الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
الجزء السادس
طُبِعَ عَلَى نَفَقَةِ مَنْ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وجْهَ اللهِ وَالدَار الآخرةَ فجَزاهُ اللهُ عن الإسلام والمسلمينَ خيرًا وغَفَر له ولوالديه ولمن يُعيدُ طِبَاعَتَه أو يُعِيْنُ عليها أو يَتَسبَب لها أو يُشِيرُ على مَنْ يُؤمِلُ فيه الخيرَ أن يَطبَعَه وقفًا للهِ تعالى يُوزَّع على إخوانِهِ المسلمين
…
اللهم صل على محمد وعلى آله وسلم
ومن أراد طباعته ابتغاء وجه الله تعالى لا يريد به عرضًا من الدنيا؛ فقد أذن له، وجزى الله خيرًا من طبعه وقفًا أو أعان على طبعه أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه المسلمين؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله» الحديث رواه أبو داود. وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» الحديث رواه مسلم.
طُبِع على نفقة: مَن يبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة؛ فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا وكثر من أمثاله في المسلمين
…
اللهم صل على محمد وآله وسلم.
يا طالبًا لعلوم الشرع مُجتهدًا
…
تَبغي الفوائدَ دَانِيها وقاصِيها
في الفقه أسئلةٌ تُهدَى وأجوبَةٌ
…
أَلْمم بها تَرتوي من عَذب صافيها
كَم حُكْمُ شَرْعِ بقال الله مُقترنًا
…
أو قالهُ المُصْطَفى أودَعْتُهُ فِيها
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
الغصب
تعريف وبيان ما يضمن وما لا يضمن
س 1: ما هو الغصب لغةً وشرعًا؟ واذكر ما تستحضره من محترزات وقيود، وما الذي يضمن والذي لا يضمن في باب الغصب؟ وهل يحصل الغصب من غير استيلاء؟ وما الذي لا تثبت اليد عليه؟ واذكر لما جعل الغصب بعد العارية، وما الأصل فيه؟ وما حكمه؟ وهل يكفر من استحله؟ وهل الاستيلاء يختلف؟ واذكر أمثلة وما تستحضره من أدلة وتعليلات أو خلاف أو ترجيح.
ج: الغصب: مصدر غصب الشيء يغصبه بكسر الصاد غصبًا، فهو غاصب ومغصوب، ومنه الحديث: أنه غصبها نفسها، أراد أنه واقعها كرهًا فاستعاره للجماع، وهو في اللغة: أخذ الشيء ظلمًا، وشرعًا: استيلاء غير حربي عرفًا على حق غيره قهرًا بغير حق فتخرج الشفعة، ومنه المأخوذ مكسًا ونحوه، فلا يحصل بالاستيلاء وإن الاستيلاء الحربي على مالنا ليس غصبًا؛ لأنه يملكه بذلك وأن السرقة والنهب والإختلاس ليست غصبًا؛ لعدم القهر فيها، وأن استيلاء الولي على مال موليه ليس غصبًا؛ لأنه بحق.
وذكره عقب العارية مناسب لاشتراكهما في مطلق الضمان، ولا يكون استيلاء مستأجر على عين مؤجرة بأجرة معلومة مع فلس مستأجر غصبًا ولا يكون استيلاء مشتر على شقص بيع بثمن معلوم مع ظهور فلس مشترٍ غصبًا لمصادفة ذلك عقد صحيحًا ابتداء وظهور الفلس لا يقدح فيه.
والأصل في تحريمه قبل الإجماع آيات، منها: قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} الآية، وإذا كان هذا في التطفيف وهو غصب القليل فما ظنك بغصب الكثير؟ ومنها: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، وقوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} .
وأخبار منها ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم شبرًا من الأرض طوَّقه الله من سبع أرضين» متفق عليه، وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا؛ فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين» متفق عليه. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع شبرًا من الأرض بغير حقه طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين» رواه أحمد. وعن السائب ابن يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادًا ولا لاعبًا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه» رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» رواه الدارقطني، وقال أبو مسعود رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، أي الظلم أظلم؟ فقال:«ذراع من الأض ينتقصها المرء المسلم من حق أخيه، وليس حصاة من الأرض يأخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض، ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها» ، وفي رواية:«أعظم الغلول عند الله عز وجل ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعًا، إذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين ولقي الله وهو عليه غضبان» ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول:«من أخذ من طريق المسلمين شبرًا جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين» .
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضي بين الناس» ، وفي رواية:«من أخذ أرضًا بغير حقها كلف أن يحمله إلى المحشر» ، وفي رواية:«من ظلم شبرًا من الأرض كلف أن يحفره حتى يبلغ الماء ثم يحمله إلى المحشر» ، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أخذ شيئًا من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة سبع أرضين» رواه أحمد والبخاري.
وعن الأشعث بن قيس: «أن رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض باليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله، اغتصبها هذا وأبوه، فقال الكندي: يا رسول الله، أرضي ورثتها من أبي، فقال الحضرمي: يا رسول الله، استحلفه أنه ما يعلم أنها أرضي وأرض والدي اغتصبها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يقتطع عبد أو رجل بيمينه مالاً إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم» فقال الكندي: هي أرضه وأرض والده» رواه أحمد.
ويضمن عقار للأحاديث المتقدمة؛ ولأنه يملك الإستيلاء عليه على وجه يحول بينه وبين مالكه كسكناه الدار ومنع صاحبها منها أشبه أخذ الدابة والمتاع.
ومن غصب مشاعًا كأرض ودار بين اثنين في أيديهما فينزل الغاصب فيها، ويخرج أحدهما ويقر الآخر معه على ما كان مع المخرج فلا يكون غاصبًا إلا نصيب المخرج حتى لو استغلا الملك أو انتفعا لم يلزم الباقي منهما لشريكه المخرج شيء، وكذا لو كان عبد لإثنين كف الغاصب يد أحدهما عنه ونزل في التسلط عليه موضعه مع إقرار الآخر على ما كان عليه حتى لو باعاه بطل بيع الغاصب للنصف وصح بيع الآخر لنصفه.
ولو غصب من قوم ضيعة ثم رد إلى أحدهمن نصيبه مشاعًا لم يطب له الإنفراد بالمردود عليه.
وتضمن أم ولد بغصب لجريانها مجرى المال بدليل أنها تضمن بالقيمة في الإتلاف لكونها مملوكة كالقن بخلاف الحرة؛ فإنها ليست بمملوكة، فلا تضمن بالقيمة ويضمن قن بغصب ذكرًا كان أو أنثى ولو مكاتبًا أو مدبرًا أو معلقًا عنقه بصفة كسائر المال.
واستيلاء كل شيء بحسبه فمن ركب دابة واقفة ليس عندها ربها أو كان عندها؛ لكن ركبها بلا إذنه فهو غاصب ولو لم يسيرها، بل تركها واقفة.
ولا يحصل الغصب من غير الاستيلاء، فمن دخل أرض شخص أو داره بإذنه أو بلا إذنه ولم يمنعه إياها لم يضمن بدخوله سواء كان صاحبها فيها أو لم يكن حيث لم يقصد الإستيلاء كما لو دخل صحراء له؛ لأنه إنما يضمن بالغصب ما يضمن بالعارية، وهذا لا تثبت به العارية ولا يجب به الضمان فيها، فكذلك لا يثبت به الغصب إذا كان بغير إذن.
ولا يشترط لتحقق الغصب نقل العين فيكفي مجرد الإستيلاء فلو دخل دارًا قهرًا أو أخرج ربها فغاصب وإن أخرجه قهرًا ولم يدخل أو دخل مع حضور ربها وقوته فلا، وإن دخل قهرًا أو لم يخرجه فقد غصب ما استولى عليه وإن لم يرد الغصب فلا وإن دخلها قهرًا في غيبة ربها فغاصب، ولو كان فيها قماشه، ذكره في «المبدع» .
ولا تثبت يد غاصب على بضع بضم الباء، وجمعه أبضاع، كقفل وأقفال يطلق على الفرج والجماع والتزويج، والبضاع الجماع لفظًا ومعنى، فيصح من مالك تزويج أمة غصبت وهي بيد غاصبها ولو كانت أم ولد مدبرة
أو مكاتبة، ولا يضمن الغاصب مهرها ولو حبسها عن النكاح حتى فات نكاحها بكبرها ولا يضمن الغاصب نفع البضع؛ لأن النفع إنما يضمن بالتفويت إذا كان مما تصح المعاوضة عليه بالإجارة والبضع ليس كذلك.
وإن غصب شخص خمر مسلم أو ذمي ضمن الغاصب ما تخلل بيده منا إن تلفت قبل رده؛ لأنها صارت خلا على حكم ملك المغصوبة منه ويلزم رد ما تخلل؛ لأن يد الأول لم تزل عنها بالغصب فكأنها تخللت في يده ولا يضمن ما تخلل مما جمع من خمر بعد إراقة فلا يلزم رده لزوال يده هنا بالإراقة، ويجب رد خمرة ذمي مستترة غصبت كخمرة خلال؛ لأنه غير ممنوع من إمساكها، وكذا لو غصب دهنًا متنجسًا؛ لأنه يجوز الاستصباح به في غير مسجد، ويجب رد كلب يقتنى ككلب لصيد وماشية وحرث؛ لجواز الانتفاع به.
ولا يجب رد قيمة الخمر لذمي أو خلال ولا الكلب مع تلف لتحريمها فهما كالميتة.
ولا يلزم رد جلد ميتة غصب على القول بعد طهارته بالدبغ، والقول الثاني: أنه يلزم رده، وهذا على القول بطهارته، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس كما تقدم في الآنية أنه يطهر، والله أعلم (1).
وكذا كل مختلف فيه كدهن متنجس غصب ممن يرى طهارته بغسله فيلزم رده إليه، وإذا رفع الأمر إلى الحاكم فعليه أن يتحرى الأقوى دليلاً ويحكم به ومع تلف الجلد الذي يترجح عندي الحكم برد بدله؛ لأنه متمول بعد الدبغ وطاهر، وعلى القول الأول أيضًا يجب رده حيث قلنا ينتفع به في اليابسات؛ لأن فيه نفعًا مباحًا كالكلب المقتني وصححه في «تصحيح الفروع» وهو القياس وقطع به ابن رجب.
ولا يضمن حر كبير أو صغير باستيلاء عليه بأن حبسه ولم يمنعه الطعام والشراب فمات عنده؛ لأن اليد لا يثبت حكمها على الحر، وقيل: أن الصغير يضمن، وقدم في النظم أن الصغير لو لدغ أو صعق وجوب الدية، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس. والله أعلم (2).
وتضمن ثياب حر صغير وحلية وإن لم ينزعه عنه؛ لأنه مال، ولأن الصغير لا ممانعه منه عن ذلك أشبه ما لو غصبه منفردًا وعلى من أبعده عن بيت أهله رده إليه ومؤنة الرد عليه، ويأتي إنشاء الله في الديات مفصلاً.
وإن استعمل الحر صغيرًا كان أو كبيرًا كرهًا في خدمة أو خيطاة أو نجارة أو حدادة أو غيرها فعليه أجرته لاستيفاء منافعه المتقومة فضمنها كمنافع اليد أو حبس الحر مدة لها أجرة فعليه أجرته مدة حبسه؛ لأنه فوته منفعته مدة الحبس، وهي مال يجوز أخذ العوض عنها فضمنت بالغصب كمنافع العبد، وقيل: لا يلزمه أجرته، والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله أعلم (3).
ولا أجرة إن منع إنسان آخر ولو كان الممنوع قنعًا العمل من غير غصب ولا حبس لعدم تلفها تحت يده، ولأنه في يد نفسه أو سيده ومنافعه تلفت معه، كما لا يضمن هو ولا ثيابه إذن ولا يضمن ربح فات على مالك بحبس غاصب مال تجارة مدة يمكن أن يربح فيها إذا لم يتجر فيه غاصب كما لو حبس عبدًا يريد مالكه أن يعلمه صناعة مدة يمكن تعليمه الصناعة فيها؛ فإن الصناعة لا تقوم على غاصب في تضمين منافعه ولا في تضمين عينه إن تلف؛ لأنها لا وجود لها، وفي «حاشية الجمل على شرح المنهج» قيل: إن بلغ الغصب نصابًا أي ربع دينار فهو كبيرة، وقيل: ولو حبة برد وهو مع الاستحلال ممن لا يخفى عليه كفر ومع عدم ذلك فسق. اهـ ح ل. ومحله في غصب المال، وأما غصب غيره كالكلب فإنه صغير.
من كتاب الغصب فيما يتعلق به
خَف الله في ظلم الورى واحذرنه
…
وخف يوم عَضَّ الظالمين على اليدِ
ولا تحبسنَّ الله عن ذاك غافلاً
…
ولكنه يملي لمن شا إلى الغد
فلا تغترر بالحلم عن ظلم ظالم
…
سيأخذه أخذًا وبيلاً وعن يد
وللغصب الاستيلاء على حق غيره
…
بظلم وبالإتلاف يضمن واليد
وسيان منقول ولو أم ولده
…
وما ليس منقولاً على المتأكدِ
وليس بغصب وطؤه ملك غيره
…
ظلومًا بلا إستيلائه والتفردِ
ومن يغتصب كلبًا يجوز اقتناؤه
…
وخمرًا من الذمي فأمره يردد
ولا أجرة للكلب في حبسه ولا
…
ضمان بإتلافهما لا تقيد
ومع أمن أوجب دفق خمرة مسلم
…
وكسرك صلبانًا وآلة ذي دَدِ
وتمزيق كتب السحر والفحش كله
…
وآلة تنجيم وكل وذي زد
ولا غرم في إتلاف هذا جميعه
…
كذاك أوان من لجين وعسجد
وآنية للخمر إن جاز دفقها
…
وفيها انتفاع في سواها بأوكد
ويضمنها الذمي بوجه بمثله
…
وإن أظهروها فادفقنها ولا تد
ورد في الأردى قبل دبغ جلودها
…
يطهر دبغ لا كبعد بأجود
ويلزمه إيصال خمر تخللت
…
إلى ربها من كافر وموحد
وأن يتخمر عنده فهو ضامن
…
العصير ونقص الخل عنه ويردد
ولا يضمن الحر الكبير بغضه
…
وأن يلدغ أو يصعق صغير فذا يد
ولابن عقيل لا كسقم بأجود
…
وفي ليس من أهدرت وجهين أسند
ويضمن نفع الحر مستخدم له
…
على كرهه لا حابس في المجودِ
(2)
مسائل حول ما يجب على الغاصب
س 2: ماذا يجب على غاصب، وإذا قال رب مغصوب مبعد: دعه وأعطني أجرة رده، أو سمر بالمسامير المغصوبة، أو زرع الأرض المغصوبة ثم ردها، أو غرس أو بنى في الأرض المغصوبة، أو غصب شجرًا فأثمر، أو وهب الغاصب الغراس أو البناء لمالكها، أو زرع نوى قصار شجرًا أو كانت آلة البناء من مغصوب فما الحكم؟
ج: يجب على غاصب رد مغصوب إلى محله الذي غصب منه إن قدر الغاصب على رده إن كان باقيًا، ولو كان رده بأضعاف قيمته لكونه بنى عليه بأن غصب حجرًا أو خشبًا قيمته درهم فبنى عليه واحتاج في إخراجه ورده إلى خمسة دراهم أو لكونه بعيدًا بأن حمل مغصوبًا قيمته درهم إلى بلد بعيد بحيث تكون أجرة حمله إلى البلد المغصوب منه أضعاف قيمته أو خلط بمتميز بأن غصب شعيرًا فخلطه بذرة ونحوها، كما لو غصب حيوانًا وأفلته بمكان لا يمكنه الخروج منه؛ لكنه تعسر مسكه فيه ويحتاج في ذلك إلى أجرة فتلزم الغاصب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«على اليد ما أخذت حتى تؤديه» رواه ابن ماجه والترمذي، وحسنه؛ ولحديث:«لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا أو جادًا، فإذا أخذ عصا أخيه فليردها إليه أو يردها عليه» رواه أبو داود، ولأنه أزال يد المالك عن ملكه بغير حق فلزم إعادتها، وأما كونه يلزم غرم تخليصه ومؤنة حمله فلأن ذلك حصل بتعديه فكان أولى بغرمه من مالكه.
وإن قال رب مغصوب مبعد لغاصب بعده عن بلد الغصب رده بالبلد الذي هو فيها وأعطى أجرة رده إلى بلد غصبه أو طلب من الغاصب حمل المغصوب إلى مكان آخر في غير طريق الرد لم يلزم الغاصب إجابته إلى ذلك؛ لأنها معاوضة فلا يجبر عليها، وكذا لو بذل الغاصب للمالك أكثر من قيمته ولا يسترده، فإن المالك لا يلزمه ذلك وإن أراد المالك من الغاصب رد المغصوب إلى بعض الطريق فقط لزمه؛ لأنه يلزمه إلى جميع المسافة فلزم إلى بعض كما لو أسقط رب الدين عن المدين بعض الدين وطلب منه باقية، ومهما اتفقا عليه من ذلك جاز؛ لأن الحق لا يعدوهما.
وإن غرس غاصب أو بنى في الأرض المغصوبة ألزم بقلع غرسه أو بنائه إذا طلبه رب الأرض بذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس لعرق ظالم حق»
رواه الترمذي، وحسنه في رواية أبي داود والدارقطني من حديث عروة بن الزبير، قال: ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلاً في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، فلقد رأيتها وأنها لتضرب أصولها بالفؤوس وأنها لنخل عم والعم الطوال من النخل التامة طولها والتفافها، وأنشد أبو عبيد للبيد يصف نخلاً:
سحق يمنعها الصفا وسرية
…
عم نواعم بينهن كروم
وأخذ الغاصب أيضًا بتسوية الأرض وأرش نقصها؛ لأنه ضرر حصل بفعله فلزم إزالته كغيره وعليه أجرة مثل الأرض مدة احتباسها؛ لأن منافعها ذهبت تحت يده العادية فكان عليه عوضها كالأعيان حتى ولو كان الغاصب أحد الشريكين في الأرض المغصوبة أو لم يغصبها الغارس أو الباني فيها؛ لكنه فعله بغير إذن للتعدي ولا يملك رب الأرض أخذ البناء أو الغراس من الغاصب مجانًا ولا بقيمته؛ لأنه عين مال الغاصب فلم يملك رب الأرض أخذه كما لو وضع فيها أثاثًا أو نحوه، ولأنها معاوضة فلم يجبر عليها وإن اتفقا على الغراس، فالواجب قيمته الغراس.
ولو أدرك رب الأرض المغصوبة الثمر فيها، وأراد أخذه فقط دون أصله قهرًا منع منه؛ لأنه ثمر شجر الغاصب فكان له كالأغصان والورق ولبن الشاة ونسلها وما تقدم من أن لصاحب الأرض تملك الزرع بنفقته فهو مخالف للقياس، وإنما صار إليه الإمام للأثر فيختص الحكم به ولا يعدي إلى غيره، ولأن الثمرة تفارق الزرع من وجهين، أحدهما: أن الزرع نماء الأرض فكان لصاحبها والثمر نماء الشجر فكان لصاحبه.
الثاني: أنه يرد عوض الزرع إذا أخذه مثل البذر الذي نبت منه الزرع مع ما أنفق عليه ولا يمكنه مثل ذلك في الثمرة.
وإن غصب شجرًا فأثمر، فالثمر لصاحب الشجر؛ لأنه نماء ملكه؛ لأن الشجر عين ملكه نما وزاد فأشبه ما لو طالت أغصانه ويرد الثمن إن كان باقيًا وبدا له أن تلف وإن كان رطبًا فصار تمرًا أو عنبًا فصار زبيبًا فعليه رده وأرش نقصه إن نقص، ولا شيء له بعمله ولا أجرة عليه للشجر؛ لأن أجرتها لا تجوز في العقود، فكذلك في الغب.
وإن كانت ماشية فعليه ضمان ولدها إن ولدت عنده وضمان لبنها بمثله؛ لأنه من ذوات الأمثال ويضمن أوبارها وأشعارها بمثله كالقطن وإن وهب الغاصب الغراس أو البناء لمالك الأرض ليتخلص من قلعه فقبله المالك جاز لتراضيهما وإن أبى المالك قبول ذلك وكان لرب الأرض في قلعه غرض صحيح أو لا لم يجبر رب الأرض على قبوله من الغاصب؛ لأن ذلك إليه فلا يحجر عليه.
وإن زرع الغاصب نوى فصار شجرًا فحكمه كغراس ونحو رطبة كنعناع وبقول مما يخرج مرة بعد أخرى وقثاء يتكرر حمله وباذنجان كزرع فلرب الأرض إذا أدركه قائمًا أن يتملكه بنفقته؛ لأنه ليس له أصل قوي أشبه الحنطة والشعير وإن سمر الغاصب بالمسامير المغصوبة بابًا أو دولابًا أو دريشة أو غيرها قلعها وجوبًا وردها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ولا أثر لضرره؛ لأنه حصل بتعديه وإن كانت مأخوذة من الخشبة المغصوبة أو كانت من مال المغصوب منه فلا شيء للغاصب في نظير عمله؛ لتعديه به وليس له قلعها؛ لأنه تصرف لم يؤذن له فيه إلا أن يأمره المالك بقلعها فيلزمه القلع وإن كانت المسامير للغاصب فوهبها للمالك لم يجبر المالك على قبولها لما عليه من المنة، وربما أن يكون عليه ضرر ببقائها.
وإن استأجر الغاصب على عمل شيء من المذكور، فالأجرة عليه؛ لأنه غر
العامل وإن زرع الغاصب الأرض المغصوبة ثم ردها وقد حصد زرعه، فليس لرب الأرض بعد حصد الزرع إلا الأجرة، وهي أجرة المثل عن الأرض إلى تسليم الغاصب؛ لأنه استوفى نفعها فوجب عليه عوضه كما لو استوفاها بالإجارة؛ ولأن المنفعة مال فوجب أن تضمن كالعين، وعليه ضمان النقص إن نقصت كسائر المغصوب ولو لم يزرع الغاصب الأرض فنقصت لترك الزراعة كأراضي البصرة أو نقصت لغير ذلك ضمن نقصها لحصوله بيده العادية.
وإن أدرك الأرض ربها والزرع قائم، فليس له إجبار الغاصب على قلعه؛ لما روى رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه؛ ولأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمن فلم يجز إتلافه كما لو غصب سفينة فحمل فيها متاعه وأدخلها لجة البحر لا يجبر على إلقائه، فكذا هنا صيانة للمال عن التلف وفارق الشجر لطول مدته، وحديث:«ليس لعرق ظالم حق» محمول عليه؛ لأن حديثنا في الزرع فيحصل الجمع بينهما.
ويخير مالك قبل حصاده ولو كان مالك منفعة الأرض بإجارة ونحوها بين ترك الزرع إلى الحصاد بأجرة مثله وأرش نقصها إن نقصت أو تملك الزرع بنفقته؛ لأن كل واحد منهما يحصل به غرضه فملك الخيرة بينهما تحصيلاً لغرضه، وهي مثل البذر وعوض لواحقه من حرث وسقي وغيرهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:«وله نفقته ولو كان عمل الحرث» ونحوه بنفسه؛ لأن العمل متقوم استهلك لمصلحة الزرع فوجب رد عوضه كما لو استأجر من عمله؛ ولأن في كل من بقيته بأجرته وتملكه بنفقته تحصيلاً لغرض رب الأرض فملك الخيرة بينهما، وحيث اختار المالك أخذ الزرع
بنفقته فلا أجرة على الغاصب لمدة مكثه في الأرض المغصوبة؛ لأن منافع الأرض في هذه المدة عادة إلى المالك فلم يستحق عوضها على غيره.
ويزكي الزرع رب الأرض أن أخذه قبل اشتداده لوجوبها، وهو في ملكه أن تملكه بعد اشتداد الحب فزكاته على الغاصب؛ لأنه المالك وقت وجوبها، قال في «الإنصاف»: تواتر النص عن الإمام أحمد رحمه الله أن الزرع للمالك وعلى جماهير الأصحاب، وجزم به في «الوجيز» وغيره، وقدمه في «الفروع» وغيره، قال الزركشي: هو قول القاضي وجمهور أصحابه، ومن تلاهم والمصنف في سائر كتبه، وهو في «مفردات المذهب» ، قال ناظمها:
بالإحترام أحكم لزرع الغاصب
…
وليس كالباني أو كالناصب
إن شاء رب الأرض ترك الزرع
…
بأجرة المثل فوجه مرعي
أو ملكه إن شاء بالإنفاق
…
أو قيمة للزرع بالوفاق
اهـ. وقال الأئمة الثلاثة وغيرهم يجبر الغاصب على قلع زرعه، والحكم فيه كالغراس سواء بسواء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«ليس لعرق ظالم حق» ؛ ولأنه زرع في أرض غيره ظلمًا أشبه الغراس، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم (4).
وإن انتقلت الأرض من الغاصب إلى غيره وبنى المنتقلة إليه أو غرس ولم يعلم أن الأرض لغيره ثم عادت الأرض إلى صاحبها، فقيل: إن لصاحبها أن يلزم من انتقلت إليه من الغاصب من مشتر أو مستأجر أو نحوه بقلع الغراس والبناء، ويرجع المقلوع غرسه وبناؤه على الذي انتقلت إليه منه لكونه غره؛ لأن الأرض ليس لأحد فيها حق، ولم يتفق صاحبها مع أحد
بعقد يسوغ له بقاؤه، وقيل: أنه في هذه الحال معذور كما أنه معذور في غرسه وبنائه؛ لأنه وضعه معتقدًا أنه ملكه أو أنه مالك لمنافعه ولا يوصف في هذه الحال بأنه ظالم فلا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس لعرق ظالم حق» يؤيده أنه في الغالب يكون أصلح للطرفين إبقاؤه بتقويم أو تأجير ونحوه، وربما أنه إذا ألزم بالقلع للغراس والبناء يتعذر عليه الرجوع على الغار فيصير عليه ضرر عظيم، واختار هذا القول شيخ الإسلام، وهو الذي تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
ومتى كانت آلة البناء من مغصوب بأن كان فيه لبن أو آجر أو ضرب منه وبنى به فيه فعليه أجرتها مبنية؛ لأن البناء والأرض ملك للمغصوب منه ولا أجرة للغاصب لبنائه، ولا يملك غاصب هدمها؛ لأنه لا ملك له فيه ولم يأذن له ربه فيه؛ فإن نقضه فعليه أرش النقص الحاصل بنقصه وإلا تكن آلة البناء من المغصوب، بل إن كانت للغاصب بأن بناها بلبن من غير ترابها فعليه أجرتها غير مبنية؛ لأنه إنما غصب الأرض وحدها، وأما بناؤه بآلته فلو أجر الغاصب الأرض وبناءه الذي ليس منها، فالأجرة المستقرة على المستأجر بين الغاصب ورب الأرض بقدر قيمتها توزع بالمحاصة بقدر أجرة مثل الأرض وأجرة البناء فينظر كم أجرة الأرض مبنية ثم أجرة خالية فما بينهما فهو أجرة البناء، فيختص كل واحد بأجرة ماله ولو جصص الغاصب الدار وزوقها فحكمه كالبناء؛ لأنه ملك غيره بما لا حرمة له.
(3)
فيما يتعلق بغصب الأرض أو ما خاط به جرح أو غصب جوهرة أو نحوها
س 3: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: من غصب أرضًا وغراسًا منقولاً من شخص واحد فغرسه في الأرض المغصوبة، أو غصب أرضًا لرجل وغراسًا لآخر فغرسه فيها، أو غصب خشبًا ورفع به سفينة، من غصب ما خلط به جرح حيوان محترم من آدمي أو غيره وخيف بقلعه ضرر آدمي أو خيف تلف غير الآدمي أو حل حيوان خيط جرحه بمغصوب لغاصب أو غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة أو ابتلعت شاة شخص جوهرة آخر غير مغصوبة أو دخل رأس شاة أو نحوها في إناء ولم يخرج إلا بذبحها أو كسره. واذكر الدليل والتعليل والتفصيل والمحترزات والخلاف والترجيح.
لرجل وغراسًا لآخر فغرسه فيها، أو غصب خشبًا ورفع به سفينة، من غصب ما خلط به جرح حيوان محترم من آدمي أو غيره وخيف بقلعه ضرر آدمي أو خيف تلف غير الآدمي أو حل حيوان خيط جرحه بمغصوب لغاصب أو غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة أو ابتلعت شاة شخص جوهرة آخر غير مغصوبة أو دخل رأس شاة أو نحوها في إناء ولم يخرج إلا بذبحها أو كسره. واذكر الدليل والتعليل والتفصيل والمحترزات والخلاف والترجيح.
ج: من غصب أرضًا وغراسًا منقولاً من شخص واحد فغرس الغراس في الأرض المغصوبة، فالكل لمالك الأرض ولا شيء للغاصب في نظير فعله؛ لتعديه به، ولم يملك الغاصب قلعه؛ لأن مالكها واحد ولا يتصرف غيره في ملكه بلا إذنه، وعلى الغاصب إن قلع الغراس بغير إذن مالك تسويتها ونقصها ونقص غراسه لتعديه به، وكذا إن طلب القلع رب الأرض والغراس لغرض صحيح بأن كان لا ينتج مثله في تلك الأرض لا لعبث إذ لا فائدة في العبث فعليه تسوية الأرض، وعليه أرش نقصها وأرش نقص غراس لحصوله بتعديه، وإن لم يكن غرض صحيح لم يجبر الغاصب على القلع؛ لأنه سفه وإن أراد الغاصب قلع الغراس أو البناء ابتداء من غير طلب المالك فله منعه من القلع؛ لأنه ملكه فلس لغيره التصرف عليه بغير إذنه ويلزم الغاصب أجرة المغصوب مبنيًا؛ لأن البناء والأرض ملك لربها.
وإن غصب أرضًا وغصب غراسًا لرجل آخر فغرسه في الأرض المغصوبة، ثم وقع النزاع في مؤنة قلع الغراس على رب الأرض يرجع بها على الغاصب؛ لأنه تسبب في غرمه، وكذا إذا زرع الأرض المغصوبة ببدر الغير فليس لرب الأرض تملكه ولا قلعه، بل يبقى لمالكه إلى أوان
حصاده بأجرة مثل الأرض، وعلى الغاصب؛ لعدوانه.
وإن غصب خشبًا فرفع به سفينة قلع إن كانت في الساحل أو في لجة البحر، ولا يخاف عليها من قلعه؛ لكونه في أعلاها ودفع لربه بلا إمهال لوجوبه فورًا ويمهل لقلع مع خوف على سفينة بقلعه بأن يكون في محل يخاف منه دخول الماء إليها وهي في اللجة حتى ترسي لئلا يؤدي قلعه إلى فساد ما في السفينة من المال مع إمكان رد الحق إلى مستحقه بعذر من قريب، وقيل: يقلع إلا أن يكون فيه حيوان محترم أو مال للغير.
فإن تعذر الإرساء لبعد البر، فلمالك الخشب المغصوب أخذ قيمته للتضرر برد عينه إذًا فإذا أمكن رد الخشب إلى ربه استرجعه ورد القيمة لزوال الحيلولة، وعلى الغاصب الأجرة إلى حين بذله القيمة فقط ولا يملكه ببذلها، بل يملكها ربه، وعلى الغاصب أجرة الخشب إلى قلعه لذهاب منافعه بيده، وعليه أرش نقصه إن نقص لحصوله بتعديه على ملك غيره ومن غصب أرضًا فحكمها في جواز دخول غيره إليها كحكمها قبل غصب فحكم أرض محوطة كدار وبستان ونحوهما، لا يجوز دخول غيره إليها، وأما الغاصب فيمتنع عليه الدخول فيها من باب أولى وحكم غير المحوطة كصحراء ومدرسة وزاوية مغصوبة يجوز دخول غير الغاصب إليها؛ لأنه لا يمنع من الدخول قبل الغصب فبعده كذلك.
وإن غصب ما خاط به جرح حيوان محترم من آدمي أو غيره، وخيف بقلع الخيط ونحوه ضرر آدمي لم يقلع، وعليه قيمته، وقيل: لا تؤخذ قيمته إلا إذا خيف تلفه ويقلع كغيره من الحيوانات المحترمة؛ فإنه لابد من خوف التلف أو خيف من قلعه تلف غير آدمي فعلى الغاصب قيمة الخيط أو نحوه؛ لأنه تعذر رد الحق إلى مستحقه فوجب رد بذله وهو القيمة، ولا يلزمه القلع؛ لأن الحيوان آكد حرمة من بقية المال؛ ولهذا جاز إتلاف
غيره وهو ما يطعمه الحيوان لأجل تبقيته، وكذا لو شد بالمغصوب جرحًا يشخب دمه أو جبر به نحو ساق مكسور وغير المحترم كالمرتد والحربي والكلب العقور والخنزير، فإذا خاط جرح ذلك بالخيط المغصوب وجب رده؛ لأنه لا يتضمن تفويت ذي حرمة أشبه ما لو خاط به ثوبًا وإن حل الحيوان المخيط جرحه بمغصوب لغاصب كشاته وبقرته ونحوها وخيف موته بقلع أمر غاصب بذبح الحيوان ولو نقصت قيمته به أكثر من ثمن الخيط أو لم يكن معدًا للأكل كالخيل ويرد الخيط لربه؛ لأنه متمكن من رده بذبح الحيوان والانتفاع بلحمه، ولا أثر لتضرره بذلك لتعديه كما يرد الخيط بعد موت الحيوان غير آدمي؛ لأنه لا حرمة له بعد موته بخلاف الآدمي المعصوم لبقاء حرمته فتتعين قيمته، وإن كان الحيوان الذي خيط جرحه محترمًا غير مأكول رد الغاصب قيمة الخيط؛ لأن حرمة الحيوان آكد.
ومن غصب جوهرة مثلاً فابتلعتها بهيمة بتفريطه أولاً فحكمها حكم الخيط الذي خاط به جرحها على التفصيل السابق.
ولو ابتلعت شاة شخص مثلاً جوهرة آخر غير مغصوبة وتعذر إخراجها إلا بذبحها وذبحها أقل ضررًا من ضرر تركها ذبحت، وعلى رب الجوهرة ما نقص بالذبح؛ لأنه لتخليص ماله إن لم يفرط رب الشاة بكون يده عليها حين ابتلاعها الجوهرة؛ فإن كانت يده عليها فلا شيء له على رب الجوهرة مما نقصه الذبح؛ لأن التفريط من غيره فكان الضرر على المفرط.
وإن حصل رأس شاة أو بقرة أو بعير أو نحوها بإناء ولم يخرج رأسها إلا بذبحها أو كسر الإناء ولم يحصل تفريط من رب الشاة ورب الإناء كسر الإناء لرد ما حصل فيه بغير عدوان ويعطي لربه، وعلى مالك البهيمة الأرش لتخليص ماله ويجب كسر الإناء وأخذ أرشه إلا إن وهب البهيمة مالكها لرب الإناء، ولا يجب على رب الإناء قبول البهيمة لما فيه
من المنة؛ فإن قبلها جاز وصارت والإناء ملكًا له يتصرف بهما كيف شاء.
وإن فرط رب الشاة بأن أدخل رأسها في نحو دبة فول أو نحوها أو كانت بيده عليها حال الدخول ذبحت البهيمة بلا ضمان على رب الإناء؛ لأن التفريط من جهته فهو أولى بالضرر ممن لم يفرط.
ومع تفريط رب الإناء كما لو أدخله بيده أو ألقى الإناء في الطريق يكسر الإناء بلا أرش على رب الشاة ونحوها؛ لأن المفرط أولى بالضرر ويتعين في بهيمة غير مأكولة حصل رأسها بإناء ولم يخرج إلا بكسره كسر الإناء ولا تقتل البهيمة بحال، ولو اتفقا على القتل لم يمكنا منه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذبح اليحوان لغير مأكله، وعلى ربها أرش الإناء إلا أن يكون التفريط من مالكه، وقيل: حكمه حكم المأكول على ما تقدم، وقيل: أنه يقتل إن كانت الجناية من مالكها أو القتل أقل ضررًا.
وإن قال من وجب عليه الغرم: أنا أتلف مالي ولا أغرم شيئًا كان له ذلك، ويحرم ترك رأس البهيمة بالإناء بلا ذبح ولا كسر؛ لأنه تعذيب حيوان، فإن لم يفرط رب الإناء وامتنع رب غير المأكولة من أرش الكسر أجبر؛ لأنه تعذيب حيوان؛ فإن لم يفرط رب الإناء وامتنع رب غير المأكولة من أرش الكسر أجبر؛ لأنه ضرورة لتخليصها من العذاب فلزم ربها كعلفها.
ويلزم رد العين غاصبها ولو
…
بنى فوقها قصرًا إذا لم يثرد
ولو ناله في الرد أضعاف قدرها
…
من الغرم الزمه ولا تتردد
سوى رفع فلك فوق بحر بأجود
…
ومع حرمة الحي أو أذى الغير خلد
وإن خلط المغصوب بعد تقرر
…
على خطأ في خلطه أو تعمد
بما فيه مميز فالزمه رده
…
وإلا فمنه المثل من جنسه اردد
وإن يكن المغصوب أردأ منه إن
…
سمح غاصب بالأخذ منه ليظهد
على أخذه منه انحتامًا وخلطه
…
بشيرجه زيتًا فخذ مثله قد
وقال أبو يعلى له المثل مطلقًا
…
ولو مع جنس لا يميز فاشهد
وقيل اقض في هذه الثلاث بشركة
…
على قيمة المالين لا تتردد
وف ماله إن يصعبن خروجه
…
بلا هدمه فاهدمه والغصب أفرد
وما كان هذا دون تفريط ربه
…
على من ينجي ماله نقص مفسد
ومحتمل تعيين ما قل ضره
…
وما حل فاذبح وأكسرن مال معتدي
وفي قمم أن تدخل الشاة رأسها
…
بغير تعد المالكين لتقصد
إلى فعل أدنى الحالتين إذًا فمن
…
سلم ماله ضمنه نقص المفسد
كذا غير مأكول ويحرم تركه
…
وقد قيل عين ظرف هذا وشرد
وخذ قيمة عن جابر الجرح إن يخف
…
بقلع كذا في رفع فلك بمبعد
وإن كان مأكولاً له إذبح بأجود
…
وقيل سوى ما ذبحه لم يعود
وإن مات مجروح سوى الآدمي قد
…
فَجرَّت بغصب جرحه أقلعه واردد
وملك سوى جان وما لم يبع فدع
…
وخذه إن يمت بل قيل من غير من هدي
كذا الخلف والتفصيل بلع لمثمن
…
وأشباهه غصبًا وفي ذبح مزرد
ومحتمل إن زاد قيمة جوهر
…
على غير إنسان ليذبح ويعتدي
(4)
من اغتصب شيئًا وأدخله داره وتعذر إخراجه
أو دينارًا فأدخله إناء ضيقًا
…
إلخ
س 4: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: من غصب شيئًا فأدخله داره وتعذر إخراجه، إذا باعها وفيها ما يعسر إخراجه من غصب نحو دينار أو جنبه أو نحوه فحصل في إناء ضيق الرأس بفعل غاصب أو لا وعسر إخراجه أو جعله الغاصب في إناء نفسه ولم يخرج بدون كسره أو حصل الجنيه أو نحوه بلا غصب ولا فعل أحد في إناء من جرة أو نحوها أو بفعل مالكها أو بفعل رب الدينار أو الجنيه أو نحوهما، واذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح.
ج: من غصب فصيلاً أو مهرًا ونحوه فأدخله داره فكبر وتعذر خروجه نقض الباب أو غصب خشبًا وأدخله داره ثم بنى الباب ضيقًا بحيث لا تخرج الخشبة إلا بنقضه وجب نقضه لضرورة وجوب الرد ورد
الفصيل والخشبة إلى ربهما؛ لأن المتعدي أولى بالضرر، قلت: وكذا لو غصب سيارة أو نحوها وأدخلها داره ثم بنى الباب ضيقًا بحيث لا تخرج إلا بنقضه وجب نقضه لضرورة وجوب الرد ورد السيارة لربها ولا شيء على ربها في ذلك؛ لأن المتعدي أولى بالضرر.
ولو حصل مال شخص من حيوان أو غيره في داره وتعذر إخراجه من الدار بدون نقض بعضها وجب نقضه وإخراجه، وعلى رب المال المخرج إصلاحه؛ لنه لتخليص ماله ومحل ذلك إن لم يفرط رب المال وذلك بأن دخل الحيوان بنفسه أو أدخله ربه، وأما الخشبة إذا حصلت في الدار من غير تفريط صاحبها؛ فإن كسرها أكثر ضررًا من نقض الباب وإعادته غالبًا في البيوت المبنية من الطين فحكمها كالفصيل بنقض الباب ويغرم صاحبها أرش نقضه وإصلاحه وإن كان كسرها أقل ضررًا كسرت ولا شيء على صاحب الدار لعدم عدوانه وإن كان حصول ما ذكر في الدار بعدوان من صاحبه كمن غصب دارًا وأدخلها فصيلاً أو خشبة أو سيارة ثم بنى الباب ضيقًا أو تعدى على إنسان فأدخل داره فرسًا ونحوه بغير إذنه كسرت الخشبة وذبح الحيوان المأكول ولو زاد ضرره على نقض الباب؛ لأن صاحبه هو الذي أدخل الضرر على نفسه بعدوانه.
وإن كان الحاصل من ذوات التركيب فكذلك إن فرط مالك الدار نقض الباب من غير أرش وإن فرط مالكه فك التركيب.
ولو باع الدار وفيها ما يعسر إخراجه كخوابي غير مدفونة وخزائن غير مسمورة لما تقدم في البيع أنه يتناول ما كان متصلاً بها أو كان فيها حيوان ينظر؛ فإن كان ضرر النقض أقل من بقاء ذلك في الدار أو من تفصيله ما يأتي تفصيله كخزائن ومن ذبح الحيوان المأكول نقض باب أقل ضررًا وكان أرش نقضه وإصلاحه على البائع؛ لأنه لتخليص ماله، وكذا
لو باع داره وله فيها أسرة ونحوها وتعذر الإخراج والتفكيك وإن كان نقض الباب أكثر ضررًا من بقاء ذلك في الدار ومن تفصيله، وذبح الحيوان؛ لعدم فائدته واصطلحا على ذلك بأن يشتري مشتر الدار أو يهبه له البائع، ذكره الموفق والشارح.
ومن غصب جوهرة أو دينارًا أو جنيهًا أو نحو ذلك فحصل في إناء ضيق الرأس بفعل غاصب أو لا وصعب إخراجه منها فتعسر بدون الكسر؛ فإن زاد ضرر الكسر على الدينار أو نحوه بأن كانت قيمتها صحيحة دينارين وقيمتها مكسورة نصف الدينار فعلى الغاصب بدل الدينار أو الني يعطيه لربه ولم تكسر؛ لأنه إضاعة مال وهي منهي عنها.
وإن لم يزد ضرر الكسر على الدينار بأن تساويا أو كان ضرر الكسر أقل تعين الكسر لرد عين المال المغصوب من غير إضاعة مال وعلى الغاصب ضمان الكسر؛ لأنه السبب فيه وإن غصب دينارًا وجعله في إناء نفسه ولم يخرج بدون كسرها، فإنها تكسر المحبرة أو الإناء سواء زاد ضرر الكسر على الدينار أو لا؛ لأن حصوله فيها بتعديه ومن غصب نحو خشب أو حجر فحصل في بناء آخر وعسر إخراجه؛ فإن زاد ضرر الهدم عليه فعلى الغاصب بدله وإلا تعين الهدم وعليه ضمانه.
وإن حصل في بناء نفسه يهدم مطلقًا وإن حصل الدينار أو نحوه في الإناء بلا غصب ولا فعل أحد بأن سقط من مكان أو ألقته ريح أو طائر أو نحوه كسر الإناء وجوبًا وعلى رب الدينار أرش نقص الإناء بالكسر؛ لأن الكسر لتخليص حقه إلا أن يمتنع رب الدينار أو نحوه من كسر الإناء مع ضمان أرشه لكون الإناء غاليًا ثمنه؛ فإن امتنع فلا طلب له ويصطلحان عليه وإن حصل الدينار أو نحوه بفعل مالك الإناء فإنه يكسر مجانًا ولا ضمان على رب الدينار أو نحوه؛ لأنه وجب على ربها إعادة الدينار إلى مالكها،
ولم يكن ذلك بدون كسر الإناء فجاز كسره لذلك، ولا يضمن نقصه؛ لأن التفريط من مالكها.
وإن حصل فيها بفعل رب الدينار فإنه يخير بين تركه في الإناء وبين كسره فرط مالك الإناء أو لم يفرط وعلى رب الدينار قيمة الإناء كاملة لتعديه ويلزم رب الدينار قبول مثل الدينار إن بذله رب الإناء ولم يجز الكسر؛ لأنه بذل له مالاً يتفاوت به حقه دفعًا للضرر عنه فلزمه قبوله لما فيه من الجمع بين الحقين ولو بادر رب الدينار إلى الإناء أو نحوه وكسره عدوانًا لم يلزمه إلا قيمته فقط.
ويلزم إنشاد المبعد تركه
…
أو أقرب مثوى لا المعارضة أشهد
وليس لرب الأرض إلزام زارع
…
لقلع ولم يبلغ لقرب التحصد
وقيل إن تشا اتركه بأجر ونقضها
…
إلى الحصد أو خذه بقيمته قد
وعنه بما أدى عليه وقيل بل
…
لمالكه يبقى بأجر بمبعد
وإن حصل المزروع قبل تملك
…
فليس سوى أجر لذي الأرض فأشهد
وكالغرس في الأقوى المكر رجزه
…
وأثمار أشجار بغصب لمعتد
وإن يبن أو يغرس فخذه بقلعه
…
وأجر وأرش النقص ثم التمهد
وإن كان غرس والبنا ملك ربها
…
فشا الترك أو قلعا لمعنى يؤيد
وإن زاد ألزمه الزيادة أن يبح
…
فذات انفصال كاتصال لردد
كغاصب أنثى ولدت أو تكسبت
…
أو ازداد في جسم وفي صنعة اليد
وإن حدثت ثم انقضت بعد غصبه
…
ولا شيء في قول هنا إن رد أطد
ووجهان إن يحدث من الجنس جائز
…
ومن غير جنس ضمن النقص ترشد
ولا غرم في جبر الشفا في سقامه
…
وليس عليه نقص سعر بأوكد
وما صاد بالمغصوب فهو لربه
…
كذا سهمه إن يغنموا مال جحد
وإن يجن في المغصوب ما غير اسمه
…
كصوغ حلي من لجين وعسجد
ووصفًا كنسيج الثوب أو نسج غزله
…
وذبح شياة واشتواها بموقد
فللمالك ابذله وقيمة نقصه
…
وإن زاد لم يشرك غصوب بأوطد
وعنه لغصاب ويضمنه وعن
…
أمامك خير فيهما ربه قد
ويملك طم البئر في الأرض حافر
…
ومع كره رب الأرض مع حسن مقصد
متى يبر منها في القوى وقيل لا
…
وقيل وإن لم يبرأ عن طمها أصدد
ومن يغتصب حبًا فيزرعه أو نوى
…
فينبت أو بيضا فأفرخ فأشهد
بكل لرب الأرض في المتوطد
…
وقيل لعاد مع ضمان المفسد
ومن يغتصب ثوبًا فيصنعه شوركًا،
…
كمليكها والنقص من غاصب قد
وكل له ما زاد من قدر ملكه
…
وذو الصبغ إن شا قلعه أقبل بأوطد
ويضمن نقص الثوب وأحكم بعكسه
…
لذي الثوب مع تضمين نقص تردد
ولا تجبرن شخصًا على بيع حقه
…
سوى غاصب أن يأب قلعًا بمبعد
ويحتمل أن لا يمكن قالع
…
به يضمحل المال للسفه أصدد
ولا تلزمن ذا لثوب والدار منه بالقبول
…
إن منح صبغًا ونفسًا بأجود
كذا غاصب صبغًا فيصبغ ثوبه
…
وزيتًا به السويق ليعدد
وقيل عليه في الجميع ضمانه
…
بمثل وإلا قيمة عند مفقد
ومن يصبغ المغصوب من صبغ غصبه
…
يرد وأرش النقص أو بالتزيد
والإثنين إن كانا يكن مثل صبغه
…
بثوب فتى والنقص منه لينقد
(5)
من غصب شبكة أو نحوها فأمسك بها صيد أو غزا على فرس فغنم أو عمل فيما غصبه
…
إلخ
س 5: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: إذا زاد مغصوب بيد غاصب، من غصب قنا أو شبكة أو نحوها فأمسك صيدًا، أو غزا على فرس مغصوب فغنم، أو غصب مخلبًا فقطع به أو سلاحًا فصاد به، أو أزال غاصب اسم مغصوب بعمله فيه، إذا طلب مالك رد ما أمكن رده إلى حالته، إذا استأجر الغاصب على عمل شيء مما تقدم من حفر بئرًا في أرض مغصوبة أو شق فها نهرًا أو أراد طمها، أو غصب شاة وانزى عليها فحله فلمن الولد، أو غصب دجاجة أو حمامة فباضت عنده ثم حضنت بيضها فصار فراخًا فلمن يكون الفراخ؟ واذكر الدليل والتعليل والتفصيل والاحتراز والقيد والخلاف والترجيح.
ج: يلزم غاصبًا وغيره إذا كان بيده رد مغصوب زاد بيد غاصب أو غيره بزيادته المتصلة كقصارة ثوب وسمن حيوان وتعلم صنعة آدمي وبزيادته المنفصلة كالولد من بهيمة وكذا من أمة إلا أن يكون جاهلاً فهو حر ويفديه بقيمته يوم الولادة.
وككسب رقيق؛ لأنه من نماء المغصوب وهو لمالكه فلزمه رده كالأصل.
ولو غصب قنا أو شبكة أو شركًا فأمسك القن أو الشبكة أو الشرك صيد فلمالكه أو غصب جارحًا أو سهمًا أو فرسًا أو قوسًا فصاد الغاصب أو غيره بالجارح أو صاد على الفرس صيدًا أو غزا على الفرس فغنم،
فالصيد وسهم الفرس من الغنيمة لمالك الجراح والفرس المغصوب؛ لأنه
حصل بسبب المغصوب فكان لمالكه، وقيل: هو الغاصب، وعليه الأجرة.
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: يتوجه فيما إذا غصب فرسًا وكسب عليه مالاً أن يجعل الكسب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما فعلى ما تقدم إن قلنا هو للمالك لم يكن له أجرة في مدة اصطياده؛ لأن الأجرة في مقابلة منافعه ومنافعه في هذه المدة عائدة إلى مالكه فلم يستحق عوضها غيره كما لو زرع أرض إنسان فأخذ المالك الزرع بنفقته، والثاني عليه الأجرة؛ لأنه استوفى منافعه أشبه ما لو لم يصد شيئًا وما ذكر من أن الصيد يكون لمالك المغصوب إن كان ما حصله من صيد أو غنيمة قدر أجرة المغصوب فأكثر، وأما إذا نقص الحاصل عن قدر أجرته فلرب المغصوب أجرة مثله تؤخذ من الغاصب لعدوانه.
وإن غصب منجلاً فقطع الغاصب أو غيره به خشبًا أو حشيشًا فالخشب أو الحشيش لغاصب لحصول الفعل منه كالحبل المغصوب يربط فيه الغاصب ما يجمعه من حطب ونحوه وكالمنجل في الحكم، ولو غصب سيفًا أو سلاحًا أو رمحًا أو نحوه فصاد به فهو لغاصبه لحصول ذلك بفعله، كما لو غصب سيفًا فقاتل به وغنم، وإن أزال غاصب أو غيره اسم مغصوب بعمله فيه كنسج غزل فيصير ثوبًا، وطحن حب فصار دقيقًا أو طبخه فصار يسمى طبيخًا، والأول يسمى دقيقًا ونجر خشب بابًا أو رفوفًا أو دولابًا أو ماصة أو دريشة أو ضرب حديدًا مسامير أو سيفًا أو فؤسًا أو صفرًا نجرًا أو نحاسًا قدورًا أو فضة دراهم أو فضة دراهم أو حليًا وجعل طين غصبه لبنًا أو اسمنتًا ورملاً بيوكا أو بلاطًا أو آجرًا أو فخارًا جرارًا أو أزيارًا أو اسمنتًا ورملاً مواصير وأقلامًا رده الغاصب وجوبًا معمولاً لقيام عين المغصوب فيه ورد أرشه إن نقصه لحصول نقصه بفعله وسواء نقصت
عينه أو قيمته أو نقصًا جميعًا ولا شيء للغاصب لعمله فيه ولو زاد المغصوب بعمل الغاصب فيه لتبرعه به كما لو أغلى زيتًا فزادت قيمته بخلاف ما لو غصب ثوبًا فصبغه؛ فإنه يصير شريكًا في زيادة الثوب، والفرق بينهما أن الصبغ عين مال لا يزول ملك مالكه عنه بجعله مع ملك غيره وإن غصب ثوبًا فقصره الغاصب بنفسه، أو بأجرة أو غصب شاة فذبحها وسلخها وشواها لزمه رد ذلك وأرش نقصه إن نقص شيء له في نظير عمله لتعديه وذبح الغاصب الشاة لا يحرم أكلها؛ لأنها مذكاة والذي ذكاها من أهل الذكاة؛ لكن لا يجوز للغاصب ولا غيره أكلها ولا التصرف فيها إلا بإذن مالكها كسائر الأموال.
وقيل: يكون شريكًا بالزيادة، اختاره الشيخ تقي الدين قاله في «الهداية» و «المستوعب الصحيح من المذهب» إن زادت القيمة بذلك فالغاصب شريك المالك بالزيادة، قال ناظم المفردات:
إن صنع الغاصب بابًا بالخشب
…
أو ضرب الفضة أو صك الذهب
أو حاك غزلاً أو لثوب قصرًا
…
بزائد شارك نصًا ضهرًا
رجحه الأكثر في الخلاف
…
ونصر الشيخان للمنافي
وللمالك إجباره الغاصب على رد ما أمكن رده من مغصوب إلى حالته التي غصب عليها؛ لأن عمل الغاصب في المغصوب محرم فملك المالك إزالته مع الإمكان وما لا يمكن رده إلى حالته الأولى كالأبواب والفخار والجص والإسمنت والآجر والشاة ونحوها إذا ذبحها وشواها وكالحب إذا طحنه فليس للغاصب إفساده ولا للمالك إجباره عليه؛ لأنه إضاعة
مال بغير منفعة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
وإن استأجر الغاصب إنسانًا على عمل شيء مما تقدم فالأجر عليه والحكم في زيادة ونقصه كما لو فعل ذلك بنفسه وللمالك تضمين النقص من شاء مهما فإن جهل الأجير الحال وضمن الغاصب لم يرجع على أحد وإن ضمن الأجير رجع على الغاصب؛ لأنه غره وإن علم الأجير الحال وضمن لم يرجع على أحد؛ لأنه أتلف مال غيره بدون إذنه وإن ضمن الغاصب رجع على الأجير؛ لأن النقص حصل بفعله فاستقر الضمان عليه وإن استعان الغاصب بمن فعل ذلك فهو كالأجير.
ومن حفر بئرًا في أرض مغصوبة أو شق فيها نهرًا ووضع التراب الخارج من البئر أو النهر في الأرض المغصوبة فله طمها إن كان الطم لغرض صحيح كإسقاط ضمان تالف بها أو كون الغاصب قد نقل ترابها إلى ملكه أو ملك غيره أو إلى طريق يحتاج إلى تفريغه وللغاصب حينئذ رد ترابها من نحو ملكه أو طريق نقلها إليه حيث بقي، فلو فات بسيل أو ريح ونحوه فله الطم بغيره من جنسه لا برمل أو كناسة ونحوها ولو أبرأه المالك مما تلف بها؛ لأن الغرض قد يكون غير خشية ضمان ما يتلف بها وتصح البراءة منه؛ لأن الضمان إنما يلزمه لوجود التعدي فإذا رضي رب الأرض زال التعدي فيزول الضمان، وإنما صحت البراءة مما يتلف بالبئر مع أنها متضمنة لما لم يجب بعد لوجود أحد السببين من حافر البئر وكل منهما موجب للضمان فالسبب الأول هو التعدي منه بحفرة في الأرض التي لغيره عدوانًا، والسبب الثاني هو الإتلاف وليست هذه البراءة براءة مما سيجب وإنما هي إسقاط المالك عن الغاصب التعدي برضاه ولو منعه المالك من الطم لم يملك الغاصب طمها في هذه الصور؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه لغير غرض صحيح ومنع من الطم رضي
بالحفر فيكون بمنزلة إبرائه من ضمان ما يتلف بها وإن كان الطم لغير غرض صحيح مثل أن يكون قد وضع التراب في أرض مالكها أو في موات وأبرأه من ضمان ما يتلف بها فلا يطمها الغاصب؛ لأنه إتلاف لا نفع فيه فلم يكن له فعله كما لو غصب نقرة فطبعها دراهم ثم أراد جعلها نقرة وبهذا قال أبو حنيفة والمزني وبعض الشافعية، وقيل: له طمها؛ لأنه لا يبرأ من الضمان بإبراء المالك؛ لأنه إبراء مما لم يجب بعد وهو أيضًا إبراء من حق غيره وهو الواقع فيها، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه نفسي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن أراد الطم المالك لغرض صحيح ألزم غاصب بالطم لعدوانه بالحفر؛ ولأنه يضرب الأرض وإن غصب حبًا فزرعه أو بيضًا فصار فراخًا أو نوى فصار نخلاً أو فراخًا فصار نخلاً أو أغصانًا فصارت شجرًا رد الغاصب الزرع والفراخ والشجر والنخل لمالكها؛ لأنه عين ماله المغصوب منه، ولا شيء للغاصب في عمله؛ لأنه تبرع به.
إن غصب شاة أو بقرة أو بدنة أو نحوها فأنزى عليها فحله فالولد لمالك الأم كولد الأمة ولا أجرة للفحل لعدم إذن ربها؛ ولأنه لا تصح إجارته لذلك وكذا لو غصب نخلة وحصل منها ودي فإنه لمالكها والودي أفراخ النخل؛ لأنه من نمائها ككسب العبد وولد الأمة.
وإن غصب فحل غيره وأنزاه على شاته فالولد له تبعًا للأم ولا لزمه أجرة الفحل؛ لأنه لا يصح إجارته لذلك؛ لكن إن نقص بالإنزاء وغيره، لزم الغاصب أرش نقصه لتعديه، وإن غصب دجاجة أو حمامة فباضت عنده ثم حضنت بيضها فصار فراخًا فهما لمالكها ولا شيء للغاصب في علفها، قال أحمد: في طيرة جاءت إلى دار قوم فازدوجت عندهم وفرخت يردونها وفراخها إلى أصحابها، قال في «المبدع»: ويرجع إلى ربها
بما أنفقه إن نوى الرجوع وإلا فلا. اهـ.
وإن نقص المغصوب يضمن نقصه
…
بقيمته عبدًا وغير معبد
وعن أحمد في العين من فرس ومن
…
بغال وحمر ربع قيمتها أرفد
وفي بعض قن من عتيق مقدر
…
كنسبته من قيمة العبد أورد
وقيل أكثر الأمرين في العبد واجب
…
كذا أوجبن أن يجن في العبد معتدي
وإن كان غير الغاصب القاطع إن تشا
…
فخذ أكثر الأمرين من غاصب قد
ورد عليه الأرش من مال قاطع
…
أو أقبضه وألزم غاصبًا بالمزيد
وعنه على الجاني قرار مضمن
…
بما كان من تقدير أو أرش أقصد
ومن يغتصب عبدًا فيخصيه رده
…
وقيمته حتمًا على المتأكد
وإن زال ما يؤذيه من سمن فلا
…
ضمان عليه في زوال المنكد
وخذ مثلاً أودع ما يزيد فساده
…
وخذه وأرش النقص عند التأطد
وقال أبو يعلى بتعيين مثله
…
لإضراره بالصبر مع جهل مفسد
(6)
نقص المغصوب وجنايته
س 6: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: نقص المغصوب بعد غصبه من غصب عبد فخصاه أو أزال منه ما تجب فيه دية أو قطع ما فيه مقدر، إذا أخذ مالك أرشًا من غاصب ثم زال العيب، نقص الشعر، زيادة المغصوب إذا طرأ على المغصوب مرض، إذا نقص مغصوب ثم زاد، إذا نقص نقصًا غير مستقر، جناية القن المغصوب، زوائد المغصوب إذا تلفت أو نقصت في يد الغاصب أو جنت على المالك أو غيره إذا كان العبد ودية فجنى جناية استغرقت قيمته ثم أن المودع قتله بعدها، واذكر الدليل والتعليل والتفصيل والمحترز والخلاف والترجيح.
