِنْ نَذَرَ أَيَّاماً مَعْدُودَةً لَمْ يَلْزمْهُ إِلاَّ بِشَرْطٍ أَوْ نِيَّةٍ).

أي: إن نذر صيام أيام لم يلزمه التتابع إلا بشرط أو نية.

فإذا قال: لله علي نذر أن أصوم ثلاثة أيام، لم يلزمه التتابع، فيجوز أن يصومها متتابعة أو متفرقة.

إلا أن يشترط أو ينوي.

يشترط: كأن يقول لله علي أن أصوم ثلاثة أيام متتابعة فهنا يلزمه التتابع.

ينوي: كأن يقول لله علي أن أصوم ثلاثة أيام، وينوي أنها متتابعة فيلزمه التتابع.

ص: 340

قال البهوتي رحمه الله: وإن نذر صيام أيام معدودة ولو ثلاثين يوماً لم يلزمه تتابع؛ لأن الأيام لا دلالة لها على التتابع بدليل قوله تعالى (فعدة من أيام أخر) إلا بشرط؛ بأن يقول: متتابعة أو نية فيلزمه الوفاء بنذره. (كشاف القناع).

(وإنْ جمعَ في النذرِ بين الطاعة وغيرِها، فعليهِ الوفاء بالطاعة وحدَها).

أي: إن جمع بين نذر مباح أو نذر معصية، ونذر طاعة، فيجب أن يفي بالطاعة، وأما المباحة فهو مخير بين أن يأتي بها، وبين أن يتركها.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ، وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) رواه البخاري.

قال الشنقيطي: وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ نَذْرِهِ مِنْ جِنْسِ الطَّاعَةِ، وَهُوَ الصَّوْمُ أَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِإِتْمَامِهِ، وَفَاءً بِنَذْرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرِهِ مُبَاحًا لَا طَاعَةً، كَتَرْكِ الْكَلَامِ، وَتَرْكِ الْقُعُودِ، وَتَرْكِ الِاسْتِظْلَالِ، أَمَرَهُ بِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. (الأضواء)

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ (نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اَللَّهِ حَافِيَةً، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِلْخَمْسَةِ فَقَالَ (إِنَّ اَللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئاً، مُرْهَا: [فَلْتَخْتَمِرْ] وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ).

(نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اَللَّهِ حَافِيَةً) أي: بدون نعل، جاء في رواية (أن تحج ماشية).

ص: 341

وعند أحمد وأصحاب السنن (أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة)، وعند أبي داود (أن عقبة سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها).

(فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ) قال النووي: مَعْنَاهُ تَمْشِي فِي وَقْت قُدْرَتهَا عَلَى الْمَشْي، وَتَرْكَب إِذَا عَجَزَتْ عَنْ الْمَشْي أَوْ لَحِقَتْهَا مَشَقَّة ظَاهِرَة فَتَرَكَّبَ.

في هذا الحديث نذرت هذه المرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرم حافية، فاشتمل هذا النذر على أمرين:

الأمر الأول: أن تقصد المسجد الحرام.

الأمر الثاني: أن تذهب للمسجد الحرام حافية.

وحيث إن النذر إذا اشتمل على عبادة وعلى أمر غير عبادة، فلكل واحد حكمه:

فنذر العبادة (وهو قصد البيت الحرم) يجب الوفاء به.

ونذر المباح (أن تمشي حافية) فإنها تكفر عن يمينها، لأن نذر الذهاب للمسجد حافية ليس من مقصود العبادة.

ففي هذا الحديث حكم من نذر طاعة وغير طاعة:

- فما كان طاعة فإنه يجب الوفاء به.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يطيع الله فليطعه) رواه البخاري.

- وما كان غير طاعة [مباح] فهو مخير وإن تركه فعليه كفارة يمين.

ص: 342

(ومَنْ نذرَ الصدقةَ بمالهِ أجزأهُ ثُلُثهُ).

أي: من نذر أن يتصدق بجميع ماله أجزأ عنه إخراج الثلث.

وهذه المسألة وقع فيها خلاف بين العلماء، ذكر هذا الخلاف ابن قدامة.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ.

وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ.

لقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي لُبَابَةَ، حِينَ قَالَ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ: يُجْزِئُكَ الثُّلُثُ).

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ (قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَبِي دَاوُد (يُجْزِئُ عَنْك الثُّلُثُ).

القول الثاني: أنه يتصدق بجميع ماله.

وَهذا قولَ الشَّافِعِيُّ.

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ).

وَلِأَنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَنَذْرِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. (المغني).

والراجح: الله أعلم.

ص: 343

قال الشنقيطي: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ جَمِيعَ مَالِهِ لِلَّهِ لِيُصْرَفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنَّهُ يَكْفِيهِ الثُّلُثُ وَلَا يَلْزَمُهُ صَرْفُ الْجَمِيعِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْعُلَمَاءِ عَشَرَةُ مَذَاهِبَ أَظْهَرُهَا عِنْدَنَا: هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَيَلِيهِ فِي الظُّهُورِ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ كُلُّهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ.

ثم ذكر رحمه الله حديث كعب (إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) ثم قال: فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ كَعْبًا غَيْرُ مُسْتَشِيرٍ بَلْ مُرِيدُ التَّجَرُّدِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ، كَمَا فِي تَرْجَمَةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُمْسِكَ بَعْضَ مَالِهِ، وَصَرَّحَ لَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي يُمْسِكُهُ بِالثُّلُثَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ.

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ، فَيَسْتَدِلُّ لَهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ) وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إِيفَائِهِ بِنَذْرِهِ، وَلَوْ أَتَى عَلَى كُلِّ الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ دَلِيلَ مَا قَبْلَهُ أَخَصُّ مِنْهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ.

‌فائدة: 1

وجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة) من نذر نذراً يترتب عليه إطعام طعام فالأصل أن الناذر لا يأكل من نذره إلا أن يشترط أو ينوي أن يأكل من نذره، فإنه يباح له الأكل كما اشترط أو نوى.

‌فائدة: 2

إذا نذر شخص الصلاة في أحد المساجد الثلاثة لزمه الوفاء بنذره.

لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) متفق عليه.

• لو نذر الصلاة في المسجد الأقصى جاز أن يصليها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي.

ص: 344

• لو نذر الصلاة في المسجد النبوي جاز أن يصليها في المسجد الحرام ولم يجز أن يصليها في المسجد الأقصى.

• لو نذر أن يصلي في المسجد الحرام فإنه لا يجوز له أداؤها إلا فيه لعدم جواز الانتقال من الأفضل إلى المفضول.

ويدل لذلك:

ما جاء في حديث جابر (أن رجلاً قام يوم الفتح فقال يا رسول الله! إني نذرت لله إن فتح عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذاً) رواه أبوداود.

‌فائدة: 3

مسألة نقل النذر، هذه المسألة لها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن ينقله من المفضول إلى الفاضل: فهذا لا بأس به.

مثال: لو نذر أن يصوم يوم الثلاثاء، ثم صام يوم الإثنين، فهنا لا يحنث، لأنه نقل نذره من مفضول إلى فاضل، فهو أتى بالمفضول وزيادة.

الحالة الثانية: أن ينقله من مساوٍ إلى مساو: فهذا تلزمه كفارة يمين.

مثال: لو نذر أن يصوم يوم الأربعاء فصام يوم الثلاثاء.

الحالة الثالثة: أن ينقل من فاضل إلى مفضول.

مثال: لو نذر صيام يوم الإثنين، ثم صام يوم الثلاثاء، فليس له ذلك، وعليه أن يصوم يوم الإثنين، لأن النذر لم يقع موقعه.

‌فائدة: 4

النذر لا يصح الرجوع فيه.

لقول عمر رضي الله عنه: (أربع جائزة في كل حال [أي ماضية نافذة]: العتق والطلاق والنكاح والنذر) رواه ابن أبي شيبة.

وعن علي (أربع لا رجوع فيهن إلا بالوفاء: النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذر) ذكره ابن حزم في المحلى.

ص: 345

‌كتاب الجهاد

الجهاد لغة: استفراغ الوسع والطاقة من قول أو فعل.

واصطلاحاً: قال الحافظ ابن حجر: بذل الجهد في قتال الكفار.

(فضلُهُ عظِيم).

أي: أن الجهاد فضله عظيم، جاءت النصوص الكثيرة في بيان فضله وعلو منزلته في الإسلام.

‌أولاً: أن الروحة في سبيل الله خير من الدنيا بما فيها.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا). متفق عليه

قوله (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) قولان:

قيل: فَضْل الْغَدْوَة وَالرَّوْحَة فِي سَبِيل اللَّه وَثَوَابهمَا خَيْر مِنْ نَعِيم الدُّنْيَا كُلّهَا لَوْ مَلَكهَا الْإِنْسَان، وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمه بِهَا كُلّهَا؛ لِأَنَّهُ زَائِل وَنَعِيم الْآخِرَة بَاقٍ.

وقيل: أن ثواب الغدوة والروحة أفضل من الدنيا وما فيها لو ملكها مالك، فأنفقها في وجوه البر والطاعة غير الجهاد.

قال ابن دقيق العيد: والثاني: أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله تعالى.

قلت -ابن حجر- ويؤيد هذا الثاني ما رواه بن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم عبد الله بن رواحة فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم، والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد. (الفتح).

ص: 346

قال النووي: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ فَضْل الْغَدْوَة وَالرَّوْحَة فِي سَبِيل اللَّه وَثَوَابهمَا خَيْر مِنْ نَعِيم الدُّنْيَا كُلّهَا لَوْ مَلَكهَا الْإِنْسَان، وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمه بِهَا كُلّهَا؛ لِأَنَّهُ زَائِل وَنَعِيم الْآخِرَة بَاقٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَمَعْنَى نَظَائِره مِنْ تَمْثِيل أُمُور الْآخِرَة وَثَوَابهَا بِأُمُورِ الدُّنْيَا: أَنَّهَا خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ مَلَكَهَا إِنْسَان، وَمَلَكَ جَمِيع مَا فِيهَا وَأَنْفَقَهُ فِي أُمُور الْآخِرَة، قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَلَيْسَ تَمْثِيل الْبَاقِي بِالْفَانِي عَلَى ظَاهِر إِطْلَاقه.

‌ثانياً: أنه من أفضل الأعمال.

أ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُور) متفق عليه.

ب- وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: (سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِه) متفق عليه.

قال ابن حجر: وفي الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان.

ج- وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ (يَا رَسُولَ اللهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ: لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ). رواه البخاري

فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أقر عائشة على قولها: نرى الجهاد أفضل العمل، ثم بيّن أن الحج بالنسبة إلى النساء هو أفضل من الجهاد.

‌ثالثاً: أن المجاهد أفضل الناس.

عن أَبَي سَعِيد الْخُدْرِي. قَالَ (قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ قَالُوا ثُمَّ مَنْ قَالَ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّه) متفق عليه.

ص: 347

‌رابعاً: الجهاد لا يعدله شيء.

عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل قَالَ «لَا تَسْتَطِيعُونَهُ». قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ «لَا تَسْتَطِيعُونَهُ». وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالى) متفق عليه.

ولفظ البخاري: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: لَا أَجِدُهُ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ، وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ، وَلَا تُفْطِرَ قَالَ، وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ).

قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (مَثَل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه كَمَثَلِ الصَّائِم الْقَائِم الْقَانِت بِآيَاتِ اللَّه

إِلَى آخِره) مَعْنَى الْقَانِت هُنَا: الْمُطِيع. وَفِي هَذَا الْحَدِيث عَظِيم فَضْل الْجِهَاد؛ لِأَنَّ الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْقِيَام بِآيَاتِ اللَّه أَفْضَل الْأَعْمَال، وَقَدْ جَعَلَ الْمُجَاهِد مِثْل مَنْ لَا يَفْتُر عَنْ ذَلِكَ فِي لَحْظَة مِنْ اللَّحَظَات، وَمَعْلُوم أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" لَا تَسْتَطِيعُونَهُ " وَاللَّهُ أَعْلَم. (نووي).

‌خامساً: للمجاهدين مائة درجة في الجنة.

عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) رواه البخاري.

‌سادساً: الجهاد سبب للنجاة من النار.

عن أَبي عَبْس. أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ) رواه البخاري.

وفي لفظ (مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ).

(ما اغبرت) جاء عند أحمد (ساعة من نهار)، (في سبيل الله) لا من أجل وطنية أو قبلية أو رياء.

قال الحافظ ابن حجر: وفي ذلك إشارة إلى عظم قدر التصرف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مسّ الغبار للقدم يحرم عليها النار، فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفذ وسعه؟.

ص: 348

‌سابعاً: من أسباب دخول الجنة.

أ- قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ).

ب- عن أبَي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلاَّ إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ) متفق عليه.

ج- وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى. قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوف) متفق عليه.

والمعنى: وَالسَّبَب الْمُوَصِّل إِلَى الْجَنَّة عِنْد الضَّرْب بِالسُّيُوفِ فِي سَبِيل اللَّه، وَمَشْي الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّه، فَاحْضُرُوا فِيهِ بِصِدْقِ وَاثْبُتُوا.

د- وعن أبي موسى. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوف) رواه مسلم.

قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: إِنَّ الْجِهَاد وَحُضُور مَعْرَكَة الْقِتَال طَرِيق إِلَى الْجَنَّة وَسَبَب لِدُخُولِهَا.

قال القرطبي: قوله (. . . الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوف) هذا الكلام من النفيس البديع الذي جمع ضروب البلاغة مع جزالة اللفظ وعذوبته وحسن استعارته، وشمول المعاني الكثيرة مع الألفاظ المقبولة الوجيزة بحيث يعجز الفصحاء اللسن البلغاء عن إيراد مثله، وأن يأتوا بنظيره وشكله، فإنه استفيد منه مع وجازته الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه.

هـ- وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يلجُ النارَ رجلٌ بكى من خشية الله، حتَّى يعودَ اللَّبَنُ في الضّرع، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنَّم) رواه الترمذي.

ص: 349

‌ثامناً: المجاهد يكون الله في عونه.

عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِى يُرِيدُ الأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِى يُرِيدُ الْعَفَاف) رواه الترمذي.

‌تاسعاً: الجهاد ذروة سنام الإسلام.

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ». قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَاد) رواه الترمذي. ذروة الشيء: أعلاه.

‌عاشراً: نفى سبحانه التسوية بين المؤمنين المجاهدين وغير المجاهدين.

قال تعالى (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً).

‌الحادي عشر: أن الجهاد سبب لمغفرة الذنوب.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ص: 350

(وفي تركهِ الذلُ والهَوَان).

أي: أن ترك الجهاد له عواقب وخيمة وكبيرة:

‌أولاً: سبب للذل والهوان.

عن ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود.

وقد بوّب البخاري باباً على هذا المعنى في الصحيح فقال:

باب مَا يُحْذَرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاِشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ، أَوْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ.

ثم ذكر حديثاً:. . .، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلاَّ أُدْخِلَهُ الذُّلُّ.

قال العيني: المقصود الترغيب والحث على الجهاد.

وقد جاء عند الترمذي قال صلى الله عليه وسلم (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا).

الضيعة: التجارة والصناعة والزراعة وغير ذلك. (النهاية).

‌ثانياً: سبب للبلاء.

قال صلى الله عليه وسلم (من لم يغزو أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة) رواه أبو داود.

والقارعة هي الدَاهِيَة المُهْلِكَة التي تأتي فجأة، يقال: قَرَعَهُ أَمْرٌ إِذَا أَتَاهُ فَجْأَة.

ص: 351

‌ثالثاً: سبب لعذاب الله وبطشه.

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير).

وَقَالَ تَعَالَى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ) فَسّرَ أَبُو أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ الْإِلْقَاءَ بِالْيَدِ إلَى التّهْلُكَةِ بِتَرْكِ الْجِهَاد.

روى الترمذي عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ (كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلامَ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلامَ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاحِهَا، وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

قال في (تحفة الأحوذي) وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِلْقَاءِ الْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الإِقَامَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكُ الْجِهَاد.

ص: 352

‌رابعاً: تركه من خصال المنافقين.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاق) رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(وَلَمْ يَغْزُ) أي: لم يخرج للجهاد في سبيل اللَّه تعالى. (وَلَمْ يُحَدِّث نَفْسَهُ بِغَزْوٍ) من التحديث، قيل: بأن يقول في نفسه: يا ليتني كنت غازيًا، أو المراد: ولم ينو الجهاد، وعلامته إعداد الآلات، كما قال اللَّه تعالى (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً). (مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاق) بضمّ الشين المعجمة، وسكون العين المهملة-: أي خلق من أخلاق المنافقين. قيل: أشبه المنافقين المتخلّفين عن الجهاد.

قال النووي: الْمُرَاد أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَشْبَهَ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجِهَاد فِي هَذَا الْوَصْف، فَإِنَّ تَرْك الْجِهَاد أَحَد شُعَب النِّفَاق.

قال ابن تيمية: ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين.

‌خامساً: سبب لإفساد أهل الأرض بالقضاء على دينهم.

قال تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين).

‌سادساً: ترك الجهاد يفوت مصالح عظيمة للمسلمين.

منها الأجر والثواب والشهادة والمغنم والتربية الإيمانية التي لا تحصل بدون الجهاد ودفع شر الكفار وإذلالهم.

قال ابن تيمية: فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ يَبْتَلِيهِمْ بِأَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ حَتَّى تَقَعَ بَيْنَهُمْ الْفِتْنَةُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمَعَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ وَجَعَلَ بَأْسَهُمْ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِم.

ص: 353

‌فائدة:

من كلمات ابن تيمية في الجهاد وفضله:

قال ابن تيمية: الجهاد في سبيل الله مقصوده أن يكون الدين كلّه لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا.

وقال رحمه الله: نفع الجهاد عامٌ لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتملٌ من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله، وسائر أنواع العمل: على ما لا يشتمل عليه عملٌ آخر.

وقال رحمه الله: ولمّا كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلاّ بالشجاعة والكرم: بيّن سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، فقال (يا أيها الذين آمنوا! ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل. إلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً، والله على كلّ شيء قدير). وقال تعالى (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم لفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضل السابقين، فقال (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى). وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله، ومدحه في غير آية من كتابه، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه، فقال (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين).

وقال: الأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة: أكثر من أن يحصر. ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دلّ عليه الكتاب والسنة.

وقال: لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه.

ص: 354

وقال رحمه الله: الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في كتابه (قل هل تربصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين) يعني: إمّا النصر والظفر، وإمّا الشهادة والجنة. فمن عاش من المجاهدين كان كريماً له ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة.

وقال: وما في القرآن من الأمر بالإيتاء والإعطاء وذم من ترك ذلك: كله ذم للبخل، وما في القرآن من الحظ على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له: كله ذم للجبن، ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك.

وقال: فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة: فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد، فتدبر هذا فإن هذا مقام خطر.

وقال: ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضاً يقول: اللهم اشف عبدك، يشهد لك صلاة، وينكأ لك عدواً.

وقال: ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر، فإن الحق معه، لأن الله يقول:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) وفي الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه حقيقة الإخلاص، وأعظم مراتب الإخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود.

(وَهُو فَرْضُ كِفَايَة).

أي: أن حكم الجهاد - في الأصل - فرض كفاية. (إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقي).

وهذا قول أكثر العلماء.

قال ابن قدامة: والجهاد من فروض الكفايات في قول عوام أهل العلم.

وقال ابن عطية: والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية.

ص: 355

وقال ابن رشد: أجمع العلماء على أنها فرض كفاية لا فرض عين إلا عبد الله بن الحسن فإنه قال: إنها تطوع.

وقال ابن حزم: وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قَامَ بِهِ مِنْ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ وَيَغْزُوهُمْ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ وَيَحْمِي ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ فَرْضُهُ، عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلَّا فَلَا.

الأدلة:

أ- قال تعالى (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).

قال الجصاص: وهذا دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه، لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين، وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل، ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحاً إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب، وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه.

ب- وقال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

قال القرطبي: الجهاد ليس على الأعيان، وأنه فرض كفاية، إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق منهم يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم ....

ج- عن أبي سعيد الخدري (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعْثاً إلى بني لحيان من هذيْل فقال: لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما).

د- قال بعض العلماء: ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان صلى الله عليه وسلم يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره، ويكتفي ببعض المسلمين، وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله.

ص: 356

(وَيَجِبُ إِذَا حَضَرَهُ أَوْ حَصَرَ بَلَدَهُ عَدَوٌّ أَوْ اسْتَنْفَرَهُ الإِمَامُ).

ذكر الحالات التي يكون فيها الجهاد فرض عين.

‌الحالة الأولى: إذا حضره، أي: إذا حضر الإنسان الصف.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقد ذكر صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات: التولي يوم الزحف.

قال ابن قدامة: إذا التقى الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام.

‌الحالة الثانية: أَوْ حَضَرَ بَلَدَهُ عَدَوٌّ.

قال ابن قدامة: النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو إليهم، ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال.

وقال النووي: قال أصحابنا: الجهاد اليوم فرض كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين فيتعيّن عليهم الجهاد، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وجب على من يليهم تتميم الكفاية.

وقال شيخ الإسلام: إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة.

ص: 357

‌الحالة الثالثة: أَوْ اسْتَنْفَرَهُ الإِمَامُ.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وقال صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) متفق عليه.

(وَإِذَا اسْتُنْفرِتُمْ) أي طلب منكم الخروج إلى الجهاد. (فانْفِرُوا) أي: اخرجوا.

قال ابن حجر: وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام.

(ولا يجبُ إلا على ذَكَرٍ حرٍ بالغٍ عاقلٍ مستطيع).

أي: لا يجب الجهاد إلا من توفرت فيه هذه الشروط:

الأول: أن يكون ذَكَراً.

فالمرأة لا يجب عليها الجهاد.

أ-عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتِ (اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِهَادِ فَقَالَ جِهَادُكُنَّ الْحَج) رواه البخاري.

وفي رواية (قالت: يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لا، لَكُنَّ أفضل الجهاد حج مبرور) رواه البخاري.

وفي لفظ عند أحمد (هل على النساء جهاد؟ فقال: جهاد لا قتال فيه; الحج، والعمرة).

ب- ولأنها ليست من أهل القتال; لضعفها.

قال ابن بطال: دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء ولكن ليس في قوله (جهادكن الحج) أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد، وإنما لم يكن عليهن واجباً لما فيه من مغايرة المطلوب منهن، من الستر ومجانبة الرجال.

ص: 358

‌فائدة:

لكن يجوز خروج النساء للغزو لمساعدة الجيش فيما ينوبهم من آثار الحرب كسقي الماء؟

عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ (كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ وَنَرُدُّ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ) رواه البخاري.

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ - وَقَالَ غَيْرُهُ تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ - عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلآنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْم) متفق عليه.

وعن عَائِشَةَ. قَالَتْ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ يَخْرُجُ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ) متفق عليه.

وعَنْ أَنَسٍ (أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا فَكَانَ مَعَهَا فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خَنْجَرٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا هَذَا الْخَنْجَرُ» قَالَتِ اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ. . .). رواه مسلم

وعنه. قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ إِذَا غَزَا فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى) رواه مسلم.

وعنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ (غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ وَأُدَاوِى الْجَرْحَى وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى) رواه مسلم.

قال ابن عبد البر: وخروجهن مع الرجال في الغزوات وغير الغزوات مباح، إذا كان العسكر كبيراً يُؤمن عليه الغلبة.

ص: 359

وقال في تحفة الأحوذي: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خُرُوجُ النِّسَاءِ فِي الْحَرْبِ لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ.

وَالْجِهَادُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى النِّسَاءِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ.

قَالَ بن بَطَّالٍ: دَلَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى النِّسَاءِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ "أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ" وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ "جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ" مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليس لهن أن يتطوعن بِالْجِهَادِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُغَايَرَةِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُنَّ مِنَ السَّتْرِ وَمُجَانَبَةِ الرِّجَالِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَجُّ أَفْضَلَ لَهُنَّ مِنَ الْجِهَادِ.

وقال النووي: فِيهِ خُرُوج النِّسَاء فِي الْغَزْوَة وَالِانْتِفَاع بِهِنَّ فِي السَّقْي وَالْمُدَاوَاة وَنَحْوهمَا، وَهَذِهِ الْمُدَاوَاة لِمَحَارِمِهِنَّ وَأَزْوَاجهنَّ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لِغَيْرِهِمْ لَا يَكُون فِيهِ مَسّ بَشَرَة إِلَّا فِي مَوْضِع الْحَاجَة.

الثاني: أن يكون حراً.

أي: فلا يجب الجهاد على العبد.

قال تعالى (وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ولا مال للعبد، ولا نفس يملكها فلم يشمله الخطاب.

الثالث: أن يكون بالغاً.

أي: فلا يجب على الصغير.

أ- لحديث عَبْدِ اللَّه بْن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي) متفق عليه.

ص: 360

قال النووي: هذا الحديث دليل لتحديد البلوغ بخمس عشرة سنة، وأنه باستكماله يصير مكلفاً وإن لم يحتلم، فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادة وغيره ويستحق سهم الرجل من الغنيمة، ويقتل إن كان من أهل الحرب وهو مذهب الشافعي وأحمد.

ب- ولحديث (رفع القلم عن ثلاثة:

عن الصغير حتى يبلغ).

رابعاً: أن يكون عاقلاً.

أي: فلا يجب على المجنون.

أ- للحديث السابق (رفع القلم عن ثلاثة. . . وعن المجنون حتى يعقل).

ب- والمجنون لا يتأتى منه الجهاد. (المغني).

(مستطيع).

أي: فلا يجب على غير المستطيع، كالمريض، والأعمى، والأعرج، وغير القادر على نفقته.

قال ابن قدامة: معناه السلامة من العمى والعرض والمرض وهو شرط لقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ).

ص: 361

(وَتَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْماً).

الرباط: هو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم.

قال ابن حجر: والرباط هو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار وحراسة المسلمين منهم.

وقال ابن قدامة: مَعْنَى الرِّبَاطِ الْإِقَامَةُ بِالثَّغْرِ، مُقَوِّيًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ.

وَالثَّغْرُ: كُلُّ مَكَان يُخِيفُ أَهْلَهُ الْعَدُوُّ وَيُخِيفُهُمْ.

وَأَصْلُ الرِّبَاطِ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، كُلٌّ يُعِدُّ لِصَاحِبِهِ، فَسُمِّيَ الْمُقَامُ بِالثَّغْرِ رِبَاطًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْلٌ.

وَفَضْلُهُ عَظِيمٌ، وَأَجْرُهُ كَبِيرٌ. (المغني).

ثم قال: إذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَإِنَّ الرِّبَاطَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، فَكُلُّ مُدَّةٍ أَقَامَهَا بِنِيَّةِ الرِّبَاطِ، فَهُوَ رِبَاطٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (رِبَاطُ يَوْمٍ وَرِبَاطُ لَيْلَةٍ. . .).

قَالَ أَحْمَدُ: يَوْمٌ رِبَاطٌ، وَلَيْلَةٌ رِبَاطٌ، وَسَاعَةٌ رِبَاطٌ.

وَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَمَنْ رَابَطَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كُتِبَ بِهِ أَجْرُ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَمَنْ زَادَ، زَادَهُ اللَّهُ. (المغني).

- وتمامه أربعون يوماً.

فلو أقام ساعة يثبت له رباط ساعة ولكن تمامه أربعون يوماً.

جاء في ذلك حديث عنه صلى الله عليه وسلم قال (تمامُ الرباط أربعون يوماً) لكن إسناده ضعيف. وإنما يثبت موقوفاً على أبي هريرة كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه.

ص: 362

-‌

‌ وقد جاءت الفضائل الكثيرة في فضل الرباط في سبيل الله:

‌أولاً: رباط يوم خير من الدنيا ومتاعها.

عن سهل بن سعدٍ السَّاعدي رضي الله عنه. أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال (رباطُ يومٍ في سبيلِ الله خيرٌ من الدُّنيا ومَا عليها). رواه البخاري

‌ثانيا: الرباط أمان من النار.

عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله) رواه الترمذي.

‌ثالثاً: الرباط خير من صلاة وصوم تطوع.

عن سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِى كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِىَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ) رواه مسلم.

‌رابعاً: من مات مرابطاً أمّنه الله من عذاب الله، ولا ينقطع عمله.

أ-لحديث سلمان السابق (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِى كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِىَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ).

قال النووي: هذِهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلْمُرَابِطِ، وَجَرَيَان عَمَله بَعْد مَوْته فَضِيلَة مُخْتَصَّة بِهِ، لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي غَيْر

مُسْلِم: " كُلّ مَيِّت يُخْتَم عَلَى عَمَله إِلَّا الْمُرَابِط فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".

قَوْله صلى الله عليه وسلم (وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقه)

مُوَافِق لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى فِي الشُّهَدَاء: {أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ} وَالْأَحَادِيث السَّابِقَة أَنَّ أَرْوَاح الشُّهَدَاء تَأْكُل مِنْ ثِمَار الْجَنَّة.

ص: 363

قَوْله صلى الله عليه وسلم (أَمِنَ الْفُتَّانَ) ضَبَطُوا (أَمِنَ) بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا (أَمِنَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الْمِيم مِنْ غَيْر (وَاو) وَالثَّانِي (أُومِن) بِضَمِّ الْهَمْزَة وَبِوَاوٍ.

وَأَمَّا (الْفُتَّان) فَقَالَ الْقَاضِي: رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ بِضَمِّ الْفَاء جَمْع (فَاتِن) قَالَ: وَرِوَايَة الطَّبَرِيّ بِالْفَتْحِ، وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ فِي سُنَنه (أُومن مِنْ فَتَّانِي الْقَبْر). (شرح مسلم).

ب- وعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كُلُّ الْمَيِّتِ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلاَّ الْمُرَابِطَ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْر) رواه أبو داود.

والحديث صححه ابن العربي، وابن دقيق العيد، وابن حجر في "فتح الباري".

قال الإمام السرخسي رحمه الله: " ومعنى هذا الوعد في حق من مات مرابطاً - والله أعلم - أنه في حياته كان يُؤمِّن المسلمين بعمله، فيجازَى في قبره بالأمن مما يخاف منه.

أو لَمَّا اختار في حياته المقام في أرض الخوف والوحشة لإعزاز الدين، يُجازَى بدفع الخوف والوحشة عنه في القبر.

- سئلْ ابن تيمية: هل الْأَفْضَلُ الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ؟ أَوْ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؟ أَوْ بِثَغْرِ مِنْ الثُّغُورِ لِأَجْلِ الْغَزْوِ؟ وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي} . و {مَنْ زَارَ الْبَيْتَ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي} وَهَلْ زِيَارَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

ص: 364

الْجَوَابُ

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْمُرَابَطَةُ بِالثُّغُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَامَّةً؛ بَلْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُجَاوَرَةِ: فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَاسْتَحَبَّهَا مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا؛ وَلَكِنَّ الْمُرَابَطَةَ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْن السَّلَف حَتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ". وَذَلِكَ أَنَّ الرِّبَاطَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ وَجِنْسُ الْجِهَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى جِنْسِ الْحَجِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

- وقال: وَلِهَذَا كَانَ الْمُقَامُ فِي الثُّغُورِ بِنِيَّةِ الْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

- وقال: وَكَانَ الصَّالِحُونَ يَتَنَاوَبُونَ الثُّغُورَ لِأَجْلِ الْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُقَامَ بِالثُّغُورِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ).

وَفِي السُّنَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ).

ص: 365

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبَاطَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ وَالْمُجَاوَرَةَ مِنْ جِنْسِ النُّسُكِ وَجِنْسُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مَنْ جِنْسِ النُّسُكِ: بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

‌فائدة: 1

قال ابن قدامة: وَأَفْضَلُ الرِّبَاطِ الْمُقَامُ بِأَشَدِّ الثُّغُورِ خَوْفًا.

لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ، وَمُقَامُهُ بِهِ أَنْفَعُ.

قَالَ أَحْمَدُ: أَفْضَلُ الرِّبَاطِ أَشَدُّهُمْ كَلَبًا.

‌فائدة: 2

هل يأخذ المرابط أهله معه أم لا؟

المسألة فيها تفصيل:

أ-إن كان الثغر مَخُوفاً (يغلب على ظنه هجوم الأعداء عليه) فلا يجوز له ذلك.

حتى لا يعرضهم للخطر.

ب- وإن كان الثغر يغلب عليه الأمان: فإنه يجوز له أخذ أهله معه.

قال ابن قدامة: وَمَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَرَاهَةُ نَقْلِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ إلَى الثُّغُورِ الْمَخُوفَةِ.

لِأَنَّ الثُّغُورَ الْمَخُوفَةَ لَا يُؤْمَنُ ظَفَرُ الْعَدُوِّ بِهَا، وَبِمَنْ فِيهَا، وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ.

قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَتَخَافُ عَلَى الْمُنْتَقِلِ بِعِيَالِهِ إلَى الثَّغْرِ الْإِثْمَ؟ قَالَ: كَيْفَ لَا أَخَافُ الْإِثْمَ، وَهُوَ يُعَرِّضُ ذُرِّيَّتَهُ لِلْمُشْرِكِينَ؟

قال ابن قدامة: وَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الثَّغْرِ، لَا يُسْتَحَبُّ لَهُمْ الِانْتِقَالُ بِأَهْلِهِمْ إلَى ثَغْرٍ مَخُوفٍ، فَأَمَّا أَهْلُ الثَّغْرِ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ السُّكْنَى بِأَهْلِهِمْ، لَوْلَا ذَلِكَ لَخَرِبَتْ الثُّغُورُ وَتَعَطَّلَتْ.

ص: 366

‌فائدة: 3

حديث ابن عباس: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ قَالُوا، وَلَا الْجِهَادُ قَالَ، وَلَا الْجِهَادُ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) رواه البخاري.

ففي هذا الحديث أن استيعاب العشر من ذي الحجة بالعبادة أفضل من الجهاد (المراد جهاد التطوع) الذي لم تذهب فيه النفس والمال.

وهذا اختيار ابن تيمية.

ولأن هذه العشر اجتمعت فيها أمهات العبادة، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الجهاد أفضل.

لعموم الأدلة في فضيلة الجهاد في سبيل الله.

(وَإِذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُجَاهِد تَطَوُّعاً إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا).

أي: أنه يشترط للجهاد إذن الوالدين إذا كان الجهاد تطوعاً.

فلا يجوز للإنسان أن يجاهد جهاد التطوع إلا بإذن الوالدين إذا كانا مسلمين أو بإذن المسلم منهما.

أ-عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ فِي اَلْجِهَادِ. فَقَالَ: أحَيٌّ وَالِدَاكَ? "، قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ (اِرْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ; وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا).

ب-وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا) رواه أبو داود.

ج- وعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. (أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟ قَالَ: أَبَوَايَ، قَالَ: أَذِنَا لَكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا) رواه أبو داود

ص: 367

د- وعنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ. (أَنَّ جَاهِمَةَ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ، وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَال: فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا) رواه النسائي.

هـ- أن الجهاد في هذه الحالة فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره، وبر الوالدين فرض يتعين عليه لا ينوب عنه فيه غيره، فلا يترك فرض عين للقيام بما فرض على الكفاية.

قال في الفتح: قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان، أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برّهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية.

وقال الصنعاني: ذهب الجماهير من العلماء إلى أنه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا.

‌فائدة: 1

حالات رجوع الأبوين عن إذنهما لولدهما بالجهاد؟

‌الحالة الأولى: أن يرجع الأبوان قبل حضور الولد الصف في القتال.

ففي هذه الصورة اتفقت الشافعية والحنابلة على أنه يجب على الولد أن يرجع.

واستدلوا بأن عدم الإذن عذر يمنع وجوب الجهاد ابتداء فكذلك إذا طرأ في أثنائه كسائر الموانع من العمى أو المرض.

‌الحالة الثانية: أن يرجع الأبوان عن إذنهما بعد حضوره الصف.

فالأظهر هنا أنه لا عبرة برجوعهما عن الإذن، ويحرم على الولد الانصراف عن القتال.

لأن الجهاد تعيّن عليه بحضوره الصف، فلم يبق لهما إذن.

ص: 368

‌فائدة: 2

هل يُلحق الجدّ والجدّة بالأبوين في ذلك؟

الأصحّ عند الشافعيّة نعم.

‌فائدة: 3

إذا كان الجهاد فرض عين على الابن: فهنا لا يشترط إذن الوالدين.

قال ابن حجر: فإذا تعيّن الجهاد فلا إذن.

أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ).

ولقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ).

وجه الدلالة من الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالثبات عند قتال الكفار وعدم الفرار عنهم، والآية عامة تشمل جميع المؤمنين ومنهم الولد.

ب- قال صلى الله عليه وسلم (لا طاعة في معصية الله) متفق عليه.

وجه الدلالة: الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بعدم الطاعة في معصية الله، والجهاد هنا فرض عين وتركه معصية، فلا معنى لاستئذان الوالدين في هذه الحالة، إذ لا طاعة لهما إذا لم يأذنا.

ج- قياس الجهاد في هذه الحالة على الصلاة المكتوبة، بجامع أن كلاً منهما عبادة تعيّنت عليه، فكما أن أداء الولد للصلاة المكتوبة لا يتوقف على إذن الوالدين فكذلك الجهاد.

د- ترك الجهاد في هذه الحالة يؤدي إلى الهلاك فقدّم على حق الأبوين. (أحكام إذن الإنسان).

• فإن قيل: بر الوالدين فرض عين أيضاً والجهاد عند تعينه فرض عين فهما مستويان فما وجه تقديم الجهاد؟

ص: 369

قلت: لأن مصلحته أعم إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن المسلمين فمصلحته عامة مقدمة على غيرها وهو يقدم على مصلحة حفظ البدن. (سبل السلام).

وقال في المغني: وإن أذن له والداه في الغزو وشرطا عليه أن لا يُقاتل، فحضر القتال تعيّن عليه وسقط شرطهما. كذلك قال الأوزاعي وابن المنذر؛ لأنه صار واجباً عليه فلم يبق لهما في تركه طاعة.

‌فائدة: 4

قال ابن قدامة: فَأَمَّا إنْ كَانَ أَبَوَاهُ غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ، فَلَا إذْنَ لَهُمَا.

وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ.

لأن أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يُجَاهِدُونَ، وَفِيهِمْ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ كَافِرَانِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عَتَبَةَ بْنُ رَبِيعَةَ، كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَبُوهُ رَئِيسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمئِذٍ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، قَتَلَ أَبَاهُ فِي الْجِهَادِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (لَا تَجِدُ قَوْمًا). الْآيَةَ.

وَعُمُومُ الْأَخْبَارِ مُخَصَّصٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ. (المغني).

ص: 370

‌فائدة: 5

إذا كان الأب رقيقاً هل يستأذن أم لا؟

قيل: يجب أن يستأذن.

أ-لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهُمَا أَبَوَانِ مُسْلِمَانِ، فَأَشْبَهَا الْحُرَّيْنِ.

ب- ولأن المقصود من ذلك مراعاة حق الوالد.

ج- ولئلا يقع في نفسه شيء من الحسرة بفوات نفس ولده أو تعرضه للقتل وهذا ثابت في الرقيق كما هو في الأحرار.

وقيل: لا يجب.

لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا.

‌فائدة: 6

هل يخرج للجهاد وعليه ديْن؟

هذه المسألة لها أحوال:

أولاً: اتفق الفقهاء على عدم اشتراط إذن الدائن لجهاد المدين إذا كان الجهاد متعيناً عليه، سواء كان المدين معسراً أم موسراً.

لأن الخروج هنا فرض عين على كل قادر، وهو لا يحتمل التأخير، أما قضاء الدَّين فيحتمل التأخير، والضرر في ترك الخروج أعظم من الضرر في الامتناع من قضاء الدين، لأن الضرر في ترك الخروج يرجع إلى كافة المسلمين، فالواجب عليه أن يشتغل بدفع أعظم الضررين.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَأَمَّا إذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ فَلا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لا إذْنَ لِغَرِيمِه.

ثانياً: اتفق الفقهاء على أنه ليس للمدين الموسر أن يخرج للجهاد إذا كان الدين حالاً بغير إذن الدائن إلا إذا ترك وفاء، ولم يخالف فيه إلا الأوزاعي.

واستدلوا: بأن فرض الدين متعين عليه، فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم عنه غيره مقامه.

ص: 371

واستدلوا لجواز الجهاد إن ترك وفاءً أو أقام كفيلاً:

بفعل عبد الله بن عمرو بن حرام -والد جابر- حيث خرج إلى أحد وعليه ديْن كثير، فاستشهد وقضاه عنه ابنه بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذمه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر فعله بل مدحه، وقال: ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها.

قال ابن قدامة: وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْغَزْوِ إلا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ، إلا أَنْ يَتْرُكَ وَفَاءً، أَوْ يُقِيمَ بِهِ كَفِيلاً، أَوْ يُوَثِّقَهُ بِرَهْنٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. . .

ودليل ذلك أَنَّ رَجُلا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ قُتِلْت فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إلا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ولأَنَّ الْجِهَادَ تُقْصَدُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ الَّتِي تَفُوتُ بِهَا النَّفْسُ، فَيَفُوتُ الْحَقُّ بِفَوَاتِهَا.

وَأَمَّا إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلا إذْنَ لِغَرِيمِهِ; لأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ، كَسَائِرِ فُرُوضِ الأَعْيَانِ

وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً، أَوْ أَقَامَ كَفِيلاً، فَلَهُ الْغَزْوُ بِغَيْرِ إذْنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَنْ تَرَكَ وَفَاءً.

لأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَرَامٍ أَبَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَرَجَ إلَى أُحُدٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ، فَاسْتُشْهِدَ، وَقَضَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ بِعِلْمِ النَّبِيِّ، وَلَمْ يَذُمَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُ، بَلْ مَدَحَهُ، وَقَالَ:(مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ). وَقَالَ لابْنِهِ جَابِرٌ: أَشَعَرْت أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاك، وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا. (المغني).

وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز للمدين الموسر أن يخرج إلى الجهاد بغير إذن الدائن، إذا كان الدين لم يحل بعد.

وبه قالت الحنفية، والمالكية.

ص: 372

قالوا: إن الدائن قبل حلول الدين لا حق له على المدين، فليس له مطالبة المدين بالدين، وإذا لم يكن له مطالبته فليس له منعه من الخروج.

لكن يجاب عن هذا: بأن الدائن وإن لم يكن له حق على المدين قبل حلول الدين، إلا أن الجهاد يقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها، وهذا فيه ضرر على الدائن فلا يجوز بغير إذنه.

الخلاصة: لا يحل لمسلم أن يجاهد جهاداً تطوعياً وعليه دين لا وفاء له مالم يقم كفيلاً، أو يوثّق دينه برهن، أو يكون له وفاء وذلك لئلا يفوت حق الغير.

ثالثاً: إذْن الدائن للمدين بالجهاد إذا لم يكن متعيناً عليه والدين حال والمدين معسر؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

قيل: لا يشترط إذن الدائن لخروج المدين إلى الجهاد إذا كان معسراً ولم يتعين عليه.

وبهذا قال المالكية، والشافعية.

لقوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة).

قالوا: إن الله أمر بإنظار المعسر إلى حين الميسرة، فلا يجوز مطالبته قبل ذلك، وإذا لم تكن هناك مطالبة فللمدين الخروج بغير إذن الدائن.

وقيل: يشترط إذن الدائن.

وبهذا قالت الحنفية، والحنابلة.

أ- لحديث أَبِى قَتَادَةَ. عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ «أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ» . فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَيْفَ قُلْتَ» . قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّى خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ لِي ذَلِك) رواه مسلم.

ص: 373

فقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إلا الديْن) فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الشهادة والجهاد وغيرهما من أعمال البر لا يكفّر حقوق الآدميين، فإذا كانت حقوقهم بهذه الأهمية فلا يجوز تعريضها للخطر بغير إذن أصحاب تلك الحقوق.

ب- لأن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس، وبفواتها يفوت الحق، فلا يجوز بغير إذن صاحب الحق.

وهذا الراجح.

(وَيَتَفَقَّدُ الإِمَامُ جَيْشَهُ عِنْدَ المَسِير)

أي: يجب على الإمام وجوباً قبل الخروج والمسير أن يتفقد الجيش، كي يمنع من لا يصلح للحرب.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد استعرض الجيش،

فلما وصل إلى ابن عمر رضي الله عنه لم يأذن له بالخروج لأنه لم يبلغ.

واستعرض النبي صلى الله عليه وسلم كل الجيش في بدر وأيضاً أخرج جملة من الصحابة منهم أسامة لأنه لم يبلغ.

(وَيَمْنَعُ المُخَذِّلَ والمُرْجِفَ).

أي: أي: يجب على الإمام أن يمنع من لا يصلح للجهاد كالمخذل والمرجف.

المخذل: الذي يفند الناس عن القتال، ويزهدهم فيه، كالقائل: الحر شديد، أو البرد شديد، والمشقة شديدة، أو لا تؤمن هزيمة الجيش.

والمرجف: كالذي يقول: هلكت سرية المسلمين. (يهول قوة العدو).

ص: 374

جاء في (الموسوعة الفقهية). . . وَلَا مَنْ يُعِينُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالتَّجَسُّسِ لِلْكُفَّارِ وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمُكَاتَبَتِهِمْ بِأَخْبَارِهِمْ وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَوْ إِيوَاءِ جَوَاسِيسِهِمْ، وَلَا مَنْ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْعَى بِالْفَسَادِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيل اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) وَلأِنَّ هَؤُلَاءِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَلْزَمُهُ مَنْعُهُمْ.

(وَلَهُ أَنْ يُنفِّلَ فِي بِدَايتِهِ الرُّبُعَ بَعْدَ الخُمُسِ، وَفِي الرَّجعَةِ الثُّلثَ بَعْدَهُ).

أي: وللإمام أن ينفل في بداية الغزو الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس.

والنفل: الزيادة على السهم الذي يأخذه من الغنيمة، يخص بها الإمام بعض الجيش لمصلحة، كمزيد سعي، واقتحام خطر ونحوه.

والمراد: أنه إذا دخل الجيش أرض العدو، فإن الجيش قد يحتاج أن يبعث بعض السرايا لمهمة قتالية، فإذا غنمت هذه السرية التي اقتطعت من الجيش غنيمة، فإن ما غنموه يخمّس كالغنيمة، ثم يأخذ أصحاب السرية ربع الغنيمة، وما بقي للجيش، وأما إن كانت السرية انطلقت من الجيش في أثناء عودته وبعد الانتهاء من القتال، فإن الإمام ينفلهم الثلث، وما بقي من الخمس يوزع على بقية أفراد الجيش.

إذاً: إذا ذهبوا وأتَوْا بالغنائم: أخِذ من الغنائم الخمس لله ولرسوله، ثم أعطى أصحاب السرية في البدأة الربع ثم قسم الباقي على الجيش بمن فيهم أصحاب السرية، والثلث: في الرجعة.

عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةٍ رضي الله عنه قَالَ (شَهِدْتُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ اَلرُّبْعَ فِي اَلْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي اَلرَّجْعَةِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ اَلْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.

ص: 375

(نَفَّلَ اَلرُّبْعَ) أي: أعطى ربع الغنيمة نفلاً بعد الخمس. (وَالثُّلُثَ فِي اَلرَّجْعَةِ) أي: وأعطى ثلث الغنيمة حين رجوعهم.

فنستفيد من هذا الحديث:

جواز تنفيل السرية التي تقطع من الجيش، فتغير على العدو، وتغنم منه، فيعطى أفرادها زيادة على سهمانهم، تقديرًا لأعمالهم، وما قاموا به من بلاء في الجهاد على بقية الغزاة، لكن إن كانت غارة السرية في ابتداء سفر الغزو، والمجاهدين، فتعطى ربع ما غنمت، وإن كانت غارة السرية بعد عودة المجاهدين، فتعطى ثلث ما غنمت. (توضيح الأحكام).

وقال الخطابي بعد نقله كلام ابن المنذر في تفسير الحديث

والبدأة إنما هي ابتداء السفر للغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر فإذا وقعت بطائفة من العدو فما غنموا كان لهم فيه الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه، فإن قفلوا من الغزوة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث لأن نهوضهم بعد القفول أشد لكون العدو على حذر وحزم انتهى وما قاله هو الأقرب. (سبل السلام)

وقال ابن قدامة: النَّفَلُ فِي الْغَزْوِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ غَازِيًا، بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةً تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ مِنْ شَيْءٍ، أَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ مَا جَعَلَ لَهُمْ، وَهُوَ رُبْعُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ خُمُسٌ آخَرُ، ثُمَّ قَسَمَ مَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةُ مَعَهُ.

فَإِذَا قَفَلَ، بَعَثَ سَرِيَّةً تُغِيرُ، وَجَعَلَ لَهُمْ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ أَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، ثُمَّ قَسَمَ سَائِرَهُ فِي الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةُ مَعَهُ. (المغني).

‌فائدة: 1

الحكمة من هذا التفريق:

قال البسام: ووجه زيادة أفراد السرية في حالة القفول على حالة البدء، أنَّها في حالة القفول قد فقدت السند الذي تتقوى به، والجيش الذي تأوي إليه، والفئة التي تنحاز إليها، بخلاف حال البدء، فإنَّ الجيش يسندها، ويقويها، ويؤمها، كما أنَّ الغزو في حالة القفول في حال شوق ورغبة إلى أهله ووطنه، ومتشوف لسرعة الأوبة، لهذا -والله أعلم- استحقت السرية زيادة التنفيل في حالة الرجعة. (توضيح الأحكام)

ص: 376

‌فائدة: 2

هل للإمام أن ينفل أكثر من الثلث؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

‌القول الأول: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ،

قال ابن قدامة: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ.

لأن نَفْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى إلَى الثُّلُثِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَجَاوَزَهُ.

‌القول الثاني: لَا حَدَّ لِلنَّفْلِ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

وهو قول الشافعي.

لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَلَ مَرَّةً الثُّلُثَ، وَأُخْرَى الرُّبُعَ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَفَلَ نِصْفَ السُّدُسِ.

فَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّفْلِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ الْإِمَامُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِهِ.

قال الصنعاني: وقال آخرون للإمام أن ينفل السرية جميع ما غنمت لقوله تعالى (قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ففوضها إليه صلى الله عليه وسلم والحديث لا دليل فيه على أنه لا ينفل أكثر من الثلث.

‌فائدة: 3

صفة التنفيل:

أنَّ السرية التي تنهض في جملة العسكر، إذا أوقعت بالعدو، فما غنموا في البداءة، كان لهم فيه الربع، وما غنموا في القفول، كان لهم فيه الثلث، ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة الأرباع، أو في الثلثين.

(وَلَا يَجُوزُ الغَزوُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ).

أي: لا يجوز الغزو إلا بإذن من الإمام، لأنه هو المخاطب بالغزو، لعلمه بكثرة العدو وقلته، ومكامنه وكيده.

قال ابن قدامة: وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 377

وقال:. . . إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَرْبِ مَوْكُولٌ إلَيْهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقِلَّتِهِمْ، وَمَكَامِنِ الْعَدُوِّ وَكَيْدِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ إلَى رَأْيِهِ، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلْمُسْلِمِين.

وقال البهوتي: لا يجوز الغزو إلا بإذن الأمير؛ لأنه أعرف بالحرب و أمره موكول إليه.

‌الأدلة:

أ-قال تعالى (وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر مِنهم لعلمه الذين يستنبطونه مِنهم ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته لاتبعتمُ الشيطانَ إلا قليلاً) فالمسائل العظيمة التي تحل بالأمة - ومنها الجهاد - يكون القول الفصل فيها لأولي الأمر، ليس لكل أحد أو أي أحد.

ب- وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض).

فالإمام هو الذي يأمر بالجهاد و هو الذي ينادي إليه بالنفير، والمسلمون هم المُستَنفرون المخاطبون بإذن الإمام وقوله.

ج- وقال صلى الله عليه وسلم (الإمام جُنَّة، يُقاتَل من ورائه) رواه مسلم.

فهذا نص في المسألة، وهو بين ظاهر.

د- قال صلى الله عليه وسلم (إذا استُنفِرتم فانفروا).

فالقيام بالجهاد يكون بعد الاستنفار وهذا يصدر من ولي الأمر.

قال النووي: (معناه: إذا دعاكم السلطان إلى غزوٍ فاذهبوا).

هـ-هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا يعرف أنه جاهد أحد من أصحابه ممن كانوا تحت إمرته بدون إذنه وعلمه.

فهذه عائشة تقول (استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: جهادكن الحج).

ص: 378

وهذا ابن عمر رضي الله عنه يقول (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشر فلم يجزني).

و- وإذن الإمام مانع من الفوضى التي يمكن أن تنشأ من إعلان بعض المسلمين الحرب على أعداء الله دون تقدير لظروفهم وقوتهم وقوة عدوهم.

(إِلاَّ أَنْ يَفْجَأَهُمْ عَدُوٌّ يَخَافُونَ كَلَبَهُ).

(كَلَبَه) أي: شره وأذاه.

أي: يستثنى من ذلك: إذا فاجئهم عدو يخافون شره وأذاه، فإنهم حينها لهم أن يقاتلوا، ولو لم يستأذنوه.

لتعذر استئذانه.

لأن المصلحة تتعين في قتاله إذًا، لأن دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا.

قال ابن قدامة:. . . إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ لِمُفَاجَأَةِ عَدُوِّهِمْ لَهُمْ، فَلَا يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَتَعَيَّنُ فِي قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ إلَيْهِ، لِتَعَيُّنِ الْفَسَادِ فِي تَرْكِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَغَارَ الْكُفَّارُ عَلَى لِقَاحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَادَفَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ، تَبِعَهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ، مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، فَمَدَحَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:"خَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ". وَأَعْطَاهُ سَهْمَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ.

(أو تَعرِضُ فُرصَةً يخافون فوْتَها).

أي: وفي هذه الحالة أيضاً لا يحتاج إلى إذن الأمير، لئلا تضيع الفرصة.

الخلاصة: لا يحتاج إلى إذن الإمام في مسألتين:

الأولى: أن يفجأهم عدو يخافون شره، لأن دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعاً.

الثانية: إذا عرض فرصة للإيقاع بالعدو.

ص: 379

(ويُغزَى معَ كلِ بَرٍّ وفاجرٍ).

أي: يجاهد مع كل إمام براً كان أو فاجراً.

لأن تَرْكَ الْجِهَادِ مَعَ الْفَاجِرِ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الْجِهَادِ، وَظُهُورِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِئْصَالِهِمْ، وَظُهُورِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَفِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْض).

وقد جاء في أحاديث:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ؛ بَرًّا كَانَ، أَوْ فَاجِرًا).

وعن أَنَس، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ؛ الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، لَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ).

(وَغَزْوُ الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَزْوِ الْبَرِّ)

أي: أن الغزو في البحر أفضل من الغزو في البر، لتردده بين خطر الجهاد وخطر البحر، مع عدم تمكنه من الفرار إلا مع أصحابه.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْغَزْوَ فِي الْبَحْرِ مَشْرُوعٌ، وَفَضْلُهُ كَثِيرٌ.

أ- قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: فَقُلْت: مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ، غُزَاةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ). متفق عليه

وعَنْ أُمِّ حَرَامٍ، عَنْ. النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ، الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ، لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَالْغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْن).

ب- وَلِأَنَّ الْبَحْرَ أَعْظَمُ خَطَرًا وَمَشَقَّةً، فَإِنَّهُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَخَطَرِ الْغَرَقِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفِرَارِ إلَّا مَعَ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِه. (المغني)

ص: 380

‌فائدة:

وبوب ابن النحاس على فضله في كتابه (مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق) وذكر حديث الصحيحين السابق، وحديث أبي داود ثم قال بعد كلام:

واعلم أن لغزو البحر فضائل ليست لغزو البر:

منها: أن شهيد البحر أفصل على الإطلاق من شهيد البر.

ومنها: أن غزوة في البحر أفضل من عشر غزوات في البر.

لما روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (غزوة في البحر خير من عشر غزواتٍ في البر، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية كلها، والمائد فيه كالمتشحط في دمه).

وذكر عدة أحاديث وآثار أخرى تدل على فضله يمكن الرجوع لها في الكتاب المذكور.

(ويُقاتِلُ كلُّ قومٍ من يَلِيهِم من العدُوِّ).

والْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ) وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَكْثَرُ ضَرَرًا، وَفِي قِتَالِهِ دَفْعُ ضَرَرِهِ عَنْ الْمُقَابِلِ لَهُ، وَعَمَّنْ وَرَاءَهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْبَعِيدِ عَنْهُ، يُمَكِّنُهُ مِنْ انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْهُ.

‌فائدة:

قوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ).

قال القرطبي: في الآية أنه سبحانه عرّفهم كيفية الجهاد وأن الابتداء بالأقرب فالأقرب من العدوّ، ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرب، فلما فرغ قصد الروم وكانوا بالشام.

ص: 381

وقال الرازي: وإنما قلنا: إن الابتداء بالغزو من المواضع القريبة أولى لوجوه:

الأول: أن مقابلة الكل دفعة واحدة متعذرة، ولما تساوى الكل في وجوب القتال لما فيهم من الكفر والمحاربة وامتنع الجمع، وجب الترجيح، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة، وكما في سائر المهمات، ألا ترى أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة لهذا المهم، فوجب الابتداء بالأقرب.

والثاني: أن الابتداء بالأقرب أولى لأن النفقات فيه أقل، والحاجة إلى الدواب والآلات والأدوات أقل.

الثالث: أن الفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة.

الرابع: أن المجاورين لدار الإسلام إما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء، فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين، والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع، وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل، وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر، فكان الابتداء بهم أولى.

الخامس: أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه، وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم.

السادس: أن دار الإسلام واسعة، فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل، وحصول المقصود أيسر.

(وَلَا يُسْتَعَانُ بِمُشْرِكٍ إلا عندَ الحاجةِ إليه).

أي: لا يستعان بالمشركين على المشركين.

وهذه المسألة وقع فيها خلاف بين العلماء:

فمن العلماء من منع من ذلك.

أ- لحديث عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» .

ص: 382

قَالَ لَا قَالَ «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» . قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» . قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» . قَالَ نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فَانْطَلِقْ» ) رواه مسلم.

ب- ولحديث الْبَرَاء رضي الله عنه. قال (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أُقَاتِلُ وَأُسْلِمُ قَالَ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَمِلَ قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا) رواه البخاري.

ج- وعن خُبَيْبُ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:(أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا، أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، وَلَمْ نُسْلِمْ فَقُلْنَا: إِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، قَالَ: "أَوَ أَسْلَمْتُمَا؟ "قُلْنَا: لَا، قَالَ: "فَلَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِين). رواه أحمد

د- وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَشْبَهَ الْمُخَذِّلَ وَالْمُرْجِفَ.

ومنهم: من أجاز ذلك.

أ- روى ابن أبي شيبة عن الزهري (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو باليهود فيسهم لهم كسهام المسلمين).

قال الألباني: وهذا ضعيف لإرسال الزهري أو إعضاله.

ب-روى البيهقي عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع فرضخ لهم).

قال البيهقي: تفرد بهذا الحسن بن عمارة، وهو متروك، ولم يبلغنا في هذا حديث صحيح.

ج-أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية في حنين.

د- حديث عائشة في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الليثي ليدله على الطريق في هجرته إلى المدينة، وكان مشركاً على دين قومه.

ص: 383

ه- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِر). متفق عليه

و- وعن ذِي مِخْبَرٍ، رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُم) رواه أبو داود.

قال ابن القيم معلقاً على صلح الحديبية: وَمِنْهَا: أَنّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمُشْرِكِ الْمَأْمُونِ فِي الْجِهَادِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِأَنّ عَيْنَهُ الْخُزَاعِيّ كَانَ كَافِرًا إذْ ذَاكَ وَفِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَنّهُ أَقْرَبُ إلَى اخْتِلَاطِهِ بِالْعَدُوّ وَأَخْذِهِ أَخْبَارَهُم.

ومنهم: من أجاز ذلك إذا دعت الحاجة والمصلحة، وهو ممن يوثق به.

قال ابن قدامة: وَلَا يُسْتَعَانُ بِمُشْرِكٍ.

وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ.

وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

وَخَبَرِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يُسْتَعَانُ بِهِ حَسَنَ الرَّأْيِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِمْ، لَمْ تُجْزِئْهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ؛ لِأَنَّنَا إذَا مَنَعْنَا الِاسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ الْمُخَذِّلِ وَالْمُرْجِفِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى. (المغني).

وقال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم (فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِين بِمُشْرِكٍ).

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: (أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم اِسْتَعَانَ بِصَفْوَانَ بْن أُمَيَّة قَبْل إِسْلَامه).

ص: 384

فَأَخَذَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء بِالْحَدِيثِ الْأَوَّل عَلَى إِطْلَاقه.

وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: إِنْ كَانَ الْكَافِر حَسَن الرَّأْي فِي الْمُسْلِمِينَ، وَدَعَتْ الْحَاجَة إِلَى الِاسْتِعَانَة بِهِ اُسْتُعِينَ بِهِ، وَإِلَّا فَيُكْرَه، وَحَمَلَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْن. (شرح مسلم).

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ الْمُنْذِرِ، وَابْنَ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ مَالِكٍ إِلَى: جَوَازِ الاِسْتِعَانَةِ بِأَهْل الْكِتَابِ فِي الْقِتَال عِنْدَ الْحَاجَةِ.

لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: اسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ مُشْرِك.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الإْمَامُ حُسْنَ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ وَيَأْمَنَ خِيَانَتَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَأْمُونِينَ لَمْ تَجُزِ الاِسْتِعَانَةُ بِهِمْ؛ لأِنَّنَا إِذَا مَنَعْنَا الاِسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْل الْمُخْذِل وَالْمُرْجِفِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى.

كَمَا شَرَطَ الإْمَامُ الْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ: أَنْ يَكْثُرَ الْمُسْلِمُونَ، بِحَيْثُ لَوْ خَانَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ، وَانْضَمُّوا إِلَى الَّذِينَ يَغْزُونَهُمْ، أَمْكَنَهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ جَمِيعًا.

وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْعَدُوِّ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ حَبِيبٍ، وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْجُوزَجَانِيُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِمُشْرِكٍ؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ.

وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونُوا فِي غَيْرِ الْمُقَاتِلَةِ، بَل فِي خَدَمَاتِ الْجَيْشِ. (الموسوعة الفقهية).

ص: 385

قال الشيخ ابن باز: وأما الاستعانة ببعض الكفار في قتال الكفار عند الحاجة أو الضرورة فالصواب أنه لا حرج في ذلك إذا رأى ولي الأمر الاستعانة بأفراد منهم، أو دولة في قتال الدولة المعتدية لصد عدوانها عملا بالأدلة كلها.

فعند عدم الحاجة والضرورة لا يستعان بهم، وعند الحاجة والضرورة يستعان بهم على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم، وفي هذا جمع بين الأدلة الشرعية.

لأنه صلى الله عليه وسلم استعان بالمطعم بن عدي لما رجع من الطائف، ودخل في مكة بجواره، واستعان بعبد الله بن أريقط الديلي ليدله على طريق المدينة وكلاهما مشرك، وسمح للمهاجرين من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مع كونها دولة نصرانية لما في ذلك من المصلحة للمسلمين وبعدهم عن أذى قومهم من أهل مكة من الكفار.

واستعان بدروع من صفوان بن أمية يوم حنين وهو كافر، وقال في حديث عائشة رضي الله عنها للذي أراد أن يخرج معه في بدر وهو مشرك: ارجع فلن نستعين بمشرك، وأقر اليهود بخيبر بعد ذلك، واستعان بهم في القيام على مزارعها ونخيلها لحاجة المسلمين إليه واشتغال الصحابة بالجهاد، فلما استغنى عنهم أجلاهم عمر رضي الله عنه، والأدلة في هذا كثيرة.

والواجب على أهل العلم الجمع بين النصوص وعدم ضرب بعضها ببعض. (مجموع الفتاوى).

‌فائدة 1

ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء، والموالاة شيء آخر. فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حين استعان بالمطعم بن عدي، أو بعبد الله بن أريقط، أو بيهود خيبر موالياً لأهل الشرك، ولا متخذاً لهم بطانة، وإنما فعل ذلك للحاجة إليهم واستخدامهم في أمور تنفع المسلمين ولا تضرهم.

وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين وتخفيف الشر عنهم.

ص: 386

فيجب على المسلم أن يفرق ما فرق الله بينه، وأن ينزل الأدلة منازلها، والله سبحانه هو الموفق والهادي لا إله غيره ولا رب سواه. (فتاوى ابن باز)

‌فائدة: 2

جاء في (الموسوعة الفقهية) اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الاِسْتِعَانَةِ بِالْكُفَّارِ فِي قِتَال الْبُغَاةِ؛ لأِنَّ الْقَصْدَ كَفُّهُمْ لَا قَتْلُهُمْ،

وَالْكُفَّارُ لَا يَقْصِدُونَ إِلاَّ قَتْلَهُم.

(ويَجوزُ تَبْييتُ الكفارِ).

تبييت الكفار: معناه الإغارة عليهم ليلاً على حين غفلة منهم.

أي: يجوز تبييت الكفار، ولو قتل في هذا التبييت من لا يجوز قتله من امرأة وصبي إذا لم يقصدوا.

لحديث اَلصَّعْب بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنه قَالَ: (سُئِلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلدَّارِ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ، فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(عَنْ اَلدَّارِ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ) وفي رواية البخاري (عن أهل الدار) وفي رواية مسلم (عن الذراري من المشركين يبيّتون). والذراري جمع ذرية، وهم الأطفال من أولاد المشركين.

(يُبَيِّتُونَ) أي: يغار عليهم بالليل بحيث لا يُعرف الرجل من المرأة من الصبي، (فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ) أي: هم في تلك الحالة كحكم آبائهم في جواز القتل، وليس المراد: إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد: إذا لم يكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم. (الفتح).

جاء في (الموسوعة الفقهية) صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ تَبْيِيتُ الْكُفَّارِ وَهُوَ كَبْسُهُمْ لَيْلاً وَقَتْلُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ، وَلَوْ قُتِل فِي هَذَا التَّبْيِيتِ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنِ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، وَغَيْرِهِمَا كَمَجْنُونٍ، وَشَيْخٍ فَانٍ إِذَا لَمْ يَقْصِدُوا.

‌فائدة: 1

جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير إعلامهم بذلك.

ص: 387

(ورَمْيُهُم بالمَنْجَنيق).

أي: ويجوز رمي الكفار بالمنجنيق.

وقد جاء في حديث: عن مَكْحُولٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ اَلْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ اَلطَّائِفِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "اَلْمَرَاسِيلِ" وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

لكنه لا يصح، وقصة حصار الطائف رواها البخاري ومسلم وليس فيها ذكر المنجنيق.

قال ابن قدامة: وَيَجُوزُ نَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِمْ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ.

وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة.

وَلِأَنَّ الْقِتَالَ بِهِ مُعْتَادٌ، فَأَشْبَهَ الرَّمْيَ بِالسِّهَام. (المغني).

(وقتالُهُم قبل دُعائِهِم).

من بلغته الدعوة من الكفار يجوز قتاله من غير دعاء، ومن لم تبلغه الدعوة يدعى قبل القتال.

عَنْ نَافِعٍ قَالَ (أَغَارُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِيَّ اَلْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(أَغَارُ رَسُولُ اَللَّهِ) أي: هجم عليهم على غرة، أي: غَافِلُونَ. (عَلَى بَنِيَّ اَلْمُصْطَلِقِ) بضم الميم وسكون الصاد وكسر اللام، اسم قبيلة شهيرة بطن من خزاعة. (وَهُمْ غَارُّونَ) أي: غافلون.

وهذا قول جماهير العلماء.

ص: 388

قال النووي: فِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز الْإِغَارَة عَلَى الْكُفَّار الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَة مِنْ غَيْر إِنْذَار بِالْإِغَارَةِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة مَذَاهِب حَكَاهَا الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي:

أَحَدهَا: يَجِب الْإِنْذَار مُطْلَقًا، قَالَهُ مَالِك وَغَيْره. وَهَذَا ضَعِيف.