ج: يضمن غاصب نقص مغصوب بعد غصبه وقبل رده ولو كان النقص رائحة مسك أو عنبر أو نحوهما؛ لأن قيمته تختلف بالنظر إلى قوة رائحته وضعفها، وكذا قطع ذنب حمار أو بغل أو فرس إذ القصد بالضمان جبر حق المالك بإيجاب قدر ما فوت عليه، ولأنه لو فات الجميع؛ لوجبت قيمته، فإذا فات منه شيء وجب قدره من القيمة كغير الحيوان.
وقال أبو حنيفة: إذا قلع عيني بهيمة تنتفع بها من وجهتين كالدابة والبعير والبقرة وجب نصف قيمتها، وفي إحداهما ربع قيمتها؛ لقول عمر محمول على أن ذلك كان قدر نقصها كما روي عنه أنه قضى في العين القائمة بخمسين دينارًا ولو كان تقدير الواجب في العين نصف القيمة كعين الآدمي، والقول الأول المخالف لقول أبي حنيفة هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
وإن غصب قنا ثم عمي عنده قوم صحيحًا ثم أعمي وأخذ من غاصب
ما بين القيمتين وكذا لو نقص لكبر أو مرض أو شجة وإن غصب عبدًا وخصاه هو أو غيره، ولو زادت قيمته بخصاه له أو أزال منه ما تجب فيه دية كاملة من حر كأنفه ولسانه أو يديه أو رجليه رده على مالكه ورد قيمته كلها ولا يملكه الجاني؛ لأنه المتلف البعض فلا يتوقف ضمانه على زوال الملك كقطع خصيتي ذكر مدبر، ولأن المضمون هو المفوت فلا يزول الملك من غيره بضمانه كما ل قطع تسع أصابع، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة والثوري يخبر المالك بين أن يأخذه ولا شيء له غيره وبين أن يأخذ قيمته ويملكه الجاني؛ لأنه ضمان مال، فلا يبقى ملك صاحبه عليه مع ضمان كسائر الأموال والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن قطع غاصب من رقيق مغصوب ما فيه مقدر من حر دون الدية الكاملة كقطع يد أو جفن أو هدب ونحوه فعلى غاصب أكثر الأمرين من دية المقطوع أو نقص قيمته لوجود سبب كل منهما فوجب أكثرهما ودخل فيه الآخر؛ لأن الجناية واليد وجدا فيه جميعًا فلو غصب عبدًا قيمته (1000) ألف فزادت قيمته عنده إلى ألفين ثم قطعت يده فصار يساوي ألفًا وخمسمائة؛ لأنه دية المقطوع أكثر من نقص القيمة في الصورة الأولى، وفي الصورة الأخيرة نقص القيمة أكثر من الدية وإن كان القاطع ليده غير الغاصب وقد نقصت قيمته مائتين قبل وصار بعد القطع يساوي أربعمائة (400) كان على الجاني أربعمائة؛ لأن جنايته مضمونة بنصف القيمة وهي حين القطع ثمانمائة، وعلى الغاصب مائتان؛ لأنها نقصت من قيمة العبد في يده وللمالك تضمين الغاصب ما عليه وعلى الجاني؛ لأن ما وجده في يده في حكم الموجود منه.
ويرجع غاصب غرم الجميع على جان بأرش جناية لحصول التلف بفعله فيستقر ضمانه عليه فقط دون ما زاد عن أرش الجناية فيستقر على الغاصب؛ لأن الجاني لا يلزمه أكثر من أرش الجناية وللمالك تضمين الجاني أرش الجناية ولا يرجع به على أحد؛ لأنه لم يضمنه أكثر مما وجب عليه ويضمن الغاصب ما بقي من النقص ولا يرجع به على أحد.
ولا يرد مالك تعيب ماله عند غاصب واسترده وأرش عيبه أرش معيب أخذه من غاصب بزوال العيب عند المالك كما لو غصب عبدًا فمرض عنده فرده وأرش نقصه بالمرض ثم بريء عند مالك بحيث لم يضر به نقص فلا يرد أرشه؛ لأنه عوض ما حصل بيد الغاصب من النقص بتعديه واستقر ضمانه برد المغصوب ناقصًا فإن أخذه مالكه دون أرشه فزال عيبه قبل أخذ أرشه لم يسقط ضمانه بخلاف ما لو بريء في يد غاصب فيرد مالكه أرشه إن كان أخذه.
ولا يضمن غاصب رد مغصوبًا بحالة نقص سعر كثوب غصبه وهو يساوي مائة ولم يرده حتى نقص سعره فصار يساوي ثمانين مثلاً فلا يلزمه رده شيء؛ لأنه رد العين بحالها لم تنقص عينًا ولا صفة بخلاف السمن والصفة ولا حق للمالك في القيمة مع بقاء العين وإنما حقه فيها وهي باقية كما كانت كهزال زاد به سعر المغصوب أو لم يزد به ولم ينقص كعبد مفرط في السمن قيمته يوم غصب ثمانون فهزل عند غاصبه فصار يساوي مائة أو بقيت قيمته بحالها فلا يرد معه الغاصب شيئًا؛ لعدم نقصه.
وقيل: يضمن نقص السعر لاسيما إذا كان عرضًا ينتظر فيه صاحبه الزيادة ليبيعه، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ويضمن غاصب زيادة مغصوب بأن سمن أو تعلم صنعة عنده ثم هزل أو نسي الصنعة فعليه رده وما نقص بعد الزيادة سواء طالبه المالك
برده زائدًا أو لا لأنها زيادة في نفس المغصوب فضمنها الغاصب كما لو طالبه بردها ولم يفعله، ولأنها زادت على ملك مالكها فضمنها الغاصب كالموجودة حال الغصب بخلاف زيادة السعر فإنها لو كانت موجودة حين الغصب لم يضمنها والصناعة إن لم تكن من عين المغصوب فهي صفة فيه وتابعة له ولا يضمن غاصب مرضًا طرأ على مغصوب بيده وبريء منه في يده؛ لزوال الموج للضمان في يده.
وقيل: إن نقصت القيمة لمرض ثم عادت ببرئه أنه يضمن قال في «الإنصاف» : حكى الحارثي وجهًا للشافعية قال: وهو عندي قوي ورد أدلة الأصحاب، وهذا القول هو الذي يترجح عندي؛ لأن السمن الثاني غير الأول فلا يسقط به ما وجب بالأول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكذا لو حملت فنقصت ثم وضعت في يد غاصب فزال نقصها لم يضمن شيئًا ولا يضمن غاصب إن زاد مغصوب ثم زادت قيمته ثم زالت الزيادة ثم عاد كسمن زال ثم عاد؛ لأن ما ذهب من الزيادة عاد مثله من جنسه وهو بيده أشبه ما لو مرض فنقصت قيمته ثم بريء فعادت القيمة وكذا لو نسي صنعة ثم تعلمها أو بدلها فعادت قيمته كما كانت ولا يضمن غاصب سوى الرد إن نقص المغصوب في يده فزاد مثل النقص من جنسه كما لو غصب عبدًا نساجًا يساوي مائة فنسي الصنعة عنده فصار يساوي ثمانين ثم تعلم الصنعة التي نسيها فعاد إلى مائة فإنه لا ضمان عليه في نقصه حتى ولو كان ما تعلمه صنعة بدل صنعة نسيها كما لو تعلم الخياطة بدل النساجة أو النجارة بدل الحدادة أو الكتابة بدل الخرازة أو نحو ذلك فعادت قيمته إلى مائة؛ لأن الصنائع كلها جنس من أجناس الزيادة في الرقيق، والذي تطمئن إليه النفس أنه يضمن كالتي قبلها بقريب، والله سبحانه وتعالى أعلم (10).
قال في الوهبانية:
ولو نسي الحرفات يضمن نقصها
…
ولو نسي القرآن أو شاخ يذكر
ومثل ما تقدم لو تعلم علمًا ونسيه وتعلم علمًا آخر كما لو تعلم التفسير بدل علم الجغرافيا أو علم القواعد بدل علم المعاني والبيان أو علم الهندسة بدل علم العروض ولا فرق بين كون الصنعة التي تعلمها مساوية للصنعة التي نسيها أو أعلى منها في الشرف وكذا لو كانت الزيادة الحاصلة من غير جنس الزيادة الذاهبة مثل أن غصب عبدًا قيمته مائة فتعلم صنعة فصار يساوي مائتين لم يسقط ضمانها؛ لأنه لم يعد ما ذهب بخلاف الأولى.
وإن كان المغصوب دابة ونقصت بجنايته أو غيرها ضمن الغاصب ما نقص من قيمتها ولو كان النقص بتلف إحدى عينيها فيغرم أرش نقصها فقط؛ لأنه الذي فوته على المالك وإن نقص المغصوب قبل رد نقصًا غير مستقر كحنطة ابتلت وعفنت وطلبها بين أخذ مثلها من مال غاصب أو تركها بيد غاصب حتى يستقر فسادها ويأخذها مالكها وأرش نقصها.
وعلى غاصب جناية قن مغصوب؛ لأن جنايته نقص فيه لتعلقها برقبته فكان مضمونًا على الغاصب كسائر نقصه وعليه بدل ما يتلفه ولو كانت الجناية على مالكه أو كان الإتلاف لمال مالكه بالأقل من أرش جنايته أو قيمة العبد؛ لأن جنايته على سيده من جملة جنايته فكانت مضمونة على الغاصب كالجناية على الأجنبي وكذا حكم ما أتلفه القن المغصوب من مال أجنبي أو سيده ولا يسقط برد الغاصب له؛ لأن السبب وجد في يده فلو بيع في الجناية بعد الرد رجع به على الغاصب بالقدر المأخوذ منه لاستقراره عليه.
وإن قتل المغصوب سيده أو غيره أو قنا فقتل به ضمنه الغاصب بأقل الأمرين
لتلفه بيده فإن عفي عنه على مال تعلق برقبته وضمنه الغاصب بأقل الأمرين كما يفديه سيده فلو قطع يدًا مثلاً فقطعت يده قصاصًا فعلى غاصب يقصه كما لو سقطت بلا جناية وإن عفا على مال فكما تقدم.
وجناية مغصوب على غاصب هدر؛ لأنها لو كانت على غيره كانت مضمونة عليه ولا يجب له على نفسه شيء فسقط وكذا جناية المغصوب على مال الغاصب هدر لما تقدر إلا أن كانت الجناية في قوة فلا تهدر؛ لأنها حق تعلق بنفسه لا يمكن تضمينه لغيره فاستوفي منه.
ولو قتل عبد مغصوب عبدًا للغاصب أو غيره من أجنبي أو سيده عمدًا فإنه يقتل قصاصًا ولسيد المقتول إن طلب القود قتله به؛ لأن النفس بالنفس ويرجع السيد على الغاصب بقيمته لتلفه في يده أشبه ما لو مات بيده، وفي «المستوعب»: من استعان بعبد غيره بلا إذن سيده فحكمه حكم الغاصب حال استخدامه فيضن جنايته ونقصه:
وإن يجن مغصوب لو في مليكه
…
فخذ أرش ما يجنيه من مال معتدي
وموجب مال والقصاص على السرا
…
إذا اقتص منه أرجع عليه أو افتدي
ولا تلزمنه فوق نقص بما جنى
…
ولو قدرت في الحر في المتوطد
وأما الذي يجني على غاصب فلا
…
ضمان له في نفسه والمعدد
وزوائد مغصوب كولد الحيوان وثمر الشجر إذا أتلفت أو نقصت في يد الغاصب أو جنت على المالك أو غيره كالمغصوب بالإصابة سواء تلفت منفردة أو مع أصلها؛ لأنها ملك لمالك الأصل وقد
حصلت في يد الغاصب بغير اختبار المالك بسبب إثبات يده المتعدية على الأصل فتبعته في الحكم فإذا غصب حاملاً أو حائلاً فحملت عنده وولدت فالولد مضمون عليه إن ولدته حيًا وإن ولدته ميتًا وقد غصبها حاملاً فلا شيء عليه؛ لأنه لم تعلم حياته وإن كانت قد حملت به عنده وولدته ميتًا فلا شيء عليه أيضًا، وقيل: يضمنه بقيمته لو كان حيًا، وقيل: يضمنه بعشر قيمة أمه وإن ولدته حيًا ومات فعليه قيمته يوم تلفه والذي يترجح عندي أنه إذا ألقته ميتًا يضمنه بقيمته يوم الوضع كما لو كان حيًا؛ لأنه غصبه بغصب الأم فضمنه بالتلف كالأم، والله سبحانه أعلم.
ولو كان العبد وديعة فجنى جناية استغرقت قيمته ثم إن المودع قتله بعدها فعليه قيمته وتعلق به أرش الجناية فإذا أخذها ولي الجناية لم يرجع على المودع، ولأنه جنى وهو غير مضمون عليه ولو جنى العبد في يد سيده جناية تستغرق قيمته ثم غصب فجنى في يد الغاصب جناية تستغرق قيمته بيع في الجنايتين وقسم ثمنه بينهما ورجع صاحب العبد على الغاصب بما أخذه الثاني منهما؛ لأن الجناية كانت في يده وكان لمجني عليه أولاً أن يأخذه دون الثاني؛ لأن الذي يأخذ المالك من الغاصب هو عوض ما أخذ المجني عليه ثانيًا فلا يتعلق به حقه ويتعلق به حق الأول؛ لأنه بدل عن قيمة الجاني لا يزاحم فيه وإن مات هذا العبد في يد الغاصب فعليه قيمته تقسم بينهما ويرجع المالك على الغاصب بنصف القيمة؛ لأنه ضامن للجناية الثانية ويكون للمجني عليه أولاً أن يأخذه لما ذكر.
خلط المغصوب بغيره
س 7: تكلم بوضوح عما إذا خلط غاصب أو غيره مغصوبًا بغيره وحكم تصرف غاصب في مخلط وعما إذا غصب ثوبًا فصبغه أو سويقًا فلته ثم زاد أو نقص، وإذا وطيء غاصب أمة فما الحكم؟ ولمن يكون الولد؟ وإذا تصرف غاصب بمغصوب ببيع أو إجارة أو هبة أو هدية أو صدقة فما الحكم؟ واذكر التفصيل والدليل والتعليل والخلاف والترجيح.
ج: إذا خلط غاصب أو غيره مغصوبًا لا يتميز كزيت ونقد بمثلهما لزمه مثل المغصوب كيلاً أو وزنًا من المختلط من المغصوب وغيره؛ لأنه تقدر على رد بعض ماله إليه مع رد المثل في الباقي فلم ينقل إليه بدله في الجميع كما لو غصب صاعًا فتلف بعضه وإن خلط مغصوبًا بدونه أو خلطه بخير منه من جنسه أو خلطه بغير جنسه مما له قيمة ولو بمغصوب مثله الآخر وكان الخلط على وجه لا يتميز كزيت بشيرج ودقيق حطة بدقيق شعير وكسمن بقر بسمن غنم أو لبن بقر بلبن غنم أو جص بجبس فهما شريكان بقدر قيمتهما فيباع الجميع ويدع إلى كل واحد قدر حقه كاختلاطهما من غير غصب؛ لأنه إذا فعل ذلك وصل كل منهما إلى حقه، فإن نقص المغصوب عن قيمته منفردًا فعلى الغاصب ضمان النقص؛ لأنه حصل بفعله.
وإن خلطه بما لا قيمة له كزيت بماء فإن أمكنه تخليصه خلصه ورده ونقصه وإن كان يفسده فعليه مثله.
ويحرم تصرف غاصب ومغصوب منه مال وخلط بغير متميز في قدر ماله فيه بدون إذن لاستحالة إنفراد أحدهما على الآخر فإن أذن مالك المغصوب جاز؛ لأن الحق لا يعدوهما، ولأنها قسمة فلا يجوز بغير رضى الشريكين.
ولا يجوز للغاصب إخراج قدر الحرام من المختلط بدون إذن المغصوب
منه؛ لأنه اشتراك لا استهلاك فلا يقاسم نفسه، قال الإمام: هذا قد اختلط أوله وآخره أعجب إلى أن يتنزه عنه كله ويتصدق به وأنكر قول من قال يخرج منه قدر ما خالطه إن عرف ربه عنه وما بقي حلال وإن شك في قدر الحرام تصدق بما يعلم أنه أكثر منه.
وقال أحمد في الذي يعامل بالربا يأخذ رأس ماله ويرد الفضل إن عرف ربه وإلا تصدق به ولا يأكل منه شيئًا ولو اختلط درهم لإنسان بدرهمين لآخر ولا غصب من أحدهما لآخر ولا تمييز لأحد المالين عن الآخر فتلف درهمان من الثلاثة فما بقي وهو درهم فهو بينهما نصفين؛ لأنه يحتمل أن يكون التالف الدرهمين فيختص صاحب الدرهم به ويحتمل أن يكون التالف درهمًا لهذا ودرهما لهذا فيختص صاحب الدرهمين بالباقي فتساويا ولا يحتمل غير ذلك ومال كل واحد منهما متميز قطعًا بخلاف المسائل المتقدمة غايته أنه أبهم علينا، ذكره في «الإنصاف» .
وإن خلط المغصوب بغير جنسه فتراضيا على أن يأخذ المغصوب منه أكثر من حقه أو أقل منه جاز؛ لأن بدا له من غير جنسه فلا تحرم الزيادة بينهما بخلاف ما لو خلطه بجيد أرديء واتفقا على أن يأخذ أكثر من حقه من الرديء أو دون حقه من الجيد لم يجز؛ لأنه ربا وإن كان بالعكس فرضي بدون أخذ حقه من الرديء أو يسمح الغاصب بدفع أكثر من حقه من الجيد؛ لأنه لا مقابل للزيادة.
وإن غصب ثوبًا فصبغه الغاصب بصبغه أو غصب سويقًا فتلفه بزيته فنقصت قيمة الثوب والصبغ أو قيمة الزيت والسويق أو قيمة أحدهما أو غصب سمن بقر فخلطه بسمن غنمه فنقصت قيمتها أو أحدهما ضمن الغاصب النقص؛ لأنه حصل بتعديه فضمنه كما لو أتلف بعضه وإن كان النقص بسبب تغيير الأسعار لم يضمنه، وتقدم في جواب سؤال (6) أن نقص
السعر يضمن على القول الذي تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
وإن لم تنقص قيمتها ولم تزد أو زادت قيمتها معًا فرب الثوب والصبغ أو السويق والزيت شريكان في الثوب وصبغه أو السويق وزيته بقدر ماليهما لاجتماع ملكيهما وهو يقتضي الإشراك فيباع ذلك ويوزع الثمن على قدر القيمتين وكذا لو غصب زيتًا فجعله صابونًا.
وإن زادت قيمة أحدهما كغلو قيمة صبغ دون الثوب كان كأن قيمة الثوب عشرة وبقيت كذلك وقيمة الصبغ خمسة فصار مصبوغًا يساوي عشرين بسبب غلو الصبغ أو غلو ثوب دون الصبغ فالزيادة لمالك الذي إلا سعره من الثوب أو الصبغ يختص بالزيادة؛ لأن الزيادة تبع للأصل وإن زاد أحدهما أربعة والآخر واحدًا فهي بينهما كذلك وإن حصلت الزيادة بالعمل فهي بينهما؛ لأن ما عمله الغاصب في العين المغصوبة لمالكها حيث كان أثرًا وزيادة مال الغاصب له.
وليس للغاصب منع رب الثوب من بيعه فإن باعه فصبغه له بحاله، فإن طلب مالك الثوب أو مالك الصبغ قلع الصبغ لم تلزم إجابته؛ لأن فيه إتلافًا لملك الآخر حتى ولو ضمن طالب القلع النقص لهلاك الصبغ بالقلع فتضيع ماليته وهو سفه وإن بذل أحدهما للآخر قيمة ماله لم يجبر على قبولها؛ لأنها معاوضة.
ولمالك الثوب بيعه؛ لأنه ملكه وهو عين وصبغه باق للغاصب ولو أبى غاصب بيع الثوب المصبوغ فلا يمنع منه مالكه؛ لأنه لا حجر عليه في ملكه ولو أراد الغاصب بيع الثوب المصبوغ وأبي المالك لم يجبره؛ لحديث: «إنما البيع عن تراض» وإن بذل الغاصب لرب الثوب قيمته ليملكه أو بذل رب الثوب قيمة الصبغ للغاصب ليملكه لم يجبر الآخر؛ لأنها معاوضة لا تجوز إلا بتراضيها.
وإن غصب ورقًا وكتب فيه شيئًا حرامًا كشعبة وزندقة وبدع وإلحاد وسحر ونحو ذلك ضمن الورق بقيمته وإن كتب في الورق الذي غصبه فقهًا أو حديثًا أو نحو ذلك فعلى ما تقدم تفصيله وإن وهب الغاصب الصبغ للمالك للثوب أو غصب دارًا وزوقها بأن جصصها أو رخمها أو صبغها أو سمتها، فقيل: يلزم المالك قبوله؛ لأنه صار من صفات العين فهو كزيادة الصفة في المسلم فيه فيلغز بها على هذا القول، ويقال: هبة يلزم قبولها، فما هي؟ والقول الثاني هو الذي تطمئن إليه النفس أنه لا يلزم قبوله لما فيه من المنة وربنا كان على المالك ضرر في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولو غصب غزلاً فنسجه أو ثوبًا فغسله أو حديدًا فضربه سيوفًا أو أبرًا أو معدنًا فجعله أباريق أو قدورًا أو نحاسًا فجعله أوانيًا أو صفرًا فجعله أوانيًا وقدورًا أو أباريق أو نحوها أو غصب شاة وشواها وزادت القيمة بذلك العمل ووهبه الغاصب للمالك، فقيل: يلزمه قبوله، وقيل: لا يلزمه كمسامير سمر بها بابًا، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه ربما يكون له غرس غير ما عمله الغاصب وربما نزلت قيمته إذا صنع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يلزم المالك إذا غصب منه خشبًا وجعله بابًا ثم وهب الغاصب المسامير للمالك قبوله الهبة التي هي المسامير؛ لأنها أعيان متميزة أشبهت الغراس فلا يجبر على قبولها كغيرها من الأعيان لما فيها من المنة التي لا يتحملها بعض الناس، كما قيل:
للدغ ألف منه
…
ولا احتمال منه
وإن غصب إنسان صبغًا فصبغ به ثوبه أو غصب زيتًا فلت به سويقًا
فرب الصبغ أو الزيت والغاصب شريكان في الثوب المصبوغ أو السويق الملتوت على قدر حقيهما في ذلك فيباعان ويوزع الثمن على قدر الحقين؛ لأن بذلك يصل كل منهما لحقه ويضمن الغاصب النقص إن وجد لحصوله بفعله ولا شيء له إن زاد المغصوب في نظير عمله لتبرعه به.
وإن غصب ثوبًا وصبغا من واحد فصبغه به ورد الثوب مصبوغًا؛ لأنه عين ملك المصبوغ منه ورد أرش نقصه إن نقص لتعديه به وإن كان الصبغ لواحد والثوب لواحد فهما شريكان بقدر ملكيهما وإن زادت قيمتهما فلهما وإن زادت قيمة أحدهما فلربه وإن نقصت قيمة أحدهما غرمه الغاصب وإن نقص السعر لنقص سعر الثياب أو الصبغ أو لنقص سعرهما لم يضمنه الغاصب ونقص كل واحد منهما من صاحبه وإن أراد أحدهما قلع الصبغ لم يجبر الآخر.
وكذا لو غصب سويقًا من واحد وزيتًا من آخر ولته أو نشا وعسلاً من إثنين وعقده حلوى، وكذا إنقاء دنس نوب بصابون من الغاصب إن أورث نقصًا في الثوب ضمنه الغاصب لحصوله بفعله وإن زاد الثوب فالزيادة الحاصلة بالإنقاء للمالك ولا شيء للغاصب في عمله لتبرعه به.
ولو غصب الثوب أو نحوه نجسًا لم يملك الغاصب تطهيره بغير إذن ربه كسائر التصرفات وليس للمالك للثوب تكليف الغاصب بتطهيره؛ لأن نجاسته له تحصل بيده وإن كان الثوب حين الغصب طاهرًا فنجس عند الغاصب لم يكن للغاصب تطهيره بغير إذن ربه لما سبق وللمالك إلزامه بتطهيره؛ لأنه تنجس تحت يده العادية وما نقص من قيمة الثوب بسبب الغسل على الغاصب أرشه؛ لأنه نقص حصل في يده ولو رد الغاصب الثوب نجسًا فمؤنة تطهيره على الغاصب؛ لأنه كالنقص الحاصل في يده. ويجب بوطء غاصب أمة مغصوبة عالم بتحريمه حد الزنا؛ لأنها ليست زوجة
ولا ملك يمين ولا شبهة تدرأ الحد، وكذا الأمة يلزمها الحد إن طاوعت على الزنا وكانت مكلفة غير جاهلة بالتحريم ويجب بوطئة أمة بكرًا مهر أمة مثلها بكرًا وأرش بكارة أزالها؛ لأنها بدل منها فلا يندرج في المهر؛ لأن كلاً من المهر والأرش يضمن منفردًا بدليل أنه لو وطئها ثيبًا وجب مهرها وإن افتضها بإصبعه وجب أرش بكارتها فكذلك يجب أن يضمنها إذا اجتمعا وإن كانت ثيبًا ووطئها الغاصب وجب عليه مهر الثيب.
وقيل: لا يلزمه مهر الثيب؛ لأنه لم ينقصها ولم يؤلمها إختاره أبو بكر والخرقي وابن عقيل والشيخ تقي الدين، ولم يوجب عليه سوى أرش البكارة نقله عنه في «الفائق» ، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس وأنه لا مهر لمطاوعة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مهر البغي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويجب بوطء الغاصب إذا حملت منه وولدت أرش نقص الولادة لحصوله بفعله بغير الولادة ولو قتلها غاصب بوطئه أو ماتت بغيره فعليه قيمتها وتضمن لو استردها المالك حاملاً فماتت بنفاس؛ لأنه أثر فعله كما لو استرد الحيوان المغصوب وقد جرحه الغاصب فسرى إلى النفس عند المالك فمات والولد من الغاصب ملك لربها؛ لأنه من نمائها ولأنه يتبع أمه في الرق في النكاح الحلال فهنا أولى، ويجب رده معها كسائر الزوائد ويضمنه الغاصب سقطًا وهو الولد لغير تمام وإن كان بجناية فإنه يضمن الجاني سواء نزل حيًا أو ميتًا بعشر قيمة أمه كما لو جنى عليه.
قال بعضهم:
أربعة فيها الضمان بالتلف
…
ففي المبيع قبل قبضه الثمن
وللمصري صاع تمره في اللبن
…
ومهر مثل للتي لم تقبض
من زوجها المهر الذي به رضي
…
وعشر قيمته الرقيقة التي
جني عليها حاملاً فألقت
…
.....................................
وإن ولدته تامًا حيًا ثم مات ضمنه بقيمته وإن ولدته ميتًا بجناية فلمالك تضمينه لمن شاء من جان وغاصب وقرار الضمان مع الجناية إن سقط بها على الجاني لوجود الإتلاف منه وكذا ولد البهيمة المغصوبة في الضمان ومتى ولدت الأمة من غير الغاصب ممن يعلم الحال فهو ملك لربها كما لو أتت به من الغاصب.
ويضمن الغاصب جنين بهيمة ولدته قبل ردها بما نقص أمه فتقوم قبل الولادة وبعدها ويؤخذ ما بين القيمتين كما لو جنى عليها غيره والولد الذي تأتي به الأمة المغصوبة من جاهل للحكم ومثل يجهله لقرب عهده بالإسلام أو كونه نشأ ببادية بعيدة يخفى عليه مثل هذا وتأتي به مع شبهة من جاهل الحال بأن اشتبهت عليه بأمته أو زوجته في نحو ظلمة أو اشتراها من الغاصب يظنها أمته أو تزوجها منه على أنها حرة فاتت منه بولد فإنه في جميع هذه الصور حر ولا حد عليه للشبهة وعليه المهر وأرش البكارة ونقص الولادة؛ لأن ذلك إتلاف يستوي فيه الجاهل والعالم وكونه حر الإعتقاد الواطيء الإباحة ونسبه لاحق للواطيء للشبهة، وكذا لو كان من غير الغاصب جاهلاً ويلزم الواطيء فداء الولد بمثل صفاته تقريبًا، وقيل: لا يلزم المشتري فداء أولاده وليس للسيد بدلهم؛ لأنه انعقد حرًا، وهذا القول الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم (16).
لأنه حال بينه وبين السيد بتفويت رقه باعتقاد بانفصاله حيًا؛ لأنها إذ وضعته ميتًا لم تعلم حياته قبل ذلك، ولم يوجد حيلولة بينه وبينه ويكون الفداء بقيمة الولد كسائر المتقومات يوم وضعه؛ لأنه أول حال إمكان تقويمه إذ لا يمكن تقويمه حملاً ولأنه وقت الحيلولة بينه وبين سيده، وقيل: يكون الفداء يوم الخصومة وهو ظاهر إطلاق الإمام أحمد في رواية ابن منصور وجعفر وهو وجه في «الفائق» قال في «الإنصاف» :
وإن انفصل المحكوم بحريته ميتًا من غير جناية فغير مضمون؛ لأنه لم تعلم حياته قبل ذلك وإن كان انفصاله بجناية فعلى جان الضمان؛ لأن الإتلاف وجد منه، فإن كانت الجناية من الغاصب فعليه غرة لوارثه عبدًا أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه كأنه ولد حيًا؛ لأنه أتلف جنينًا حرًا ولا يرث الغاصب منها شيئًا لو كان الولد منه؛ لأنه قاتل له وعلى غاصب للسيد عشر قيمة أمه فيضمنه له ضمان المماليك وإن كانت الجناية من غير الغاصب فعلى الجاني الغرة يرثها الغاصب؛ لأنه أبو الجنين دون أمه؛ لأنه رقيقة، وعلى الغاصب عشر قيمة الأم للمالك؛ لأنه يضمنه ضمان المماليك؛ لكونه قد فوت رقه على السيد ومتى انتقلت العين المغصوبة عن يد الغاصب إلى المالك فالمنتقلة إليه بمنزلة الغاصب في كون المالك يملك تضمينه العين والمنفعة الفائتة؛ لأنه إن كان عالمًا بالحال كان غاصبًا وإن كان جاهلاً فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ولأن العين المغصوبة صارت في يده بغير حق فملك المالك تضمينه بما يملك تضمين الغاصب؛ لكن إنما يستقر عليه ما دخل على ضمانه من عين أو منفعة ويستقر ما لم يدخل على ضمانه على الغاصب.
ومن يغتصب مملوكة فيصيبها
…
يحد ويؤخذ منه مهر وتردد
ومع مهر بكر في القوى أرش فضها
…
وقيل أن تطع لا مهر فيها لسيد
وعنه ولا للثيب المهر مطلقًا
…
ويملك أولادًا ونقصان ولد
فإن مات بعد الوضع يضمن بقيمة
…
وقيل بعشر من فدا الأم جود
وأهدره القاضي لشك حياته
…
وقال ابنه خذ قيمة لا تفند
وسيان سقط من غصوب وغيره
…
وعن أحمد فالقيمتين لسيد
وإن كان يخفى مثل ذاعنه لم يحد
…
وألحق به المولود حرًا ويفتدي
كذا في سقيط الضرب أوجب وغرة
…
تراثًا وعنها الوالد الضارب أصدد
وقيمتها إن تتوى فأكثر ما ترى
…
وأسقط سوى مهر وقدر المولد
ومن قبض المغصوب يجهل غصبه
…
كغاصبه من شاء ذو الملك يقصد
بتضمين تاوي العين والنفع وليعد
…
بما ليس مضمونًا بقبضكه قد
فمتهب مع مودع يرجعا على الغصوب
…
بغرم العين والنفع فاشهد
ومستأجر بالعين لا النفع فليعد
…
وبالنفع أن تبتعه إن تستعر عد
وإن حاز في وقت الإجارة والشرا
…
المسمى غصوبًا مرة حتمًا ليردد
وإن أحبل المبتاع أنثى فولده
…
مع الجهل أحرار له أنسب ويفتدي
بقيمة يوم الوضع الأول وعنه بل
…
بمثلهم في قيمة عنه بل زد
وعنه ليختر منهما ما يشاؤه
…
وعنه بمثل قاربن لا تحدد
ويأخذ نقص الوضع والمهر مع فدا
…
بنيه وأجر النفع من مال معتد
وليس له الرجعى بأرش بكارة
…
ولا قيمة الأنثى وإن تبق تردد
وعن أحمد ما حاز نفعًا مقابلاً
…
لما حيز منه لا رجوع به أشهد
وأن يشارب المال ضمن غاصبًا
…
وليس له الرجعى على قابض طد
سوى بالذي ما قابض راجع به
…
عليه وإن يقبضه مالك أمهد
بأن ماله شيء على غاصب لما
…
استقر عليه لو يعد كأبعد
فإن يتهب أو يبتع أو يستحره من
…
غصوب بري مع جهله والتعمد
وإن يك رهنًا عنده أو أمانة
…
فيتوى ولم يعلمه بعد المعدد
وكل سوى المذكور في مال غاصب
…
وقابضها مع علم غصب كمعتد
عليه يقر الغرم لم يرتجع به
…
على غاصب لكنما العكس أطد
الأيدي المترتبة على يد الغاصب
س 8: تكلم بوضوح عن الأيدي المترتبة على يد الغاصب والمسائل التي تتعلق بها، واذكر الدليل والخلاف والترجيح.
ج: الأيدي المترتبة على يد الغاصب عشر:
الأولى: القابضة تملكًا بعوض مسمى، وهي يد المشتري ومن في معناه، كالمتهب بعوض فمن غصب بكرًا فاشتراها منه آخر واستولدها ثم ماتت عنده أو غصب دارًا أو بستانًا أو عبدًا ذا صنعة أو بهيمة فاشتراها إنسان واستعملها إلى أن تلفت عنده ثم حضرا المالك وضمن المشتري ما وجب له من ذلك لم يرجع بالقيمة ولا بأرش البكارة على أحد لدخوله على ضمان ذلك لبذل العوض في مقابلة العين بخلاف المنافع فإنما تثبت للمشتري تبعًا للعين.
ويرجع متملك مغصوب بعوض كقرض وشراء وهبة بعوض إذا غرم بتضمين المالك له على غاصب بنقص ولادة ومنفعة فائتة بأباق أو نحوه كمرض ومهر وأجرة نفع وثمرة وكسب وقيمة ولد منه أو من زوج زوجها له؛ لأنه لم يدخل على ضمان شيء من ذلك حيث جهل الحال، فإن علمه استقر عليه ذلك كله ويرجع غاصب غرم الجميع لمالك على معتاض بقيمة عين وأرش البكارة لدخوله على ضمانها.
الثانية: يد مستأجر، فيرجع مستأجر غرم لمالك قيمة العين والمنفعة على غاصب بقيمة عين تلفت بيده بلا تفريط وجهل الحال؛ لأن لم يدخل على
ضمانها بخلاف المنفعة فتستقر عليه لدخوله على ضمانها.
ويرجع غاصب غرم المالك العين والمنفعة على مستأجر بقيمة منفعة؛ لأنه دخل على ضمان المنفعة دون العين، فإن ضمن المالك الغاصب العين والمنفعة معًا رجع الغاصب على المستأجر بقيمة المنفعة وإن ضمنها المستأجر رجع على الغاصب بقيمة العين.
ويسترد متملك ومستأجر من غاصب لم يقرا بالملك للغاصب ما دفعاه له من المسمى في بيع وإجارة من ثمن وأجرة ولو علم المستأجر والمشتري الحال، أي كون العين المتملكة أو المؤجرة مغصوبة لانتفاء صحة العقد مع العلم وعدمه؛ لأن الغاصب غير مالك وغير مأذون له من قبل المالك فلا يملك الثمن ولا الأجرة بالعقد الفاسد وسواء كانت القيمة التي ضمنت للمالك وفق الثمن أو دونه أو فوقه.
قال ابن رجب: لو أقر المشتري للبائع بالملك فلا رجوع له عليه.
الثالثة: يد القابض تملكًا بلا عوض، أما للعين بمنافعها كيد المتهب والمتصدق عليه والموصى له بالعين المغصوبة، وإما للمنفعة فقط كالموصي له بمنافعها.
الرابعة: يد القابض لمصلحة الدافع فقط كوكيل ومودع عنده العين المغصوبة، وفي تملك بلا عوض كهبة وهدية وصدقة ووصية بعين أو منفعة وعقد أمانة كوكالة ووديعة ورهن مع جهل قابض بغصب يرجع متملك وأمين غرما على غاصب بقيمة عين ومنفعة لكونهما مغرورين بتغرير الغاصب؛ لأنهما لم يدخلا على ضمان شيء فكان لهما الرجوع بما ضمناه ولا يناقض ما سبق في الوكالة والرهن من أن الوكيل والأمين في الرهن إذا باعا وقبضا الثمن، ثم بان المبيع مستحقًا لا شيء عليهما؛ لأن معناه أن المشتري
لا يطالبهما بالثمن الذي أقبضه لهما لتعلق حقوق العقد بالموكل دون الوكيل، أما كون المستحق للعين لا يطالب الوكيل فلم يتعرضوا له هنا البتة وهو بمعزل عن مسألتهم بالكلية، قال ابن رجب: ولا يرجع غاصب غرم على من أودعه أو وهبه ونحوهما العين المغصوبة إذا تلفت تحت يده بلا تفريط بشيء من قيمة عين ولا منفعة حيث جهل الحال.
الخامسة: يد المستعير ففي عارية مع جهل مستعير بالغصب إذا تلفت العين عنده يرجع مستعير ضمنه المالك العين والمنفعة بقيمة منفعة فقط؛ لأنه لم يدخل على ضمانها وإنما ضمنها بتغرير الغاصب ويستقر عليه ضمان العين إن لم تتلف بالاستعمال بالمعروف؛ لأنه قبضها على أنها مضمونة عليه، وكذا في حالة لم تكن العين فيها مضمونة على المستعير بأن كان منقطعًا ركب دابة يد صاحبها عليها عارية، وفيها إذا كان مستعيرها من مستأجر، وكذا من موصٍ له بمنفعتها وظهر أنها مغصوبة فلمستعير ضمنه مالك العين والمنفعة الرجوع على الغاصب بقيمة المنفعة.
ويرجع الغاصب الذي غرمه المالك قيمة العين والمنفعة على مستعير جهل الغاصب بقيمة عين تلفت بغير الاستعمال بالمعروف فقط، ومع علم المستعير بغصب العين المعارة إذا ضمنه المالك ابتداء قيمة العين مع المنفعة لا يرجع على الغاصب بشيء مما ضمنه له مالك؛ لأنه تعدى بقبضها عالمًا بالحال فلا تغرير ولوجود التلف تحت يده ويرجع غاصب غرم ابتداء في هذه الحالة قيمة العين والمنفعة بقيمة العين والمنفعة على مستعير عالم بالحال لدخوله على ذلك.
السادسة: يد الغاصب ففي غصب يرجع غاصب أول بما غرم لمالك من قيمة عين ومنفعة على غاصب ثان لتلفهما تحت يده العادية؛ لكن إن لم يقبضها الثاني عقب الأول لم يطالبه الأول إلا بقيمة منفعتهما
زمن إقامتهما عنده ولا يرجع غاصب ثان إذا غرم للمالك قيمة العين ومنفعتها زمن إقامتها عنده على الغاصب الأول بشيء لحصول التلف بيده العادية فاستقر الضمان عليه، ولا يرجع به على أحد؛ لكن لا يغرمه المالك المنفعة إلا مدة إقامتها عنده.
السابعة: يد المتصرف في المال بما ينميه كشركة ومزارعة وفي نحو مضاربة ومساقاة يرجع عامل غرم على غاصب بقيمة عين تلفت تحت يده بلا تفريط لدخوله على عدم ضمانها ويرجع عليه بأجرة عمل لتغريره بخلاف الأجير في المال المغصوب كخياط وبناء وحائك فلا يستحق أجرة عمله على أحد إذا علم أن العين غصب؛ لتعديه بذلك.
قال ابن رجب: وأما المضارب والمزارع بالعين المغصوبة وشريك العنان فقد دخلوا على أن لا ضمان عليهم بحال فإذا ضمنوا على المشهور رجعوا بما ضمنوا إلا حصتهم من الربح فلا يرجعون بضمانها لدخولهم على ضمانها عليهم بالعمل كذلك ذكره القاضي وابن عقيل في المساقي والمزارع نظيره.
وأما المضارب والشريك فلا ينبغي أن يستقر عليهم ضمان شيء بدون القسمة سواء قلنا ملكوا الربح بالظهور أو لا؛ لأن حصتهم وقاية لرأس المال وليس لهم الإنفراد بالقسمة فلم يتعين لهم شيء مضمون.
ويرجع غاصب غرم لمالك على عامل بما قبض عامل لنفسه من ربح في مضاربة وبما قبض من ثمر في مساقات.
ومنزرع في مزارعة بقسمة الربح أو الثمر أو الزرع مع الغاصب؛ لأنه لا يستحق ما قبضه من ذلك لفساد عقد المضاربة، ولأنه قد تقدم أن للعامل مطالبة بأجرة عمله في المال أو الشجر فلا يجتمع له ذلك مع الجزء المشروط له من المال والثمر.
الثامنة: يد المتزوج للأمة المغصوبة من الغاصب إذا قبضها من الغاصب بمقتضى عقد النكاح وأولدها ثم ماتت عنده ففي نكاح يرجع زوج غرم لمالك بقيمتها وأرش بكارة ونقص ولادة وقيمة ولد شرط حريته في العقد على الغاصب ظانًا أنها ملكه أو لم يشترط حريته ومات الولد بيد الزوج إذا غرمه إياها المالك على الغاصب؛ لأن الولد وإن لم يفسد اشتراط ذلك على الغاصب عدم رقه؛ لكنه دخل مع الغاصب على أنه لا غرم عليه بسبب الولد، فإذا غرم ذلك رجع عليه به؛ لأنه غره.
ويرجع غاصب على زوج إن غرم بمهر مثل غرمه إياه المالك لاستقراره عليه بالوطء ودخوله على ضمان البضع.
التاسعة: القابضة للمغصوب تعويضًا بغير عقد البيع وما بمعناه ففي إصداق غصب بأن تزوج الغاصب امرأة على العين المغصوبة وقبضتها على أن العين صداقها ونحو خلع وطلاق وعتق وصلح عن دم عمد على المغصوب كما لو سأل الغاصب إنسانًا أن يخلع زوجته أو يطلقها أو يعتق أمته أو صالح عن دم عمد على ما بيده من مغصوب معين وإيفاء دين به كما لو كان في ذمة إنسان عبد موصوف دين سلم فغصب عبدًا بالصفة ودفعه عما في ذمته فإذا جاء المالك وقد تلف المغصوب بيد القابض له على وجه مما ذكر فله الرجوع عليه ببدل العين والمنفعة.
وإيفاء دين يرجع قابض غرمه مالك قيمة العين والمنفعة بقيمة منفعة ومهر ونقص ولادة وثمرة وكسب وقيمة ولد على غاصب لتغريره إياه ويرجع غاصب إن غرم ببدل عين وأرش بكارة على قابض.
والدين فيما إذا كان القبض ثابت عن وفاء في الذمة كثمن المبيع ودين السلم والقرض والأجرة وغير ذلك كقيم المتلفات باق في ذمة الغاصب
بحاله لفساد القبض.
العاشرة: يد المتلف للمغصوب نيابة عن الغاصب مع جهله الحال كالذابح للحيوان والذي يطبخ له وطحن حب ففي إتلاف بإذن غاصب القرار على الغاصب لوقوع الفعل له فهو كالمباشر وإن علم متلف بغصب فقرار الضمان عليه لتعديه على ما يعلمه ملك غيره بغير إذن مالكه.
وإن أتلف على وجه محرم شرعًا كقتل حيوان مغصوب من عبد أو حمار أو غيرهما بإذن غاصب ففي «التلخيص» يستقر الضمان عليه؛ لأنه عالم بتحريم هذا الفعل فهو كالعالم بأنه مال الغير.
قال ابن رجب ورجح الحارثي دخول هذه اليد المتلفة في قسم المغرور؛ لأنها غير عالمة بالضمان فتغرير الغاصب لها حاصل.
وإن كان لمنتقل إليه المغصوب في هذه الصور العشر هو المالك له مع جهله أنه عين ماله فلا شيء له على الغاصب لما يستقر على المنتقل إليه ضمانه لو كان غير المالك وما سوى ما يستقر ضمانه على المنتقل إليه الغصب لو كان أجنبيًا فهو غاصب، للمالك مطالبته به.
فلو غصب عبدًا ثم استعاره منه مالكه جاهلاً أنه عبده ثم تلف عنده فلا طلب له إذا علم على غاصب بقيمته؛ لأن ضمانها يستقر عليه لو لم يكن هو مالكه ويطالبه بقيمة منافعه مدة إقامته عند الغاصب؛ لأنه لم يوجد ما يسقطها عنده؛ لأنها غير مضمونة عليه لو كان أجنبيًا فقد غره.
فلو غصب إنسان طعامًا وأطعم الطعام المغصوب لمالك الطعام أو لأجنبي ولم يعلمه الغاصب أو أطعمه لدابة المالك أو لعبد المالك للطعام لم يبرأ غاصب ولو لم يقل غاصب لآكل كله فإنه طعامي أو أخذه المالك من غاصب هبة أو أخذه صدقة لم يبرأ غاصب بذلك.
وقال الحسن وأبو حنيفة: يبرأ، وللشافعي قولان، والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم (17).
ولا يبرأ غاصب لو أباحه له كان كأن صابونًا، فقال: اغسل به، أو شمعًا، أو قازًا، أو زيتًا أو فزًا أو حطبًا فأمر بوقده ونحوه وهو لا يعلمه أو استرهنه مالك أو استودعه أو استأجره من غاصبه أو استأجر غاصب مالكًا للثوب المغصوب على قصارته أو كيه أو خياطته أو صبغه ولم يعلم مالكه أنه ملكه ففي هذه المسائل المذكورة كلها لم يبرأ الغاصب.
أما كونه لا يبرأ بالطعام والإباحة فلأنه بغصبه منع يد مالكه وسلطانه عنه ولم يعد إليه بذلك سلطانه؛ لأن المالك لم يملك التصرف فيه بغير ما أذن له فيه الغاصب، وأما في الهبة والصدقة فلأنه تحمل منته وربما كافأه على ذلك.
وأما في مسألة الرهن وما بعدها فلأنه قبضه على وجه الأمانة فلم يعد إليه بذلك سلطانه وهو تمكينه من التصرف فيه بكل ما أراد.
وإن كان المالك عالمًا أنه ملكه وأكله بإطعام الغاصب له أو أكله بنفسه أو أكله عبده أو دابته بيده ولو بلا إذنه برئ الغاصب؛ لأن المالك أتلف ماله عالمًا من غير تغرير فلم يكن له رجوع به على أحد وكذلك الأجنبي إذا أكل ما علم بقبضه برئ الغاصب ولزم الأجنبي الضمان؛ لأنه المباشر.
وإن لم يتلف المغصوب الذي اشتراه أو استقرضه مالكه من الغاصب لم يبرأ منه الغاصب لاحتمال رده بنحو عيب فيتلف بعده كما لو دفعه الغاصب للمالك أمانة؛ لأنه لم يدخل على ضمان ذلك إذ لو تلف تحت يده بلا تعد ولا تفريط لا يكون ضامنًا.
وإن صدر ما تقدم ذكره من مالك لغاصب أو لدابته أو وهبه إياه أو تصدق به عليه أو رهنه أو أودعه أو أجره إياه أو باعه منه أو أقرضه
أو أعاره للغاصب أو استأجر المالك الغاصب على غسل الثوب المغصوب أو على تعليم العبد المغصوب برئ الغاصب في هذه الصور كلها سواء علم المالك أن المغصوب ملكه أو لم يعلم اعتبارًا بما في نفس الأمر.
كما لو وطئ امرأة يظنها أجنبية فتبينت زوجته فإنه لا مهر عليه ولا على غيره.
وكما لو أكل في الصوم يظن أن الشمس لم تغرب فتبين أنها كانت غربت فإنه لا قضاء عليه برئ من غصب فقط لا من إثمه الحاصل بارتكابه الاستيلاء والحيلولة بين المالك وبين ماله بغير حق.
وصدور ما ذكر من المالك مبرئ للغاصب من الغصب ومزيل لحكمه.
وإن كان في بعض صوره ما يكون في ضمان الغاصب كما لو أقرضه الدراهم المغصوبة فإن حكم الغصب فيها إذا أتجر فيها الغاصب أن الربح يكون لمالكها والحكم فيها بعد اقتراضها من مالكها أن الربح يكون للذي اغتصبها.
وكما لو باعه أو أعاره فإن الرجوع على الغاصب بأجرة المنفعة لدخوله على أن المنفعة غير مضمونة عليه.
مسائل في الذي تبين أنه مغصوب بعد التصرف وإذا أتلف
أو تلف المغصوب وما حول ذلك
س 9: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: من اشترى أرضًا فغرس فيها فبانت مستحقة وقلع غرسه وبناءه، من أخذ منه شيئًا مشتراه بحجة مطلقة، من اشترى قنا فأعتقه فادعى شخص أن البائع غصبه منه فصدقه أو صدقه البائع والمشتري مع القن؟ من قال: أنا حر ثم أقر بالرق؟ لو مات القن وخلف مالاً فما الحكم؟ وما الذي يترتب على ذلك؟ إذا أتلف أو تلف مغصوب مثلي أو غير مثلي، وما الذي يجري مجراه؟ وما الذي يقوم به المصوغ؟ وماذا يجب في تلف بعض مغصوب؟ وفي قن يأبق وعصير يتخمر؟ واذكر ما تستحضره من أمثلة وأدلة وتعاليل وقيود ومحترزات وتفاصيل وبطلان وضده وتقادير وخلاف وترجيح.
ج: من اشترى أرضًا فغرس فيها أو بنى فيها فخرجت مستحقة لغير بائعها وقلع المشتري غرسه وبناءه لكونه وضع بغير حق رجع مشتر على بائع بما غرمه بسبب ذلك من ثمن أقبضه وأجرة غارس وبان وثمن مؤن مستهلكه وأرش نقص بقلع وأجرة دار ونحو ذلك؛ لأن البائع غر المشتري ببيعه إياها وأوهمه أنها ملكه وكان ذلك سببًا في غراسه وبنائه وانتفاعه فرجع عليه بما غرمه.
وقيل لرب الأرض: قلعه إن قلعه إن ضمن نقصه، ثم يرجع به على البائع، وقيل: لا يقع بل يأخذه بقيمته.
وقال الشيخ تقي الدين في «الفتاوى المصرية» : لو باع عقارًا ثم ظهر مستحقًا فإن كان المشتري عالمًا ضمن المنفعة سواء انتفع بها أو لم ينتفع وإن لم يعلم فقرار الضمان على البائع الظالم وإن انتزع المبيع من يد المشتري فأخذت منه الأجرة وهو مغرور رجع بذلك على البائع الغار. اهـ.
وقال في «الفروع» : ويأخذ مشتر نفقته وعمله من بائع غار، قال ابن نصر الله: مفهومه: أنه لا يرجع على بائع غير غار مثل أن يكون اشترى من الغاصب فباعه ولم يعلم بالغصب فيكون رجوع المشتري من المشتري على الغاصب لا على المشتري الأولى. انتهى.
ولا يرجع المشتري بما أنفق على قن وحيوان وخراج أرض فيما إذا
اشترى أرضًا خراجية وغرم خراجها ثم ظهرت مستحقة فلا يرجع المشتري بذلك على البائع؛ لأن المشتري دخل في الشراء ملتزمًا ضمان ذلك؛ لأن عقد البيع يقتضي النفقة على المبيع ودفع خراجه.
قال في «شرح الإقناع» : وقياس ذلك أن الزوج لا يرجع على الغاصب بما أنفقه على الزوجة إذا خرجت مغصوبة كما أنه لا يرجع على الحرة في النكاح الفاسد وبيع الخراجية كما تقدم غير صحيح، فالمراد هنا إذا حكم به من يراه أو المراد به النزول عنها لمن يقوم مقامه في الإنتفاع ووزن الخراج. اهـ.
ويجوز تملك زرع الغاصب ببدل بذره وعوض لواحقه.
ومن اشترى شيئًا ثم انتزع منه بحجة مطلقة بأن أقيمت بينة شهدت للمدعي للملك المطلق بأن لم تقل ملكه من وقت كذا رد بائعه للمشتري ما قبضه منه من الثمن لفساد العقد بخروجه مستحقًا، والأصل عدم حدوث ملك ناشيء عن المشتري كما لو شهدت بملك سابق على زمن الشراء.
ومن اشترى قنا من إنسان فادعى شخص ولا بينة أن البائع للقن غصبه فصدقه البائع أو المشتري على ما ادعاه لم يقبل تصديقه على الآخر المنكر؛ لأنه لا يقبل إقراره في حق غيره بل تصديقه على نفسه فقط وإن صدقه البائع والمشتري مع القن المبيع لم يبطل عتقه لتعلق حق الله تعالى به بدليل أنه لو شهد شاهدان بعتقه وأنكره العبد قبلت شهادتهما، ولم يقبل إنكاره مع اتفاق السيد والقن على الرق.
وكذا من قال: أنا حر ثم أقر بالرق لم يقبل إقراره ولمالك تضمين من شاء منهما قيمته يوم العتق ويستقر ضمان القيمة على معتقه لمدعي العتق يوم الغصب، وقيل: ضمان الثمن لاعتراف المعتق بإتلافه بالعتق بغير إذن ربه،
فإن ضمن البائع رجع على المشتري وإن ضمن المشتري لم يرجع على البائع إلا بالثمن ذكره في «المبدع» وغيره.
ولو مات القن العتيق وخلف مالاً ولا وارث له فالمال المخلف عنه لمدع لاتفاقهم على أنه له لا ولاء عليه؛ لأنه لم يعتق، ولا ولاء عليه للمعتق؛ لاعترافه بفساد عتقه، فإن خلف وارثًا فالمال له للحكم بحريته.
وإن أقام المدعي بينة بأن البائع غصب منه عبده بطل البيع؛ لأنه ليس من مالك ولا مأذونه وبطل العتق أيضًا لترتبه على البيع الباطل ويرجع المشتري على البائع بالثمن لبطلان البيع.
وإن لم يعتق المشتري القن وادعى إنسان أنه غصبه البائع منه وأقام المدعي بينة بما ادعاه انتقض البيع ورجع المشتري على البائع بالثمن لبطلان البيع وكذلك إن أقر البائع والمشتري بأن البائع غصبه من المدعي بطل البيع لإقرارهما بالغصب ورد ثمن قبضه بائع لمشتر بخلاف ما إذا أعتقه.
وإن أقر أحدهما بما ادعاه المدعي من غصب القن لم يقبل إقراره على الآخر؛ لأنه تعلق به حق غيره فيلزم بائعًا أقر للمدعي وكان إقراره له بعد انقضاء مدة خيار قيمة العبد للمقر؛ لأنه ملكه وقد حال بينه وبينه بغير حق ويقر العبد بيد المشتري؛ لأنه ملكه في الظاهر وللبائع تحليف مشتر أنه لا يعلم صحة إقراره فإن نكل قضى عليه بالنكول.
وإن كان البائع ما قبض الثمن لم يطالبه به لإقراره بما يسقطه وإن كان البائع قد قبض الثمن لم يسترده مشتر؛ لأنه لا يدعيه فإن عاد قن لمقر وهو البائع في هذه لفسخ البيع أو غيره من إرث أو هبة أو شراء وجب رد لمدعيه؛ لاعترافه له بالملك وله استرجاع ما أخذ منه في نظير الحيلولة لزوالها، وإن كان إقرار البائع في مدة الخيار بأن غصبه منه في مدة خيار، فإنه ينفسخ البيع؛ لأنه يملك فسخه، فقبل إقراره بما يفسخه وسواء كان
خيار مجلس أو خيار شرط لهما أو للبائع وحده لا للمشتري وحده ويلزم مشتريًا أقر بأن البائع غصبه من مدعيه رد عبد لمدعي لإقراره له بالملك ولم يقبل إقراره على البائع ولا يملك المشتري الرجوع على البائع بالثمن إن كان قبضه، وعلى المشتري دفع ثمن لبائع إن لم يكن قبضه؛ لأنه في ملكه في الظاهر.
وإن أقام المشتري بينة بما أقر به من غضب البائع للعبد عمل بها؛ لعدم ما ينافيها وله الرجوع بالثمن على البائع حينئذ؛ لتبين بطلان البيع، وكذا بائع أقر بأنه غصب من المدعي وأقام بينة بما أقر به ولم يقل بائع حال بيع بعتك عبدي هذا أو بعتك ملكي، بل قال: بعتك هذا العبد مثلاً، قبلت بينته؛ لأنه قد يبيع ملكه وملك غيره.
وإن كان البائع في حال البيع، قال: بعتك عبدي هذا أو ملكي، لم تقبل بينته؛ لأنه يكذبها بقوله: عبدي هذا أو ملكي، وإن أقام المدعي البينة سمعت بينته وبطل البيع، وكذا العتق إن كان كما تقدم ولا تقبل شهادة البائع للمدعي بأنه غصبه منه؛ لأنه يجر بها إلى نفسه نفعًا وإن أنكر البائع والمشتري مدعي العبد فله إحلافهما؛ لحديث:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وإن وجد إنسان عند آخر سرقته بعينها، فقال أحمد: هي ملكه يأخذها أذهب إلى حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به» ويتبع المبتاع من باعه.
وإن أتلف مغصوب بإتلاف الغاصب له أو بإتلاف غيره له بأن قتل الحيوان المغصوب أو أحرق المتاع المغصوب ولو كان إتلاف الغاصب للمغصوب بلا غصب بأن أتلف وهو بيد الغاصب أو بعد أن انتقل إلى يده بشيء مما تقدم من نحو بيع أو هبة أو عارية أو وديعة أو تلف مغصوب بأن كان حيوانًا فمات في يده بذلك المرض ضمن الغاصب أو من تلف
بيده المغصوب المثلي وهو الفلوس.
وكل مكيل من حب وثمر ومائع وغيرهما أو موزون كحديد ونحاس ورصاص وذهب وفضة وحرير وكتان وقطن ونحوها لا صناعة فيه مباحة يضمن بمثله بخلاف نحو هريسة أو الموزون بخلاف حلي وأسطال وتقدم بيان المكيلات والموزونات في باب الربا والصرف في الجزء الرابع من «الأسئلة والأجوبة الفقهية» فيضمن ذلك بمثله؛ لأن المثل أقرب إليه من القيمة فإنها تماثل من طريق الظن والاجتهاد وسواء تماثلت أجزاء المثلي أو تفاوتت كالأثمان ولو دراهم مغشوشة رائجة والحبوب والأدهان ونحوها، وفي رطب تمر أو سمسم صار شيرجًا يخبر مالكه فيضمنه أي المثلين أحب وأما مباح الصناعة كمعمول حديد ونحاس وصوف وشعر مغزول فيضمن بقيمته لتأثير صناعته في قيمته وهي مختلفة والقيمة فيه أخصر وأضبط.
قال في «شرح الإقناع» : ينبغي أن يستثنى من ضمان المثل بمثله الماء بالمفازة فإنه يضمن بقيمته في البرية ذكره في «المبدع» ، وجزم ابن الحارثي، قلت: ويؤيده ما قالوه في التيمم ويمم رب ماء مات لعطش رفيقه، ويغرم قيمته مكانه لورثته. اهـ.
فإن أعوز مثلي التالف بأن تعذر لعدم أو بعد أو إلا فالواجب قيمة مثله يوم أعواز المثل لوجوب القيمة في الذمة حين إنقطاع المثل كوقت تلف المتقوم، ولأنها أحد البدلين فوجب عند تعذر أصله كالآخر ودليل وجوبها إذ أنه يستحق طلبها ويجب على الغاصب أداؤها ولا يبقى وجوب المثل للعجز عنه، ولأنه لا يستحق طلبه ولا استيفاءه، وهذا القول من مفردات المذهب، قال ناظمها:
إن تلف المغصوب وهو مثل
…
وعدم المثل فحقق نقلي
يضمن بالقيمة يوم العدم
…
لا يوم غصب أو بأقصى القيم
وقيل: يضمنه بقيمته يوم قبض البدل، وقيل: يلزمه قيمته يوم تلفه، وقال أبو حنيفة ومالك: تعتبر القيمة يوم المحاكمة وهو وجه للشافعية؛ لأن القيمة لا تنتقل إلى الذمة إلا بحكم حاكم، وقال أبو يوسف: يوم الغصب.
وقال الشيخ تقي الدين - رحمه الله تعالى -: ويضمن المغصوب بمثله مكيلاً أو موزونًا أو غيرهما حيث أمكن وإلا فالقيمة، وهذا المذهب عند ابن أبي موسى وطائفة من العلماء، قالوا به، وإذا تغير السعر فقد تعذر المثل، وينتقل إلى القيمة وقت الغصب، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
فإن قدر من وجب المثل عليه على المثل بعد تعذره قبل أداء القيمة لا بعد أخذها وجب المثل؛ لأنه الأصل وقد قدر عليه قبل أداء البدل حتى ولو كان ذلك بعد الحكم عليه بأداء القيمة كمن عدم الماء ثم قدر عليه قبل انقضاء الصلاة، فإن أخذ المالك القيمة عنه استقر حكمها ولم ترد ولا طلب بالمثل إذ الحصول البراءة بأخذها ويضمن غير المثلي إذا تلف أو أتلف بقيمته يوم تلفه؛ لحديث ابن عمر مرفوعًا:«من أعتق شركًا في عبد قوم قيمة العدل» متفق عليه، فأمر بالتقويم في حصة الشريك؛ لأنها متلفة بالعتق ولم يأمر بالمثل، ولأن غير المثلي لا تتساوى أجزاؤه وتختلف صفاته فالقيمة فيه أعدل وأقرب ولا يعتبر يوم الغصب ولا يوم المحاكمة ولا أكثر القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف فأبو حنيفة ومالك قالا: تعتبر قيمته
يوم الغصب؛ لأنه الموجب للضمان فنقدره بحال وجوده وكالإتلاف،
وقال الشافعي: يجب أقصى القيم يوم الغصب إلى يوم التلف؛
لأنها حالة الزيادة واجبة الرد فوجب حينئذ كون الزيادة مضمونة، قال العمريطي ناظمًا لما قاله الشافعي:
والمثل في المثلي منه للعدم
وفي سوى المثلي أكثر القيم
…
من وقت غصبه إلى الإتلاف
وصدقوه عند الاختلاف
وإنما يعتبر يوم التلف إذا كان الاختلاف؛ لتغير الأسعار، وأما إذا كان لمعنى في العين من سمن وتعلم صنعة ونحو ذلك فإنا نعتبر قيمتها أكثر مما كانت لو كان العبد ذا صنعة أو تعلمها عنده ثم نسيها، ثم تلف فإنا نعتبر قيمته حال كونه ذا صنعة لا حال التلف كما صرح به في «المغني» و «الشرح» اهـ.
وإن كان الزرع أخضر قوم على رجاء السلامة وخوف العطب كالمريض والجاني إن كان يحل بيعه هذا مذهب مالك.
وقال بعضهم:
فيما إذا أتلف إنسان الثمر مع التلقيح ونحوه أو أتلف ولد الغرس ونحوها فكيفية تقوم ذلك أن يقال قيمة العقار مع ثمرته والغرس مع ولدها ألف مثلاً ومع عدم ذلك ثمانمائة فيكون قيمة التالف مائتين وعلى هذا فقس.
وقيل: يضمن المغصوب بمثله مطلقًا وقاله ابن أبي موسى، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله واحتج بقوله تعالى:{فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} .
ولحديث أنس قال: «أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«طعام بطعام وإناء بإناء» » رواه الترمذي وهو بمعناه لسائر الجماعة إلا مسلمًا.
وتعتبر قيمته في بلد غصبه من نقد ذلك البلد؛ لأنه موضع الضمان بمقتضى التعدي، وهذا المذهب نقله جماعة عن أحمد قال: وهو الصحيح والمشهور، وقيل: تعتبر القيمة من نقد البلد الذي تلف فيه؛ لأنه موضع ضمانة والذي يترجح عندي أنه له المطالبة بقيمة أي البلدين شاء، والله سبحانه أعلم.
فإن تعددت النقود في البلد، فالقيمة تؤخذ من قيمته رواجًا لانصراف اللفظ إليه فيما لو باع بنقد مطلق وكالمغصوب فيما سبق تفصيله متلف بلا غصب ومقبوض يضمن كمقبوض بعقد فاسد يجب الضمان في صحيحه كمبيع لا نحو هبة.
وما أجرى مجرى المقبوض بعقد فاسد كالمقبوض على وجه العموم مما لم يدخل في ملك المتلف له كالرهن والوديعة والمال تحت يد الوكيل حيث وجب ضمان ذلك بالتلف والمعار.
فيضمن مثلي بمثله ومتقوم بقيمته فإن دخل التالف في ملك متلفه بأن أخذ معلومًا بكيل أو وزن أو أخذ حوائج من بقال أو جزار أو زيات في أيام ولم يقع سعرها ثم يحاسبه بعد ذلك، فإنه يعطيه بسعر يوم أخذه؛ لأنه ثبتت قيمته في ذمته يوم أخذه لتراضيهما على ذلك ولا يرد المثل.
ومقتضى قول الأصحاب، فإن دخل في ملكه أن العقد في ذلك صحيح وإلا لما ترتب عليه الملك؛ ولذلك أخذ منه الشيخ تقي الدين صحة البيع بثمن المثل وعلى هذا يدخل في ملكه، وهذا العقد جار مجرى الفاسد؛ لكونه لم يعين فيه الثمن، لكنه صحيح إقامة للعرف مقام النطق وهذا وإن كان مخالفًا لما تقدم من أن البيع لا يصح إلا مع معرفة الثمن أولى من القول
بأنه فاسد يترتب عليه الملك؛ لأن الفاسد لا يترتب عليه أثره، بل يدعي أن الثمن في هذا معلوم بحكم العرف فيقوم مقام التصريح به.
وقيده بعض العلماء بما إذا علماه حالة العقد وإلا فهو كالبيع بما اشترى به زيد مثلاً أو بما ينقطع السعر به وتقدم حكم ذلك والخلاف فيه في الجزء الرابع.
ويقوم الموزون وهو مصاغ مباح أي فيه صناعة مباحة وكمعمول من نحاس ورصاص ومغزول صوف وشعر ونحوه كمغزول قطن وكتان أو محلى بأحد النقدين تزيد على وزنه لصناعته.
ويقوم تبر تخالف قيمته وزنه بزيادة أو نقص بنقد من غير جنسه فإن كان المصوع من أحد النقدين قوِّم بالآخر، فإن كان من ذهب قوِّم بفضة وإن كان من فضة قوم بذهب لئلا يؤدي إلى الربا وإن كان محلى بأحد النقدين قوم من غير جنسه فرارًا من الربا، وقال القاضي: يجوز بجنسه؛ لأن الزيادة في مقابلة الصنعة فلا يؤدي إلى الربا، واختاره في «الفائق» ، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
وإن كان الحلي من ذهب وفضة قوم بأيهما شاء منهما للحاجة إلى تقويمه بأحدهما؛ لأنهما قيم المتلفات وليس أحدهما أولى من الآخر فكانت الخيرة في ذلك إلى من يخبر التقويم ويعطي رب الحلي المصوغ من النقدين أو المحلى بهما بقيمته عرضًا؛ لأن أخذها من أحد النقدين يفضي إلى الربا.
ويضمن محرم الصناعة كإناء من ذهب أو فضة وحلي محرم كسرج ولجام وركاب ونحوه بوزنه فقط من جنسه؛ لأن الصناعة المحرمة لا قيمة لها شرعًا.
وقال في «الإنتصار» و «المفردات» : لو حكم الحاكم بغير المثل في المثلي وبغيره القيمة في المتقوم لم ينفذ حكمه ولم يلزم قبوله.
ويجب في تلف بعض مغصوب عند غاصب فتنقص قيمة باقيه كزوجي خف ومصراعي باب وبعض أجزاء كتاب ومصراعي دالوب ونحو ذلك تلف أحدهما رد باق منهما إلى مالكه وجوبًا وقيمة تالف وأرش نقص للباقي منهما فإذا كانت قيمتهما مجتمعين ستة ريالات فصارت قيمة الباقي منهما ريالين رده ورد معه أربعة ريالات قيمة التالف وريالان أرش النقص؛ لأنه نقص حصل بجنايته فلزمه ضمانه كما لو شق ثوبًا بنقصه الشق بخلاف نقص الشعر فإنه لم يذهب به من المغصوب عين ولا معنى وهاهنا فوت معنى وهو إمكان الانتفاع به وهو الموجب لنقص قيمته كما لو فوت بصره أو سمعه أو نحوه، وقيل: يدفع للغاصب الفردة من زوجي الخف الباقية إن شاء ويضمنه قيمة المجموع ومتلف إحدى فردتين يسلم البقية والمجموع منه يحضر، وقيل: يمسك الثانية الباقية ويضمنه الإثنتين، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولو غصب ثوبًا مثلاً قيمته عشرة فلبسه حتى نقص بلبسه خمسة ثم غلت الثياب حتى صارت قيمته عشرة رده وأرش نقصه ولو تلف الثوب وقيمته عشرة ثم غلت الثياب فصارت قيمته عشرين لم يلزمه إلا عشرة.
ويجب في قن يأبق من غاصب وكجمل يشرد منه ويعجز عن رده قيمة المغصوب الآبق أو الشارد لمالكه وللحيلولة ويملك القيمة مالك المغصوب بقبضها.
ويصح تصرفه فيها كسائر أملاكه من أجل الحيلولة لا على سبيل العوض؛
ولهذا لا يملك غاصب مغصوبًا بدفع القيمة؛ لأنه لا يصح أن يتملكه بالبيع؛ لعدم القدرة على تسليمه، وكما لو كان أم ولد فلا يملك كسبه ولا يعتق عليه لو كان قريبه.
قال في «التلخيص» : ولا يجبر المالك على أخذها، ولا يصح الإبراء منها ولا يتعلق الحق بالبدل، فلا ينتقل إلى الذمة وإنما يثبت جواز الأخذ دفعًا للضرر فتوقف على خيرته.
قال الشيخ عثمان: والظاهر أن محل هذا إذا كانت عين الغصب باقية حين دفع البدل وإلا فيجب البدل في الذمة ويصح الإبراء وغيره. اهـ.
فمتى قدر غاصب على آبق ونحوه رده وجوبًا بزيادته؛ لأنها تابعة له، وأخذ القيمة بعينها إن بقيت؛ لزوال الحيلولة التي وجب لأجلها ويرد زوائدها المتصلة من سمن ونحوه، ولا يرد المنفصلة بلا نزاع كالولد والثمرة.
قال المجد: وعندي أن هذا لا يتصور؛ لأن الشجر والحيوان لا يكون أبدًا في نفسه نفس القيمة الواجبة، بل بدل عنها فإذا رجع المغصوب رد القيمة لا بدلها كمن باع سلعة بدراهم ثم أخذ عنها ذهبًا أو سلعة ثم رد المبيع بعيب فإنه يرجع بدراهمه لا بدلها، انتهى.
ويفرق بينهما بأن الثمن ثبت في الذمة دراهم، فإذا عوض عنها شيئًا فهو عقد آخر، وأما هنا فالقيمة لم تثبت في الذمة كما تقدم عن صاحب «التلخيص» فما دفعه ابتداء فهو القيمة سواء من النقدين أو غيرهما أو يأخذ بدل القيمة إن تلفت مثلها إن كانت مثلية وإلا فقيمتها.
وليس لغاصب حبس المغصوب لترد قيمته، وكذا مشتر بعقد فاسد ليس له حبس المبيع على رد ثمنه، بل يدفعان إلى عدل يسلم إلى كل ماله.
ويجب في عصير تخمّر عند غاصب مثله لصيرورته في حكم التالف بذهاب ماليته ومتى انقلب عصير تخمر بيد غاصب خلاً بيده رده إلى مالكه؛ لأنه عين ماله ورد معه أرش نقصه إن نقصت قيمته خلاً عن قيمته عصيرًا لحصول النقص بيده كتلف جزء منه، وكما لو نقص بلا تخمر بأن صار ابتداء خلاً وكغصب شابة فتهرم واسترجع الغاصب إذا رد الخل وأرش نقص العصير البدل وهو مثل العصير الذي دفعه لمالكه للحيلولة كما لو أدى قيمة الآبق ثم قدر عليه ورده لربه وإن نقصت قيمة عصير أو زيت أغلاه غاصب بغليانه فعليه أرش نقصه.
من النظم فيما يتعلق بالغصب:
ومن بين أو يغرس بأرض شرًا فإن
…
تكن غصبت إن شاء ذو الملك يعضد
وعن أحمد يضمن النقص ثم خذ
…
من البائع النقصان للغارم اليد
ومن قال كل هذا الطعام فضامن
…
وإن لم يقل فالآكل أقصد بأجود
ولم يبرا أن يطعمه في النص ربه
…
وإن لم يقل هذا الطعام بأوطد
كذلك أن يقبض قبض أمانة
…
وقد قيل يبرا مثل مع علمه أمهد
وأن يغتصب أو يستعر يبر غاصب
…
لتضميننا في الموضعين لذي اليد
وأن تشتري عبدًا فتعتقه فاردد ادعا
…
رقه والغصب من غير شهد
ولا تقبل التصديق في حق منكر
…
ولا مع وفاق العبد فيها لعقد
وقيل بلى في الثان والعتق آيل
…
على مشتر إن تم عتق المعبد
وفي تالف المغصوب ذي المثل مثله
…
وقيمة مثل يم أعوازه اردد
وعنه لذي غصب وعنه لذي التوي
…
وقيل لدى قبض المثيل ليعدد
وخرج أعلى القدر من حين غصبه
…
إلى حين أعواز المثيل المقيد
وقيمة باق إن تعذر ردت
…
إن اخترتها خذ يوم قبضكها قد
ونيل غصيب عزلاً المثل موجب
…
لردك إن عوضت قيمته اردد
وفيما سوى المثلي من بعد أرضه
…
له قيمة يوم الهلاك بأوطد
وقد قيل يوم الغصب وجب وقيل بل
…
من الغصب حتى الهلك جد بالمزيد
وما فيه فضل بين وزن وقيمة
…
مصوغًا بغير الجنس قوم بأوطد
وقال أبو يعلى يجوز بجنسه
…
وقابل بما يزداد في صنعة اليد
(10)
إجارة المغصوب والمقبوض بعقد فاسد وحكم تصرف
الغاصب والاختلاف في قيمة المغصوب وحكم الرهون والأمانات
والغصوب المجهول أربابها وما حول ذلك من بحوث
س 10: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: المغصوب والمقبوض بعقد فاسد مدة مقامه باليد، إجارة المغصوب المعجوز عن رده المقبول قوله في وقت التلف الذي لا تلزم أجرته، غصب قن ذي صنائع، حكم تصرف الغاصب في المغصوب، الاتجار بعين المغصوب، الاختلاف في قيمة المغصوب، من بيده غصوب أو رهون أو أمانات لا يعرف ملاكها، من عدم المباح وأراد أن يأكل، من نوى جحد ما بيده من الغصوب أو الرهون أو الأمانات فالثواب لمن، رد ما غصبه على الورثة، إذا ردّ ورثة غاصب بعد موته وما يتعلق بذلك؟ واذكر الدليل والتعليل والقيود والمحترزات والخلاف والترجيح.
ج: ما صحت إجارته من مغصوب ومقبوض بعقد فاسد كرقيق ودواب وسفن وعقار فعلى غاصب وقابض بعقد فاسد أجرة مثله مدة مقامه بيده.
وقال ابن نصر الله في «حواشي المحرر» : وينبغي تقييده بما إذا كان والقابض عالمًا بفساد العقد، أما إن كان جاهلاً فينبغي أن يكون حكمه في الضمان حكم القابض من الغاصب إذا كان جاهلاً في أنه يضمن ذلك فيما التزم ضمانه لا غيره.
فتضمن منافعه بالفوات والتفويت سواء استوفى المنافع أو تركها ألا تذهب؛ لأن كل ما يضمنه بالإتلاف بالعقد الفاسد جاز أن يضمنه
بمجرد التلف كالأعيان، ولأن المنفعة مال متقوم فوجب ضمانه كالعين ومن لم يوجب الأجر على الغاصب احتج بحديث «الخراج بالضمان» .
ولا ضمان على الغاصب؛ لأنه استوفى منفعة بغير عقد ولا شبهة ملك أشبه ما لو زنى بامرأة مطاوعة والجواب بأن كل ما ضمنه بالإتلاف بالعقد الفاسد جاز أن يضمنه بمجرد الإتلاف كالأعيان، ولأنه أتلف متقومًا فوجب ضمانه كالأعيان أو يقال مال متقوم مغصوب فوجب كالعين.
وأما الخبر فوارد في البيع ولا يدخل فيه الغاصب؛ لأنه لا يجوز له الانتفاع بالمغصوب إجماعًا ولا يشبه الزنا، فإنها رضيت بإتلاف منافعها بغير عوض، ولا عقد يقتضي العوض فكأنه بمنزلة من أعاره داره ولو أكرها عليه لزمه مهرها ولو غصب جارية ولم يطأها ومضى عليها زمن يمكن الوطء فيه لم يضمن مهرها؛ لأن منافع البضع لا تتلف بلا استيفاء بخلاف غيرها، ولأنها لا تقدر بزمن فيتلفها مضي الزمان بخلاف المنفعة ومع عجز غاصب عن رد مغصوب تصح إجارته كعبد أبق وجمل شرد فعليه أجرته إلى وقف أداء قيمته.
فإن قدر الغاصب على المغصوب بعد عجزه عنه لزمه رده لمالك، وكذا مقبوض بعقد فاسد ولا أجرة له على غاصب وقابض من حين دفع بدله إلى ربه؛ لأن مالكه بأخذ قيمته استحق الإنتفاع ببدل الذي هو قيمته فلا يستحق الإنتفاع به وببدله ومنافع المقبوض بعقد فاسد يجب الضمان في صحيحه كبيع وإجارة كمنافع المغصوب يضمنها قابضها بالفوات والتفويت سواء استوفى المنافع أو تركها تذهب بخلاف عقود الأمانات كالوكالة والوديعة والمضاربة وعقود التبرعات كالهبة والوصية والصدقة فلا ضمان في صحيحها؛ ولهذا يرجع من غرم بسبب ذلك شيئًا بما غرمه.
ومع تلف مغصوب أو مقبوض بعقد فاسد فالواجب على قابضه
أجرة مثله إلى تلفه؛ لأنه بعده لا منفعة له تضمن كما لو أتلف بلا غصب أو قبض ويقبل قول غاصب وقابض في تلفه فيطالبه مالكه ببدله.
ويقبل قول الغاصب والقابض بعقد فاسد في وقت التلف لتسقط عنه الأجرة من ذلك الوقت بيمينه؛ لأنه منكر ويقبل قوله في تلف المغصوب ليطالب متلفه ببدله إن كان مثليًا وبقيمه إن كان متقومًا.
وألا تصح إجارة المغصوب بأن لم تجر عادة بإجارته غالبًا فلا تلزم غاصبه ولا قابضه أجرة كغنم وشجر وطير ولو قصد صوته وكشمع ومطعوم ومشروب مما لا منافع له يستحق بها عوض غالبًا فلا يرد صحة إجارة غنم لدياس زرع وشجر لنشر ونحوه لندرته.
ويلزم غاصبًا وقابضًا بعقد فاسد في قن يحسن الصنائع أجرة أعلا الصنائع مدة إقامته عنده؛ لأنه لا يمكن الانتفاع في صنعتين معًا في آن واحد؛ ولأن غاية ما يحصل لسيده برضى النفع أن يستعمله في أعلى ما يحسنه من الصنائع أو كان غير محسن صنعة لم يلزم قابضه أجرة صنعة مقدرة ولو حبسه مدة يمكنه فيها تعلم صنعة؛ لأنه غير محقق.
ولا قصاص في مال كشق ثوب وكسر إناء، بل الضمان بالبدل والأرش على ما تقدم تفصيله، واختار الشيخ تقي الدين وجمع أنه يخير في ذلك، قال في «شرح الغاية»: لو غصب جماعة مشاعًا بين جماعة كعقار فرد أحد الغاصبين سهم واحد من المالكين إليه لم يجز له الإنفراد بالمردود، وكذا لو صالحه عنه بمال فليس له الإنفراد به نقله حرب.
وقال في «الفروع» : ويتوجه أنه كبيع المشاع انتهى، فيصح له المال وهو ظاهر، ولعل رواية حرب فيما إذا صالحوه عن سهم معين، وكذا لو كان الغاصب لحصصهم واحد.
ويصح غصب المشاع فلو كانت أرض ودور لإثنين في يدهما فنزل الغاصب في الأرض أو الدار فأخرج أحدهما وبقي الآخر معه على ما كان مع المخرج، فإنه لا يكون غاصبًا إلا نصيب المخرج حتى لو استغلا الملك أو انتفعا به لم يلزم الباقي منهما لشريكه المخرج شيء، وكذا لو كان عبدًا لإثنين كف الغاصب يد أحدهما عنه ونزل في التسلط عليه موضعه مع إقرار الآخر على ما كان عليه حتى لو باعاه بطل بيع الغاصب للنصف وصح بيع الآخر كنصفه قاله المجد في «شرحه» اهـ.
وإن غصب أثمانًا لا مؤنة لحملها فطالبه المالك في غير بلد الغصب وجب على الغاصب ردها إلى مالكها لعدم الضرر وإن كان المغصوب من المتقومات كالثياب والعبيد وطالبه به مالكه في غير بلد الغصب لزم الغاصب دفع قيمته في بلد الغصب للحيلولة.
وإن كان المغصوب من المثليات ولحمله مؤنة وقيمته في بلد الغصب وبلد الطلب واحدة أو هي أقل في بلد الطلب فللمالك مطالبته بمثله للحيلولة مع أنه لا ضرر عليه.
وإن كانت قيمته ببلد الطلب أكثر منها ببلد الغصب فليس للمالك المثل لما فيه من ضرر الغاصب وله المطالبة بقيمته ببلد الغصب؛ لأنه لا ضرر فيها على الغاصب.
وفي جميع ذلك متى قدر الغاصب على المغصوب أو قدر على المثل في بلد الغصب رده للمالك؛ لأنه الواجب وأخذ الغاصب القيمة؛ لأنها إنما وجبت للحيلولة وقد زالت.
ويحرم تصرف غاصب وغيره ممن علم الحال في مغصوب مما ليس له حكم من صحة وفساد فلا يتصف بأحدهما كإتلاف المغصوب وكاستعماله
كأكله ولبسه وكركوبه وحمل عليه واستخدامه وذبحه ولا يحرم المذبوح بذلك وكسكنى العقار؛ لحديث: «أن أموالكم وأعراضكم عليكم حرام» .
ويحرم تصرف غاصب وغيره في مغصوب بماله حكم بأن يوصف تارة بالصحة وتارة بالفساد كعبادة بأن يتوضأ بالماء المغصوب أو يتيمم بالتراب المغصوب أو في البقعة المغصوبة أو يخرج الزكاة من المال المغصوب أو يحج من المال المغصوب ونحو ذلك بخلاف نحو صوم وذكروا اعتقاد فلا مدخل له فيه، وكما لو باع المغصوب أو أجرة أو أعاره أو نكح الغاصب أو أنكح الأمة المغصوبة أو أعتق العبد المغصوب أو وقف الشقص.
ولا تصح عبادة الغاصب على الوجه المذكور ولا يصح عقده فيكونان باطلين؛ لحديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود.
وإن أتجر غاصب بعين مغصوب بأن كان دنانير أو دراهم فاتجر بها أو أتجر بعين ثمنه بأن غصب عبدًا فباعه واتجر بثمنه وظهر ربح وهو باق فالربح.
وما اشتراه الغاصب من السلع لمالك المغصوب؛ لخبر عروة بن الجعد، وهذا حيث تعذر رد المغصوب إلى مالكه ورد الثمن إلى المشتري ونقل حرب في خبر عروة إنما جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جوزه له.
وروى الأثرم عن رباح بن عبيد أن رجلاً دفع إلى رجل دراهم ليبلغها أهله فاشترى بها ناقة فباعها فسُئل ابن عمر عن ذلك قال: إدفع إليه دراهمه بنتاجها؛ لأنه نماء ملكه فكان تابعًا لأصله كالسمن.
وحيث تعين جعل الربح للغاصب أو المغصوب منه فجعله للمالك أولى؛ لأنه في مقابلة نفع ماله الذي فاته بمنعه، ولو كان الشراء بثمن في ذمته بنية نقده من المغصوب أو من ثمنه ثم نقده فيكون الربح لمالك المغصوب،
وهذا من «المفردات» قال ناظمها:
وبالنقود غاصب أن تجرا
…
والشيخ بالعروض أيضًا نصرًا
فالربح بالمالك قد يختص
…
وفيه وفي المودع جاء النص
بالعين أو في ذمة كان الشرا
…
مع نقدها في أشهر قد حررا
حتى بذا جزمًا كثير نقلوا
…
وذا على الأصول فرع مشكل
وقال مالك والليث وأبو يوسف: الربح للغاصب ونحوه.
عن أبي حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن؛ لكن قالوا: يتصدق به؛ لأنه غير طيب، واستدلوا بحديث:«الخراج بالضمان» والذي تطمئن إليه النفس أنه كما قال أهل القول الأول للمالك؛ لأنه نماء ملكه ونتيجته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وحيث تعذر رد مغصوب إلى المالك ورد ثمن لمشتر كان جهل دفع له أو تلف هو، أما إذا كانت عين الغصب باقية وأمكن ردها فيجب ردها وتوابعها ويأخذ المعتاض ما دفع إلى الغاصب.
والربح للمالك ولو قلنا ببطلان التصرف فيما أدركه المالك باقيًا، وأما ما لم يدركه فوجه تصحيحه أن الغاصب تطول مدته وتكثر تصرفاته، ففي القضاء ببطلانها ضرر كبير وربما عاد إلى الضرر على المالك إذا الحكم بصحتها يقتضي كون الربح للمالك والعوض بنمائه وزيادته والحكم ببطلانها يمنع ذلك.
وإن دفع المال المغصوب إلى من يضارب به فالحكم بالربح على ما ذكر وليس على المالك من أجر العامل شيء؛ لأنه لم يأذن له بالعمل في ماله وإن كان المضارب عالمًا بالغصب فلا أجر له؛ لأنه متعمد بالعمل ولم يغره أحد، وإن لم يعلم فعلى الغاصب أجر مثله؛ لأنه استعمله عملاً بعوض لم يحصل له فلزمه أجرة كالعقد الفاسد، وكذا الحكم لو أتجر في الوديعة فالربح للمالك.
وإن اختلف الغاصب والمالك في قيمة مغصوب تلف بأن قال الغاصب: قيمته مائة، قال المالك: بل قيمته مائة وعشرون، فالقول قول الغاصب، أو قال الغاصب: قيمته ثمانمائة، وقال المالك: قيمته ألف فقول الغاصب؛ لأنه غارم، والأصل براءة ذمته مما زاد على المائة.
وإن اختلفا في قدر المغصوب أو في حدوث عيبه أو قال المغصوب منه كان كاتبًا فقيمته ألف، وقال الغاصب: لم يكن كاتبًا فقيمته مائة، فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل عدم الكتابة وبراءة الذمة مما زاد على المائة، وإن قال الغاصب: كان سارقًا فقيمته ثمانمائة، وقال المغصوب منه: لم يكن سارقًا فقيمته ألف، فالقول قول المالك؛ لأن الأصل عدم السرقة.
وإن اختلفا في ملك ثوب على مغصوب أو اختلفا في ملك سرج على فرس، فالقول قول غاصب بيمينه حيث لا بينة للمالك؛ لأنه منكر، والأصل براءته من الزائد وعدم الصناعة فيه وعدم ملك الثوب والسرج عليه.
وإن اختلفا في رد المغصوب إلى مالكه أو في وجود عيب في المغصوب التالف بأن قال الغاصب بعد تلف المغصوب كان فيه حين غصبته سلعة أو أصبع زائدة وأنكره مالك وكذلك دعواه أنه كان أعور أو أعرج أو يبول في الفراش أو فيه طرش وهو أهون الصم أو أعمى فقول مالك بيمينه على نفي ذلك؛ لأن الأصل السلامة.
وإن اختلفا بعد زيادة قيمة في وقت الزيادة، فقال المالك: زادت قبل تلفه، وقال الغاصب: بعد تلفه، فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته وإن شاهدت البينة العبد معيبًا عند الغاصب، وقال المالك: تعيب عندك، وقال الغاصب: بل كان العيب فيه قبل غصبه فقول الغاصب بيمينه؛ لأنه غارم والظاهر أن صفة العبد لم تتغير.
وقيل: إن القول قول المالك كما لو تبايعا واختلفا في عيب هل كان عند البائع أو حدث عند المشتري فإن فيه رواية أن القول قول البائع كذلك هنا، إذ الأصل السلامة وتأخر الحدوث عن وقت الغصب، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
وإن اتفقا على أنه كان به عيب وادعى كل منهما حدوثه عند الآخر فقول غاصب بيمينه.
ومن بيده غصوب لا يعرف أربابها أو كان بيده رهون لا يعرف أربابها أو بيده أمانات من ودائع وغيرها لا يعرف أربابها أو لحرفهم وفقدوا وليس لهم ورثة فسلمها إلى الحاكم ويلزمه قبولها برئ بتسليمها للحاكم من عهدتها؛ لأن قبض الحاكم لها قائم مقام قبض أربابها لقيام مقامهم.
وللذي بيده غصوب أو نحوها إن لم يدفعها للحاكم الصدقة بها عن أربابها بلا إذن حاكم؛ لأن المال يُراد لمصلحة المعاش أو المعاد ومصلحة المعاد أولى المصلحتين وقد تعينت هاهنا لتعذر الأخرى، ونقل المروذي: يعجبني الصدقة بها.
وقال الشيخ تقي الدين: إذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواري أو ودائع أو رهون قد يئس من معرفة أصحابها، فالصواب أنه يتصدق بها عنهم، فإن حبس المال دائمًا لمن لا يرجى لا فائدة فيه بل هو تعريض لهلاك
المال واستيلاء الظلمة عليه، وكان عبد الله بن مسعود قد اشترى جارية فدخل بينه ليأتي بالثمن فخرج فلم يجد البائع فجعل يطوف على المساكين ويتصدق عليهم بالثمن ويقول اللهم عن رب الجارية.
وكذلك أفتى بعض التابعين من غل من الغنيمة وتاب بعد تفرقهم أن يتصدق بذلك عنهم ورضي بهذه الفتيا أصحابه والتابعون الذين بلغتهم كمعاوية وغيره من أهل الشام.
والحاصل أن المجهول في الشريعة كالمعدوم فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
فالله إذا أمرنا بأمر كان ذلك مشروطًا بالقدرة عليه والتمكن من العمل به فما عجزنا عن العمل به سقط عنا، انتهى.
وقال في الغنيمة: يجب عليه ذلك، أي التصدق بها قال في «الغاية وشرحها»: ويتجه حمله أي لزوم التصدق مع عدم حاكم أهل للائتمان كحكامنا الآن فإن وجد حاكم أهل وهو أندر من الكبريت الأحمر فلا يلزم التصدق بها، بل يكون مخيرًا بين دفعها إليه ليبرأ من عهدتها وبين الصدقة بها بشرط ضمانها لأربابها إذا عرفهم؛ لأن الصدقة بدون الضمان إضاعة لمال المالك لا على وجه بدل وهو غير جائز.
وله شراء عرض بنقد ويتصدق به ولا يجوز في ذلك محاباة قريب أو غيره وكذا حكم مسروق ونحوه كلقطه حرم التقاطها ولم يعرفها فتصدق بها عن ربها بشرط الضمان أو يدفعها للحاكم الأهل كما تقدم وإذا أنفقت كانت لمن يأخذها بالحق مباحة كما أنها على من يأكلها بالباطل محرمة وبكل حال ترك الأخذ أجود من القبول وإذا صح الأخذ كان
أفضل أي الأخذ والصرف إلى المحتاجين من الناس إلا إذا كان من المفاسد فهنا الترك أولى.
ويسقط عن الغاصب والسارق ونحوه إثم الغصب أو السرقة ونحوها؛ لأنه معذور بعجزه عن الرد لجهله بالمالك وثوابها لأربابها، وفي الصدقة بها عنهم جمع بين مصلحة الغاصب بتبرئة ذمته ومصلحة المالك بتحصيل الثواب له.
ونقل ابن هانئ يتصدق أو يشتري به كراعًا أو سلاحًا يوقف هو مصلحة المسلمين وسأله جعفر عمن بيده أرض أو كروم ليس أصله طيبًا ولا يعرف ربه قال يوقفه على المساكين، وسأله المروذي عمن مات وكان يدخل في أمور تكره فيريد بعض ولد التنزه، فقال: إذا وقفها على المساكين فأي شيء يبقى عليه واستحسن أن يوقفها على المساكين ويتوجه على أفضل البر.
قال الشيخ تقي الدين: تصرف في المصالح، وقاله في وديعة وغيرها، وقال قاله العلماء وإنه مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك، وهذا مراد أصحابنا؛ لأن الكل صدقة.
وقال رحمه الله: من تصرف بولاية شرعية لم يضمن، وقال: ليس لصاحبه إذا عرف رد المعارضة لثبوت الولاية شرعًا عليها للحاجة كمن مات ولا ولي له ولا حاكم، وقال: فيمن اشترى مال مسلم من التتار لما دخلوا الشام، إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح وأعطى مشتريه ما اشتراه به؛ لأنه لم يصر لها إلا بنفقته وإن لم يقصد ذلك كما رجحه فيمن اتجر في مال غيره وربح، انتهى.
قال ابن رجب: وعليه أي وعلى هذا الأصل وهو قوله ومن بيده نحو غصوب أو أمانات
…
إلخ بتخرج جواز أخذ الفقراء الصدقة من يد من ماله
حرام كقطاع الطريق وأفتى بجوازه.
قال الشيخ عثمان إنما يظهر هذا التخريج أنه لو قصد المتصدق جعل الثواب لرب المتصدق به كما في مسألتنا فيجوز قبول الصدقة إذًا وإلا فيد المتصدق عليه من جملة الأيدي العشر المرتبة على يد الغاصب كما تقدم.
وفي «الغاية وشرحها» : ويتجه بجواز الأخذ من يد من ماله حرام ولو بغير صدقة كالأخذ على وجه الشراء منه والهبة حيث جهل حاله؛ لأن الأصل فيما بيد المسلم أنه ملكه ثم إن كانت الدراهم في نفس الأمر قد غصبها هو ولم يعلم القابض كان جاهلاً بذلك، والمجهول كالمعدوم قاله الشيخ تقي الدين، انتهى.
وأن مثل المذكور من المال الحرام كل ما جهل أربابه وصار مرجعه لبيت المال كالمكوس، والمكس: الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار، ومنه حديث أنس وابن سيرين، قال لأنس:«لا تستعملن على المكس» أي على عشور الناس، وفي الحديث:«لا يدخل الجنة صاحب مكس» قال جابر بن حني التغلبي:
أفي كل أسواق العراق إتاوة
وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
وكالمغصوب والخيانات والسرقة المجهول أربابها فيجوز للفقراء أخذها صدقة، ويجوز أخذها لهم ولغيرهم هبة وشراء ووفاء عن أجرة سيما إن أعطاها الغاصب لمن لا يعلم حالها كان قبضه لها بحق؛ لأن الله لم يكلفه ما لم يعلم، قاله الشيخ تقي الدين.
وليس لمن بيده الغصوب والرهون والأمانات المجهول أربابها التوسع بشيء منها وإن كان فقيرًا من أهل الصدقة، وصرح القاضي جواز الأكل
منها إذا كان فقيرًا، وأفتى الشيخ تقي الدين به في الغاصب إذا تاب، فإن عرف أربابها وكان قد تصدق بها الغاصب ونحوه خير بين الأجر والأخذ من التصدق فإن اختاروا الأجر وأجازوا الصدقة فالثواب لهم لترتبه على ملكهم وإن لم يجيزوها وأغرموا ثمنها لمن تصدق بها فالثواب لغارم عما تصدق به وعلم منه أنه ليس للمالك إذا عرف رد ما فعله من كانت الغصوب ونحوها بيده مما تقدم لثبوت الولاية له شرعًا.
ويتصدق مديون بديون عليه جهل أربابها ببلده التي استدان من أهلها، قال ابن رجب: الديون المستحقة كالأعيان يتصدق بها عن مستحقيها ونصه في رواية صالح من كانت عنده ودائع فوكل في دفعها ثم مات وجهل ربها وأيس من الإطلاع عليه يتصدق بها الوكيل وورثة الموكل في البلد الذي كان صاحبها فيه حيث يرون أنه كان وهم ضامنون إذا ظهر له وارث.
وقد نص على مثله في الغصب، وفي مال الشبهة واحتج بأن عمر جعل الدية على أهل القرية إذا جهل القاتل ووجه الحجة منه أن الغرم إنما اختص بأهل المكان الذي فيه الجاني؛ لأن الظاهر أن الجاني أو عاقلته المختصين بالغرم لا يخلو المكان عنهم فكذلك الصدقة بالمال المجهول مالكه ينبغي أن يختص بأهل المكان؛ لأنه أقرب إلى وصول المال إليه إن كان موجودًا أو إلى ورثته، ويراعى في ذلك الفقراء؛ لأنها صدقة ونص في رواية أبي طالب فيمن عليه دين لرجل ومات وعليه ديون للناس يقضي عنه دينه بالدين الذي عليه أنه يبرأ باطنًا.
وإذا أراد من بيده عين جهل مالكها أن يتملكها ويتصدق بقيمتها عن مالكها فنقل صالح عن أبيه الجواز فيمن اشترى آجرًا وعلم أن البائع باعه
ما لا يملك ولا يعرف له أرباب أرجو أن أخرج قيمة الآجر فتصدق به أن ينجو من إثمه.
ومن عدم المباح لم يأكل من الحرام ماله غنية عنه كفاكهة وحلو ونحو ذلك ويأكل عادته إذ لا مبيح للزيادة عما تندفع به حاجته.
قال في «الاختبارات الفقهية» : لو باع الرجل مبايعات يعتقد حلها ثم صار المال إلى وارث أو متهب أو مشتر يعتقد تلك العقود محرمة فالمثال الأصلي لهذا اقتداء المأموم بصلاة إمام أهل بما هو فرضه عند المأموم دونه، والصحيح الصحة نقله في «حاشية الإقناع» .
ومن نوى جحد ما بيده من الغصوب والأمانات وما في معناها أو نوى جحد دين عليه في حياة ربه فثوابه لربه؛ لأن نية جحده قائمة مقام إتلافه إذًا فكأنه لم ينتقل لورثة ربه بموته لورثته نقله ابن الحكم؛ لأنه إنما عدم عليهم.
وعلم من ذلك أنه يثاب على ما فات عليه قهرًا مع أنه لم ينوه ولو ندم غاصب على ما فعله وقد مات المغصوب منه ورد ما غصبه على الورثة برئ من إثم المغصوب؛ لوصوله للمستحق ولا يبرأ من إثم الغصب، بل يبقى عليه إثم ما أدخل على قلب مالك المغصوب من ألم الغب ومضرة المنع منه والانتفاع به مدة حياته فيفتقر لتوبة إذ لا يزول إثم ذلك إلا بها أي التوبة هذا معنى كلام ابن عقيل.
قال بعضهم: فيه توقف الأولى ما قاله أبو يعلى الصغير من أن بالقضاء والضمان بلا توبة يزول حق الآدمي ويبقى مجرد حق الله تعالى؛ لأنه قد حصل معه ندم ورد مظلمة وهو توبة، وقد ذكر المجد فيمن أدان على أن يؤديه فعجز لا يطالب به في الدنيا ولا في الآخرة، وقاله أبو يعلى الصغير بما يقتضي أنه
محل وفاق، انتهى.
ولو رد المال المغصوب ونحوه ورثة غاصب بعد موته وموت مالكه لورثة المغصوب منه فللمغصوب منه ونحوه مطالبة الغاصب ونحوه في الآخرة؛ لأن المظالم لو انتقلت لما استقر للمظلوم حق في الآخرة، ولأنها ظلامة عليه قد مات ولم يتحلل منها برد ولا تبرئة فلا تسقط عنه برد غيره لها إلى غير المظلوم كما لو جهل ورثة ربها فتصدق بها عنهم أو ورث الغاصب المغصوب منه فتصدقوا بالغصب على أجنبي.
ويجب على غاصب رد مغصوب إن لم يكن عذر يمنعه من الرد كخوف على نفسه أو ما بيده من مغصوب وغيره إن ظهر ذلك يؤخذ منه أو يعاقب فورًا من غير تأخير؛ لأنه يأثم باستدامة المغصوب تحت يده لحيلولته بينه وبين مالكه.
فلا تصح توبة الغاصب بدون الرد الذي هو أحد شروط التوبة الثلاثة التي هي: (1) الندم على ما فات. (2) والعزم على أن لا يعود إلى المعصية.
(3)
والإقلاع بالحال. وإن كان الحق لآدمي فيشترط: (4) الرد للحق إذ توبته مع بقائه تحت يده وجودها كعدمها.
ولو ألقى نحو ريح أو طائر ثوب غيره بداره لزم حفظه؛ لأنه أمانة بيده إلى أن يرده إلى ربه، فإن عرف رب الدار صاحب الثوب أعلمه به فورًا من غير تأخير وإن لم يعلمه فورًا وتلف الثوب ضمنه رب الدار إن مضى زمن يتمكن فيه من إعلامه؛ لأنه لم يستحفظه والذي تميل إليه نفسي أنه يستحب لمن أطارت الريح إلى داره ثوبًا أن يحفظه وأنه لا يضمنه إذا أخره ولا حصل منه تعد ولم يغصبه ولم يستعره فلماذا يوجب عليه الضمان؟ والله سبحانه أعلم.
فإن لم يعرف رب الدار صاحب الثوب فهو لقطة تجري فيه أحكامها
على ما يأتي في أحكام اللقطة.
وكذا حكم طائر ألقته ريح أو طفل أو مجنون بداره وهو غير ممتنع كمقصوص الجناح لا يقدر على الفرار من قاصده.
وإن دخل طير مملوك برجه فأغلق عليه الباب ناويًا إمساكه لنفسه ضمنه؛ لتعديه وإن لم يغلق عليه أو أغلقه غير ناو إمساكه لنفسه بأن لم يعلم به أو نوى إمساكه لربه، فلا ضمان عليه؛ لعدم تعديه وهو في الأخير محسن؛ لكن عليه إعلامه فورًا.
من النظم فيما يتعلق
وما كان محظور الصناعة مهدر
…
وما صيغ من نقدين قوم بمفرد
وأعط ذوي الأموال عرضًا بقدره
…
وكن ذا احتراز عن ربا عند معقد
كان إن تشا خذ منه أن يجن غيره
…
ورد عليه الأرش من مال معتد
وإن تشأ خذ مما جنى أرش فعله
…
ومن غاصب خذ باقي النقص ترشد
وخذ قيمة من غاصب غير قادر
…
على رد مغصوب فإن رد فاردد
وإن يغتصب شيء فاحتيج واحد
…
فنقص قدر السالم المتخلد
فإن عليه رد باق لقيمة الفقيد
…
وأرش النقص في المتجود
ومن يغتصب ثوبًا فيبليه نقصه
…
خذ الأرش واطلب أجرة اللبس تسعد
ولو بسوى استعماله كان نقصه
…
فخذها إلى أن رد أو هلكه قد
وأجرة ما لم تستطع رده إلى
…
وفا الغرم بل حتى الهلاك بمبعد
وحكمي فعل الغاصب أحكم بلغوه
…
كفعل عبادات وعقد بأوكد
وعنه ليمض الثالث أن يرضى مالك
…
ومن قال بالتفصيل لما أبعد
وأن يشتري بالمال فالربح كله
…
لمالكه والإثم حظ المعربد
كذلك أن يتبع بنية نقده
…
فينقده بعد العقد في المتأكد
وفي قدر مغصوب ووصف وقيمة
…
وهلك مقال الغاصب أقبله وأعضد
وفي رده والعيب خذ قول ربه
…
إذا اختلفا في ذاك مع فقد شهد
فإن قال مولى العبد قد كان كاتبًا
…
فقال بل أميًا إلى قوله أعدد
وغاصبه إن قال قد كان سارقًا
…
فكذبه المولى لمولاه قلد
وأن يختلف في كسوة العبد مالك
…
وغاصبه للغاصب القول مهد
وأن تجهل المغصوب تصدقن
…
به عنه مضمونًا كلقطة منشد
ورد إلى الحكام يبرأ مطلقًا
…
وإن يتصدق اسقطن إثمه قد
ومبهم حل النقد مع حظر ثلثه
…
بردك قدر الحظر حل المنكد
وإن غير المحظور ثلثًا فكله اجتنبه
…
وقيل الحكم فيه كما ابتدي
(11)
من أتلف شيئًا أو أزال مانعًا فتلف أو تلف ما أزيل عنه شيئًا أو نفر صيدًا أو غرى ظالمًا أو ربط دابة بطريق أو فتح بابًا أو نحوه إلخ
س 11: تكلم بوضوح عما يلي: من أتلف مالاً محترمًا لغيره، من أكره على إتلاف مال نفسه، أو أتلف غير محترم، من دفع ماله لغير رشيد، من أتلف مال ولده، من فتح قفصًا عن طائر أو حل قيدًا أو وكاء أو دفع لأسير أو قن مبردًا فبرد القيد وفات أو حل فرسًا أو سفينة أو بهيمة ففات ذلك أو أتلف ما أفلت شيئًا أو بقي بعد حله فألقته ريح أو أذابته شمس، أو دفع مفتاحًا للص، أو حبس مالك الدواب فهلكت الدواب من حبس عن طعامه فاحترق إذا بقي الطائر الذي فتح قفصه واقفًا ونفره آخر إذا أزال إنسان يد آخر عن عبد أو حيوان فهرب أو غصب دابة فتبعها ولدها فأكله ذئب أو نحوه أو فتح بابًا فسرق البيت أو ضرب يد إنسان فسقط ما في يده أو أغرى ظالمًا أو ربط دابة بطريق، واذكر الأدلة والتعاليل والقيود والمحترزات والتفاصيل والأمثلة والخلاف والترجيح.
ج: من أتلف من مكلف أو غيره ولو كان الإتلاف سهوًا أو خطأ مالاً محترمًا لغير المتلف ولم يأذن ربه في إتلافه ولم يدفع إلى المتلف ومثله يضمنه لإتلافه له؛ لأنه فوته عليه فوجب عليه ضمانه كما لو غصبه فتلف عنده.
واحترز بالمال عن السرجين النجس والكلب ونحوهما وبالمحترم عن الصليب وآلات اللهو كالمزمار والتلفزيون والسينما والراديو والبكم والصور والدخان والطنبور ونحوها وبقول لغيره مال نفسه وبقول ومثله يضمنه ما يتلفه أهل العدل من مال أهل البغي وقت حرب وعكسه وعما يتلفه المسلم من مال الحربي والحربي من مال المسلم وعما يتلفه الصغير.
وبقوله بلا إذن ربه عما أذن مالكه المطلق التصرف في إتلافه، فإن المتلف حينئذ يكون وكيلاً عن ملكه في الإتلاف وبقوله ومثله يضمنه عما يتلفه أهل العدل من مال أهل البغي وعكسه حال الحرب وعما يتلفه المسلم من مال الحربي، والحربي من مال المسلم وعما يتلفه الصغير والمجنون من مال من دفعه إليهما مالكه وعما يتلفه الآدمي من مال ولده وما يتلفه دفعًا عن نفسه كما لو صال عليه رقيق أو بهيمة لمعصوم.
وإن أكره إنسان على مال غيره المضمون فمكرهه يضمنه ولو أكره على إتلاف مال نفسه ضمنه المكره كإكراهه على دفع الوديعة إلى غير ربها؛ لأن الإتلاف من المكره، وأما المكره فهو كالآلة بخلاف قتل لم يختره فيضمنه لمباشرته ما فيه إبقاء نفسه وبخلاف مضطر فإنه يأتي ما اضطر إليه باختياره ويضمن؛ لأن المضطر لم يلجئه إلى الإتلاف من يحال الضمان عليه.
ولا يضمن ما أتلفه إن كان غير مال ككلب ولو لماشية أو صيد أو أتلف مال نفسه باختياره أو أتلف مالاً بإذن مالكه الرشيد فلا يضمنه؛ لأنه وكيله في الإتلاف أو أتلف غير محترم كصائل عليه دفعًا عن نفسه ولو آدميًا ويأتي إن شاء الله تعالى.
وكذا لا يضمن ما أتلف قن مرتد قبل توبته حيث قبلت أو حال قطعه الطريق مال حربي أو آلة لهو كالصليب والمزمار والبكم ونحو ذلك؛ لأنها غير محترمة ولا يضمنه مثله كمتلف حال قتال بغاة؛ لأن قتالهم مأذون فيه شرعًا أو دفع ماله لغير رشيد فلا يضمن في هذه الصور كلها ولا يضمن ما أتلفه أب من مال ابن بمعنى أنه ليس له مطالبة أبيه حال حياته فأما بعد الموت فإنه يأخذه من تركته.
ومن فتح قفصًا عن طائر مملوك محترم ففات أو أتلف بعد فتح القفص شيئًا ضمنه أو فتح إصطبل حيوان وهو موقف الحيوان وهو أعجمي تكلمت به العرب وهمزته أصلية.
أو حل قيد قن أو أسير أو دفع للقن أو الأسير مبردًا فبرد القيد وانطلق وفات أو أتلف بعد ما فات شيئًا ضمنه أو حل فرسًا مربوطًا أو سفينة أو بهيمة غير ضارية ليلاً لا نهارًا إذ على أرباب الأموال حفظها من الدواب بالنهار ففات بأن ذهب الطائر من القفص أو دخل إليه حيوان فقتله أو هرب القن أو الأسير أو شردت الفرس أو الجمل أو نحوهما وغرقت السفينة لعصوف ريح أو غير ذلك أو عقر أو جرح شيئًا من ذلك بسبب إطلاقه بأن كان الطائر جارحًا فقلع عين حيوان أو حل سلسلة فهد أو أسد فقتل أو عفر ضمن الفاتح والحال للقيد ودافع المبرد لتسببه في الضياع أو التلف أو الجرح أو كسر إناء أو قتل إنسانًا ونحوه أو أتلف مالاً أو أتلفت الدابة التي حلها زرعًا أو غيره أو انحدرت السفينة التي حلها أو السيارة التي أدار
المفتاح المحرك لها للمشي، ويقال له:(سوتش Switch) وكذلك الدراجة النارية على شيء فأتلفته ونحوه ضمنه؛ لأن المباشرة إنما حصلت ممن لا يمكن إحالة الحكم عليه كما لو نفر طائرًا أو أهاج دابة وأشلى كلبًا على صيد فقتله أو أطلق نارًا في متاع إنسان فإن للنار فعلاً لكن لما لم يمكن إحالة الحكم عليها كان وجوده كعدمه، ولأن الطائر وسائر الصيد من طبعه النفور وإنما يبقى على طبعه فإذا أزيل المانع ذهب لطبعه فكان الضمان على من أزال المانع كمن قطع علاقة قنديل أو لمبة أو أطلق زجاجة أو نحوها فانكسرت وهكذا حل قيد العبد أو الأسير، قال في «الفنون»: إلا ما كان من الطيور يألف الرواح ويعتاد العود فلا ضمان في إطلاقه ويضمن من حل وكاء وهو الحبل الذي يربط به نحو قربة وسواء كان ما حل وكاؤه مائعًا أو جامدًا فأذابته الشمس فاندفق بخلاف ما لو أذابته نار قربها إليها غير أو بقي الزق بعد فكه منتصبًا فألقته ريح أو ألقاه نحوه طير كحيوان أو زلزلة فاندفق فخرج ما فيه كله في الحال أو خرج قليلاً قليلاً أو خرج منه شيء بل أسفله فسقط فاندفق أو ثقل أحد جانبيه بعد حل وكائه فلم يزل يميل قليلاً قليلاً حتى سقط أو هتك حرزًا فسرق اللص الذي داخل الحرز ضمنه لتسببه في ذلك التلف سواء تعقب ذلك فعله أو تراخى عنه فالقرار على السارق ولا يضمن دافع مفتاح للص ما سرقه اللص من المال لمباشرته للسرقة فاللص أولى بإحالة الحكم عليه من المتسبب؛ لأن القاعد أنه إذا اجتمع مباشر ومتسبب فالضمان على المباشر.
ولا يضمن حابس مالك دواب تلفت بسبب حبسه، قال في «المبدع»: ينبغي أن يفرق بين الحبس بحق أو غيره، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويضمن الغاصب لو حبس إنسانًا عن طعامه بعد جعله على النار أو بعد
وضع خبزه في التنور فاحترق الطعام أو الخبز بسبب منعه، ولو بقي الطائر الذي فتح قفصه واقفًا أو بقيت الفرس التي حل ربطها واقفة حتى نفرها إنسان آخر قاصدًا تنفيرها ضمن المنفر؛ لأن سببه أخص فاختص الضمان به كدافع الواقع في البئر مع حافرها، وكذا لو حل إنسان حيوانًا وحرضه آخر فجنى فضمان جنايته على المحرض.
ولا يضمن المار إن نفر بسبب مروره حيث لا صنع له في التنفير وإن طار الطائر الذي فتح قفصه ووقف على جدار أو شجرة أو نحوهما فنفره آخر فطار لم يضمنه المنفر؛ لأن تنفيره لم يكن سببًا لفواته؛ فإنه كان ممتنعًا قبل ذلك وإن رماه إنسان فقتله ضمن الرامي ولو كان في داره أو في هواء دار غيره ضمنه؛ لأنه لا يمكن منع الطائر من الهواء، وإن سقط طائر غيره في داره لم يلزم رب الدار حفظه ولا إعلام صاحبه؛ لأنه لم يزل ممتنعًا، فإن كان غير ممتنع فكالثوب فيما سبق إذا ألقته الريح أو طائر أو نحوه في آخر جواب سؤال (9)، وإن دخل برجه فأغلق عليه ناويًا إمساكه لنفسه ضمنه لتعديه، وإلا فلا ضمان عليه لعدم تعديه، ولو غصب فرسًا أو حمارة فتبعها ولدها فأكله ذئب ضمنه لتسببه في ذلك، وقد ألغز بعضهم بذلك وفي غيره، فقال:
وغاصب شيء كيف يضمن غيره
…
وليس له فعل بما يتغير
وغاصب نهر هل له منه شربه
…
وهل ثم نهر طاهر لا مطهر
البيت الأول واضح، وأما الثاني: فالجواب على قوله هل له منه شربة؟ ج- إن حوّل النهر عن موضعه كره شربه لظهور أثر الغصب بالتحويل، وكذا يكره الوضوء وإن لم يحوله فلا لثبوت حق كل أحد فيهما، والجواب عن
الشطر الثاني أنه الفرس السريع، فإنه يسمى نهرًا وبحرًا، قال صلى الله عليه وسلم في فرس أبي طلحة:«وإن وجدناه لبحرًا» ، والله سبحانه أعلم.
ولو أزال إنسان يد آخر عن عبد أو حيوان فهرس إذا كان الحيوان مما يذهب بزوال اليد عنه كالطير والبهائم الوحشية والبعير الشارد والعبد الآبق فيضمنه من أزال يد مالكه عند تسببه في فواته، وكذا لو أزال يده الحافظة لمتاعه حتى نهبه الناس أو أفسدته الدواب أو النار أو أفسده الماء فيضمنه.
وإن فتح بابًا تعديًا فيجيء غيره فينهب المال أو يسرقه أو يفسده بحرق أو غرق فلرب المال تضمين فاتح الباب لتسببه في الإضاعة والقرار على الآخذ لمباشرته فإن ضمنه المالك لم يرجع على أحد وإن ضمن الفاتح رجع على الآخذ.
وإن ضرب إنسان آخر فوقع من يده جنيه أو ريال أو دينار فضاع ضمنه الضارب لتسببه في الإضاعة، وكذا لو ضربه فسقطت غترته أو عمامته أو ساعته أو نظاراته فتلفت لوقوعها في نار أو بئر أو نحو ذلك أو سقطت في زحام بسبب هزه ونحوه فضاعت ضمنها الذي سقطت بفعله لتعديه.
قال في «شرح الإقناع» : قلت: فإن وقعت في نحو قدر ينقصها فعليه أرش النقص وإن رفد جدار بيته أو أسند عمودًا أو نحوه بجداره المائل ليمنعه من السقوط فأزال العمود أو نحوه آخر تعديًا فسقط الجدار أو السقف المرفود بالحال أي من حين أزال العمود ونحوه ضمن المزيل للعمود ونحوه لتعديه برفعه ما لزم الجدار ونحوه.
وإن حل إنسان رباط دابة عقور وجنت بعد حلها أو فتح اصطبلها ونحوه ضمن الحال ونحوه بجنايتها؛ لأنه السبب فيها كما لو حل سلسلة
فهد أو ساجور كلب فعقر، فالضمان على الحال لتسببه والساجور خشبة تجعل في عنق الكلب، ولو فتح إنسانًا بثقًا وهو الجسر الذي يحبس الماء فأفسد بمائه زرعًا أو أفسد بنيانًا أو غراسًا ضمن فاتح البثق ما تلف بسببه، قال في «شرح الإقناع»: قلت: وعلى قياسه لو فات ربه ري شيء من الأراضي فيضمن.
ويضمن مغرمًا أخذه ظالم بإغرائه ودلالته لتسببه فيه.
والمغري هو من يقول للحكم خذ من مال فلان كذا أو يأتي بكلام يكون سببًا لأخذ الظالم.
والدال هو الذي يقول له ماله في موضع كذا؛ لأنه يصدق عليه أنه تسبب في ظلمه فهو كالذي بعده.
ويضمن كاذب ما غرم مكذوب عليه عند ولي الأمر بسبب كذبه؛ لأنه تسبب في ظلمه وله الرجوع على الآخذ منه؛ لأنه المباشر ومثله من شكى إنسانًا ظلمًا فأغرمه شيئًا لحاكم سياسي كما أفتى به الشهاب بن النجار.