وَالثَّانِي: لَا يَجِب مُطْلَقًا وَهَذَا أَضْعَف مِنْهُ أَوْ بَاطِل.

وَالثَّالِث: يَجِب إِنْ لَمْ تَبْلُغهُمْ الدَّعْوَة، وَلَا يَجِب إِنْ بَلَغَتْهُمْ، لَكِنْ يُسْتَحَبّ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَبِهِ قَالَ نَافِع مَوْلَى اِبْن عُمَر، وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذِر وَالْجُمْهُور.

قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: وَهُوَ قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعِلْم، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَلَى مَعْنَاهُ، فَمِنْهَا هَذَا الْحَدِيث، وَحَدِيث قَتْل كَعْب بْن الْأَشْرَف، وَحَدِيث قَتْل أَبِي الْحُقَيْق. (نووي).

• أما حديث بريدة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ) فهذا محمول على من لم تبلغهم الدعوة.

ص: 389

(ولا يُقتلُ منهم صبيٌّ، ولا مجنون، ولا امرأة، ولا راهب، ولا شيخٌ فانٍ، إلا أن يُقاتِلوا).

هذا بيان لمن لا يقتل من الكفار في الحرب.

فيحرم قتل النساء والصبيان في الحرب.

أ-عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَال (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ خَيْراً، ثُمَّ قَال: اُغْزُوا بِسْمِ اَللَّهِ، فِي سَبِيلِ اَللَّهِ، قَاتِلُوا مِنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدُرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيداً) رواه مسلم

ب- وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى اِمْرَأَةً مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَأَنْكَرَ قَتْلَ اَلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وفي رواية (فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ).

ج- وعن رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ، قَالَ (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلاً، فَقَالَ: انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَجَاءَ فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ. فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ) قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَعَثَ رَجُلاً. فَقَالَ: قُلْ لِخَالِدٍ لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا) رواه أبو داود.

د- وفي رواية لابن ماجه (لا تقتلنّ ذريةً، ولا عسيفاً).

قال ابن الأثير: العسيف: الأجير.

هـ- وعن أَنَس بْن مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلاً، وَلَا صَغِيرًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغُلُّوا) رواه أبو داود.

ص: 390

قال النووي: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا.

واختلفوا في قتل الضعفاء والرهبان.

فذهب كثير من العلماء إلى عدم قتلهم.

لورود النهي عن ذلك في بعض الأحاديث:

كحديث (لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً) أي أجيراً.

وحديث (لا تقتلوا شيخاً فانياً).

وحديث (لا تقتلوا أصحاب الصوامع)[وهذه الأحاديث مختلف في صحتها عند العلماء]

وقال ابن قدامة: إن الإمام إذا ظفر بالكفار لم يجز أن يقتل صبياً لم يبلغ بغير خلاف، ولا تقتل امرأة، ولا شيخ فانٍ.

وقال الشوكاني: قوله (ولا عسيفاً) بمهملتين وفاء (كأجير) وزناً ومعنى، وفيه دليل على أنه لا يجوز قتل من كان مع القوم أجيراً ونحوه لأنه من المستضعفين.

(إلا أن يُقاتِلوا).

أي: فيجوز قتلهم في هذه الحالة، فإذا قاتلوا وحملوا السلاح أو قاموا بأعمال تعتبر من الأعمال القتالية، فإنهم يقتلون.

وهذا واضح من تعليل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المرأة مقتولة في بعض المغازي قال:[ما كانت هذه لتقاتل] فإن مفهومه أنها لو قاتلت

لقتلت.

قال النووي: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا يقتلون وبذلك قال جماهير العلماء.

وقال القرطبي: والصحيح: أنها إذا قاتلت بالسِّلاح، أو بالحجارة، فإنه يجوز قتلها لوجهين:

أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم (ما كانت هذه تقاتل) فهذا تنبيه على المعنى الموجب للقتل، فيجب طرده إلا أن يمنع منه مانع.

والثاني: قتل النبي صلى الله عليه وسلم لليهودية التي طرحت الرَّحى على رجل من المسلمين فقتلته، وذلك بعدما أسرها النبي صلى الله عليه وسلم، وكلا الحديثين مشهور. (المفهم)

ص: 391

‌فائدة: 1

وهناك حالات أخرى يجوز فيها قتلهم:

في حال التبييت والغارات الحربية إذا احتيج إليه، لعدم القدرة على التمييز بينهم وبين غيرهم من المقاتلين.

لحديث الصعب بن جَثّامة السابق قال (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يُبَيَّتون، فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: هم منهم).

قوله (هم منهم) أي في الحكم في تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم.

ومعنى البيات المراد في الحديث: أن يغار على الكفار بالليل بحيث لا يميز بين أفرادهم. [قاله الحافظ ابن حجر].

وقال النووي: أَمَّا الْحَدِيث السَّابِق فِي النَّهْي عَنْ قَتْل النِّسَاء وَالصِّبْيَان، فَالْمُرَاد بِهِ إِذَا تَمَيَّزُوا، وَهَذَا الْحَدِيث الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَاز بَيَاتهمْ وَقَتْل النِّسَاء وَالصِّبْيَان فِي الْبَيَات، هُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالْجُمْهُور.

وَمَعْنَى (الْبَيَات، وَيَبِيتُونَ) أَنْ يُغَار عَلَيْهِمْ بِاللَّيْلِ بِحَيْثُ لَا يُعْرَف الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ.

وَأَمَّا (الذَّرَارِيّ) فَبِتَشْدِيدِ الْيَاء وَتَخْفِيفهَا لُغَتَانِ، التَّشْدِيد أَفْصَح وَأَشْهَر، وَالْمُرَاد بِالذَّرَارِيِّ هُنَا النِّسَاء الصِّبْيَان.

وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلِيل لِجَوَازِ الْبَيَات، وَجَوَاز الْإِغَارَة عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَة مِنْ غَيْر إِعْلَامهمْ بِذَلِك.

وفي حالة: إذا تترس بهم العدو واتخذوهم دروعاً بشرية، بحيث لا يقدر المسلمون على مهاجمتهم إلا بقتل هؤلاء المُتترس بهم

قال ابن قدامة: إِنْ تَتَرَّسُوا فِي الْحَرْبِ بِنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ، جَازَ رَمْيُهُمْ، وَيَقْصِدُ الْمُقَاتِلَةَ.

لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَمَعَهُمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ.

وَلِأَنَّ كَفَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُمْ مَتَى عَلِمُوا ذَلِكَ تَتَرَّسُوا بِهِمْ عِنْدَ خَوْفِهِمْ فَيَنْقَطِعُ الْجِهَادُ.

وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْحَرْبُ مُلْتَحِمَةً أَوْ غَيْرَ مُلْتَحِمَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَتَحَيَّنُ بِالرَّمْيِ حَالَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ.

ص: 392

‌فائدة: 2

تقدم النهي عن قتل شيوخ الكفار إن لم يقاتلوا.

فما الجواب عن حديث سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اُقْتُلُوا شُيُوخَ اَلْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ

الجواب: فالمراد بهم: الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال، ومعونة عليه برأي أو تدبير، وبهذا تجتمع الأدلة.

قال ابن قدامة: ولَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا، وَلَا امْرَأَةً) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فِي سُنَنِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ وَصَّى يَزِيدَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا هَرِمًا

وَعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ وَصَّى سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا شَيْخًا هَرِمًا. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.

وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَا يُقْتَلْ، كَالْمَرْأَةِ.

وَقَدْ أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْمَرْأَةِ، فَقَالَ (مَا بَالُ هَذِهِ قُتِلَتْ، وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ).

وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ عُمُومِهَا الْمَرْأَةُ، وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ فِي مَعْنَاهَا، فَنَقِيسُهُ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَأَرَادَ بِهِ الشُّيُوخَ الَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الْقِتَالِ، أَوْمَعُونَةٌ عَلَيْهِ، بِرَأْيِ أَوْ تَدْبِيرٍ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ أَحَادِيثَنَا خَاصَّةٌ فِي الْهَرِمِ، وَحَدِيثَهُمْ عَامٌّ فِي الشُّيُوخِ كُلِّهِمْ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْعَجُوزِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا. (المغني)

ص: 393

(وَتُمْلَكُ الغَنِيمَةُ بِالاستِيلَاءِ عَلَيْهَا فِي دَارِ الحَرْبِ).

الغنيمة: ما أخذ من الكفار قهراً بالقتال.

أي: أن الغنيمة تملك بالاستيلاء عليها، أي: ولو لم تقسم.

أ- لأنه بالاستيلاء عليها زال عنها ملك الكفار.

ب- أن سبب الملك هو الاستيلاء التام وقد وجد.

وعليه: فإن مات بعض الغزاة بعد أن ملكت الغنيمة ولم تقسم، فالحق من بعده لورثته في الغنيمة.

وذهب بعض العلماء: إلى إنّ الْغَنِيمَةَ إنّمَا تُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ لَا بِمُجَرّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا.

وهذا اختيار ابن القيم.

لحديث والْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ. . . وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ. . .) رواه البخاري.

(اسْتَأْنَيْتُ) أي: تمهلت فلم أقسمها لعلكم ترجعون فتأخذون نساءكم وذراريكم وأموالكم وأما الآن وقد قسمت فلا.

فدل هذا على أن الغنيمة إنما تملك بعد القسمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمهل هوازن بعد انتهاء الحرب وبعد أن حيزت إلى البلاد الإسلامية لم يقسمها.

وعلى ذلك: إن مات قبل أن يقسم سواء كانت الغنيمة في ديار الحرب أو في ديار الإسلام فإن الإرث لا يثبت لعدم الملكية.

ص: 394

‌فائدة:

تجوز قسمة الغنيمة في دار الحرب.

وهذا مذهب مالك والشافعي وجماهير العلماء، وقال أصحاب أبي حنيفة، إن لم يجد الإمام حمولة جاز له قسمتها فيها، وقول الجمهور أولى، قال الأوزاعي، ما قفل صلى الله عليه وسلم عن غزاة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسَّه وقسمه قبل أن يقفل، واتفقوا على أنه إذا قسمها الإمام بها نفذت قسمته.

(وهْيَ لِمَنْ شَهِدَ الوَقْعَةَ مِنْ أَهْلِ القِتَالِ).

أي: أن الغنيمة لمن شهد الوقعة من الرجال الذين يقاتلون، قاتل أو لم يقاتل.

وأما من جاء بعد انتهاء الحرب فإنه لا شيء له منها، وكذلك من انصرف قبل بدء الحرب فإنه ليس له منها شيء.

لقول عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة.

قال ابن رشد: الأكثر على أنه إذا شهد القتال وجب له السهم وإن لم يقاتل، وأنه إذا جاء بعد القتال فليس له سهم في الغنيمة، وبهذا قال الجمهور.

وقال: إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد شرطين:

إما أن يكون ممن حضر القتال، وإما أن يكون ردءاً لمن حضر القتال.

ويسهم لدليل وجاسوس، ومن بعثهم الأمير لمصلحة وشبههم، وإن لم يشهدوا لفعله صلى الله عليه وسلم.

‌فائدة:

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي) رواه أحمد.

قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث إشارة إلى فضل الرمح، وإلى حل الغنائم لهذه الأمة، وإلى أن رزق النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها لا في غيرها

من المكاسب، ولهذا قال بعض العلماء: إنها أفضل المكاسب.

ص: 395

(فَيُخْرِجُ الخُمُسَ)

أي: فيخرج الإمام أو نائبه الخمس، (خمس الغنيمة) ويصرفه على ما ذكره الله تعالى.

قال تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول) ويكون مصرف هذا السهم في مصارف الفيء في مصالح المسلمين، وهذا المذهب واختاره ابن تيمية.

•‌

‌ وأين يصرف هذا؟

وقد قيل: ما لله فهو فيء، وما للرسول صلى الله عليه وسلم فللإمام؛ لأن الإمام نائب مناب الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمة، ولكن الصحيح أن ما لله وللرسول صلى الله عليه وسلم يكون فيئاً يدخل في بيت المال ويصرف في مصالح المسلمين.

(وَلِذِي الْقُرْبَى) وهم قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، هؤلاء هم أصحاب خمس الخمس.

قال ابن كثير: أما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية له: مسلمهم طاعة لله ولرسوله، وكافرهم حَمِيَّة للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله.

•‌

‌ وكيف يقسم بينهم؟

قيل: يقسم بينهم بحسب الحاجة، وقيل: بل للذكر مثل حظ الأنثيين، وقيل: بل الذكر والأنثى سواء.

أما من قال: بحسب الحاجة، قال: لأننا نعلم أن من مقاصد الشرع دفع الحاجات، لكن خص ذوي القربى؛ لأنهم أحق الناس بمثل هذه الغنيمة.

وأما من قال: هم سواء، فقال: لأنهم يستحقونه بوصفٍ وهو القرابة، وهذا يستوي فيه الذكور والإناث، كما لو وقف على قريبه فإنه يستوي الذكر والأنثى.

وأما من قال: إنه يفضل الذكر على الأنثى، فقال: لأن الإرث في القرابة يكون هكذا للذكر مثل حظ الأنثيين.

والأقرب الأول وهو أننا نراعي الحاجة، فإن كانوا كلهم سواء في الغنى أو في الحاجة أعطيناهم بالتساوي. (ابن عثيمين).

(وَالْيَتَامَى) جمع يتيم، وهو من مات أبوه قبل أن يبلغ، وسواء كان ذكراً أو أنثى.

ص: 396

واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء، أو يعم الأغنياء والفقراء؟ على قولين.

قال ابن عثيمين: الصحيح أنه لا يختص؛ لأننا لو جعلناه خاصاً بالفقراء لم يكن لعطف المساكين عليهم فائدة.

فالصواب أن اليتيم يستحق خمس الخمس من الغنيمة ولو كان غنيّاً، جبراً للنقص الذي حصل له بفقد أبيه.

(وَالْمَسَاكِينِ) هم الفقراء، وهنا يدخل الفقراء في اسم المساكين.

وإذا قرن الفقراء بالمساكين افترقا، فيكون اِلْفُقراء: هم من لم يجدوا شيئاً أو يجدون نصف الكفاية (هم أشد حاجة من المساكين)

وَالْمَسَاكِينِ: وهم الذين يجدون نصف الكفاية أو أكثرها، سموا بذلك لأن الفقر أسكنهم.

(وَابْنَ السَّبِيلِ) هم المسافرون الذين انقطع به السفر، فيعطون ما يوصلهم إلى سفرهم، يعطون تذكرة أو متاعاً أو ما أشبه ذلك مما يحتاجون إليه.

(ثُمَّ يَقْسِمُ بَاقِي الغَنِيْمَة لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلفَارِسِ ثَلَاثَةُ أسْهُمٍ، سَهْمٌ لَهُ وَسهْمَانِ لِفَرَسِهِ.).

أي: يقسم باقي الغنيمة - وهي أربعة أخماسها - على المقاتلين: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه.

الراجل: الذي حضر القتال على قدميه.

عن ابن عمر قال (قَسَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ: (أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْماً لَهُ).

ففي هذا الحديث كيفية تقسيم الغنائم بين المجاهدين، والذي يقسم من الغنيمة للمجاهدين أربعة أخماس، ويكون:

للفرس سهمين ولصاحبه سهم، فيكون المجموع ثلاثة أسهم.

وللراجل سهم واحد.

ص: 397

وهذا ما عليه أكثر العلماء.

قال ابن قُدامة: أكثر أهل العلم على أن الغنيمة للفارس منها ثلاثة أسهم، سهمٌ له، وسهمان لفرسه، وللراجل سهم.

قال ابن المنذر: هذا مذهب عمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعوامّ علماء الإسلام في القديم والحديث، منهم: مالك، ومن تبعه من أهل المدينة، والثوريّ، ومن وافقه من أهل العراق، والليث بن سعد، ومن تبعه من أهل مصر، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد. (المغني).

وقال النووي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَهْم الْفَارِس وَالرَّاجِل مِنْ الْغَنِيمَة؛ فَقَالَ الْجُمْهُور: يَكُون لِلرَّاجِلِ سَهْم وَاحِد وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَة أَسْهُم، سَهْمَانِ بِسَبَبِ فَرَسه وَسَهْم بِسَبَبِ نَفْسه.

مِمَّنْ قَالَ بِهَذَا اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد وَابْن جَرِير وَآخَرُون. (نووي).

‌فائدة: 1

الحكمة من هذه القسمة:

أن فعل الفارس أقوى من فعل الراجل في الكر والفر.

قال القرطبي: وقد روي من طريق صحيح عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم، سهمًا له، وتفرسه سهمين. ذكره أبو داود. وفي البخاري عن ابن عمر: جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا.

ومن جهة المعنى: إن مؤن الفارس أكثر، وغناؤه أعظم، فمن المناسب أن يكون سهمه أكثر من سهم الرَّاجل. (المفهم).

ص: 398

‌فائدة: 2

هل هذا يشمل لكل فرس؟

نعم يشمل كل فرس، سواء كان الفرس هجيناً - وهو غير العربي - أو كان عربياً فإن للفرس سهمين.

لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ) وَهَذِهِ مِنْ الْخَيْلِ.

وَلِأَنَّ الرُّوَاةَ رَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ فَرَسٍ.

وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو سَهْمٍ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَرَبِيُّ وَغَيْرُهُ، كَالْآدَمِيِّ.

وقال بعض العلماء: الفرس الهجين أو البرذون له سهم واحد لا سهمان.

قال في عمدة الفقه: وإن كان الفرس غير عربي، فله سهم ولصاحبه سهم. (العمدة).

واستدلوا بما رواه أبوداود في مراسيله عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين والهجين سهماً.

وله شاهد مرسل من حديث خالد بن معدان في مراسيل أبي دواد.

وله شاهد عن ابن عباس كما في المجمع.

‌فائدة: 3

هل يسهم لأكثر من فرس؟

ذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم لأكثر من فرس.

قال النووي: وَلَوْ حَضَرَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُسْهَم إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِد. هَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور مِنْهُمْ الْحَسَن وَمَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمَّد بْن

الْحَسَن رضي الله عنهم.

قال ابن قدامة: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرِ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ.

لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَاتِلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، فَلَمْ يُسْهَمْ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا، كَالزَّائِدِ عَنْ الْفَرَسَيْنِ. (المغني).

ص: 399

‌فائدة: 4

هل يسهم لغير الخيل من البهائم إذا حضرت القتال؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا شيء لها.

قال ابن قدامة:. . . وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ بِحَالٍ.

وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ مَنْ غَزَا عَلَى بَعِيرٍ، فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ.

كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَمَكْحُولٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِغَيْرِ الْخَيْلِ مِنْ الْبَهَائِمِ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعُونَ بَعِيرًا، وَلَمْ تَخْلُ غَزَاةٌ مِنْ غَزَوَاتِهِ مِنْ الْإِبِلِ، بَلْ هِيَ كَانَتْ غَالِبُ دَوَابِّهِمْ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهَا، وَلَوْ أَسْهَمَ لَهَا لَنُقِلَ، وَكَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُلَفَائِهِ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ غَزَوَاتِهِمْ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيمَا عَلِمْنَاهُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ، وَلَوْ أَسْهَمَ لِبَعِيرٍ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ مِنْ الْكَرِّ وَالْفَرِّ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ. (المغني).

ثم قال ابن قدامة: وَمَا عَدَا الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، مِنْ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْفِيَلَةِ وَغَيْرِهَا، لَا يُسْهَمُ لَهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ عَظُمَ غَنَاؤُهَا، وَقَامَتْ مَقَامَ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُسْهِمْ لَهَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهَا، كَالْبَقَرِ.

‌فائدة: 5

هل يسهم للنساء والصبيان؟

لا يسهم لهم، وإنما يرضخ لهم.

وهذا قول أكثر العلماء.

أ- عن ابن عباس قال (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ، فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وَيُحْذَيْنَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ). رواه مسلم

ب- وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ (شَهِدْت خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاع) رَوَاهُ أَبُو دَاود.

ص: 400

قال ابن قدامة: قوله (وَيُرْضَخُ لِلْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ دُونَ السَّهْمِ، وَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ سَهْمٌ كَامِلٌ، وَلَا تَقْدِيرَ لِمَا يُعْطُونَهُ، بَلْ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَإِنْ رَأَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَإِنْ رَأَى التَّفْضِيلَ فَضَّلَ.

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ.

ثم ذكر الأدلة السابقة ثم قال:

ج- وَلِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُمَا، كَالصَّبِيِّ.

وقال الشوكاني: وقد اختلف أهل العلم هل يسهم للنساء إذا حضرت.

فقال الترمذي: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُسْهَمُ لِلْمَرْأَةِ وَالصَّبِىِّ. وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِي.

ثم قال: والظاهر أنه لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد والذميين، وما ورد من الأحاديث مما فيه إشعار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لأحد من هؤلاء فينبغي حمله على الرضخ وهو العطية القليلة جمعاً بين الأحاديث.

(وَيشَارِك الجَيْشُ سَرَايَاهُ فِيمَا غَنِمَت، وَيُشَارِكُونَهُ فِيمَا غَنِم).

أي: أَنَّ الْجَيْشَ إذَا فَصَلَ غَازِيًا، فَخَرَجَتْ مِنْهُ سَرِيَّةٌ أَوْ أَكْثَرُ، فَأَيُّهُمَا غَنِمَ، شَارَكَهُ الْآخَرُ.

فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

أ- وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا غَزَا هَوَازِنَ، بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ الْجَيْشِ قِبَلَ أَوْطَاسٍ، فَغَنِمَتْ السَّرِيَّةُ، فَأَشْرَكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَيْشِ.

ب- قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَيَرُدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعَدِهِمْ).

ج- وَلِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رِدْءٌ لِصَاحِبِهِ، فَيَشْتَرِكُونَ، كَمَا لَوْ غَنِمَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْجَيْشِ. (المغني).

ص: 401

(وَالغَالُّ مِن الغَنِيمَةِ يُحْرَقُ رَحْلُهُ كُلُّهُ إِلاَّ السِّلَاحَ وَالمُصْحَفَ وما فيه رُوح).

الغال: هو من يأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم.

قال النووي: (الْغُلُول) الْخِيَانَة، وَأَصْله السَّرِقَة مِنْ مَال الْغَنِيمَة قَبْل الْقِسْمَة.

قال ابن قدامة: الْغَالُّ: هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يُطْلِعُ الْإِمَامَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضَعُهُ مَعَ الْغَنِيمَةِ، فَحُكْمُهُ.

• وهو حرام، ومن كبائر الذنوب.

قال النووي: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَغْلِيظ تَحْرِيم الْغُلُول، وَأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِر، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ رَدّ مَا غَلَّهُ.

أ-قال تعالى (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

قال القرطبي: قوله تعالى (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة) أي: يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، مُعذّباً بحمله وثِقَله، ومَرعُوباً بصوته، ومُوَبَّخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد.

وهذه الفضيحة التي يُوقعها الله تعالى بالغالّ نظيرُ الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن يُنصب له لِواء عند استه بقدر غَدْرَته، وجعل الله تعالى هذه المعاقبَات حَسْبَما يَعْهَدَهُ البَشرَ ويَفْهَمُونه

ب- عن ابْن عُمَر. قَالَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ) رواه مسلم.

ج- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ) متفق عليه.

ص: 402

د-وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قَالَ (كَانَ عَلَى ثَقَل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((هُوَ في النَّارِ)) فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْه، فَوَجَدُوا عَبَاءةً قَدْ غَلَّهَا) رواه البخاري.

هـ- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَباً وَلَا وَرِقاً غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي وَمَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لَهُ وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُلُّ رَحْلَهُ فَرُمِىَ بِسَهْمٍ فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ فَقُلْنَا هَنِيئاً لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَلاَّ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَاراً أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ». قَالَ فَفَزِعَ النَّاسُ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ). رواه مسلم

و-وعن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ (لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَلاَّ إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي

النَّاسِ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ». قَالَ فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ «أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ) رواه مسلم.

• والغلول ذنب عظيم ولو كان شيئاً يسيراً.

عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ (أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودَ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ). رواه أبو داود

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الغلول يمنع من إطلاق الشهادة على الغالّ؛ فلا يستحق بذلك غفران كل الذنوب.

قال النووي رحمه الله: الغُلُول يَمْنَع مِنْ إِطْلَاق اِسْم الشَّهَادَة عَلَى مَنْ غَلَّ إِذَا قُتِل.

قال القاري رحمه الله: وفِيهِ بَحْثٌ، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ شَهَادَتِهِ، كَيْفَ وَقَدْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهِيدِ ألّا يَكُونُ عَلَيْهِ ذَنَبٌ أَوْ دَيْنٌ بِالْإِجْمَاع. (مرقاة المفاتيح).

ص: 403

وقد يقال: إن الغلول يحرم الشهيد من الوصول إلى مقام الشهادة العليا، والذي به يُغفر له كل الذنوب، وإن كان لا يحرمه من أصل الشهادة وفضيلتها.

- الغال جزاؤه يحرق رحله كله (كالأواني، وشداد البعير، والسرج، والمِقود) إلا السلاح والمصحف وما فيه روح.

هذا المذهب.

لحديث عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ). رواه أبو داود (وضعفه أبو داود والبيهقي والحافظ)

أَمَّا الْمُصْحَفُ، فَلَا يُحَرَّقُ؛ لِحُرْمَتِهِ.

وما فيه روح: كالبعير والفرس، فاَلْحَيَوَانُ لَا يُحَرَّقُ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا، وَلِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَتَاعِ الْمَأْمُورِ بِإِحْرَاقِهِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يحرق متاعه.

وهذا قول جماهير العلماء.

قال القرطبي: وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ وَاللَّيْثِ: لَا يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ.

وقال النووي: وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَة عُقُوبَة الْغَالّ. فَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء وَأَئِمَّة الْأَمْصَار: يُعَزَّر عَلَى حَسَب مَا يَرَاهُ الْإِمَام، وَلَا يُحَرَّق مَتَاعه، وَهَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهم.

أ- لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَرِّقْ مَتَاعَ الرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَ الشَّمْلَةَ، وَلَا أَحْرَقَ مَتَاعَ صَاحِبِ الْخَرَزَاتِ الَّذِي تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ حَرْقُ مَتَاعِهِ وَاجِبًا لَفَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. (التفسير).

ب- وَلِأَنَّ إحْرَاقَ الْمَتَاعِ إضَاعَةٌ لَهُ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.

ص: 404

‌فائدة:

اختار ابن تيمية: أن ذلك راجع إلى رأي الإمام.

‌فائدة:

ما حكم من تاب من الغلول؟

‌الحال الأولى: أن يتوب قبل القسمة، فيجب رده.

قال ابن قدامة: إذَا تَابَ الْغَالُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، رَدَّ مَا أَخَذَهُ فِي الْمُقْسَمِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّهُ إلَى أَهْلِهِ.

‌الحال الثانية: فَإِنْ تَابَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ:

فَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ خُمُسَهُ إلَى الْإِمَامِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي.

وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْرِفُ لِلصَّدَقَةِ وَجْهًا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْغَالِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا أَقْبَلُهُ مِنْك، حَتَّى تَجِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وَلَنَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا.

وَلِأَنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ لَهُ، وَتَعْطِيلٌ لِمَنْفَعَتِهِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَلَا يَتَخَفَّفُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ إثْمِ الْغَالِّ.

وَفِي الصَّدَقَةِ نَفْعٌ لِمَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمَسَاكِينِ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ أَجْرِ الصَّدَقَةِ يَصِلُ إلَى صَاحِبِهِ، فَيَذْهَبُ بِهِ الْإِثْمُ عَنْ الْغَالِّ، فَيَكُونُ أَوْلَى. (المغني)

قال النووي: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ رَدّ مَا غَلَّهُ، فَإِنْ تَفَرَّقَ الْجَيْش وَتَعَذَّرَ إِيصَال حَقّ كُلّ وَاحِد إِلَيْهِ فَفِيهِ خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ:

قَالَ الشَّافِعِيّ وَطَائِفَة: يَجِب تَسْلِيمه إِلَى الْإِمَام أَوْ الْحَاكِم كَسَائِرِ الْأَمْوَال الضَّائِعَة.

وَقَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة وَالْحَسَن وَالزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِك وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور: يَدْفَع خُمُسه إِلَى الْإِمَام وَيَتَصَدَّق بِالْبَاقِي.

ص: 405

(وإِذَا غَنِمُوا أَرْضاً فَتَحُوهَا بالسَّيْفِ خُيِّرَ الإِمَامُ بَيْنَ قَسْمِهَا وَوَقْفِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ويضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجَاً مُسْتَمِرّاً يُؤْخَذُ مِمَّن هِي بِيَدِه).

إذا غنم المسلمون أرضاً، وأخذوها قهراً بالسيف، فإن الإمام يخيّر بين أمرين:

الأول: أن يقسمها بين الغانمين.

كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر.

الثاني: أن يوقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجاً سنوياً يؤخذ ممن هي بيده ولا يملكها أحد.

كما فعل عمر حين فتح الشام ومصر فأوقفها على المسلمين.

قال ابن قدامة:. . . فَإِنْ فُتِحَ عَنْوَةً فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ، أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَتِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ، وَبَيْنَ وَقَفَّيْتهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حُجَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ نِصْفَ خَيْبَرَ، وَوَقَفَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ وَوَقَفَ عُمَرُ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ وَسَائِرَ مَا فَتَحَهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَسَمَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي افْتَتَحُوهَا.

لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فِي خَيْبَرَ.

وَلِأَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَوْلَا آخِرُ النَّاسِ لَقَسَمْت الْأَرْضَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ.

فَقَدْ وَقَفَ الْأَرْضَ مَعَ عِلْمِهِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا، كَيْفَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ وَقَفَ نِصْفَ خَيْبَرَ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْغَانِمِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْفُهَا.

(المغني).

‌فائدة:

وهذا التخيير تخيير مصلحة وليس تخيير تَشَهٍّ؛ وذلك للقاعدة التي سبقت (أن من خُيِّر بين شيئين ويتصرف لغيره وجب عليه فعل الأصلح، وإن كان لنفسه فله أن يعدل إلى الأسهل سواء كان أصلح أو غير أصلح)،

قال ابن قدامة:. . . إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ الْمُفَوَّضَ إلَى الْإِمَامِ اخْتِيَارُ مَصْلَحَةٍ، لَا اخْتِيَارُ تُشَهِّ فَيَلْزَمُهُ فِعْلُ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ، كَالْخِيَرَةِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ فِي الْأَسْرَى.

ص: 406

‌بَابُ عَقْدِ الذِّمة وأحكَامِهَا

الذمة لغة: العهد.

وشرعاً: إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية، والتزام أحكام الملة في ديارنا.

والأصل فيها قوله تعالى (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ

الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

وفي حديث بُرَيْدَة. قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ خَيْراً، ثُمَّ قَالَ: "اُغْزُوا بِسْمِ اَللَّهِ، فِي سَبِيلِ اَللَّهِ، قَاتِلُوا مِنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدُرُوا،. . . وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ،. . . فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ اَلْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ. . .) رواه مسلم.

ص: 407

(لَا يُعْقَدُ لغَيْرِ المجُوسِ وَأَهْلِ الكِتَابَيْنِ وَمَنْ تَبِعَهُم).

أي: لا يعقد الإمام أو نائبه الذمة إلا لأصناف ثلاثة: اليهود، والنصارى، والمجوس.

أما اليهود والنصارى فللآية السابقة (. . . وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

وأما المجوس: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم.

عن عَبْد الرَّحْمَن بْنُ عَوْف (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَر) رواه البخاري.

وهذا المذهب.

وبهذا قال الشافعية، وهو قول ابن حزم.

فلا تؤخذ من غيرهم، ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل، لحديث ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فدل على وجوب مقاتلة جميع الناس، وخص منهم أهل الكتاب بنص القرآن، والمجوس بالسنة، فيبقى سائر الكفار على عموم الحديث، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل.

قال ابن قدامة: مَنْ سِوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، وَلَا يُقَرُّونَ بِهَا، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا، هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس ومشركي العجم خاصة دون مشركي العرب.

وهذا قول الحنفية.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار دون استثناء.

وهذا قول المالكية، واختيار ابن تيمية، وابن القيم.

ص: 408

قال القرطبي: وقال الأوزاعي: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن، أو نار، أو جاحد، أو مكذب، كذلك مذهب مالك.

أ- لحديث بريدة السابق (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ

).

وجه الدلالة: أن لفظ المشركين يعم الكفار جميعاً، من اليهود، والنصارى، والمجوس، وعباد الأوثان من العرب وغيرهم.

قال ابن القيم: وفي هذا الحديث أنواع من الفقه

منها: أن الجزية تؤخذ من كل كافر؛ هذا ظاهر الحديث ولم يستثن منه كافرًا من كافر

ب- ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر كما تقدم.

والله أعلم.

(لا يَعقِدُها إلا إمامٌ أو نائبُهُ).

أي: أن عقد الذمة لا يصح أن يتولاه إلا الإمام أو نائبه.

أ-لأنه عقد مُؤبّد فلا يُفتأت على الإمام فيه. (الروض المربع).

ب- ولِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ. (المغني).

‌فائدة: 1

وهذا من الفروق بين عقد الذمة والأمان.

فعقد الذمة لا يعقد إلا الإمام أو نائبه، أما الأمان فيجوز من كل مسلم.

ومن الفروق:

أن عقد الذمة تكون مدتها طويلة، أما الأمان فمدته قصيرة.

لأن الأمان أن يعطي المسلم الكافر أماناً لدخول بلاد المسلمين، لتجارة، أو زيارة قريب ونحو ذلك.

(وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صبَيّ وَلَا امْرَأةٍ ولَا عَبْدٍ، وَلَا فَقِيرٍ يَعْجزُ عَنْهَا).

الجزية: هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام. (المغني).

فالجزية تكون على عموم الكفار، لكن يستثنى من ذلك:

الصبي، والمرأة، والعبد، والفقير العاجز.

ص: 409

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ (بَعَثَنِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى اَلْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَاراً، أَوْ عَدْلَهُ معافرياً) أَخْرَجَه أبو داود.

قال ابن قدامة: قَوله (وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ، وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ، وَلَا امْرَأَةٍ).

لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا.

وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ.

وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا:

أ- أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، أَنْ اضْرِبُوا الْجِزْيَةَ، وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلَا تَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي رَوَاهُ سَعِيدٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَثْرَمُ.

ب- وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ (خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ بَالِغٍ.

ج- وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ لِحَقْنِ الدَّمِ، وَهَؤُلَاءِ دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ بِدُونِهَا. (المغني).

وقال القرطبي: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين، لأنه تعالى قال (قَاتِلُوا الَّذِينَ) إلى قوله (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل. ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلاً، لأنه لا مال له، ولأنه تعالى قال (حَتَّى يُعْطُوا) ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي. وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني. (تفسير القرطبي).

(ولَا عَبْدٍ)

فالعبد لا جزية عليه.

لأنه لا مال له، فلا يملك.

وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ الْعَبْدَ إنَّمَا يُؤَدِّيه سَيِّدُهُ، فَيُؤَدِّي إيجَابُهُ عَلَى عَبْدِ الْمُسْلِمِ إلَى إيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَى مُسْلِمٍ.

ص: 410

(وَلَا فَقِيرٍ يَعْجزُ عَنْهَا).

فالفقير العاجز عن أدائها لا تجب عليه جزية.

أ- لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا).

ب- وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ يَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ، كَالزَّكَاةِ وَالْعَقْلِ.

فائدة:

قال ابن قدامة: وَلَا شَيْخٍ فَانٍ، وَلَا زَمِنٍ، وَلَا أَعْمَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِمَّنْ بِهِ دَاءٌ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْقِتَالَ، وَلَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ.

وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ بِنَاءً عَلَى قَتْلِهِمْ.

وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُنَا فِي أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

(وَمَن صَار أهْلاً لَهَا أُخِذَتْ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ).

أي: كصبي بلغ، وعبد عتق، وفقير اغتنى، فإنها تؤخذ منه في آخر الحول بالحساب. (أي: بمقدار ما بقي من الحول، إن نصفاً فنصف، أو ربعاً فربع).

(وَمَتَى بَذَلُوا الوَاجِبَ عَلَيْهِمْ وَجَبَ قَبُولُهُ وَحَرُمُ قِتَالُهُمْ).

أي: إذا تم عقد الذمة، وبذل الكفار الجزية، فإنه حينئذ يحرم قتالهم.

أ- لحديث بريدة السابق (

فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ اَلْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُم).

فهذا الحديث نص في وجوب الكف عن قتال أهل الحرب إذا استجابوا إلى الالتزام بأداء الجزية.

ب- قال تعالى (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

فهذه الآية تنص على أن الغاية التي ينبغي عندها وقف القتال ضد الكفار هي إعطاؤهم الجزية.

ص: 411

قال القرطبي: جَعَل للقتال غاية، وهي إعطاء الجزية بدلاً عن القتل.

وقال ابن قدامة: جعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم، فمتى بذلوها لم يجُز قتالهم.

ج- وجاء في صحيح البخاري. أن المغيرة بن شعبة قال لعامل كسرى بين يدي معركة نهاوند في بلاد فارس (

فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نَقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُم).

فهذا الحديث ينص على الأمر بقتال الكفار إلى أن يصيروا إلى أحد أمرين: إما عبادة الله وحده، أي: الدخول في الإسلام، وإما أن يؤدوا الجزية.

قال ابن قدامة: إذا بذلوا الجزية لزم قبولها، وحرم قتالهم.

(وتؤخذُ منهم مُمْتهنين مُصغّرين).

أي: عند أخذ الجزية من الكفار، فإنهم يهانون ولا يكرمون

لقوله تعالى (حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

واختلف العلماء في معنى (عن يدٍ وهم صاغرون).

قال ابن عثيمين: قوله تعالى (عَنْ يَدٍ).

قيل: معناها أن يعطوكم الجزية يداً بيد، بمعنى أن الواحد منهم يأتي ويسلم الجزية بيده لا يعطيها خادمه، ويقول له: اذهب بها إلى السلطان أو نائب السلطان، لا، هو بنفسه يأتي بها؛ لأن هذا أذل له مما لو أرسل بها خادمه.

وقيل: (عن يد) أي عن قوة منكم عليهم، بمعنى أننا نظهر أننا أقوياء أمامهم حتى يذلوا؛ لأنه كلما قوي الإنسان على عدوه ازداد العدو ذلًّا.

والآية تصلح للمعنيين جميعاً، فهي بمعنى أن الواحد منهم يأتي بها ويسلمها بيده، وأن نريه القوة والبأس حتى يكون ذلك أذل له.

وقوله تعالى (وهم صاغرون).

ص: 412

قال بعض العلماء: يطال وقوفهم، وتجر أيديهم إذا أتوا بالجزية.

وقال بعض العلماء: لا يعاملون هذه المعاملة، بل يعاملون بالصغار دون أن يطال وقوفهم ودون أن تجر أيديهم، بل تستلم منهم استلاماً عادياً بشرط ألاّ نظهر إكرامهم، ويكفينا أن يأتوا بها إلينا.

‌فائدة:

كم مقدار الجزية؟

ذهب بعض العلماء إلى أن أقلها دينار.

وذهب بعض العلماء إلى أن الجزية غير مقدرة، بل يرجع فيها إلى رأي الإمام.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ - نَقَلَهَا عَنْهُ الأْثْرَمُ -: أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْجِزْيَةِ إِلَى الإْمَامِ، فَلَهُ أَنْ يُزِيدَ وَيُنْقِصَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَعَلَى مَا يَرَاهُ.

وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا قَال الْمِرْدَاوِيُّ فِي الإْنْصَافِ، وَقَال الْخَلاَّل: الْعَمَل فِي قَوْل أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلإْمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيُنْقِصَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ، فَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ.

وَهَذَا قَوْل الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) فَلَفْظُ الْجِزْيَةِ فِي الآْيَةِ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهِ، غَيْرَ أَنَّ الإْمَامَ لَمَّا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَهْل الذِّمَّةِ عَقْدًا عَلَى الْجِزْيَةِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأِنَّ تَصَرُّفَ الإْمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.

ص: 413

وَلأِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا وَصَالَحَ أَهْل نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ.

وَجَعَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ضِعْفِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الزَّكَاةِ.

فَهَذَا الاِخْتِلَافُ يَدُل عَلَى أَنَّهَا إِلَى رَأْيِ الِإمَامِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَلِفَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْل الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْل الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَال: جُعِل ذَلِكَ مِنْ أَجَل الْيَسَارِ.

وَلأِنَّ الْمَال الْمَأْخُوذَ عَلَى الأْمَانِ ضَرْبَانِ: هُدْنَةٌ وَجِزْيَةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ هُدْنَةً إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةً.

(ويجوزُ شرطُ ضيافةِ المارِّ بهم من المسلمين).

أي: ويجوز أن يشترط الإمام على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين.

أ- لما روى نافع عن أسلم مولى عمر أنه جاء في كتاب عمر إلى أمراء أهل الجزية (. . . ويُضَيّفونَ من نزل بهم من أهل الإسلام ثلاثة أيام) رواه البيهقي.

ب- وعَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ عُمَرَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.

قال ابن قدامة: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ: تَجِبُ (يعني الضيافة) بِغَيْرِ شَرْطٍ، كَوُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ أَدَاءُ مَالٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، كَالْجِزْيَةِ. (المغني).

ص: 414

‌فَصْلٌ

(وَيَلْزَمُ الإِمَامَ أخْذُهُمْ بِحُكْمِ الإِسْلَامِ فِي النَّفْسِ والمَالِ والعِرْضِ).

أي: يجب على الإمام أن يطبق على أهل الذمة أحكام الإسلام في النفس والمال والعرض.

في النفس: إذا قتلوا أحداً قتلناهم، وإذا قتلهم مثلهم قتلناه، وإن قتلهم مسلم لا نقتله.

في المال: إذا أتلفوا مال مسلم ضَمَّناهم، وإن أتلف مسلم مالهم ضَمَّناه؛ لأن هذا مقتضى حكم الإسلام أن متلف المال ضامن سواء كان مسلماً أو كافراً.

في العرض: إذا اغتابوا أحداً من المسلمين أو قذفوا أحداً من المسلمين ألزموا بما يقتضيه الإسلام في هذا الأمر.

أ-عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ فُلَانٌ فُلَانٌ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ) متفق عليه.

ب- وعن ا بْنَ عُمَر (أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا فأمِر بهما فرجما) متفق عليه.

(وَإِقَامَةِ الحُدُودِ عَلَيْهِمْ فيِمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيْمَهُ دُونَ مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ).

أي: ويجب على الإمام إقامة الحدود على أهل الذمة إذا فعلوا أمراً يعتقدون تحريمه مما هو حرام عند المسلمين.

فلو زنا أحدهم أو سرق، فإنه يقام عليه الحد كما يقام على المسلم.

- وقوله (دون ما يعتقدون حله) مثل الخمر، فالخمر يعتقد أهل الكتاب أنه حلال، فإذا جيء إلينا بسكران من أهل الذمة فإننا لا نقيم عليه حد الخمر، حتى وإن قلنا: إن عقوبة شارب الخمر حد فإننا لا نقيم عليه الحد؛ لأنه يعتقد حله، والذي يعتقد حل الشيء كيف يعاقب عليه؟! لكن سيأتي أنهم يمنعون من إظهار شرب الخمر، فإن أظهروا ذلك فإننا نعزِّرهم بما يردعهم. (الشرح الممتع).

ص: 415

(وَيَلْزَمُهُمُ التَّمَيُّزُ عَنِ المُسْلِمِيْنَ).

أي: ويلزم أهل الذمة أن لا يتشبهوا بالمسلمين، بل يتميزوا عنهم في الحياة والممات.

في الممات: فيلزم أن تكون قبورهم منفردة عن المسلمين، فلا يقبرون مع المسلمين.

وأما في الحياة، فقال قال ابن قدامة:

ويلزمهم التميز عن المسلمين في أربعة أشياء: لباسهم، وشعورهم، وركوبهم، وكناهم.

في لباسهم: لما روى إسماعيل بن عياش عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر.

ولا يمنعون من لبس فاخر الثياب، والطيلسان لأن التميز حصل بما ذكرناه.

وأما التميز في الشعور: فبأن يحذفوا مقاديم رؤوسهم ولا يفرقون شعورهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره.

وأما التميز في الركوب: فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز، ولهم ركوب ما سواها على غير السروج.

لا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم و أبي بكر و أبي عبد الله ونحوها، ولا يمنعون من الكنى بالكلية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأسقف نجران: [أسلم أبا الحارث] و قال عمر لنصراني: يا أبا حسان أسلم تسلم.

(الكافي).

(وَلَهُمْ رَكُوبُ غَيْرِ خَيلٍ).

كالحمير والإبل.

فلا يركبون الخيل: لما فيها من العز والشرف.

(وحَرُمَ تعظيمُهُم).

كتصديرهم في المجالس، والقيام لهم.

ص: 416

(وبداءَتُهُم بالسلامِ).

أي: ويحرم أن يُبدأون بالسلام.

أ- عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَبْدَؤُوا اَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ) رَوَاهُ مُسْلِم.

ففي هذا الحديث تحريم ابتداء الكافر بالسلام.

وهذا قول جمهور العلماء.

ومما يدل على تحريم ذلك أيضاً:

ب- وعن أَبَي بصْرَة قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّا غَادُونَ إِلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُم) رواه أحمد

ج- وحديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم.

فقوله (بينكم) يعني على المسلمين.

قال الحافظ ابن حجر في الاستدلال بالحديث: المسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي مودته ومحبته.

قال ابن القيم: قَدْ اخْتَلَفَ السّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَبْدَءُونَ بِالسّلَامِ.

قال النووي: واختَلَفَ الْعُلَمَاء فِي رَدّ السَّلَام عَلَى الْكُفَّار وَابْتِدَائِهِمْ بِهِ، فَمَذْهَبنَا تَحْرِيم اِبْتِدَائِهِمْ بِهِ، وَوُجُوب رَدّه عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَقُول: وَعَلَيْكُمْ، أَوْ عَلَيْكُمْ فَقَطْ، وَدَلِيلنَا فِي الِابْتِدَاء قَوْله صلى الله عليه وسلم (لَا تَبْدَءُوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ) وَفِي الرَّدّ قَوْله صلى الله عليه وسلم (فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ) وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَذْهَبنَا قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء وَعَامَّة السَّلَف.

وقال في الأذكار: وأما أهل الذمة فاختلف أصحابنا فيهم، فقطع الأكثرون بأنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام.

- فإن قيل: ما الجواب عن قوله تعالى في قصة إبراهيم (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)؟

الجواب:

قال القرطبي: والجمهور على أن المراد بسلامه: المسالمة التي هي المتاركة لا التحية.

ص: 417

-‌

‌ والحكمة من النهي:

لأن السلام نوع إكرام، والكافر ليس أهلاً لذلك.

ولأن السلام أيضاً يستدعي المودة والمحبة، والمسلم مأمور بمعاداة الكافر.

‌فائدة: 1

هل يشرع الرد على الكافر إذا سلم؟

نعم يشرع.

أ-لعموم قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية

).

ب-ولعموم الأدلة الدالة على مشروعية رد السلام.

ج- ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُم) متفق عليه.

قال ابن القيم: وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الرّدّ عَلَيْهِمْ:

فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ وَهُوَ الصّوَابُ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَجِبُ الرّدّ عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَوْلَى.

وَالصّوَابُ الْأَوّلُ وَالْفَرْقُ أَنّا مَأْمُورُونَ بِهَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ تَعْزِيرًا لَهُمْ وَتَحْذِيرًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذّمّة.

ص: 418

‌فائدة: 2

كيفية الرد على أهل الكتاب.

إذا قال أحدهم (السام عليكم) -أي: الموت عليكم-، أو لم يظهر لفظ السلام واضحاً من كلامه: فإننا نجيبه بقولنا: وعليكم.

لِما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقل: عليك) متفق عليه

فإذا تحققنا من سلام الكفار علينا باللفظ الشرعي، فإن ابن القيم يرى أنه يرد بالرد الشرعي.

قال ابن القيم رحمه الله: فلو تحقق السامع أن الذمي قال له (سلام عليكم) لا شك فيه، فهل له أن يقول وعليك السلام أو يقتصر على قوله وعليك؟

فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية، وقواعد الشريعة: أن يقال له: (وعليك السلام) فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان

ولا ينافي هذا شيئاً مِن أحاديث الباب بوجه ما، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاقتصار على قول الرادّ "وعليكم" بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها، فقال: ألا ترَيْنني قلت وعليكم لمّا قالوا السام عليكم، ثم قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم.

وقال بعض العلماء: بل يقال: وعليكم.

قال النووي:. . . لَكِنْ لَا يُقَال لَهُمْ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَام، بَلْ يُقَال: عَلَيْكُمْ فَقَطْ، أَوْ وَعَلَيْكُمْ. وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرهَا (مُسْلِم)(عَلَيْكُمْ)(وَعَلَيْكُمْ) بِإِثْبَاتِ الْوَاو وَحَذْفهَا، وَأَكْثَر الرِّوَايَات بِإِثْبَاتِهَا، وَعَلَى هَذَا فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ:

أَحَدهمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره، فَقَالُوا: عَلَيْكُمْ الْمَوْت، فَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاء، وَكُلّنَا نَمُوت.

وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاو هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيك، وَتَقْدِيره: وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الذَّمّ. وَأَمَّا حَذْف الْوَاو فَتَقْدِيره بَلْ عَلَيْكُمْ السَّام. قَالَ الْقَاضِي: اِخْتَارَ بَعْض الْعُلَمَاء مِنْهُمْ اِبْن حَبِيب الْمَالِكِيّ حَذْف الْوَاو لِئَلَّا يَقْتَضِي التَّشْرِيك، وَقَالَ غَيْره: بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات. قَالَ: وَقَالَ بَعْضهمْ: يَقُول: عَلَيْكُمْ السِّلَام بِكَسْرِ السِّين أَيْ الْحِجَارَة، وَهَذَا ضَعِيف. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَامَّة الْمُحَدِّثِينَ يَرْوُونَ هَذَا الْحَرْف (وَعَلَيْكُمْ) بِالْوَاوِ، وَكَانَ اِبْن عُيَيْنَةَ يَرْوِيه بِغَيْرِ وَاو. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ (الْوَاو) صَارَ كَلَامهمْ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ خَاصَّة، وَإِذَا ثَبَتَ (الْوَاو) اِقْتَضَى الْمُشَارَكَة مَعَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ. هَذَا كَلَام الْخَطَّابِيِّ. وَالصَّوَاب أَنَّ إِثْبَات الْوَاو وَحَذْفهَا جَائِزَانِ كَمَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَات، وَأَنَّ الْوَاو أَجْوَد كَمَا هُوَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات، وَلَا مَفْسَدَة فِيهِ، لِأَنَّ السَّام الْمَوْت، وَهُوَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَلَا ضَرَر فِي قَوْله بِالْوَاوِ.

ص: 419

‌فائدة: 3

ما الحكم إذا مر واحد على جماعة فيهم مسلمون، أو مسلم وكفار؟

فالسنة أن يسلم عليهم يقصد المسلمين أو المسلم.

عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حجر: يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار وينوي حينئذ بالسلام المسلمين.

‌فائدة: 4

ما حكم ابتداء الكافر بتحية غير السلام؟

‌اختلف العلماء بابتداء الكافر بتحية غير السلام، كقول: مرحباً، أهلاً ونحوها:

‌القول الأول: لا يجوز.

وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن عثيمين.

لحديث (لَا تَبْدَؤُوا اَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَام

).

فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بدئهم بالسلام، والتحية جنس يشمل السلام وغيره، فالنهي عن السلام نهي عن جنسه، قال الإمام أحمد: وهذا عندي أكثر من السلام.

‌القول الثاني: يكره.

وهذا قول الحنفية.

للحديث السابق، وحملوا النهي على الكراهة.

ص: 420

‌القول الثالث: يجوز مع الحاجة.

وهذا قول الشافعية.

‌القول الرابع: يجوز.

وهذا اختيار ابن تيمية.

لأنه لم يرد نهي في التحية، بل أحاديث النهي هي في السلام الذي هو من خواص هذه الأمة، فتبقى بقية التحايا على أصلها من الإباحة.

والله أعلم.

‌فائدة: 5

ماذا نستفيد من قوله (وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)؟

نستفيد أن الكتابي إذا قابل المسلم في الطريق، فإن المسلم لا يفسح له، لأن هذا من إكرامه، بل يلجئه إلى أضيق الطريق، ويكون

وسط الطريق وسعته للمسلم، وهذا مقيد عند العلماء بقيدين:

الأول: أن هذا عند الزحام، فيركب المسلمون صدر الطريق، ويكون الذمي في أضيقه.

الثاني: أن هذا التضييق مقيد بحيث لا يقع الذمي في ضرر، كأن يقع في حفرة أو يصدمه جدار ونحوه. (منحة العلام).

(وإنْ تعدَّى الذمي على مسلمٍ، أو ذكر اللهَ، أو كتابَه، أو رسولَه بسوءٍ انتقض عهدهُ، فيُخيّرُ الإمام فيه كأسيرٍ الحربي).

أي: إذا فعل شيئاً من هذه الأمور فقد انتقض عهده وحلً دمه وماله.

أن يعتدي على مسلم: بقتل، أو بزنا، أو لواط، أو بقطع طريق، أو إيواء جاسوس ونحو ذلك.

أن ينال شيئاً من دين الإسلام بسوء، كما لو سبّ أو سخر بالله أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالقرآن، أو أهان القرآن.

وكذا لو لم يلتزم بدفع الجزية، أو لم يلتزم بأحكام الإسلام.

ص: 421

عن علي (أن يهوديةً كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم دمها) رواه أبو داود.

وقيل لابن عمر (إن راهباً يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعط الأمان على هذا).

فإذا انتقض عهده، صار حربياً (فلا عصمة لدمه ولا لماله)، ويخيّر فيه الإمام بين أربعة أشياء:

إما القتل، أو الاسترقاق، أو المنّ بدون فداء، أو المنّ بفداء.

قال ابن قدامة: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أُسِرَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:

أَحَدُهَا: النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ.

فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَيَصِيرُونَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ السَّبْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَانَ عليه السلام يَسْتَرِقُّهُمْ إذَا سَبَاهُمْ.

الثَّانِي: الرِّجَالُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس الَّذِينَ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ.

فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِمْ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْقَتْلُ، وَالْمَنُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْمُفَادَاةُ بِهِمْ، وَاسْتِرْقَاقُهُمْ.

وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ:

قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً).

وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَأَبِي عَزَّةَ الشَّاعِرِ، وَأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ.

وَقَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ سَأَلَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَي، لَأَطْلَقْتهمْ لَهُ.

وَفَادَى أُسَارَى بَدْرٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةٍ.

وَفَادَى يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ، وَصَاحِبَ الْعَضْبَاءِ بِرَجُلَيْنِ.

ص: 422

وَأَمَّا الْقَتْلُ:

فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَهُمْ بَيْنَ السِّتِّمِائَةِ وَالسَّبْعِمِائَةِ.

وَقَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، صَبْرًا.

وَقَتَلَ أَبَا عَزَّةَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَذِهِ قَصَصٌ عَمَّتْ وَاشْتَهَرَتْ، وَفَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّاتٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهَا.

وَلِأَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ قَدْ تَكُونُ أَصْلَحَ فِي بَعْضِ الْأَسْرَى، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَنِكَايَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَبَقَاؤُهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، فَقَتْلُهُ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ الضَّعِيفُ الَّذِي لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَفِدَاؤُهُ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ حَسَنُ الرَّأْيِ فِي الْمُسْلِمِينَ، يُرْجَى إسْلَامُهُ بِالْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْ مَعُونَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَخْلِيصِ أَسْرَاهُمْ، وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ، فَالْمَنُّ عَلَيْهِ أَصْلَحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْتَفَعُ بِخِدْمَتِهِ، وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، فَاسْتِرْقَاقُهُ أَصْلَحُ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالْإِمَامُ أَعْلَم.

(المغني).

‌فائدة:

هل هذا التخيير تخيير مصلحة أو تخيير تشهي؟

تخيير مصلحة.

والقاعدة: أن من خُيِّر بين شيئين ويتصرف لغيره وجب عليه فعل الأصلح، وإن كان لنفسه فله أن يعدل إلى الأسهل سواء كان أصلح أو غير أصلح.

مثال: من عليه كفارة يمين فهو مخير بين أيها شاء: عتق رقبة أو الكسوة أو الإطعام، حتى لو اختار الأقل، وهو الإطعام ـ في الغالب ـ فله ذلك.

ومثال تخيير المصلحة: إذا قيل لولي اليتيم: بع مال اليتيم، أو ضارب به، فيجب يختار الأصلح.

وقوله تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ)، فهذا التخيير تخيير مصلحة على القول بأن الآية للتخيير.

ص: 423

‌فصل في الهدنة

الهدنة: مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره.

(وتجوز مهادنةُ الكفار، إذا رأى الإمامُ المصلحةَ فيها).

أي: أنه تجوز الهدنة مع الكفار إذا كان فيها مصلحة للمسلمين.

عَنْ اَلْمِسْوَرِ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَمَرْوَانُ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ اَلْحُدَيْبِيَةِ.

فَذَكِّرْ اَلْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: " هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِوٍ: عَلَى وَضْعِ اَلْحَرْبِ عَشْرِ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا اَلنَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.

وَأَصْلِهِ فِي اَلْبُخَارِي.

وَأَخْرُجَ مُسْلِمٍ بَعْضِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيه (أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدْهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا. فَقَالُوا: أَنَكْتُبُ هَذَا يَا رَسُولُ اَللَّهُ? قَالَ: "نَعَمْ. إِنَّهُ مِنْ ذَهَبٍ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اَللَّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ، فَسَيَجْعَلُ اَللَّهُ لَهُ فَرَجاً وَمُخْرِجاً).

عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ (لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ. وَلَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ).

قال النووي: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث: دَلِيل لِجَوَازِ مُصَالَحَة الْكُفَّار إِذَا كَانَ فِيهَا مَصْلَحَة، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ عِنْد الْحَاجَة،

وقال ابن قدامة: وَمَعْنَى الْهُدْنَةِ، أَنْ يَعْقِدَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَقْدًا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً، بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ.

وَتُسَمَّى مُهَادَنَةً وَمُوَادَعَةً وَمُعَاهَدَةً، وَذَلِكَ جَائِزٌ.

بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ).

وَقَالَ سبحانه وتعالى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا).

وَرَوَى مَرْوَانُ، وَمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ، سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ).

وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، فَيُهَادِنُهُمْ حَتَّى يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ.

ص: 424

‌مباحث:

‌مبحث: 1

لابد أن يكون في الهدنة مصلحة للمسلمين.

قال ابن قدامة: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا لِلنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمْ ضَعْفٌ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَطْمَعَ فِي إسْلَامِهِمْ بِهُدْنَتِهِمْ، أَوْ فِي أَدَائِهِمْ الْجِزْيَةَ، وَالْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ.

وقال ابن حجر: قوله تعالى (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) جنحوا طلبوا السلم فاجنح لها، أي: أن هذه الآية دالة على مشروعية

المصالحة مع المشركين؛ وتفسير جنحوا بطلبوا هو للمصنف

ثم قال: ومعنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظ للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهراً على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا. (الفتح).

‌مبحث: 2

الجمع بين قوله تعالى (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) وبين الآيات الداعية لقتال الكفار كقوله تعالى (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ)؟

لا تعارض بين الآيات، لأن الآيات الآمر بقتال الكفار، تحمل على أن بالمسلمين قوة ولا مصلحة في الصلح، والآيات التي فيها مصالحة تحمل على حال القلة والضعف والحاجة.

قال ابن كثير: (وَإِنْ جَنَحُوا) أي: مالوا (لِلسَّلْمِ) أي: المسالمة والمصالحة والمهادنة، (فَاجْنَحْ لَهَا) أي: فمل إليها، واقبل منهم ذلك؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين؛ أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر.

ص: 425

وقول ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) فيه نظر أيضًا، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفًا، فإنه تجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم. (التفسير)

وقال الجصاص: وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها فحكم حكم ثابت أيضاً، وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين، فالحال التي أمر فيها بالمسألة هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين وقوتهم على عدوهم، وقد قال تعالى (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم) فنهى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو وقتلهم.

‌مبحث: 3

لا تجوز المهادنة مطلقاً دائماً.

قال ابن قدامة:. . . فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُهَادَنَةُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَرْكِ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ.

‌مبحث: 4

واختلف العلماء في مقدار المدة:

فقيل: لا يجوز أكثر من عشر سنين.

لِمُصَالَحَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرًا، فَفِيمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ.

وقيل: يجوز أكثر من عشر سنين لكن تحدد المدة.

ص: 426

وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.

لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ فِي الْعَشْرِ، فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْعَامُّ مَخْصُوصٌ فِي الْعَشْرِ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الصُّلْحِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الْحَرْبِ.

جاء في (الموسوعة الفقهية): يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُوَادَعَةُ أَهْل الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، كَمَا وَادَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْل مَكَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ أَقَل مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ دُونَ تَحْدِيدٍ، مَا دَامَتْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأْعْلَوْنَ).

وَيَرَى الإْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا يُرْوَى عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. فَإِنْ هُودِنَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْهُدْنَةُ مُنْتَقَضَةٌ؛ لأِنَّ الأْصْل فَرْضُ قِتَال الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا

الْجِزْيَةَ.

‌مبحث: 5

هل تجوز مهادنتهم على غير مال؟

قال ابن قدامة: وَتَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ.

لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَادَنَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ.

وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهَا إذَا جَازَتْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَعَلَى مَالٍ أَوْلَى.

وَأَمَّا إنْ صَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ نَبْذُلُهُ لَهُمْ:

فَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا لِلْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا إنْ دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلَاكَ أَوْ الْأَسْرَ، فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَسِيرِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِالْمَالِ، فَكَذَا هَا هُنَا، وَلِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ صَغَارٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَالْأَسْرُ، وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ يُفْضِي سَبْيُهُمْ إلَى كُفْرِهِمْ. (المغني).

ص: 427

(ولا يجوزُ عقدُها إلا من الإمامِ أو نائبهِ).

لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَعَ جُمْلَةِ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.

وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.

وَلِأَنَّ تَجْوِيزَهُ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ يَتَضَمَّنُ تَعْطِيلَ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ.

وَفِيهِ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ هَادَنَهُمْ غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبُهُ، لَمْ يَصِحَّ. (المغني).

(وإن خافَ نقضَ العهدِ منهم نبذَ إليهِم عهدَهم).

أي: ومتى خاف الإمام ممن عاهدهم أن ينقضوا العهد لوجود قرائن، فإنه ينبذ إليهم عهدهم، أي: يطرحه ويلغيه، ويخبرهم بذلك قبل الهجوم عليهم.

قال تعالى (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).

(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) قد عاهدتهم.

(خِيَانَةً) أي: نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود.

(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) أي: فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم.

(عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك.

قال ابن الجوزي: في قوله تعالى (فانبذ إليهم على سواء) أي: فألقِ إليهم نقضك العهد لتكون وإياهم في العلم بالنقض سواءً، هذا قول الأكثرين.

• قال الشوكاني: قيل معنى (على سَوَاء) على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم، أو تستوي أنت وهم فيه.

ص: 428

•‌

‌ قال ابن عثيمين: وليعلم أن العهد الذي بيننا وبين الكفار له ثلاث حالات كلها في القرآن:

‌الحال الأولى: أن ينقضوا العهد هم بأنفسهم، فإذا نقضوا العهد انتقض العهد الذي بيننا وبينهم.

ومثاله: قصة قريش، لأن قريشاً نقضوا العهد حين ساعدوا حلفاءهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ ينتقض العهد.

والدليل قوله تعالى (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ).

‌الحال الثانية: أن يستقيموا لنا ولا نخاف منهم خيانة ولم نر منهم خيانة، فحينئذ يجب علينا أن نستقيم لهم.

كما قال الله تعالى (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

الحال الثالثة: أن نخاف منهم نقض العهد، فهنا لا يلزمنا أن نبقى على العهد، ولا يجوز لنا أن نقاتلهم، بل ننبذ إليهم على سواء، وإليه الإشارة في قوله تعالى (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: انبذ العهد على سواء؛ لتكون أنت وإياهم على سواء في أنه لا عهد بينكم، وهذا هو الإنصاف.

(وتجبُ الهجرةُ على من لم يقدر على إظهارِ دينهِ في دار الحرب، وتستحبُّ لمن قَدِر على ذلك).

الهجرة: لغة مفارقة بلد إلى غيره.

واصطلاحاً: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.

وقد قسم العلماء الناس في الهجرة من دار الحرب إلى ثلاثة أضرب:

من تجب عليه الهجرة.

وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه.

كهجرة الصحابة من مكة إلى الحبشة خوفاً من الفتنة، وفراراً بالدين.

ص: 429

قال ابن قدامة:. . . مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ، وَلَا تُمْكِنُهُ إقَامَةُ وَاجِبَاتِ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ بَيْنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ.

قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)).

وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ.

وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ دِينِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. (المغني)

من تستحب له الهجرة.

وهو من يقدر على الهجرة ويتمكن من إظهار دينه، فهذا يستحب له الهجرة.

ليتمكن من الجهاد، وتكثير المسلمين، والراحة من رؤية المنكر.

قال ابن قدامة:. . . مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ.

وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ، وَإِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَتُسْتَحَبُّ لَهُ.

لِيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ - وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ - وَمَعُونَتِهِمْ - وَيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ، وَمُخَالَطَتِهِمْ - وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ.

وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِإِمْكَانِ إقَامَةِ وَاجِبِ دِينِهِ بِدُونِ الْهِجْرَةِ.

(المغني).

من لا هجرة عليه.

وهو من يعجز عنها، إما لمرض، أو إكراه على الإقامة في دار الكفر، أو ضعف كالنساء والولدان.

ص: 430

قال تعالى (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً).

قال ابن قدامة: مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ.

وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ، أَوْ ضَعْفٍ؛ مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَشِبْهِهِمْ، فَهَذَا لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا).

وَلَا تُوصَفُ بِاسْتِحْبَابٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا.

(المغني).

‌فائدة:

مقاصد الهجرة:

أولاً: تكثير المسلمين.

ثانياً: أن البقاء بينهم ذريعة إلى موافقتهم.

ثالثاً: تيسير الجهاد على أهل الإسلام.

رابعاً: هجر المكان الذي يكفر فيه.

ص: 431

(ولا تنقطعُ الهجرةُ ما قُوتل العدو).

كما قال صلى الله عليه وسلم (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال (لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُو) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِي.

قال الشوكاني: قَوْلُهُ: (مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَتْ الْمُقَاتَلَةُ لِلْكُفَّارِ

فإن قيل: ما الجواب عن حديث (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلكنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفرِتُمْ فانْفِرُوا).

فالجواب: قال النووي رحمه الله: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأولوا هذا الحديث (لا هجرة بعد الفتح) بتأويلين:

أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام، فلا تتصور منها الهجرة.

الثاني: وهو الأصح، أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازاً ظاهراً انقطعت بفتح مكة، ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة، لأن الإسلام قوي وعز بعد فتح مكة عزاً ظاهراً بخلاف ما قبله.

‌فوائد عامة:

‌فائدة: 1

ما الحكمة في أكثر الآيات الآمرة بالجهاد بالنفس والمال، فيها تقديم المال على النفس؟

قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

وقال تعالى (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وقال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)

ص: 432

قال الشنقيطي: وَحَقِيقَةُ الْجِهَادِ بَذْلُ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ، وَالْمَالُ هُوَ عَصَبُ الْحَرْبِ وَهُوَ مَدَدُ الْجَيْشِ، وَهُوَ أَهَمُّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ، فَبِالْمَالِ يُشْتَرَى السِّلَاحُ، وَقَدْ تُسْتَأْجُرُ الرِّجَالُ كَمَا فِي الْجُيُوشِ الْحَدِيثَةِ مِنَ الْفِرَقِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَبِالْمَالِ يُجَهَّزُ الْجَيْشُ، وَلِذَا لَمَّا جَاءَ الْإِذْنُ بِالْجِهَادِ أَعْذَرَ اللَّهُ الْمَرْضَى وَالضُّعَفَاءَ، وَأَعْذَرَ مَعَهُمُ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَجْهِيزَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَعْذَرَ مَعَهُمُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ مَا يُجَهِّزُهُمْ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى، إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُون).

وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، قَدْ يُجَاهِدُ بِالْمَالِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ بِالسِّلَاحِ كَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزا).

وفي سؤال لفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قال فيه السائل: نجد أن الله عز وجل في كثير من آيات الجهاد يقدِّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ فما الحكمة من ذلك؟

فأجاب فضيلته بقوله: يظهر والله أعلم لأن الجيش الإسلامي قد يحتاج إلى المال أكثر من حاجته إلى الرجال؛ ولأن الجهاد بالمال أيسر من الجهاد بالنفس.

‌فائدة: 2

يشترط في الجهاد في سبيل الله أن خالصاً لله تعالى.

أ-عن أبي موسى. قَالَ: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقاتلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذلِكَ في سبيلِ الله؟ فقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا، فَهوَ في سبيلِ الله) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

ب-ولحديث أبي أُمامة، قال (جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمِسُ الأجرَ والذِّكْرَ، ما لَهُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيءَ له، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ الله لا يقبلُ من العملِ إلاَّ ما كانَ خالصاً، وابتُغي به وجهُهُ).

ج- ولحديث أبي هريرة (أنَّ رجلاً قال: يا رسول اللهِ، رجلٌ يريدُ الجِهادَ وهو يبتغي عَرَضاً مِنْ عَرَضِ الدُّنيا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجر له، فأعاد عليه ثلاثاً، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجر له) رواه أبو داود.

ص: 433

-‌

‌ فإن قيل: هل يدخل في سبيل الله إذا قصد المغنم ضمناً لا أصلاً مقصوداً؟

نعم.

وبذلك صرح الطبري فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور.

لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أمامة بإسناد جيد، قال: جاء رجل فقال يا رسول الله! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ قال: لا شيء له، فأعاده ثلاثاً كل ذلك يقول: لا شيء له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتغي به وجهه).

ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معاً على حد واحد، فلا يخالف المرجّح أولاً.

قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه.

ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي، ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم فرجعنا، ولم نغنم شيئاً، فقال: اللهم لا تكلهم إليّ

). (فتح الباري)

قال ابن رجب: فإنْ خالطَ نيَّةَ الجهادِ مثلاً نيّة غير الرِّياءِ، مثلُ أخذِ أجرة للخِدمَةِ، أو أخذ شيءٍ مِنَ الغنيمةِ، أو التِّجارة، نقصَ بذلك أجرُ جهادهم، ولم يَبطُل بالكُلِّيَّة، وفي (صحيح مسلم) عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (إنَّ الغُزَاةَ إذا غَنِموا غنيمةً، تعجَّلوا ثُلُثي أجرِهِم، فإنْ لم يغنَمُوا شيئاً، تمَّ لهُم أجرُهم).

وقد ذكرنا فيما مضى أحاديثَ تدلُّ على أنَّ مَنْ أراد بجهاده عَرَضاً مِنَ الدُّنيا أنَّه لا أجرَ له، وهي محمولةٌ على أنَّه لم يكن له غرَضٌ في الجهاد إلاَّ الدُّنيا. (جامع العلوم).

ص: 434

‌فائدة: 3

حكم التمثيل بجثث العدو:

التمثيل بالعدو: التشويه بالقتيل، كجدع أنفه وأذنه.

جاءت عدة أحاديث في النهي عن ذلك:

منها: حديث بريدة وقد سبق (وَلَا تَغْدُرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا

).

ومنها: عن عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ) رواه البخاري.

‌وقد اختلف العلماء في حكم المثلة على أقوال:

‌القولُ الأولُ: أن المُثْلةَ حرامٌ بعد القدرةِ عليهم سواءٌ بالحي أو الميتِ، أما قبل القدرةِ فلا بأس به.

بل ذهب بعضهم إلى أنهُ لا خلاف في تحريمهِ كالزمخشري في تفسيره (2/ 503) فقال: " لا خلاف في تحريمِ المُثْلةِ "،

وحكى الصنعاني الإجماعَ في " سبل السلامِ "(4/ 200) فقال: " ثُمَّ يُخْبِرُهُ بِتَحْرِيمِ الْغُلُولِ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَتَحْرِيمِ الْغَدْرِ وَتَحْرِيمِ الْمُثْلَةِ وَتَحْرِيمِ قَتْلِ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ مُحَرَّمَاتٌ بِالْإِجْمَاعِ.

ولا يُسلمُ للإمامِ الصنعاني بالإجماعِ لأن المسألةَ خلافيةٌ كما سيأتي.

واستدل أصحاب هذا القول:

بحديث بريدة السابق (ولا تمثلوا).

قال الإمام الترمذي: وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُثْلَةَ.

وعلق المباركفوري على عبارةِ الترمذي فقال: " أَيْ حَرَّمُوهَا فَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمُ وَقَدْ عَرَفْت فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ السَّلَفَ رحمهم الله يُطْلِقُونَ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا الْحُرْمَةَ ". ا. هـ.

قال الإمامُ الشوكاني: قَوْلُهُ: " وَلَا تُمَثِّلُوا " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُثْلَةِ. ا. هـ.

ب- وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ نَهَى عَنْ النُّهْبَةِ، وَالْمُثْلَة) رواه البخاري.

النُّهْبَى: أَيْ أَخْذ مَال الْمُسْلِم قَهْرًا جَهْرًا.

ص: 435

‌القولُ الثاني: أن المُثْلةَ مكروهةٌ.

واستدل أصحابُ بما استدل به أصحابُ القولِ الأولِ ولكنهم حملوا حديثَ بُرَيْدَةَ الآنف على الكراهةِ وليس على التحريمِ قال

الإمامُ النووي: قال بعضُهم: النهي عن المثلةِ نهي تنزيهٍ، وليس بحرام.

وقال ابنُ قدامةَ: يُكْرَهُ نَقْل رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَالْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُم.

‌القولُ الثالث: يمثلُ بالكفارِ إذا مثلوا بالمسلمين معاملةً بالمثلِ.

لقوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين).

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَقَدْ قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما: "مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ حَتَّى الْكُفَّارُ إذَا قَتَلْنَاهُمْ فَإِنَّا لَا نُمَثِّلُ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ وَلَا نَجْدَعُ آذَانَهُمْ وَأُنُوفَهُمْ وَلَا نَبْقُرُ بُطُونَهُمْ إلَّا إنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ بِنَا فَنَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا". وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ ". ا. هـ.

وقال ابنُ مفلح في " الفروعِ "(6/ 218): "وَيُكْرَهُ نَقْلُ رَأْسٍ، وَرَمْيُهُ بِمَنْجَنِيقٍ بِلَا مَصْلَحَةٍ، وَنَقَلَ ابْنُ هَانِئٍ فِي رَمْيِهِ: لَا يَفْعَلُ وَلَا يُحَرِّقُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُ، وَعَنْهُ إنْ مَثَّلُوا مُثِّلَ بِهِمْ، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ شَيْخُنَا " يعني ابنَ تيميةَ ": الْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ، فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلِاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَلَهُمْ تَرْكُهَا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ، وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ فِي التَّمْثِيلِ بِهِمْ زِيَادَةٌ فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَكُونُ نَكَالًا لَهُمْ عَنْ نَظِيرِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِصَّةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُغَلَّبُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَالصَّبْرُ هُنَاكَ وَاجِبٌ، كَمَا يَجِبُ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِصَارُ، وَيَحْرُمُ الْجَزَعُ، هَذَا كَلَامُهُ وَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إنْ مَثَّلَ الْكَافِرُ بِالْمَقْتُولِ جَازَ أَنْ يُمَثَّلَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِجْمَاعِ قَبْلَ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ خِصَاءَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ وَالتَّمْثِيلَ بِهِمْ حَرَامٌ ". ا. هـ.

ص: 436

وقال الإمامُ ابنُ القيمِ في حاشيته على سنن أبي داود (12/ 278): وَقَدْ أَبَاحَ اللَّه تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِالْكَفَّارِ إِذَا مَثَّلُوا بِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُثْلَة مَنْهِيًّا عَنْهَا. فَقَالَ تَعَالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه) وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَة بِجَدْعِ الْأَنْف وَقَطْع الْأُذُن، وَبَقْر الْبَطْن وَنَحْو ذَلِكَ هِيَ عُقُوبَة بِالْمِثْلِ لَيْسَتْ بِعُدْوَانٍ، وَالْمِثْل هُوَ الْعَدْل ". ا. هـ.

قال الشيخ أبو عمر محمد السيف -حفظه الله- في (هداية الحيارى في قتل الأسارى): "وقد وصلنا عندما كنا في أفغانستان فتوى لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله مفادها، عندما سئل عن التمثيل بجثث العدو، فقال إذا كانوا يمثلون بقتلاكم فمثلوا بقتلاهم لا سيما إذا كان ذلك يوقع الرعب في قلوبهم ويردعهم والله تعالى يقول: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم.

وبعد عرضِ الأقوالِ في المسألةِ، الذي تميلُ إليهِ النفس -واللهُ أعلم- ما قررهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، وتلميذهُ ابنُ القيم، والشيخُ ابنُ عثيمين رحمهم الله.

‌فائدة: 4

عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّهُمْ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.

في هذا: جواز المبارزة قبل القتال.

قال ابن قدامة: وَأَمَّا الْمُبَارَزَةُ، فَتَجُوزُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَكَرِهَهَا.

وَلَنَا، أَنَّ حَمْزَةَ، وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، بِإِذْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَبَارَزَ عَلِيٌّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فَقَتَلَهُ.

وَبَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ حُنَيْنٍ.

وَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُبَارِزُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ وَبَعْدَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا.

وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُقْسِمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ، بَارَزُوا عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَقَالَ أَبُو قَتَادَةُ بَارَزْت رَجُلًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَتَلْته. (المغني).

ص: 437

قال القرطبي: وقد فهم بعض العلماء من هذا الحديث (لا تتمنوا لقاء العدو) كراهة المبارزة. وبهذا قال الحسن.

قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه على جواز المبارزة، والدَّعوة إليها. (المفهم).

قال ابن حجر: واستدل بهذا الحديث (لا تتمنوا لقاء العدو) على منع طلب المبارزة، وهو رأي الحسن البصري وكان علي يقول لا تدع إلى المبارزة فإذا دعيت فأجب تنصر لأن الداعي باغ.

• يشترط إذن الأمير.

وهذا القول هو الصحيح.

قال ابن المنذر: وشرط بعضهم فيها إذن الإمام، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال ابن حجر: وشرط الأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق للجواز إذن الأمير على الجيش.

قال ابن قدامة: وَلَنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَعْلَمُ بِفُرْسَانِهِ وَفُرْسَانِ الْعَدُوِّ، وَمَتَى بَرَزَ الْإِنْسَانُ إلَى مَنْ لَا يُطِيقُهُ، كَانَ مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، فَيَكْسِرُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، لِيَخْتَارَ لِلْمُبَارَزَةِ مَنْ يَرْضَاهُ لَهَا، فَيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الظَّفَرِ وَجَبْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ.

-‌

‌ أقسام المبارزة:

قال ابن قدامة: الْمُبَارَزَةُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْتَحَبَّةٍ، وَمُبَاحَةٍ، وَمَكْرُوهَةٍ.

أَمَّا الْمُسْتَحَبَّةُ: فَإِذَا خَرَجَ عِلْجٌ يَطْلُبُ الْبِرَازَ، اُسْتُحِبَّ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ مُبَارَزَتُهُ بِإِذْنِ الْأَمِيرِ.

لِأَنَّ فِيهِ رَدًّا عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِمْ.

وَالْمُبَاحُ: أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ بِطَلَبِهَا، فَيُبَاحُ وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُغْلَبَ، فَيَكْسِرَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ شُجَاعًا وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ، أُبِيحَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ غَالِبٌ.

وَالْمَكْرُوهُ: أَنْ يَبْرُزَ الضَّعِيفُ الْمِنَّةِ، الَّذِي لَا يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ، فَتُكْرَهُ لَهُ الْمُبَارَزَةُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ بِقَتْلِهِ ظَاهِرًا. (المغني)

ص: 438

‌فائدة: 5

الأمان: المراد به هنا العهد للمحارب بعدم الاعتداء على نفسه، وماله، وعرضه، ودينه.

فيؤمّن الكافر مدة محدودة حتى يبيع تجارته ويرجع، أو حتى يسمع كلام الله ويرجع.

فمن قال لحربي: قد أجرتكَ، أو أمّنتُكَ، أو بأس عليك، ونحو هذا، فقد أمّنَه.

جاء في الصحيحين من حَدِيثٍ أَمِ هَانِئٍ (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يا أم هانئ) متفق عليه.

وفيهما أيضاً: عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ (ذِمَّةُ اَلْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بهَا أَدْنَاهُمْ)، زَادَ اِبْنُ مَاجَه مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ).

- فيصح الأمانُ من كلِ مسلمٍ، عاقلٍ، مختارٍ، حراً كان أو عبد، رجلاً أو امرأة.

فجماهير العلماء على صحة أمان المرأة والعبد.

قال ابن قدامة: أَنَّ الْأَمَانَ إذَا أُعْطِيَ أَهْلَ الْحَرْبِ، حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَمَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ.

وَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا.

وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.

أ- لمَا رُوِيَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ).

ب- وَرَوَى فُضَيْلٍ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ، قَالَ: جَهَّزَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشًا، فَكُنْت فِيهِ، فَحَصَرْنَا مَوْضِعًا، فَرَأَيْنَا أَنَّا سَنَفْتَحُهَا الْيَوْمَ، وَجَعَلْنَا نُقْبِلُ وَنَرُوحُ، فَبَقِيَ عَبْدٌ مِنَّا، فَرَاطَنَهُمْ وَرَاطَنُوهُ، فَكَتَبَ لَهُمْ الْأَمَانَ فِي صَحِيفَةٍ، وَشَدَّهَا عَلَى سَهْمٍ، وَرَمَى بِهَا إلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهَا، وَخَرَجُوا، فَكُتِبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ. رَوَاهُ سَعِيدٌ

ج- وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ، كَالْحُرِّ.

قَالَتْ عَائِشَةُ: إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ.

ص: 439

وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَجَرْت أَحْمَائِي، وَأَغْلَقْت عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت يَا أُمَّ هَانِئٍ، إنَّمَا يُجْهِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ).

وَأَجَارَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَأَمْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. (المغني).

- قال النووي: قوله (قد أجرنا من أجرتِ

) قال النووي: اسْتَدَلَّ بَعْض أَصْحَابنَا وَجُمْهُور الْعُلَمَاء بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى صِحَّة أَمَان الْمَرْأَة.

•‌

‌ هل يصح أمان الصبي المميز؟

قال ابن قدامة: فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ.

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ.

لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ حُكْمٌ، فَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، كَالْمَجْنُونِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ أَمَانُهُ.

وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَصِحُّ أَمَانُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً.

وَحَمَلَ رِوَايَةَ الْمَنْعِ عَلَى غَيْرِ الْمُمَيِّزِ.

وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ.

وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُمَيِّزٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ، كَالْبَالِغِ، وَفَارَقَ الْمَجْنُونَ، فَإِنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ أَصْلًا. (المغني).

ص: 440

•‌

‌ هل يصح أمان الكافر؟

لا يصح.

قال ابن قدامة: وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ كَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ) فَجَعَلَ الذِّمَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا تَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ.

وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ.

وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ مَجْنُونٍ، وَلَا طِفْلٍ، لِأَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ.

وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ زَائِلِ الْعَقْلِ، بِنَوْمٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ إغْمَاءٍ؛ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ الْمَجْنُونَ.

وَلَا يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْإِقْرَارِ. (المغني).

• اذكر أنواع الأمان كما ذكره ابن قدامة؟

قال ابن قدامة:

أ- وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ.

لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

ب- وَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَمِيرِ لِمَنْ أُقِيمَ بِإِزَائِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ كَآحَادِ الْمُسْلِمِينَ.

لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ.

ج- وَيَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ لِلْوَاحِدِ، وَالْعَشَرَةِ، وَالْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالْحِصْنِ الصَّغِيرِ.

لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَجَازَ أَمَانَ الْعَبْدِ لِأَهْلِ الْحِصْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا حَدِيثَهُ.

وَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَهْلِ بَلْدَةٍ، وَرُسْتَاقٍ، وَجَمْعٍ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، وَالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ. (المغني).

ص: 441

‌فائدة: 6

الفيء: ما أخذ من أموال الكفار بحق بغير قتال.

ومصرفه في مصالح المسلمين.

بعض الأمثلة لأموال الفيء:

(الجزية) وهي ما يوضع على أفراد أهل الذمة من يهود ونصارى، وغيرهم على القول الراجح.

(وخراج) الخراج وهو المال المضروب على الأرض الخراجية التي غنمت ثم وقفت على المسلمين.

(وما تركوه فزعاً) أي: ما تركه الكفار فزعاً منا، يعني لما علموا بأن المسلمين أقبلوا عليهم هربوا وتركوا الأموال، فهذه الأموال أخذت بغير قتال فتكون فيئاً؛ وذلك لأن المقاتلين لم يتعبوا في تحصيلها فلا تقسم بينهم، بل تكون فيئاً يصرف في مصالح المسلمين العامة، كرَزْقِ القضاة، والمؤذنين، والأئمة، والفقهاء، والمعلمين، وغير ذلك من مصالح المسلمين.

(وخمس خمس الغنيمة) فهذا فيء يصرف في مصالح المسلمين.

‌فائدة: 7

يحرم الغدر.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إذَا جَمَعَ اللَّهُ عز وجل الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ: يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ) متفق عليه.

(لكل غادر) الغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْغَدْر: تَرْكُ الْوَفَاء، (لواء) أي راية.

ص: 442

- ففي الحديث تحريم الغدر وهو حرام بالاتفاق.

وقوله (لكل غادر لواء) قال النووي: معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك.

قال القرطبي: هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل، لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف ".

- وفي الحديث غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة، لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير، ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء.

- ولما كان الغدر من الأمور الخفية، ناسب أن تكون عقوبته بالشهرة، ونصب اللواء أشهر الأشياء عند العرب.

- وفي الحديث دليل على أن الإنسان ينسب إلى أبيه في الموقف العظيم.

- وفي الحديث رد لمن قال: إنهم ينسبون لأمهاتهم ستراً عليهم، وقد ورد حديث في هذا الشأن رواه الطبراني وهو قوله صلى الله عليه وسلم (إن الناس يدعون باسم أمهاتهم يوم القيامة ستراً عليهم) وهو حديث ضعيف جداً كما قال الحافظ ابن حجر.

ص: 443

‌كتاب القضاء

‌تعريفه:

القضاء، لغة: إحكام الشيء والفراغ منه.

واصطلاحاً: تبيين الحكم الشرعي والإلزام به، وفصل الخصومات.

(تبيين الحكم الشرعي) جنس يشمل القاضي والمفتي.

(والإلزام به) هذا قيد يخرج المفتي، لأنه لا يلزم بالحكم الشرعي.

(وفصل الخصومات) فيه بيان الغرض من القضاء وهو قطع الخصومة بين المتخاصمين.

والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

أ- قال تعالى (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).

ب- وقال سبحانه (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).

ج- وعن عمرو بن العاص. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) متفق عليه

وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس.

د- وعقلاً: لأن القضاء من ضرورات الاجتماع، به ينتشر العدل، ويعم الأمن، ويُدفع القوي عن الضعيف، ويُنصف المظلوم من الظالم، لولا الفضاء لعمت الفوضى، واختل الأمن، وفسد النظام.

‌فائدة:

والقضاء ورد فيه ترغيب وترهيب:

ص: 444

‌الترغيب:

عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله .. ).

‌الترهيب:

عن بريدة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) رواه أبوداود.

وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ولي القضاء فقد ذبح بغير السكين) رواه أبوداود.

‌فائدة:

(فيه أجرٌ عظيم لمن قامَ به وعدل).

أي: القضاء فيه أجر كبير وعظيم لمن قام به حق القيام، فحكم بالحق وعدل.

عَنْ بُرَيْدَةَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اِثْنَانِ فِي اَلنَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي اَلْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَرَفَ اَلْحَقَّ، فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي اَلْجَنَّةِ. وَرَجُلٌ عَرَفَ اَلْحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي اَلْحُكْمِ، فَهُوَ فِي اَلنَّارِ. وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ اَلْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي اَلنَّار) رواه أبو داود.

قال ابن قدامة: وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَأَدَاءِ الْحَقِّ فِيهِ:

وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ.

وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ.

وَلِأَنَّ فِيهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنُصْرَةَ الْمَظْلُومِ، وَأَدَاءَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَرَدًّا لِلظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَإِصْلَاحًا بَيْنَ النَّاسِ، وَتَخْلِيصًا لَبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْقُرَبِ.

وَلِذَلِكَ تَوَلَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، فَكَانُوا يَحْكُمُونَ لِأُمَمِهِمْ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، وَبَعَثَ أَيْضًا مُعَاذًا قَاضِيًا.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَجْلِسَ قَاضِيًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَة. (المغني).

ص: 445

وجاء في (الموسوعة الفقهية) وَلِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ جَعَل اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ، وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ، قَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنَّمَا أُجِرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَبَذْل وُسْعِهِ لَا عَلَى خَطَئِهِ).

(وفيه الإثم العظيم لمن لم يقُم به).

أي: في القضاء إثم عظيم لمن جار وظلم، أو حكم بغير علم.

عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اِثْنَانِ فِي اَلنَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي اَلْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَرَفَ اَلْحَقَّ، فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي اَلْجَنَّةِ. وَرَجُلٌ عَرَفَ اَلْحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي اَلْحُكْمِ، فَهُوَ فِي اَلنَّارِ. وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ اَلْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي اَلنَّار). رواه أبو داود

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ وَلِيَ اَلْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ) رَوَاهُ أبو داود.

جاء في (الموسوعة الفقهية) كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُحْجِمُ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ وَيَمْتَنِعُ عَنْهُ أَشَدَّ الاِمْتِنَاعِ حَتَّى لَوْ أُوذِيَ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ عَظِيمِ خَطَرِهِ كَمَا تَدُل عَلَيْهِ الأْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ وَالَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْوَعِيدُ وَالتَّخْوِيفُ لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَقَّ فِيهِ، كَحَدِيثِ (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ) وَحَدِيثُ (مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِل قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ) وَحَدِيثُ (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ).

وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُل مَا جَاءَ مِنَ الأْحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَالْجُهَّال الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

فَالأْحَادِيثُ السَّابِقَةُ بِجُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُرَغِّبٌ وَبَعْضُهَا مُرَهِّبٌ.

وَالْمُرَغِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ الْمُطِيقِ لِحَمْل عِبْئِهِ، وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ، وَالْمُرَهِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل دُخُول مَنْ دَخَل فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَامْتِنَاعُ مَنِ امْتَنَعَ عَنْهُ، فَقَدْ تَقَلَّدَهُ بَعْدَ الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، سَادَاتُ الإْسْلَامِ وَقَضَوْا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَدُخُولُهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهِ، وَوُفُورِ أَجْرِهِ، فَإِنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، وَوَلِيَهُ بَعْدَهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ.

ص: 446

وَمَنْ كَرِهَ الدُّخُول فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ فَضْلِهِمْ وَصَلَاحِيَّتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ مَحْمُولٌ كُرْهُهُمْ عَلَى مُبَالَغَةٍ فِي حِفْظِ النَّفْسِ، وَسُلُوكٍ لِطَرِيقِ السَّلَامَةِ، وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فُتُورًا أَوْ خَافُوا مِنَ الاِشْتِغَال بِهِ الإِقْلَال مِنْ تَحْصِيل الْعُلُومِ.

وَمِمَّنِ امْتَنَعَ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ طُلِبَ لَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. (الموسوعة).

(وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ)

أي: أن القضاء فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثم الجميع.

أ- لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه.

ب- وكان صلى الله عليه وسلم يتولاه بنفسه، وبعث علياً إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً قاضياً.

ج- ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم).

قال الإمام أحمد: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟

‌فائدة:

قال ابن قدامة: وَالنَّاسُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:

مِنْهُمْ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ:

وَهُوَ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ، وَلَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ شُرُوطُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا قَضَى بَيْنَ النَّاسَ بِجَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ).

وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَدْلِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ الْحَقَّ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ وَيَدْفَعُهُ إلَى غَيْرِهِ.

وَمِنْهُمْ، مَنْ يَجُوزُ لَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ:

وَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالِاجْتِهَادِ، وَيُوجَدُ غَيْرُهُ مِثْلُهُ، فَلَهُ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ بِحُكْمِ حَالِهِ وَصَلَاحِيَتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ.

ص: 447

وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ، وَفِي تَرْكِهِ مِنْ السَّلَامَةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ وَالذَّمِّ، وَلِأَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَالتَّوَقِّي، وَقَدْ أَرَادَ عُثْمَانُ رضي الله عنه تَوْلِيَةَ ابْنِ عُمَرَ الْقَضَاءَ فَأَبَاهُ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ رَجُلًا خَامِلًا، لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا يُعْرَفُ فَالْأَوْلَى لَهُ تَوَلِّيهِ، لِيُرْجَعَ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَقُومَ بِهِ الْحَقُّ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي النَّاسِ بِالْعِلْمِ، يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى، فَالْأَوْلَى الِاشْتِغَالُ بِذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ الْغَرَرِ.

وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالُوا أَيْضًا: إذَا كَانَ ذَا حَاجَةٍ، وَلَهُ فِي الْقَضَاءِ رِزْقٌ، فَالْأَوْلَى لَهُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْمَكَاسِبِ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ طَلَبُهُ، وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ:

لِأَنَّ أَنَسًا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (مَنْ ابْتَغَى الْقَضَاءَ، وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ، وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ (يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ؛ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الثَّالِثُ: مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ.

وَهُوَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَلَا يُوجَدُ سِوَاهُ، فَهَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ غَيْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، كَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ.

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَأْثَمُ الْقَاضِي إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا يَأْثَمُ.

ص: 448

فَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِضْرَارُ بِنَفْسِهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَبُو قِلَابَةَ مِنْهُ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ غَيْرُك.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ، لِظُلْمِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ. (المغني).

(ويجب على من يصلح له إذا طلب منه ولم يوجد غيره الإجابة إليه وإن وجد غيره فالأصل تركه).

أي: أن القضاء يكون فرض عين، وذلك بأمور:

أولاً: إذا طلب منه، فإذا لم يطلب منه فلا يكون فرض عين عليه، لأن المسؤول عن تولية القضاة هو الإمام.

ووجه ذلك:

أ-أنه من طاعة ولي الأمر وهي في غير المعصية واجبة.

ب-أنه لو لم يدخل فيه لتعطل مرفق القضاء وذلك لا يجوز كسائر فروض الكفاية.

ثانياً: ولم يوجد أهلٌ يوثق به، فإن وجِد لم يتعين.

ووجه ذلك:

أنه من تغيير المنكر، وتغيير المنكر واجب وهو متوقف عليه فيجب عليه.

وقد تقدم كلام ابن قدامة بقوله: مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ.

وَهُوَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَلَا يُوجَدُ سِوَاهُ، فَهَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ غَيْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، كَغُسْلِ

الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ.

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَأْثَمُ الْقَاضِي إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا يَأْثَمُ.

فَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِضْرَارُ بِنَفْسِهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَبُو قِلَابَةَ مِنْهُ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ غَيْرُك.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ، لِظُلْمِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ. (المغني).

ص: 449

(ويَلْزَمُ الإِمَامَ أَنْ يَنْصِبَ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ قَاضِياً).

أي: يجب على الإمام أن ينصب في كل قطْرٍ قاضياً أو أكثر يفصل بين المتنازعين.

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً قاضياً، وبعث معاذاً قاضياً أيضاً.

ب- ولأنه المسؤول الأول عن أمور المسلمين، فيلزمه أن يقوم بذلك بنفسه أو بتعيين من ينوب عنه في القيام بهذا العمل.

ويجب عليه أن ينصب أفضل من يجد علماً، والمراد بالعلم: معرفة الأحكام الشرعية وتطبيقها على الوقائع بين الناس.

(وَيُختَارَ أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُهُ عِلْماً، وَوَرَعاً).

أي: ويلزم الإمام أن يختار أفضل من يجده:

علماً: بالأحكام الشرعية، وبأحوال الماس.

وورعاً: لكي لا يأخذ الرشوة، والمحاباة.

والورع: ترك ما يضر في الآخره.

(وَيَأْمُرُهُ بِتَقْوَى اللهِ).

أي: يلزم الإمام أن يأمر القاضي بتقوى الله:

أ- لأنها هي وصية الله للأولين والآخرين كما قال تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).

ب- ولأن في تقوى القاضي لله تيسيراً لأموره وتسهيلاً لمهمته.

ج- ولأن في تقوى القاضي سبباً لمعرفة الحق ومعرفة المحق لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

ص: 450

‌فائدة:

تُفِيدُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ الْعَامَّةُ:

الْفَصْلَ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَأَخْذَ الْحَقِّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالنَّظَرَ فِي أَمْوَالِ غَيْرِ الْمُرْشِدِينَ، وَالْحَجْرَ عَلَى مَنْ يَسْتَوْجِبُهُ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، وَالنَّظَرَ فِي وُقُوفِ عَمَلِهِ لِيَعْمَلَ بِشَرْطِهَا، وَتَنْفِيذَ الْوَصَايَا، وَتَزْوِيجَ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِمَامَةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَالنَّظَرَ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ، بِكَفِّ الأَذَى عَنِ الطُّرُقَاتِ، وَأَفْنِيَتِهَا، وَنَحْوِهِ).

(وَيُشْتَرَطُ فِي القَاضِي عَشْرُ صِفَاتٍ، كَوْنُهُ بَالِغاً عاقلاً).

هذا الشرط الأول من شروط القاضي: أن يكون بالغاً عَاقِلاً.

لأنه بفواتهما تفوت القوة التي هي أحد ركني الكفاءة، ولأنهما هما بأنفسهما يحتاجان إلى ولي، فلا يمكن أن يكونا وليين على غيرهما.

(ذَكَراً).

هذا الشرط الثاني من شروط القاضي: أن يكون ذكراً.

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء، ولو ولِّيت أثم المولي، وتكون ولايتها باطلة، وحكمها غير نافذ في جميع الأحكام، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وبعض الحنفية.

أ-لقوله الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ).

فالرجل قيم على المرأة، بمعنى أنه رئيسها وكبيرها والحاكم عليها، فالآية تفيد عدم ولاية المرأة، وإلا كانت القوامة للنساء على الرجال، وهو عكس ما تفيده الآية.

ب- ولقوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).

فمنح الله تعالى الرجال درجة زائدة على النساء، فتولي المرأة لمنصب القضاء ينافي الدرجة التي أثبتها الله تعالى للرجال في هذه الآية لأن القاضي حتى يحكم بين المتخاصمين لا بد أن تكون له درجة عليهما.

3 -

وعن أَبِي بَكْرَة قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً) رواه البخاري.

ص: 451

استدل الفقهاء بهذا الحديث على عدم جواز تولي المرأة القضاء، لأن عدم الفلاح ضرر يجب اجتناب أسبابه، والحديث عام في جميع الولايات العامة، فلا يجوز أن تتولاها امرأة، لأن لفظ (أمرهم) عام فيشمل كل أمر من أمور المسلمين العامة.

قال ابن حجر: قال ابن التين: استدل بحديث أبي بكرة من قال: لا يجوز أن تولى المرأة القضاء، وهو قول الجمهور.

وقال الشوكاني: فليس بعد نفي الفلاح شيء من الوعيد الشديد، ورأس الأمور هو القضاء بحكم الله عز وجل، فدخوله فيها دخولاً أولياً.

قال ابن قدامة: وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ يَحْضُرُ مَحَافِلَ الْخُصُومِ وَالرِّجَالِ، وَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَمَالِ الرَّأْيِ وَتَمَامِ الْعَقْلِ وَالْفِطْنَةِ، وَالْمَرْأَةُ نَاقِصَةُ الْعَقْلِ، قَلِيلَةُ الرَّأْيِ، لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْحُضُورِ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَلْفُ امْرَأَةٍ مِثْلِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِهِنَّ وَنِسْيَانِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَلَا لِتَوْلِيَةِ الْبُلْدَانِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوَلِّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ، امْرَأَةً قَضَاءً وَلَا وِلَايَةَ بَلَدٍ، فِيمَا بَلَغَنَا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ جَمِيعُ الزَّمَانِ غَالِبًا.

(حُرّاً)

هذا الشرط الثالث من شروط القاضي: أن يكون حراً.

فلا يكون العبد قاضياً.

وهذا مذهب جمهور العلماء، يشترط أن يكون حراً.

أ- قالوا: لأن القضاء منصب شريف، فلا يجوز أن يتولاه عبد، كالإمامة العظمى.

ب- ولأن العبد في أعين الناس ممتهن، والقاضي موضوع للفصل بين الخصوم، فحال الرقيق ينافي حال الولاية.

ج- ولأنه مشغول بخدمة سيده.

وذهب بعض العلماء: إلى جواز أن يكون الرقيق قاضياً.

وهذا قول ابن حزم، ورجحه ابن تيمية، لعموم الأدلة، بشرط أن يأذن له سيده.

ص: 452

(مُسْلِماً).

هذا الشرط الرابع من شروط القاضي: أن يكون مسلماً.

فلا يُولّى الكافر.

أ- لقوله تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

ب- ولأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه، والقاضي يجب احترامه، وبينهما منافاة.

ج- ولأن الإسلام شرط في الشهادة، فلأن يكون شرطاً في القضاء بطريق الأولى.

(عَدْلاً).

هذا الشرط الخامس من شروط القاضي: أن يكون عدلاً.

فلا يجوز تولية فاسق.

أ- لأن الله يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) والحاكم يجيء بقول، فلا يجوز قبوله مع فسقه.

ب- ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهداً، فلأن لا يجوز أن يكون قاضياً بطريق الأولى.

ج- ولأنه لا يؤمن أن يحيف لفسقه.

والعدل هنا: من كان قائماً بالواجبات، مبتعداً عن المحرمات، بعيداً عن الريب، ظاهر الأمانة، مأموناً في الغضب والرضا.

(سَمِيعاً).

هذا الشرط السادس من شروط القاضي: أن يكون سميعاً.

فلا يكون أصم.

لأن الْأَصَم لَا يَسْمَعُ قَوْلَ الْخَصْمَيْنِ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إني أقضي بنحو ما أسمع

).

ص: 453

(بَصِيرَاً).

هذا الشرط السابع من شروط القاضي: أن يكون بصيراً.

فالأعمى لا يصح أن يكون قاضياً.

أ-لأنَ الْأَعْمَى لَا يَعْرِفُ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُقِرَّ مِنْ الْمُقَرَّ لَهُ، وَالشَّاهِدَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ. (المغني).

ب-أن عدم الإبصار يؤثر في قبول الشهادة، فكذلك يؤثر في تولي القضاء.

ج- أن الأعمى ربما خُدع من أحد الخصوم أو الشهود.

وقيل: لا يشترط.

بل يصح قضاء الأعمى، ونسبه ابن قدامة لبعض الشافعية.

أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم - وهو رجل أعمى - على المدينة، مما يدل على صحة تولي الأعمى للقضاء.

ونوقش هذا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استخلفه إماماً في الصلاة لا قاضياً، أو أن هذا خاص بابن أم مكتون.

ب- أن نبي الله شعيباً عليه السلام كان أعمى، والقضاء من وظائف الأنبياء عليهم السلام.

ونوقش هذا: أن هذا لم يثبت.

(مُتَكَلِّماً).

هذا الشرط الثامن من شروط القاضي: أن يكون متكلماً.

لأن فاقد الكلام لا يستطيع التخاطب مع الخصوم، ولا النطق بالحكم، وهذا يعوق إصدار الحكم ويؤخر إنهاء النزاع.

وقيل: يصح قضاء الأخرص، لأنه يمكن إيصال الحكم إلى الخصمين عن طريق الكتابة أو الإشارة المفهومة.

ص: 454

(مُجْتَهِداً، وَلَوْ فِي مَذْهَبِهِ).

هذا الشرط التاسع من شروط القاضي: أن يكون مجتهداً.

لقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) وَلَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ.

وَقَالَ (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ).

وَقَالَ (فَإِنَّ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).

وَرَوَى بُرَيْدَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ؛ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ، قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّار) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

وَالْعَامِّيُّ يَقْضِي عَلَى الْجَهْلِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ آكَدُ مِنْ الْفُتْيَا؛ لِأَنَّهُ فُتْيَا وَإِلْزَامٌ، ثُمَّ الْمُفْتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا مُقَلِّدًا، فَالْحَكَمُ أَوْلَى.

إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمِنْ شَرْطِ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ سِتَّةِ أَشْيَاءَ؛ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالِاخْتِلَافِ، وَالْقِيَاسِ، وَلِسَانِ الْعَرَبِ. (المغني)

‌فائدة:

وهذه الشروط معتبرة حسب الإمكان، فإذا تعذر وجود من تتوافر فيه جميع هذه الشروط ولي الأفضل من الموجودين.

ص: 455

(وَإِذَا حَكَّمَ اثْنَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلاً يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي كلِ ما ينفذ فيه حكم من ولاه الإمام أو نائبه).

أشار إلى ما يسمى بالتحكيم: وهو أن يلجأ خصمان إلى غير قاضٍ فيختارانه ليحكم بينهما فهو جائز.

فالتحكيم: اتفاق المتخاصمين على من يحكم بينهما وينهي نزاعهما ويفصل في خصومتهما.

لقوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).

ب- ولحديث أبي شُرَيْح (أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللهِ، قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ) رواه أبو داود.

ج-وَلِأَنَّ عُمَرَ وَأُبَيًّا تَحَاكَمَا إلَى زَيْدٍ، وَحَاكَمَ عُمَرُ أَعْرَابِيًّا إلَى شُرَيْحٍ قَبْلَ أَنْ يُوَلِّيَهُ، وَتَحَاكَمَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ إلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَلَمْ يَكُونُوا قُضَاةً. (المغني).

‌فائدة: 1

ويجب التزام حكم المحكّم، وإلا لم يكن في تحكيمه فائدة.

قال الشيخ ابن عثيمين: المهم أنهما إذا حَكَّما رجلاً صار هذا المُحكم كالقاضي المنصوب من قبل ولي الأمر، ينفذ حكمه في كل شيء.

قال ابن قدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ فِيمَا لَا يُنْقَضُ بِهِ حُكْمُ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ.

‌فائدة: 2

إذا لم يشرع المحكّم في التحكيم جاز لكل من الخصمين العدول عنه.

ووجه ذلك:

أ-أن حالة ما قبل الشروع في التحكيم كحالة ما قبل الاتفاق عليه، والاتفاق عليه لا يلزم فكذلك لا يلزم الاستمرار على الاتفاق عليه قبل الشروع فيه.

ب-أن عقد الوكالة يجوز فسخه قبل التصرف فكذلك التحكيم؛ لأن الكل إذن في التصرف، وتفويض فيه.

ص: 456

قال ابن قدامة:. . . إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ الرُّجُوعَ عَنْ تَحْكِيمِهِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِرِضَاهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَجَعَ عَنْ التَّوْكِيلِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ.

وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ شُرُوعِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتِمَّ، أَشْبَهَ قَبْلَ الشُّرُوعِ.

وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا رَأَى مِنْ الْحُكْمِ مَا لَا يُوَافِقُهُ، رَجَعَ، فَيَبْطُلُ الْمَقْصُودُ بِه. (المغني).

فالراجح - والله أعلم - هو القول بمنع الرجوع عن التحكيم بعد الشروع فيه.

‌فائدة: 3

المُحكّم يحكم في كل شيء حتى في الأموال والحدود واللعان، ولو وجد في البلد قاضٍ.

‌فائدة: 4

قوله (يَصْلُحُ لِلْقَضَاء) أي: تتوافر فيه صفات القاضي العشر السابقة.

وهذا الشرط مختلف فيه، اختلف في اعتبار شروط القاضي في المحكم على قولين:

القول الأول: أنها تشترط فيه فلا يصح تحكيم من لا تتوفر فيه.

القول الثاني: أنها لا تشترط فيه فيصح تحكيم من لا تتوفر فيه.

ص: 457

ورجح هذا الشيخ ابن عثيمين وقال رحمه الله:

وهذا الشرط فيه نظر: لأن الفرق بين المُحكَّم والمنصوبِ من قِبل ولي الأمر ظاهر؛ لأن المُحكَّم إنما يحكم في قضية معينة لخصم معين، ليست ولايته عامة حتى نقول: لا بد فيه من توافر الشروط السابقة، أما القاضي المنصوب من قبل ولي الأمر فحكمه عام، يتحاكم الناس إليه سواء حكَّموه أم لم يحكِّموه، فكيف نشترط الشروط العشرة؟!

فإذا قال رجلان: نحن نرضى هذا الإنسان وإن كان عبداً، فكيف نقول: لا يصلح للحكم؟!

وإذا قال الخصمان: نحن نرضى أن نحكِّمه، وإن كان أعمى، فما المانع؟!

ولهذا نص على هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: إنه لا يشترط في المُحكَّم ما يشترط في القاضي. (الشرح الممتع).

ص: 458

‌بَابُ آدَابِ القَاضِي

يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيّاً مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، لَيِّناً مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، حَلِيماً ذَا أَنَاةٍ وَفِطْنَةٍ وعلم).

هذه بعض آداب القاضي:

‌أَنْ يَكُونَ قَوِيّاً:

لئلا يطمع فيه الظالم، والعنف ضد الرفق.

‌مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ:

حتى لا يظلم أو يمنع الخوف منه بعض الخصوم من الإفصاح عن حجته فيضيع حقه.

‌لَيِّناً:

لئلا يهابه صاحب الحق.

‌مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ:

حتى لا يستخف به الخصوم فيسيئون الأدب في مجلسه، ويتطالون عليه، ويقعون في بعضهم.

قال ابن قدامة: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ، وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِه. (المغني).

فإذا كان ضعيفا قليل البضاعة، غير مضطلع بالعلم، أحجم عن الحق، في موضع ينبغي فيه الإقدام، لقلة علمه بمواضع الإقدام، والإحجام.

(حاشية الروض).

‌حَلِيماً:

حتى لا يستفزه الخصوم ويحملونه على الغضب.

ص: 459

‌ذَا أَنَاةٍ:

حتى يستوعب القضية، ويستظهر الحق فيها، لئلا يحمله التسرع في الحكم على عدم استيفاء متطلباته فيحكم بغير الحق.

‌وَفِطْنَةٍ:

حتى يستوعب ما يدلي به الخصوم، ولا ينخدع بفصاحة بعضهم وعي الآخر أو يلتبس عليه الأمر فيحكم لغير المحق على المحق.

‌وعلم:

ليتمكن به من معرفة الحق والحكم به؛ لأن غير العالم لا يميز بين الحق والباطل فتضيع الحقوق عنده.

‌فائدة: 1

قال ابن تيمية: ينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب:

فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة.

كما قال تعالى (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ).

وقال تعالى في صفة جبريل (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)(مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ).

والقوة في كل ولاية بحسبها:

ص: 460

فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والخادعة فيها.

والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.

والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وترك خشية الناس.

وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حكم على الناس، في قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة. فرجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار. لرجل قضى بين الناس على جهل، فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به، فهو في الجنة. رواه أهل السنن.

والقاضي اسم كل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة، أو سلطاناً، أو نائباً، أو والياً؛ أو كان منصوباً ليقضي بالشرع، أو نائباً له، حتى من يحكم بين الصبيان في الخطوط، إذا تخايروا. هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

‌فائدة: 2

وقال ابن تيمية: اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل.

ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة).

فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها. فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والأخر أعظم قوة: قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضرراً فيها.

فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع -وإن كان فيه فجور- على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً.

كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؛ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه؛ وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين. فيغزى مع القوي الفاجر.

ص: 461

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وروي (بأقوام لا خلاق لهم).

وإن لم يكن فاجراً، كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال:«إن خالداً سيف سد الله على المشركين» . مع أنه أحيانا قد كان يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه -مرة- قام ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد " لما أرسله إلى بني جذيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم، وضمن أموالهم.

ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل.

وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق؛ ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) رواه مسلم.

نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية، لأنه رآه ضعيفاً مع أنه قد روي (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر). وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل -استعطافاً لأقاربه الذين بعثه إليهم- على من هم أفضل منه. وأمر أسامة بن زيد؛ لأجل طلب ثأر أبيه. وكذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان. (السياسة الشرعية)

‌فائدة: 3

قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَاضِيًا حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ؛ عَفِيفٌ، حَلِيمٌ، عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، يَسْتَشِيرُ ذَوِي الْأَلْبَابِ، لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ سَبْعُ خِلَالٍ، إنْ فَاتَتْهُ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: الْعَقْلُ، وَالْفِقْهُ، وَالْوَرَعُ، وَالنَّزَاهَةُ، وَالصَّرَامَةُ، وَالْعِلْمُ بِالسُّنَنِ، وَالْحِكَمِ.

ص: 462

(وعليه أن يَعْدلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ، وَلَفْظِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَدُخُولِهِمَا عَلَيْهِ،).

أي: ويجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه.

لحظه: أي النظر، فلا ينظر إلى أحد الخصمين نظرة غضب وللآخر نظرة رضا.

لفظه: أي كلامه، فلا يلين لأحدهما ويغلظ للآخر.

لقوله تعالى (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).

وقال تعالى (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا).

(وَيَحْرُمُ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيراً).

أي: يحرم على القاضي أن يحكم وهو غضبان.

لحديث أبي بكرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) متفق عليه.

وَفِي رِوَايَةٍ (لا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ).

وقد اختلف في النهي هل هو للتحريم أو للكراهة؟ والراجح أنه للتحريم.

قال في المغني: لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان.

‌فائدة: 1

اختلف العلماء لو خالف القاضي وحكم وهو غضبان على قولين كما سيأتي إن شاء الله.

‌فائدة: 2

الحكمة من النهي: لأن الغضب يمنع من تصور المسألة أولاً ثم تطبيق الحكم الشرعي عليها.

قال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب، لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه.

ص: 463

‌فائدة: 3

ومثله الحاقن أو في شدة جوع أو عطش أو همٍ أو ملل.

قال ابن دقيق: وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقاً يشغله عن استيفاء النظر.

وقال ابن قدامة: وفي معنى الغضب كلما شغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والجوع المزعج ومدافعة أحد الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح، فهذه كلها تمنع الحاكم لأنها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهي بمعنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه.

(وَإِنْ خَالَفَ فَأَصَابَ الْحَقَّ نَفَذَ).

أي: لو أن القاضي خالف فحكم وهو في حال غضب ونحوه، وأصاب الحق، فإنه ينفذ الحكم.

وهذا قول الجمهور.

قال النووي في حديث اللقطة: فيه جواز الفتوى في حال الغضب، وكذلك الحكم، وينفذ ولكنه مع الكراهة في حقنا ولا يكره في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف على غيره.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا ينفذ قضاؤه.

لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.

والراجح قول الجمهور.

ص: 464

- فإن قال قائل: كيف ينفذ وهو محرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، أفليست القاعدة أن مثل هذا يوجب بطلان الحكم، كما لو عقد على امرأة عقداً محرماً فإن العقد يبطل؟

فالجواب: أن يقال: إنه إنما نهي عن ذلك خوفاً من مخالفة الصواب، فإذا وقعت الإصابة فهذا هو المطلوب، إذاً هنا نقول: هذا لم يخرج عن القاعدة، وهي أن الشيء المحرم لا ينفذ ولا يصح؛ لأن العلة التي من أجلها حرم انتفت، حيث إنه أصاب الصواب، فإن لم يصب الحق فإنه لا ينفذ؛ لأنه على غير حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. (الشرح الممتع).

(وَيَحْرُمُ قَبُولُ رَشْوَةٍ).

الرشوة: هي المال المدفوع من أحد الخصمين سواء كان محقاً أو مبطلاً.

فالرشوة اصطلاحاً: هي ما يبذل من المال لإبطال حق أو إحقاق باطل.

قال ابن عابدين: الرِّشْوَةُ مَا يُعْطِيهِ الشَّخْصُ الْحَاكِمَ وَغَيْرَهُ لِيَحْكُمَ لَهُ، أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا يُرِيد.

فالرشوة فهي بذل المال الذي يتوصل به الإنسان إلى أخذ ما ليس له، كأن يرشي القاضي ليحكم له بالباطل، أو يرشي مسئولاً ليقدمه على غيره، أو يعطيه ما لا يستحقه.

وهي حرام وكبيرة من الكبائر.

أ-لحديث عبد الله بن عمرو. قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) رواه الترمذي.

و"الراشي" هو معطي الرشوة، و"المرتشي" هو آخذها.

ب- ولأنها من أكل أموال الناس بالباطل.

ص: 465

‌ولأضرارها الكبيرة، منها:

أولاً: أن فيها فساد الخلق.

ثانياً: أنها سبب لتغيير حكم الله.

ثالثاً: أن فيها ظلماً وجوراً.

رابعاً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل.

خامساً: أن في الرشوة ضياع الأمانات.

‌فائدة: 1

أخذ الرشوة له صورتان:

الصورة الأولى: أن يأخذ من أحد الخصمين ليحكم له بباطل.

الصورة الثانية: أن يمتنع من الحكم بالحق لمستحقه حتى يعطيه.

‌فائدة: 2

متى يجوز دفع الرشوة:

قال ابن حزم: ولا تحل الرشوة: وهي ما أعطاه المرء ليحكم له بباطل، أو ليولى ولاية، أو ليظلم له إنسان، فهذا يأثم المعطي والآخذ.

فأما من منع من حقه فأعطى ليدفع عن نفسه الظلم فذلك مباح للمعطي، وأما الآخذ فآثم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراماً على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه، كما كان النبي يقول (إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها ناراً. قيل: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل). ومثل ذلك: إعطاء من أعتق وكتم عتقه، أو كان ظالماً للناس فإعطاء هؤلاء جائز للمعطي، حرام عليهم أخذه.

قال الشيخ ابن عثيمين: أما الرشوة التي يتوصل بها الإنسان إلى حقه، كأن لا يمكنه الحصول على حقه إلا بشيء من المال، فإن هذا حرام على الآخذ وليس حراماً على المعطي، لأن المعطي إنما أعطى من أجل الوصول إلى حقه، لكن الآخذ الذي أخذ تلك الرشوة هو الآثم لأنه أخذ ما لا يستحق " انتهى نقلا عن "فتاوى إسلامية.

ص: 466

‌فائدة: 3

الواجب على من وقع في الرشوة أن يتوب إلى الله تعالى،

فيقلع عنها، ويعزم على عدم العود إليها، ويندم على ما فات.

وهل يلزمه رد الرشاوى إلى أصحابها؟ في ذلك تفصيل:

أ- إن كان دافع الرشوة إنما دفعها ليتوصل بها إلى حق له، فيلزم رد ماله إليه؛ لأنه مال مأخوذ بالباطل والظلم والتعدي.

ب- وإن كان قد دفع الرشوة ليتوصل بها إلى غير حقه، وقد حصل له ذلك، فإن الرشوة لا ترد إليه؛ حتى لا يجمع بين العوضين، بين الوصل إلى غرضه ومنفعته - التي لا تحق له - وبين عودة ماله إليه. ويلزم التائب حينئذ أن يتخلص من الرشاوى التي لا تزال بيده، بإنفاقها على الفقراء والمساكين أو في المصالح العامة ونحو ذلك من أوجه الخير.

قال ابن القيم: إذا عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض، كالزانية والمغنى وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم ثم تاب والعوض بيده.

فقالت طائفة: يرده إلى مالكه؛ إذ هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لصاحبه في مقابلته نفع مباح.

وقالت طائفة: بل توبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أصوب القولين.

(وَكَذَا هَدِيَّةٍ، إِلاَّ مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ).

أي: ويحرم كذلك على القاضي قبول هدية من أحد.

أ-عن أبي حميد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (هدايا العمال غلول) رواه أحمد.

ب-عن بريدة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من استعملناه على عملٍ فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غُلول) رواه أبو داود.

قال الشوكاني: هذا الحديث فيه دليلٌ على أنه لا يحل للعامل زيادةٌ على ما فرض له مَن استعمله، وأن ما أخذه بعد ذلك فهو مِن الغُلول "أي سرقة".

ص: 467

ج-عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ (اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتَبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) متفق عليه.

قال الخطابي: في هذا الحديث بيان أن هدايا العمال سُحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحات، وإنما يهدى إليه للمحاباة، وليخفف عن المهدي، ويسوغ له ترك بعض الواجبات عليه، وهو خيانة منه، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله.

وقال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: بَيَان أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّال حَرَام وَغُلُول؛ لِأَنَّهُ خَانَ فِي وِلَايَته وَأَمَانَته

وَقَدْ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْس الْحَدِيث

السَّبَب فِي تَحْرِيم الْهَدِيَّة عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا بِسَبَبِ الْوِلَايَة، بِخِلَافِ الْهَدِيَّة لِغَيْرِ الْعَامِل، فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان حُكْم مَا يَقْبِضهُ الْعَامِل وَنَحْوه بِاسْمِ الْهَدِيَّة، وَأَنَّهُ يَرُدّهُ إِلَى مُهْدِيه، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَإِلَى بَيْت الْمَال.

قال ابن المنير: يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم (هلَّا جلَس في بيت أبيه وأمه) جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك.

ثم قال ابن حجر العسقلاني معقبًا على كلام ابن المنير: ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يزد على العادة.

قال الجصاص - في معرض حديثه عن القاضي - أما من كان يهاديه قبل القضاء وقد علم أنه لم يُهده إليه لأجل القضاء، فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك.

قال البغوي: روي عن علي بن أبي طالب: أنه كان يرد الهدايا التي تأتيه أثناء خلافته إلى بيت مال المسلمين.

ص: 468

‌فائدة: 1

الحكمة من تحريم الهدية للقاضي.

أ-أن المهدي يدل بهديته على القاضي ويجرؤ بها عليه.

ب- أن الهدية تكسر شخصية القاضي بالنسبة للمهدي وتحمله على مراعاته ولين الجانب له أو محاباته.

قال الشوكاني: إن للإحسان تأثيرًا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولةٌ على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلًا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه، والرِّشوة لا تفعل زيادةً على هذا.

(إِلاَّ مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ).

هذه حالة يجوز للقاضي أن يقبل الهدية وهي: إذا كانت الهدية من أحد كان يهادية قبل أن يتولى القضاء وليست له حكومة، فإن كان له حكومة فلا يجوز للقاضي أن يقبلها.

جاء في (الموسوعة الفقهية) يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي قَبُول الْهَدِيَّةِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

أَمَّا مَنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ قَرَابَتِهِ أَوْ صُحْبَتِهِ أَوْ جَرَتْ لَهُ عَادَةٌ بِمُهَادَاتِهِ قَبْل الْقَضَاءِ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَبُول، وَالأْوْلَى إِنْ قَبِل الْهَدِيَّةَ - مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ - أَنْ يُعَوِّضَ الْمُهْدِيَ عَنْهَا، وَيَحْسُنُ بِهِ سَدُّ بَابِ قَبُول الْهَدَايَا مِنْ كُل أَحَدٍ؛ لأِنَّ الْهَدِيَّةَ تُورِثُ إِدْلَال الْمُهْدِي وَإِغْضَاءَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، إِلاَّ الْهَدِيَّةُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ - مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ - فَالأْوْلَى قَبُولُهَا لِصِلَةِ الرَّحِمِ؛ وَلأِنَّ فِي رَدِّهَا قَطِيعَةً لِلرَّحِمِ وَهِيَ حَرَامٌ.

وَأَمَّا الرِّشْوَةُ فَحَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ لِحَدِيثِ: لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْم.

(الموسوعة).

ص: 469

(ولا الحُكم قبلَ معرفةِ الحق).

أي: يحرم على القاضي أن يحكم قبل معرفة الحق.

لقوله تعالى (فاحكم بين الناس بالحق)، ومن لم يعرف الحق كيف يحكم؟

(فإنْ أشكلَ عليهِ شاورَ فيه أهلُ العلمِ والأمانة).

لقوله تعالى (وشاورهم في الأمر).

وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في غزوة بدر، وفي مصالحة الكفار يوم الخندق، وفي لقاء الكفار يوم بدر.

‌فائدة:

قال السعدي: قوله تعالى (وشاورهم في الأمر) أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:

منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.

ومنها: أن فيها تسميحاً لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي، والفضل

وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.

ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الناس عقلاً وأغزرهم علماً، وأفضلهم رأياً:(وشاورهم في الأمر) فكيف بغيره؟!

ص: 470

(وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ).

أي: لا يصح أن يحكم القاضي لنفسه، وإنما يتحاكم إلى قاضٍ آخر.

قال ابن قدامة: ولا يجوز له أن يحكم لنفسه؛ لأنه لا يجوز أن يكون شاهداً لها، ويتحاكم هو وخصمه إلى قاض آخر. ويجوز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه؛ لأن عمر حاكم أبياً إلى زيد، وحاكم عثمان طلحة إلى جبير. ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا، ولا لولده وإن سفل؛ لأنه متهم في حقهما، فلم يجز حكمه لهما، كنفسه. (الكافي).

(وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ)

أي: ولا يصح أن يحكم لمن لا تقبل شهادته له، كأصوله، وفروعه، وزوجه.

لأنه متهم في حقهما، فلم يجز حكمه لهما، كنفسه. (الكافي).

مثال: حدثت قضية بين ابنه وبين شخص، فلا يحكم.

ص: 471

‌بَابُ طَرِيقِ الحُكْمِ وَصِفَتِهِ

(فمن ادعى مالاً ونحوه فعليه البينة).

أي: أن من ادعى مالاً ونحوه على شخص فعليه البينة، أي: يطالب أن يقيم المطالب الدليل على صدقه ويُظهر الحجة، وهي البينة.

والبينة. ما يظهر به الحق ويبين به، كالشهود وغيرهم.

- فإن جاء بالبينة سمعها وكان ذات عدل: حكم بنقتضاها.

(فإن لم يكن له بينة - ولم يقر المدعَى عليه - حلف المدَّعَى عليه وبرئ وخَلّى سبيلَه).

أي: فإن لم يكن للمدعِي بينة - لا رجلان، ولا رجل وامرأتان، ولا رجل ويمين - ولم يقر بالحق، فإن القاضي يطلب من المدعى عليه أن يحلف على البراءة فيقول: والله ما له عندي شيء، ويبرأ ويخلي سبيله.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْه). متفق عليه

وجاء عند البيهقي بلفظ (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) حديث حسن.

قال السعدي: هذا الحديث عظيم القدر، وهو أصل من أصول القضايا والأحكام، فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع، هذا يدعي على هذا حقاً من الحقوق، فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتاً عليه، فبين صلى الله عليه وسلم أصلاً بفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل، فمن ادعى عيناً من الأعيان، أو ديناً، أو حقاً من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير، فالأصل مع المنكر، فهذا المدعي إن أتى ببينة تثبت ذلك الحق، ثبت له، وحُكمَ له به، وإن لم يأت ببينة، فليس له على الآخر إلا اليمين.

أن البينة على المدعي، أي يقيم المطالب الدليل على صدقه ويُظهر الحجة، ومن البينة الشهود، الذين يشهدون على صدقه.

ص: 472

‌فائدة: 1

الحكمة في كون البينة على المدعي.

لأنه يدعي أمراً خفياً بحاجة إلى إظهار، والبينة دليل قوي لإظهار ذلك.

‌فائدة: 2

أنه إذا لم يجد المدعي بينة ولا شهوداً، فإن القاضي يطلب من المدعَى عليه أن يحلف أن ما ادعاه عليه المدعي غير صحيح ويكون الحكم له بيمينه.

‌فائدة: 3

يجب الحذر من الأيمان الكاذبة، فقد جاء الوعيد في ذلك:

قال صلى الله عليه وسلم (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قيل: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً، قال: وإن كان قضيباً من أراك) متفق عليه.

‌فائدة: 4

بين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكم، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد، ولادعى رجال دماء قوم وأموالهم.

ص: 473

(ولا يحكم بعلمهِ).

أي: لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه.

وهذا قول مالك وأحمد ونصره ابن القيم.

لحديث أُمّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ اَلنَّارِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لقوله صلى الله عليه وسلم (فأقضي له نحو ما أسمع) فدل على أنه يقضي فيما يسمع لا فيما يعلم.

قال القرطبي: قوله تعالى (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

).

هَذِهِ الْآيَةُ تَمْنَعُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ الْحُكَّامَ لَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِعِلْمِهِمْ لَمْ يَشَأْ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْفَظَ وَلِيَّهُ وَيُهْلِكَ عَدُوَّهُ إِلَّا ادَّعَى عِلْمَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، مَا أَخَذْتُهُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِي. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ فَقَالَتْ لَهُ: احْكُمْ لِي عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا فَإِنَّكَ تَعْلَمُ مَا لِي عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهَا: إِنْ أَرَدْتِ أَنْ أَشْهَدَ لَكِ فَنَعَمْ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اشْتَرَى فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ، فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ وَقَالَ:"مَنْ يَشْهَدُ لِي "فَقَامَ خُزَيْمَةُ فَشَهِدَ فَحَكَمَ. خَرَّجَ الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُه

وذهب بعض العلماء: إلى جواز ذلك.

وهو قول أبي يوسف وأبي ثور واختاره المزني وهو قول الظاهرية.

ص: 474

واستدلوا بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ) متفق عليه.

فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها.

وقالوا: إن علم القاضي أقوى من الشهادة، لأن علمه يقين، والشهادة قد تكون كذباً.

والراجح الأول.

قال ابن قدامة: فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره، ولو كان حكماً عليه لم يحكم عليه في غيبته.

وقال ابن القيم: ولا دليل فيه، لأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد لم يكن مسافراً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة ولا يُعطى المدعي بمجرد

دعواه، وإنما كان هذا فتوى منه صلى الله عليه وسلم.

‌فائدة:

حديث أُم سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ

).

فيه دليل على أن حكم القاضي لا يغير حكماً شرعياً في الباطن فلا يحل حراماً.

ص: 475

مثال: لو شهدا شاهدا زور لإنسان بمال، فحكم القاضي بهذا المال لهذا الشخص فإنه لا يحل له بناء على هذه الشهادة، وهذا مذهب جماهير العلماء، وعلى هذا فيكون قضاء القاضي نافذاً ظاهراً لا باطناً.

وجه الدلالة: لأنه توعد من حكم له بأنه يقتطع له قطعة من نار.

(وَإِنْ نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: إِنْ حَلَفْتَ وَإِلاَّ قَضَيْتُ عَلَيْكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ).

أي: وإن رفض المدعَى عليه أن يحلف، فإنه يقضَى عليه بالنكول، بمعنى أنه يحكم عليه بما ادعي عليه به.

والنكول: هو الامتناع عن اليمين الموجهة من الحاكم إلى المدعى عليه، أو المدعي.

أ- لورود ذلك عن عثمان.

ب- ولأن امتناعه عن اليمين قرينة ظاهرة تدل على صدق المدعِي، فإنه لولا صدقه لدفع المدعىَ عليه دعواه باليمين، فلما نكل عنها كان نكوله قرينة ظاهرة دالة على صدق المدعِي، فقدمت على أصل براءة الذمة.

فيقضى عليه بالنكول بمجرد رفضه الحلف ولا ترد على المدعي.

مثال: ادعى زيد على عمرو (100) ريال، فقيل لزيد: هات البينة، فقال: ليس عندي بيّنة، وطلب أن يحلف المُنكر - الذي هو عمرو - فقال عمرو: لا أحلف، فعلى هذا القول: يحكم عليه بالنكول ولا نقول لزيد - المدعي - احلف أنك تطلبه كذا وكذا.

لقوله صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فلم يجعل في جانب المدعي إلا البينة.

وذهب بعض العلماء: إلى أن اليمين ترد على المدعي (وهو طالب الحق)، وهو إن كان صادقاً في دعواه فالحلف لا يضره، وإن كان كاذباً فقد يهاب الحلف ولا يحلف. [الشرح الممتع: 15/ 321]

ص: 476

وفي هذه الحالة: إذا حلف أخذ ما ادعى به واستحق المتنازع عليه.

واستدل أصحاب هذا القول بحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق) رواه الدارقطني وهو حديث ضعيف [معنى رد الحق: تنقل من المدعَى عليه إلى المدعِي].

ولأنه إذا رفض المدعي عليه أن يحلف ظهر صدق المدعي، فقوي جانبه، فتشرع اليمين في حقه كما كانت تشرع في حق المدعى عليه قبل نكولهِ. [اليمين في حق من جانبه أقوى دائماً].

قوله (فَيَقُولُ: إِنْ حَلَفْتَ وَإِلاَّ قَضَيْتُ عَلَيْكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْه).

أي: يقول القاضي للمدعَى عليه: إن امتنعت عن الحلف، فإنه يترتب على ذلك أنني أقضي عليك، فإن حلف فإن القاضي يخلي سبيله كما سبق.

‌فائدة:

إذا توجهت اليمين على المدعى عليه ونكل عن اليمين، فهل يعتبر نكوله عن اليمين إقراراً منه بما يدعيه المدعي؟

قيل: أن النكول عن اليمين إقرار من الناكل أو بدل عنه.

وقيل: أن النكول عن اليمين يعتبر كالبذل والإباحة والترك، وعدم المطالبة.

وقيل: أن النكول عن اليمين كإقامة البينة.

وهذا مذهب الحنابلة.

قال ابن القيم: وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النُّكُولَ يَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدِ وَالْبَيِّنَةِ، لَا مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَلَا الْبَذْلِ، لِأَنَّ النَّاكِلَ قَدْ صَرَّحَ بِالْإِنْكَارِ، وَأَنَّهُ لَا

يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِهِ.

وَهُوَ مِصْرُ عَلَى ذَلِكَ، مُتَوَرِّعٌ عَنْ الْيَمِينِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ مُقِرٌّ، مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَيُجْعَلُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ؟ وَأَيْضًا، لَوْ كَانَ مُقِرًّا لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ بَيِّنَةُ نُكُولِهِ بِالْإِبْرَاءِ وَالْأَدَاءِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ، وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُقِرًّا شَاهِدًا عَلَى نَفْسِهِ بِنُكُولِهِ، وَالْبَذْلُ إبَاحَةٌ وَتَبَرُّعٌ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِهِ.

ص: 477

(وَإِنْ حَلَفَ المُنْكِرُ ثُمَّ أَحْضَرَ المُدَّعِي بَيِّنَةً حَكَمَ بِهَا، وَلَم تَكُنِ الْيَمِينُ مُزِيْلَةً لِلْحَقِّ).

أي: حينما حلف المدعَى عليه، فإن اليمين تزيل الخصومة ولا تزيل الحق.

لقوله صلى الله عليه وسلم (

فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ اَلنَّارِ).

وبناء على هذا: لو أن المدعي بعد حلف المدعى عليه وجد بينة، فإن القاضي يحكم بهذه البينة، ولا تكون يمين المدعَى عليه مزيلة للحق.

(ولَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْعِبَادَاتِ).

أي: لا يستحلف المنكر في العبادات، لأنه حق لله تعالى.

فلو قيل لشخص: أنت ما صليت، قال: صليت، فلا نحلِّفه، لأن هذا لحق الله، أو قيل لإنسان: أنت صمت؟ قال: نعم، قلنا: ما صمت، قال: بل صمت، فلا نحلِّفه، وفي الزكاة كذلك، قلنا: أديت الزكاة؟ قال: أديتها، فلا نحلفه، وهل نقول: إلى مَنْ أديت؟ الجواب: لا.

‌فائدة:

والقاعدة العامة في هذا: أن ما كان من حقوق الآدميين فإنه يحلف فيه، وما كان من حقوق الله فإنه لا يحلف فيه؛ لأن حقوق الآدميين فيها خصم وهو الآدمي، فيحتاج إلى التبرئة إن كان مدعًى عليه وهو ينكر. أو التقوية إن كان مدعي ومعه شاهد فيحتاج إلى التبرئة أو التقوية باليمين، أما إذا كان الحق لغير الآدمي فهذا لا يستحلف فيه ولا نتعرض له؛ لأن هذا الحق بين الإنسان وبين ربه. (الشرح الممتع).