ومن ربط دابة في طريق أو أوقف دابة بطريق أو ترك بالطريق طينًا أو خشبة أو عمودًا أو حجرًا، أو أسند خشبة إلى حائط أو وضع كيس دراهم أو صندوقًا أو رش السوق أو أوقف سيارة أو ألقى فيها قشر موز أو بطيخ أو أوقف دبابًا أو سيكلاً أو عربية ضمن ما تلف بسبب ذلك الفعل لتعديه بوضعه في طريق المسلمين.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا: «من أوقف دابة في سبيل المسلمين أو في سوق من أسواقهم فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن» رواه الدارقطني، ولأن طبع الدابة الجناية بفمها أو رجلها فإيقافها في الطريق كوضع الحجر ونصب السكين فيه ووضع براميل القز أو القاز أو البانزين
في السوق فيضمن ما تلف بسبب ذلك الفعل لتعديه.
ومن اقتنى كلبًا عقورًا بأن يكون له عادة بالعقر أو اقتنى كلبًا لا يقتنى بأن اقتنى كلبًا لا لحرث ولا لماشية ولا لصيد أو اقتنى كلبًا أسود بهيمًا بأن لا يكون فيه لون غير السواد ولو كان اقتناؤه لصيد أو ماشية أو حرث أو اقتنى أسدًا أو نمرًا أو ذئبًا أو هرًا تأكل الطيور وتقلب القدور عادة مع علمه بحالها فعقرت أو خرقت ثوبًا بمنزله ضمنها مقتنيها؛ لأنه تعد باقتنائه إذًا فإن لم يكن للهر عادة بذلك كالكلب الذي ليس بعقور إذا اقتناه لنحو صيد ولم يكن أسود بهيمًا فإن صاحبه لا يضمن جنايته.
ومن اقتنى نحو دب وقرد أو أسد أو صقر أو باز أو كبش معلم للنطاح فعقر أو خرق ثوبًا أو جرح أو أتلف شيئًا ضمنه لتعديه باقتنائه ولا فرق في ضمان إتلاف ما لا يجوز إقتناؤه مما تقدم بين إتلاف الليل والنهار؛ لأنه للعدوان بخلاف البهائم من إبل وبقر وغنم ونحوها إلا أن يخرق ثوب من دخل منزل ربه بلا إذنه أو دخل بإذنه ونبهه رب المنزل بأن الكلب ونحوه عقور أو أن حبله المربوط به غير موثوق به لرداءة ربطه أو لضعف الحبل فلا يضمن رب المنزل؛ لأنه دخل في الأولى بغير إذنه فهو المتعدي بالدخول.
وإن كان بإذن رب المنزل ونبهه على أنه عقور أو غير موثوق فقد أدخل الضرر على نفسه على بصيرة.
ويلزم رب المنزل تنبيهه قبل رؤية الحيوان للداخل وإعلامه بأن الحيوان مفترس؛ ليكون متيقظًا لدفعه عن نفسه.
ولو حصل عنده نحو كلب عقور وكقرد أو ذئب أو سنور ضار من غير اقتناء واختيار فأفسد بغير ما ذكر من عقر وخرق ثوب بأن أفسد ببول أو ولوغ أو تنجيس في إناء أو ثوب أو نحو ذلك؛ لأن هذا لا يختص بالكلب
العقور لم يضمن؛ لأنه لم يحصل الإفساد بسببه.
ويجوز قتل هر يأكل لحم كالفواسق، وقيل: له قتلها إذا لم تندفع إلا بالقتل كالصائل، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ومن أجج نارًا بأن أوقدها حتى صارت تلتهب عادة بلا إفراط ولا تفريط بحيث لا تسري في العادة وتأجيجه إياها في داره أو على سطحه ولو كان ملكه لمنفعة الدار كملكه منفعتها بإجارة أو إعارة فتعدى ذلك إلى ملك غيره فأتلفه لم يضمن الفاعل؛ لأن ذلك ليس من فعله ولا من تعديه ولا من تفريطه، وكذا لو مر في الطريق العامة ومعه نار يحملها إلى أرضه وداره فهبت بها الريح غير متعد وهو محق في مروره في الطريق؛ لأن له حقًا في المرور بخلاف الطريق الخاص أو سقى مواتًا أو ملكه فتعدى ذلك السقي لملك غيره لم يضمن؛ لأنه لم يتعد ولم يفرط.
ولو سرى ما أججه من النار بملكه بطيران ريح إلى ملك غيره فأتلفه لم يضمن إذا كان التأجج جرت به العادة بلا إفراط ولا تفريط فإن أفرط بكثرة بأن أجج نارًا تسري عادة لكثرتها أو فتح ماء كثيرًا يتعدى مثله أو فرط بنحو نوم كإهمال بأن ترك النار مؤججة والماء مفتوحًا ونام عن ذلك أو أهمله ضمن لتعديه أو تقصيره، كما لو باشر إتلافه أو فرط بأن أججها وقت ريح شديدة تحملها إلى ملك غيره ضمن لتعديه، وكذا لو أججها فرب زرب: وهو المدخل، وموضع الغنم أو أججها قرب حصيد أو أقد نارًا بمكان غصب ضمن مطلقًا سواء فرط أو أسرف أو لا.
وكذا يضمن إن أبيست النار التي أوقدها ولو في ملكه شجرة غيره؛ لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة إلا أن تكون الأغصان في هوائه
فلا يضمن؛ لأنه لا يمنع من التصرف في ملكه، ولكن الأولى بل يتأكد في حقه أن يأمره بلي الأغصان عن هواء داره فإن نبهه فلم يمتثل فلا ضمان.
وإن أجج نارًا في السطح، ولم يكن له سترة وبقربه زرع ونحوه، والريح هابة ضمن.
وإن منع من ذلك لأذى جاره ضمن وإن لم يسرف، وإن اقتنى حمامًا أو غيره من الطير فأرسله نهارًا فلقط حبًا لم يضمنه؛ لأن العادة إرساله.
(12)
من بنى في الطريق أو أخرج إليها جناحًا أو نحوه
أو وضع في المسجد شيئًا إلخ
س 12: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: من بنى دكة أو نحوها أو حفر بئرًا أو فتحها أو بنى في السابلة الواسعة نحو مسجد أو بنى جسرًا أو قلع حجرًا يضر بالمارة من المسلمين أو فعل ما فيه نفع أو أمر حرًا بحفر بئر أو أمر سلطان بحفرها أو بسط بمسجد حصيرًا أو بساطًا أو علق قنديلاً أو وضع في المسجد خزائن أو جلس في المسجد فعثر به إنسان أو أخرج جناحًا أو ميزابًا أو ساباطًا أو بنى حائطه مائلاً، أو أحدث في ملكه بركة أو بالوعة أو مستحمًا فزل إلى جدار جاره. واذكر التفاصيل والقيود والمحترزات والأدلة والتعاليل والخلاف والترجيح.
ج: من بنى دكة وهي المبنية للجلوس عليها أو حفر بنفسه أو حفر أجيره أو حفر قنه أو ولده بأمره بئرًا لنفسه ليختص بنفعها في فنائه وهو ما كان خارج الدار قريبًا منها سواء حفر أو بنى بإذن الإمام أو بغير إذنه وسواء حفر البئر في حده نصفها ونصفها في فنائه ضمن ما تلف
بالبئر، وقال أصحاب الشافعي: وإن حفرها بإذن الإمام لم يضمن، وقال بعض الأصحاب: له حفرها لنفسه بإذن الإمام فعليه لا ضمان؛ لأن للإمام أن يأذن فيما لا ضرر فيه وجوابه بأنه حفر في مكان مشترك بغير إذن أهله لغير مصلحتهم فضمن ولا نسلم أن للإمام الإذن فيه فدل على أنه لا يجوز لوكيل بيت المال وغيره بيع شيء من طريق المسلمين النافذ وأنه ليس للحاكم الحكم بصحته، وقاله الشيخ تقي الدين، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
وكذا الدكة؛ لأنه تلف حصل بسبب تعديه ببنائه أو حفره في مكان مشترك بغير إذن أهله لغير مصلحتهم فأشبه ما لو نصب في فنائه سكينًا فتلف بها شيء كحفر أجيره الحر بئرًا في فنائه فيضمن الأجير الحافر ما تلف بها سواء حفرها بأجرة أو لا؛ لأنه هو المتعدي، ومحل ذلك أن علم الأجير الحال بأنها ليست ملك الآذن إذ الأفنية ليست بملك؛ ولهذا قال القاضي: لو باع الأرض بفنائها لم يصح البيع؛ لأن الفناء ليس بملك، بل مرفق وإن جهل الحافر أنها في ملك الغير فالضمان على الآمر لتقريره الحافر، وكذا لو جهل الباني فلو ادعى الآمر علم الحافر والباني وأنكر الحافر والباني فقولهما؛ لأن الأصل عدمه.
ولا يضمن من حفر بئرًا في موات لتملك أو ارتفاق لنفسه أو حفر بئرًا بملكه إذ للإنسان التصرف في ملكه كيف شاء وإن حفر في طريق واسعة لنفع عام لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه شرعًا كما لو حفرها ليجمع فيها ماء المطر أو لينبع منها الماء ليشرب المارة فلا يضمن؛ لأنه محسن، قال الله تعالى:{مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} ولو لم يجعل عليها حاجزًا لتعلم به فتتوقى، وفي «الغاية وشرحها» .
ولا يضمن من حفر بئرًا في موات ونحوها ولو لم يجعل عليها حاجز، ولا يضمن من لم يسد بئره سدًا يمنع الضرر. اهـ.
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: يضمن ما تلف بها، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
وما فتحه وأعاده الإنسان من الآبار القديمة يكون فتحه لها بمنزلة إحداثها ضررًا ونفعًا فلو فعله بملكه لا يضمن ما تلف بسببه؛ لأنه مأذون فيه شرعًا، ولو كان فتحه لها بغير ملكه يضمن لتعديه ويلزمه سدها سدًا بحيث يمنع الضرر بالمارة.
وإن بنى في السابلة الواسعة نحو مسجد أو مدرسة بلا ضرر بالمارة بإحداث ذلك، ولو فعله بلا إذن لم يضمن ما تلف بذلك؛ لأنه محسن، قال الشيخ تقي الدين: حكما ما بنى وقفًا على المسجد في هذه الأمكنة حكم بناء المسجد، وقيل: لا يضمن إن كان بإذن الإمام وإلا ضمن.
وقال بعض الأصحاب: ينبغي أن يتقيد سقوط الضمان عنه فيما إذا حفرها في موضع مائل عن القارعة بشرط أن يجعل عليه حاجزًا يعلم به ليتوقى، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ومن بنى جسرًا وهو القنطرة ليمر عليه الناس وكذا فعل ما تدعو الحاجة إليه لنفع الطريق وإصلاحها كإزالة الماء والطين عنها وتنقيتها مما يضر فيها كقشر بطيخ أو موز ووضع حجر أو خشب ليطأ عليه الناس وحفر هدف وهو ما ارتفع وعلا في الطريق بحيث أنه بعد إزالتها يتساوى وتصير كغيرها، وكذا قلع حجر في الأرض يضر بالمارة ووضع الحصاء في حفر الأرض ليملأها وتسقيف ساقية فيها، فهذا كله مباح لا يضمن ما تلف به؛ لأنه إحسان ومعروف، قال الله تعالى:{مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} .
وإن فعل ما فيه نفع عام كان حفر بئرًا أو بنى مسجدًا أو خانًا وهو الحانوت ونحوه في الطريق فتلف فيه شيء لم يضمن.
وإن فعل شيئًا لنفع خاص بنفسه أو كان يضر بالمارة كأن حفر البئر في القارعة أو بطريق ضيقة، فإنه يضمن ما تلف بها سواء فعله لمصلحة عامة أو لا بإذن الإمام أو لا لما فيه من الضرر.
ونقل المروذي حكم هذه المساجد التي بنيت في الطريق تهدم، وسأل محمد بن يحيى الكحال: يزيد في المسجد من الطريق، قال: لا يصلى فيه.
ونقل حنبل أنه: سُئل عن المساجد على الأنهار؟ قال: أخشى أن يكون من الطريق، وسأله ابن أهيم عن ساباط فوقه مسجدًا أيصلى فيه؟ قال: لا يصلى فيه إذا كان من الطريق.
ومن أمر حرًا بحفر بئر أو بناء بملك غير الآمر بأجرة أو لا فحفر المأمور وتلف بها شيء ضمن ما تلف به حافر علم بذلك وضمن بأن علم أن الأرض ملك لغير الآمر.
ويحلف الحافر والباني إن أنكر العلم بأنه ملك غير الآمر وادعى الآمر وعلمه؛ لأن الأصل عدمه وإن لم يعلم حافر بذلك أو كان المأمور قن الآمر فآمر يضمن ما تلف لتغريره.
ويضمن سلطان آمر بحفر بئر أو بناء في ملك غيره دون حافر وبان، وسواء علم أن الأرض ملك لغير السلطان أو لا؛ لأنه لا تسعه مخالفته أشبه ما لو أكره عليه، ومن بسط بمسجد ونحوه حصيرًا أو بادية أو مدة أو بساطًا أو زولية أو علق فيه أو أوقد فيه قنديلاً، قلت: ومثل ذلك الكهرب لو علق مروحة أو لمبة أو نجفًا أو كنديشة أو ثلاجة أو نصب رفًا أو بابًا؛ لنفع المسلمين لم يضمن ما تلف به.
ومن جلس من المسجد أن إضطجع فيه أو قام فيه مسلم فعثر به حيوان فتلف أو نقص لم يضمن نقصه ولا تلفه أو أقام في طريق واسع فعثر به حيوان فتلف أو نقص لم يضمن؛ لأنه فعل مباحًا لم يتعد به على أحد في مكان له فيه حق أشبه ما لو فعل بملكه ويضمن إن جلس أو اضطجع أو أقام في طريق ضيق لإضراره بالمارة.
وإن أخرج جناحًا وهو الروشن أو أخرج برندة (بلكونة Balcony) أو أخرج ميزابًا كساباط أو أبرز حجرًا في البنيان إلى طريق نافذ بلا إذن الإمام أو نائبه في ذلك بلا ضرر إذ ليس للإمام أن يأذن بما فيه ضرر أو أخرج ما ذكر في درب غير نافذ بغير إذن أهله فسقط على شيء فأتلفه ضمنه المخرج لحصول التلف بما أخرج إلى هواء الطريق أشبه ما لو بنى حائطًا مائلاً إلى طريق أو أقام خشبة في ملكه مائلة إلى الطريق فأتلف شيئًا.
قال ع ن: ومقتضى ما تقدم في حفر البئر أن نحو الجناح من ضمان الباني أي الأجير إذا كان حرًا وانظر هل يفرق بين العالم التحريم أم لا؟ انتهى. ولو كان التلف بعد بيع وقد طولب البائع بنقضه قبل البيع ولم يفعل لحصول التلف بفعله وهو إخراجه ما تقدم إلى هواء الطريق.
وإن سقط بعد البيع ولم يكن طولب بنقضه قبل البيع لا ضمان عليه ولا على المشتري؛ لأنه لم يطالب بنقضه، وكذلك إن وهبه وأقبضه قبل الطلب ثم سقط فأتلف شيئًا لم يضمنه الواهب؛ لأنه ليس ملكه ولا الموهب له؛ لأنه لم يطالب، وكذا لو صالح به أو جعله صداقًا أو عوضًا في خلع أو طلاق أو عتق ومحل الضمان ما لم يأذن في الجناح والميزاب والساباط المخرج إلى الطريق إمام أو نائبه ولا ضرر على المارة بإخراجه فإن أذن فيه فأخرج فلا ضمان؛ لأن النافذ حق للمسلمين والإمام وكيلهم فإذنه كإذنهم.
ومع وجوب الضمان والتالف آدمي فديته على عاقلة رب المخرج؛ لأنها
تحمل دية الخطأ وشبه العمد فإن أنكرت العاقلة كون المخرج لصاحبهم أو أنكروا مطالبته بنقضه حيث اعتبر أو أنكروا تلف الآدمي لم يلزمهم شيئ إلا أن يثبت بينة؛ لأن الأصل عدم الوجود.
وإن مال حائطه لغير ملكه سواء كان مختصًا كهواء جاره أو مشتركًا كالطريق أو تشقق الحائط فكميله فلا ضمان إن لم يطالب بنقضه وأبى هدمه حتى أتلف شيئًا بسقوطه، وقيل: إن طولب بنقضه وأشهد عليه فلم يفعل ضمن واختاره جماعة، قال الموفق والشارح: والمطالبة من كل مسلم إن كان ميله إلى الطريق.
وقال أبو حنيفة: الإستحسان أن يضمن؛ لأن الجواز للمسلمين وميل الحائط يمنعهم، والقول الثاني: وهو قول من يقول بالإشهاد عليه هو الذي تميل إليه النفس، والله أعلم.
وإن بنى الحائط مائلاً لطريق ضمن ما تلف به، أو بناه مائلاً إلى ملك غيره بلا إذنه ضمن ما تلف به ولو لم يطالب بنقضه لتسببه بذلك، وإن بناه مائلاً إلى ملك غيره بإذنه أو مائلاً إلى ملك نفسه أو مال الحائط إلى ملك ربه لم يضمن ربه ما تلف به لعدم تعديه.
وإن أحدث بركة أو كنيفًا أو صهروجًا أو بالوعة فنزل إلى جدار جاره فأوهاه وهدمه ضمنه؛ لأن هذه الأسباب تتعدى ذكره في الفصول والتلخيص قالا: وللجار منعه من النزول إلى جدار جاره، وقال أيضًا: الدق الذي يهدم الجدار مضمون السراية؛ لأنه عدوان محض.
ومحترم الأموال إن تتلف أضمن
…
لغيرك أن تجهل وأن تتعمد
ويضمن أيضًا فاتح حبس طائر
…
ومن فك قيد المال أن تتشرد
وإن يثنيا من بعد هذا فنفرًا
…
فغرمهما أخصص بهذا المشرد
ومن يرد مملوكًا من الطير في هوا
…
جدرًا له أو فوقه يضمن الردي
كفاتح وعا السيال أو جامد به
…
فسال بما ليس أهل غرم بأجود
ومن ربط العجماء في ضيق من
…
الدروب ليضمن ما جنت لا تقيد
وقولان بالإطلاق إن يك واسعًا
…
كذابًا قتنًا كلب عقور بأجود
وعنه إن جنى في داخل دون إذنه
…
إلى داره لا غرم إذ هو معتدي
كذا الحكم في هر يصيد الطيور لا
…
إذا بال في شيء وولغ الذي ابتدي
وأن يوقد الإنسان نارًا بملكه
…
ويجري عليه ماؤه غير معتد
فليس عليه غرم تاو لجار
…
به مع سوى تفريطه والتزيد
ويمنع من إنشا مضر بجاره
…
ويضمن ما أردى بحفر مجدد
ويضمن منشي ما يضر بملكه
…
ومختصه في واسع لا تقيد
وإن ينشه في واسع لانتفاعنا
…
لا غرم حتى دون إذن بأوكد
ولا غرم في ملغى بموحل
…
وأشباهه من نافع غير مفسد
ومن يحتقرها في موات لنفعه
…
ونفع الورى التضمين عن مثله ذد
ولا غرم في شيء نوى في المجود
…
بوضعك قنديلاً وبسطًا بمسجد
ولا عائر في جالس وسط مسجد
…
ولا في طريق واسع في المجود
ويضمن في ذا واضع حجرًا به
…
ومن قشر بطيخ وماء مبدد
وما أتلف الميزاب في ملك غيره
…
وروشنه يضمن بلا إذن ذي اليد
وإن نحن جوزنا بإذن الإمام ما
…
خلا عن أذى وجهين في العرف أسند
وذو حائط قد مال في ملك غيره
…
فيدعى لإصلاح بإشهاد شهد
فضمنه أن يأتي فإن جاء ممكنًا
…
وقيل وإن لم يدع وأعكس بأوحكد
ولا يسقط التضمين تأجيل حاكم
…
ولا مفرد من شركة متعدد
وإن يبن ميالاً إلى ملك غيره
…
فمتلفه ضمنه دون تردد
والإتلاف في هذه الأمور من الخطأ
…
فما ليس معقولاً ففي مال معتد
ومن يدخل الإنسان حتى يضيفه
…
فيسقط ببئر عنده لم يحدد
ولم ير أما للعمى أو لسترها
…
فضمنه ما لم ينذر المرء ترشد
ومن يغتصب أرضًا فحظر دخولها
…
على غير رب الأرض إن حوطت قد
وإن لم تحوط جاز فيها دخوله
…
وأخذ الكلا منها على نص أحمد
(13)
ما أتلفته البهائم الضارية وغير الضارية وما أتلفه المركوب عليه
…
إلخ
س 13: تكلم بوضوح عما يلي من أحكام ومفردات: ما أتلفته البهائم الضارية والجوارح وشبهها، ماذا يجب على رب البهيمة المعروفة بالصول، إذا حاله الدابة بين المال ومالكه البهائم غير الضارية، ماذا على السائق والقائد والراكب إذا أتلف المركوب شيئًا أو جنى على أحد، إذا تعدد الراكب إذا كانت البغال والإبل مقطرة، ما أفسدته البهائم بالليل أو بالنهار، إذا طرد الدابة من مزرعته ودخلت مزرعة غيره من صال عليه آدمي صغير أو كبير عاقل أو مجنون فقتله؟ واذكر ما يتصل بذلك من أحكام وشروط ومحترزات وتفاصيل وأدلة وتعليل وخلاف وترجيح.
ج: يضمن رب بهائم ضارية، والضارية: المفترسة المعتادة بالجناية، قال أبو الطيب:
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى
…
ولا تتقى حتى تكون ضواريا
إذا كان عالمًا بضريانها أو أمر بإمساكها من لم يعلم بأنها ضارية فما أتلفته ضمنه.
ويضمن رب جوارح وشبهها ما أتلفته من نفس ومال، قال في «الفصول»: من أطلق كلبًا عقورًا أو دابة رفوسًا، ويقال لها: رموحًا أو عضوضًا على الناس وخلاه في طريقهم ورحابهم ومصاطبهم فأتلف مالاً أو نفسًا ضمن لتفريطه.
وكذا إن كان له طائر جارح كالصقر والبازي فأفسد طيور الناس وحيواناتهم، انتهى. قال في «الإنصاف» وهو الصواب.
ومتى عرفت البهيمة أنها تصول أي تعدو وتثب على الناس وجب على مالكها وغيره إمساكها أن تمكن من غير أن يصيبه ضرر وإلا فيتلفها دفعًا لضررها وحيث جاز إتلافها فله أن يتلفها بالمعروف على أي وجه لا تعذيب فيه للحيوان؛ لحديث: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» .
ولا يضمن البهيمة المعروفة بالصول إذا قتلت حال صولها؛ لأنها غير محترمة كمرتد وزان محصن، وإن حالت الدابة بين إنسان وبين ماله ولم تندفع بلا قتل قتلها، ولا شيء عليه ولو كانت مملوكة للغير؛ لأن قتلها دفعًا لشرها.
ومن القواعد إن من أتلف شيئًا لدفع أذاه له لم يضمنه وإن أتلف لدفع أذاه به ضمنه فمن صال عليه جمل أو ثور وأتلفه المصول عليه لم يضمنه.
وحيث جاز له قتلها إزالة لضررها بالحيلولة بينه وبين ماله فعليه أن يسمي عليها إن كانت مأكولة اللحم لئلا يضيعها على ربها فلو قتلها ولم يسمّ عليها سهوًا لا جهلاً بالحكم فلا شيء عليه؛ لسقوط التسمية بذلك، وإن ترك التسمية عمدًا ضمن لربها قيمتها مذكاة.
ولا يضمن رب بهائم غير معروفة بالصول وغير جوارح وشبهها ما أتلفته إن لم تكن يده عليها ولو كان ما أتلفته البهيمة بالحرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «العجماء جرحها جبار» متفق عليه، أي هدر، فإن كانت ضاربة ضمن.
ويضمن جناية دابة سواء كانت ضارية أو غير ضارية راكب وسائق وقائد للدابة مالكًا كان أو غاصبًا أو مستأجرًا أو مستعيرًا أو موصى له بنفعها أو مرتهنًا قادر على التصرف فيها؛ لأن العاجز عن التصرف وجوده كعدمه.
ويشترط تكليف المتصرف القادر على التصرف.
وما يضمنه جناية يدها وفمها وذنبها وولدها سواء جنى بيده أو فمه أو رجله أو ذنبه ولو لم يفرط؛ لحديث النعمان بن بشير مرفوعًا: «من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم فأوطأه بيد أو رجل فهو ضامن» رواه الدارقطني.
ولأن فعل البهيمة منسوب إلى من بيده البهيمة إذا كان يمكنها حفظها.
ولا يضمن ما نفحت برجلها ومعنى نفحت رمحت من غير سبب؛ لما روى سعيد مرفوعًا: «الرجل جبار» رواه أبو داود، وفي رواية أبي هريرة:«رجل العجماء جبار» فدل على وجوب الضمان في جناية غيرها، وخصص بالنفح دون الوطء؛ لأن من بيده الدابة يمكنه أن يجنبها وطء ما لا يريد أن تطأه بتصرفه فيها بخلاف نفحها فإنه لا يمكنه أن يمنعها منه، وحيث وجب الضمان وكان المجني عليه مما تحمله العاقلة فهي عليها.
ومحل عدم الضمان ما نفحت برجلها ما لم يجذبها باللجام زيادة على العادة أو يضربها في وجهها فيضمن لتسببه في جنايتها ولو فعل ذلك لمصلحة تدعو إليه.
ولا يضمن الراكب ونحوه ممن بيده الدابة جناية ذنبها؛ لأنه لا يمكن التحفظ من جناية ذنبها ولا يضمن متصرف بدابة سقوط حملها إذا لم يفرط.
ويضمن جنايتها مع سبب للجناية كنخس، ويقال: نغز وتنفير فاعل ذلك؛ لأنه المتسبب في جنايتها دون الراكب والسائق والقائد.
فإن جنت البهيمة على من نفرها أو نخسها فأتلفته، فالجناية هدر؛ لأنه السبب في الجناية على نفسه.
وإن تعدد راكب إثنان فأكثر فجنت جناية مضمونة ضمن الأول ما يضمنه المنفرد؛ لأنه المتصرف فيها والقادر على كفها عن الجناية إلا أن يكون الأول صغيرًا أو مريضًا أو أعمى أو مجنونًا، والثاني متولي تدبيرها، فعلى الثاني الضمان وحده لكونه المتصرف فيها.
وإن اشترك الراكبان في التصرف في البهيمة اشتركا في ضمان جنايتها المضمون لاشتراكهما في التصرف، وكذا لو كان مع البهيمة قائد وسائق وجنت جناية تضمن، فالضمان عليها؛ لأن كلا منهما لو انفرد ضمن فإذا اجتمعا ضمنا.
وإن كان مع القائد والسائق راكب أو كان مع أحدهما راكب شارك الراكب السائق والقائد أو أحدهما في ضمان جنايتها لاشتراكهم في التصرف؛ لأن كلا منهم لو انفرد مع الدابة انفرد بالضمان، فإذا اجتمع مع غيره منهم شاركه في الضمان.
ولو اجتمع الثلاثة أو إثنان منهم وانفرد واحد منهم بالتصرف اختص بالضمان.
وإبل وبغال وخيل مقطرة والتقطير أن تشد الإبل على نسق واحد خلف
واحد لواحدة على قائدها الضمان لما جنت كل واحدة من القطار؛ لأن الجميع إنما تسير بسير الأول وتقف بوقفه وتطأ بوطئه، وبذلك يمكنه حفظ الجميع عن الجناية.
وإن كان مع القائد سائق شارك السائق القائد في ضمان الأخير فقط إن كان السائق في آخرها؛ لأنهما اشتركا في التصرف الأخير ولا يشارك السائق القائد فيما قبل الأخير؛ لأنه ليس سائقًا له ولا تابعًا لما يسوقه فانفرد به القائد وإن انفرد راكب على أول قطار ضمن جناية الجميع؛ لأنه في حكم القائد لما بعد المركوب والكل يسير بسيره وتطأ بوطئه فأمكن حفظه من الجناية.
وإن ركب أو ساق غير الأول وانفرد ضمن جناية ما ركبه أو ساقه وما بعده لا ما قبل الذي باشر سوقه فيختص به القائد ولا يشارك فيه السائق؛ لأنه ليس سائقًا ولا تابعًا لما يسوقه.
وإن انفرد راكب بالقطار وكان الراكب على أوله ضمن الراكب جناية الجميع؛ لأن ما بعد الراكب الأول إنما يسير بسيره ويطأ بوطئه فأمكن حفظه عن الجناية فضمن كالمقطور على ما تحته.
ولو انفلتت دابة ممن هي بيده فأفسدت شيئًا فلا ضمان على أحد؛ لحديث: «العجماء جرحها جبار» فلو استقبلها إنسان فردها فقياس قول الأصحاب: الضمان، قاله الحارثي، ثم قال: ويحتمل عدم الضمان؛ لعموم الخبر، ولأن يده ليست عليها، قال: والبهيمة: النزفة التي لا تنضبط بكبح ولا نحوه، ليس له ركوبها بالأسواق، فإن ركب ضمن لتفريطه، وكذا الرموح والعضوض. اهـ.
والكبح: الجذب، وكبح الدابة: جذب رأسها إليه، وفي حديث الإفاضة من
عرفات وهو يكبح راحلته، هو من ذلك، قال في «الغاية وشرحها»: ويتجه إن راد الدابة يضمن ما أتلفته إن ردها من عند نفسه لا إن ردها بأمر ربها، فإن ردها بأمر ربها ليمسكها فلا ضمان عليه؛ لأنه محسن، انتهى. {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} .
ويضمن رب الدابة ومستعير ومؤجر ومودع ومرتهن وأجير لحفظها وموصى له بنفعها ما أفسدته من زرع وشجر وثوب خرقته أو أكلته أو مضغته أو وطئت عليه ونحوه ومحل ذلك إذا أفسدته ليلاً فقط؛ لحديث مالك عن الزهري عن حزام بن سعد عن محيصة: أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أن على أهل الحوائط حفظها النهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل فهو مضمون على أهلها» قال ابن عبد البر: هذا وإن كان مرسلاً فهو مشهور، وحدث به الأئمة الثقات، وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول، ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها نهارًا للرعي وحفظها ليلاً وعادة أهل الحوائط حفظها نهارًا، فإذا أفسدت شيئًا ليلاً كان من ضمان من هي بيده.
وإن فرط في حفظها بأن لم يضمها بحيث لا يمكنها الخروج، فإن ضمنها من هي بيد فأخرج غيره إذنه أو فتح عليها بابها فأتلفت شيئًا فعليه الضمان دون مالكها، ولا ضمان على من كانت بيده؛ لعدم تفريطه ولو كان ما أتلفته الدابة المعارة ونحوها ليلاً لربها ضمنه مستعير ومستأجر وإن لم يفرط ربها ونحوه بأن ضمها ليلاً بحيث لا يمكنها الخروج فأتلفت شيئًا فلا ضمان؛ لعدم تفريطه.
ولا يضمن ربها ومستعيرها ونحوه ما أفسدته نهارًا؛ للحديث السابق إذا لم يكن يد أحد عليها وسواء فرط بأن أرسلها بقرب ما تفسده أو لا لعموم الحديث السابق إلا غاصبها فيضمن ما أفسدت نهارًا أيضًا لتعد بإمساكها
وإن كان على البهيمة يد كقائد ضمن صاحب اليد ما أفسدت.
ولو ادعى صاحب زرع أن بهائم فلان رعت زرعه أو ادعى أنها أفسدت شجره ليلاً ووجد في الزرع أثر ولم يكن هناك بهائم لغيره قضي بالضمان على صاحب البهائم التي تفشت في الزرع ليلاً عملاً بالقرينة.
قال الشيخ تقي الدين: هذا من القيافة في الأموال وجعل القيافة معتبرة في الأموال كالقيافة في الإنسان ومن طرد دابة من مزرعة له فدخلت مزرعة غيره فأفسدت لم يضمن ما أفسدته من مزرعة غيره إلا أن يدخلها مزرعة غيره، فإن اتصلت المزارع لم يطردها؛ لأن ذلك تسليط على زرع غيره والذي تميل إليه نفسي أن طردها عن مزرعته إذا لم يدخلها مزرعة غيره وليس ذلك بتسليط، بل لدفع الضرر عن ماله، والله سبحانه أعلم.
ولو قدر أن يخرجها من زرعه وله منصرف يخرجها منه من محل غير المزارع فتركها تأكل من زرعه ليرجع على ربها فما أكلته هدر لا رجوع لربه به؛ لتقصيره بعدم صرفها.
والحطب على الدابة إذا خرق ثوب آدمي بصير عاقل يجد موضعًا يتحول إليه فالخرق هدر لا يضمنه الحطاب لتقصير رب الثوب بعدم الإنحراف وقياسه لو جرحه ونحوه، وكالحطب حديد ونحوه، وكذا لو كان صاحب الثوب مستدبرًا فصاح حامل الحطب منبهًا له ووجد منحرفًا ولم ينحرف فخرق ثوبه فهدر وكالمستدبر الأعمى إذا صاحب عليه منبهًا له بالإنحراف لموضع يمكنه الإنحراف إليه ولم يفعل وإن لم يجد منحرفًا وهو مستقبل له ولم ينبهه وهو مستدبر ضمن من مع الدابة أرش خرق الثوب، وكذا لو جرحه ونحوه.
ومن صال عليه آدمي صغير أو كبير عاقل أو مجنون أو غيره من البهائم
والطيور فقتله المصول عليه دفعًا عن نفسه لم يضمن إن لم يندفع إلا بالقتل؛ لأن قتله لدفع شره فكأن الصائل قتل نفسه ولو دفع إنسان الصائل عن غيره غير ولد القاتل ونسائه كزوجته وأمه وأخته وعمته وخالته فدفعه بالقتل ضمنه.
(14)
مسائل تتعلق في اصطدام السفن وإتلاف
آلات اللهو وقتل الصائل
والاستعانة بالمخلوق والدعاء على الظالم
س 14: إذا اصطدمت سفينتان فغرقتا، فما الحكم؟ وما الذي يترتب على ذلك؟ وإذا خرق إنسان سفينة فغرقوا أو أشرفت سفينته على الغرق أو ألقى أحد الركاب متاعه ومتاع غيره، أو قتل صائلاً عليه أو قتل خنزيرًا أو أتلف آلة لهو أو صليب أو آلة تصوير أو مزمارًا أو طنبورًا أو عودًا أو طبلاً أو دفًا بصنوج أو حلق أو أتلف نردًا أو شطرنجًا أو تلفزيونًا أو سينما أو راديوًا وهو المذياع أو أتلف بكمًا أو أتلف شيشة أو دخانًا أو إناء فيه خمر أو كسر آنية ذهب أو فضة أو حليًا محرمًا على ذكر أو نحو ذلك؟
ج: إذا اصطدمت سفينتان واقفتان أو مصعدتان أو منحدرتان فغرقتا ضمن كل واحد من قيّمي السفينتين سفينة الآخر وما فيها من نفس ومال إن فرطا في ردها أو تكميل آلتها من الرجال والحبال وإن كان مركبًا فما يحتاج من وقود وغيره وهو قيد في كل من المتعاطفين لحصول التلف بسبب فعليهما، فوجب على كل واحد منهما ضمان ما تلف بسبب فعله كالفارسين إذا اصطدما وإن لم يفرطا فلا ضمان على واحد منهما؛
لعدم مباشرته التلف وتسببه فيه، فإن فرط أحدهما دون الآخر ضمن المفرط وحده ما تلف بتفريطه لتسببه في إتلافه.
ومع تعمدهما التصادم فهما شريكان في ضمان إتلاف كل من السفينتين، وفي ضمان إتلاف من فيهما من الأنفس والأموال؛ لأنه تلف حصل بفعلهما فاشتركا في ضمانه أشبه ما لو خرقاهما، فإن كان الصدم يقتل غالبًا فعليهما القود بشرطه من المكافأة ونحوها؛ لأنهما تعمدا القتل بما يقتل غالبًا أشبه ما لو ألقياه في لجة البحر بحيث لا يمكنه التخلص فغرق وإن لم يقتل غالبًا بأن فعلا قريبًا من الساحل فهو شبه عمد كما لو ألقاه في ماء قليل فغرق به ولا يسقط فعل صادم.
ولو كان الاصطدام مع غيره عمدًا بأن كان خطأ أو شبه عمد بأن مات أحد القيمين دون الآخر بسبب تصادم السفينتين لم يهدر فعل الميت في حق نفسه بل يعتد به لمشاركة الآخر في قتل نفسه، فإن كان حرًا فليس لورثته إلا نصف ديته وإن كان عبدًا فليس لسيده إلا نصف قيمته؛ لأنه شارك في قتل نفسه أشبه ما لو تحامل هو وغيره على قتل نفسه بمحدد.
ولو خرق السفينة قيّمها عمدًا في اللجة فغرق من فيها بذلك أو خرقها شبه عمد بأن قلع اللوح بلا داع إلى قلعه قريب من الساحل لا يغرق به من فيها غالبًا فغرق عمل به أو خرقها خطأ بقلع لوح يحتاج إلى الإصلاح ليصلحه أو ليضع في مكانه في محل لا يغرق به من فيها غالبًا فغرقوا عمل بذلك فيقتص منه في صورة العمد بشرطه والدية على عاقلته في شبه العمد والخطأ على ما يأتي في الجنايات والكفارة في ماله والسفينة المشرفة على غرق يجب إلقاء ما يظن بإلقائه نجاة من الغرق، فإن تقاعدوا أثموا ولا ضمان، ولو ألقى متاعه ومتاع غيره فلا ضمان على أحد ومن امتنع من إلقاء متاعه ألقي وضمنه ملق غير الدواب فلا تلقى لحرمتها إلا عند إلجاء الضرورة إلى إلقائها
فتلقى لنجاة الآدمي؛ لأنهم آكد حرمة، ومن قتل حيوانًا صائلاً عليه ولو كان الصائل آدميًا صغيرًا أو كبيرًا عاقلاً أو مجنونًا حرًا أو عبدًا دفعًا عن نفسه لم يضمنه إن لم يندفع إلا بالقتل؛ لأنه لدفع شره فكأنه قتل نفسه، فإن كان قتله دفعًا عن غيره، فقيل: يضمنه، وقيل: لا يضمنه، وهو الموافق لما يأتي في حد قطاع الطريق.
وإن قتل خنزيرًا لم يضمنه؛ لأنه مباح القتل أشبه الكلب العقور والخنزير حيوان خبيث، يقال: أنه حرم على لسان كل نبي، وكذا كل حيوان أبيح قتله.
ومن أتلف مزمارًا بكسر أو نحوه أو أتلف طنبورًا لم يضمنه، والمزمار: آلة يزمر فيها، والطنبور: آلة طرب ذات عنق طويل لها أوتار من نحاس ج طنابير، أو أتلف عودًا أو طبلاً أو دفًا بصنوج أو حلق أو أتلف نردًا أو شطرنجًا أو أتلف صليبًا لم يضمن؛ لأنها محرمة.
والعود آلة من المعازف يضرب بها ج عيدان، وأعواد والطبل آلة معهودة ذات وجه أو وجهين والدف أيضًا آلة طرب والصنوج جمع صنجة من نحاس أصفر مدورة تضرب على أخرى مثلها للطرب والصنوج أيضًا ما يجعل في إطار الدف من الهنات المدورة، وكل هذه نسأل الله العافية من المحرمات.
ومن أتلف أو كسر أو شق إناء فيها خمر مأمور بإراقتها، قدر على إراقتها بدون الكسر أو لا لم يضمنه؛ لحديث ابن عمر قال:«أمرني صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية فأتيته، فأرسل بها فأهرقت ثم أعطانيها، ثم قال: «أعد علي بها» فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر وقد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من ذلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها
زق خمر إلا شققته ففعلت، فلم أترك زقًا إلا شققته» رواه أحمد، والزق: وعاء الخمر، قال أبو الطيب:
ولا تحسبن المجد زقًا وقينة
…
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
ولأمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنها، رواه الترمذي، فلو لم يجز إتلافها لم يأمر صلى الله عليه وسلم بكسر الدنان ولا شق الزقاق، ولا يضمن من أتلف تلفزيونًا أو سينما لما فيهما من المفاسد العظيمة والشرور وتحطيم العقائد والأخلاق ونشر الخلاعة والمجون، فإن هاتين الصناعتين هما المنتهى الذي وصل إليه المصورون في فن التصوير المحرم، وفيهما مع فتنة التصوير فتنة تسجيل أصحاب الصور وحركاتهم وهيئاتهم حال الرقص والغناء والمعازف والإختلاط والتبرج والسفور والتشبه بأعداء الله والسير في ركابهم، وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في «الأدلة الكاشفة»: وأما التلفزيون فهو آلة خطيرة وأضرارها عظيمة كالسينما أو أشد وقد علمنا عنه من الرسائل المؤلفة في شأنه، ومن كلام العارفين به في البلاد العربية وغيرها ما يدل على خطورته وكثرة أضراره بالعقيدة والأخلاق وأحوال المجتمع، وما ذلك إلا لما يبث فيه من تمثيل الأخلاق السافلة والمرائي الفاتنة والصور الخليعة وشبه العاريات والخطب الهدامة والمقالات الكفرية والترغيب في مشابهة الكفار في أخلاقهم وأزيائهم وتعظيم كبرائهم وزعمائهم، والزهد في أخلاق المسلمين وأزيائهم والاحتقار لعلماء المسلمين وأبطال الإسلام وتمثيلهم بالصور المنفرة منهم المقتضية لإحتقارهم والإعراض عن سيرتهم وبيان طرق المكر والإحتيال والسلب والنهب والسرقة وحياكة المؤامرات والعدوان على الناس، ولا شك أن ما كان بهذه المثابة وترتب عليه هذه المفاسد يجب منعه، والحذر منه وسد الأبواب المفضية إليه
…
إلخ كلامه (ص 40، 41) انتهى. وبالتالي لو لم يكن فيهما إلا الصور المحرمة لكان كافيًا للقول بحرمتهما
للأحاديث الواردة في تحريم الصور كلها عدا الشجر وما لا روح له ولتحريم النظر إلى الأجنبيات، ولما يترتب على ذلك من نشوز أحد الزوجين عن الآخر.
ولا يضمن من أتلف المذياع الراديو؛ لأنه آلة لهو محرم لدخوله في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ} الآية، وقد فسر لهو الحديث كثير من السلف من الصحابة والتابعين: بالغناء والمزامير، وفسره بعضهم: بالأساطير والقصص من أخبار ملوك الأعاجم والروم، وبعضهم فسر لهو الحديث: بكل باطل يلهي ويشغل عن الخير، فإن فسرت هذه الآية بالغناء والمزامير فهو رأس الملاهي كلها وإن فسرت بالأساطير والقصص والأضاحيك المهزولة فهي غاية أخباره، وإن فسرت بما يجمع ذلك من كل باطل يلهي ويشغل عن الخير فهو الجامع لذلك وفوق ذلك الوصف.
ومن المعلوم لدى كل ذي عقل سليم أن الراديو المقصود الأصلي منه اللهو والغناء والإشتغال عن طاعة الله وفي المذياع يجمع بين كلام الله والغناء، وهذا من أعظم التنقص والإمتهان له والإستهزاء به والاستخفاف به، وقد قال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الآية، وعدم تنزيه كلام الله عن مزامير الشيطان من أعظم الظلم وأقبحه.
وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن الراضي بالمعصية كالفاعل لها فالاستماع إليهم والحالة هذه مشاركة لهم، وقد أجمع المسلمون على تعظيم القرآن وتنزيهه.
وقال القاضي عياض رحمه الله: أعلم أن من استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه أو جحد حرفًا منه أو كذب بشيء مما هو مصرح به فيه
من حكم أو خبر أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته وهو عالم بذلك أو شك في شيء من ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين، انتهى.
ومن المؤسف لدى كل ذي عقل سليم صاحب علم ودين محب لكلام الله أن يسمع الغناء يقف إثر كلام بديع السموات والأرض، وختامًا فعلى المسلم أن يطهر سمعه عن استماعه، وكل الملاهي والأغاني والنظر إليها، لعله أن يفوز باستماع أصوات الحور العين في جنات النعيم، ويرحم الله ابن القيم حيث يقول:
حب الكتاب وحب ألحان الغنا
…
في قلب عبد ليس يجتمعان
ويقول الآخر:
تقول نساء الحي تطمع أن ترى
…
محاسن ليلى مت بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها
…
سواها وما طهرتا بالمدامع
وتطمع منها بالحديث وقد جرى
…
حديث سواها في خروق المسامع
ولا يضمن من أتلف آلات اللهو بكمًا أو إسطوانة أو نحوهما لتحريمهما لما فيها من المفاسد والشرور، ولا يجوز بيعها أو شراؤها ولا إجارتها ولا إعارتها، ولا يضمن من أتلف كورة؛ لأنها من آلات اللهو، بل هي من أعظمها وقد عم البلاء بها في هذا الزمان وهي مما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وكذا لا يضمن من أتلف الورق التي يلعب بها والكيرم ونحو هذه الملاهي.
ولا يضمن متلف الشيش المعدة لشرب الدخان ولا آلات شربه
ولا آلة توليعه وتطفيته كما أنه لا يضمن متلف الدخان؛ لأنه محرم شربًا وبيعًا وشراءً.
ومن الأدلة الدالة على تحريم الدخان قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} إلى قوله تعالى: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} ولا يمتري عاقل في دخوله في قسم الخبائث، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«كل مسكر حرام» ، وقال:«كل مسكر خمر وكل خمر حرام» ، وعن عائشة مرفوعًا:«كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملؤ الكف منه حرام» فهذه الأحاديث دالة على تحريمه، فإنه خبيث مسكر تارة ومفتر تارة أخرى.
ومن الأدلة على تحريمه أنه ثبت طبيًا أن التبغ يحتوي على كمية كبيرة من مادة النيكوتين السامة، وأن شاربه يتعرض لأمراض خطرة كثيرة في بدنه أولاً ثم تظهر تدريجيًا فيضطرب الغشاء المخاطي ويهيج ويسيل منه اللعاب بكثرة ويتغير ويتعسر عليه هضم الطعام.
وأيضًا يحدث إلتهابًا في الرئتين ينشأ عنه سعال، ويتسبب عن ذلك تعطيل الشرايين الصدرية وعروض أمراض صدرية ربما يتعذر البرء منها وما يجتمع على باطن القصبة من آثار التدخين يجتمع مثله على القلب فيضغط على فتحاته فيحصل عسر في التنفس.
ويؤثر على القلب بتشويش إنتظام دقاته وربما أدى بشرابه إلى الموت فيكون شاربه تسبب لقتل نفسه وقتل النفس محرم شرعًا، قال الله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:«من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا» .
ومن الأدلة الدالة على تحريمه أنه إسراف وليس فيه نفع مباح، بل هو
محض ضرر بأخبار أهل الخبرة، وقد حرم الإسراف والتبذير شرعًا، قال الله:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} ، وقال تعالى:{إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» .
ومن الأدلة الدالة على تحريمه كون رائحته الكريهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه، وعلى الخصوص في مجامع الصلاة ونحوها، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا:«من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته» .
ومن المعلوم أن رائحة الدخان لا تقل عن كراهة رائحة الثوم والبصل، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس» ، وفي الحديث الآخر:«من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله» ، وفيما ذكرنا كفاية من الأدلة الدالة على تحريمه، فالعاقل المتبصر ينظر ويتأمل ولا يغتر بأقوال أهل الأهواء.
ولا يضمن متلف آلة التصوير ولا متلف صور ذوات الأرواح مجسدة أو غير مجسدة كبيرة أو صغيرة؛ لأنها محرمة، وقد تواترت الأدلة على تحريم التصوير ومشروعية طمس الصور وفيها الوعيد الشديد للمصورين والأخبار بأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، وقد قص الله علينا ما صنعه موسى عليه السلام بالعجل من إحراقه ونسفه وإلقائه في البحر، وأخبر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال لقومه:{وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} الآية، إلى أن قال:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} . وقد ذكرنا بعض الأدلة في الجزء الأول من «الأسئلة والأجوبة الفقهية» في (ص 97) في (س ج 184) فنكتفي بذلك عن الإطالة.
ولا يضمن من كسر إناء فضة أو ذهب، وأما إذا أتلفه؛ فإنه يضمن بوزنه فضة أو ذهبًا بلا صناعة، والفرق بينه وبين آلة اللهو أن الذهب والفضة لا يتبعان الصنعة، بل هما مقصودان عملاً أو كسرًا، والخشب والرق يصيران تابعين للصنعة، فالصناعة في الذهب والفضة كالغناء في الآدمية؛ لأن الصناعة أقل من الأصل، والخشب والرق لا يبقى مقصودًا في نفسه، بل يتبع الصورة، ولا يضمن من أتلف آلة سحر أو آلة تعزيم أو آلة تنجيم ولا يضمن من أتلف وثنًا وهو الصنم يعبده المشركون، ولا يضمن من أتلف كتب مبتدعة مضلة أو كتب كفر وإلحاد، تنبيه: وليحذر اللبيب من اقتنائها أو المطالعة فيها، وإذا أشكل عليه معرفة كتاب، هل مصنفه مستقيم أم لا؟ فليسأل عنه أهل العلم المستقيمين العاملين بعلمهم الموثوق بدينهم وأمانتهم ممن يعرف المصنفين الموثوقين السلفيين ويعرف المشهورين بالبدع والقلوب المرضى بالشكوك والشبهات ليبعد عن كتبهم ويحذر عنها.
ولا يضمن من أتلف أو حرق مخزن خمر أو كتبًا فيها أحاديث موضوعة؛ لأنه يحرم بيعه، ولأن مخزن الخمر من أماكن المعاصي وإتلافها جائز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حرق مسجد الضرار، وأمر بهدمه، قال ابن القيم في كتاب «الهدى»: ولا فرق بين كون المتلف مسلمًا أو كافرًا كل لا يضمن شيئًا مما ذكر.
وفي «الفنون» : يجوز إعدام الآية من كتب المبتدعة؛ لأجل ما هي فيه وإهانة لما وضعت له ولو أمكن تمييزها.
ولا يضمن من أتلف كتبًا فها سخائف لأهل الخلاعة كالمجلات الخليعة والدواوين المحتوية على الهجاء والإغراء بالفجور والفسق والإلحاد.
وختامًا: فعلى من منَّ الله عليه بأن لم يكن عنده شيء من المنكرات التي
تقدم ذكرها أن يذكر من حمد الله وشكره، ويسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات، وعلى من كانت عنده للاستعمال أو يتعاطى بيعها وشراءها أن يبادر إلى الله بالتوبة النصوح وليبعدها عنه بإتلافها أو نحو ذلك، وإن كان عنده عوضها فليتصدق به على الفقراء أو يدفعه للإمام الأهل كما مر وليحذر كل الحذر أن يخلفها بعده نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم القريب المجيب أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها ومن أمثالها وأن يوفق ولاة المسلمين لإزالتها ومنعها، اللهم صل على محمد وآله وسلم.
ومن كسر حليًا محرمًا على ذكر لم يضعه مالكه يصلح للنساء كلجام وسرج ونحوه لم يضمنه؛ لعدم إحترامه، وأما إذا أتلفه فقد تقدم أن محرم الصناعة يضمن بمثله وزنًا وتلغى صناعته.
ولا يجوز كسر حلي صلح للنساء كخواتم ذهب، فإن كسرها؛ فإنه يضمن قيمتها، وأن اللبس الصالح للنساء كالأردية المنسوجة بالحرير والقصب يضمنها متلفها بتشقيق أو تخريق أو غيره، فأما إتلاف نحو عمامة حرير مختصة بالرجال، فإنها لا يضمنها متلفها لإزالته منكرًا ويؤيد عدم ضمان ما ليس بصالح للنساء نص الإمام أحمد في رواية المروذي على تخريق الثياب السود لما فيه من التشبه بالكفار المنهي عنه.
قال الشيخ تقي الدين: للمظلوم الإستعانة بمخلوق في دفع الظلم عن نفسه فاستعانته بخالقه أولى من استعانته بمخلوق وله الدعاء على ظالمه بقدر ما يوجبه ألم ظلمه، ولا يجوز له الدعاء على من شتمته أو أخذ ماله بالكفر؛ لأنه فوق ما يوجبه الظلم ولو كذب ظالم على إنسان لم يفتر عليه، بل يدعو الله فيمن يفتري عليه نظيره، وكذا إن أفغسد عليه دينه فلا يفسد عليه هو دينه، بل يدعو الله عليه فيمن يفسد عليه دينه.
هذا مقتضى التشبيه والتورع عنه أولى، قال أحمد: الدعاء قصاص، ومن
دعا على من ظلمه فما صبر يريد أنه انتصر لنفسه؛ لقوله عليه السلام: «من دعا على من ظلمه فقد انتصر» رواه الترمذي عن عائشة، ولمن صبر فلم ينتصر وغفر، إن ذلك الصبر والتجاوز لمن عزم الأمور.
من النظم فيما يتعلق بجناية البهائم وما لا يغرم وما يغرم
وما جنت العجماء نهارًا فمهدر
…
سوى مع تفريط وفي يد مرشد
كإرسالها عمدًا بقرب الذي جرت
…
بإفسادها عاداتها لا التبعد
وضمن بليل غير متقن حفظها
…
وإن غلبت من غير حبس فلا يد
وإن نفرت خذ ما جنت من منفر
…
وعنه بليل ضمنن لا تقيد
ومن راكب أو قائد أو مسوقها
…
يزن مطلقًا عدوان فيها مع اليد
وطاء برجل رفس نح بدائه
…
ويضمن نفحًا هاجه كبح مقود
وعنه ليضمن سائق فعل رجلها
…
وعنه عن الرجل أعف عن غير معتد
وإن تك مع راع ومن يستعيرها
…
ومستأمن ألزمه مأربها يد
وما غير أشجار وزرع بلازم الضمان
…
ولو ليلاً سوى مع مفسد
ولا شيء فيما جوز الصول قتله
…
ومكلف أو عجمًا وبله وفوهد
ولا غرم في المقتول دفعًا لشره
…
إذا لم يفرد قاتل بالتزيد
وأن يصطدم فلكان إن غرقا معًا
…
بتضمين كل متلف الآخر أشهد
إذا فرطا بالضبط حتى تصادما
…
ومن خص بالتفريط بالغرم أفرد
ومنحدرًا ضمنه مصعدة سوى
…
مع العجز عن ضبط ودع غرم مصعد
ومن غاص مع تفريطه مال غيره
…
بماء له واعتاض إخراج مورد
ليكسر له ملغى وإن لم يفرطن
…
ليضمن رب المال نقص التشرد
وهل بذل المظروف يلزم أخذه
…
مع البذل من ذي الظرف وجهين أسند
وإن يصطدم نفسان عمدًا فموتًا
…
فذا شبه عمد ليس عمدًا بأجود
وقيل إذا ما كان يقتل غالبًا
…
فأهد لكل بالتقاصص تهتدي
وعاقل كل ضامن قتل مخطئ
…
وفي ماله التكفير مع باق مفسد
وقيمة عبد متلف وركابه
…
كذلك قدر الحر في نفس أعبد
وعبدين إن كانا فماتا فما توى
…
لفوت محل الغرم أهدره ترشد
وسائرهم ضمنه متلف واقف
…
وقد قيل لا مع ضيق موقفه قد
وأهدر على المنصوص متلف سائر
…
وقد قيل لا بل قيل مع ضيق مورد
وإن غلب المركوب راكبه فلا
…
ضمان لمال متلف في مبعد
ومن يقل انبذ رحلك أضمنه تبح
…
فالزم وفي تضمينه قسطه قد
ويكره بيع وابتياع بموطن الظلام
…
كذا غصب لقصد التزهد
ولا غرم في كسر الصليب ولا أنا
…
لجين وعين قل ولا آلة الدد
وتمزيق كتب السحر أو لمنجم
…
وشبههما من كتب محظور أعدد
وشق ظروف الخمر يا صاح مطلقًا
…
وإن نفعت في غيره في الموطد
(15)
باب في الشفعة
س 15: ما هي الشفعة؟ وما وجه مناسبتها للغصب؟ وبأي شيء ثبتت؟ وما أركانها؟ وما شروطها؟ وما الذي لا تجب به؟ وهل تسقط بالتحيل؟ ومثل له، وهل يقبل قول من ادعى ما يسقطها؟ ولأي شيء شرعت الشفعة؟ وما الذي تسقط به؟ واذكر المحترزات والتفاصيل والأمثلة والأدلة والتعليل والخلاف والترجيح.
ج: الشفعة بإسكان الفاء هي مشتقة من الزيادة والتقوية؛ لأن الشفيع يضمن المبيع إلى ملكه فيشفعه به وكأنه كان واحدًا وترًا فصار زوجًا شفعًا، وعين شافعة تنظر نظرين، وأنشد ابن الأعرابي:
ما كان أبصرني بغرات الصبا
…
فاليوم قد شفعت لي الأشباح
وأنشد ثعلب:
لنفسي حديث دون صحبي وأصبحت
…
تزيد لعيني الشخوص الشوافع
والشافع: هو جاعل الوتر شفعًا، والشفيع: فعيل بمعنى فاعل، ووجه مناسبة الشفعة للغصب تملك الإنسان مال غيره بلا رضا في كل منهما، والحق تقديمها عليه؛ لكونها مشروعة دونه؛ لكن توفر الحاجة إلى معرفته للاحتراز عنه مع كثرة وقوعه من الإستحقاق في البياعات والعقار والمنقول والأشربة والإجارات والشركات والمزارعات أوجب تقديمه.
ومن محاسن الشفعة: أن الجار ربما يكون في حاجة إلى هذه الحصة المبيعة كأن يكون بيته ضيقًا ويريد إتساعه أو تكون الأرض المشتركة بجوار مزارعه ويحتاج إليها، ومن محاسن الشفعة: التنبيه على عظم حق الجار والشريك حيث أن له الحق في التقدم على غيره في الشراء إلا إذا أسقط حقه بامتناعه عن الشراء، ومن محاسن الشفعة: دفع ضرر الجوار وهو مادة المضار، قال الله تعالى:{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا إضرار في الإسلام» ولا شك عند أحد
في حسن دفع ضرر التأذي بسبب المجاورة على الدوام من حيث إيقاد النار وإعلاء الجدار وإثارة الغبار وسائر أنواع الضرر.
ومن الفوائد المترتبة على الشفعة: أن يكون أحد الشريكين راغبًا في بيع حصته من دار أو أرض أو دكان فيأتي المشتري وربما كان عدوًا للشريك الآخر فيشتري الحصة المبيعة فيؤذي الشريك، فهذا الجوار بسبب البغض والحقد والحسد في النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا تحاسدوا ولا تباغضوا» الحديث، وربما يكون المشتري من ذوي الأخلاق الفاسدة والنفوس الشريرة فيصل الضرر إلى جاره، وربما ملّ الإنسان من ملكه، وما أحسن ما قيل:
كم معشر سلموا لم يؤذه سبع
…
وما نرى أحدًا لم يؤذه بشر
وقال الآخر:
إن السباع لتهدوا في مرابضها
…
والناس ليس بهاد شرهم أبدًا
والشفعة قبل الإجماع ثابتة بالسُّنة، فورد عن جابر قال:«قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» متفق عليه، ولمسلم قال:«قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه؛ فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع ولم يستأذنه فهو أحق به» .
وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط، والمعنى في ذلك أن أحد الشريكين إذا أراد بيع نصيبه ويمكن من بيعه لشريكه
وتخليصه مما كان بصدده من توقع الخلاص والإستخلاص، فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه لشريكه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص لشريكه من الضرر، فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه.
والشفعة في الشرع: إستحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد إن كان المتنقل إليه مثل الشفيع في الإسلام والكفر أو دون الشريك بأن كان الشريك مسلمًا، والمنتقل إليه الشقص كافرًا، ولا شفعة في الموروث والموصى به والموهوب بلا عوض ولا المجعول مهرًا أو عوضًا في خلع ونحوه أو صلحًا عن دم عمد ونحوه ولا تسقط الشفعة باحتيال على إسقاطها.