(وَلَا فِي حُدُودِ اللهِ).

أي: لا يشرع الاستحلاف في الحدود للمنكر. (ما يوجب الحد).

أ-لأنه يحب سترها.

ب-ولأنه لو أقر بها ثم رجع عن إقراره؛ قبل منه، وخلي سبيله، فلئلا يستحلف مع عدم الإقرار أولى.

فلو قيل لشخص: أنت زنيت، فقال: ما زنيت، فلا نقول: احلف؛ لأنه لو لم يحلف لم نحُدَّه؛ لأننا لا نحده حتى يقر، ويبقى على إقراره إلى أن يقام عليه الحد.

ص: 478

(وَيُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ فِي كُلِّ حَقٍّ لآدَمِيٍّ).

أي: ويستحلف المنكر، إذا توجهت عليه اليمين، في دعوى صحيحة على صفة جواب المنكر، بطلب خصمه، وإن لم يطلب خصمه اليمين، لم يستحلف والاستحلاف لا يكون إلا في مجلس الحاكم.

وقد تقدم الحديث (

واليمين على من أنكر).

قال الشيخ ابن عثيمين: وفي الحديث إشارة إلى أن المراد حقوق الآدميين، لأنه ليس هناك مدعٍ ومدعى عليه إلا في حقوق الآدميين.

(وَالْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ الْيَمِينُ بِاللهِ).

وتقدمت أحكامها، وهي الحلف بالله أو بصفة من صفاته.

(وَلَا تُغَلَّظُ إِلاَّ فِيْمَا لَهُ خَطَرٌ).

تغليظ اليمين: هو توكيدها وتشديدها.

فتغليظ اليمين لا يكون إلا في أمر له خطر.

ص: 479

‌باب الدعاوَى

الدعاوى: جمع دعوى، وهي: أن يضيف الإنسان إلى نفسه حقاً على غيره.

(وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إِلاَّ مُحَرَّرَةً، مَعْلُومَةَ المُدَّعَى بِهِ).

أي: يشترط لصحة الدعوى أن تكون محررة.

المراد بتحرير الدعوَى: تمييزها عما تلتبس به، بحيث يُعلم المدعَى به، فيُذكر قدره وجنسه وصفته وكل ما يحتاج إليه القاضي، حتى يبقى متميزاً ظاهراً.

وإنما اشترط تحريرها، لأن الحكم مرتب عليها.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (إنما أقضي على نحو ما أسمع).

(مَعْلُومَةَ المُدَّعَى بِهِ).

أي: ويشترط أيضاً لصحة الدعوى العلم بالمدعَى به.

فلا يكفي أن يقول أدعي عليه دراهم، بل لا بد ان يذكر قدرها ونوعها.

(تُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الْبَيِّنَةِ ظَاهِراً وَبَاطِناً).

البينة: كل ما أبان الحق وأظهره، والمراد بالبينة هنا الشهود.

فيشترط أن يكون الشهود عدولاً في الظاهر والباطن.

لقوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم).

والعدالة: صلاح الدين [بأداء الواجبات وترك المحرمات من إتيان الكبائر أو الاصرار على الصغائر] واستعمال المروءة [وهي استعمال ما يجمله ويزينه].

وذهب ابن تيمية أن العدل من كان معروفاً بالصدق في أقواله، وأخباره، مرضياً عند الناس، حتى وإن لم يكن متصفاً بجميع الصفات التي اشترطها الفقهاء في العدالة.

ص: 480

وفي هذا المجال يقول رحمه الله: وَأَمَّا تَفْسِيرُ " الْعَدَالَةِ " الْمَشْرُوطَةِ فِي هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ: فَإِنَّهَا الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ وَالصَّلَاحُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْكَبِيرَةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ. و " الصَّلَاحُ فِي الْمُرُوءَةِ " اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ وَاجْتِنَابُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ فَإِذَا وُجِدَ هَذَا فِي شَخْصٍ كَانَ عَدْلًا فِي شَهَادَتِهِ وَكَانَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ أَحَدٌ فِي وَصِيَّةٍ أَوْ رَجْعَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا صِفَةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي أَكْمَلَ إيمَانَهُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَبَّاتِ لَمْ يُكْمِلْهَا.

وقال: بَابُ الشَّهَادَةِ مَدَارُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ مَرْضِيًّا أَوْ يَكُونَ ذَا عَدْلٍ يَتَحَرَّى الْقِسْطَ وَالْعَدْلَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَالصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ هَذَا مَعَ الْإِخْلَالِ بِكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الصِّفَات.

(وَمَنْ جُهِلَتْ عَدَالَتُهُ سُئِلَ عَنْهُ).

أي: إذا جهل القاضي عدالة الشهود، فإنه يسأل عنهم، وذلك بأن يطلب من يزكيهم ويعرفهم.

(وَإِنْ عَلِمَ عَدَالَتَهُ عَمِلَ بِهَا).

أي: إن علم القاضي عدالتهم، فإنه يعمل بهذه البينة، ولا حاجة إلى من يزكيهم.

(وَإِنْ جَرَحَ الْخَصْمُ الشُّهُودَ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ بِهِ وَأُنْظِرَ لَهُ ثَلَاثاً إِنْ طَلَبَهُ).

أي: إذا جرح الخصم في الشهود، فإنه يطلب منه إقامة البينة على الجرح، وذكر سبب الجرح، فإن طالب الإنظار، فإن القاضي ينظره ثلاثة أيام حتى يأتي ببينة جرح الشهود.

(وَلِلْمُدَّعِي مُلَازَمَتُهُ).

أي: للمدعِي أن يلازم المدعَى عليه مدة الإنظار لئلا يهرب فيضيع حقه.

(فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ حَكَمَ عَلَيْه)

أي: إذا لم يأتِ ببينة تشهد بما ادعاه من الجرح، فإنه يُحكم عليه، لأن الحكم تمّت شروطه، وانتفت موانعه.

ص: 481

(ويَحكمُ على الغائبِ إذا ثَبتَ عليه الحق).

أي: أن القاضي يحكم للمدعي إذا كان المدعَى عليه غائباً عن البلد (كأن يكون مسافراً أو مستتر في البلد).

قال ابن قدامة: أَنَّ مَنْ ادَّعَى حَقًّا عَلَى غَائِبٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَطَلَبَ مِنْ الْحَاكِمِ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ، وَالْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ إجَابَتُهُ، إذَا كَمُلَتْ الشَّرَائِطُ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةُ وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَسَوَّارٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

أ-لحديث عَائِشَة قَالَتْ (دَخَلَتْ بِنْتُ عُتْبَةَ -اِمْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ- عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنْ اَلنَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلِيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ? فَقَالَ: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ، وَيَكْفِي بَنِيك) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وجه الدلالة: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان لزوجته وهو غائب.

قال ابن المنذر: هذا حكم منه بالنفقة، وأبو سفيان ليس بحاضر ولم ينتظر حضوره.

ب- صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم على الغائب، كما حدث في حادثة العرنيين الذين قتلوا الرعاء، وسملوا أعينهم، وفروا، فأرسل إليهم القائف يتبعهم وهم غيب، حتى أدركوا، واقتص منهم.

ج-صح عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما القضاء على الغائب، ولا مخالف لهما من الصحابة.

د- المدعي له بينة مسموعة عادلة فجاز الحكم بها، كما لو كان الخصم حاضراً.

وذهب بعض العلماء: إلى عدم جواز ذلك.

أ-لحديث أُمّ سَلَمةَ أَن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، فأَقْضِي لَهُ بِنحْو ما أَسْمَعُ).

قال ابن رشد: هذا الحديث عمدة من منع القضاء على الغائب.

ص: 482

وجه الدلالة: قوله (فأَقْضِي لَهُ بِنحْو ما أَسْمَعُ) وهذا يدل على أن القاضي لا يحكم إلا بما يسمع من الخصمين.

ب- ولحديث عليّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ، فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ، حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ اَلْآخَرِ، فَسَوْفَ تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِي) قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِيًا بَعْدُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

وجه الدلالة: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحكم لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، والحكم على الغائب حاله هكذا، يقضَى للمدعِي في غيبة المدعى عليه، فهو قضاء لأحدهما قبل سماع كلام الآخر، وهذا منهي عنه.

والراجح الأول.

‌تنبيه:

الاستدلال بحديث هند في قصة أبي سفيان فيه نظر من وجهين:

الوجه الأول: أن أبا سفيان لم يكن غائباً عن مكة بل كان في مكة اثناء هذا القضاء، وهم لا يقولون بالقضاء على الغائب في البلد.

الوجه الثاني: أن هذا من باب الفتوى وليس من باب القضاء بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة.

قال ابن القيم: وَقَدْ احْتَجّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْأَلْهَا الْبَيّنَةَ وَلَا يُعْطَى الْمُدّعِي بِمُجَرّدِ دَعْوَاهُ وَإِنّمَا كَانَ هَذَا فَتْوَى مِنْهُ صلى الله عليه وسلم. (زاد المعاد).

‌فائدة:

ذهب جمهور العلماء إلى عدم صحة القضاء على الغائب عن مجلس الحكم إذا كان غيابه داخل البلد.

فهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والمشهور من مذهب الشافعية، والحنابلة.

أ-أن الغائب خارج البلد غيبته تطول غالباً، أما من كان في البلد فلا تطول، ولذا لزم حضوره مجلس القاضي، فلعله يجد مطعناً ودفعاً لما ادعي عليه.

ب-أن إحضار من كان غائباً داخل البلد فيه تسهيل للقضاء، وسلوك أقرب الطرق واجب في القضاء.

ص: 483

(والْمُدَّعِي مَنْ إِذَا سَكَتْ تُرِكَ، وَالْمُدَّعَى عليه مَنْ إِذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ).

هذا الفرق بين المدعِي والمدعَى عليه:

الْمُدَّعِي مَنْ إِذَا سَكَتْ تُرِكَ، وَالْمُدَّعَى عليه مَنْ إِذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ.

والمعنى: أنَّ المدعي هو: مَن يُطالب بشيء مدعيًا أنه له، فإذا أحجم عن إكمال دعواه فإنَّ القاضي يتركه، ولا يلزمه بإكمال الدعوى، لأنه مدعٍ.

وأما المدعى عليه فهو المطلوب، ولا يسوغ له الامتناع عن إجابة طلب القاضي وسماع الدعوى، ما دام المدعي مقيمًا على دعواه؛ لأنه لا يمكن إنهاءُ الخصومة القائمة التي استمر فيها المدعي إلا بالاستمرار في جلساتها عند القاضي، كي تنتهي بحكمٍ لأحد الطرفين بحسب ما لديهما من بينات وحججٍ، أو بما أداه الطرفان من أيْمانٍ على ما ذكراه عند القاضي.

(وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى وَالإِنْكَارُ إِلاَّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ).

أي: إنما تصح الدعوى من جائز التصرف: وهو الحر، المكلف، الرشيد.

لأن من لا يصح تصرفه لا قول له في المال، والدعوى قول يترتب عليه حكم شرعي، فلم يصح من غير جائز التصرف.

(وَإِذَا تَدَاعَيَا عَيْناً بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، إلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا يَحْلِفُ).

إذا تداعيا عيناً - ككتاب، أو ثوب ونحوهما - فادعى كل واحد منهما أنها له لم تخلُ من أقسام:

أحدها: أن تكون العين في يد أحد المتنازعين ولا بيّنَة تثبت صاحب الحق.

فإنها تكون لمن هي بيده مع يمينه.

لحديث ابن عباس أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) متفق عليه، ومن معه العين مدعى عليه، فعليه اليمين.

ص: 484

ولقوله صلى الله عليه وسلم في قصة الأشعث بن قيس وخصمه (شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك).

ولأن اليد دليل الملك الظاهر.

فإن كان مع أحدهما بيّنة: فتكون لمن أقام البينة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (البيّنة على المدعي. . .) والبينة أن يأتي من هي بيده بشهود أنها له.

(وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، قُضِيَ لِلْخَارِجِ بِبَيِّنَتِهِ، وَلَغَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ).

الداخل: من كانت العين بيده، والخارج: من لم تكن العين بيده.

هنا: إذا أقام كل واحد منهما بيّنة، فلمن تكون؟

يقضى بها للخارج، وهو الذي ليس يده عليها.

لأنه هو المدعي، وفي الحديث (البينة على المدعي. . .) فإذا أقام البينة قضي له.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه يقضى بها للداخل وهو من كانت تحت يده (وهو المدعى عليه).

وهذا قول الجمهور. وهذا أرجح.

‌فائدة:

إذا كانت العين في يد كل واحد من المتنازعين، كبعير كل منهما ممسك بزمامه.

فيتحالفان، فيحلف كل واحد منهما لصاحبه (إذا لم يكن هناك بينة) ثم تقسم العين بينهما.

ص: 485

‌باب الشهادة

الشهادة لغة: تطلق الشهادة في اللغة على معان منها:

الحضور، ومنه قوله تعالى:(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

والمعاينة، ومنه قوله تعالى:(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ).

والقسم، ومنه قوله تعالى:(فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ).

والخبر القاطع، ومنه قوله:(وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا).

واصطلاحاً: إخبار بحق يعلمه للغير على الغير.

قولنا (يعلمه) فلا بد من علمه بالشيء، فلا يمكن أن يشهد بالظن.

والأصل فيها:

قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء).

وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ).

وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ).

وجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالإشهاد، والأمر دليل المشروعية.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ:

عن الأشْعَث بْنَ قَيْس قال (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ) رواه مسلم.

وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الشهادة صراحة فقال: شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ.

ص: 486

وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال (الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الشَّهَادَةُ.

وقَدِ انْعَقَدَ الإْجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا لإِثْبَاتِ الدَّعَاوَى.

أَمَّا الْمَعْقُول: فَلأِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا لِحُصُول التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.

-‌

‌ والشهادة تنقسم إلى قسمين:

تحمل، وأداء.

تحمل: ويكون ذلك بشهود الواقعة (التزام الإنسان بالشهادة).

وأداء: ويكون ذلك عند الحاكم وهو الإخبار عن الواقعة المشهود بها.

مثال: لو أردت أن أبيع بيتي على شخص، وقلت لشخصين تعالا فاشهدا، فهذا يسمى تحملاً، ولو وصل الأمر إلى القاضي بسبب عيب أو غير ذلك، وطلب منهما الشهادة عنده، فشهادتهما تسمى أداءً.

(تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ حَقِّ اللهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ مَنْ يَكْفِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ)

أي: أن تحمل الشهادة في حقوق الآدميين فرض كفاية (إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقي).

لقوله تعالى (وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) أي: إذا دعوا.

وعلى هذا فإذا طلب منك شخص أن تشهد على إقرار دين بحق له، فالشهادة فرض كفاية، إن قام بها من يكفي سقطت عن الباقي وإلا وجبت عليك.

- فإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه (فرض عين).

مثال: دعاك شخص لتشهد على إقرار زيد بحق له، وليس في المكان غيرك، فيجب أن تجيب، لأنه لايوجد من يقوم بالكفاية. [الشرح الممتع]

- وجه تعين تحمل الشهادة إذا لم يوجد إلا الكفاية: أن الواجب لا يتم إلا بهم فتكون المسؤولية على جميعهم.

(وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَهَا، مَتَى دُعِيَ إِلَيْهِ).

أي: وأداء الشهادة - على من تحملها - عند القاضي فرض عين.

أ-لقوله تعالى (ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)، [وإنما خص القلب بالإثم لأنه موضع العلم بها].

ب-ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات.

ج-ولأن امتناعه من أداء الأمانة التي تحملها قد يكون سبباً في ضياع الحقوق.

ص: 487

لكن بشرط أن يدعى إليها، فإن لم تطلب منه الشهادة فلا تجب، إلا في حالة واحدة وهي: إذا كان صاحب الحق لا يعلم عن هذه الشهادة، أو نسي البينة، ففي هذه الحال تتعين الشهادة.

مثاله: تبايع رجلان، وكان هناك رجل ثالث أو رابع يسمعان هذا العقد، ثم إنه حصل منازعة عند القاضي بين هذين المتبايعين، فهنا صاحب الحق لا يعلم بشهادة الشهود، فيجب عليهما أن يأتيا ويشهدا.

وكذلك لو أن صاحب الحق نسي الشاهد، فهنا يجب أن يأتي ويشهد.

جاء في (الموسوعة الفقهية) تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) وقَوْله تَعَالَى (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) وَقَوْلُهُ (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

وَلأِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا كَسَائِرِ الأْمَانَاتِ. فَإِذَا قَامَ بِهَا الْعَدَدُ الْكَافِي سَقَطَ الإْثْمُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالشَّهَادَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَع.

‌فائدة:

إذاً: لا يجب أداء الشهادة إلا إذا دعي إليها كما سبق، لكن هل يستحب أن يأتي ويشهد بدون أن يدعى أم لا؟ اختلف العلماء:

‌القول الأول: أنه مذموم.

لحديث عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). قَالَ عِمْرَانُ فَلَا أَدْرِى أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً «ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤتمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ).

ولأن الذي يبادر للشهادة قبل أن يُسألها قد يتهم بأنه متحيزاً للمشهود له.

ص: 488

‌القول الثاني: أن ذلك محمود.

لحديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِى يَأْتِى بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا) رواه مسلم.

والصحيح التفصيل: إن كان المشهود له لا يعلم بالشهادة، فإن الشاهد يؤديها وإن لم يسألها، وإن كان المشهود له عالماً ذاكراً فإنه لا يشهد حتى تطلب منه الشهادة.

قال الحافظ ابن حجر: وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى اَلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَأَجَابُوا بِأَجْوِبَة أَحَدُهَا: أَنَّ اَلْمُرَادَ بِحَدِيثِ زَيْد: مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَة لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُهَا فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا أَوْ يَمُوتُ صَاحِبُهَا اَلْعَالِمُ بِهَا وَيَخْلُفُ وَرَثَةً فَيَأْتِي اَلشَّاهِدُ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ اَلْأَجْوِبَةِ، وَبِهَذَا أَجَابَ يَحْيَى بْن سَعِيد شَيْخُ مَالِك، وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا.

(وَقَدِرَ).

هذا الشرط الثاني: أن يكون قادراً على الأداء.

فإن كان عاجزاً فإنه لا يلزمه.

لقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم).

وقوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).

والقاعدة: لا واجب مع العجز.

(بِلَا ضَرَرٍ فِي بَدَنِهِ، أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، وَكَذَا فِي التَّحَمُّلِ)

هذا الشرط الثالث: انتفاء الضرر.

فإذا تضمنت شهادته ضرراً في بدنه، أو عرضه، أو ماله، أو أهله فإنه لا يلزمه.

فِي بَدَنِهِ: كأن يضرب أو يقتل.

أَوْ مَالِهِ: كأن يتلف ماله.

ص: 489

أَوْ أَهْلِهِ: كأن يقتل ولده.

لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار).

جاء في (الموسوعة الفقهية) فَإِذَا تَضَرَّرَ فِي التَّحَمُّل أَوِ الأْدَاءِ، أَوْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ لَا تَنْفَعُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَل شَهَادَتُهُ، أَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّبَذُّل فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ.

لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ). وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ).

وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لَا يَحْصُل مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ تَحَمُّلُهَا وَأَدَاؤُهَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَرْضًا عَيْنِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الشُّهُودِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الْحُكْمُ، وَخِيفَ ضَيَاعُ الْحَقِّ. (الموسوعة).

(وَلَا يَحِلُّ كِتْمَانُهَا).

أي: يحرم كتمان الشهادة.

لقوله تعالى (ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

وإنما خص القلب بالإثم لأنه موضع العلم بها.

‌فائدة:

هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة؟

المذهب: لا يجوز.

لأن هذا واجب، وكل واجب لا يجوز للإنسان أن يأخذ عنه عوضاً.

وقيل: يجوز إذا كان محتاجاً. وهذا اختيار ابن تيمية.

ص: 490

جاء في (الموسوعة الفقهية) ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَحِل لِلشَّاهِدِ أَخْذُ الأْجْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ لأِنَّ إِقَامَتَهَا فَرْضٌ، قَال تَعَالَى (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ أَدَاؤُهَا يَسْتَدْعِي تَرْكَ عَمَلِهِ وَتَحَمُّل الْمَشَقَّةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الأْجْرَةِ عَلَيْهَا، لَكِنْ لَهُ أُجْرَةُ الرُّكُوبِ إِلَى مَوْضِعِ الأْدَاءِ.

قَال تَعَالَى (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ).

وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى: الْجَوَازِ؛ وَذَلِكَ لأِنَّ إِنْفَاقَ الإْنْسَانِ عَلَى عِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالشَّهَادَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَا يُشْتَغَل عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ جَمَعَ بَيْنَ الأْمْرَيْنِ. وَلأِنَّ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ عَلَى كَتْبِ الْوَثِيقَةِ.

(وَلَا أَنْ يَشْهَدَ إِلاَّ بِمَا يَعْلَمُهُ).

أي: فلا يجوز أن يشهد أحد بالقرينة أو بغلبة الظن بل لا بد بما يعلمه يقيناً.

أ- لقوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

قال المفسرون هنا: وهو يعلم ما شهد به؛ عن بصيرة وإيقان.

ب- ولأن الشهادة خبر عن أمر واقع فلا بد أن يعلم هذا الأمر الواقع.

ج- وقد جاء في الحديث عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع) رواه ابن عدي وهو ضعيف، لكن معناه صحيح، فهو يدل على أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا على ما يعلمه يقيناً، كما تُعلم الشمس بالمشاهدة.

د- ويؤيد ذلك قوله تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) فإن معنى الآية: النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به.

ص: 491

‌فائدة:

فإن شهد الشاهد بما لم يتيقنه: كان آتيا بشهادة زور.

وشهادة الزور من كبائر الذنوب التي توجب غضب الله سبحانه وسخطه.

عن أبي بكرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَا يَسْكُتُ). متفق عليه

ففيه تحريم شهادة الزور وأنها من الكبائر.

وهي الكذب متعمداً في الشهادة، فكما أن شهادة الزور سبب لإبطال الحق، فكذلك كتمان الشهادة سبب لإبطال الحق.

وإنما كانت من أكبر الكبائر، لأنها يتوصل بها إلى إتلاف النفوس والأموال، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، فلا شيء في الكبائر أعظم ضرراً ولا أكثر فساداً منها بعد الشرك.

قال الحافظ: قَوْلُهُ (وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اهْتَمَّ بِذَلِكَ حَتَّى جَلَسَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَّكِئًا وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِهِ وَعِظَمَ قُبْحِهِ.

وَسَبَبُ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ كَوْنُ قَوْلِ الزُّورِ أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ أَسْهَلَ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ وَالتَّهَاوُنِ بِهَا أَكْثَرَ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ وَالْعُقُوقَ يَصْرِفُ عَنْهُ الطَّبْعُ وَأَمَّا الزُّورُ فَالْحَوَامِلُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ كَالْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا فَاحْتِيجَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِتَعْظِيمِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعِظَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنَ الْإِشْرَاكِ قَطْعًا بَلْ لِكَوْنِ مَفْسَدَةِ الزُّورِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى غَيْرِ الشَّاهِدِ بِخِلَافِ الشِّرْكِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُ قَاصِرَةٌ غَالِباً. (الفتح)

وقوله (فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) أَيْ: شَفَقَةً عَلَيْهِ وَكَرَاهِيَةً لِمَا يُزْعِجُهُ وَفِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدَبِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْه.

ص: 492

وقال النووي: وَأَمَّا قَوْله: (فَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) فَجُلُوسه صلى الله عليه وسلم لِاهْتِمَامِهِ بِهَذَا الْأَمْر، وَهُوَ يُفِيد تَأْكِيد تَحْرِيمه، وَعِظَم قُبْحه.

وَأَمَّا قَوْلهمْ (لَيْتَهُ سَكَتَ) فَإِنَّمَا قَالُوهُ وَتَمَنَّوْهُ شَفَقَة عَلَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَكَرَاهَة لِمَا يُزْعِجهُ وَيُغْضِبهُ.

وجاء في (سبل السلام) وَإِنَّمَا اهْتَمَّ صلى الله عليه وسلم بِإِخْبَارِهِمْ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَجَلَسَ، وَأَتَى بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، وَكَرَّرَ الْإِخْبَارَ؛ لِكَوْنِ قَوْلِ الزُّورِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ: أَسْهَلَ عَلَى اللِّسَانِ، وَالتَّهَاوُنِ بِهَا أَكْثَرَ؛ وَلِأَنَّ الْحَوَامِلَ عَلَيْهِ (قول الزور) كَثِيرَةٌ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا، فَاحْتِيجَ إلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ، فَإِنَّهُ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَتَعَدَّى مَفْسَدَتُهُ إلَى غَيْرِ الْمُشْرِكِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الزُّورِ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى مَنْ قِيلَ فِيه. (سبل السلام).

-‌

‌ وكثرة شهادة الزور من علامات الساعة:

جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم (إن بين يدي الساعة

شهادة الزور وكتمان شهادة الحق) رواه أحمد.

- ومن صفات عباد الرحمن التي ذكرها الله في القرآن في آخر سورة الفرقان أنهم لا يشهدون الزور.

كما في قوله تعالى (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَاذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

وتدبر قوله تعالى في سورة الحج (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ففي هذه الآية أمر الله تعالى باجتناب الشرك واجتناب قول الزور.

- ومن شناعة شهادة الزور أو قول الزور أنه يخدش صيام الصائم.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). رواه البخاري

ص: 493

(بِرُؤْيَةٍ، أَوْ سَمَاعٍ، أَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ فِيْمَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ بِدُونِهَا، كَنَسَبٍ، وَمَوْتٍ، ونكاح).

هذه طرق العلم:

بِرُؤْيَةٍ: أي: رؤية المشهود به.

كما سبق لقوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

قال الشيخ ابن عثيمين: لا يشترط علم المشهود عليه بوجود الشاهد، فلو أن صاحب الحق أتى بالمطلوب في مكان وجعل واحداً يشهد مختبئاً، فإن ذلك يجوز، لأن هذا الذي عليه الحق إذا كان منفرداً صاحب الحق أقر له وإذا كان عنده أحد أنكر، فتحيّل صاحب الحق وفعل ذلك، وهذه حيلة لكنها حيلة جائزة للتوصل للحق.

أَوْ سَمَاعٍ: هذه الطريقة الثانية: وهي السماع من المشهود عليه.

مثل: أن يسمعه وهو يطلق امرأته أو يسمعه وهو يبيع أو ينكح، أو يسمعه يقر أن لفلان عليه ديناً، أو استأجر منه داره أو اشترى منه سيارة وما أشبه ذلك.

أَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ فِيْمَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ بِدُونِهَا: هذه الطريقة الثالثة من طرق العلم: وهي الاستفاضة.

وهي انتشار الخبر وشيوعه بأن يشتهر المشهود به بين الناس فيتسامعون به بإخبار بعضهم بعضاً، فيشهد الشاهد على واقعة لم يشهدها ببصره ولم يدركها بسمعه.

- والاستفاضة لا تقبل إلا فيما يتعذر علمه في الغالب بدونها، كالنسب والولادة والموت والرضاع.

لأنه لو منع من الشهادة بالاستفاضة فيما ذكر لوقع الناس في حرج عظيم، لأن مثل هذه الأمور تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدة أسبابها.

ص: 494

(وإِنْ شَهِدَ بِرَضَاعٍ، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ شُرْبٍ، أَوْ قَذْفٍ فَإِنَّهُ يَصِفُهُ).

أي: إذا شهد برضاع، أو سرقة، أو شرب خمر، أو قذف فإنه يصف ذلك.

ففي الرضاع: يذكر عدد الرضعات، وأنه شرب من ثديها، أو لبن حلب منه، ولا يكفي أن يشهد أنه ابنها من الرضاع.

جاء في (حاشية الروض) لأن الناس يختلفون في عدد الرضعات، وفي الرضاع المحرم، ولا بد من ذكر أنه في الحولين، فلا يكفي أن يشهد أنه ابنها من الرضاع، لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها.

وفي السرقة: يذكر المسروق والنصاب والحرز وصفة السرقة، كأن يخبر أنه أخذ من البيت، ومن ثوبه وهو نائم ونحو ذلك.

جاء في (حاشية الروض) أي: [يذكر] صفة السرقة، بأن يقول مثلاً: خلع الباب ليلاً وأخذ، أو أزال رأسه عن ردائه، وهو نائم، وأخذه لتتميز السرقة الموجبة للقطع، من غيرها.

وفي الشرب: يصف الخمر من الأشياء هو.

وفي القذف: يذكر اللفظ الذي قذف به، بأن يقول: أشهد أنه قال: يا زاني أو يا لوطي، ونحوه، ليعلم هل الصيغة صريح فيه، أو كناية.

(وَيَصِفُ الزِّنَا بِذِكْرِ الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَالْمَزْنِي بِهَا).

يشترط في الشهادة بالزنا أن يذكر تفاصيل الواقعة، وماناً ومكاناً وصفة.

فيقول مثلاً: زنى فلان بفلانة في مكان كذا، في زمن كذا، وأنه رأى ذكره في فرجها.

والحكمة في ذكر المزني بها: لئلا تكون ممن تحل له، أوله في وطئها شبهة.

والحكمة في ذكر أنه رأى ذكره في فرجها: لأن اسم الزنا، يطلق على ما لا يوجب الحد، وقد يعتقد الشاهد، ما ليس بزنا زناً، فاعتبر ذكر صفته.

ص: 495

‌فَصْلٌ

هذا الفصل في ذكر من تقبل شهادتهم.

(وشُرُوطُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ سِتَّةٌ: البُلُوغُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ).

‌أولاً: البلوغ فلا تقبل شهادة الصبيان.

قال ابن رشد: اتفقوا على أن البلوغ يشترط حيث تشترط العدالة.

لقوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) والصبي لا يسمى رجلاً.

ولأن الصبي لا يقبل قوله على نفسه، فلأن لا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى.

والمراد هنا أنه لا يقبل أداؤه للشهادة، أما لو تحملها وهو صغير وعَقَل ما تحمله، وشهد به بعد بلوغه صحت شهادته.

‌فائدة:

واختلف في شهادتهم في الأمور التي لا يطلع عليها إلا الصبيان غالباً، كالذي يقع بينهم من القتل أو الجراحات.

القول الأول: أن شهادتهم لا تقبل مطلقاً.

وهذا هو المذهب، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.

القول الثاني: أن شهادتهم تقبل فيما لا يطلع عليه إلا الصبيان كالجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها.

وهذا قول في مذهب مالك واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

حفظاً للدماء التي تقع بينهم، فإنهم في غالب أحوالهم يخلُونَ بأنفسهم، وقد يسطوا بعضهم على بعض، فلو لم يقبل قول بعضهم على بعض لأهدرت دماؤهم.

قال الشيخ ابن عثيمين: وقال بعض العلماء: بل شهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه إلا الصبيان غالباً مقبولة، إذا لم يتفرقوا، وما قاله هؤلاء أصح.

ص: 496

(الثَّانِي: الْعَقْلُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَجْنُونٍ، وَلَا مَعْتُوهٍ، وَتُقْبَلُ مِمَّنْ يُخْنَقُ أَحْيَاناً فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ).

ثانياً: العاقل، فلا تقبل شهادة المجنون.

قال ابن قدامة: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَيْسَ بِعَاقِلٍ، إجْمَاعًا، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَسَوَاءٌ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ طُفُولِيَّةٍ.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَصِّلٍ، وَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِكَذِبِهِ، وَلَا يَتَحَرَّزُ مِنْهُ. (المغني).

‌فائدة:

المجنون مسلوب العقل، الذي ليس له عقل بالكلية، والمعتوه الذي له عقل، لكنه مغلوب عليه، ما يميز ذاك التمييز البين، فهو كالطفل الذي لا يميز، أو ربما نقول: كالطفل الذي يميز، لكن ليس عنده ذاك الإدراك الجيد.

(الثَّالِثُ: الْكَلَامُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الأَخْرَسِ، وَلَوْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، إِلاَّ إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ).

ثالثاً: الكلام، فلا تقبل شهادة الأخرس.

قالوا: لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين، وذلك لا يحصل مع فقد الكلام.

وذهب بعض العلماء إلى أن شهادة الأخرس تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فُهمتْ، وهذا الصحيح.

قال ابن قدامة: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ بِحَالٍ.

نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ رضي الله عنه فَقَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ قِيلَ لَهُ: وَإِنْ كَتَبَهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.

وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.

وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: تُقْبَلُ إذَا فُهِمَتْ إشَارَتُهُ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ فِي أَحْكَامِهِ، مِنْ طَلَاقِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَظِهَارِهِ، وَإِيلَائِهِ، فَكَذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِ.

ص: 497

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الصَّلَاةِ إلَى النَّاسِ وَهُمْ قِيَامٌ، أَنَّ اجْلِسُوا. فَجَلَسُوا.

وَلَنَا؛ أَنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْإِشَارَةِ، فَلَمْ تَجُزْ، كَإِشَارَةِ النَّاطِقِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَقِينُ، وَلِذَلِكَ لَا يَكْتَفِي بِإِيمَاءِ النَّاطِقِ، وَلَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنَّمَا اُكْتُفِيَ بِإِشَارَتِهِ فِي أَحْكَامِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يُمْضِي حُكْمَهُ إذَا وَجَدَ حُكْمَهُ بِخَطِّهِ تَحْتَ خَتْمِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهُ، وَالشَّاهِدُ لَا يَشْهَدُ بِرُؤْيَةِ خَطِّهِ، فَلَأَنْ لَا حُكْمَ بِخَطِّ غَيْرِهِ أَوْلَى.

وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ، وَعَمِلَ بِإِشَارَتِهِ فِي الصَّلَاةِ.

وَلَوْ شَهِدَ النَّاطِقُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، لَمْ يَصِحَّ إجْمَاعًا، فَعُلِمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مُفَارِقَةٌ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ. (المغني).

جاء في (الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي) اشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أن يكون الشاهد ناطقاً، فلا تقبل شهادة الأخرس، وإن فهمت إشارته، لأن الإشارة لا تعتبر في الشهادات، لأنها تتطلب اليقين، وإنما المطلوب التلفظ بالشهادة.