ويحرم الاحتيال على إسقاطها، قال الإمام أحمد:«ولا يجوز شيء من الحيل في إبطالها ولا إبطال حق مسلم له» ، واستدل الأصحاب بحديث أبي هريرة:«لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها، جملوه، ثم باعوه وأكلوا ثمنه» متفق عليه، ولأن الله تعالى ذم المخادعين قوله:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ، وقال عبد الله بن عمر: من يخدع الله يخدعه.
واتفق السلف على أن الحيل بدعة محدثة لا يجوز تقليد من يفتي بها، ويجب نقض حكمه ومن احتال على تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرض الله، وتعطيل ما شرعه الله كان ساعيًا في دين الله بالفساد.
وقال الشيخ رحمه الله: وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال على إسقاط الشفعة فهو باطل؛ لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر فلو شرع التحيل لإبطالها؛ لكان عودًا على إبطال مقصود الشريعة.
وقال ابن القيم: من له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله، ثم أنصف لم يشك أن تقرير الإجماع من الصحابة على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يدعى في إجماعهم، بل أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها، والمنع عنها ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسُّنة. اهـ.
ومعنى الحيلة: أن يظهروا في البيع شيئًا لا يؤخذ بالشفعة معه ويتواطئوا في الباطن على خلافه كإظهار هبة شقص مشفوع لمشتر وإظهار هبة ثمن من مشتر لبائع بعد أن تواطئوا على ذلك، أو إظهار ثمن كثير وهو قليل مثل أن شتري شيئًا يساوي عشرة دنانير بألف درهم ثم يقتضيه عنها عشرة دنانير أو يشتريه بمائة دينار ويقضيه عنها مائة درهم، أو يشتري البائع من المشتري سيارة قيمتها مائة بألف في ذمته ثم يبيعه الشقص بالألف، أو يشتري شقصًا بألف يدفع منها مائة ويبرئه البائع من الباقي وهي تسعمائة، أو يشتري جزءًا من الشقص بمائة ثم يهب له البائع باقيه، أو يعقد البيع بثمن مجهول المقدار كأن يبيعه الشقص المشفوع بصبرة يجهل قدرها، والصبرة ما جمع بلا كيل ولا وزن ولا عد، أو حفنة قراضة أو جوهرة معينة أو سلعة معينة غير موصوفة، أو بمائة درهم ولولؤة ونحو ذلك، فإن وقع ذلك في غير حيلة سقطت الشفعة، وإن تحيلا به على إسقاطها لم تسقط، ويؤخذ الشقص فيما إذا ظهر التواهب بمثل ثمن وهب للبائع إن كان مثليًا أو قيمته إن كان متقومًا.
وفي الصورة الثانية: وهي ما إذا كان قيمة الشقص عشرة دنانير وأظهر أن الثمن ألف درهم يؤخذ شقص بمثل ثمن عقد باطنًا وهو عشرة دنانير.،
وفي الصورة الثالثة: وهي ما إذا اشترى الشقص بمائة دينار وقضاه عنه مائة درهم دون المائة دينار؛ لأنها غير المقصودة.
وفي الصورة الرابعة: وهي إذا اشترى سيارة قيمتها مائة بألف في ذمته ثم باعه الشقص المشفوع بألف يؤخذ مائة درهم أو قيمتها ذهبًا؛ لأن المائة هي المقصودة دون الألف.
وفي الصورة الخامسة: وهي ما إذا اشترى شقصًا بألف ودفع منها مائة وأبراه البائع من تسع مائة يؤخذ منه مائة أو الباقي بعد الإبراء؛ لأن ما زاد عليه ليس مقصودًا حقيقة.
وفي الصورة السادسة: وهي ما إذا اشترى جزءًا من الشقص بمائة ثم وهب له البائع بقية الشقص يؤخذ أيضًا مائة لا غير؛ لأنه إنما وهبه بقية الشقص عوضًا عن الثمن الذي اشترى به الجزء.
وفي الصورة السابعة: وهي ما إذا باعه الشقص بصبرة دراهم مشاهدة مجهول قدرها حيلة أو بحفنة قراضة أو جوهرة معينة ونحوها مجهولة القيمة حيلة ومع جهل ثمن شقص فيؤخذ مثل الثمن المجهول أو من الدراهم بقيمته إذا كان جوهرة ونحوها إن كان الثمن باقيًا ولو تعذر معرفة الثمن مع الحيلة بتلف المعقود عليه أو موت العبد ونحوه المجعول ثمنًا دفع الشفيع إلى المشتري قيمة الشقص المشفوع؛ لأن الأصل في عقود المعاوضات أن يكون العوض بقدر القيمة؛ لأنها لو وقعت بأقل أو أكثر؛ لكانت محاباة والأصل عدمها.
قال في «الفائق» : ومن صور التحيل أن يقفه المشتري أو يهبه حيلة لإسقاطها فلا تسقط بذلك عند الأئمة الأربعة ويغلط ومن يحكم بها ممن ينتحل مذهب أحمد، وللشفيع الأخذ بدون حكم، انتهى. قال في القاعدة
الرابعة والخمسين: هذا الأظهر.
وإن تعذر علم قدر الثمن من غير حيلة في ذلك على إسقاط الشفعة بأن قال المشتري: لا أعلم قدر الثمن ولا بينة به، فقوله مع يمينه أنه لا يعلم قدر الثمن ويقبل قول مشتر في نفي الحيل على إسقاط الحيلة؛ لأن الأصل عدم ذلك فإن نكل قضي عليه بالنكول.
وتسقط الشفعة حيث جهل قدر الثمن بلا حيلة كما لو علم قدره عند الشراء ثم نسي؛ لأن الشفعة لا تستحق بغير البدل ولا يمكن أن يدفع إليه مالاً يدعيه ودعواه لا تمكن مع جهله.
وإن خالف أحد المتعاقدين ما تواطئا وأظهرا خلافه كما لو تواطئا على أن الثمن عشرة دنانير وأظهرا ألف درهم فطالب البائع المشتري بما أظهراه وهو الألف في المثال، فإنه يلزم المشتري دفع ما أظهره المتبايعان وهو الألف حكمًا؛ لأن الأصل عدم التواطؤ.
قال في «شرح الإقناع» : قلت: إن لم تقم بينة بالتواطؤ وله تحليف البائع أنه لم يتواطأ معه على ذلك، انتهى.
ولا يحل في الباطن لمن غر صاحبه الأخذ بخلاف ما تواطآ عليه بأن يأخذ منه زيادة؛ لأنه ظلم.
تتمة في التحذير من الحيل: قد مسخ الله تعالى أهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعًا لهم فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما
فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر، وليست بإنسان حقيقة فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن كان جزاؤهم من جنس عملهم.
وقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} قيل به أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليتعظوا بذلك فيجتنبوا فعل المعتدين، ولأن الحيلة خديعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا تحل الخديعة لمسلم» ولأن الشفعة وضعت لدفع الضرر فلو سقطت التحيل للحق الضرر فلم تسقط كما لو أسقطها المشتري عنه بالوقف والبيع وفارق ما لم يقصد به التحيل؛ لأنه لا خداع فيه ولا قصد به إبطال حق والأعمال بالنيات.
وشروط الشفعة خمسة: أحدها: كون شقص منتقل عن الشريك مبيعًا أو صلحًا عن إقرار بمال، وهو أن يقر له بدين أو عين فيصالحه عن ذلك بالشقص؛ لأنه بمعنى البيع أو يكون الشقص مصالحًا به عن جناية موجبة للمال كقتل وشبه العمد وأرش الجائفة ونحوها أو كونه هبة مشروطًا فيها الثواب فإنها بمعنى البيع؛ لأن الشفيع يأخذ بمثل الثمن الذي انتقل به إلى المشتري ولا يمكن هذا في غير البيع وألحق بالبيع المذكورات بعده؛ لأنها بيع في الحقيقة، لكن بألفاظ أخر.
ولا شفعة فيما انتقل عن ملك الشريك بغير عوض كقسمة؛ لأنها إفراز وتراض؛ لأنها لو ثبتت أحدهما على الآخر لثبت ماله عليه فلا فائدة وهبة بغير عوض وموصى به ومورث ونحوه كدخوله في ملكه بطلاق قبل الدخول بأن أصدقت امرأة أرضًا وباعت نصفها ثم طلقها الزوج قبل الدخول فإنه يرجع إليه النصف الباقي في ملكها ولا شفعة للمشتري من المرأة عليه ولا شفعة أيضًا فيما عوضه غير مال كصداق
وعوض خلع أو طلاق أو عتق كقوله: اعتق عبدك عني وخذ هذا الشقص وعوض خلع وصلح عن قود؛ لأن ذلك ليس له عوض يمكن الأخذ به فأشبه الموهوب والموروث وفارق البيع؛ لأنه يؤخذ بعوضه.
فلو جنى جنايتين عمدًا وخطأ فصالحه منهما على شقص أخذ بها في نصف الشقص أي ما يقابل الخطأ بدون باقية؛ لأن الصفقة جمعت ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه فوجبت بها فيما تجب فيه دون الآخر كما لو باع شقصًا وسيفًا.
وقيل: تجب، اختاره ابن حامد، وقال ابن شبرمة وابن أبي ليلى: لأنه مملوك بعقد معاوضة أشبه البيع، وبه قال مالك والشافعي، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن قال لأم ولده: إن خدمت ولدي حتى يستغنى فلك هذا الشقص، فخدمته إلى الفطام استحقته، ولا شفعة فيه؛ لأنه موصى به شرط.
ولا شفعة أيضًا في شقص أخذ من شريك أجرة أو جعالة أو ثمن سلم إن صح جعل العقار رأس مال سلم أو عوض كتابة؛ لأنه لا يمكن الأخذ بقيمة الشقص؛ لأنها ليست بعوضه في المسائل الأربعة ولا بقيمة مقابله من النفع والعين وأيضًا الخبر وارد في البيع، وليست هذه واردة في معناه.
ومثل ما عوضه غير مال شقص اشتراه بنحو خمر كجلود ميتة وسرجين نجس أو خنزير؛ لأن ذلك ليس بمال.
ولا شفعة فيما يرجع إلى البائع كرد شقص مشفوع بعد الشراء على بائعه بفسخ أو عيب أو مقايلة أو لغبن فاحش أو لاختلاف متبايعين في الثمن أو خيار مجلس أو شرط أو تدليس؛ لأن الفسخ رفع العقد وليس
بيعًا ولا في معناه.
ولا شفعة فيما لا يصح بيعه كأراضي مصر والشام والعراق وجميع ما وقفه عمر رضي الله عنه سوى المساكن منها، وتقدم الكلام عليها في الجزء الرابع (ص 25، 26).
الشرط الثاني: كون الشقص مشاعًا مع الشريك من عقار تجب قسمته بطلب بعض الشركاء إجبارًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الشفعة فيما لم يقسم، فأما إذا وقعت الحدود فلا شفعة» روى الشافعي.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» رواه أبو داود.
فإن قيل: إنما نفى الشفعة بصرف الطرقات وهي للجار غير مصروفة أجيب بأن الطرق التي لم تنصرف بالقسمة باستطراق المشاع الذي يستطرق به الشريك ليصل إلى ملكه، فإذا وقعت القسمة انصرف استطرافه في ملك شريكه، وأما غيره من الطرقات المستحقة فلا تنصرف أبدًا فلا شفعة لجار في مقسوم محدود لما تقدم، وأما حديث أبي رافع مرفوعًا:«الجار أحق بصقبه» رواه البخاري، فليس بصريح في الشفعة، فإن الصقب القرب.
قال الشاعر:
كوفية نازخ محلتها
…
لا أمم دارها ولا صقب
فيحتمل أنه أراد بإحسان جاره وصلته وعيادته، وحديث:«جار الدار أحق بالدار» رواه الترمذي، وحديث:«الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها إذا كان غائبًا إذا كان طريقها واحدًا» رواه الترمذي.
فقد أجيب عن الأول بوجهين، أحدهما: أنه أبهم الحق ولم يصرح به
فلم يجز أن يحمل على العموم، والثاني: محمول على أنه أحق بالفناء الذي بينه وبين الجار ممن ليس بجار أو يكون مرتفقًا به، وعن الثاني بأن الحسن رواه عن سمرة، وأهل الحديث اختلفوا في لقاء الحسن له، ومن أثبت لقاءه إياه، قال: أنه لم يرو عنه إلا حديث العقبة ولو سلم لكان عنه الجوابان المذكوران، وعن الثالث: بأن شعبة قال: سها فيه عبد الملك بن سليمان الذي الحديث من روايته.
وقال الإمام أحمد: هذا الحديث منكر، وقال ابن معين: لم يرو غير عبد الملك، وقد أنكر عليه ثم يحتمل أن المراد بالجار في الأحاديث الشريك فإنه جار أيضًا؛ لأن اسم الجوار يختص بالقريب والشريك أقرب من اللصيق، فكان أحق باسم الجوار، وقد أطلقت العرب على الزوجة جارة لقربها، قال الأعشى: أجارتنا بيني فإنك طالق، وقال حمل بن مالك: كنت بين جارتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فأطلق الجارتين وأراد بهما الضرتين، وهذا ممكن في تأويل الحديث -حديث أبي رافع-، والله سبحانه أعلم. قال العمريطي:
إن يشترك شخصان في عقار
…
كالأرض والأشجار والعقار
فاجعل لكل بيع تلك الحصة
…
وللشفيع أخذها بالشفعة
إن صح قسم ذلك العقار
…
ولا تجوز شفعة للجار
وعند أبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن سيرين: تثبت الشفعة بالجوار.
وتوسط بعض العلماء، فقال: بثبوت الشفعة للجار بشرط أن يكون بينهما طريق أو بئر أو جدار أو مسيل ماء ونحو ذلك، وهذا القول هو اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وبهذا القول يحصل الجمع بين الأحاديث الواردة في باب الشفعة، وهذا القول الذي تطمئن إليه النفس والله سبحانه أعلم.
وقال في «الشرح» : ولا شفعة في طريق نافذ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا شفعة في فناء ولا طريق مثقبة» رواه أبو عبيد في «الغريب» ، والمثقبة: الطريق الضيق بين دارين لا يمكن أن يسلكه أحد ولا شفعة في طريق مشترك لا ينفذ ببيع دار فيه بأن كان غير نافذ لكل واحد من أهله فيه باب فباع أحدهم داره التي فيه بطريقها أو باع الطريق وحده، وكان الطريق لا يقبل القسمة فلا شفعة، ولو كان نصيب مشتر للدار بطريقها أو لطريقها من الطريق أكثر من حاجته في الإستطراق إذ في وجوبها تبعيض للصفقة على المشتري وهو ضرر ومحل ذلك حيث لا باب آخر للدار المشتراة إلا ذلك الباب ولم يمكن فتح باب لها لشارع نافذ فلا شفعة للحديث السابق؛ ولحصول الضرر على المشتري بوجوبها؛ لأن الدار تبقى لا طريق لها.
وإن كان الطريق يقبل القسمة لسعته ولدار المشتري طريق آخر إلى شارع أو غيره أو لم يكن لها طريق لكن يمكن فتح باب لها إلى شارع وجبت الشفعة في الطريق المشترك؛ لأنه أرض مشتركة يحتمل القسمة فوجبت فيه الشفعة كغيره من الأرض وكالطريق المشترك الذي لا ينفذ دهليز وصحن دار مشتركان، فإذا بيعت دار لها دهليز مشترك أو بيت بابه في صحن دار مشترك ولا يمكن الإستطراق إلى المبيع إلا من ذلك الدهليز أو الصحن فلا شفعة فيهما للضرر.
وإن كان له باب آخر أو أمكن فتح باب له إلى شارع وجبت لوجوب
المقتضي وعدم المانع.
والذي تميل إليه النفس: أن الشفعة تثبت بالشركة في البئر، والطريق، ومسيل الماء، والله سبحانه أعلم.
ولا شفعة بالشرب وهو النهر أو البئر أو العين يسقي أرض هذا وأرض هذا، فإذا باع أحدهما أرضه المفردة فليس للآخر الأخذ بالشفعة بسبب حقه في الشرب، قال أحمد في روية ابن القاسم في رجل له أرش تشرب هي وأرض غيره من نهر: فلا شفعة من أجل الشرب إذا وقعت الحدود فلا شفعة.
ولا شفعة فيما لم يقسم بالطلب كحمام صغير وبئر وطرق ضيقة وعراص ضيقة ورحى صغيرة وعضادة؛ لحديث أبي عبيدة السابق؛ ولقول عثمان: لا شفعة في بئر ولا نخل، ولأن إثبات الشفعة بهذا يضر البائع؛ لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه في القسمة.
وقد يمتنع المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع.
وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها، فأما إذا أمكن قسمة ما ذكر كالحمام الكبير الواسع الذي تمكن قسمته حمامين بحيث إذا قسم لا يتضرر بالقسمة وأمكن الإنتفاع به حمامًا، فإن الشفعة تجب فيه، وكذا البئر والعضائد متى أمكن أن يحصل من ذلك شيئًان كالبئر يقسم بئرين يرتقى الماء منهما أو كان مع البئر بياض أرض بحيث يحصل البئر في أحد النصيبين وجبت الشفعة لا مكان القسمة، وهكذا كل ما أمكن قسمته.
وقيل: تجب الشفعة فيما لا تجب قسمته إختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي والشيخ تقي الدين، قال الحارثي: وهو الحق؛ لما روى ابن عباس
-رضي الله عنهما مرفوعًا: «الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء» رواه الترمذي والنسائي متصلاً ومرسلاً، وهو أصح قاله الدارقطني، والذي أصله أبو حمزة السكري، وهو مخرج عنه في «الصحيحين» ، ولأنها وضعت لإزالة الضرر ووجود الضرر فيما لم يقسم أبلغ، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ولا شفعة فيما ليس بعقار كشجر وبناء مفرد عن أرض ولا تجب الشفعة في حيوان وجوهر وسفينة، قلت: والذي يترجح عندي أن السفينة والسيارة والمركب أن فيها الشفعة نظرًا للمعنى الذي أثبت الشارع الشفعة فيه للشريك وهو إزالة الضرر وهو موجود في هذه، والله سبحانه أعلم.
ولا شفعة في زرع وثمر وسيف وكل منقول؛ لأن شرط وجوبها أن يكون البيع مما يبقى ويطول ضرر، وهذا لا يطول بخلاف الأرض ويؤخذ غراس وبناء بالشفعة تبعًا للأرض؛ لحديث قضائه عليه الصلاة والسلام بالشفعة في كل مشترك لم يقسم ربعة أو حائطًا، وهذا يدخل فيه البناء والأشجار والربع جمع ربوع وأربع المنزل، قال الشماخ:
تصيبهم وتخطئني المنايا
…
وأخلف في ربوع عن ربوع
وقال ذو الرمة:
الأربع الدهم اللواتي كأنها
…
بقية وحي في بطون الصحائف
والربع الدار بعينها، قال زهير:
فلما عرفت الدار قلت لربعها
…
ألا أنعم صباحًا أيها الربع واسلم
وقال المتنبي:
بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا
…
وجدت بي وبدمعي في مغانيكا
والحائط البستان من النخل إذا كان عليه حائط وهو الجدار وجمعه حوائط، وكذا نهر وبئر وقناة ودولاب فتؤخذ الشفعة تبعًا للأرض لا مفردة، ولا يؤخذ بالشفعة تبعًا ولا مفردًا ثمر ظهر ولا زرع؛ لأنهما لا يدخلان في البيع.
فإن بيع الشجر مع الأرض التي فيها الشفعة وأخذ الشجر تبعًا للأرض بالشفعة، وفيه ثمر غير ظاهر كالطلع غير المتشقق دخل الثمر في المشفوع تبعًا له حيث أخذه الشفيع قبل التشقق؛ لأنه يتبع في البيع فتبع في الشفعة فيدخل في القاعدة المشهورة: يثبت تبعًا ما لا يثبت إستقلالاً.
وإن لم يأخذه حتى تشقق بقي الثمر لمشتر إلى أوان أخذه وإن باع علوًا من دار وكان ذلك العلو مشتركًا والسقف الذي تحته لصاح العلو، فلا شفعة في العلو؛ لأنه بناء مفرد ولا شفعة أيضًا في السقف؛ لأنه لا أرض له فهو كالأبنية المفردة، فإن باع سفلاً مشتركًا بين إثنين فأكثر والعلو خالص لأحد الشريكين فباع رب العلو نصيبه من السفل ثبتت الشفعة في السفل فقط دون العلو لعدم الشركة فيه.
فيما يتعلق بالشفعة من النظم
تبارك من في طي أحكامه له
…
يرى حكمًا قلب اللبيب المسدد
ففي الضر والإضرار يقضي على الفتى
…
بما أن طرا يقضي له في المجدد
فمن حكم الأحكام إيجاب شفعة
…
لكل شريك خائف من تنكد
فيملك أخذ الشقص من مشتر من
…
الشريك بما قرر بحتم التعقد
ولم يجب إلا في عقار محتم
…
تقاسمه أن بيع في المتوطد
وعنه يجب في كل مال ولو من
…
النقل إلا ممكنًا قسمه قد
ولا شفعة فيما بلا عوض قني
…
كإرث وإيصاء وبذل مجود
وما اعتاضه عن غير مال بأجود
…
كخلع نكاح صلح قتل تعمد
فإن توجبن خذه بقيمته تصب
…
وقيل بقيمة ما يقابله جد
ولا شفعة فيما اشترى إثنان صفقة
…
لكل ولا مع جهل سبق اقتنا اليد
ولا في حقوق الأرض من دون عينها
…
ولا في شريك الوقف في ذا بأوطد
ولا في مبيع في زمان الخيار للجميع
…
وفرد منهما في الموطد
ويؤخذ غرس والبنا تبعًا وفي
…
ثمار بدت والزرع لا في المجود
ويحرم كيد للسقوط ولم يفد
…
ولا شفعة للجار كره وأبعد
فيأخذ في المثلي بمثل قضى فقط
…
وقيمة غير أو لشقص متى ردي
ولا شفعة في واقع دون حيلة
…
ومبتاعه أقبل منه جحد التكيد
(16)
شروط الشفعة وألفاظ طلبها وبعض الألفاظ التي تسقطها والتي لا تسقطها وما يتعلق بذلك
س 16: تكلم بوضوح عن الشرط الثالث من شروط الشفعة مبينًا حكم تأخيرها، وما صفة لفظ طلب الشفعة؟ وبأي شيء يملك الشقص؟ ومتى يصح التصرف في الشقص المشفوع؟ وهل تشترط رؤيته لأخذه؟ وإذا لم يجد الشفيع من يشهده أو كذب المخبر له أو قال لمشتر بعينه، أو أكرنيه أو صالحني أو اشتريت رخيصًا أو عمل دلالاً بينهما أو توكل لأحدهما أو جعل للشفيع الخيار فاختار إمضاءه أو رضي بالبيع أو ضمن الشفيع للبائع الثمن أو سلم عليه أو دعا له بعده أو أسقطها قبل البيع أو ترك شفعة موليه أو كان من له حق الشفعة مفلسًا أو مكاتبًا أو باع أو ترك شفعة موليه أو كان من له حق الشفعة مفلسًا أو مكاتبًا أو باع ولي محجورين لأحدهم نصيبًا في شركة أو كان وكيل بيت المال، واذكر الدليل والتعليل والمحترز والقيد والخلاف والترجيح.
ج: الشرط الثالث: للشفعة المطالبة بها على الفور ساعة يعلم بالبيع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الشفعة لمن واثبها» رواه الفقهاء في كتبهم، ورده الحارثي بأنه لا يعرف في كتب الحديث.
ولقوله الشفعة: «كحل العقال» رواه ابن ماجه، وفي لفظ:«كنشط العقال» إن قيدت تثبت وإن تركت فاللوم عن من تركها؛ لأنه خيار لدفع الضرر عن المال، فكان على الفور كخيار الرد بالعيب، ولأن إتيانه على التراخي المشتري؛ لكونه لا يستقر ملكه على المبيع ويمنعه من التصرف
بعمارة المبيع خشية أخذه منه ولا يندفع عنه الضرر بأخذ قيمته.
لأن خسارتها في الغالب أكثر من قيمتها مع تعب قلبه وبدنه فيها، والتحديد بثلاثة أيام تحكم لا دليل عليه، والأصل المقيس عليه ممنوع.
وقيل: أن الشفعة على التراخي لا تسقط ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا من عفو أو مطالبة بقسمة ونحو ذلك، وهذا قول مالك وقول الشافعي، إلا أن مالكًا قال: تنقطع بمضي سنة.
وقيل: بمضي مدة يعلم أنه تارك لها؛ لأن هذا الخيار لا ضرر في تراخيه فلم يسقط بالتأخير كحق القصاص.
وقيل: بثلاثة أيام بقدر الخيار وهو قول للشافعي، ويحكى عن ابن أبي ليلى والثوري والذي تطمئن إليه النفس القول الثاني، وهو قول من يقول: إنها على التراخي لا تسقط إلا بما يدل على السقوط، والله سبحانه أعلم.
صورة طلب شفعة الجوار حضر إليّ شهوده في يوم تاريخه كذا وكذا فلان ابن فلان وأشهد عليه أنه لما بلغه أن شريكه فلان باع من فلان النصف الشائع من جميع الدار أو البستان الفلاني التي يملك الحاضر المذكور النصف الآخر منه أو منها، ويحدد بثمن مبلغه كذا وكذا بادر مسرعًا من غير تأخر ولا إهمال وطلب الشفعة في المبيع المعين أعلاه وأشهد عليه بالطلب للشفعة في إشهادًا شرعيًا فلانًا وفلانًا.
فإن أخر الشفيع الطلب بالشفعة عن وقت العلم لغير عذر بطلت شفعته وإن أخر الطلب للشفعة لشدة جوع أو عطش أو أخره المحدث لطهارة أو لإغلاق باب أو ليخرج من حمام أو أخر طلبها حاقن أو حاقب أو حاقز أو أخره مؤذن ليؤذن أو يقيم الصلاة أو أخر الطلب ليشهد الصلاة في جماعة يخاف فوتها باشتغاله بطلب الشفعة.
أو انخرق ثوبه أو سقط منه مال فأخره أو أخره من علم ليلاً حتى يصبح مع غيبة مشتر أو أخر الطلب لفعل صلاة وسننها لم تسقط؛ لأن العادة تقديم هذه الحوائج ونحوها على غيرها فليس الإشتغال بها رضي بترك الشفعة إذ الفور المشروط حسب العرف والعادة.
وكذا إن أخر الطلب جهلاً بأن التأخير مسقط للشفعة ومثله يجهله لم تسقط؛ لأن الجهل مما يعذر به أشبه ما لو تركها لعدم عله بها بخلاف ما ل تركها جهلاً باستحقاقه لها أو نسيانًا للطلب أو البيع، والذي تميل إليه نفسي أنه إذا كان جاهلاً أن له الشفعة أو نسي أن يشفع أن له ذلك؛ لأنه معذور، والله سبحانه أعلم.
أو أشهد بطلبه غائب أو محبوس لم تسقط شفعته؛ لأن إشهاده به دليل رغبته وأنه لا مانع له منه إلا قيام العذر، فإن لم يشهد سقطت؛ لأنه قد يترك الطلب للعذر وقد يتركه لغيره وسواء قدر على التوكيل فيه أو لا إذا التوكيل إن كان بجعل فيه غرم، وإن كان بتبرع ففيه منة وقد لا يثق به.
وتسقط الشفعة إذا علم الشريك بالبيع وهو غائب عن البلد بسيره هو أو وكيله إلى البلد الذي فيه المشتري في طلب الشفعة بلا إشهاد قبل سيره مع التمكن منه قبل سيره؛ لأن السير يكون لطلب الشفعة ولغيره، وقد قدر أن يبين كون سيره لطلب الشفعة بالإشهاد عليه، فإن لم يفعل سقطت كتارك الطلب مع حضوره وتقدم القول الذي تطمئن إليه النفس وأنها على التراخي لا تسقط إلا بما يدل على السقوط، والله أعلم، ولا تسقط الشفعة بسير الشريك حاضر بالبلد.
ولا يلزم الشفيع أن يسرع في مشيه، بل يمشي على عادته ولا يلزم أن يحرك دابته أو يسرع بسيارته أو دراجته فوق العادة؛ لأن الطلب المشروط هو
الطلب بما جرت به العادة، وإن لقي الشفيع المشتري فسلم عليه ثم طالبه لم تسقط بالسلام؛ لأنه السُّنة، وفي الحديث:«من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه» رواه الطبراني في «الأوسط» وأبو نعيم في «الحلية» من حديث ابن عمر.
وإن قال الشفيع بعد السلام متصلاً به بارك الله في صفقة يمينك، أو قال بعد السلام: جزاك الله خيرًا أو غفر لك، لم تبطل الشفعة؛ لأن ذلك يتصل بالسلام فهو من جملته والدعاء بالبركة في الصفقة دعاء من الشفيع لنفسه؛ لأن الشخص يرجع إليه إذا أخذه بالشفعة فلا يكون ذلك الدعاء رضي بترك الشفعة.
فإن اشتغل الشفيع بكلام غير الدعاء أو سكت بلا عذر بطلت الشفعة لفوات شرطها وهو الفور وتقدم القول الذي تطمئن إليه النفس وأن حق الشفعة كسائر الحقوق لا يسقط إلا بما يدل على السقوط.
ويملك الشفيع الشقص بالمطالبة ولو لم يقبضه مع ملاءته بالثمن؛ لأن البيع السابق سبب فإذا انضمت إليه المطالبة كان كالإيجاب في البيع إذا انضم إليه القبول.
ولفظ الطلب أن يقول الشفيع: أنا طالب بالشفعة أو أنا مطالب بالشفعة أو أنا آخذ بالشفعة، أو أنا قائم على الشفعة ونحوه مما يفيد محاولة الأخذ بالشفعة كتملكت الشقص أو انتزعته من مشتريه أو ضممته إلى ما كنت أملكه من العين ويملك الشقص بذلك فيورث عنه إذا مات بعد الطلب كسائر أملاكه.
ويصح تصرفه فيه وإن لم يقبضه حيث كان قادرًا على الثمن الحال ولو بعد ثلاثة أيام.
ولا تشترط لملك الشفيع الشقص المشفوع رؤيته لأخذه بالشفعة قبل
التملك، قال في «التنقيح»: ولا يعتبر رؤيته قبل تملكه.
ولا يعتبر لا انتقال الملك إلى الشفيع رضى مشتر؛ لأنه يؤخذ منه قهرًا والمقهور لا يعتبر رضاه وإن لم يجد غائب عن البلد من يشهده على الطلب أو وجد من تقبل شهادته كامرأة أو فاسق وغير بالغ أو وجد مستوري الحال فلم يشهدهما لم تسقط؛ لأنه معذور بعدم قبول شهادتهما وإن وجد واحدًا فأشهده لم تسقط أيضًا؛ لأن شهادة العدل يقضي بها مع اليمين أو أخر الشريك الطلب، والإشهاد عجزًا عنهما كمريض أخرهما عجزًا عن السير إلى المشتري ليطالبه وإلى من يشهده على أنه مطالب لم تسقط، وأما إن كان به مرض يسير كصداع وألم قليل فلا يعذر بتأخير الطلب والإشهاد؛ لأن ذلك لا يعجزه عنهما.
ولا تسقط بتأخير محبوس ظلمًا إن عجز عن الطلب والإشهاد؛ لأن التأخير ليس من جهته.
ولا تسقط إن أخر الطلب والإشهاد لإظهار البائع والمشتري أو أحدهما أو مخبر الشفيع زيادة ثمن على ما وقع عليه العقد أو غير جنسه كإظهارهما أنهما تبايعا بدينار فظهر أنه بدراهم أو بالعكس أو أظهر أنه اشتراه بنقد تبايعًا بدنانير فظهر أنه بدراهم أو بالعكس أو أظهر أنه اشتراه بنقد فبان أنه اشتراه بعرض أو أظهر أنه اشتراه بعرض فبان أنه اشتراه بنقد أو أظهر أنه اشتراه بنوع من العروض فبان أنه اشتراه بغيره.
أو أظهر أنه اشترى الكل بثمن فظهر أنه اشترى نصفه بنصفه أو أظهر أنه اشترى نصفه بثمن فبان أنه اشترى جميعه بضعفه أو أظهر أنه اشترى الشقص وحده فبان أنه اشتراه وغيره أو أظهر أنه اشترى الشقص وغيره فبان أنه اشتراه وحده أو لإظهار أحد ممن ذكر نقص مبيع.
أو أظهر أن المبيع موهوب أو أظهر المشتري أن المشتري غيره فبان أنه
هو المشتري أو أظهر أنه اشتراه لإنسان فبان أنه اشتراه لغيره أو أخر شفيع الطلب، والإشهاد عليه لتكذيب مخبر له يقبل خبره فهو في كل الصور هذه على شفعته إذا علم الحال فلا يكون ذلك مسقطًا لشفعته؛ لأنه معذور أو غير عالم بالحال على وجهه كما لو لم يعلم مطلقًا، ولأن خبر من لا يقبل خبره مع عدم تصديق شفيع له وجوده كعدمه، فإن صدقه سقطت شفعته لإعترافه بوقوع البيع وتأخيره كما لو أخبره ثقة فلم يصدقه، فأما إن أظهر المشتري أنه اشتراه بثمن فبان أنه اشتراه بأكثر فلا شفعة؛ لأن من لا يرضى بالقليل لا يرضى بأكثر منه، وكذا إذا أظهر أنه اشترى الكل بثمن فبان أنه اشترى به البعض سقطت شفعته؛ لأن من لا يرضى بأخذ الشقص كله بذلك الثمن لا يرضى بأخذ بعضه وتسقط شفعته إن كذب مخبرًا له مقبولاً خبره ولو واحدًا؛ لأنه خبر عدل يجب قبوله في الرواية والفتيا والأخبار الدينية أشبه ما لو أخبره أكثر من عدل، وقيل: إن كان قد أخبره عدلان سقطت شفعته؛ لأنه أخبره من يثبت بقوله الحقوق، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
وإن قال شفيع لمشتر لشقص بعينه أو أكرنيه أو قاسمني أو صالحني عنه أو قال: هبه لي أو ائتمني عليه أو بعه من شئت أو أعطه لمن شئت أو ولَّهِ إياه ومثله قوله للمشتري: اشتريت غاليًا أو بأكثر مما أعطيت أنا؛ لأن هذا وشبهه دليل رضاه بشرائه وتركه للشفعة.
وإن قيل له: شريك باع من زيد، فقال: إن باعني زيد وإلا فلي الشفعة كان ذلك كقوله لزيد يعني ما اشتريت أو حبس بحق فلم يبادر بالطلب للشفعة أو يوكل في طلبها بأن قدر عليه فلم يفعله سقطت؛ لعدم عذره في التأخير، وتقدم القول الذي تطمئن إليه النفس، وأنه لا يسقط حقه إلا بما يدل على السقوط دلالة واضحة، والله أعلم.
ولا تسقط الشفعة إن عمل الشريك سفيرًا بين شريكه والمشتري، ويقال له: الدلال، قال ابن سيده: ما جعلته للدليل والدلال لم تسقط شفعته، وكذا لو توكل الشفيع لأحدهما في البيع أو جعل للشفيع الخيار في البيع فاختار إمضاء البيع فرضي الشريك بالبيع أو ضمن ثمن الشقص المبيع لم تسقط؛ لأن ذلك بسبب ثبوت الشفعة فلا تسقط به كالإذن في البيع أو أسقط الشفعة قبل البيع لم تسقط؛ لأن المسقط لها إنما هو الرضي بعد وجوبها ولم يوجد كما لو أبرأه مما يستقرضه له، وقيل: تسقط، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله وصاحب «الفائق» ، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
وإن قال لشريكه: بع نصف نصيبي مع نصف نصيبك ففعل ثبتت الشفعة لكل واحد منهما، وإن ترك الولي شفعة للصبي فيها حظ لم تسقط وله الأخذ بها إذا كبر وصار أهلاً، واختاره الشيخ تقي الدين وغيره، وقيل: لا تسقط مطلقًا وله الأخذ بها إذا كبر، وهذا المذهب نص عليه؛ لأن حق الأخذ ثبت فلا يسقط بترك غيره كوكيل الغائب، وقيل: لا يأخذ المحجور عليه بعد أهليته إلا إن كان فيها حظ له وعليه الأكثر، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ويجب على ولي صغير أو مجنون أو سفيه الأخذ بالشفعة لمحجور عليه مع حظ بأن كان الشراء رخيصًا أو بثمن المثل وللمحجور عليه مال يشتري منه ولو بعد عفو الولي؛ لأن عليه الاحتياط وفعل الأحظ له فإن ترك الولي الأخذ حينئذ فلا غرم عليه؛ لأنه لم يفوت شيئًا من ماله.
وإن لم يكن في الأخذ بالشفعة حظ للمحجور عليه كما لو غبن المشتري أو كان الأخذ بها يحتاج إلى أن يستقرض ويرهن مال المحجور عليه حرم على الولي الأخذ وتعين عليه الترك كسائر ما لاحظ فيه لموليه،
ولم يصح الأخذ بالشفعة حينئذ فيكون باقيًا على ملك المشتري.
صورة تسليم الحصة للمحجور عليه بشفعة الخليط بتصديق المشتري، يكتب في ظ اهر كتاب التبايع، حضر إليَّ شهودة فلا الوصي الشرعي على اليتيم الصغير الفلاني بموجب الوصية الشرعية المسندة إليه من والد الصغير المذكور المحضرة للشهود المؤرخ باطنها بكذا الثابت مضمونها مع ما يعتبر ثبوته شرعيًا بمجلس الحكم العزيز وأحضر معه فلانًا المشتري المذكور واعترف أنه تسلم منه لليتيم المذكور أعلاه جميع الحصة المبيعة من الدار المحدودة الموصوفة باطنه التي يملك اليتيم المذكور منها الباقي ملكًا شرعيًا بتاريخ متقدم على تاريخ كتاب التبايع المسطر باطنه تسلمًا شرعيًا ودفع إليه نظير الثمن المعين باطنه من مال اليتيم المذكور ومبلغه كذا وكذا فقبضه منه قبضًا شرعيًا بعد أن ترافعا بسبب ذلك إلى مجلس الحكم وادعى الوصي المذكور لمحجوره اليتيم المذكور أعلاه على المشتري المذكور باطنه بشفعة الخلطة بالطريق الشرعي، وبعد ثبوت ملكية اليتيم المذكور للنصف الباقي من الدار المذكورة وأن الثمن المبذول المعين أعلاه ثمن المثل للحصة المعينة أعلاه وأن لليتيم المذكور حظًا، ومصلحة في ذلك الثبوت الشرعي والحكم لليتيم المذكور بذلك واعتبار ما يجب اعتباره شرعًا وصدقة المشتري المسمى باطنه على ذلك كله تصديقًا شرعيًا وأقر أنه لا يستحق مع اليتيم المذكور أعلاه في ذلك ولا في شيء منه حقًا ولا دعوى ولا طلبًا بوجه ولا سبب ولا ملكًا ولا شبهة ملك ولا ثمنًا ولا مثمنًا ولا منفعة ولا استحقاق منفعة ولا شيئًا قل ولأجل لما مضى من الزمان وإلى يوم تاريخه ويؤرخ.
ولا يأخذ ولي حمل مات مورثه كأبيه قبل المطالبة بالشفعة وإن طالب المورث قبل موته فيورث عنه الشقص كسائر تركته وإن عفى الولي
عن الشفعة التي فيها حظ لموليه ثم أراد الولي الأخذ بها فله ذلك؛ لعدم صحة عفوه عنها وإن أراد الولي الأخذ في ثاني الحال وليس فيها مصلحة لموليه لم يملك الأخذ بالشفعة؛ لعدم الحظ.
وإن تجدد الحظ للمحجور عليه أخذ الولي بها؛ لعدم سقوطها بالتأخير وحيث أخذها الولي مع الحظ لموليه ثبت الملك في المشفوع للمحجور عليه وليس له نقضه بعد البلوغ أو العقل أو الرشد كسائر تصرفات الولي اللازمة.
وحكم المغمى عليه والمجنون غير المطبق حكم المحبوس والغائب تنتظر إفاقتهما؛ لأنهما معذوران ولا تثبت الولاية عليهما وحكم ولي المجنون المطبق وهو الذي لا ترجى إفاقته حكم ولي الصغير فيما سبق.
وحكم ولي السفيه حكم ولي الصغير فيما تقدم، ولمفلس الأخذ بالشفعة وله الترك؛ لأنه مكلف رشيد وليس للغرماء إجباره على الأخذ بالشفعة.
ولو مع حظ له في الأخذ؛ لأن الحق له فلا يجبر على استيفائه، وكذا المكاتب له الأخذ بالشفعة والترك كالحر وللمأذون له من الأرقاء في التجارة الأخذ بالشفعة دون الترك؛ لأن الحق فيها لسيده لا له فهو كولي المحجور عليه وإذا باع ولي محجورين لأحدهم نصيبًا في شركة الآخر فللولي الأخذ للآخر بالشفعة؛ لأنه كالشراء له.
وإن كان الولي شريكًا لمن باع عليه من المحجور عليهم الشقص المشفوع فليس للولي الأخذ بالشفعة؛ لأنه متهم في بيعه، ولأنه بمنزلة من يشتري لنفسه من مال يتيمه سوى أب باع شقص ولده من أجنبي فله الأخذ بالشفعة لنفسه؛ لعدم التهمة، ولذلك كان له أن يشتري من نفسه مال ولده.
ولو باع الولي نصيبه من شخص آخر أخذ لموليه ذلك النصيب بالشفعة وليس له الأخذ إلا مع الحظ لموليه؛ لأن التهمة منتفية، فإنه لا يقدر على الزيادة في ثمنه؛ لكون المشتري لا يوافقه، ولأن الثمن حاصل من المشتري كحصوله من اليتيم بخلاف بيعه مال اليتيم، فإنه يمكنه تقليل الثمن ليأخذ الشقص به.
وإذا رفع الأمر إلى الحاكم فباع فللموصي الأخذ حينئذ؛ لعدم التهمة ولوكيل بيت مال أخذ شقص مشترك مات أحد الشريكين ثم باع الشريك نصيبه بالشفعة حيث لا وارث للميت وإذا أخذه يضمنه إلى ما بيده من أموال المسلمين؛ لتصرف فيما أعدت له.
من النظم حول ما يتعلق بالفورية للأخذ بالشفعة
وفي الفور أخذ الشقص ساعة عله
…
بإشهاد أخذ أو بسعي معود
إلى مشتر أو حاكم يبتغي فإن
…
يؤخر بلا عذر سقط في المؤكد
وعنه تراخي الأخذ ما لم يبن رضى
…
بترك ووجه مجلس العلم قيد
ومرج لعذر حل إن غاب مشترٍ
…
متى يسع من بعد الفراغ ليسعد
وفي مشهد راجي التطلب ممكنًا
…
وساع ولم يشهد لوجهين أسند
وإن لم يواتي السير للأخذ مشهدًا
…
ولا وكل إن واتي نزل في المجود
وإن قدم الثاني وإن طال عهده
…
فيعلم فيطلها أعنه وأسعد
وأهمل بإهمال المصدق مخبرًا
…
وتكذيب عدليه لعدل بمبعد
وعبد كحر والنساء مثلنا هنا
…
في الأجود إذ ذا مخبر غير مشهد
وتكذيبه من ليس يقبل قوله
…
ولو كثر النقال ليس بمفسد
وترك لعذر أو لإظهارهم له
…
خلاف صفات العقد غير مصدد
لحبس وسقم وادعًا جهل مسقط
…
موات وعجز عن وكيل وشهد
فإن قاسموا المعذور أو نائبًا له
…
لإظهارهم ذا فاستبان الذي ابتدي
(17)
حكم التصرف في الشقص المشفوع وتلفه وكرنه
لعدة شركاء وترك بعضهم وتحيله واستغلاله
…
إلخ
س 17: ما هو الشرط الرابع من الشروط للأخذ بالشفعة؟ وإذا طلب الشفيع أخذ بعض الشقص أو تصرف المشتري بالمبيع قبل أخذ الشفيع أو تلف بعض المبيع فما الحكم؟ وما صورة ذلك؟ وإذا كانت الشفعة بين شركاء فكيف تكون؟ ولماذا؟ وهل لها مماثل؟ ومثل لذلك، وإذا ترك بعض الشركاء حقه من الشفعة فهل الباقين يأخذوا على قدر أملاكهم أم يأخذوا الجميع؟ وعلل لما يحتاج إلى تعليل، وإذا ترك بعضهم أخذه بها حيلة لظنه عجز المتروك له فما الحكم؟ وإذا كان المشتري شريكًا في العقار وثم شريك آخر أو وهب أحد الشفعاء شفعته أو كان غائبًا أو خرج الشقص مستحقًا أو قدم أحد الشركاء وقد أخذ الحاضر الغلة قبل قدومه فما الحكم؟ واذكر الأمثلة والتفاصيل والقيود والأدلة والتعاليل والمحترزات والخلاف والترجيح.
ج: الشرط الرابع للأخذ بالشفعة أخذ الشريك جميع الشقص المبيع فلا تتبعض الصفقة لئلا ينضر المشتري بتبعضها في حقه بأخذ بعض المبيع مع أن الشفعة تثبت على خلاف الأصل دفعًا لضرر الشركة فإذا أخذ البعض لم يندفع الضرر.
فإن طلب الشريك بعض المبيع مع بقاء الكل سقطت شفعته؛ لأن حق الأخذ إذا سقط بالترك في البعض سقط في الكل كعفوه عن بعض قود يستحقه.
وإن تلف بعض الشقص المبيع كانهدام بيت من الدار التي بيع بعضها بسبب آدمي أو أمر سماوي وسواء كان المتلف له المشتري أو غيره وأراد الشفيع الأخذ بالشفعة أخذ باقي الشقص بحصته بعد ما تلف من ثمن جميع الشقص، فإن كان المبيع نصف دار وقيمة البيت المنهدم منها نصف قيمتها أخذ الشفيع الشقص فيما بقي من الدار بنصف ثمنه ثم إن بقيت الأنقاض أخذها مع العرصَة وما بقي من البناء بحصته وإن عدمت أخذ ما بقي من البناء مع العرصة بالحصة؛ لأنه تعذر عليه أخذ كل المبيع بتلف بعضه فجاز له أخذ الباقي بحصته كما لو كان معه شفيع آخر.
وإن نقصت القيمة مع بقاء صورة المبيع كانشقاق الحائط وبورا الأرض وهو عدم زرعها فليس له الأخذ إلا بكل الثمن وإلا ترك فلو اشترى شقصًا بألف يساوي ألفين فباع بابه أو هدمه فبقي بألف أخذه
الشفيع بخمسمائة بالحصة من الثمن.
والشفعة بين شفعاء على قدر أملاكهم؛ لأنها حق نشأ بسبب الملك فكانت على قدر الأملاك كالغلة.
وأثبت للجمع باشتراك
…
ووزعت بنسبة الأملاك
وقيل: تكون الشفعة بين الجمع على عدد رؤوسهم ولا يعتبر اختلاف الأملاك؛ لأنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الإتصال فيستوون في الإستحقاق ألا ترى أنه لو انفرد واحد منهم استحق كل الشفعة وهذا آية كمال السبب وكثرة الإتصال تؤذن بكثرة العلة والترجيح يقع بقوة في الدليل إلا بكثرته ولا قوة هاهنا لظهور الأخرى بمقابلته، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فدار بين ثلاثة لواحد نصف وللثاني ثلث والثالث سدس، باع صاحب الثلث نصيبه، فأصل المسألة من ستة مخرج الكسور بين صاحب النصف والسدس على أربعة لبسط النصف ثلاثة ولبسط السدس واحد فلصاحب النصف ثلاثة، ولرب السدس واحد، ولا يرجع أقرب الشفعاء على أبعدهم ولا ذو قرابة من الشفعاء على أجنبي؛ لأن القرب ليس هو سبب الشفعة، ولو باع صاحب النصف في المثال الأول فهو بينهما ثلاثة لصاحب الثلث إثنان ولصاحب السدس واحد.
وتتصور الشفعة في دار كاملة وهي إما بإظهار ثمن زائد كثيرًا بحيث تترك الشفعة معه كأن تكون دور مشتركة بين جماعة فيبيع أحدهم حصته من الجميع مشاعًا ويظهر أنه باع بثمن كثير لترك الشفعة لأجله، ويقاسم بالمهايات فيحصل للمشتري دار كاملة ثم يتبين الحال فيأخذها الشفيع أو تكون دور جماعة مشتركة فيبيع أحدهم حصته من الجميع مشاعًا
ويظهر انتقال الشقص من جميع الأملاك بالهبة فيقاسم المشتري شركاءه فيحصل له دار كاملة فيأخذها الشفيع ويتصور أن تكون الشفعة في دار كاملة بترك وكيل شريكًا في استيفاء حقوقه أو بترك ولي محجور عليه الأخذ بالشفعة وقسمت بالمهاياة فخرج نصيب مشتر دارًا كاملة، وبيان ذلك أن يوكل الشريك وكيلاً باستيفاء حقوقه ويسافر فيبيع شريكه أو شريك المحجور عليه حصته في جميع الدور المشتركة فيرى الوكيل أو الولي أن الحظ لموكله أو لموليه في ترك الشفعة فلا يطالب بها ويقاسم المشتري الوكيل بحسب وكالته أو الولي بحسب ولايته فيحصل للمشتري دار كاملة فهدمها أو باع بابها فنقصت كما تقدم ثم حضر الشفيع أو رشد المحجور عليه وعلم مقدار الثمن بالبينة أو بإقرار المشتري فله الأخذ بالشفعة.
ولو تعيب مبيع بعيب ينقص الثمن مع بقاء عينه كما لو انشلخ الجدار أو تصدع الحجر أو بارت الأرض فليس للشفيع الأخذ إلا بكل الثمن أو يترك؛ لأنه لم يذهب من المبيع شيء حتى ينقص من الثمن.
وإسقاط بعض الثمن إضرار بالمشتري والضرر لا يزال بالضرر؛ ولهذا قالوا: لو بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه، ولو زاد المبيع زيادة متصلة دخلت في الشفعة قاله في «المغني» .
ومن له حق في الشفعة إذا ترك الطلب والأخذ بترك كالمدعي إذا سكت عن دعواه ترك إلا أن يكون ترك الأخذ بها حيلة ليلزم بالشفعة كله غيره من الشفعاء مع اعتقاد التارك عجز المتروك له الشقص عن أخذه كله فيترك الشقص جميعه؛ لأنه ليس له أخذ البعض لتبعض الصفقة على المشتري، فإذا وجده التارك أعرض عنه يرجع هو ليأخذه جميعه لنفسه فيحرم عليه التحيل لذلك ويؤمر بأخذ حصته فقط ويرجع العاجز عن أخذ الجميع
بأخذ مقدار حصته ويدفع للمشتري قدر ما خصه من الثمن.
ومع ترك البعض من الشركاء حقه من الشفعة لم يكن للباقي الذي لم يترك حقه أن يأخذ بالشفعة إلا كل المبيع أو يترك الكل، قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على هذا؛ لأن في أخذ البعض إضرارًا بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه، والضرر لا يزال بالضرر كما لو كان بعض الشفعاء غائبًا، فإنه ليس للحاضر إلا أخذ الكل أو تركه؛ لأنه لم يعلم الآن مطالب سواه.
ولو كان المشتري للشقص شريكًا في العقار وثم شريك آخر استقر لمشتر من الشقص بحصته؛ لأنهما تساويا في الشركة فتساويا في الشفعة كما لو كان المشتري غيرهما فإن عفا عن شفعته ليلزم بالشقص كله غيره من الشركاء لم يصح عفوه، ولم يصح الإسقاط؛ لأن ملكه قد استقر على قدر حقه وجرى مجرى الشفيعين إذا أخذ الجميع فلما حضر الآخر وطلب حقه، فقال الآخذ للجميع لشريكه: خذ الكل أودعه.
ومن وهب من الشفعاء كل الشقص المشفوع أو يتركه؛ لأنه لا يعلم مطالب سواه ولا يمكن تأخير حقه إلى قدوم الغائب؛ لما فيه من إضرار المشتري، فلو كان الشفعاء ثلاثة فحضر أحدهم وأخذ جميع الشقص ملكه ولا يؤخر بعض ثمنه ليحضر غائب فيطالب؛ لأن الثمن قد وجب عليه فلم يملك تأخيره، فإن أصر على الإمتناع من إبقائه فلا شفعة له، كما لو أبى أخذ جميع المبيع.
والغائب من الشفعاء على حقه من الشفعة للعذر، فإذا حضر الشريك
الغائب قاسم شريكه الحاضر إن شاء أو عفا فيبقى الشقص للأول؛ لأن المطالبة إنما وجدت منهما، فإذا حضر ثالث بعد أن قاسم الثاني الأول قاسمهما إن شاء الأخذ بالشفعة وبطلت القسمة الأولى؛ لأنه تبين أن لهما شريكًا لن يقاسم ولم يأذن وإن عفا الثالث عن شفعته بقي الشقص للأولين؛ لأنه لا مشارك لهما.
وإن خرج شقص مشفوع مستحقًا وقد أخذ الأول ثم الثاني ثم الثالث منهما، فالعهدة على المشتري؛ لأن الشفعة مستحقة بعد الشراء وحصول الملك للمشتري فكانت العهدة عليه.
يرجعون الثلاثة على المشتري ولا يرجعون على بعضهم بشيء، ولو قال ثاني لأول حين قدومه من غيبته لا آخذ إلا قدر نصيبي فله ذلك؛ لأنه اقتصر على بعض حقه، وليس فيه تبعيض للصفقة على المشتري والشفيع دخل على أن الشفعة تتبعض عليه.
ولا يطالب غائب شريكه الذي سبقه بالأخذ بما أخذه سابقًا من غلة الشقص المشفوع من ثمر وأجر ونحوهما قبل أن يقدم من غيبته؛ لأنه انفصل في ملكه فأشبه ما لو انفصل في يد المشتري.
وإن ترك الأول الأخذ بالشفعة أو أخذ بها ثم رد ما أخذه بعيب توفرت الشفعة على صاحبيه الغائبين فإذا قدم الأول منهما فله أخذ الجميع على ما ذكر في الأول، وإن أخذ الأول الشقص بالشفعة ثم أعاده للمشتري بنحو هبة فلا شفعة للغائبين؛ لأنه عاد بغير السبب الذي تعلقت به الشفعة بخلاف رد بعيب؛ لأنه رجع إلى المشتري بالسبب الأول فكان له أخذه كما لو عفا.
(18)
تعدد الشافع والمشفوع فيه وبيان الشرط الخامس للشفعة وحكم الشفعة في الملك الناقص
س 18: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: ما بيع على عقدين: إذا اشترى إثنان حق واحد، إذا اشترى واحد حق إثنين، إذا اشترى واحد من آخر شقصين من عقارين، إذا بيع شقص مشفوع مع ما لا شفعة فيه. مثال ذلك، واذكر ما يترتب على ذلك، إذا باع إثنان نصيبهما من إثنين صفقة واحدة، وضح الشرط الخامس للشفعة، الشفعة في الملك الناقص، مثاله، الموقف في الجائز بيعه، إذا وكل أحد الشريكين الآخر فباع بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن شريكه إذا تصرف المشتري بعد الطلب أو قبله، حكم تصرفه فيما سبق، تصرف المشتري برهن أو أجاره انتقال الشقص لوارث إذا أوصى المشتري بالشقص، واذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح.
ج: لشفيع فيما بيع على عقدين الأخذ بالشفعة بالعقدين؛ لأن شفيع فيهما وله الأخذ بأحدهما أيهما شاء؛ لأن كلاً منهما بيع مستقل بنفسه وهو يستحقها، فإذا سقط البعض كان له ذلك، كما لو أسقط حقه من الكل ويشارك الشفيع مشتر إذا أخذ بالعقد الثاني دون الأول لاستقرار ملك المشتري فيه فهو شريك في البيع الثاني، فإن أخذ بالبيعين أو بالأول لم يشاركه؛ لأنه لم يسبق له شركة.
وإن بيع شقص على أكثر من عقدين فللشفيع الأخذ بالجميع وببعضها ويشاركه مشتر إن أخذ بغير الأول بنصيبه مما قبله.
وإن تعدد دون العقد بأن اشترى إثنان حق واحد صفقة واحدة أو اشترى واحد لنفسه ولغيره بالوكالة أو الولاية أولهما بأن كان وكيلاً لأحدهما
ووليًا على الآخر حق واحد فللشفيع أخذ حق أحدهما؛ لأن الصفقة مع اثنين بمنزلة عقدين فيكون للشفيع الأخذ بهما وبأيهما شاء، وكذا إن اشترى الواحد لنفسه ولغيره لتعدد من وقع له العقد.
وإن اشترى واحد حق اثنين صفقة واحدة أو اشترى واحد من آخر شقصين من عقارين صفقة واحدة فللشفيع أخذ أحد المشترين أو البائعين؛ لأن الصفقة مع اثنين بائعين أو مشترين بمنزلة عقدين أو باع شريك من عقارين شقصين صفقة واحدة فللشفيع أخذ أحد الشقصين من أحد العقارين دون الآخر؛ لأن الضرر قد يلحقه بأرض دون أخرى.
ولشفيع أخذ شقص مشفوع بيع صفقة واحدة مع شقص لا شفعة فيه كعرض أو فرس أو نحو ذلك بثمن واحد فيأخذه بقسطه من الثمن فيقسم الثمن المسمى على قيمة الشقصين أو قيمة الشقص وقيمة ما معه.
فلو كانت قيمة الشقص مائة وقيمة ما معه عشرون أخذ الشقص بخمسة أسداس ما وقع عليه العقد ولا يثبت لمشتر خيار تفريق فيهما في أخذ الشقص.
وإن باع إثنان نصيبهما من إثنين صفقة واحدة فالتعدد واقع من الطرفين إذ البائع إثنان والمشتري إثنان والعقد واحد وذلك العقد بمثابة أربع صفات فللشفيع أخذ الكل أو أخذ نصفه من أحدهما ويبقى نصفه الآخر أو أخذ ربعه من أحدهما فيبقى له وللآخر نصفه وذلك خمسة أخيرة.
الشرط الخامس للأخذ بالشفعة: سبق ملك للرقبة، وذلك بأن يسبق ملكه الجزء من رقة ما منه الشقص المبيع على زمن البيع؛ لأن الشفعة ثبتت لدفع الضرر عن الشريك فإذا لم يكن له ملك سابق فلا ضرر عليه فلا شفعة.
ويعتبر ثبوت الملك للشفيع بالبينة أو إقرار المشتري فلا تكفي اليد؛ لأنها
مرجحة فقط حملاً بالظاهرة ولا تفيد الملك فيثبت الأخذ بالشفعة لمكاتب سبق ملكه للرقبة لصحة ملكه كغيره.
ولا تثبت الشفعة لأحد إثنين اشتريا دارًا صفقة واحدة على آخر؛ لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه؛ لأن شرط الأخذ سبق الملك وهو معدوم هنا، وكذا لو جهل السبق مع إدعاء كل منهما السبق وتحالفا أو أقاما بينتين وتعارضة بينتاهما بأن شهدت بينة كل واحد منهما بسبق ملكه وتجدد ملك صاحبه؛ لأنه لم يثبت السبق لواحد منهما.
ولا تثبت الشفعة لمالك بملك غير تام كبيع شقص من دار موصى له ببيعها فلا شفعة للموصى له؛ لأن المنفعة لا تؤخذ بالشفعة فلا تجب بها.
ولا يثبت الملك لمالك بملك غير تام كشركة وقف على معين فلا يأخذ موقوف عليه بالشفعة، فدار نصفها وقف ونصفها طلق وبيع الطلق لا شفعة للموقوف عليه؛ لأن ملكه غير تام.