وأجاز المالكية قبول شهادة الأخرس إذا فهمت إشارته.

لأنها تقوم مقام نطقه في طلاقه ونكاحه وظهاره، فكذلك في شهادته.

(الرَّابِعُ: الإِسْلَامُ).

رابعاً: الإسلام.

فلا تقبل شهادة الكافر.

جاء في (الفقه الإسلامي وأدلته) اتفق الفقهاء على اشتراط كون الشاهد مسلماً، فلا تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لأنه متهم في حقه.

أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا).

ب- وإذا كان الفاسق يجب علينا اليقين في خبره، فما بالك بالكافر (فالكافر محل الخيانة).

ج- وقال تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) والكافر ليس بعدل.

د- وقال تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) والكافر ليس منا، ولا ممن نرضاه.

ص: 498

‌فائدة:

لكن شهادة الكفار بعضهم على بعض تقبل.

(الْخَامِسُ: الْحِفْظُ).

خامساً: الحفظ.

فلا تقبل الشهادة من مغفل، ومعروف بكثرة سهو وغلط، لأنه لا تحصل الثقة بقوله.

قال ابن قدامة: أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا حَافِظًا لَا يَشْهَدُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُغَفَّلًا، أَوْ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُه.

‌فائدة:

لو كان كثير النسيان والغفلة، فقيد الشهادة فقال: أنا لا أذكر ولكن قيدت كل ما شهدت به في كتاب عندي، فإن الراجح له أن يشهد بذلك ما دام أنه كتب شهادته بخطه، سواء تذكرها أم لم يتذكرها، ما دام يعلم أن هذا خطه.

(السَّادِسُ: الْعَدَالَةُ: وَيُعْتَبَرُ لَهَا شَيْئَانِ: الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ: وَهُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِسُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ بِأَنْ لَا يَأْتِي كَبِيرَةً، وَلَا يُدْمِنُ عَلَى صَغِيرَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ فَاسِقٍ).

سادساً: العدالة، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ فَاسِقٍ.

جاء في (الفقه الإسلامي) اتفق العلماء على اشتراط العدالة في الشهود.

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَشْهَدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ لِذَلِكَ.

وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فَأَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ نَبَأِ الْفَاسِقِ، وَالشَّهَادَةُ نَبَأٌ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ عَنْهُ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ).

وَلِأَنَّ دِينَ الْفَاسِقِ لَمْ يَزَعْهُ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورَاتِ الدِّينِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ لَا يَزَعَهُ عَنْ الْكَذِبِ، فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِخَبَرِهِ. (المغني).

ص: 499

فائدة:

والعدل: الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ: وَهُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِسُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ بِأَنْ لَا يَأْتِي كَبِيرَةً، وَلَا يُدْمِنُ عَلَى صَغِيرة واسْتِعْمَالُ الْمُرُوءَةِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا يُجَمِّلُهُ، وَيَزِينُهُ، وَاجْتِنابُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ.

هذا هو العدل.

وقد تقدم اختيار ابن تيمية، واختاره بعض العلماء: من رضيه الناس.

للآية (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ). فكل مرضيٍّ عند الناس يطمئنون لقوله وشهادته فهو مقبول.

قال السعدي: وهذا أحسن الحدود، ولا يسع الناس العمل بغيره.

قال ابن تيمية: بَابُ الشَّهَادَةِ مَدَارُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ مَرْضِيًّا أَوْ يَكُونَ ذَا عَدْلٍ يَتَحَرَّى الْقِسْطَ وَالْعَدْلَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَالصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ هَذَا مَعَ الْإِخْلَالِ بِكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الصِّفَات.

(وَمَتَى زَالَتِ الْمَوَانِعُ، فَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُم)

أي: إذا زال المانع الذي منع من قبول الشهادة، فإنه تقبل شهادتهم.

لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

ص: 500

‌بَابُ مَوَانِعِ الشَّهَادَةِ وَعَدَدِ الشُّهُودِ

(لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَمُودَيِ النَّسَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ).

أي: فلا تقبل شهادة الوالد لولده وإن نزل، وشهادة الولد لوالده وإن نزل.

العلة: للتهمة بقوة القرابة.

عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ وَلَا وَلَاءٍ).

وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَالْأَبُ يُتَّهَمُ لِوَلَدِهِ.

قال ابن تيمية: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَشَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تُقْبَل.

وقال الشوكاني: اخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَالْعَكْسُ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَعَلَّلُوا بِالتُّهْمَةِ فَكَانَ كَالْقَانِعِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَشُرَيْحٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْعِتْرَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ: إنَّهَا تُقْبَلُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: (ذَوَيْ عَدْلٍ)، وَهَكَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَلْآخَرِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَرَابَةَ وَالزَّوْجِيَّةَ مَظِنَّةٌ لَلتُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِمَا الْمُحَابَاة. (نيل الأوطار).

(وَلَا شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ).

لوجود الصلة بينهم، وهي مظنة النهمة.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ تُهْمَةِ الْمَحَبَّةِ وَالإْيثَارِ فِي شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى رَدِّ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ.

وَقَالُوا: لأِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ الآْخَرَ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ وَتَتَبَسَّطُ الزَّوْجَةُ فِي مَال الزَّوْجِ، وَتَزِيدُ نَفَقَتُهَا بِغِنَاهُ فَلَمْ تُقْبَل شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ بِتُهْمَةِ جَرِّ النَّفْع.

وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَل شَهَادَةُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ؛ لأِنَّ الأْمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا فَلَا تُهْمَة.

ص: 501

‌فائدة: 1

جاء في (الموسوعة الفقهية) أَصْل رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَمَبْنَاهُ التُّهْمَةُ: وَالشَّهَادَةُ خَبَرٌ يَحْتَمِل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَحُجَّتُهُ بِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ، فَإِذَا شَابَتِ الْحُجَّةَ شَائِبَةُ التُّهْمَةِ ضَعُفَتْ، وَلَمْ تَصْلُحْ لِلتَّرْجِيح.

‌فائدة: 2

قال القرافي: اعلم أن الأمة مجمعة على رد الشهادة بالتهمة من حيث الجملة لكن وقع الخلاف في بعض الرتب، وتحرير ذلك أن التهمة ثلاثة أقسام:

مجمع على اعتبارها لقوتها، ومجمع على إلغائها لخفتها، ومختلف فيها هل تلحق بالرتبة العليا فتمنع أو بالرتبة الدنيا فلا تمنع.

(وَتُقْبَلُ عَلَيْهِمْ)

أي: تقبل شهادة الابن على أبيه، والأب على ابنه، والزوج على زوجته والعكس.

قال ابن قدامة: فَأَمَّا شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَتُقْبَلُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ).

فَأَمَرَ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ لَمَا أَمَرَ بِهَا.

وَلِأَنَّهَا إنَّمَا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ فِي إيصَالِ النَّفْعِ، وَلَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ، كَشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيِّ، بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لِنَفْسِهِ لَمَّا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ فِي إيصَالِ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ، كَانَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ مَقْبُولًا. (المغني).

ص: 502

(وَلَا مَنْ يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعاً، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَراً).

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَلَمْ يَخْتَلِفْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ كُل مَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي مَوْضُوعِ الشَّهَادَةِ بِتُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ لِنَفْسِهِ أَوْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، كَالشَّرِيكِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَى عَمَلٍ قَامَ بِهِ هُوَ كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ يَتَحَمَّلُونَهُ، وَشَهَادَةُ الْغُرَمَاءِ بِفِسْقِ شُهُودِ دَيْنٍ آخَرَ وَذَلِكَ بِتُهْمَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ.

(وَلَا عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ).

كمن شهد على من قذفه، أو قطع الطريق عليه.

جاء في (حاشية الروض) وهو مذهب مالك، والشافعي، وحجتهم قوله (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين) رواه أبو داود، وقال ابن القيم: منعت الشريعة، من قبول شهادة العدو على عدوه، لئلا تتخذ ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه، بالشهادة الباطلة.

وقد أجمع الجمهور، على تأثيرها في الأحكام الشرعية. (الحاشية).

جاء في (الموسوعة الفقهية) تُرَدُّ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لِتُهْمَةِ قَصْدِ الإْضْرَارِ وَالتَّشَفِّي إِذَا كَانَتِ الْعَدَاوَةُ دُنْيَوِيَّةً عِنْدَ الأْكْثَرِ؛ لأِنَّ الْعَدُوَّ قَدْ يَجُرُّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا بِشَهَادَتِهِ، وَهُوَ التَّشَفِّي مِنَ الْعَدُوِّ فَيَصِيرُ مُتَّهَمًا كَشَهَادَةِ الْقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ. أَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ فَلَا تَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ اتِّفَاقًا. (الموسوعة).

فإذا قذف رجل شخصاً بالزنا، ثم في يوم من الأيام شهد المقذوف على من قذفه بالزنا، فإن الشهادة لا تقبل؛ لأن قذفه إياه بالزنا سببٌ للعداوة، أما من شهد بأن فلاناً قذفه فليس هذا مراد، لأن هذا ليس بشاهد ولكنه مدعٍ.

وإذا شهد رجل على من قطع الطريق عليه، نقول: إن شهادته لا تقبل؛ من أجل التهمة. (الشرح الممتع).

(مَنْ سَرَّهُ مَسَاءَةُ شَخْصٍ، أَوْ غَمَّهُ فَرَحُهُ فَهُوَ عَدُوُّهُ).

هذا ضابط العدو: هو الذي يفرح بحزنك، ويغمه فرحك.

ص: 503

‌فَصْلٌ

هذا الفصل في بيان عدد الشهود في الشهادة وهو يختلف باختلاف المشهود به.

(وَلَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَا وَالإِقْرَارِ بِهِ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ)

‌أولاً: ما يشترط فيه أربعة شهود: وهو الزنا.

لقوله تعالى (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ).

وقال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ).

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ).

وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْت لَوْ وَجَدْت مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا، أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(نَعَمْ) رَوَاهُ مَالِكٌ، فِي الْمُوَطَّأ وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِه.

قال ابن قدامة: أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود وقد نص الله تعالى عليه بقوله سبحانه: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ).

‌فائدة: 1

لا تقبل فيه النساء.

جمهور العلماء على أنه يشترط أن يكونوا رجالاً أحراراً فلا تقبل شهادة النساء ولا العبيد.

قال ابن قدامة: وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِحَالٍ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ وَحَمَّادٍ: أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ. وَهُوَ شُذُوذٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَرْبَعَةٍ.

وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَإِنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ.

وَلِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ شُبْهَةً؛ لِتَطَرُّقِ الضَّلَالِ إلَيْهِنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

ص: 504

‌فائدة: 2

يشترط أن يصرح بحقيقة الوطء.

أ- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز (أنكْتَها؟ قال: نعم، قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب الميل في المكحلة أو الرِّشاء في البئر؟ قال: نعم، قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً).

وفي حديث ابن عباس: (فقال: أنكتها؟ قال: نعم، قال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرني، فأمر به فرجم).

ب- التعليل: لأنه ربما يظن ما ليس بزنا زناً موجباً للحد، فاشترط فيه التصريح.

(وَيُقْبَلُ فِي بَقِيَّةِ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَمَا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ وَلَا مَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِباً، كَنِكَاحٍ، وَطَلَاقٍ، وَرَجْعَةٍ، وَخُلْعٍ، وَنَسَبٍ، وَوَلَاءٍ، وَإِيْصَاءٍ إِلَيْهِ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلَانِ).

ما لا بد فيه من شاهدين رجلين ولا تقبل النساء.

في النكاح والطلاق والرجعة وبقية الحدود - غير الزنا واللواط - كالقذف والسرقة والقصاص والخمر: اثنان ولا تقبل شهادة النساء.

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَمِنْهَا مَا يُقْبَل فِيهِ شَاهِدَانِ لَا امْرَأَةَ فِيهِمَا.

وَهُوَ مَا سِوَى الزِّنَى مِنَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَحَدِّ الْحِرَابَةِ، وَالْجَلْدِ فِي الْخَمْرِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال غَالِبًا، مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ مَالٌ: كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالإْيلَاءِ، وَالظِّهَارِ، وَالنَّسَبِ، وَالإْسْلَامِ، وَالرِّدَّةِ، وَالْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيل، وَالْمَوْتِ وَالإْعْسَارِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لَا امْرَأَةَ فِيهِمَا.

وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ.

فَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

ص: 505

وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَقَوْلُهُ (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ).

وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال فِي النِّكَاحِ: لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ.

وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا شَارَكَهَا فِي الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ.

(وَيُقْبَلُ فِي الْمَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ كَالْبَيْعِ، وَالأَجَلِ، وَالْخِيَارِ فِيهِ، وَنَحْوِهِ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وامْرَأَتَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي).

ما يكفي في الشهادة به رجلان أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي.

المال وما يقصد به المال، كالبيع والإجارة والأجل والقرض والرهن والوديعة ونحو ذلك من العقود المالية، فيقبل فيه شهادة الرجلين أو الرجل والمرأتين.

لقوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).

قال ابن حجر: وقول الله تعالى (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) قال ابن المنذر: أجمع العلماء على القول بظاهر هذه الآية، فأجازوا شهادة النساء مع الرجال، وخص الجمهور ذلك بالديون والأموال، وقالوا: لا تجوز شهادتهن في الحدود والقصاص، واختلفوا في النكاح والطلاق والنسب والولاء فمنعها الجمهور، وأجازها الكوفيون. (فتح الباري).

جاء في (الموسوعة الفقهية) وَقَصَرَ الْجُمْهُورُ قَبُول شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرَّجُل وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مَالٌ أَوْ بِمَعْنَى الْمَال، كَالْبَيْعِ، وَالإْقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالضَّمَانِ، وَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، كَالْخِيَارِ، وَالأْجَل، وَغَيْرِ ذَلِك.

(ومَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، كَعُيُوبِ النِّسَاءِ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالرَّضَاعِ، وَالاِسْتِهْلَالِ وَنَحْوِهِ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ عَدْلٍ).

ما يكفي فيه شهادة امرأة عدلة واحدة، وهو ما لا يطلع عليه الرجال غالباً.

لحديث عُقْبَة بْن الْحَارِثِ (أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأَبِى إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتِنِي. فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ». فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجاً غَيْرَه) رواه البخاري.

ص: 506

‌فائدة:

ما يثبت إلا بثلاثة رجال.

إذا ادعى - من عرف بالغنى - بالفقر فلا تقبل هذه الدعوى إلا إذا شهد ثلاثة.

لحديث قبيصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَاماً مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ سِدَاداً مِنْ عَيْشٍ - وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَاناً فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَاماً مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ سِدَاداً مِنْ عَيْشٍ - فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتاً يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتاً) رواه مسلم.

(وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْمَالِ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يُنْقَضْ، وَيَلْزَمُهُمُ الْضَّمَانُ دُوْنَ منْ زَكَّاهُمْ).

الرجوع في الشهادة: هو أن ينفي الشاهد ما أثبته أولاً بشهادته بأن يقول: رجعت عما شهدت به، أو كذبت في شهادتي، أو ما أشبه ذلك من الأقوال.

فإذا حكم القاضي بأمر مالي بناء على شهادة شهود، وبعد الفراغ من الحكم رجع الشهود عن دعواهم وشهادتهم فإن حكم القاضي لا ينقض.

لأن حق المشهود له وجب بالحكم، فلا يسقط بعد وجوبه بقول الشهود واعترافهم بالكذب، لأنه يحتمل كذبهم فيه.

فإن قالوا: تعمدنا الكذب، فقد شهدوا على أنفسهم بالفسق فيلزمهم بذل المال الذي شهدوا به.

لأنهم كانوا السبب في إخراجه من ملك صاحبه، فبشهادتهم الباطلة حالوا بين المالك، فلزمهم الضمان.

‌فائدة:

الشهادة على الشهادة:

‌تعريفها:

وهي: أن يقول شخص لآخر: اشهد على شهادتي بكذا، أو اشهد أني أشهد بكذا، ونحو ذلك؛ ففيها معنى النيابة، ويسمى الشاهد الأصلي شاهد الأصل، والنائب عنه شاهد الفرع.

‌شروطها:

أولاً: أن يأذن شاهد الأصل لشاهد الفرع؛ لأنها في معنى النيابة، ولا ينوب عنه إلا بإذنه.

ثانياً: أن يكون فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وهو حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى.

ثالثاً: أن تتعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو خوف من سلطان أوغيره.

رابعاً: أن يستمر عذر شاهد الأصل إلى الحكم.

خامساً: دوام عدالة شاهد الأصل وشاهد الفرع إلى صدور الحكم.

سادساً: أن يعين شاهد الفرع شاهد الأصل الذي تحمل عنه الشهادة.

ص: 507

‌باب الإقرار

ختم المصنف رحمه الله الكتاب بباب الإقرار، تفاؤلاً بالإقرار بالشهادة عند الوفاة لقوله صلى الله عليه وسلم (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود.

(وهو اعتراف الإنسان بحق عليه).

الإقرار: هو اعتراف الإنسان بما عليه لغيره من حقوق.

وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها

).

وحديث ماعز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدّه بإقراره.

وكذلك الغامدية حدها الله لما اعترفت بالزنا.

وأجمع المسلمون على صحة الإقرار.

وهو أقوى الأدلة لإثبات دعوى المدعى عليه، ولهذا يقولون: إنه سيد الأدلة.

ولهذا يبدأ القاضي بسؤال المدَّعى عليه، فإن أقرَّ بالشيء المدَّعى به، لَم يَحتَجْ إلى طلب البيِّنة، فيبدأ القاضي بالسؤال عنه قبل السؤال عن الشهادة، على أنَّ حُجيَّته قاصرة على المقرِّ وحده؛ لقصور ولاية المُقر عن غيره، فيقتصر عليه، فلا يصحُّ إلزامُ أحدٍ بعقوبة نتيجة إقرار آخرَ بأنه شارَكه في جريمته.

(بكلِ لفظٍ دالٍ على الإقرار).

أي: أن الإقرار يصح بكل لفظ دال عليه.

ص: 508

(بشرط كون المقر مكلفاً).

أي: يشترط لصحة الإقرار: أن يكون المقر مكلفاً، أي: بالغاً عاقلاً، فلا يصح من صبي أو مجنون.

لحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق،

).

ولأنه قول ممن لا يصح تصرفه فلم يصح، كفعله.

فلا يصح من صبي، ولا من مجنون.

فلا يصح الإقرار من السكران لأنه لا عقل له، ولذلك لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم عمه حمزة حينما قال له: هل أنتم إلا عبيد أبي.

قال ابن قدامة: وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ.

فَأَمَّا الطِّفْلُ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُبَرْسَمُ، وَالنَّائِمُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمْ لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.

وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ).

فَنَصَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ.

وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ غَائِبِ الْعَقْلِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمٌ، كَالْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ.

(مُختاراً).

ومن الشروط: أن يكون المقر مختاراً، فلا يصح الإقرار من مكره.

أ-لأن الله رفع حكم الكفر عن المكره لقوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).

ب-ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

وقال تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). فكل العقود لا بد فيها من التراضي.

ص: 509

- فإن ادعى الإكراه فإنه لا يقبل إلا ببينة، كأن يظهر عليه أثر ضربٍ أو حبس.

قال ابن قدامة: وَإِنْ أَقَرَّ بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لِرَجُلٍ، فَأَقَرَّ لِغَيْرِهِ، أَوْ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ، فَيُقِرَّ بِغَيْرِهِ، أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ، فَأَقَرَّ بِطَلَاقِ أُخْرَى، أَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِ عَبْدٍ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ ابْتِدَاءً.

‌فائدة:

ومن الشروط: ألا يكون محجور عليه.

فالمحجور عليه لحظ الغير لا يصح إقراره في أعيان ماله، ويصح في ذمته ويطالب بذلك بعد فك الحجر.

(وهو من أبلغ البينات).

أي: أن الإقرار أبلغ وأقوى الأدلة لإثبات دعوى المدعى عليه، ولهذا يقولون: إنه سيد الأدلة، وهو أقوى من الشهادة.

لأنه اعتراف ممن عليه الحق، فلا يحتمل الشبهة.

(وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى وَزْنِ مَالٍ فَبَاعَ مُلْكَهُ لِذَلِكَ صَحَّ).

أي: وإن أُكرهَ إنسان على دفع مالٍ لإنسان فذهب وباع شيئاً يملكه كسيارة، أو بيت ونحوه ليحصل هذا المال الذي أكره على بيعه فالبيع صحيح.

لأنه إنما أكره على المال ولم يُكره على بيع ماله.

قال ابن قدامة: وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ، فَبَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِيُؤَدِّيَ ذَلِكَ، صَحَّ بَيْعُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الْبَيْعِ.

جاء في (حاشية الروض) أي: وإن أكره على دفع مقدار من المال، كأسير يقال له: ما نفك إسارك إلا بكذا وكذا فباع ملكه لذلك، كره الشراء منه، أو لبيعه بدون ثمن مثله في الغالب، وهو بيع المضطر، وصح الشراء منه، لأنه غير مكره على البيع.

واختار الشيخ: الصحة من غير كراهة، لأن الناس لو امتنعوا من الشراء منه، كان أشد ضرراً عليه.

ص: 510

(وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ).

لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِكْرَاهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلَالَةً عَلَى الْإِكْرَاهِ، كَالْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَ تَدُلُّ عَلَى الْإِكْرَاهِ.

وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ حَالَ إقْرَارِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهَا. (المغني).

(وَمَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِشَيْءٍ فَكَإِقْرَارِهِ فِي صِحَّتِهِ).

أي: أن الأصل في إقرار المريض معتبر صحيح كالإقرار حال الصحة، ولو كان المرض مخوفاً.

لأنه لا يتهم بذلك، بل إن حالة المرض أقرب إلى الاحتياط للنفس، والتخلص مما عليه من الحقوق.

فإذا أقر ببيع ثبت، وإذا أقر بديْن ثبت.

(إِلاَّ فِي إِقْرَارِهِ بِالْمَالِ لِوَارِثٍ فَلَا يُقْبَلُ).

هذا مما يستثنى: إذا أقرّ لوارثٍ بمالٍ فإنه لا يقبل إلا ببينة أو إجازة الورثة.

مثاله: شخص مريض مرضاً مخوفاً، فقال: اشهدوا بأن في ذمتي لولدي فلان عشرة آلاف ريال، وله عدة أولاد.

فإقراره هنا غير مقبول، إلا ببينة أو إجازة الورثة.

لأنه متهم، ولأننا لو أثبتنا هذا الإقرار لكان في ذلك تعدٍّ لحدود الله عز وجل في قسمة المواريث.

جاء في (حاشية الروض) قال القيم من الحيل الباطلة: إذا أراد أن يخص بعض ورثته، ببعض الميراث، وقد علم أن الوصية لا تجوز، وأن العطية في مرضه وصية، أن يقول: كنت وهبت له كذا، وكذا، في صحتي، أو يقر له بدين فيتقدم به، وهذا باطل، والإقرار في مرض الموت لا يصح، للتهمة عند الجمهور، بل مالك يرده للأجنبي، إذا ظهرت التهمة، وقوله هو الصحيح.

ص: 511

‌فائدة:

إن أقر لأجنبي:

فقيل: يصح ولو زاد على الثلث.

لأنه غير متهم فيه، كالإقرار في الصحة، يحققه أن حالة المرض أقرب إلى الاحتياط لنفسه وإبراء ذمته وتجري الصدق، فكان أولى بالقبول.

وقيل: لا يصح إقراره لأجنبي بما زاد على الثلث.

(ولا يلزمُ الورثةَ وفاءُ ديْنٍ).

أي: لا يلزم الورثة قضاء دين على مورثهم.

قال ابن قدامة: فَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ تَرِكَةً لَمْ يُلْزَمْ الْوَارِثُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ دَيْنِهِ إذَا كَانَ حَيًّا مُفْلِسًا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَيِّتًا.

ولعموم قوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

(إلا أنْ يُخَلّفَ تركةً فيتعلقُ بها).

أي: إلا أن يخلف المورّث المدين تركة، فيتعلق الديْن بها، كسائر الحقوق المتعلقة بعين التركة، ويلزم قضاؤه منها، ويُبدأ قبل الوصية بالإجماع، وقد تقدم ذلك.

(ولا يُقبل رجوع المقر عن إقرارهِ).

مفهوم الرجوع في الإقرار: هو أن يصدر من المقر قولاً أو فعلاً يناقض إقراره السابق.

قال ابن قدامة:. . . فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهَا، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.

ص: 512

‌فائدة:

الرجوع عن الإقرار ينقسم إلى أقسام:

أ-الرجوع عن الإقرار في الحدود.

ب- الرجوع عن الإقرار في حقوق الآدميين.

أما الرجوع في الإقرار في حقوق الآدميين فقد تقدم أنه لا يقبل.

وأما الرجوع عن الإقرار في الحدود فاختلف العلماء على أقوال:

صورة المسألة: إذا أقرَّ إنسان بالتهمة الموجهة إليه بعد أن قبض عليه إما تلبساً بها تامة أو غير تامة، دون أن يثبت ذلك ببينةٍ (الشهود) أو يأتي تائباً يريد التطهير.

‌فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

‌القول الأول: أن رجوع المُقِرِّ عن إقراره غير مقبولٍ في الحدود مطلقاً، ويقام عليه الحدُّ بناءً على إقراره الأول.

وهذا هو المروي عن ابن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وهو قولٌ للإمام أحمد.

واختار هذا القول: داود بن علي، وابن حزمٍ، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز، والعلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.

أ-لأنه وردَ في حديث ماعزٍ رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما أنه هرب عندما رُجِمَ ومع ذلك تَبِعَهُ الصحابة رضي الله عنهم ورجموه حتى مات؛ فلم يُنْكِر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 513

ب- أننا لو قبلنا مجرد رجوع المقرِّ عن إقراره لَمَا أُقيم حدٌّ في الدنيا، لأن كلَّ من يعرف أنه سيحد سيرجع عن إقراره إلا مَنْ صَدَقَ في توبته وأراد تطهير نفسه من الذنب.

ج- أنَّ الحدَّ حقٌ وجبَ بإقراره؛ فلم يُقبل منه الرجوع كسائر الحقوق.

‌القول الثاني: أنَّ رجوع المقر عن إقراره في الحدود مقبولٌ مطلقاً سواء قبل الحكم أو بعده أو عند تنفيذه.

وهذا هو قول الحنفية، والمالكية في المشهور عنهم، والشافعية، والحنابلة، وهو اختيار الشيخ محمد بن إبراهيم.

أ-لما ورد في بعض روايات حديث ماعزٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة رضي الله عنهم لمَّا تبعوا ماعزاً: (هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه).

وقد قال ابن عبد البر في التمهيد: ثبت من حديث أبي هريرة، وجابر، ونعيم بن هزال، ونصر بن دهر وغيرهم.

وجه الاستدلال: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل الهرب الدال على الرجوع مسقطاً للحدِّ؛ فسقوطه بالرجوع الصريح أولى.

ب- أنَّ رجوع المقرِّ عن إقراره شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، والشبهة هنا: احتمال كذبه على نفسه.

(ومنْ باعَ أو وهب أو أعتق ثم أقرّ بذلك لغيرهِ لم يُقبل ولم ينفسخ البيع، ويغرمُه لمُقر له).

مثال: إنسان باع سيارة على شخص، ثم بعد ذلك أقر وقال: السيارة التي بعتها لك ليس ملكاً لي.

وكذلك في الهبة والعتق. فلا يقبل إقراره:

لأنه إقرار على غيره بعد أن نفذ تصرفه.

ولإنه قد يتخذ حيلة على إبطال البيع.

ويغرمُه لمُقر له: لأنه فوّتَه عليه.

ص: 514

صورة ذلك أن يبيع شاة ويستلم ثمنها أو يهب كيساً أو يعتق عبداً على أن هذه كلها ملكه، وبعد ذلك اعترف وقال: أعترف الآن أن العبد الذي أعتقته ليس لي، ولكنه لابن أخي، أو لأخي أو لابن عمي، فهل يقبل منه؟

لا يقبل منه.

بمعنى: أنه لا يرجع العبد عبداً، بل يبقى على حريته.

وكذلك أيضاً: هل تسترد الهبة التي وهبها ثم ادعى أنها شاة لابن عمه أو لجاره؟ لا ترد.

وكذلك لا يرد البيع، إذا قال: أنا بعتك ولكني ما ذكرت لك أن البيت ليس لي، إنما هو لجاري، وبعته ظناً أنه سيجيز البيع، والآن أريد أن أرده.

فلا يرد؛ لأنه قد لزم.

وفي هذه الأحوال يلزمه الغرامة لمن أقر له.

لأنه فوته عليه بالبيع أو الهبة.

‌فائدة:

إذا باع شيئاً وادعى أنه لم يكن ملكاً له فله 3 حالات:

‌الأولى: أن يصدقه المشتري بهذه الدعوى: فهنا يبطل العقد

لان المشتري بتصديقه أقر أنه لا حق له في هذا المبيع. (أنتَ صدقته أن هذا ملك لفلان، فكيف تشتري شيئاً من شخص لا يملكه).

‌الثانية: أن يضيف البائع المبيع إلى نفسه (بعتك سيارتي - داري).

فلا يقبل أنه ليس ملكاً له ولو أتى ببينة. لأنه يكذبها.

‌الثالثة: أن لا يضيف العين لنفسه كأن يقول (بعتك هذه السيارة). ثم يقول لم يكن ملكي

فهذا يقبل ببينة.

ص: 515

(ويجب على الإنسان أن يعترف بجميع الحقوق التي عليه للآدميين ليخرج من التبعة بأداء أو استحلال).

أي: يجب على الإنسان أن يبادر أن يقر بما عليه من حقوق للآدميين، حتى يسلم من إثمها وذلك يكون بأمرين:

إما بأدائها إلى أصحابها - أو باستحلالهم من ذلك.

فإن حقوق الآدميين مبناها على المشاحاة.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخيه مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري.

[منْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخيه] اللام في قوله (له) بمعنى (على) أي: من كانت عليه مظلمة لأخيه، وقد جاء في رواية عند البخاري (من كانت عنده مظلمة لأخيه) وللترمذي (رحم الله عبداً كانت له عند أخيه مظلمة).

[مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ] أي: من الأشياء، وهو من عطف العام على الخاص، فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وعند الترمذي ‌

(من عرض أو مال).

[فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ] أي: يستبرئ ذمته منه بأدائه أو بعفوه.

[الْيَوْمَ] أي: في الدنيا.

[قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ] وذلك في يوم القيامة.

[وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ] أي: صاحب المظلمة.

[فَحُمِلَ عَلَيْهِ] أي: على الظالم.

ففي هذا الحديث أنه يجب على الإنسان أن يرد ما عليه من حقوق الآدميين، قبل أن يموت وينتقل إلى دار

الآخرة فتكون عليه وتؤخذ من حسناته إن كان له عمل صالح، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه.

ص: 516

وعن أَبي هريرة رضي الله عنه أَن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (أَتَدْرُون من الْمُفْلِسُ؟ قالُوا: الْمُفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فقال: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقيامةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وزَكَاةٍ، ويأْتِي وقَدْ شَتَمَ هذا، وقذَف هذَا وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسفَكَ دَم هذَا، وَضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذَا مِنْ حسَنَاتِهِ، وهَذا مِن حسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حسناته قَبْلَ أَنْ يقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرحَتْ علَيْه، ثُمَّ طُرِح في النَّارِ). رواه مسلم

وعن أُمِّ سَلَمةَ أَن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، فأَقْضِي لَهُ بِنحْو ما أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) متفق عليه. «أَلْحَنَ» أَيْ: أَعْلَم.

وعن أَبي قَتَادَةَ الْحارثِ بنِ ربعي رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أَنَّهُ قَام فِيهمْ، فذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهادَ فِي سبِيلِ اللَّه، وَالإِيمانَ بِاللَّه أَفْضلُ الأَعْمالِ، فَقَامَ رَجلٌ فقال: يا رسول اللَّه أَرَأَيْت إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّه، تُكَفِّرُ عنِي خَطَايَايَ؟ فقال لَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: نعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّه

وأَنْتَ صَابر مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غيْرَ مُدْبرٍ، ثُمَّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيْف قُلْتَ؟ قال: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيل اللَّه، أَتُكَفرُ عني خَطَاياي؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نَعمْ وأَنْت صابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلاَّ الدَّيْن فَإِنَّ جِبْرِيلَ قال لِي ذلِكَ). رواه مسلم

فحقوق العباد يجب أن يتحلل منها في الدنيا قبل أن يحاسب عليها في الآخرة.

ص: 517

‌وحقوق العباد تنقسم إلى أقسام:

‌القسم الأول: أن تكون في النفس.

مثل أن يكون قد جنى عليه، أو ضربه حتى جرحه، أو قطع عضواً من أعضائه، فإنه يتحلل منه بأن يُمكّن صاحب الحق من القصاص، أو بذل الدية إذا لم يكن القصاص.

‌القسم الثاني: أن تكون في المال.

فإنه يعطيه ماله ويرجع لصاحبه، فإن كان صاحبه قد مات فإنه يسلمه إلى ورثته، فإن لم يعرف مكانه فإنه يتصدق به عنه.

‌القسم الثالث: وإن كانت المظلمة في العرض كسب أو شتم،

فاختلف العلماء في كيفية التحلل منه على قولين:

‌القول الأول: اشتراط الإعلام والتحلل.

واحتج أصحاب هذا القول: بأن الذنب حق آدمي، فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه.

‌القول الثاني: إنه لا يشترط الإعلام بما نال من عِرضه وقذفه واغتيابه،

بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدِّل غيبته بمدحه والثناء عليه.

وهذا اختيار أبي العباس ابن تيمية.

ص: 518

واحتج أصحاب هذه المقالة: بأن إعلامه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وخنقاً وغماً، وقد كان مستريحاً قبل سماعه.

قالوا: وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل.

وقالوا: إن الفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين:

أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، فإنه محض حقه، فيجب عليه أداؤه إليه، بخلاف الغيبة والقذف، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه.

الثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه، ولم تهج منه غضباً ولا عداوة، بل ربما سرّه ذلك وفرح به.

وهذا القول الثاني هو الراجح والله أعلم بالصواب.

تم الشرح بفضل الله وتوفيقه

أخوكم/ سليمان بن محمد اللهيميد

السعودية - رفحاء

ص: 519