وقيل له: الشفعة؛ لعموم الحديث المذكور حديث جابر قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم الحديث ولوجود المعنى وهو دفع الضرر، قالوا: بل صاحب الوقف إذا لم يثبت له شفعة يكون أعظم ضررًا من صاحب الطلق لتمكن المالك من البيع والتخلص من الضرر بخلاف مستحق الوقف فإنه يضطر إلى بقاء الشركة، والحديث لم يفرق بين الذي ملكه تام والذي ملكه ناقص، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ويصح عكسه فيؤخذ بالشفعة موقوف جاز بيعه وهو ما تعطلت منافعه كتعطيل منافع دار نصفها وقف ونصفها طلق بانهدامه أو خراب محلتها وبيع الشقص الموقوف ليشتري بثمنه ما يكون وقفًا مثله أو دونه أو يصرف في وقف مثله، إذ ما لا يدرك كله لا يترك كله فللشريك الأخذ بالشفعة
إذ لو تراضيا على القسمة بلا رد عوض من المالك أو برد عوض من أهل الوقف لكان ذلك جائزًا.
وإن وكل أحد الشريكين الآخر بأن قال له: بع نصف نصيبي مع نصف نصيبك فباع بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن شريكه ثبتت الشفعة لكل من الشريكين في الشقص المبيع من نصيب صاحبه على قدر حصته؛ لأن المبيع المذكور بمنزلة عقدين لتعدد من وقع منه العقد.
وتصرف مشتر في الشقص المشفوع بعد طلب شفيع بالشفعة باطل لانتقال الملك إلى الشفيع بالطلب في الأصح أو الحجر عليه به لحق الشفيع على مقابله.
وإن نهى الشفيع المشتري عن التصرف ولم يطالبه بها لم يصر المشتري ممنوعًا.
وتصرف مشتر قبل الطلب بوقف على معين كان وقفه على ولده أو ولد زيد أو على غير معين كان وقفه على المساجد أو وقفه على الفقراء أو على الغزاة أو تصرف في الشقص بهبة أو تصرف فيه بصدقة أو بما لا تجب به شفعة إبتداء كجعله مهرًا أو عوض خلع أو صلحًا عن دم عمد يسقط الشفعة؛ لأن الشفعة إضرار بالموقوف عليه والموهوب له والمتصدق عليه؛ لأن ملكه يزول عنه بغير عوض؛ لأن الثمن يأخذه المشتري والضرر لا يزال بالضرر، وهذا القول من «مفردات المذهب» قال ناظمها:
ومشتر للشقص إن قد وقفا
…
لا حيلة بعد الطلاق بالوفاء
يبطل حق شفعة كذا الهبة
…
وصدقات للفقير ذا هبة
جمهور الأصحاب على هذا النمط
…
والقاضي قال النص في الوقف فقط
وقال أبو بكر: لا تسقط الشفعة، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي؛ لأن الشفيع لا يملك الأخذ به أولى، ولأن حق الشفيع أسبق وجنبيته أقولى، فلم يملك المشتري تصرفًا يبطل حقه فيأخذه بالثمن الذي وقع به البيع، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ويحرم على المشتري التصرف بوقف أو هبة أو صدقة وما عطف على ذلك مما تقدم ليسقط به الشفعة ولا تسقط الشفعة بتصرف المشتري بالشقص المشفوع برهن أو إجارة لبقاء المرهون والمؤجر في ملك المشتري وسبق تعلق حق الشفيع على حق المرتهن والمستأجر وينفسخ الرهن والإجارة بأخذ الشفيع الشقص على حق المرتهن والمستأجر وينفسخ الرهن والإجارة بأخذ الشفيع الشقص المرهون أو المؤجر بالشفعة من حين الأخذ؛ لأنهما يستندان إلى الشراء ولسبق حقهما، وأيضًا الفرق بين الأخذ بالشفعة والبيع أن الشقص خرج من يد المشتري قهرًا عليه بالأخذ بالشفعة بخلاف البيع، وقيل: إن أجره أخذه الشفيع، وله الأجرة من يوم أخذه بالشفعة ولا تنفسخ، وقيل: للشفيع الخيار بين فسخ الإجارة وتركها، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ولا تسقط الشفعة بانتقال لوارث بموت مورثه إن طالب بها قبل موته، وقيل: إن مات الشفيع قبل العفو والأخذ انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته؛ لأنه قبض استحقه بعقد البيع فانتقل إلى الورثة كقبض المشتري في البيع، ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب وإن كان له وار ثان فعفا أحدهما عن حقه سقط حقه فقط ولم يسقط حق الثاني كما لو عفا أحد
الشفيعين، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ولا تسقط الشفعة بانتقال الشقص المشفوع لبيت المال بأن ارتد المشتري عن الإسلام فقتل أو مات قبل علم الشفيع بالبيع فللشفيع إذا علم الأخذ بالشفعة من بيت المال لانتقال مال المرتد إليه؛ لأنها وجبت بالشراء وانتقاله إلى المسلمين بقتله أو موته لا يمنع الشفعة كما لو مات على الإسلام فورثه ورثته.
ويؤخذ الشقص بالشفعة من وكيل بيت المال؛ لأنه نائب عن المسلمين الآيل إليهم الشقص.
ولا تسقط الشفعة بوصية من المشتري بأن أوصى بالشقص المشفوع ومات إن أخذ الشفيع والشقص قبل قبول موصى له؛ لأن حقه أسبق من حق الموصى له فإذا أخذه دفع الثمن إلى الورثة، وطلت الوصية؛ لأن الموصي به ذهب فبطلت الوصية به كما لو تلف ولا يستحق الموصى له بدله؛ لأنه لم يوص له إلا بالشقص وقد فات بأخذه.
وإن كان الموصى له قبل الوصية بالشقص قبل أخذ الشفيع الشفعة أو قبل طلبه بها لزمت الوصية واستقر للموصى له وسقطت الشفعة؛ لأن الشفعة إضرار بالموصى له؛ لأنه ملكه يزول عنه بغير عوض، وكما لو وهبه المشتري قبل الطلب.
وإن طلب الشفيع الأخذ بالشفعة قبل قبول الوصية ولم يأخذ بعد حتى مات الموصى بطلت واستقر الأخذ للشفيع سواء قبل الموصى له الوصية أو لا؛ لأنه ملك قبل لزوم الوصية ففات على الموصى.
(19)
رجوع الشقص المشفوع بعيب أو أقاله وحكم ما إذا بان مستحقًا أو حصل اختلاف بين البائع والمشتري والشفيع أو ظهر الشفيع على عيب المشفوع
س 19: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: إذا بيع الشقص المشفوع قبل الطلب، إذا رجع الشقص إلى الشريك بسبب فسخ، رجوع الشقص إلى الشريك بسبب فسخ إقالة أو عيب في الشقص أو في الثمن أو فسخ لعيب الثمن بعد الأخذ بها، وما الذي يترتب على ذلك إذا ظهر الشفيع على عيب المشفوع إذا بان ثمن مستحقًا، إذا حصل إختلاف بين الشفيع والمشتري والبائع وإقرار وإنكار؟ واذكر الأدلة والتعليلات والتفاصيل والاحترازات والقيود والخلاف والترجيح.
ج: لا تسقط الشفعة ببيع المشتري الشقص قبل الطلب فيأخذ الشقص المشفوع شفيع بثمن أي البيعين شاء؛ لأن سبب الشفعة الشراء وقد وجد كل منهما، ولأنه شفيع في العقدين وعلم من ذلك صحة تصرف المشتري في الشقص قبل الطلب وكون الشفيع له أن يتملكه لا يمنع من تصرفه كما لو كان أحد العوضين معيبًا فإنه لا يمنع من التصرف في الآخر وكالإبن يتصرف في العين الموهوبة له وإن جاز لأبيه الرجوع فيها ويرجع الذي أخذ من الشقص ببيع قبل بيعه وهو من كان الشقص بيده حال الأخذ على بائعه بما أعطاه من الثمن؛ لأنه لم يسلم له المعوض فإن الشفيع الشقص بالبيع الأول رجع المشتر الثاني على المشتري الأول مما دفعه له من الثمن وينفسخ البيع الثاني.
وإن كان ثم مشتر ثالث بأن لم يعلم الشفيع حتى تبايع ثلاثة فأكثر وأخذ الشفيع بالبيع الأول رجع المشتري والثاني على الأول والمشتري الثالث على
الثاني وهلم جرا، وينفسخ ما بعد البيع الأول وإن أخذ بالبيع الأخير فلا رجوع واستقرت العقود وإن أخذ بالمتوسط إستقر ما قبله وانفسخ ما بعده، فإن اشتراه الأول بمائة كيلو أرز، والثاني بمائة كيلو، والثالث بمائة كيلو شعير، فإن أخذ الشفيع من الأول دفع له مائة كيلو أرز ويرجع كل من الثاني والثالث على بائعه بما دفع؛ لأن المشتري إذا انفسخ البيع رجع بالثمن وإن أخذ بالبيع الثاني دفع للمشتري الثاني مائة كيلو بر ويرجع الثالث على الثاني بما دفعه له وإن أخذ بالبيع الثالث على دفع للمشتري الثالث مائة كيلو شعير ولا رجوع لأحد منهم على غيره.
مثال ثاني: كأن يشتري الشقص المشتري الأول بخمسة ريالات ويبيعه من آخر بعشرة ريالات ويأخذ الشقص شفيع من المشتري الأول بخمسة ريالات ويرجع المشتري الثاني على الأول بما دفعه له من الثمن وهو العشرة ريالات وينفسخ البيع الثاني.
وإن كان مشتر ثالث بخمسة عشر ريالاً ولم يعلم الشفيع حتى تبايع ثلاثة فأكثر وأخذ الشفيع بالبيع الأول رجع المشتري الثاني على الأول، والمشتري الثالث على الثاني وهلم جرا أو ينفسخ ما بعد البيع الأول وإن أخذ الشفيع بالبيع الأخير فلا رجوع واستقرت العقود وإن أخذ بالمتوسط استقر ما قبله وانفسخ ما بعده.
ولا تسقط الشفعة برجوع الشقص إلى الشريك بسبب فسخ البيع لتحالف على قدر الثمن بسبب اختلافهما فيه لسبق استحقاق الشفعة الفسخ ويؤخذ الشقص بثمن حلف عليه بائع؛ لأن البائع مقر بالبيع الثمن الذي حلف عليه ومقر للشفيع باستحقاق الشفعة بذلك، فإذا بطل حق المشتري بإنكاره لم يبطل حق الشفيع بذلك فله أن يطلب فسخهما ويأخذ؛ لأن حقه أسبق.
ولا تسقط الشفعة برجوع الشقص إلى الشريك بسبب فسخ إقالة أو بسبب فسخ البيع لوجود عيب في شقص فللشفيع إبطال الإقالة والرد والأخذ بالشفعة؛ لأن حقه سابق عليهما وفسخ البائع البيع لعيب في ثمن الشقص المشفوع المعين قبل أخذ الشفيع الشقص بالشفعة يسقطها؛ لأنه من جهة البائع، ولما فيه من الإضرار بالبائع بإسقاط حقه من الفسخ الذي إستحقه بوجود العيب والشفعة تثبت لإزالة الضرر والضرر لا يزال بالضرر، ولأن حق البائع في الفسخ أسبق؛ لأنه استند إلى وجود العيب وهو موجود حال البيع والشفعة تثبت بالبيع ويفارق ما إذا كان الشقص معيبًا، فإن حق المشتري إنما هو في استرجاع الثمن وقد حصل له من الشفيع فلا فائدة في الرد.
ولا تسقط الشفعة بالفسخ لعيب الثمن بعد الأخذ بالشفعة؛ لأن الشفيع ملك الشقص بالأخذ فلا يملك البائع إبطال ملكه، كما لو باعه المشتري لأجنبي، فإن الشفعة بيع في الحقيقة.
ولبائع إذا فسخ بعد أخذ الشفيع إلزام مشتر بقيمة شقص؛ لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة تلف الشقص.
وليس لبائع إلزام مشتر بعد أخذ الشفيع بالثمن الذي قبضه المشتري من الشفيع بدلاً عن المعيب؛ لعدم وقوع العقد على ما أقبضه الشفيع؛ لأن الشفيع إنما دفع للمشتري قيمة غير المعيب.
ويتراجع مشتر وشفيع بما بين قيمة شقص وثمنه الذي وقع عليه العقد فيرجع دافع الفضل بالأكثر منهما على صاحبه بالفضل، فإذا كانت قيمة الشقص مائة وقيمة العبد الذي هو ثمن الشقص مائة وعشرون 120 وكان المشتري أخذ المائة والعشرين من الشفيع رجع الشفيع عليه بالعشرين؛ لأن الشقص إنما استقر عليه بالمائة.
ولا يرجع شفيع على مشتر بأرش عيب في ثمن عفى عنه بائع امعنى لو أبرأ البائع مشتري الشقص من العيب الذي وجده بالعبد الذي هو ثمن الشقص فلا رجوع للشفيع عليه بشيء؛ لأن البيع لازم من جهة المشتري لا يملك فسخه أشبه ما لو حط البائع عنه بعض الثمن بعد لزوم العقد وإن اختار ابائع أخذ أرش العيب فله ذلك، ولا يرجع مشتر على شفيع بشيء إن دفع إليه قيمة العبد سليمًا وإلا رجع عليه ببدل ما أدى من إرشه.
وإن عاد الشقص إلى المشتري من الشفيع أو غيره ببيع أو غيره لم يملك بائع استرجاعه بمقتضى فسخه لعيب الثمن السابق لزوال ملك المشتري عنه وانقطاع حقه منه إلى القيمة، فإذا أخذها البائع لم يبق له حق بخلاف غاصب تعذر عليه رد مغصوب فأدى قيمته ثم قدر عليه فإنه يرده ويسترجع القيمة؛ لأنه ملك المغصوب منه لم يزل عنه ولشفيع أخذ الشقص بالشفعة ثم ظهر على عيب به لم يعلمه المشتري ولا الشفيع رد الشقص على مشتر أو أخذ أرشه منه ويرجع المشتري على البائع بالثمن ويرد الشقص إن رده الشفيع عليه أو يأخذ الأرش.
ومن علم بالعيب عند العقد أو قبله من شفيع ومشتر لم يرد الشقص المعيب ولم يطالب بأرشه؛ لأنه دخل على بصيرة وللمشتري الأرش للعيب الذي لم يعلمه.
وإن بان ثمن معين مستحقًا بطل البيع ولا شفعة؛ لأنها إنما تثبت في عقد ينقل الملك إلى المشتري، فإن كان الشفيع قد أخذ بالشفعة لزمه رد ما أخذه على البائع ولا يثبت ذلك إلا ببينة أو إقرار المتبائعين والشفيع، فإن أقرا وأنكر الشفيع لم يقبل قولهما عليه، وله الأخذ بالشفعة ويرد العبد لصاحبه ويرجع على المشتري بقيمة الشقص.
وإن أقر الشفيع والمشتري دون البائع لم تثبت الشفعة ووجب على
المشتري رد قيمة العبد على صاحبه ويبقى الشقص معه يزعم أنه للبائع والبائع ينكر ويدعي عليه وجوب رد العبد فيشتري الشقص منه ويتباريان.
وإن أقر الشفيع والبائع وأنكر المشتري وجب على البائع رد العبد على صاحبه ولم تثبت الشفعة ولم يملك البائع مطالبة المشتري بشيء؛ لأن البيع صحيح في الظاهر، وقد أدى ثمنه الذي هو ملكه في الظاهر.
وإن أقر الشفيع وحده لم تثبت الشفعة ولا يثبت شيء من أحكام البطلان في حق المتبايعين.
وإن كان اشترى الشقص بثمن في ذمته ثم نقد الثمن فبان مستحقًا كانت الشفعة واجبة؛ لأن البيع صحيح، فإن تعذر قبض الثمن من المشتري لا عساره أو غيره فللبائع فسخ البيع، ويقدم حق الشفيع؛ لأن بالأخذ بها يحصل للمشتري ما يؤديه ثمنًا فتزول عسرته ويحصل الجمع بين الحقين.
وإن كان الثمن مكيلاً أو موزونًا أو معدودًا أو مزروعًا فتلف قبل قبضه بطل البيع وانتفت الشفعة إن كان التلف قبل الأخذ بها؛ لأنه تعذر التسليم فتعذر العقد فلم تثبت الشفعة كالفسخ بخيار، فإن كان الشفيع أخذ بالشفعة قبل التلف لم يكن لأحد استرداد الشقص لاستقرار ملك الشفيع عليه ويغرم مشتريه لبائعه قبل المبيع ويأخذ من الشفيع بدل ما وقع عليه العقد.
من النظم
والزم شفيعًا إن أبوا قلعه فخذ
…
بقيمته في يوم تقويمه قد
وإن شايز له ضامنًا أرش نقصه
…
وعن شفعة أن يأب الأمرين يصدد
فما غرسوه أو بنوا يقلع إن بنوا
…
ويلزمهم نقص بقلع بأجود
ولم يضمنوا نقصًا بغرس ولا بنا
…
فخذ المسمى الشقص ناقصًا أو حد
وفي ذا أن يبيعوا البعض أو هدموا البنا
…
فخذ ما بقي بالقسط من ثمن قد
وقيمته ما بين قيمة أرضه
…
مفرغة منه ومشغولة طد
وأن يتوكل أو يدل لعقدهم
…
أو اختار أمضا البيع إن خير اطد
وترك الأحظ أحظر وخذ بعد تركه
…
لطفل فيملكه فإن رد يصدد
وتسقط بالإطلاق عند ابن بطه
…
ومن غير حظ اسقطن في المجود
ويأخذ في الأولى مسقط قبل بيعهم
…
ومن باع قبل العلم في المتجود
ويأخذ ذا المبتاع شقص شفيعه
…
الذي باعه من مشتريه بأجود
ولا شفعة في بعض باق جميعه
…
ومع هلك بعض خذ بقسط بأجود
وقيل بما قد بيع أجمع خذه إن
…
يكن بسماوي هلاك المفقد
وإن يتو بعض خذ مبقى بقسطه
…
وقيل بفعل الرب بالكل أو ذد
ولا شفعة في بعض باقي شرا امرئ
…
ولو بالمسمى جوزوا لم أبعد
وإن بيع مشفوع وما ليس صفقة
…
فبالقسط خذ دفع احتيال بأوطد
وإن يتعدى مشتري وعقودهم
…
فذا صفقتان أما تشا خذ بمفرد
وإن يتعدد بائع أو مبيعهم
…
فخذه في الأقوى أن يتحد عقد عقد
فمن يشر من أرضين شقصين صفقة
…
وحق امرئين الفرد خذ في المجودِ
وللشفعاء أقسم على قدر ملكهم
…
وعنه على عد الرؤوس ليعدد
فإن يعف فرد لم يكن لسواه أن
…
يحوز سوى كل وإلا ليطرد
ويأخذ مبتاع شريكًا بقسطه
…
وليس له إلزامهم بالمعدد
ومبتاع شقص صفقتين من امرئ
…
لشركته خذ للجميع ومفرد
فلا شفعة أن يأخذوا بمقدم
…
وبالثان أو بالكل خذها بأجود
وبعد أطلاب انبذ تصرف مشتر
…
وقيل العطا والوقف صحح بأوطد
وإن باع خذ ممن تشاء بشفعة
…
بما ابتاعه الآخر قط بمبعد
وقيل متى تأخذه من غير آجر
…
يرد على من بعده ثمنًا قد
ومع فسخ عيب الشقص أو بإقالة
…
وفسخ لآلي الحلف خذ ثمت أردد
المسمى وفي الأحلاف ما قال بائع
…
وإن آجر افسخ حين تأخذ تسعد
وغلته للمشتري قبل أخذه
…
وبادي زروع والثمار بها أشهد
بلا أجرة للأرض تبقى أخذه
…
إلى وقت حصد والجذاذ ليرصد
ومتصل النامي وما لم يبن من
…
الثمار تبع للأصل في الآخذ فاردد
ولا تأخذن من بائع رد شقصه
…
بعيب وإيلاء وإختلاف تفند
ولا باختيار الفسخ أو رد مهرها
…
بموجبه بل من مقال بمبعد
ولا شفعة في الشقص بيع بعرض أن
…
يجد بائع كالعرض عيبًا فيردد
وللمفلسين الأخذ لا وزن مالهم
…
لأخذ وعن أخذ الغريم بها أصدد
وتورث عمن مات قبل طلابها
…
وأسقط بموت قبله في المؤطد
(20)
إذا انشغل الشقص المشفوع بزرع أو غرس أو بيع قبل عمل أو حصل به نقص إلخ
س 20: هل بين الشفيع والبائع إقالة إذا أدرك الشفيع الشقص وقد شغل بزرع أو ظهر الثمر في الشجر، فما الحكم في ذلك؟ واذكر ما يترتب على ذلك من المسائل، وإذا قاسم المشتري الشفيع لإظهار زيادة ثم غرس المشتري أو بنى فهل تسقط الشفعة؟ وهل يضمن نقض القلع؟ وما صفة التقويم؟ وإذا حفر المشتري في المشفوعة بئرًا فهل يأخذها الشفيع مجانًا؟ وإذا باع شفيع شقصه أو بعضه قبل عمله فهل تبطل شفعته؟ وإذا مات الشفيع فهل تسقط شفعته؟ وإذا بيع شقص له شفيعان فعفا أحدهما عن الشفعة وطلب الآخر ثم مات الطالب فما الحكم؟ ومن هم الثلاثة الذين يسقط حقهم قبل أن يطالبوا؟ واذكر الدليل والتعليل والتفصيل والقيود والمحترزات والخلاف والترجيح.
ج: لا تصح الإقالة بين البائع والشفيع؛ لأنه ليس بينه وبينه بيع وإنما هو مشتر من المشتري والإقالة إنما يكون بين متبايعين فإن باعه إياه صح؛ لأن العقار يجوز التصرف فيه قبل القبض.
وإن استغل الشقص المشفوع مشتر قبل أخذ الشفيع بالشفعة بأن أخذ ثمرته أو أجرته فهي له وليس للشفيع مطالبة المشتري بدرها؛ لحديث: «الخراج بالضمان» .
وإن أدرك الشقص المبيع شفيع وقد اشتغل الشقص بزرع مشتري وكان الشقص من أرض ونخل فلم يدركه الشفيع حتى ظهر ثمر في شجر بعد شرائه أو أدركه شفيع وقد أبر طلع للنخل المبيع ولو كان موجودًا حينه بلا تأثير ونحوه، كما لو كان الشقص من أرض بها أصول باذنجان أو قثاء أو بامياء فعلى
الشفيع تركه لفراغ اللقطات بلا أجرة هذا إن كانت الأصول لمشتر، وأما إذا كانت لمستأجر أو مستعير من المشتري فليس له إلا اللقطة الأولى فقط.
وإن قاسم مشتر شفيعًا أو قاسم وكيل الشفيع في غيبته لإظهار المشتري زيادة ثمن على الثمن المبتاع به الشقص ونحوه كإظهاره أن الشريك وهبه له أو وقفه عليه أو أن الشراء لغيره ثم غرس المشتري أو بنى فيما خرج له بالقسمة لم تسقط الشفعة؛ لأن الشفيع لم يترك الأخذ بها إعراضًا عنها، بل لما أظهره المشتري.
وكذا الحكم لو كان الشفيع غائبًا أو صغيرًا وطالب المشتري الحاكم بالقسمة فقاسم ثم قدم الغائب وبلغ الصغير فلهما الأخذ بالشفعة ولربهما أي الغراس والبناء إذا أخذ الشقص بالشفعة قلعهما؛ لأنهما ملكه على انفراده وسواء كان فيه ضرر أو لا لأنه تخليص لعين ماله مما كان حين الوضع في ملكه، وقيل له ذلك إذا لم يكن فيه ضرر، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ولا يضمن مشتر قلع غراسه أو بناءه نقصًا حصل بقلعه لانتفاء عدوانه فيخير فيه الشفيع بين أخذ الشقص ناقصًا بكل الثمن أو تركه ولا يسوي المشتري حفرًا إذا قلع غرسه أو بناءه لعدم عدوانه، فإن أبى مشتر قلع غراسه أو بنائه فللشفيع أخذ الغراس والبناء إذا علم الحال بقيمته حين تقويم الغراس والبناء وصفة التقويم أن تقوم الأرض مشغولة بنحو غرس أو بناء ثم تقوم الأرض خالية من الغراس أو البناء فما بينهما فهو قيمة نحو بناء كغراس؛ لأن ذلك هو الذي زاد بالغراس.
وفي «الإقناع وشرحه» : ولا يلزم الشفيع إذا أخذ الغراس أو البناء دفع ما أنفقه المشتري على الغراس والبناء سواء كان ما أنفقه أقل من قيمته
أو أكثر منها بل تلزمه قيمته فقط، أو قلع الغراس أو البناء ويضمن نقصه من القيمة المذكورة وهي ما بين قيمة الأرض مغروسة أو مبنية وبين قيمتها خالية ويلزم الشفيع إبقاء الغراس أو البناء بأجرة؛ لأن مدته تطول ولا يعلم متى تنقضي فإن أبى الشفيع أحد الشيئين فلا شفعة؛ لأنه مضار.
وإن حفر المشتري في البقعة المشفوعة بئرًا لنفسه بإذن الشفيع لإظهار زيادة ثمن ثم علم فأخذ بالشفعة أخذ شفيع البئر مع الشقص ولزم الشفيع للمشتري أجرة مثل حفرها؛ لأن المشتري لم يتعد بحفرها.
وإن باع شفيع شقصه من الأرض التي بيع منها الشقص المشفوع أو باع بعض شقصه منها قبل علمه ببيع شريكه، فعلى شفعته؛ لأنها ثبتت له حين باع شريكه ولم يوجد منه ما يدل على عفوه عنها.
وثبتت الشفعة لمشتر أول وهو الذي لم يعلم الشفيع بشرائه حين باع شقصه فيما باعه شفيع؛ لأنه شريك في الرقبة أشبه المالك الذي لم يستحق عليه شفعة وإن باع شفيع جميع حصته بعد علمه ببيع شريكه سقطت شفعته.
وتسقط الشفعة بموت شفيع لم يطلب الأخذ بها مع طدوة أو شهادة مع عذر؛ لأنها نوع خيار شرط للتمليك أشبه القبول فإنه لو مات من يريد القبول بعد إيجاب صاحبه لم يقم وارثه مقامه في القبول، ولأنا لا نعلم بقاء الشفعة لاحتمال رغبته عنها ولا ينتقل إلى الورثة ما شك في ثبوته ولا تسقط الشفعة بموت شفيع بعد طلب المشتري بها أو بعد إشهاد بالطلب حيث اعتبر الإشهاد كمرض شفيع أو غيبته عن البلد وتكون الشفعة لورثته كلهم بقدر إرثهم كسائر حقوقه.
ولا فرق في الوارث بين ذي الرحم والزوج والمولى المعتق وعصبته المتعصبون بأنفسهم وبيت المال فيأخذه الإمام بها إذا لم يكن ثم وارث
خاص يستغرق بفرض أو تعصيب أو رد أو رحم.
والذي تطمئن إليه النفس أنه إذا مات الشفيع قبل العفو والأخذ أنه ينتقل حقه إلى ورثته ولو لم يطالب بها؛ لأنه قبض استحقه بعقد البيع فانتقل إلى الورثة كقبض المشتري في البيع، ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب، والله سبحانه أعلم.
فإن ترك بعض الورثة حقه من الأخذ بالشفعة توفر الحق على باقي الورثة ولم يكن لهم إلا أن يأخذوا الكل؛ لأن في أخذ البعض وترك البعض إضرار بالمشتري.
ولو بيع شقص له شفيعان فعلى أحدهما عن الشفعة وطلب الآخر ثم مات الطالب فورثه العافي عن الشفعة فله أخذ الشقص بالشفعة؛ لأن عفوه أو لا عن حقه الثابت بالبيع لا يسقط حقه المتجدد بالإرث، والثلاثة الذين يسقط حقهم قبل أن يطالبوا الشفيع والمتبايعان بالخيار والمقذوف.
(21)
مسائل حول الجهل بالثمن أو زيادته أو نقصه أو العجز عنه
أو تأجيل الثمن أو القدرة على بعض، وحول اختلاف الشفيع
والمشتري في الثمن أو ادعى شيئًا ينكره الخصم فيما يتعلق بذلك
س 21: بما يأخذ الشفيع الشقص المشفوع، وإذا طلب الشفيع الإمهال لتحصيل الثمن فهل يمهل؟ وإذا جهل الثمن أو اتهمه شفيع أو عجز شفيع عن ثمن أو بقي الثمن في ذمة شفيع حتى فلس أو كان ثمن الشقص مؤجلاً أو حصل زيادة في الثمن أو نقص في زمن خيار، فما الحكم؟
ومن القول قوله في قدر الثمن، وإذا ادعى مشتر جهله بقدر الثمن أو ادعى أنه غرس أو بنى
في الأرض، أو أدلى كل من شفيع ومشتر ببينة أو شهد البائع لأحدهما، أو قال مشتر: اشتريته بألف، وأثبته بأكثر، أو قال مشتر: غلطت أو نسيت أو كذب، أو ادعى شفيع شراءه بألف، فقال: بل اتهبته أو ورثته أو أنكر مدعي عليه وأقرّ بائع فما الحكم؟ وما الذي يترتب على ذلك من المسائل والأحكام؟ واذكر القيود والمحترزات والتفاصيل والأدلة والتعليلات والخلاف والترجيح.
ج: يملك الشقص المشفوع شفيع مليء بلا حاكم؛ لأنه حق ثبت بالإجماع فلم يفتقر إلى حكم حاكم كالرد بالعيب بقدر ثمنه الذي استقر عليه العقد وقت لزوموه قدرًا وجنسًا وصفة؛ لحديث جابر: «فهو أحق به بالثمن» رواه أبو إسحاق الجوزجاني في «المترجم» ، ولأن الشفيع إنما يستحق الشقص بالبيع فكان مستحقًا له بالثمن كالمشتري لا يقال: الشفيع استحق أخذ الشقص بغير رضا مالكه فكان ينبغي أن يأخذه بقيمته كالمضطر إلى طعام غيره؛ لأن المضطر استحقه بسبب حاجته فكان المرجع في بدله إلى قيمته، والشفيع استحقه بالبيع فوجب أن يكون بالعوض الثابت له المعلوم للشفيع؛ لأن الأخذ بالشفعة أخذ بعوضها فاشترط أن يعلمه باذل قبل الإقدام على التزامه كمشتري المبيع.
وحيث تقرر هذا فإن كان الثمن من المثليات كالدراهم والدنانير أو غيرهما من المثليات كالحبوب والأدهان، فإن الشفيع يدفع لمشتر مثل ثمن مثلي قدرًا من جنسه بمعياره الشرعي؛ لأن مثل هذا من طريق الصورة والقيمة فكان أولى مما سواه، ولأن الواجب بدل الثمن فكان مثله كبدل القرض والمتلف ويدفع لمشتر قيمة ثمن متقوم من حيوان وثياب ونحوهما؛ لأنه بدله في الإتلاف والمراد قيمته وقت الشراء؛ لأنه وقت استحقاق الأخذ ولا اعتبار بزيادة القيمة أو نقصها بعد ذلك، وإن كان
في البيع خيار اعتبرت القيمة عند لزومه؛ لأنه حين استحقاق الأخذ ويأتي.
فإن تعذر على شفيع مثل مثلي بأن عدمه فعليه قيمته يوم إعوازه؛ لأنها بدله في الإتلاف وإن تعذرت معرفة قيمة الثمن المتقوم بتلف أو نحوه فعلى شفيع قيمة مشفوع يوم عقد؛ لأنه وقت استحقاق الأخذ؛ لأن الأصل في عقود المعاوضات أن تكون بقدر القيمة؛ لأن وقوعها بأقل أو أكثر محاباة والأصل عدمها.
وإن جهل قدر ثمن كما لو كان صبرة نقد فتلفت أو اختلطت بما لا تتميز منه ولا حيلة في ذلك على إسقاط الشفعة سقطت؛ لأنها تستحق بغير بدل ولا يمكن أن يدفع إليه ما لا يدعيه وكما لو علم قدر الثمن عند الشراء ثم نسي، فإن تهمة الشفيع بأنه فعل ذلك تحيلاً لإسقاطها حلفه على نفي ذلك لاحتمال صدق الشفيع وإن جهل الثمن مع الحيلة فعلى شفيع قيمة الشقص ويأخذه إذ الظاهر أنه بيع بقيمته.
وإن عجز شفيع عن ثمن شقص مشفوع ولو كان عجزه عن بعض ثمن الشقص بعد إنظار الشفيع بالثمن من حين أخذه بالشفعة ثلاث ليال بأيامها حتى يتبين عجزه؛ لأنه قد يكون معه نقد فيمهل بقدر ما يعده فيه والثلاث يمكن الإعداد فيها غالبًا ولو كان الشفيع مفلسًا لاحتمال تحصيل الثمن بإتهاب أو غيره فإن مضى عليه الأمد ولم يأت بالثمن فلمشتر لم يرض بتأخير الثمن حيث عجز الشفيع عنه أو هرب وقد أخذ الشقص بالشفعة الفسخ؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى الثمن فملك الفسخ كبائع بثمن حال تعذر وصوله إليه الأخذ بها عليه كفسخ غيرها من البيع وكالرد بالعيب ولو جاء الشفيع الأخذ بها عليه كفسخ غيرها من البيوع وكالرد بالعيب، ولو جاء الشفيع للمشتري برهن على الثمن أو جاء بضامن له فيه؛ لأن الضرر بتحصيل الثمن حاصل معها، والشفعة لدفع الضرر فلا تثبت معه، ولأن
المشتري لا يلزم تسليم الشقص قبل قبض ثمنه.
وقيل: إن عجز عنه أو عن بعضه يرجع في ذلك إلى رأي حاكم، قال في «الإنصاف» ، قلت: وهو الصواب في وقتنا هذا، وهذا القول الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
ومن أخذ الشقص بالشفعة وبقي ثمنه بذمته حتى حجر عليه الحاكم لفلس خير مشتر بين فسخ للأخذ بالشفعة أو إمضائه وضرب مع الغرماء بالثمن كالبائع إذا أفلس مشتر.
وثمن مؤجل أخذ به المشتري الشقص ولم يدرك الشفيع الأخذ حتى حل على مشتر وثمن حال أي كما لو اشترى به حالاً، قال في «الفروع»: وإلا يحل الثمن المؤجل قبل أخذ الشفيع الشقص بالشفعة، فإنه يأخذه به إلى أجله إن كان الشفيع مليئًا وهو القادر أو كفله فيه كفيل مليء نص عليه وعليه الأكثر؛ لأنه تابع للمشتري في الثمن وصفته والتأجيل من صفاته وينتفي عنه الضرر بكونه مليئًا أو كفله مليء وإذا أخذه بالثمن مؤجلاً ثم مات هو أو مشتر فحل على أحدهما لم يحل على الآخر.
وإن لم يكن الشفيع مليئًا فسخ المشتري عقد التملك بالشفعة إن لم يوثقه الشفيع بكفيل مليء إذ التوثقة شرط للزوم التملك كالملاءة ويعتد في قدر ثمن بما زيد في قدر ثمن بما زيد فيه زمن خيار مجلس أو شرط أو حط منه زمن خيار؛ لأن زمن الخيار بمنزلة حالة العقد والتغيير يلحق بالعقد فيه؛ لأنهما على اختيارهما فيه، ولأن حق الشفيع إنما يثبت إذا لزم العقد فاعتبر القدر الذي لزم العقد عليه، ولأن الزيادة بعد لزوم العقد هبة والنقص إبراء فلا يثبت شيء منهما في حق الشفيع.
ويصدق مشتر بيمينه فيما إذا اختلف هو والشفيع في قدر الثمن الذي
اشترى به الشقص حيث لا بينة لمباشرته العقد وهو أعرف بالثمن، ولأن الشقص ملكه فلا يتبرع منه بدون ما يدعي به من قدر الثمن من غير بينة، وكذا لو كان الثمن قيمة عرض إشترى به الشقص، وقال الشفيع: قيمته عشرون، وقال المشتري: بل ثلاثون، فالقول قول مشتر في قدر قيمة العرض المشتري به بيمينه حيث لا بينة ومحل ذلك حيث لم يكن العرض موجودًا، فإن كان موجودًا عرض على المقومين ليشهدوا بما يعلمون من قدر قيمته.
ويصدق المشتري بيمينه في جهل قدر ثمن كتصديقه في جهل بقيمة العرض المشتري به لجواز أن يكون اشتراه جزافًا أو بثمن نسي مبلغه ويصدق المشتري بيمينه في أنه غرس أو بنى الأرض التي منها الشقص المشفوع فيما إذا أنكر الشفيع أنه أحدث ذلك؛ لأنه ملك المشتري والشفيع يريد تملكه، فكان القول قول المالك إلا مع بينة شفيع فيعمل بها.
وتقدم بينة شفيع على بينة مشتر أن أقاما بينتين؛ لأنها بمنزلة بينة الخارج.
ولا تقبل شهادة بائع لشفيع ولا لمشتر؛ لأنه متهم، ويقبل عدل وامرأتان أو شاهد أو يمين.
وإن قال مشتر لشقص: اشتريته بألف، وأثبت الشراء بائع بأكثر من أخذ الشقص شفيع بألف؛ لأن المشتري مقر له باستحقاق أخذه بألف فلم يستحق الرجوع بأكثر، ولأن دعوى المشتري تتضمن دعوى كذب البينة، ولأن البائع ظلمه فيما زاد على الألف فلا يحكم للمشتري على الشفيع بما زاد على الألف وإنما حكم به للبائع؛ لأنه لا يكذبها.
فإن قال مشتر: صدقت البينة وغلطت أنا أو نسيت أو كذبت لم يقبل رجوعه عن قوله الأول؛ لأنه رجوع عن إقرار تعلق به حق غيره أشبه ما لو قر له بدين.
وقيل: يقبل كما لو أخبر في المرابحة، ثم قال: غلطت، قبل هاهنا أولى؛ لأنه قد قامت بينة بكذبه، قال الحارثي: هذا الأقوى، وقال القاضي: قياس المذهب عندي يقبل، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
وإن ادعى شفيع على من انتقل إليه شقص كان لشريكه شراء الشقص المشتري قائلاً إنك اشتريت هذا الشقص بألف فلي الشفعة احتاج إلى تحرير الدعوى فيحدد المكان الذي منه الشقص ويذكر قدره وثمنه، فإن اعترف غريمه وجبت الشفعة.
وإن أنكر الشراء، فقال: بل اتهبته أو ورثته، فلا شفعة لك فيه حلف عليه ولا شفعة؛ لأن الأصل معه والمثبت للشفعة البيع ولم يتحقق، فإن نكل عن اليمين ثبتت أو قامت لشفيع بينة بالبيع ثبتت أو أنكر مدعي عليه الشراء أو أقر بائع به ثبتت الشفعة لثبوت موجبها.
ومتى انتزع منه الشقص وأبى قبض الثمن فإنه يبقى حتى في المسألة الأخيرة إن أقر بائع بقبض الثمن ممن انتزع منه الشقص، يبقى في ذمة شفيع لوصول كل منهما إلى مقصوده بدون المحاكمة حتى يدعيه مشتر فيدفع إليه؛ لأنه لا مستحق له غيره ولا يكون إنكار المشتري للبيع مسقطًا لحقه لئلا يلزم أخذ الشفيع الشقص من غير عوض.
وإن لم يقر بائع بقبضه الثمن في المسألة الأخيرة أخذ الشفيع الشقص من البائع ودفع إليه الثمن؛ لأنه معترف بالبيع الموجب للشفعة والمشتري ينكره فأخذ بإقراره؛ لأنه أقر بحقين حق للشفيع وحق للمشتري، فإذا سقط حق المشتري بإنكاره ثبت حق الآخر.
(22)
مسائل حول ادعاء الشفيع والمشتري على الآخر وعلى مَن تكون عهدة الشفيع والشفعة في حق المضارب ورب المال والكافر على المسلم وصفة حل ما امتنع المشتري من قبضه
س 22: إذا ادعى شريك على حاضر بيده نصيب شريكه الغائب إنه اشترى الشقص منه أو ادعى شريك على حاضر أنه باع نصيب الغائب وقدم الغائب وأنكر، فما الحكم؟ إذا ادعى شراءه لموليه، أو باع مريض مرض الموت المخوف، فما الحكم؟ وعلى من عهدة الشفيع؟ وإذا أبى مشتر لشقص مشفوع قبض مبيع ليسلمه لشفيع أو ورث إثنان شقصًا فباع أحدهما، فما الحكم فيما قبلهما وبين من تكون الشفعة في الأخيرة؟ وهل للكافر شفعة على المسلم؟ بين الحكم والدليل، وهل للمضارب أو رب المال شفعة على الآخر؟ وهل للمضارب فيما باعه من مال المضاربة أو في ماله فيه ملك أو فيما بيع شركة المال المضاربة؟ واذكر الدليل والتعليل والقيود والتفاصيل والمحترزات والخلاف والترجيح.
ج: إذا ادعى شريك فيما فيه الشفعة على حاضر بيده نصيب شريكه الغائب أنه اشتراه من الغائب وأنه يستحقه بالشفعة فصدقه المدعي عليه أخذ المدعي الشقص ممن هو بيده على حصته مما سبق من أنها بقدر الملك وليس المراد أخذه كاملاً إلا أن يكون المدعى عليه غير شريك لهما؛ لأن من بيده العين يصدقه في تصرفه فيما هو بيده.
ولو ادعى شريك على حاضر أنك بعت نصيب الغائب بإذنه، فقال: نعم، فإن للمدعي أخذ الشقص بالشفعة، فإذا قدم الغائب وأنكر الأذن في البيع
حلف؛ لأن الأصل عدمه وأخذ شقصه وطالب بالأجرة من شاء منهما ويستقر الضمان على الشفيع؛ لأن المنافع تلفت تحت يده.
وإن ادعى الشريك على الوكيل أنك اشتريت الشقص الذي في يدك فأنكر، وقال: إنما أنا وكيل فيه أو مستودع له، فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل قضى عليه؛ لأن لو أقر لقضي عليه فكذلك إذا نكل.
وتجب الشفعة فيما ادعى مشتر شراءه لمحجوره؛ لأن الشفعة حق ثبت لإزالة الضرر فاستوى فيه جائز التصرّف وغيره وقبل إقرار وليه فيه بعيب في مبيعه.
وكذا لو قال مشتري الشقص: إنما اشتريته لفلان الغائب، فإن الشفعة تثبت ويأخذه الحاكم ويدفعه إلى الشفيع ويكون الغائب على حجته إذا قدم؛ لأننا لو وقفنا الأمر في الشفعة إلى حضور المقر له لكان في ذلك إسقاط الشفعة؛ لأن كل مشتر يدعي أن الشراء لغائب، وأما إذا أقر المدعى عليه بمجرد الملك لموكله الغائب أو المحجور ثم أقر بالشراء بعد ذلك لم تثبت الشفعة حتى يقوم بالشراء بينة أو يقدم الغائب أو ينفك الحجر عن المحجور ويعترفا بالشراء؛ لأن الملك إنما ثبت لهما بالإقرار فإقراره بالشراء بعد ذلك إقرار في ملك غيره فلا يقبل.
وإن لم يذكر سبب الملك لم يسأله الحاكم عنه ولم يطالب ببيانه؛ لأنه لو صرح بالشراء لم تثبت به شفعة فلا فائدة في الكشف عنه.
ولا تثبت الشفعة مع خيار مجلس أو شرط قبل إنقضاء الخيار سواء كان للمتبايعين أو لأحدهما لما في الأخذ من إبطال خياره وإلزام المشتري بالعقد قبل رضاه بالتزامه وإيجاب العهدة عليه وتفويت حقه من الرجوع في غير الثمن إن كان الخيار له.
وبيع المريض ولو كان مرض الموت المخوف كبيع الصحيح في الصحة، وفي ثبوت الشفعة وغيرها من الأحكام المرتبة على البيع؛ لأنه مكلف رشيد، وفي المحاباة تفصيل يأتي إن شاء الله بيانه في عطية المريض.
وعهدة شفيع على مشتر فيما إذا ظهر الشقص مستحقًا أو معيبًا وأراد الشفيع الرجوع بالثمن أو الأرش؛ لأن الشفيع ملكه من جهته فرجع عليه؛ لكونه كبائعه، ولأن الشفعة مستحقة بعد الشراء وحصول الملك للمشتري فكانت العهدة عليه والعهدة في الأصل كتاب الشراء والمراد بها هنا رجوع من انتقل الملك إليه من شفيع أو مشتر على من انتقل عنه الملك من بائع أو مشتر بالثمن أو الأرش عند إستحقاق الشقص أو عيبه، فإذا ظهر الشقص مستحقًا رجع الشفيع على المشتري بالثمن ثم المشتري على البائع.
وإن ظهر الشقص معيبًا، واختار الشفيع الإمساك مع الأرش رجع بالأرش على المشتري ثم المشتري على البائع، فإن أبى المشتري قبض المبيع ليسلمه للشفيع أجبره الحاكم على قبض الشقص؛ لأن القبض واجب ليحصل حق المشتري من تسليمه، ومن شأن الحاكم أن يجبر الممتنع.
فإن علم المشتري العيب عند البيع ولم يعلمه الشفيع عند الأخذ فلا شيء للمشتري وللشفيع الرد وأخذ الأرش وإن علمه الشفيع ولم يعلمه المشتري فلا رد لواحد منهما ولا أرش.
ومحل كون العهدة للشفيع على المشتري إن أقر المشتري بشرائه الشقص، فإن أنكر مشتر الشراء ولا بينة به وأخذ الشقص من بائع مقر بالبيع، فالعهدة على بائع لحصول الملك للشفيع من جهته كما أن عهدة مشتر على بائع.
وإن ورث اثنان شقصًا فباع أحدهما نصيبه، فالشفعة في المبيع بين
الوارث الذي لم يبع وبين شريك مورثه على قدر ملكيهما؛ لأنهما شريكان حال ثبوت الشفعة فكانت بينهما كما لو تملكاها بسبب واحد؛ لأنها تثبت لدفع ضرر الشريك الداخل على شركائه بسبب شركته وهو موجود في حق الكل.
ولا شفعة لكافر حال بيع على مسلم سواء أسلم بعد البيع أو لم يسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا شفعة لنصراني» رواه الدارقطني في كتاب «العلل» بإسناده عن أنس رضي الله عنه، ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الإستعلاء في البنيان يحققه أن الشفعة إنما تثبت للمسلم دفعًا للضرر عن ملكه فقد دفع ضرر المشتري ولا يلزم تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم ضرر الذمي، فإن حق المسلم أرجح ورعايته أولى، ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجتماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم وليس الذمي في معنى المسلم فيبقى فيه على مقتضى الأصل.
وقال ابن القيم رحمه الله في «البدائع» : فائدة حقوق المالك وحقوق الملك شيء، فحقوق المالك تجب لمن له على أخيه حق، وحقوق الملك تتبع الملك ولا يراعى بها المالك وعلى هذه حق الشفعة للذمي على المسلم من أوجبه جعله من حقوق الأملاك ومن أسقطه جعله من حقوق المالكين، والنظر الثاني أظهر وأصح؛ لأن الشارع لم يجعل للذمي حقًا في الطريق المشترك عند المزاحمة، فقال:«إذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه» فكيف يجعل له حقًا في انتزاع الملك المختص عند التزاحم، وهذه حجة الإمام أحمد نفسه.
وأما حديث: «لا شفعة لنصراني» فاحتج به بعض أصحابه وهو أعلم من أن يحتج به، فإنه من كلام بعض التابعين. اهـ.
وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي؛ لعموم الأدلة، ولأنها إذا أثبتت على
المسلم مع عظم حرمته، فلأن تثبت على الذمي لدناءته أولى.
ولا شفعة لمبتدع مكفر ببدعة على مسلم لما تقدم وأهل البدع الغلاة كالمعتقد أن جبريل غلط في الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أرسل إلى علي ونحوه، وهذا اعتقاد بعض الرافضة نعوذ بالله من زيغ القلوب وكمن يعتقد ألوهية علي؛ لأنها إذا لم تثبت للذمي الذي يقر على كفره فغيره أولى، وكذا حكم من حكم بكفره من الدعاة إلى القول بخلق القرآن ونحوه.
ولا شفعة لمضارب على رب المال إن ظهر ربح؛ لأنه يصير جزء من مال المضاربة فلا تثبت له على نفسه كأن يكون للمضارب شقص في دار فيشتري المضارب بمال المضاربة بقيتها وإن لم يظهر ربح وجبت الشفعة؛ لأنه أجنبي.
ولا شفعة لرب المال على مضارب كأن يكون لرب المال شقص في دار فيشتري المضارب بمال المضاربة بقيتها؛ لأن الملك لرب المال فلا يستحق الشفعة على نفسه.
ولا شفعة لمضارب في شقص باعه من مال المضاربة وللمضارب في الذي منه الشقص المبيع ملك لتهمته أشبه شراءه من نفسه وللمضارب الشفعة في شقص باعه مالكه الأجنبي لأجنبي من مكان فيه الشفعة شركة لمال المضاربة إن كان في أخذه حظ ككونه بدون ثمن مثله؛ لأنه مظنة الربح، فإن أبى مضارب أخذه بالشفعة أخذ بالشفعة رب المال؛ لأن مال المضاربة ملكه والشركة حقيقة له.
من النظم فيما يتعلق بالشفعة
بمثل عن المثلي خذ أو بيمة
…
وإن قرر العقد فعن غير أنقد
وللمشتري منع إلى قبض حقه
…
فإنت يعي يفسخ دون حكم بأجود
وليس قبول الرهن منك بلازم
…
ولا ضامن للمشتري بالمنقد
وإن طلب الإمهال يمهل ثلاثة
…
وبالعجز عنه أو عن البعض أبعد
ويأخذ في تأجيله ذو ملاءة
…
ومكفول شخص مع ملاءته قد
ويقبل في مقداره قول مشتر
…
إذا كان لم يأت الشفيع بشهد
وفي جهله مقداره مع يمينه
…
وفي نفي كيد ثم أسقط وأبعد
وإن قال بالألف اشتريت فخذ بها
…
وإن أثبت البياع ألفين فأردد
وإن يدعي النسيان في القول مشتر
…
ليقبل مع أحلافه في المجودِ
وإن قلت بالألف اشتريت فقال بل
…
هبات كذاك من وراثة ملحد
ليقبل نفي الإشتراء مع يمينه
…
وخذ إن أبى أو إن أتيت بشهد
وسلمه أو يبريك من ثمن فإن
…
أبى الحفظ في الأقوى وقاض بمبعد
وإن جهل المبذول في الشقص اسقطن
…
وقد قيل لا بل قيمة الشقص أورد
ولا شفعة من بعد ما فسخ بائع
…
لخيرة أو عيب الثمين المقيد
وفي الفسخ بعد الأخذ تمضي وقيمة
…
المبيع من المبتاع للبائع أردد
ووازن فضل من شفيع ومشتر
…
عليه من الثان أردد الفضل وانقد
ويملك في الأقوى بلا حكم حاكم
…
نأخذ ولفظ مفهم الأخذ قيد
وقيل بتطلاب المليء بحوزه
…
فمن قبل قبض أن تصرف يؤطد
وخذه بإقرار بيع بما ادعى
…
متى جحد المبتاع عقدًا بأجود
ومن بائع خذه وضمنه عهدة
…
هنا وكلا الشخصين من مشتر ذد
وفي ثمن لم يدعه بائع ولا
…
إبتاع كالماضي وجوه فعدد
وغير هنا المبتاع ضمنه عهدة
…
وعهدة مبتاع على بائع طد
فإن يأب قبضا مشتر فاجبرنه
…
وفي قول محفوظ على بائع عد
وسيان في استحقاق شقص بشفعة
…
شريك قريب مع شريك مبعد
فلو باع بعض الوارثي الشقص عن أب
…
لشرك أبيه مثل إخوته أشهد
ولا شفعة للكفر في شقص مسلم
…
بل العكس أو للكفر في شقص مرد
ولا مظهر الإسلام يقضي بكفره
…
كغال برفض واعتزال دعا قد
ولا شفعة في وقف فارو وديننا
…
في الأولى ومن يقض بها فيه قلد
ولا شفعة فيما بمال قراضك إشتريت
…
لرب المال في المتجرد
كذا عامل إن يبد ربح وقيل بالتملك
…
وإن شا بعد ذا الأخذ يسعد
ويملك عند الحظ أخذ بشفعة
…
فإن يعف يأخذ رب مال كمبتدي
(23)
تعريف الوديعة، ذكر طرف من محاسنها، الأصل فيها، ما يعتبر لها،
حكمها، من يصح منه الإيداع، ومن لا يصح منه، ما تنعقد به، موضع حفظها،
مبطلاتها، التعدي فيها، حرز حفظها، وما حول ذلك
س 23: تكلم بوضوح عما يلي الوديعة: سبب تسميتها بذلك، الأصل فيها الإيداع، الإستيداع، الذي يعتبر لها، مبطلاتها، ومتى يجب قبولها؟ ومتى يستحب؟ ومتى يكره؟ ومتى يحرم؟
وهل تضمن
إذا تلفت؟ وما حكم حفظها؟ وبأي شيء يحفظها؟ وإذا عين صاحبها موضعًا لحفظها فخالف، فما الحكم؟ ومن الذي يصح الإيداع عنده، والذي لا يصح الإيداع عنده، وبأي شيء تنعقد الوديعة؟ واذكر ما حول ذلك من القيود والتفاصيل والمحترزات والأمثلة والدليل والتعليل والخلاف والترجيح.
ج: الوديعة هي فعلية من ودع إذا ترك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات والجماعات» رواه مسلم، وفي النسائي:«دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم، والوديعة واحدة الودائع» .
قال لبيد:
وما المال والأهلون إلا ودائع
…
ولا بُدَّ يومًا أن نرد الودائع
وقال الآخر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة
…
وتحمل أخرى أثقلتك الودائع
وهي لغة: الشيء الموضوع عند غير صاحبه للحفظ، وتقال على الإيداع، وعلى العين المودعة، من ودع الشيء يدع إذا سكن؛ لأنها ساكنة عند المودع، وقيل من قولهم: فلان في دعة أي راحة؛ لأنها في راحة المودع ومراعاته وحفظه.
قال الشاعر:
استودع العلم قرطاسًا فضيعه
…
وبئس مستودع العلم القراطيس
والوديعة شرعًا: المال المدفوع إلى من يحفظه، وسميت وديعة بالهاء؛ لأنهم ذهبوا بها إلى الأمانة، انتهى.
ثم محاسن الوديعة ظاهرة إذ فيها إعانة عباد الله تعالى في حفظ أموالهم ووفاء الأمانة، وهو من أشرف الخصال عقلاً وشرعًا، قال -عليه الصلا ة والسلام-:«الأمانة تجر الغنى، والخيانة تجر الفقر» ، وفي المثل: الأمانة أقامة الملوك مقام الملوك، والخيانة أقامت الملوك مقام المملوك، ومن محاسن الوديعة: أنها إحسان إلى عباد الله، والله يحب المحسنين، وأنها سبب التآلف بين المسلمين ومحبة بعضهم بعضًا ومعاونة بعضهم بعضًا.
وأما الأصل فيها فهو الكتاب والسُّنة والإجماع؛ أما الكتاب: فقال الله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} .
وأما السنة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده ودائع فلما أراد الهجرة أودعها عند أم أيمن وأمر عليًا أن يردها على أهلها.
وروى البيهقي عن عمر رضي الله عنه أنه قال وهو يخطب للناس: «لا يعجبنكم من الرجل طنطنته؛ ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل» ولقد كان سفيان الثوري رحمه الله كثيرًا ما ينشد قوله:
إني وجدت فلا تظنوا غيره
…
إن التورع عند هذا الدرهم
فإذا قدرت عليه ثم تركته
…
فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم
وأما الإجماع: فأجمع أهل كل عصر على جواز الإيداع والاستيداع والعبرة تقتضيه لحاجة الناس إليها، فإنه يتعذر على جميعهم حفظ أموالهم بأنفسهم ويحتاجون إلى من يحفظها لهم.
والإيداع توكيل رب المال جائز التصرف في حفظه تبرعًا.
والاستيداع توكل جائز التصرف في حفظ مال غيره تبرعًا بغير تصرف في المال المحفوظ.
ويعتبر للوديعة لعقده أركان وكالة من كون كل منهما جائز التصرف وتعيين وديع ونحوه.
ولا يصح الإيداع إلا من جائز التصرف في المال، فإن أودعه صبي أو سفيه لم يقبل؛ لأنه تصرف في المال فلم يصح من الصبي والسفيه كالبيع.
ولا يصح إلا عند جائز التصرف، فإن أودع صبيًا أو سفيهًا لم يصح الإيداع؛ لأن القصد من الإيداع الحفظ والصبي والسفيه ليسا من أهل الحفظ.
وتبطل الوديعة بما تبطل به الوكالة إلا إذا عزله المالك ولم يعلم بعزله فهي أمانة بيده بعد ذلك.
وحكم الوديعة يختلف باختلاف الأحوال فيكون قبولها واجب على القادر على حفظها فيما إذا اضطر إليه أخوه المسلم في حفظ ماله بأن لم يجد من يحفظه له سواه.
ويكون قبولها مستحبًا لمن يعلم من نفسه الأمانة والقدرة على حفظها؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» .
ويكون قبولها مكروهًا فيما إذا كان الشخص لم يثق بأمانته بأن خاف عن نفسه الخيانة.
ويحرم على عاجز عن حفظها أخذها، وكذا من يعلم من نفسه الخيانة؛ لأنه يعرضها للتلف فلا يجوز له قبضها.
قال في «نهاية التدريب» :
ويستحب أخذها لمن يثق
…
بنفسه ولم يجز إن لم يطق
لكن تكون عنده أمانة
…
ما لم يكن تقصير أو خيانة
والوديعة أمانة بيد وديع لا تضمن بلا تعد ولا تفريط؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماها أمانة، والضمان ينافي الأمانة، ولما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أودع وديعة فلا ضمان عليه» رواه ابن ماجه، ولأن المستودع يحفظها لمالكها فلو ضمنت لامتنع الناس من قبضها، وذلك مضر لما فيه من مسيس الحاجة إليها فلا تضمن بلا تعد من الوديع أو تفريط وهو التقصير في حفظها.
فإن تعدى أو فرط ضمنها؛ لأن المتعدي متلف لمال غيره فضمنه، كما لو أتلفه من غير إيداع والمفرط متسبب بترك ما وجب عليه من حفظها ولو تلفت من بين ماله سواء ذهب معها من ماله شيء أو لا، وما روي عن عمر أنه ضمن أنسًا وديعة ذهبت من بين ماله محمول على التفريط.
قال ابن رشد: اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة، قال: وبالجملة فالفقهاء أجمعوا أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى، وقال الوزير: اتفقوا على أن الوديعة أمانة محضة وأن الضمان لا يجب على المودع إلا
بتعديه، واتفقوا على أنه إذا أودعه على شرط الضمان، فإنه لا يضمن بالشرط. اهـ.
ويلزم الوديع حفظها بنفسه أو وكيله أو من يحفظ ماله عادة كزوجة وعبد كما يحفظ ماله فيجعلها في حرز مثلها عرفًا.
قال في «التدريب» :
وحفظها محتم بجعلها
…
في موضع يكون حرز مثلها
إذ المقصود من الإيداع الحفظ والإستيداع إلتزام ذلك فإذا لم يحفظها لم يفعل ما التزمه كحرز سرقة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ولا يمكن ذلك إلا بالحفظ فمن استودع شيئًا حفظه في حرز مثله عاجلاً مع القدرة وإلا ضمن.
وإن شرط رب الوديعة ضمانها على الوديع لم يصح الشرط ولم يضمنها؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد فلم يصح.
وفي نظم «أسهل المسالك» :
ضمانها عن الوديع قد سقط
…
لأنها أمانة ولو شرط
إلا بأسباب العدا كلو وقع
…
تعديًا منه عليها ما تدع
أو نقلها بغير نقل مثلها
…
أو موضع الإيداع سهوًا ضلها
وكذا لو قال الوديع: أنا ضامن للوديعة لم يضمن ما تلف منها من غير تعد ولا تفريط؛ لأن ضمان الأمانات غير صحيح.
وكذا ما أصله الأمانة كالرهن والعين المؤجرة والموصى بنفعها
فلا يصح شرط ضمانها ولا يضمنها الوديع.
ولا يضر نقل الوديعة من حرز مثلها لتحرز مثله ولو نقلها إلى حرز دون الأول؛ لأن صاحبها رد حفظها إلى رأيه واجتهاده وأذن له في إحرازها بما شاء من إحراز مثلها؛ ولهذا لو تركها في الثاني أولاً لم يضمنها فكذلك إذا نقلها إليه.
فإن عين الحرز رب الوديعة بأن قال: أحفظها بهذا البيت أو الدكان فأحرزها بدون المعين رتبة في الحفظ ولو أنه حرز مثلها فضاعت ضمن؛ لأنه خالف المالك في حفظ ماله، ولأن بيوت الدار تختلف فمنها ما هو سهل فتقه، ومنها ما يصعب نقبه فيضمنها بوضعها في غيره ولو ردها للحرز المعين بعد ذلك، وتلفت فيه فيضمنها لتعديه بوضعها في الدون فلا تعود أمانة إلا بعقد جديد، وقيل: إن ردها إلى حرزها الذي عينه له فتلفت لم يضمن، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن أحرز الوديعة بحرز مثل الذي عينه صاحبها في الحفظ أو أحرزها بحرز فوقه لم يضمن ولو أخرجها لغير حاجة؛ لأن تعيينه الحرز أذن فيما هو مثله كمن اكترى أرضًا لزرع حنطة فله زرعها وزرع مثلها في الضرر واقتضاء الإذن فيما هو أحفظ من باب أولى كزرع ما هو دون الحنطة أو زادها إقفالاً لم يضمن؛ لأنه زاده خيرًا، وكذلك لو قال: ضعها في الشنطة أو في الدولاب فوضعها في التجوري؛ لأنه زاده خيرًا.
ولو نهاه عن إحراز بمثل المعين أو فوقه أو عن نقلها مما عين له أو عن زيادة الإقفال وفعل لا يضمن؛ لأنه لا يعد مفرطًا ولو تلفت الوديعة بسبب نقل كانهدام محل نقلت إليه.
ولو كانت العين في بيت صاحبها، فقال الآخر: واحفظها ببيتي موضعها ولا تنقلها فنقلها من موضعها لا لخوف عليها ضمنها؛ لأنه ليس بوديع، بل
وكيل في حفظها فليس له إخراجها من ملك صاحبها ولا من موضع استأجره لها إلا أن يخاف عليها فعليه إخراجها؛ لأنه مأمور بحفظها وقد تعين حفظها في إخراجها، ويعلم أن صاحبها لو حضر لأخرجها من هذه الحال، ولأنه مأمور في حفظها على صفة، فإذا تعذرت الصفة لزمه حفظها كالمستودع إذا خاف عليها.
وإن نهى المودع الوديع عن إخراجها فأخرجها وديع من الحرز حرز مثلها أو لحرز أعلى منه أو لحرز دونه لعذر ويلزمه إخراجها لغشيان نار بأن اشتعلت في المحل أو سيل أو شيء الغالب منه التوي والهلاك فتلفت الوديعة لم يضمن ما تلف بنقلها؛ لأنه محسن، والله تعالى يقول:{مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} .
ويلغز فيما إذا نهاه عن إخراجها فأخرجها لغشيان شيء الغالب فيه التوي والهلاك وتعذر إحرازها في حرز مثلها أو فوقه ونقلها إلى أدنى أنه لا ضمان عليه.
وإن تركها في الحرز الذي عينه ربها مع غشيان ما الغالب منه الهلاك فتلفت ضمن سواء تلفت بالأمر المخوف أو غيره؛ لأنه مفرط بها.
وإن أخرج الوديعة من المكان الذي عينه ربها ونهاه عن إخراجها منه لغير خوف ويحرم إخراجها إذن ولو كان إخراجه إياها لحرز أعلى من الحرز الذي عينه له المالك فتلفت الوديعة ضمن؛ لأن خالف ربها لغير فائدة فكان متعديًا بذلك بخلاف ما إذا لم ينهه فإن عين رب الوديعة حرزًا، وقال للوديع: لا تخرجها منه وإن خفت عليها فحصل خوف فأخرجها خوفًا عليها لم يضمن؛ لأنه زيادة خير وحفظًا، وكذا إذا لم يخرجها مع الخوف لا يضمنها إذا تلفت؛ لأنه إن تركها فقد امتثل أمر صاحبها لنهيه عن إخراجها مع الخوف كما لو قال له: أتلفها فأتلفها وإن أخرجها فقد زاده خيرًا
وحفظًا وأحسن به كما لو قال: أتلفها، فلم يفعل، والحكم في إخراجها من الكيس أو الصندوق كالحكم في إخراجها من البيت فيما تقدم تفصيله.
ويشترط لصحة الوديعة شروط منها: (1) تعيين المودع. (2) رضا المودع. (3) رضا المودَع. (4) أن تكون ممن يصح تصرفه. (5) أن يكون المال مما يجوز تموله، فلا يجوز استيداع المحرم كالخمر والصور مجسدة أو غير مجسدة إذا كانت من صور ذوات الأرواح والتليفزيون والسينما والبكم والراديو والدخان والشيش والدمايم والعود آلة الغناء ونحو ذلك من المحرمات؛ لأن حفظها إبقاء للشر وإعانة عليه ومساعدة لأهله ونشر للمعاصي وتوسيع لدائرة المنكرات، ولذلك لا يضمن متلفها كما مر في الغصب، وكذا لا يصح إيداع الطير في الهواء والعبد الآبق والمال الساقط في البحر؛ لأنها غير قابلة لإثبات اليد عليها وأركان الوديعة مودِع ومودَع ووديعة وإيجاب من المودع كأودعتك أو ما نوب منابه قولاً أو فعلاً والقبول حقيقة بأن يقول: قبلت أو أخذت أو نحو ذلك مام يدل عليه أو عرفًا بأن يسكت حين يضع الوديعة.
(24)
حكم من أودع بهيمة ولم يعلفها فماتت، وإذا اختلفا في تقدير النفقة عليها، وإذا قال له: اتركها في جيبك فتركها في يده أو جعل الخاتم
في الخنصر بدل البنصر
…
إلخ
س 24: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: من أودع بهيمة فلم يعلفها حتى ماتت، إذا أنفق على البهيمة المودعة، إذا اختلفا في قدر النفقة عليها، إذا لم يؤمر بإعلافها، إذا قال: اتركها في جيبك، فتركها في يده أو في كمه أو بالعكس أو أخذها في سوقه وقد أمر بحفظها في البيت فتركها لحين مضيه أو ألقاها عند هجوم ناهب، أو قال: اجعل الخاتم في الخنصر فجعله في البنصر أو عكسه أو انكسر أو جعله في أنملتها العليا، أو قال: احفظها في هذا البيت ولا تدخل أحدًا، فخالف فتلفت، أو باعها عند خوف تلفها، واذكر القيود والتفاصيل والمحترزات والأدلة والتعليلات والخلاف والترجيح.
ج: وإن أودعه بهيمة ولم يأمره ربها بعلفها ولا سقيها لزمه علفها وسقيها؛ لأنه من كمال حفظها، بل هو الحفظ بعينه؛ لأن العرف يقتدي علفها وسقيها، فإن لم يعلفها الوديع أو لم يسقها حتى ماتت جوعًا أو عطشًا ضمنها بالتفريط في حفظها وتعديه به بترك ما أمر به عرفًا أو نطقًا إلا أن نهى الوديع مالك الوديعة عن علفها وسقيها فتركها حتى ماتت فلا يضمن الوديع؛ لأن مالكها أذن في إتلافها فامتثل، كما لو أمره بقتلها فقتلها.
ويحرم على الوديع ترك علفها وسقيها حتى مع الأمر بتركها لحرمتها في نفسها فيجب إحياؤها لحق الله تعالى ويرجع منفق على بهيمة نهاه مالكها عن علفها وسقيها حيث قلنا بوجوب ذلك عليه إن نوى الرجوع ومحل ذلك مع تعذر استئذان مالك للبهيمة في الإنفاق عليها إما لغيبة أو استشارة.
وإن قدر الوديع على صاحب البهيمة أو وكيله طالبه بالإنفاق عليها أو ردها عليه أو على وكيله أو طالبه بالإذن في الإنفاق عليها ليرجع به؛ لأن النفقة على الحيوان واجبة على مالكه، فإن عجز عن صاحبها وعن وكيله أو لم يقدر على أن يتوصل إلى أحدهما ليطالبه بالإنفاق عليها أو استردادها أو أن يأذن في النفقة أنفق المستودع عليها ولو لم يستأذن حاكمًا أمكن استئذانه، بل نوى الرجوع فقط فله الرجوع.
وقيل: إذا أنفق مع إمكان إذن الحاكم ولم يستأذنه، بل نوى الرجوع لم يرجع.
والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويقبل قول الوديع في قدر ما أنفق بأن قال الوديع: أنفقت عشرة ريالات، قال ربها: بل ثمانية (8)، فالقول قول الوديع بيمينه إذا ادعى النفقة بمعروف؛ لأنه أمين وإن ادعى الوديع زيادة عن النفقة بمعروف بأن قال ربها: أنفقت منذ سنة، فقال المستودع: بل من سنتين فقول صاحب الوديعة؛ لأن الأصل براءة ذمته مما ادعاه عليه من المدة الزائدة.
ويلزم الوديع علف بهيمة ولو يأمره ربها بالعلف؛ لأن للحيوان حرمة في نفسه توجب تقديمه على قضاء الدين أحيانًا وإن لم يعلف البهيمة حتى ماتت ضمنها؛ لأن الحيوان لا يبقى عادة بدون العلف ولو خاف على الثوب أو العباءة أو البشت أو الكوت العث أو الحرق وجب نشره، فإن لم يفعل وتلف ضمنه، قلت: وكذا لو خاف عليها أو على غيرها من القماش أو الكتب من الأرضة.
وإن قال رب وديعة لوديع: اتركها في جيبك فتركها في يده أو تركها في كمه ضمنه؛ لأن الجيب أحرز وربما نسي فسقطت من يده أو كمه أو قال: اتركها في كمك فتركها في يده ضمنها؛ لأن اليد يسقط منها الشيء بالنسيان بخلاف الكم، ولو قال: أدخلها في مخبأة الكوت التي تلي الصدر فتركها في التي تلي الجنب ضمن؛ لأن التي تلي الصدر أحرز.
وقيل: لا ضمان عليه فيما إذا قال: اتركها في كمك فتركها في جيبه أو في يده، وقيل: إن تلفت بأخذ غاصب لم يضمن؛ لأن اليد بالنسبة إليه أحرز وإن تلفت لنوم أو نسيان ضمن؛ لأنها لو كانت في الكم مربوطة لما ذهبت، والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن قال: أتركها في يدك فتركها في كمه ضمنه؛ لأن الكم يتطرق إليه البط بخلاف اليد فكل منها أدنى من الآخر من وجه فضمن لمخالفته أو أخذ الوديعة الوديع بسوقه أو أمره مالكها بحفظها في بيته فترك الوديعة إلى أن خرج إلى منزله أو فوق ما يمكن الذهاب بها من دون عذر فتلفت قبل أن يمضي بها إلى بيته ضمن؛ لأن البيت أحفظ لها وتركها فوق ما يمضي بها تفريط.
وفي «المغني» : يحتمل أن لا يضمن إن تركها إلى مضيه وصوبه في «الإنصاف» .
قال في «الفروع» : وهو أظهر، قال ابن قندس: والذي يظهر إن كان بيته بعيدًا لا يروح إليه إلا بعد قضاء إشغاله فتلفت في مدة إقامته لم يضمن جزمًا. اهـ. والذي تطمئن إليه النفس ما صوبه في «الإنصاف» ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يضمن الوديع إن قال له المودع: اتركها في كمك، أو قال: اتركها في يدك أو ألقاها الوديع عند هجوم نحو ناهب كقاطع طريق إخفاء لها فلا يضمن؛ لأنه عادة الناس في حفظ أموالهم، وإذا لم يأمره بشيء بعينه يضعها فيه فله وضعها فيما يشاء من كم أو يد أو جيب ضيق وإن كان الجيب واسعًا غير مزرور فإنه يضمن ذكره المجد في «شرحه» .
وإن شدها في كمه أو في عضده أو تركها في كمه مودعًا ثقيلاً حيث يشعر به إذا سقط بلا شد لم يضمنه حيث لم يعين ربه حرزًا؛ لجريان العادة به، وإن تركها في وسطه وشد عليها سراويله لم يضمن إن ضاعت؛ لأنه لا يعد مفرطًا.
وإن أمره رب الوديعة أن يجعلها في صندوق، وقال له: لا تقفل عليها أو لا تنم فوقها فخالفه، وقفل عليها الصندوق أو نام عليها فلا ضمان
عليه؛ لأنه محسن، أو قال: إجعلها في الصندوق ولا تقفل عليها إلا قفلاً واحدًا فجعل عليها قفلين فلا ضمان عليه، أو قال: إجعلها في الشنطة فجعلها في الصندوق حديد تجوري فلا ضمان؛ لأنه محسن حيث جعلها في حرز أوثق في الأول.
وإن قال مودع لوديع: إجعل هذا الخاتم في البنصر فجعله في الخنصر فضاع ضمنه، وإن قال: إجعله في الخنصر فجعله في البنصر فلا يضمنه؛ لأنها أغلظ فهي أحرز إلا أن انكسر الخاتم من غلظها فيضمنه لإتلافه له بما لم يأذن له فيه مالكه وإن لم يدخل في جميعها فجعله في بعضها ضمن؛ لأنه أدنى من المأمور به.
وإن قال رب الوديعة: احفظها في هذا البيت ولا تدخله أحدًا فخالف فجعلها في البيت وأدخل فيه أحدًا فتلفت الوديعة بنحو حرق أو نهب أو سرقة ولو من غير داخل إليه ضمن؛ لأن الداخل ربما شاهد الوديعة في دخوله البيت وعلم موضعها وطريق الوصول إليها فدل عليها غيره ووصف موضعها له فسرقها أو سرقها هو بنفسه، وقد خالف قول مالكها حيث أدخل إلى البيت قومًا أشبه ما لو نهاه عن إخراجها فأخرجها لغير حاجة أو ضرورة.
وفي «الإقناع وشرحه» : وإن قال: إجعلها في هذا البيت ولا تدخله أحدًا فأدخل إليه قومًا فسرقها أحدهم حال إدخالهم أو بعده ضمنها، وقال: وإن كان السارق من غيرهم، أو كان التلف يحرق أو غرق ففي الضمان وجهان، أحدهما: لا يضمن، اختاره القاضي، قال في «المبدع»: أنه أصح.
والوجه الثاني: يضمن، اختاره ابن عقيل والموفق وإليه ميل الشارح، والذي تميل إليه النفس قول من قال لا يضمن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولمودع بيع وديعة تعذر على وديع ردها إلى مالكها أو وكيله أو الحاكم الثقة حيث خاف عليها، بل يجب بيعها مع خوف التلف وحفظ ثمنها إلى حضور ربها؛ لأن حفظ الأموال مطلوب ولو أمر رب وديعة الوديع أن يجعلها في منزله فتركها في ثيابه وخرج بها ضمنها؛ لأن البيت أحرز لها.
ولو أمره بشدها مما يلي الجيب فشدها من الجانب الآخر ضمن وإن أمره بشدها مما يلي الجانب الآخر فشدها مما يلي الجيب لم يضمن؛ لأنه أحرز وإن أمره بشدها على عضده أو أمره بحفظها معه فشد من أي الجانبين كان لم يضمن؛ لأنه ممتثل أمر مالكها حيث أحرزها بحرز مثلها، وإن شدها على وسطه فهو أحرز لها، وكذلك إن تركها في بيته في حرزها.
(25)
دفع الوديعة إلى من يحفظ مال المودع وإذا أراد المودع سفرًا أو تعدى فها أو أخرجها من حرزها إلى أعلى أو دونه أو خلطها بما لا تتميز منه
أو نوى التعدي فيها أو دل عليها لصًّا وما حول ذلك من المسائل
س 25: إذا دفع الوديعة المودع إلى من يحفظ ما لديها عادة فهل يضمن؟ وإذا دل على الوديعة لصًّا فعلى من يكون الضمان وإذا أراد سفرًا فهل يسافر بالوديعة، وماذا يعمل من خاف على الوديعة؟ وإذا لم يجد وكيل ربها أو أخرج الدراهم أو ركب الدابة أو لم ينشر الوديعة أو خلط بما لا تتميز منه أو نوى التعدي فما الحكم؟ وما الدليل؟ واذكر التفصيل والقيود والخلاف والترجيح.
ج: إذا دفع الوديعة إلى من يحفظ مال المستودع عادة أو رفعها
إلى من يحفظ مال ربها كزوجته وعبده وخادمه ونحوهم كخازنه
وتلفت لم يضمن؛ لأنه قد وجب عليه حفظها فله توليه بنفسه وبمن يقوم مقامه كما لو دفع الماشية إلى الراعي والبهيمة إلى غلامه ليسقيها ولقيامهم مقام المالك في الرد أو دفعها لعذر كمن حضره الموت أو أراد سفرًا وليس السفر أحفظ لها فدفعها إلى أجنبي ثقة لم يضمن.
وحكم دفع المستودع الوديعة إلى شريك نفسه أو شريك ربها في غيرها أو فيها كحكم دفعها لأجنبي محض، فإن كان بلا عذر ضمن ولعذر وهو ثقة لم يضمن أو دفعها لحاكم فتلفت لم يضمن؛ لأنه لم يتعد ولم يفرط.
والقاعدة: أن من قبض من يد الأمناء بغير إذن المالك في حالة يجوز إقباضها فأمانة عند الثاني، قاله ابن رجب، وإلا يكن له عذر حين دفعها إلى الأجنبي المحض وهو ليس له فيها شريك ولا هو ممن يحفظ ماله عادة ضمن لتعديه؛ لأنه ليس له أن يودع بلا عذر.
كما أنه ليس له أن يؤجرها ولا يعيرها ولا يرهنها، وقد نظم بعضهم عشر مسائل لا يملك فيها تمليكا لغيره بدون إذن سواء قبض أو لا، فقال:
ومالك أمر لا يملكه بدون
…
أمر وكيل مستعير وموجر
ركوبًا ولبسًا فيهما ومضارب
…
ومرتهن أيضًا وقاص يؤمر
ومستودع مستبضع ومزارع
…
إذا لم يكن من عنده البذر يبذر
وما للمساقي أن يساقي غيره
…
وإن أذن المولى له ليس ينكر
وكما لو نهاه عند إيداعها، ولأنه أمره بحفظها بنفسه فلم يرض لها غيره.
ولمالك الوديعة إذن مطالبة الأجنبي أيضًا ببدل الوديعة؛ لأنه قبض ما ليس له قبضه أشبه المودع من الغاصب، وعلى الأجنبي قرار الضمان إن علم الحال لتعديه، ولأن التلف حصل عنده وقد دخل على أنه يضمن وإن لم يعلم الحال فله تضمين الأول، وليس للأول الرجوع على الثاني؛ لأنه دخل معه في العقد على أنه أمين لا ضمان عليه، وكذا حكم كل أمانة كعارية وغير مرهونة.
وما بيد وكيل ومضارب إذا دفعها من هي بيده من غير عذر إلى أجنبي وتلفت فمع علم الأجنبي يضمن لحصول التلف عنده ومع جهل الحال لا يضمن لدخوله على أنها أمانة، وأن الحاكم لا يطالب ببدل الأمانة إذا دفعت إليه وتلفت عنده بلا تعد ولا تفريط إلا مع علمه بالحال بخلاف الأجنبي، فإنه يطالب بالبدل علم الحال أو لم يعلم لكن عليه القرار إن علم.
وإن دل وديع لصًّا على الوديعة فسرقها ضمن الوديع واللص، أما الوديع فلمنافاة دلالته الحفظ المأمور به أشبه ما لو دفعها لغيره، وأما اللص فلأنه المتلف لها وعلى اللص القرار لمباشرته ووجود التلف في يده، وللوديع الاستعانة بأجنبي في حمل ونقل من موضع إلى آخر، وله الاستعانة بأجنبي في سقي وعلف بهيمه.
وله السفر بوديعة ولو مع حضور مالكها فلا يضمنها إن تلفت معه سواء كان به ضرورة إلى السفر أو لا ومحل ذلك إن كان السفر بها أحفظ للوديعة ولم ينهه رب الوديعة عن السفر بها، فإن نهاه عن السفر بها امتنع عليه السفر بها، فإن سافر بها ضمن لمخالفته صاحب الوديعة.
وقيل: إن كان حاضرًا أو وكيله في قبضها أنه لا يحملها إلا بإذن،
فإن فعل ضمن، قال في «المغني»: ويقوى عندي أنه متى سافر بها مع القدرة على مالكها أو نائبه بغير إذن أنه مفرط عليه الضمان، انتهى. وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فإن فاجأ البلد عدو أو جلا عن البلد أهله أو حدث في البلد حريق أو غرق وأراد السفر بها تعين عليه ذلك؛ لأنه موضع الحاجة، فإن تركها إذًا؛ فإنه يضمن إن تلفت لتركه فعل الأصلح، وإن لم يكن السفر أحفظ لها أو استوى الأمران أو نهاه المالك عن السفر أو فاجأ البلد عدو دفعها لمالكها الحاضر أو من يحفظ ماله عادة كزوجته وخازنه أو وكيله في قبضها كحاضر خاف عليها؛ لأن في ذلك تخليصًا له من دركها وإيصالاً للحق إلى مستحقه وامتنع عليه السفر بها، فإن تعذر على الوديع المريد للسفر دفعها إلى مالكها أو من يقوم مقامه فعليه دفعها لحاكم مأمون؛ لأن في السفر بها عذرًا؛ لأنه عرضة للنهب وغيره، ولأن الحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته.
وإن لم يكن ثم حاكم أو كان وتعذر دفعها إليه لكونه غير مأمون أو دفعها إليه ولم يقبلها فعليه دفعها لثقة لفعله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يهاجر أودع الودائع التي كانت عنده أم أيمن وأمر عليًا رضي الله عنه أن يردها إلى أهلها كوديع حضره الموت؛ لأن كلا من الموت والسفر سبب لخروج الوديعة عن يده.
أو دفن الوديعة إن لم يضر الدفن وأعلم ساكنًا بالدار ثقة فإن لم يعلمه أو كان المعلم غير ساكن في الدار أو كان غير ثقة المعلم أو دفنها خارج البلدة فضاعت ضمنها الوديع؛ لأنه فرط في الحفظ بعدم إعلامه أحدًا؛ لأنه قد يموت في سفره أو يظل فيخطئ موضعها فلا تصل لربها وإن أخبر غير ثقة فربما أخذها ومن لا يسكن الدار لا يمكنه حفظ ما فيها
ولم يودعه إياها وليس في إمكانه حفظها.
ولا يضمن مسافر أودع وديعة فسافر بها فتلفت في السفر؛ لأن إيداع المالك لها في السفر يقتضي الإذن في السفر بها.
ومن تعدى في الوديعة المركوبة فركبها لغير نفعها أو كانت ثيابًا أو عباءة فلبسها أو افترشها لا لخوف عث وهو سوسة تلحس الصوف ضمن وبطلت أمانته.
ويضمن وديع ثياب إن نقصت بحصول عث بها وهو الحرق إن لم ينشرها؛ لأنه مفرط، وكذا إن تلفت بسبب العث، قال بعضهم:
وتارك نشر الصوف صيفًا فعث له
…
يضمن وقرض الفأر بالعكس يؤثر
إذا لم يسد الثقب من بعد علمه
…
ولم يعلم الملاك ما هي تقرر
ومحل ذلك إن لم ينهه المالك وإلا فلا ضمان عليه.
وكاستعماله آلة صناعة من خشب لا لخوف من دابة الأرض بطلت أمانته.
وإن أخرج الدراهم أو الدنانير المودعة لينفقها أو ليخون فيها أو أخرجها لينظر غليها شهوة ليتفرج عليها ويراها ثم ردها إلى وعائها أو كسر ختمها أو حل كيسها ضمنها لهتكه الحرز.
وكذا إن كانت مصرورة ففتح الصرة أو مقفولة فأزال قفلها أو جحد الوديعة ثم أقر بها ضمن؛ لأنه بجحده لها خرج عن الاستئمان عليها فلم يزل عنه الضمان بالإقرار بها؛ لأن يده صارت يد عدوان.
وكذا لو منعها المودع مالكها بعد طلبه لها أو وكيله الثابتة وكالته بالبينة
أو بعد التمكن من دفعها إلى طالبها الشرعي ضمن؛ لأن يده يد عادية إذًا بسب منعها.
وإن خلط الوديعة بما لا تتميز منه كزيت بزيت أو شيرج وكسمن بري ببحري وكصماء بصماء ورز برز نحو ذلك بطلت أمانته فيما تعدى فقط وحيث بطلت وجب ردها فورًا؛ لأنها أمانة محضة.
وقد زالت بالتعدي ولا تعود وديعة بعد التعدي فيها بغير عقد جديد.
ولا ضمان بنية التعدي في لوديعة، ل لابد من قول أو فعل.
وإن خلط الوديعة غير الوديع بما لا تتميز منه فالضمان على الخالط دون الوديع لوجود العدوان من الخالط.
ومتى جدد الوديعة الوديع استئمانًا بريء، فإن تلفت بعد لم يضمن؛ لأنه لم يتعد في الإستئمان الذي تلفت فيه والأول قد زال.
وإن أبرأه المالك من الضمان بتعديه بريء فلا يضمنها، إن تلفت بعد لإمساكه إياها بإذن ربها وزال حكم التعدي بالبراءة ونقل منها عن رجل استودع عشرة دراهم واستودعه آخر عشرة وأمره أن يخالطها فخلطها فضاعت الدراهم فلا شيء عليه، فإن أمره أحدهما بخلط دراهمه ولم يأمره الآخر فعليه ضمان دراهم من لم يأمره بخلطها دون الأخرى المأمور بخلطها.
وإن خلطها بمتميز كدراهم بدنانير أو ريالات بجنيهات أو جنيهات سعودية بجنيهات إفرنجية أو ريالات فرنسية بريالات سعودية أو دراهم بيض بدراهم سود أو بر بشعير أو حب هيل بقهوة أو مسمار بهيل لم يضمن لإمكان التميز فلا يعجز بذلك عن ردها فلم يضمنها كما لو تركها في صندوق فيه أكياس له.
وإن قال رب مال لوديع رد المال غدًا وبعد غد يعود المال وديعة تعين على الوديع رده غدًا امتثالاً فإن أخر رده عن الغد وتلف ضمن لمخالفته قول ربه ولا يعود بعد رده إلا بعقد جديد لبطلان العقد بمجرد الرد.
ومن استأمنه أمير على ماله فخشي من حاشيته إن منعهم من عاداتهم المتقدمة لزمه فعل ما يمكنه وهو أصلح للأمير من تولية غيره فيرتع معهم لاسيما وللأخذ شبهة، قاله الشيخ تقي الدين.
من النظم فيما يتعلق بالوديعة
وأودع كذا استودع لمن جاز بيعه
…
وإلا ضمنت المال من يد فوهد
وتبرأ بتسليم الولي له فقط
…
ولا غرم أن يودع فيتلف لمبعد
وقد قيل لا تضمين في قبض خائف
…
ضياعًا لمال مع صبي فجود
كذا الحكم مع عبد بلا إذن سيد
…
وضمنه ما يريد بنفس بأجود
ومستودع في حفظها ذو أمانة
…
فلا غرم إن تتلف على غير معتد
وإن تلفت من بين أمواله فلا
…
ضمان عليه في الصحيح المؤكد
وما شرط تضمين الأمانات موجب
…
ضمانًا ولا نفي لتضمين مفسد
ويلزمه الإحراز في حرر مثلها
…
ولو بيدي مأمونة المتعود
ولا غرم أن تنقل إلى حرز مثلها
…
ولو دون ذا إن ربها لم يقيد
وإن تك في مأموي لمالكها فإن
…
تزلها سوى للخوف من هلكها تدي
ولا تنقلها من معين ربها
…
سوى لمسلم مهلك غالب قد
كنار وسيل قاصد لمقرها
…
وهدم مكان أو تغلب معتد
فيلزمه نقل وقيل لمثله
…
وأحرز منه أنقل ولو لم يخف رد
وقيل لأعلى دون مثل وقيل دع
…
وإن لم تزل للخوف يضمن بأوطد
وإن ينه عن إخراجها عند خوفه
…
ونوم عليها ثم قفل مجود
وعن علف أو سقي البهيم فليس في
…
خلاف ولا في طاعة غرم أشهد
ولو قيل بالتضمين في ترك فوتها
…
لإثمهما في تركه لم أبعد
وأن تدع الأمر المخوف وفقدها
…
به جيء لغشين الشهيد بشهد
ووال بحق الله قد ذهبت به
…
تخلص من تضمينها وتقلد
وتارك إطعام البهيمة آثم
…
ويضمن ما لم ينه قيمة مفسد
ومحتمل أن ليس يضمنها ولو
…
أمره ولم يقبل إذًا لم يزود
وخذ قوتها من ربها أو فردها
…
فإن غاب فاستأذن ذوي الحكم ترشد
فيفعل حظ المرء من بيع بعضها
…
أو الكل أو إيجارها لتزود
أو الدين للإنفاق يقضيه ربها
…
فإن فات كل وانفقن بشهد
فإن تنو عدوانًا فأنفق أخي بلا
…
شهود ولا حكم موات تردد
ويضمنها بعد التعدي بحجدها
…
وبالمنع مع إمكان دفع لمنشد
وأخذ لإنفاق ولو رد قبله
…
وتغيير ختم وانتفاع مجدد
له دونها مثل الركوب لشغل
…
وراكبها للسقي والرعي لها يدي
وخلط بمال يمكن الميز بعده
…
ولا غرم مع إمكان ميز بأوكد
فإن مات عن تلك وإن ما تميزت
…
فصاحبها فيها غريم بمرصد
وما احتاج نشرًا أن يدع نشره ولم
…
يكن قد نهاه عنه ضمنه تسعد
وفي قوله في الجيب ضعها بوضعها
…
بكم يضمن دون عكس المحدد
وقيل إن يضع في الكم مشدودة أو
…
الثقيلة لم يضمن لفعل معود
ووجهان أن يعصي ويجعل في اليد
…
وجوزه القاضي لزحم ملدد
وإن يقل إحملها إلى البيت فليسر
…
سريعًا وضمن أن يقر ويقعد
وقد قيل لا غرم لمكث لحاجة
…
وإن لم يعين فأحفظن بالمعود
وإن قال لا يدخل سواك مقرها
…
فمكن منه غيره فهو معتدي
ويضمن مع تسليمها غير حافظ
…
جناة بلا عذر ولو حاكم زد
وليس على الثاني مع الجهل غرمها
…
وقال أبو يعلى بلى وليعود
على أول لا العكس والعكس إن درى
…
كذا حكم من أعلمته دفنها أعدد
وإما تخف يومًا عليها لديك أو
…
تشا سفرًا للمالك إن أمكن أردد
وإلا متى لم تنه عن سفر بها
…
فسافر بها إن كان أحظى له قد
ووجهان عند الإستواء وإن تسر
…
بها بعد نهي أو مع الخوف تعتد
ويختار شيخ العصر تضمين سائر
…
بها أن يوات الرد للمالك إقتد
فإن لم يوات الرد أو سفرها بها
…
تعين إعطا حاكم في المؤطد
وقيل يجوز الدفع من ذي إقامة
…
بلا حاجة للحاكم المتقلد
فإن يتعذر كل أودع حفيظًا أو
…
لديه أدفن إن لم يؤذ وأعلمه واحدد
وما احتاج أجرًا فهو من مال ربها
…
وأجرة عدوان فمن مال معتدي
وتضمن أن تدفن لدى غير معلم
…
حفيظ وأرض الدفن في حرزة قد
ومن خاف موتًا فهو مثل مسافر
…
على ما مضى من حكمه المتعدد
وإن خاف كاستعمالها لانتفاعها
…
أرو إخراج عدوان فتاب فيردد
أو أنكر ثم إن أقر بها الفتى
…
فإن تلفت يضمن غير بغير تردد
(26)
خلط الوديعة بغيرها أو أخذ شيء منها ورد وإيداع الصغير والمجنون والسفيه والمعتوه وإذا مات من عنده أمانة أو مضاربة أو رهنا ولم توجد في تركته
س 26: إذا خلطت الوديعة فضاع بعضها أو أخذ منها ريالاً ثم رده وتلفت، أو أذن في أخذ درهم فضاع الكل، فهل يضمن الدرهم وحده؟ وإذا خرق الكيس أو البوك الذي فيه الفلوس أو الشنطة التي فيها الدراهم أو أودعه صغير أو مجنون أو سفيه فبأي طريق يبرأ من الوديعة؟ أو وجد ما حرم إلتقاط بمضيعة فأخذه ليحفظه فتلف أو أودع صغيرًا أو مجنونًا أو سفيهًا أو معتوهًا أو مات إنسان وعنده وديعة أو مضاربة أو رهنًا ونحوها من الأمانات ولم توجد في تركته وإذا دعي مودع ردًا للوديعة أو ادعى تلفًا أو ردها للحاكم أو للورثة أو أقر بالإيداع بعد إنكار، فما الحكم؟ واذكر التفاصيل والقيود والمحترزات والأدلة والتعاليل والخلاف والترجيح.
ج: إذا اختلطت الوديعة لا بفعل الوديع، بل بفعل طائر أو حيوان أو تدحرج عليها صخرة أو خشبة أو حديدة فضاع من الوديعة بعضها فالضائع من مال الوديع والباقي من الوديعة بخلاف ما إذا أتلفت كلها فلا ضمان على الوديع.
وإن أخذ الوديع ريالاً إن كانت ريالات أو جنيهات إن كانت جنيهات أو بعض الورق المودعة بلا إذن من مالكها وهي غير مختومة ولا مشدودة ولا مصرورة ثم رده وتلفت ضمنه وحده أو أخذ منها ريالاً ثم ر د بدله متميزًا وضاعت ضمنه وحده.
وإن أذن المالك للوديع في أخذ ريال منها فأخذ الريال ورد بدله بلا إذنه المالك فضاع الكل ضمن الريال وحده؛ لأن الضمان تعلق بالأخذ
فلم يضمن غير ما أخذه بدليل ما لو لتلف في يده قبل رده ما لم تكن الوديعة مختومة أو مشدودة أو مصرورة، فإن كان كذلك ضمن الجميع لهتك الحرز بغير إذن ربه أو يكن البدل الذي رده غير متميز وضاعت الوديعة فيضمن الجميع لخلطه الوديعة بما لا تتميز منه كما لو لم يدر أيهما ضاع هل هو المردود أو غيره من الوديعة فيضمنه؛ لأن الأصل عدم براءته.
وعند مالك: لو خلط دراهم الوديعة أو دنانير أو الحنطة بمثلها حتى لا تتميز لم يكن ضامنًا للتلف، وقال أبو حنيفة: إن رده بعينه لم يضمن تلفه وإن رد مثله لم يسقط عنه الضمان، وقال الشافعي: هو ضامن على كل حال بنفس إخراجه لتعديه، ولا يسقط الضمان سواء رده بعينه أو رده مثله.
والذي تميل النفس أنه إذا رده غير متميز لا يجب عليه ضمان الجميع، بل يضمن ما حصل فيه التعدي وهو الريال وحده، والله سبحانه أعلم.
ويضمن وديع بخرق كيس فيه وديعة من فوق شد أرش الكيس فقط دون ما في الكيس؛ لأنه لم يهتك حرزه ويضمن بخرقه من تحت شده أرشه وما فيه إن ضاع هتكه الحرز.
ومن أودعه صغير مميز أو لا أو أودعه مجنون أو أودعه سفيه وديعة لم يبرأ الوديع من صغير ونحوه إلا بردها إلى وليه في ماله كديته الذي له عليه.
ويضمنها قابضها من الصغير ونحو إن تلفت تعدى أو فرط أو لا لتعديه بأخذها؛ لأنه لا تسليط من المالك وقد تلفت بغير حق فضمنه؛ لأنه إتلاف يستوي فيه الكبير والصغير والعمد والسهو ما لم يكن المحجور عليه لحظه مميزًا مأذونًا له في الإيداع أو يخف الآخذ هلاكها معه فأخذها لحفظها حتى يسلمها لوليه حسبة فلا ضمان عليه كمال ضائغ وموجود في مهلكة إذا أخذ لحفظه لربه وتلف قبل التمكن من رده فلا ضمان عليه بأخذه
لقصده به التخلص من الهلاك فالحفظ فيه لمالكه وكأخذه مالاً مغصوبًا من الغاصب تخليصًا له ليرده لمالكه فتلف قبل التمكن من رده لم يضمنه؛ لأنه محسن.
ولو وجد إنسان حيوانًا حرم إلتقاطه لامتناعه من صغار السباع ووجده بمضيعة وهي الفلاة من الأرض البعيدة من العمران وعلم الواجد مالك الحيوان فأخذه ليحفظه لربه وتلف لا يضمنه؛ لأنه محسن صانع معروفًا، والله جل وعلا يقول:{مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} فغير لائق أن يعامل بضده.
وما أودع أو أعير لنحو صغير أو معتوه أو مجنون أو قن صغير لم يضمن المعار أو المودع بتلف في يد قابضه ولو حصل التلف من القابض أو حصل بتفريطه؛ لأن المالك سلطهم على الإتلاف بالدفع إليه.
ويضمن المودع والمعار العبد المكلف وهو البالغ الرشيد ومثله المدبر والمعلق عتقه بصفة وأم ولد في رقبته إذا أتلفه؛ لأنه مكلف فصح إستحفاظه وبه يحصل الفرق بينه وبين الصبي وكونه في رقبته؛ لأن إتلافه من جناية.
وقيل: إن إتلاف السفيه موجب للضمان كالرشيد وإلحاقه بالرشيد أقرب، وهذا القول هو الذي يترجح عندي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإذا مات إنسان وثبت أن عنده وديعة أو مضاربة أو رهنًا ونحوها من الأمانات ولم يوجد تلك ونحوها بعينها في تركته فهي دين عليه تغرمها الورثة من تركته؛ لأنه لم يتحقق براءاته منها كبقية الديون، فإن كان عليه دين سواهما فهما سواء.
والمودع أمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماها أمانة بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فيصدق المودع
في رد الوديعة بيمينه؛ لأنه لا منفعة له في قبضها، فقبل قوله بغير بينة أشبه الوكيل بلا جعل ويصدق الوديع في رد إلى مالكه.
قال في «نهاية التدريب» :
ولا خلاف أن قول المودع
…
مصدق في ردها للمودع
ويصد في رد إلى وكيل المالك في حفظها أو لزوجة المالك أو لخازن المالك أو لمن يحفظ ماله عادة؛ لأن يدهم كيد المالك فالدفع لهم كالدفع له، وكذا الوادعي الوديع الرد على يد قن مدعي الرد أو زوجته أو خازنه، قال في «الإنصاف»: لوادعي الأداء على يد عبده أو زوجته أو خازنه فكدعوى الأداء بنفسه.
ولو ادعى الوديع الرد على يد حافظه أو وكيله يصدق؛ لأنه لما كان له حفظها بنفسه وبمن يقوم مقامه كان له دفعها كذلك؛ لأن أيديهم كيده ويقبل قول مدعي ممن ذكر بيمينه.
ولو مات المودع وادّعى المودع أنه رد إليه الوديعة قبل موته بأن ادّعى ورثة المالك عليه، فقال: رددتها إليه قبل موته قبل قوله بيمينه، كما لو كان المالك هو المدعي وأنكر ويصدق الوديع أيضًا بيمينه في قوله لمالكها أذنت لي في دفعها.
وهو من «مفردات المذهب» ، وقيل: لا يقبل، قاله الحارثي وهو قوي؛ لأن الأصل عدم الإذن وله تضمينه، وهذا القول هو الذي يترجح عندي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويصدق في قوله أذن لي مالكها قبل موته في دفعها لفلان أمانة ودفعتها إليه؛ لأن الوديع ادّعى دفعًا يبرأ به من الوديعة فكان القول قول
فيه، كما لو ادّعى ردها إلى مالكها ولا يلزم المدّعي عليه غير اليمين لما لم يقرّ بقبضه، وكذا إن أقرّ المالك بالإذن في الدفع وأنكر أن يكون دفع له قبل قول الوديع ثم ينظر في المدفوع إليه، فإن أقر بالقبض فلا كلام وإن أنكر حلف وبرئ وفاتت على ربها إن كان المدفوع إليه وديعًا، وإن كان دائنًا قبل قوله مع يمينه وضمن الدافع إن لم يشهد لتقصيره صدق المالك أو كذبه؛ لأنه لما قبل قوله على المالك فكذلك يقبل قوله على الورثة مع إنكارها.
ويصدق وديع بيمينه في دعوى تلف للوديعة بسبب خفي كالسرقة لتعذر إقامة البينة على مثل هذا السبب، ولأنه لو لم يقبل قوله في ذلك لامتنع الناس من قبول الأمانات مع الحاجة إلى ذلك، قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه من أهل العلم أن المستودع إذا أحرز الوديعة ثم ذكر أنها ضاعت قبل قوله مع يمينه.
وحكى الوزير الإتفاق على أن القول قول المودع في التلف والرد مع يمينه.
وقال ابن القيم: إذا لم يكذبه شاهد الحال، وقال: إذا ادّعى الهلاك في الحريق أو تحت الهدم أو في نهب العيارين ونحوهم لم يقبل إلا إذا تحقق وجود هذه الأسباب وإن هلكت من بين ماله. اهـ.
وكذا إن لم يذكر السبب أو دعوى تلف للوديعة بسبب ظاهر كحريق وغرق ونهب جيش إن ثبت وجوده ببينة تشهد بوجود ذلك السبب، فإن عجز عن إقامة السبب الظاهر ضمن الوديعة؛ لأنه لا يتعذر إقامة البينة به والأصل عدمه.
ويكفي في ثبوت السبب الظاهر الإستفاضة ويصدق الوديع بيمينه
في عدم الخيانة وعدم تفريط وفي حرز مثل بلا نزاع؛ لأنه أمين، والأصل براءته.
وإن ادّعى الوديع رد الوديعة لحاكم أو ورثة مالك لم يقبل إلا ببينة؛ لأنهم لم يأمنوه أو ادعى ردًا بعد مطله بتأخيره دفعها إلى مستحقه بلا عذر، ثم ادّعى تلفًا لم يقبل إلا ببينة؛ لأنه بالمطل بطل الإستئمان وكذلك لو ادعى ردًا بعد منعه منها لم يقبل إلا ببينة؛ لأنه صار كالغاصب.
قال في «التدريب» :
وأن يؤخر ردها بعد الطلب
…
من غير عذر فالضمان قد وجب
أو وعد الوديع المالك رد ما أودعه ثم ادّعى الوديع الرد أو ادّعى تلفه قبل وعده برده إليه أو ادعى ورثة الوديع ردًا منهم أو من مورثهم ولو لمالك أو ادّعى ورثة الوديع أن مورثهم رد الوديعة قبل موته لم يقبل ذلك إلا ببينة؛ لأنهم غير مؤتمنين عليها من قبل مالكها.
وكذا لو ادعاه ملتقط أو من أطارت الريح الثوب إلى داره فلا يقبل إلا ببينة.
وكذا في الحكم كل من يقبل قوله بيمينه من الأمناء كالشريك والوكيل مجانًا والمرتهن إذ لا فرق بينهم وبين الوديع.
وإن أنكر الوديع الوديعة بأن قال: لم يودعني، ثم قرّ بالإيداع أو ثبتت عليه الوديعة ببينة، فادعى ردًا أو تلفًا سابقين لجحوده لم يقبل منه ذلك؛ لأنه صار ضامنًا بجحود معترفًا على نفسه بالكذب المنافي للأمانة.
ولو أتى ببينة على الرد أو التلف وأطلقت البينة الشهادة فلم تقل قبل ولا بعد فلا تسمع لتكذيبه لها بجحوده.
وبهذا قال المالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي؛ لأنه مكذب لإنكاره الأول ومعترف على نفسه بالكذب المنافي للأمانة.
وقيل: يقبل؛ لأن صاحبها لو أقر بذلك سقط عنه الضمان.
وقال في «الإنصاف» : ويحتمل أن يقبل ببينة، قال الحارثي: وهو المنصوص من رواية أبي طالب وهو الحق، وقال: هذا المذهب عندي، انتهى. وهذا القول الذي تميل إليه النفس والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن ادّعى ردًا أو تلفًا بعد جحوده كما لو ادّعى عليه بالوديعة يوم الأحد فجحدها ثم أقر بها يوم الاثنين ثم ادّعى أنه ردها أو تلفت بغير تفريط يوم الثلاثاء وأقام بينة شاهدين قبلا، والسبب في أنه يقبل الرد والتلف إذا أداهما بالبينة بعد الجحود؛ لأنه حينئذ ليس بمكذب لها ولا ضمان على وديع بتركه الوديعة عنده باختيار ربها بقائها بعد ثبوتها عند الوديع؛ لأنها بإبقاء ربها لها باختيار تعود أمانة.
وإن قال مدعى عليه: الودعية مالك عندي شيء أو لا حق لك عندي أو قبلي، ثم أقر بالإيداع أو ثبتت ببينة قبل منه رد أتلف سبقًا جحوده؛ لأنه ليس بمناف لجوابه أن يكون أودعه ثم تلفت عنده بغير تفريط أو ردها فلا يكون له عنده شيء.
ولا يقبل منه دعوى وقوع الرد والتلف بعد جحوده بلا بينة لاستقرار حكمه بالجحود فيشبه الغاصب وعليه ضمان وديعة ثبت أنها تلفت ببينة ما لم يكن جدد عقدًا بعد الجحود.
وإن قال إنسان لآخر: لك عندي وديعة ثم ادّعى المقر ظن البقاء بأن قال: كنت أظنها باقية ثم علمت تلفها قبل قوله بيمنه.
قال في «الإنصاف» : قلت: وهو الصواب، وقيل: إذا قال لك عندي وديعة ثم ادّعى ظن البقاء ثم علم تلفها لم يقبل قوله، والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإذا مات مودع أو وكيل أو شريك أو مرتهن أو مضارب وانتقلت الوديعة إلى يد من بعده فالواجب على وارثه المنتقل إليه فورًا أحد شيئين: إما إعلام مالك بموت الوديع أو ردها.
ولا يجوز لمن هي بيده أن يمسكها قبل إعلام ربها بها؛ لأنه لم يأتمنه عليها.
ومحل ذلك إذا كان إذن مالكها لزوال حكم الائتمان بمجرد موت المورث.
فإن تلفت الوديعة عند وارث قبل إمكان الإعلام أو الرد إلى ربها لنحو جهل بها أو به لم يضمنها إذا لم يفرط بلا نزاع؛ لأنه معذور.
وإن تلفت بعد إمكان ردها إلى ربها أو إعلامه بموت الوديع فلم يفعل ضمن لتأخر ردها إلى ربها أو الإعلام مع إمكانه وحصولها بيده بلا إيداع بخلاف عبد أو حيوان دخل داره وعليه أن يخرجه ليذهب كما جاء؛ لأن يده لم تثبت عليه.
وكل من حصل في يده بلا ائتمان من صاحبها كلقطة وثوب أطارته ريح لداره وعلم به فعليه المبادرة إلى الرد مع العلم بصاحبها والتمكن منه أو إعلامه.
وكذا لو عزل نفسه نحو مودع كعدل بيده الرهن ومرتهن ووكيل ومضارب وشريك فيجب عليه الرد على الفور.
قال ابن رجب في «قواعده» : وكذا حكم الأمانات إذا فسخها المالك
كالوديعة والوكالة والشركة والمضاربة يجب الرد على الفور لزوال الائتمان صرح به القاضي في خلافه، وسواء كان الفسخ في حضرة الأمين أو غيبته، وظاهر كلامه أنه يجب فعل الرد، فإن العلم هنا حاصل للمالك، انتهى.
وحاصله أن الأمين إن كان أزال الائتمان بعزله نفسه فيجب عليه المبادرة إلى الرد أو الإعلام، وإن كان العزل صدر من المالك وطلب الرد وجب على الأمين التمكين من الرد، قال في «القواعد»: فمتى كان المالك عالمًا ولم يطلب فلا ضمان إذا لم تكن مؤونة الرد واجبة على من هو عنده.
(27)
الواجب على من عنده عين انقضى ما أخذت من أجله وما تثبت به الوديعة وحكم المطالبة إذا غصبت ممن هي بيده أو أكره على دفع الوديعة
بتهديد أو على الطلاق أن لا وديعة
س 27: ماذا يجب على من عنده عين إجارة أو إعارة أو غصب أو مقبوض على وجه السوم أو رهن، وإذا أحرز الوديعة بعد طلب صاحبها فما الحكم؟ وما الذي تثبت به الوديعة؟ وإذا ادعى الوديعة إثنان فأقر لأحدهما أو أودع إثنان وديعة وطلب أحدهما نصيبه منها، وإذا غصبت العين المودعة أو الموجودة أو مال المضاربة أو الرهن فهل لمن هي بيده المطالبة، وإذا أكره مودع على دفع الوديعة فدفعها لغير ربها أو أكره على الطلاق أن لا وديعة عنده لفلان، وإذا نادى السلطان بتهديد من عنده وديعة وينكرها فجزاؤه كذا، أو قال من لم يحمل وديعة فلان عمل به كذا فحملها إنسان فما الحكم؟ واذكر القيود والمحترزات والتفاصيل والأمثلة والأدلة والتعاليل والخلاف والترجيح.
ج: الأعيان المضمونة يجب المبادرة بها إلى ردها بكل حال وسواء كان حصولها في يده بفعل مباح أو محرم أو بغير فعله.
فالأول: كالعواري يجب ردها إذا استوفى منها الغرض المستعارة له إذا انتهى قدر الانتفاع المأذون فيه وسواء طالب المالك أو لم يطالب؛ لأنها من قبيل المضمونات فهي شبيهة بالمقبوض، وكذا حكم المقبوض بالسوم.
والثاني: كالمغصوب والمقبوض بعقد فاسد.
ويجب على المستأجر رد العين المؤجرة إذا انقضت إجارة.
ويجب على مرتهن إذا وفى دين برهن رد الرهن لمالكه.
ويضمن وديع أحرز الوديعة فلم يمكن مالكها من أخذها بعد طلب فإن أخر الرد بعد طلبها بلا عذر في التأخير ضمن إن تلفت أو نقصت كالغاصب.
وإن طلبها في وقت لا يمكن دفعها إليه لبعدها أو لمخافة في طريقها أو للعجز عنها وعن حملها لم يكن متعديًا بترك تسليمها ولم يضمنها لعدم العدوان.
ومثل الوديع من أخر دفع مال أمر بدفعه بلا عذر وتلف فيضمنه ولو لم يطلب الوكيل ذلك؛ لأنه أمسك مال غيره غير إذن.
ويمهل من طولب بوديعة أو بمال أمر بدفعه لنحو أكل أو لكونه في حمام إلى قضاء حاجته، وكذا يمهل لهضم طعام ونوم إلى أن يستيقظ ويمهل لمطر وطهر بقدره، فلا تضمن الوديعة بتلف زمن العذر؛ لعدم عدوانه.
وتثبت وديعة حكمًا بإقرار وديع بأن أقر أنها لفلان أو إقرار وارث أو وجود نحو بينة كإمارة ظاهرة.
وإن وجد وارث خط مورثه: لفلان عندي وديعة أو وجد على الكيس
ونحوه مكتوب هذا لفلان عمل الوارث به وجوبًا كما يعمل بإقراره باللفظ.
وإن وجد وارث خط مورثه بدين له على فلان جاز للوارث الحلف إذا قام به شاهد مثلاً، وكان يعلم أن مورثه لا يكتب إلا حقًا وأنه صادق أمين ودفع الدين إليه.
وإن وجد وارث خط مورثه بدين عليه لمعين عمل الوارث به وجوبًا ودفع الدين إلى من هو مكتوب بإسمه كالوديعة.
وإن ادّعى الوديعة إثنان فأقر المستودع بها لأحدهما فهي للمقر له مع يمينه؛ لأن اليد كانت للمودع وقد نقلها إلى المدعي فصارت اليد له ومن كانت اليد له قبل قوله بيمينه.
ومن إفراد ذلك لو قال المودع أودعنيها الميت، وقال هي لفلان، وقال ورثته: بل هي له، فقال الشيخ تقي الدين: بأن القول قول المودع مع يمينه ويحلف المودع أيضًا للمدعي الآخر الذي أنكره؛ لأنه منكر لدعواه وتكون يمينه على نفي العلم.
فإن حلف بريء وإن نكل لزمه بدلها له؛ لأن فوتها عليه، وكذا لو أقر له بعد أن اقر بها للأول فتسلم للأول ويغرم قيمتها للثاني.
وإن أقر بها لهما معًا فهي بينهما كما لو كانت بأيديهما وتداعياها ويحلف لكل واحد منهما يمينًا على نصفها، فإن نكل عن اليمين لزمه بدل نصفها لكل واحد منهما وإن نكل عن اليمين لأحدهما فقط لزمه لمن نكل عن اليمين له عوض نصفها ويلزم كل واحد منهما الحلف لصاحبه؛ لأنه منكر لدعواه.
وإن قال المودع: هي لأحدهما ولا أعرف عينه، فإن صدقاه أو سكتا
عن تصديقه وتكذيبه فلا يمين عليه إذ لا اختلاف ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة سلمت إليه بيمينه.
وإن كذباه بأن قالا: بل تعرف أينا صاحبها حلف لهما يمينًا واحدة أنه لا يعلم عينه، وكذا إن كذبه أحدهما وحده ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له لاحتماله عدمه وأخذها بمقتضى القرعة.
فإن نكل المودع عن اليمين أنه لا يعلم صاحبها حكم عليه بالمنكول وألزم بالتعيين بأن يعين صاحبها.
فإن امتنع عن التعيين أجبر على القيمة إن كانت متقومة وإن كانت مثلية أجبر على المثل فتؤخذ القيمة أو المثل أو العين فيقترعان عليهما ويتفقا عليهما، وكذلك إذا قال: أعلم المستحق ولا أحلف.
ثم إن قامت بينة بالعين لأخذ القيمة سلمت إليه العين للبينة وتقديمها على القرعة وردت القيمة إلى المودع ولا شيء للقارع على المودع؛ لأنه لم يفوت عليه شيئًا، بل المفوت البينة.
وإن أودع اثنان إنسانًا وديعة مكيلاً أو موزونًا ينقسم ولا ينقص بالتفرقة فطلب أحدهما حقه من الوديعة لغيبة شريكه أو حضوره وامتناعه من الأخذ ومن الإذن لصاحبه في أخذ حقه سلم للطالب نصيبه وجوبًا؛ لأنه أمكن تمييز نصيب أحد الشريكين من نصيب الآخر بغير غبن ولا ضرر، فإذا طلب أحدهما نصيبه لزمه دفعه إليه كما لو كان متميزًا.
وقيل: لا يلزمه الدفع إلا بإذن شريكه أو الحاكم، وقال القاضي: لا يجوز إلا بإذن الحاكم؛ لأن ذلك يحتاج إلى قسمة ويفتقر إلى حكم واتفاق، والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعلم مما تقدم أن ذلك لا يجوز في غير مثلي؛ لأن قسمته لا يؤمن فيها
الحيف لافتقارها إلى التقويم وهو ظن وتخمين.
قال المجد في «شرحه» : لو كان على الوديع دين بقدر الوديعة كألف درهم فأعطاه الوديع ألفًا ثم اختلفا، فقال الوديع: الذي دفعت إليك وفاء عن الدين، والوديعة تلفت، فقال المالك: بل هو الوديعة والدين بحاله، فالقول قول الوديع.
ولمودع ومضارب ومستأجر ومرتهن وعدل بيده الرهن وأجبر على حفظ عين والوكيل فيه والمستعير والمجاعل على عملها مطالبة غاصب العين من وديعة أو مضاربة أرهن أو مستأجره فله مطالبة غاصبها؛ لأنها من جملة حفظها المأمور به، والذي تميل إليه نفسي أنه يلزمه المطالبة بذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يضمن مودع أكره على دفع الوديعة بتهديد على دفعها لغير ربها.
وإن طلب يمين الوديع أن لا وديعة لفلان عنده ولم يجد بدًا من الحلف بأن يكون الطالب بيمينه متغلبًا عليه بسلطته أو تلصص ولا يمكنه الخلاص منه إلا بالحلف وتأول فينوي لا وديعة عندي لفلان في موضع كذا من المواضيع الذي ليست بها ونحوه ولم يحنث لتأوله فإن لم يحلف حتى أخذها منه ضمنها.
وقيل: لا يأثم إن حلف الوديع مكرهًا أنه لا وديعة لفلان عنده ولم يتأول وهو دون إثم إقراره بها ويكفر، وقيل: إن حلف ولم يتأول أَثِمَ ووجبت الكفارة.
قال في «الإنصاف» : وإن حلف ولم يتأول أثم، وقال: الصواب وجوب الكفارة مع إمكان التأويل وقدرته عليه وعلمه بذلك ولم يفعله، وهذا القول الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكونه يأثم إذا لم يتأول لحلفه كاذبًا لكن إثم حلفه دون إثم إقراره بها؛ لأن حفظ مال الغير من الضياع آكد من بر اليمين.
وإن أكره على الطلاق أن لا وديعة عنده لفلان وكان ضرر التغريم كثيرًا يوازن الضرر في صور الإكراه.
فهو إكراه لا يقع وإلا وقع ولم يقولوا أي الأصحاب وتأويل؛ لأن المكره لا يلزمه تأويل لعدم إنعقاد يمينه، قاله في «الغاية وشرحها» .
وإن نادى السلطان بتهديد من عنده وديعة وينكرها فجزاؤه كذا وكذا من أنواع العقوبة أو نادى بتهديد من لم يحمل وديعة فلان عمل به كذا وكذا من أنواع التهديد فحملها بلا مطالبة أثم إن لم يعينه.
وإذا استودع فضة وأمر بصرفها بذهب ففعل وتلف الذهب لم يضمنه.
وإذا قال: أصرف مالي عليك من قرض ففعل وتلف ضمنه، ولم يبرأ من القرض.
ومن نال منها بعضها ثم رده
…
فضاعت ليضمنه فقط في المؤكد
وهذا إذا لم تلف عنه حريزة
…
فتهتك عنها والتي لم تشدد
كذاك إذا رد البديل مميزًا
…
وإلا فضمنه الجميع بأوكد
ويبرأ برد للوديعة خائن
…
وإلا براء من غرم وعقد مجدد
وإن ثبتت في إرث ميت وديعة
…
فتفقد فدين أسوة الغرما أعده
وإن شك في بقيا وديعته إلى الممات
…
فلم توجد لتضمن بأجود
ومودعها في ردها أقبل مقاله
…
فهلك وأذن في تسلم أبعد
على مودع أو قابض منكر فإن
…
قضى عن ديون ضمن غير مشهد
وفي نفي تفريط ودعوى خيانة
…
وجاحد إيداع فيثبت بشهد
وإقراره أن يدعي قبل جحده
…
تلافًا ورد العين أمنعه وأصدد
ولو مع شهود صدقوه بأوطد
…
وتقبل دعوى الرد من بعد مجحد
وعن أحمد في قابض بشهادة
…
لدعواه ردًا دون شهدًا ردد
وفي قوله لا مال عندي لك ولا
…
علي أقبلن دعوى التوى والتردد
وقابضها ينوي الخيانة ضامن
…
كملتقط لا أن طر إذا تجدد
ورد ادعا الوارث رد فقيدهم
…
وديعته أو ردهم دون شهد
ولم يضمنوا إلا بكتمانهم لها
…
وإمكان رد أخروه بأجود
وتلزم بالإقرار أو شاهدين لا
…
بخط الردى حتى علي بمبعد
وإن يدع إثنان الوديعة عنده
…
فمن خصه يحلف ويعطي له طد
ويحلف للمحروم في المتجود
…
فإن يأب يضمنها له ويزود
وإن خص منهم واحدًا لا بعينه
…
فإن صدقا في نفي علم بمفرد
فليس عليه من يمين وإن هما
…
معًا كذباه أو فتى منهما قد
ليحلف يمينًا لست أعلم من هو
…
الذي يستحق العين يا ذا الترشد
وتعطي لفرد قارع مع يمينه
…
ومن قبلها إقرع وإن شئت بعد
وإن يأب الإيلاء أقر عن قبله فقط
…
ولا يلزم الإيلاء إن بقرعته إبتدي
سوى للفتوى المقروع حسب بشرطه إن
…
يكذبه المقروع في جهله أشهد
فإن يأب إيلاء له يلتزم له
…
بقيمة ما عنه زواه ويرفد
وإن جحد الشخصين مودعها معًا
…
ليحلف لكل منهما بتعدد
وخذ مع نكول منه عينًا وقدرها
…
وكل له بالقرعة إحدى المعدد
وبينهما في وجه اقسمهما كذا
…
مقر لكل مع نكول التعدد
ومن يبغ من موزونهم أو مكيلهم
…
نصيبًا له من ممكن القسم أسعد
وحرمه القاضي بلا إذن حاكم
…
وهذا الذي يقضي به عقل من هدي
ولا غرم أن يغصب وأن يعط مكرهًا
…
وللمودع التطلاب حفظًا بأجود
وردكها للحافظي مال ربها
…
على عادة مبرّ بغير تردد
وليس على مستودع أجر ربها
…
إذا لم يبعدها بأفعال معتدي
باب إحياء الموات
س 28: ما هي الموات لغةً وشرعًا؟ وما الأصل فيها؟ وما الذي يملك بالإحياء؟ وإذا ملكه من له حرمة أو شك هل للموات مالك أم لا؟ أو ملك ثم دثر أو كان لغير معصوم، أو تردد في جريان الملك عليه أو كان به أثر ملك غير جاهلي؟ وما الذي يدخل فيما ملك بالإحياء؟ وما الأسباب المقتضية للإحياء والتي لا يحصل بها الإحياء؟ وكم أقسام الموات؟ وما هي؟ وما الذي يستثنى من ذلك؟ واذكر القيود والتفاصيل والمحترزات والأدلة والتعليلات والخلاف والترجيح.
ج: الموات والميتة والميتات بفتح الميم والواو والأرض الدارسة الخراب، وعرفها الأزهري: بأنها الأرض التي ليس لها مالك ولا بها ماء ولا عمارة
ولا ينتفع بها، والموات مشتق من الموت وهو عدم الحياة والموتان بضم الميم وسكون الواو: الموت الذريع، ورجل موتان القلب بفتح الميم وسكون الواو: يعني أعمى القلب لا يفهم، وفي «القاموس»: الموات كغراب الموت وكسحاب ما لا روح فيه وأرض لا مالك لها، ولموتان بالتحريك خلاف الحيوان أو أرض لم تحي بعد.
وفي «التيسير نظم التحرير» :
حقيقة الموات في الأراضي
…
ما لم يعمر في الزمان الماضي
وفي «نهاية التدريب» :
وكل أرض ما لها مياه
…
تسمى مواتًا ينبغي إحياء
واصطلاحًا: الأرض المنفكة عن الإختصاصات وملك معصوم مسلم أو كافر، قال الحارثي: عن هذا الحد فيدخل ما يملك بالإحياء وخرج كل ما لا يملك به، انتهى، والأصل في جوازه: حديث جابر مرفوعًا: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» رواه أحمد والترمذي وصححه، وحديث سعد بن زيد:«من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرف ظالم حق» قال الترمذي: هذا حديث حسن، وعن عائشة مثله، رواه مالك وأبو داود، وقال ابن عبد البر: هو مسند صحيح متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم.
وعن أسمر بن مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فقال:«من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له» فخرج الناس تعادون يتخاطون، رواه أبو داود عن عائشة مرفوعًا:«العباد عباد الله، فمن أحيا من موات الأرض شيئًا فهو له» رواه أبو داود الطيالسي.
قال في «المغني» و «الشرح» وعامة فقهاء الأمصاد على أن الموات يملك بالإحياء وإن اختلفوا في شروطه.
ويملك بالإحياء كل موات لم يجر عليه ملك معصوم ولم يوجد فيه أثر عمارة.
ويملك الإنسان ما أحياه
…
إن لم يكن ملك امرئ سواه
قال في «المغني» : بغير خلاف نعلمه بين القائلين بالإحياء، ونقل أبو الصقر في أرض بين قريتين ليس فيها مزارع ولا عيون ولا أنهار تزعم كل قرية أنها لهم فإنها ليست لهؤلاء ولا لهؤلاء حتى يعلم أنهم أحيوها، فمن أحياها فله، ومعناها نقل ابن القاسم.
وإن كان الخراب الذي لم يوجد فيه أثر عمارة تتحقق أنه كان قد ملكه من له حرمة من مسلم أو ذمي أو مستأمن بشراء أو هبة أو ملكه من شك فيه بأن علم أن كان له مالك، وشك في حاله هل هو محترم أم لا؟ فإن وجد مالكه أو وجد أحد من ورثته لم يملك بالإحياء.
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه، انتهى.
وكذا إن جهل مالكه بأن لم تعلم عينه مع العلم بجريان الملك عليه لذي حرمة فلا يملك بالإحياء؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها» رواه أحمد والبخاري، وهذه مملوكة، ولأن هذا المكان مملوك فلم يملك بالإحياء كما لو كان مالكه معينًا.
وإن علم أنه مات ولم يعقب ذرية ولا وارثًا لم يملك أيضًا بالإحياء
وأقطعه الإمام لمن شاء؛ لأنه فيء وإن ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتًا لم يملك بالإحياء إن كان لمعصوم لمفهوم حديث: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» ، ولأن ملك المحيى أولاً لم يزل عنها بالترك بدليل سائر الأملاك.
وإن علم ملك الدارس الخراب لمعين غير معصوم بأن كان لكافر لا ذمة له ولا أمان، فإن كان أحياه بدار حرب واندرس كان كموات أصلي فيملكه من يحييه؛ لأن ملك من لا عصمة له كعدمه.
وإن لم يكن به أثر ملك وتردد في جريان الملك عليه ملك بالإحياء؛ لأن الأصل عدم جريان الملك فيه أو كان بالخراب أثر ملك غير جاهلي كالخرب جمع خربة وهي ما تهدم من البنيان التي ذهبت أنهارها واندرست آثارها ولم يعلم لها مالك الآن ملك بالإحياء؛ لعموم ما سبق من الأخبار وسواء كان بدار الإسلام أو الحرب، ولأن عامر دار الحرب إنما يملك بالقهر والغلبة كسائر أموالهم أو كان به أثر ملك جاهلي قديم كديار عاد وآثار الروم فيملكه من أحياه لما سبق أو كان به أثر ملك جاهلي قريب ملك بالإحياء؛ لأن أثر الملك الذي به لا حرمة له.
قال الحارثي: مساكن ديار ثمود لا تملك؛ لعدم دوام البكاء مع السكنى ومع الإنتفاع.
ويكره دخول ديارهم إلا لباكٍ معتبر لئلا يصيبهم ما أصابهم من العذاب للخبر ومن أحيى مما يجوز إحياؤه ولو كان الإحياء بلا إذن الإمام ملكه؛ لعموم الحديث، ولأنه عين مباحة فلا يفتقر تملكها إلى إذن كأخذ المباح.
وقال أبو حنيفة: يحتاج إلى إذن الإمام.
وقام مالك ما كان في الفلاة أو حيث لا يتشاح الناس فيه لا يحتاج إلى إذن وما كان قريبًا من العمران وحيث يتشاح الناس فيه افتقر إلى إذن.
وقال الشافعي وأحمد: لا يحتاج إلى الإذن، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس لإذن الشارع في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهو مبني على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال سواء كان المحيي مسلمًا أو ذميًا إتفاقًا وسواء كان مكلفًا أو لا لكن شرطه أن يكون ممن يملك المال؛ لأنه يملكه بفعله كالاصطياد، وقوله صلى الله عليه وسلم:«موتان الأرض لله ورسوله ثم هملكم جوابه بعد تسليم صحته أنها لكم أي لأهل داركم، والذمي من دارنا تجري عليه أحكامنا فيملك الأرض المحياة بالإحياء كما يملكها بالشراء» .
ويملك مباحاتها من الحشيش والحطب والصيود والركاز والمعدن واللقطة وهي من مرافق دار الإسلام، فكذلك الموات مواتًا في دار الإسلام وغيرها إذ جميع البلاد سواء إلا موات الحرم وعرفات فلا يملك بالإحياء مطلقًا لما فيه من التضييق في أداء المناسك واختصاصه بمحل الناس فيه سواء.
ومنى ومزدلفة من الحرم كما سبق فلا إحياء فيهما.
وموات العنوة كأرض الشام والعراق كغيره مما أسلم أهله عليه كالمدينة وما صولح أهله أن الأرض للمسلمين.
فيملك موات العنوة بالإحياء.
ولا خراج على مسلم أحيا موات أرض العنوة وما روي عن الإمام: ليس في أرض السواد موات معللاً بأنها لجماعة فلا يختص بها أحدهم حملها القاضي على العامر ويحتمل أن أحمد قاله لكون السواد كان عامرًا في زمن عمر بن الخطاب وحين أخذه المسلمون من الكفار.
وسوى ما أحياه مسلم من أرض كفار صولحوا على أن الأرض لهم
ولنا الخراج عنها؛ لأنهم صولحوا في بلادهم فلا يجوز التعرض لشيء منها؛ لأن الموات تابع للبلد ويفارق دار الحرب؛ لأنها على أصل الإباحة.
وسوى ما قرب من العامر عرفًا؛ لأن التحديد لا يعرف إلا بالتوقيف لا بالرأي ولم يرد من الشارع تحديد فوجب أن يرجع في ذلك إلى العرف كالقبض والإحراز وما قيل أن حد القريب خمس خمس الفرسخ وإذا وقف الرجل بأعلى صوته لم يسمع أدنى أهل المصر إليه أجيب بأنه لا يجوز أن يكون حدًا لكل ما قرب من عامر؛ لأن من أحيا أرضًا في موات حرم إحياء شيء من ذلك على غيره ما لم يخرج من الحد وتعلق بمصالحه كطرقه وفنائه ومسيل مائه ومرعاه ومحتطبه.
وحريم بئره وحريم نهره وحريم عين مائه ومطرح ترابه وقمامته وملقى آلاته التي لا نفع فيها ومرتكض خيله ومدفن موتى ومناخ إبل ومنازل مسافرين معتادة حول المياه وبقاع مرصدة لصلاة العيدين والإستسقاء والجنائز فمن أحيا ما يجوز إحياؤه ملك ما أحياه لمفهوم حديث: «من أحيا أرضًا ميتة من غير حق مسلم فهي له» ، ولأنه مملوك فأعطي حكمه.
ويملكه محييه بما فيه من كنز جاهلي ومعدن جامد باطن في الأرض كذهب وفضة وحديد ونحاس ورصاص وبلور ومن معدن جامد ظاهر كجص وكحل وكبريت وزرنيخ تبعًا للأرض؛ لأنه ملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها، وهذا منها فتبعها في الملك.
ويفارق الكنز الإسلامي فإنه يملك ما فيها من كنز عليها فيه علامة ضرب الإسلام؛ لأنه مودع فيها للنقل عنها وليس من أجزائها وإنما يملك المحيي المعادن التي أحياها إذا حفرها وأظهرها.
قال في «الشرح» و «المبدع» : ولو تحجر الأرض واقطعها فظهر فيها المعدن
قبل إحيائها كان له إحياؤها ويملكها بما فيها؛ لأنه صار أحق بتحجره وإقطاعه فلم يمنع من إتمام حقه.
ولا يملك من أحيا أرضًا ما فيها من معدن جار.
ولا يملك إنسان ما أحياه من معدن ظاهرًا كان أو باطنًا بإحيائه له مفردًا عن غيره، أما الظاهر وهو الذي يتوصل إليه من غير مؤنة ينتابه الناس وينتفعون به كمقطع الطين والملح والكحل والكبريت والقار والمومياء والنفط والبرام والياقوت فبلا خلاف؛ لأن فيه ضررًا بالمسلمين وتضييقًا عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمال معدن الملح فلما قيل له أنه بمنزلة الماء المعد رده، قال أحمد: وروى أبو عبيد والترمذي وأبو داود بإسنادهم عن ابيض بن حمال أنه استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بمأرب فلما ولَّى، قيل: يا رسول الله، أتدري ما أقطعت له إنما أقطعته الماء العد، فرجعه منه قال: قلت: يا رسول الله، ما يحمي من الأراك؟ قال:«ما لم تنله إخفاف الإبل» ، ولأن هذا يتعلق به مصالح المسلمين العامة فلم يجز إحياؤه ولا إقطاعه كمشارع الماء وطرقات المسلمين.
قال ابن عقيل: هذا من مواد الله الكريم وفيض جوده الذي لا غنى عنه، فلو ملكه أحد بالاحتجار ملك منعه فضاق على الناس وإن أخذ العوض عنه أغلاه فخرج عن الوضع الذي وصفه الله من تعميم ذوي الحوائج من غير كلفة، قال في «المغني»: ولا أعلم فيه مخالفًا.
وأما الباطن وهو الذي يحتاج في إخراجه إلى حفر ومؤنة كحديد ونحاس وذهب وفضة وجوهر فلا يملك بإحيائه مفردًا؛ لأن الإحياء الذي يملك به هو العمارة التي يتهيأ بها المحيى للانتفاع من غير تكرار عمل، وهذا حفر وتخريج يحتاج إلى تكرار عند كل إنتفاع ولا يملك من أحيا أرضًا كان فيها معدنًا ظاهرًا للناس يأخذون قبل الإحياء لتلك الأرض؛
لأن في ملكه إذا قطعا لنفع كان واصلاً للمسلمين ومنعًا لانتفاعهم وأما إذا ظهر بإظهاره فإنه لم يقطع عنهم شيئًا؛ لأنه إنما ظهر بإظهاره.
وفي «التيسير نظم التحرير» :
والمعدن الموجود إما ظاهر
…
أو باطن في أرضه فالظاهر
ما لم يعالج عند الإستخراج
…
والباطن المحتاج للعلاج
فليمتنع في الظاهر الإقطاع
…
وطالب الإحياء لا يطاع
بل ذك بين المسلمين مشترك
…
من نال منهم بعضه فقد ملك
وحيث ضاق فليقدم من سبق
…
فإن أتوا معًا فقرعة أحق
ويجب على ذمي خراج ما أحيا من موات أرض فتحت عنوة كأرض مصر والشام والعراق؛ لأن الأرض للمسلمين فلا تقر في يد غيرهم بدون خراج كغير الموات، وأما غير العنوة وهو ما صولح أهله على أن الأرض للمسلمين وما أسلم أهله عليه إذا أحيي الذمي فيه مواتًا فهو كالمسلم، وأما المسلم فلا خراج عليه فيما أحياه من أرض العنوة والصلح، وما أسلم أهلها عليها كالمدينة إذ الأرض للمسلمين وهو واحد منهم.
ويملك بإحياء ويقطع محل إذا حصل فيه الماء صار فيه ملحًا؛ لأنه لا تضييق على المسلمين بإحداثه بل يحدث بفعله بالعمل فيه فلم يمنع منه كبقية الموات وإحياء هذا بتهيئة لما يصلح له من حفر ترابه وتمهيده وفتح قناة إليه تصب الماء فيه؛ لأنه يتهيأ بهذا للانتفاع به.
ويملك بإحياء ما قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه كالبعيد عنه؛ لعموم ما سبق من انتفاء المانع وهو التعلق بمصالح العامة وللإمام إقطاع ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق وهو يعلم أنه من عامر المدينة، ولأنه موات لم تتعلق به مصلحة العامر فجاز إحياؤه كالبعيد.
ولا يملك بإحياء مكان غار ماؤه من الجزائر والرفاق مما لم يكن مملوكًا والرقاق بفتح الراء أرض لينة سهلة، قال ابن إبراهيم بن عمران الأنصاري:
رقاقها حزم وجريها خدم
…
ولحمها زيم والبطن مقبوب
يريد أنها إذا عدت أضرم الرقاق وثار غباره كما تضطرم النار فيثور عثانها، وقيل: الرقاق رمال يتصل بعضها ببعض، قال أحمد في رواية العباس بن موسى: إذا نضبت الماء عن جزيرة إلى فناء رجل لم يبن فيها؛ لأن فيه ضررًا، وهو أن الماء يرجع إلى ذلك المكان فإذا وجده مبنيًا رجع إلى الجانب الآخر فأضر بأهله، ولأن الجزائر منبت الحطب والكلأ فجرت مجرى العادة الظاهرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا حمى في الأراك» ، وما روي عن عمر أنا أباح الجزائر أي ما نبت فيها، وقيل: ما نضب عنه الماء من الجزائر والرقاق مما لم يكن مملوكًا فلكل أحد إحياؤه كموات، قال الحارثي: مع عدم الضرر، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يملك بإحياء ما غمره الماء من مكان مملوك بأن غلب عليه الماء ثم نضب عنه، بل هو باق على ملك ملاكه قبل غلبة الماء عليه فلهم أخذه لعدم زوال ملكهم عنه وإن كان ما نضب عنه الماء لا ينتفع به أحد فعمره إنسان عمارة لا ترد الماء مثل أن يجعله مزرعة فهو أحق به من غيره؛ لأنه متحجر لما ليس فيه حق فأشبه المتحجر في الموات.
وإن ظهر فيما أحيى من موات عين ماء أو ظهر معدن جار وهو الذي كلما أخذ منه شيء خلفه عوضه كنفط وقار أو ظهر فيه كلأ أو شجر فهو أحق به؛ لأنه في ملكه خارج من أرضه أشبه المعادن الجامدة والزرع؛ لحديث: «من سبق على ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به» فهنا أولى.
ولا يملكه لما ورد عن خداش عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء، والكلأ، والنار» رواه أحمد وأبو داود، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس:«الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار» وثمنه حرام، ولأنها ليست من أجزاء الأرض، وما فضل من مائه الذي في قرار العين أو في قرار البئر عن حاجته وحاجة عياله وماشيته وزرعه لزمه بذله لبهائم غيره.
ويجب بذله لزرع غيره وهو من «المفردات» ؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ» متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع نقع البئر» رواه أحمد وابن ماجه، وعن عبادة بن الصامت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بين أهل المدينة أن لا يمنع نقع البئر، وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل ماء ليمنع به الكلأ» رواه عبد الله بن أحمد في «مسنده» ، ولمسلم من حديث أبي هريرة:«لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ» ، وللبخاري:«لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ» .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة» رواه أحمد، ولا يتوعد على ما يحل ما لم يجد رب البهائم أو الزرع ماء مباحًا فإنه يكون حينئذ مستغنيًا به
أو يتضرر به الباذل فلا يلزمه دفعًا للضرر أو يؤذه طالب الماء بدخوله في أرضه.
أو يكون له في البئر ماء السماء أو يخاف عطشًا فلا بأس أن يمنعه منه؛ لأنه ملكه بالحيازة فلم يلزمه بذله كسائر أملاكه بخلاف العد.
وكذا لو حاز الماء العد في إناء لم يلزمه بذله لغيره إلا عند الإضطرار بشرطه وإذا خيف الأذى بورود الماشية الماء بعد الفاضل عن حاجة رب أرضه فيجوز لرعاتها سوق فضل الماء إليها؛ لأن فيه تحصيلاً للمقصود بلا مفسدة ولا يلزم من وجب عليه بذل الماء بذل حبل ودلو ويكره؛ لأنها تتلف بالإستعمال أشبهت بقية مال لكن عن اضطر بلا ضرر على ربها لزمه بذلها.
وقال مالك: إن كان البئر أو النهر في البرية فمالكها أحق بمقدار حاجته منها ويجب عليه بذل ما فضل عن ذلك.
وإن كانت في حائط فلا يلزمه بذل الفاضل إلا أن يكون جاره زرع على بئر فانهدمت أو عين فغارت، فإنه يجب عليه بذل الفاضل له إلى أن يصلح جاره بئر نفسه أو يصلح عينه وإن تهاون بإصلاحها لم يلزمه أن يبذله بعد البذل شيئًا، وهل يستحق عوضه على روايتين.
وقال أبو حنيفة وأصحاب الشافعي: يلزمه بذله لشرب الناس والدواب من غير عوض ولا يلزمه للمزارع وله أخذ العوض والمستحب تركه.
قال في «نهاية التدريب» :
وحافر بئرًا للارتفاق
…
أولى بذاك البئر باتفاق
وحيث كان الماء في ذلك المقر
…
وفاضلاً عن حاجة الذي حفر
فلا يجوز مطلقًا أن يمنعه
…
من شرب شخص أو بهيمة معه
ولم يجب لسقي زرع أو بنا
…
ولا لشرب أن يحزه في إنا
وتقدم لك مذهب الإمام أحمد والرواية الثانية عنه أنه لا يلزمه؛ لان الزرع لا حرمة له فعليها يجوز بيعه بكيل أو وزن، ويحرم بيعه مقدرًا بمدة معلومة خلافًا لمالك، ويحرم أيضًا بيعه مقدرًا بالري أو جزافًا قاله القاضي وغيره، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأقسام الموات خمسة؛ لأنه إما أن لا يجري عليه ملك لأحد ولم يوجد فيه عمارة أو يجري عليه ملك مالك، فالأول يملك بالإحياء بغير خلاف بين القائلين بالإحياء.
والقسم الثاني: وهو ما جرى عليه ملك مالك إما أن يكون المالك معينًا أو لا، والأول: وهو المالك المعين إما أن يملكه بنحو شراء فلا يملك بالإحياء بغير خلاف.
وإما أن يملك بالإحياء ثم تركه حتى دثر وصار مواتًا فلا يملك كالذي قبله، والثاني: الذي لم يجر عليه ملك لمعين بل وجد فيه آثار ملك نوعان؛ لأنه إما أن يكون أثر الملك جاهليًا أو إسلاميًا فيملك فيهما.
ومن حفر بئرًا بأرض موات لنفع المجتازين فحافرها كغيره من المجتازين بها كمن بنى مسجدًا فيكون كأحدهم في السقي والزرع
والشرب؛ لأن الحافر لم يخص بها نفسه ولا غيره ويكون في المسجد كأحدهم؛ لأنه لم يخص نفسه ولا غيره.
ومع الضيق والتزاحم يسقي آدمي أولاً لحرمته ثم حيوان؛ لأنه له حرمة ثم زرع بعدهما.
وإن حفر البئر في موات ليرتفق الحافر بمائها كحفر السفارة في بعض المنازل بئرًا ليرتفقوا بمائها وكحفر المنتجعين كالأعراب والتركمان ينتجعون أرضًا فيحفرون لشربهم ودوابهم لم يملكوها؛ لأنهم جازمون بانتقالهم عنها وتركها لمن نزل منزلتهم بخلاف الحافر للتملك والحافرون لها أحق بمائها مدة إقامتهم عليها ولا يملكونها.
وعلى الحافرين لها بذل الفاضل عنهم من مائها لشارب دون زارع للخبر السابق وبعد رحيلهم عن البئر يكون ماؤها سابلة للمسلمين؛ لأنه ليس أحد ممن لم يحفرها أحق من الآخر، فإن عادوا إليها كانوا أحق بها من غيرهم؛ لأنهم هم الذين حفروها ولم يحفروها إلا لأنفسهم ومن عادتهم الرحيل والرجوع فلم تزل أحقيتهم بذلك.
وإن حفر إنسان بئرًا في موات تملكًا فهي ملك لحافر كما لو حفرها بملكه الحي ولكل أحد أن يسقي من الماء الجاري لشربه وطهارته وغسل ثيابه وانتفاعه به في أشباه ذلك مما لا يؤثر فيه من غير إذن ربه إذا لم يدخل إليه في مكان محوط عليه ولا يحل لصاحبه المنع من ذلك؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل كان بفضل ماء بالطريق فمنعه ابن سبيل» رواه البخاري، فأما ما يؤثر فيه كسقي الماشية الكثيرة، فإن فضل الماء عن حاجة صاحبه لزمه بذله لذلك وإلا فلا وتقدم.
قال الحارثي: الفضل الواجب بذله ما فضل عن شفته وشفة عياله وعجينهم وطبخهم وطهارتهم وغسل ثيابهم ونحو ذلك، وعن مواشيه ومزارعه وبساتينه؛ لأن ذلك كله من حاجته.
من النظم فيما يتعلق في إحياء الموات
وإن موات الأرض داثرها بلا
…
اختصاص بمعصوم بها متفرد
فمن يحيه يملكه من مسلم ومن
…
ذوي العهد حتى دون إذن المقلد
ويروى ثلاث عنه مع جهل مالك
…
نعم لا نعم مع شك عصمة مبتدي
ولا يملك المحيي مكانًا عليه قد
…
جرى ملك معصوم عليه فقيد
ولا داثر المعصوم فيهم مآله
…
ورتب في الأولى إن كذا خص يفرد
ويملك بالإحياء داثر تربة
…
إذا ما جهلنا ربها في المؤكد
وخرج ألا ملك فيما يشك في
…
زوال إختصاص قبل الإسلام قلد
ولا ملك في داني مصالح عامر
…
كذا الداني لم يحتج إليه بأبعد
وليس بمملوك لملاك عامر
…
ولكنهم أولى به في المجود
وليس بمملوك موات بلاد من
…
نصالحهم والأرض ملكهم أعضد
ولا معدن من قبل الإحياء ظاهر
…
ينال بلا كد كملح أو أثمد
وقد حرموا إقطاعه وبعكسه المحيل لما
…
قد سيق ملح مجمد
ولا باطن فيما ينال بكلفة
…
كتبر في الأقوى أن يجبها بمفرد
ويملك في الأولى موات بعنوة
…
وعن أحمد لا بل بأجر فخلد
وإن يحيه الذمي يعط خراجه
…
وفي غير ذا الإحيا له حكم مهتدي
وعن عليه عشر ثمر وزرعه
…
وما قدم المنصور من نص أحمد
ولا يملك الذمي عند ابن حامد
…
مواتًا بإحياء بدار الموحد
ويملك محيي الأرض ما بان ضمنها
…
إتفاقًا لنا من معدن متجمد
فما حاز منه غيره فهو غاصب
…
بلا أجرة في فعله فعل معتدي
وإن قال ما اطلعت منه فخذ يجز
…
وإن قال لي نصف فلا في المجود
ولا يملك الجاري ولا الماء ولا الكلأ
…
في الأولى بلا حوز بل إن شابه إبتد
وبذلك فضل الماء لسقي بهائم
…
لغيرك حتم لا لزرع بأبعد
وإن وجدوا ماء مباحًا سواه لم
…
يحتم وينقل إن أضروا بورد
وليس عليه بذل آلة سقيه
…
ولا بذله من غير مرعى لقصد
ولا ملك فيما زال ما النهر عنه من
…
مجاريه خوفًا من أذى متجدد
وإن كان ما لا نفع فيه لجيرة
…
فحجر لزرع إن تشا لا تشدد
وإن زاد ماء النهر في ملك جاره
…
فملك الفتى باق عليه فخلد
(29)
ما يحصل به الإحياء، ومقدار حريم البئر وما يتعلق بذلك، وبيان مسائل الإقطاع، وما يحدثه الجار مما يضر بجاره ومعرفة ذلك، وبيان حريم النخل والشجر وحريم الأرض والدار، وحكم التحجر للأراضي، وما يدول
حول ذلك من بحوث ومسائل وتفاصيل ومحترزات وأدلة
س 29: بما يحصل إحياء الأرض، وما مقدار حريم البئر العادية وغيرها؟ وما مقدار حريم القناة، والنهر، والشجرة، والأرض التي تزرع؟ وهل لمن تحجر مواتًا بيعه؟ ومن الذي يقطع للناس الموات؟ وهل يملك المقطع؟ وما مقدار المقطع؟ وهل للمقطع استرجاعه؟ ومتى يكون؟ وما حكم إقطاع الجلوس في الطرق وإذا جلس بحيث يمنع جاره رؤية المعاملين لمتاعه أو يمنع وصولهم إليه أو يضيق عليه فما الحكم؟ وما هي أقسام الإقطاع وبين حكم ما إذا نزل إنسان عن وظيفته لآخر؟ واذكر التفاصيل والمحترزات والقيود والأمثلة والأدلة والتعاليل والخلاف والترجيح.
ج: إحياء أرض في الموات بحوز يحاط منيع عادة بحيث يمنع الحائط ما وراءه؛ لحديث جابر مرفوعًا: «من أحاط حائطًا على أرض فهي له» رواه أحمد وأبو داود ولهما عن سمرة بن جندب مرفوعًا مثله.
ويكون البناء مما جرت عادة أهل البلد البناء به من لبن أو حجر أو آجر أو أبيوك أو جص أو قصب أو خشب ونحوه سواء أرادها المحيى لبناء أو زرع أو أرادها حظيرة ماشية أو حظيرة خشب ونحوها.
ولا يعتبر في الإحياء تسقيف ولا نصب باب؛ لأنه لم يذكر في الخبر والسكنى ممكنة بدونه.
ويحصل إحياؤها بإجراء ماء يسوقه إليها من نهر أو بئر إن كانت لا تزرع إلا به؛ لأن نفع الأرض بالماء أكثر من الحائط أو منع ماء لا تزرع معه كأرض البطائح الذي يفسدها غرقها بالماء لكثرتها فإحياؤها بسده عنها وجعلها بحيث يمكن زرعها؛ لأنه بذلك يتمكن من الإنتفاع بها فيما أراد وجعلها بحيث يمكن زرعها من غير حاجة إلى تكرار ذلك كل عام.
وإن كانت الأرض لا تصلح للزرع والغراس لكثرة أحجارها كارض اللجاة ناحية بالشام فإحياؤها بقطع أحجارها وتنقيتها وإن كانت غياضًا ذات أشجار لا تزرع معها فإحياؤها بأن يقلع أشجارها ويزيل عروقها المانعة من الزرع؛ لأنه الذي يتمكن من الإنتفاع بها أو حفر بئرًا أو نهرًا.
وإن خرج الماء ملكه إلا أن تحتاج إلى وطئ فتمام الإحياء طيها.
وعند المالكية لا يحصل الإحياء بالتحويط عليها بسور قال في «نظم أسهل المسالك» في مذهب الإمام مالك:
ويحصل الإحياء بقطع الشجر
…
والحرث والغرس وكسر الحجر
وجريه للماء والتفجير
…
وبالبنا لا الخط والتحجير
وإن كانت الأرض الموات لا تصلح لغرس لكثرة أحجارها فينقيها ويغرسها؛ لأنه يراد للبقاء كبناء الحائط، قال في «الفروع»: ويملكها بغرسها وإجراء ماء، ولا يحصل الإحياء بمجرد الحرث والزرع؛ لأنه لا يراد للبقاء بخلاف الغرس.
ولا يحصل بخندق جعله حول الأرض الذي يريد إحياؤها؛ لأنه ليس بحائط ولا عمارة إنما هو حفر وتخريب.
ولا يحصل بشوك يحوطها به وشبهه، قلت: ومثله إحاطته بأعواد وجريد ويكون تحجرًا؛ لأن المسافر قد ينزل منزلاً ويحوطه على رحله بنحو ذلك.
وبحفر بئر في الموات يملك الحافر حريمها وهو حريم البئر من كل جانب في بئر قديمة، وهي التي يسمونها العادية نسبة إلى عاد ولم يرد عادًا بعينها، لكن لما كانت عاد في الزمن الأول وكانت لها آثار في الأرض نسب إليها كل قديم، نقل ابن منصور البئر العادية القديمة: هي التي انطمت وذهب ماؤها فمن جدد حفرها وعمارتها أو استخرج ماءها المنقطع ملكها ومنلك حريمها، والحريم ملقى نبيشة البئر، وفي الحديث:«حريم البئر أربعون ذراعًا» وهو الموضع المحيط بها الذي يلقى فيها ترابها، أي أن البئر التي يحفرها الرجل في موات فحريمها ليس لأحد أن ينزل فيه، ولا ينازعه عليه، وسمي به؛ لأنه يحرم منع صاحبه منه أو لأنه محرم على غيره التصرف فيه.
وفي «الصحاح» : حريم البئر وغيرها ما حولها من مرافقها وحقوقها وحريم النهر ملقى طينه والممشى على حافتيه ونحو ذلك، وقال أبو حنيفة: إن كانت لسقي الإبل فحريمها أربعون ذراعًا وإن كان للناضح فستون وإن كانت عينًا فثلاثمائة، وفي رواية خمسمائة، وقال مالك والشافعي: ليس لذلك حد والمرجع العرف، والقول الذي تميل إليه النفس والله أعلم قول من يقول: أنه من كل جانب خمسون ذراعًا، والحريم في غير القديمة خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب لما روى أبو عبيد في الأموال عن سعيد بن المسيب، قال في السُّنة في حريم القلب العادي خمسون 50 ذراعًا، والبدي خمسة وعشرون 25 وروى الخلاف والدارقطني ونحوه مرفوعًا.
ومن كانت له بئر فيها فحفر آخر قريبًا منها بئرًا يتسرب إليها ماء البئر الأول فليس له ذلك سواء كان محتفر الثانية في ملكه كرجلين متجاورين في دار حفر أحدهما في داره بئرًا أعمق منها فيسري إليها ماء الأولى أو كانتا في موات فسبق أحدهما فحفر بئرًا قريبًا منها تجتذب ماء الأولى؛ لأنه ليس له أن يبتدي ملكه على وجه يضر بجاره.
وعلامة تسرب الماء إلى المحدثة الثانية وضع بانزين أو قاز في الأولى، فإن ظهر في الثانية تبين أنها هي التي تسحب ماء الأولى.
وقيل: ليس عليه شيء وله أن يحفر ولو ذهب ماء البئر الأولى وتحول إلى الثانية؛ لأنه غير متعد وهو حافر في ملكه الذي له التصرف فيه والماء تحت الأرض لا يملك، فلا مخاصمة ولا منع كمن بنى حفيزًا قرب حفيز آخر نحو ذلك فكسد الأول فإنه لا شيء عليه، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه أعلم.
وهكذا في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره فليس له أن يبتديه
في ملكه على وجه يضر جاره كأن جعل بداره مدبغة أو حمامًا أو خزانًا يضر بجدار عقار جاره أو ما يضر يحمي ناره أو رمادة أو دخانه أو يحفر في أصل حائطه بحيث يتأذى جاره برائحته أو رطوبته أو غيرها أو يجعل داره مخبزًا في وسط العطارين ونحوه مما يتأذى به جاره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» ولأنه أحدث ضررًا بجاره كدق يهز الجدران والسواري ونحوها وكإلقاء السماد والتراب والوسخ والقمامة في أصل جدار جاره على وجه يضر به، ومما يتأكد منع إحداثه قرب الجيران السابقين وضع شيشة بانزين لما فيها من الضرر والخطر وكذلك يمنع من إحداث طاحون؛ لأنه يقلق راحة الجيران ويؤذيهم.
ولو كان لشخص مصنع فأراد جاره غرس شجرة مما تسري عروقه كالأثل فتشق جدار مصنع لجاره أو يتلفه لم يملك ذلك وكان لجاره منعه وقلعها إن غرسها وإن كان هذا الذي حصل منه الضرر سابقًا مثل من له في ملكه مدبغة أو مقصرة أي محل غسل ثياب فأحيا إنسان إلى جانبه مواتًا وبناه دارًا تتضرر بذلك لم يلزمه إزالة الضرر؛ لأن الأول سابق ملكه على ملك الأخير.
وحريم عين وقناة احتقرها إنسان في موات خمسمائة ذراع 500.
وقيل: قدر الحاجة ولو كان ألف 1000 ذراع اختاره القاضي في «المجرد» وأبو الخطاب والموفق في «الكافي» وغيرهم، وقيل: الحريم لبئر قناة ما لو حفر فيه نقص ماؤها أو خيف إنهياره، والذي تطمئن إليه النفس أنه قدر الحاجة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وحريم نهر من جانبيه ما يحتاج النهر إليه لطرح كرايته وهي ما يلقى منه طلبًا لسرعة جريه وطريق قيمه وما يستضر صاحبه بتملكه عليه وإن كر،
قال في «الرعاية» : وإن كان بجنبه مسناة لغيره ارتفق بها في ذلك ضرورة، وله عمل أحجار طحن على النهر ونحوه وموضع غرس وزرع ونحوهما. اهـ.
والمسناة: هي السد الذي يراد الماء من جانبه.
وحريم شجرة غرست في موات قدر ما أغصانها حواليها.
وحريم نخلة بقدر مد عسيبها؛ لحديث أبي سعيد قال: اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حريم نخلة فأمر بجريدة من جرائدها فزرعت فكانت سبعة أذرع، فقضى بذلك، رواه أبو داود.
قال في «المغني» : وإن سبق إلى شجر مباح كالزيتون والخروب فسقاه وأصلحه فهو أحق به كالمتحجر الشارع في الإحياء، فإن طعمه ملكه بذلك وحريمه؛ لأنه تهيأ للانتفاع لما يراد منه فهو كسوق الماء إلى الأرض الموات.
وحريم أرض من موات تزرع محل يحتاج إليه لسقيها وربط دوابها وطرح سبخها فيه ونحوه مما يرتفق به زارعها كمصرف مائها عند الإستغناء عنه؛ لأن ذلك كله من مرافقها.
وحريم دار من موات حولها مطرح تراب وكناسة وثلج وماء ميزاب وممر باب؛ لأن هذا كله مما يرتفق به ساكنها.
ولا حريم لدار محفوفة بملك غيره من كل جانب؛ لأن الحريم من المرافق.
ولا يرتفق بملك غيره؛ لأن مالكه أحق به ويتصرف من أرباب الأملاك بحسب عادة في الإنتفاع فإن تعدى العادة منع من التعدي عملاً بالعادة.
ومن تحجر مواتًا بأن شرع في إحيائه من غير أن يتمه بأن أدار حوله أحجارًا أو ترابًا أو حائطًا غير منيع أو حفر بئرًا لم يصل ماؤها أو سقى شجرًا مباحًا وأصلحه بأن قطع أغصانه الرديئة أو اليابسة أو المضر فيها لتخلفها
أغصان جيدة ولم يركبه ونحو ذلك بأن خندق حول الأرض أو حرثها أو أدار حولها شوكًا أو شبكًا أو نحوه لم يملكه بذلك.
ومن أقطعه الإمام مواتًا ليحييه فلم يحيه لم يملكه بذلك؛ لأن الملك إنما يكون بالإحياء ولم يوجد والمتحجر أحق به من غيره؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له» رواه أبو داود، وكذا وارثه من بعده يكون أحق به من غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من ترك حقًا أو مالاً فهو لورثته» ، ولأنه حق للموروث فيقوم الوارث مقامه كسائر الحقوق.
وكذا من ينقله المتحجر أو ورثه إليه بغير بيع فيكون أحق به من غيره؛ لأن من له الحق أقامه مقامه فيه، وليس للمتحجر أو وارثه أو من انتقل إليه من أحدهما بيعه؛ لأنه لم يملكه وشرط البيع أن يكون مملوكًا.
وكذا من نزل عن أرض خراجية بيده لغيره فإن المتروك له يكون أحق بها وورثته من بعده وليس للإمام أخذها منه بلا عوض.
قال ابن رجب في القاعدة السابعة والثمانين: ومنها منافع الأرض الخراجية فيجوز نقلها بغير عوض إلى من يقوم مقامه فيها وتنتقل إلى الوارث فيقوم مقام مورثه فيها ونص الإمام أحمد في رواية عبد الله على جواز دفعها مهرًا ونص في رواية ابن هانئ وغيره على جواز دفعها إلى الزوجة عوضًا عما تستحقه عليه من المهر.
قال ابن رجب: وهذه معاوضة عن منافعها المملوكة فأما البيع فكرهه أحمد ونهى عنه، واختلف في قوله بيع العمارة التي فيها لئلا تتخذ طريقًا إلى بيع رقبة الأرض التي لا تملك، ل هي إما وقف وإما فيء للمسلمين جميعًا.
ونص أحمد في رواية المروذي على أنه يبيع آلات عمارته بما تساوي وكره أن يبيع بأكثر من ذلك لهذا المعنى وكذلك نقل عن ابن هانئ أنه
قال: يقوم دكانه وما فيه من علف وكل شيء يحدثه فيه فيعطي ذلك ولا أرى أن يبيع سكنى دار ولا دكان.
وقال في «المبدع» بعد أن ذكر النزول عن الوظائف ومما يشبه النزول عن الوظائف، النزول عن الإقطاع، فإنه نزول عن استحقاق يختص به لتخصيص الإمام له استغلاله أشبه مستحق الوظيفة ومتحجر الموات وقد يستدل بجواز أخذ العوض في النزول عن الوظائف وعن الإقطاعات بالخلع فإنه يجوز أخذ العوض مع أن الزوج لم يملك البضع وإنما ملك الاستمتاع به فأشبه المتحجر، انتهى ما في «المبدع» .
وقال ابن القيم: ومن بيده أرض خراجية فهو أحق بها بالخراج الذي ضربه أجرة لها كل عام فملكوا منافعها بالخراج الذي يبذلونه وترثه ورثته إلى غيره؛ لأنه أحق بها من غيره وإن نزل عنها أو آثر بها أحدًا فالمنزول له كذلك فيكونون أحق بها بالخراج وليس للإمام أخذها ممن هي بيده ودفعها إلى غيره والمؤثر أحق بها من غيره، انتهى.
أو نزل إنسان عن وظيفة من إمامة أو خطابة أو تدريس ونحوه لمن فيه أهلية للقيام بها فلا يقرر غير منزلو له لتعلق حقه بها فإن قرر من له الولاية كالناظر فقد تم الأمر له وإن لم يقرره من له ولاية التقرير، فالوظيفة للنازل؛ لأنه لم يحصل منه رغبة مطلقة عن وظيفته، بل مقيدة بحصوله للمنزول له ولم يحصل.
وليس للناظر التقرير في مثل هذا إنما يقرر عن ما هو خال عن يد مستحق أو في يد من يملك إنتزاعه منه لمقتضى شرعه فحينئذ يكون تقريره سائغًا.
وقال الشيخ تقي الدين: لا يتعين المنزول له ويولي من له الولاية من
يستحقها شرعًا واعترض ابن أبي المجد بأنه لا يخلو أما أن يكون نزوله بعوض أو لا وعلى كل لم يحصل منه رغبة مطلقة عن وظيفته ثم قال: وكلام الشيخ في قضية عين فيحتمل أن المنزول له أهل ويحتمل عدمه.
قال في «المبدع» :
وفيه نظر فإن النزول يفيد الشغور وقد سقط حقه بشغوره إذ الساقط لا يعود وقوله في قضية عين الأصل عدمه.
وقال الموضح: ملخص كلام الأصحاب يستحقها منزول له إن كان أهلاً وإلا فلناظر تولية مستحقها شرعًا، انتهى.
قلت: وما قال الشيخ تقي الدين هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
يؤيده ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم «من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» ، وما ورد عن يزيد ابن أبي سفيان، قال: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالأمانة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم» ، والله أعلم.
وليس لمن هو أحق بشيء كالمتحجر للموات ونحوه بيعه؛ لأنه لم يملكه فلم يملك بيعه كحق الشفعة قبل الأخذ بالشفعة وكمن سبق إلى مباح.
فإن طالت مدة التحجير للموات عرفًا ولم يتم إحياءه وحصل متشوق لإحياء المتحجر قال له الإمام أو نائبه إما أن تحييه فتملكه أو تتركه وترفع يدك عنه ليحييه غيرك؛ لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بين الجميع فلم يمكن
من ذلك كما لو وقف على ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينتفع ولا يدع غيره ينتفع.
فإن طلب المتحجر المهلة لعذر أمهل ما يراه حاكم من نحو شهر أو شهرين أو ثلاثة؛ لأنه بسيط وإن كن ليس له عذر فلا يمهل، ويقال له: إما أن تعمرها وإما أن ترفع يدك عنها، فإن لم يعمرها كان لغيره عمارتها وحيث انظر لعذر فلا يملك المكان المتحجر بإحياء غير المتحجر زمن إنظاره أو قبله؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:«من أحيا أرضًا ميتة في غير حق مسلم فهي له» ، ولأنه أحيا في حق غيره فلم يملكه كما لو أحيا ما يتعلق به مصالح ملك غيره، ولأن حق المتحجر أسبق فكان أولى كحق الشفيع يقدم على شراء المشتري.
وإن أحياه بعد مضي مدة إنظاره فإنه يملك ما أحياه.
قال في «الإنصاف» : لا أعلم فيه خلافًا اهـ. وذلك لأن الأول لا ملك له وحقه زال بإعراضه حتى مدة الإمهال.
وأقسام الإقطاع ثلاثة: (1) إقطاع تمليك. (2) إقطاع استغلال. (3) وإقطاع إرفاق. وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ولا يملكه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق، وروى علقمة بن وائل عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضًا فأرسل معه معاوية «أن اعطه إياها» ، أو قال:«أعطها إياه» ، وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه، فقال:«أعطوه من حيث وقع السوط» ، وروى أن أبا بكر أقطع الزبير وأقطع عمر عليًا وأقطع عثمان رضي الله عنهم خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وسعدًا وابن مسعود وخبابًا وأسامة بن زيد رضي الله عنهم.
ولا يملك الموات بالإقطاع؛ لأنه لو ملكه لما جاز استرجاعه، بل يصير المقطع كالمتحجر الشارع في الإحياء؛ لأنه ترجح بالإقطاع على غيره ويسمى تملكًا لم يؤول إليه.
وقيل: يكون ملكًا بنفس الإقطاع فيجوز بيعه وهو قول مالك وكثير من العلماء وعليه العمل في البلاد السعودية في هذا الزمن، واستدل لهذا القول بما رواه أحمد عن عروة بن الزبير أن عبد الرحمن بن عوف قال: أقطعني النبي صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، فذهب الزبير إلى آل عمر فاشترى نصيبه منهم، فأتى عثمان بن عفان، فقال: إن عبد الرحمن بن عوف زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا وإني اشتريت نصيب آل عمر، فقال عثمان عبد الرحمن جائز الشهادة له وعليه.
وقد ساق البيهقي بسنده إلى عبد العزيز بن الربيع الجهني عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في موضع المسجد تحت دومة، فأقام ثلاثًا ثم خرج إلى تبوك، وإن جهينة لحقوه بالرحبة، فقال لهم:«من أهل ذي المروة» ، فقالوا: بني رفاعة من جهينة، فقال:«قد أقطعتها لبني رفاعة فأقسموها» فمنهم من باع ومنهم من أمسك فعمل، وعن أبي رافع أنه باع قطعة أقطعه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دار سعد بن أبي وقاص بثمانية آلاف درهم، رواه الطبراني في «الأوسط» ، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا ينبغي للإمام أن يقطع إلا ما قدر المقطع على إحيائه؛ لأنه في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقًا على الناس في حق مشترك بينهم مما لا فائدة فيه.
فإن أقطع الإمام أحدًا مما يقدر على إحيائه ثم تبين عجزه عن إحيائه إسترجعه الإمام منه كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته من العقيق الذي أقطعه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر لبلال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجز عن الناس، إنما أقطعك لتعمر فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي، رواه أبو عبيد في «الأموال» .
وللإمام إقطاع غير موات تمليكًا وانتفاعًا للمصلحة، بل من العامر العائد إلى بيت المال وإنما نص عليه لكونه يتوقف على إقطاع الإمام بخلاف الموات فإنه لا يتوقف على إقطاع الإمام مع جوازه فلا مفهوم له ع ن.
ويجوز الإقطاع من مال الجزية كما في الإقطاع من مال الخراج ومعنى الانتفاع أن ينتفع به في الزرع والإجارة وغيرهما مع بقائه للمسلمين وهو إقطاع استغلال.
ومحل ذلك حيث لا أرباب لما أقطعه الإمام من غير الموات، وأما مع وجود أربابه وتأهلهم للقيام فليس له انتزاعه منهم أو كان الإمام اقطع ذلك لأربابه ابتداء لمصلحة رآها.
فلو فقدت المصلحة التي لأجلها جاز الإقطاع ابتداء فللغمام استرجاع ما أقطعه لاشتراط وجود المصلحة ابتداء واستمراره دوامًا؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
وللإمام إقطاع جلوس للبيع والشراء بطريق واسعة ورحاب متسعة جمع رحبة وهي الساحة والمتسع وكان علي رضي الله عنه يقضي بين الناس في رحبة مسجد الكوفة.
ومحل ذلك في غير المحوطة؛ لأن ذلك يباح الجلوس فيه والإنتفاع به حيث لا ضرر فجاز إقطاعه كالأرض الدارسة ويسمى إقطاع إرفاق ما لم يضيق على الناس فيحرم عليه أن يجلس من يرى أنه يضر بالمارة؛ لأنه ليس للإمام أن يأذن فيما لا مصلحة فيه فضلاً عن ما فيه مضرة، لكن ينبغي التنبيه وهو أن من لم يقم بحقوق الطريق أقل ما يكون في حقه الكراهة وحقوق الطريق هي المذكورة في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
«غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» .
وقد حذر صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطرقات فإن كان لابد له من ذلك فعليه بغض البصر عن المحرمات، وليكن على باله قوله تعالى:{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية، وليحفظ لسانه فيكفه عن أذية السائرين وغيرهم وليكف يده عن الأذية وليكن منتبه لرد السلام لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك ولا تسام كثرة ردك على المارين.
ورابعها: وهو أشق حقوق الطريق، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإذا رأيت امرأة سافرة فانصحها لتستر.
وإذا رأيت من يحلق لحيته نصحته وأعلمته أنها كبيرة من كبائر الذنوب لمخالفة الحالق أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا رأيت من يشرب دخانًا نصحته وأعلمته أنه محرم، وكذلك من يشرب شيشة.
وإذا رأيت من يحمل الدابة فوق طاقتها فانهه عن المنكر.
وإذا سمعت من يلعن أو يقذف فانهه عن عمله القبيح.
وإذا رأيت من يتبع أنثى أو يشير إليها فانصحه أولاً فإن أبى فارفع أمره.
وإذا رأيت من معه دابة عضوضًا أو رموحًا فانصحه ومره يجعل على فمها شيئًا يمنع من أذيتها، فإن أبى فارفع أمره.
وإذا رأيت من يغش أو يتعامل بالربا فانصحه، فإن أبى فارفع أمره لتبرأ من التبعة.
وإذا رأيت من يبيع آلات اللهو أو الدخان أو الصور أو يصور فانصحه وأورد عليه الأدلة الدالة على التحريم.
وإذا رأيت من يطفف في المكاييل والموازين فانصحه فإن أبى فارفع أمره.
وإن رأيت من يبيع طعامًا متعفنًا أو يخلط طيبًا برديء فانصحه.
وإذا رأيت من يسبل ثيابه أو شاربه أو يعمل تواليت أو خنافس فانصحه.
وإذا رأيت من يسرع بسيره فانصحه وحذره خطر سرعته وما يترتب عليها.
وإذا رأيت من يريد الخروج ويترك حضور الجمعة أو الجماعة فانصحه.
وإذا رأيت من عليه خاتم ذهب فانصحه إلخ.
وقد نظم بعضهم آداب الجلوس على الطريق؛ فقال:
نظمت آداب من رام الجلوس على الطريق
…
من قول خير الخلق إنسانًا
أفشِ السلام وأحسن في الكلام تفز
…
وشمت العاطس الحماد إيمانًا
في الحمل عاون ومظلومًا أعن وأغث
…
لهفان رد سلامًا واهد حيرانًا
بالعرف مُر وانْه عن نكر وكف أذى
…
وغض طرفًا وأكثر ذكر مولانا
ولا يملك ذلك المقطع ويكون المقطع أحق بالجلوس فيها بمنزلة السابق إليها لا إقطاع لكن لا يسقط حقه بنقل متاعه بخلاف السابق ما لم يعد الإمام في إقطاعه؛ لأنه كما أن له اجتهادًا في الإقطاع له اجتهاد في استرجاعه.
وإن لم يقطع الإمام الطريق الواسعة ورحاب المسجد غير المحوطة أحدًا فالسابق إليها أحق بالجلوس فيها ما لم ينقل قماشه عن المحل الذي جلس فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» ، ولما روى الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لأن يحمل أحدكم حبلاً فيحتطب، ثم يجيء فيضعه في السوق فيبيعه، ثم يستغني به فينفقه على نفسه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» رواه أحمد واتفق أهل الأمصار في سائر الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير نكير.
ومحل ذلك ما لم يضيق على أحد أو يضر بمن يمر.
فإن أطال الجلوس من غير إقطاع أزيل؛ لأنه يصير كالمتملك ويختص بنفع يساوي غيره.
وللجالس بطريق واسع ورحبة مسجد غير محوطة بإقطاع أو غيره أن يستظل بغير بناء بما لا يضر كبارية وكساء؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
وليس له أن يبني دكة ولا غيرها في الطريق ولو واسعًا ولا في رحبة المسجد لما فيه من التضييق.
وليس لمن هو أحق بالجلوس بإقطاع الإمام أو بسبقه الجلوس بحيث يمنع جاره في كيل ووزن وأخذ وعطاء؛ لحديث: «لا ضرر ولا ضرار» .
وإن سبق إثنان فأكثر إلى الطريق الواسع أو إلى رحبة المسجد غير المحوطة أو سبق إثنان فأكثر إلى خان مسبل أو إلى رباط وهي ما أعد لسكنى العزاب أو سبق إثنان فأكثر إلى مدرسة أو إلى خانكاه وهي مسكن النساء أو مكان الصوفية ولم يتوقف الإنتفاع في المذكورات إلى تنزيل ناظر وضاق المكان عن انتفاع جميعهم أقرع بينهم لإستوائهم والقرعة مميزة وهي تستعمل عند اشتباه المستحقين وعند تزاحمهم، وليس أحدهم أولى من الآخر، أما
إن توقف على ذلك بأن شرطه الواقف قدم من نزله.
والسابق إلى معدن غير مملوك أحق بما يناله منه باطنًا كان المعدن أو ظاهرًا؛ لحديث: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» .
ولا يمنع السابق ما دام يعمل للحديث ولا يمنع السابق إذا طال مقامه.
وقيل: بل يمنع؛ لأنه يصير كالتملك ويختص بنفع يساويه غيره في استحقاقه.
والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس إلا إن كان قد أخذ قدر حاجته وأراد الإقامة بحيث يمنع غيره منه فيمنع من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن سبق إثنان فأكثر إلى المعدن وضاق المكان المباح عن أخذهم جملة أقرع كما لو سبق إثنان فأكثر إلى طريق واسع وضاق عن جلوسهما أو جلوس الجميع إن كانوا أكثر فيقرع بينهما أو بينهم كما سبق وإن حفر المعدن إنسان من جانب آخر غير الذي حفر منه السابق فوصل إلى النيل لم يمنع؛ لأن حقه إنما تعلق بما وصل إليه دون غيره والسابق إلى مباح كصيد وعنبر وحطب ولقطة ولقيط وثمر ولؤلؤ ومرجان ومنبوذ رغبة عنه وما يتركه الحصاد من الزرع واللقاط من الثمر أحق به؛ للحديث المتقدم، وكذا ما ينبت في الجزائر والرقاق وكل موات من الطرفاء والسمر والحطب وغير ذلك من النبات أحق به من غيره لسبقه إليه قبل غيره ويملكه بأخذه لكن الملك مقصور فيه على القدر المأخوذ فلا يملك ما لم يحزه ولا يمنع غيره منه قاله في «الإقناع وشرحه» .
بتحويطها عرفًا أو إصلاحها لما
…
تراد له في العرف الإحياء قيد
وإجراء معتاد المياه وقيل ما المعاود
…
إحياء يلي بالمؤيد
وعادية الآبار خمسون حولها
…
ذراعًا حريم ملك محيى بأجود
وإن كان فيها الماء وإن قل لم يجز
…
تملكها بل غائض الماء مهد
وإن لم تكن عادية فحريمها
…
لحافرها خمسًا وعشرين مهد
وقيل حريم الكل من كل جانب
…
لهن على قدر الرشاء الممدد
وقيل الذي تحتاج في حوز مائها
…
إليه وقيل أقدر بعرف وقيد
ومن يتملك أيكة في موات
…
الحريم كغصن أو جريد ممدد
وإصلاح دوح في موات تحجر
…
ويملك بالترتيب دون تقيد
وأحداث مؤذ نفس جار وماله
…
حرام وأزله دون مؤذ قد ابتدى
وليس بإقطاع ولا بتحجر
…
موات بمملوك يصير لمبتدي
ولكنه أولى ووارثه به
…
فإن شاء يهب والبيع فامنع بأجود
فإن أخر الإحياء بعد شروعه
…
ليلزمه ذو السلطان إتمام ما ابتدى
فإن هو لم يتمم أبيح لغيره
…
وشهرين مع شهر متى يبع يرصد
ويملكها المحي سواه بمبعد
…
كذاك حمى غير النبي محمد
فإن تنقض الآمال لم يحي من يشا
…
ليحيه لو من غير إذن كما ابتدى
ويملك إقطاع الجلوس الإمام في
…
سبيل فسيح أو برحبة مسجد
إذا لم يكن فيه على الناس ضيقة
…
وليس بملوك الإقطاع فاشهد
ومقطعها أولى بها فهم وإن يزل
…
متاع الفتى عنها متى شاء يردد
فإن هي لم تكن لحق سابق
…
متى لم يزل عنها المتاع ليقعد
وينقل كل إن بطل في المجود
…
وأقرع بين المستوين تسدد
وقيل بتقديم الإمام الذي رأى
…
ومن شاء يضلل لا بشيء مؤبد
وإن كان تضييقًا على الناس لم يجز
…
ويكره من هذا الشرا عند أحمد
وما ناله ذو السبق من معدن له
…
وإن ضيق أمنع كالمطيع بمبعد
(30)
حكم ماذا سبق اثنان إلى مباح أو معدن إلخ وما يتعلق بالحمى والانتفاع بالماء والقناة والنهر وما حول ذلك من مسائل وبحوث
وأمثلة وقيود
س 30: ما صفة قسم ما سبق إليه اثنان فأكثر، إذا رأى إنسان لقطة وسبقه إليها آخر أو رآها اثنان أو التقطاها جميعًا فما الحكم في ذلك؟ وما هي الأسباب المقتضية للتمليك؟ وما الحكم في حمى مرعى للدواب؟ ونقض ما حمي، وكيف العمل بما حمي؟ وكيف الحكم في الماء الذي ينتفع فيه أناس كثيرون مختلفون في القرب منه والبعد أو متساوون، وإذا أراد إنسان إحياء أرض يسقيها من السيل أو النهر الصغير أو أحيا سابق مواتًا في أسفل النهر ثم أحيا آخر فوقه إلخ، أو حفر نهرًا صغيرًا وسيق ماؤه من نهر كبير فما الحكم؟ وما صفة قسمه عليهم؟ ومن الذي يقسمه عند تشاحنهم؟ وما حكم التصرف فيه قبل قسمته؟ وما الذي يجوز لكل إنسان أن يأخذ منه لشرب أو وضوء إلخ؟ وما حكم المنع من ذلك وإذا سبق إنسان إلى قناة لا مالك لها فسبق آخر إلى بعض أفواهها أو احتاج النهر المشترك إلى عمارة فكيف تكون النفقة، وهل لمالك الأرض منع محيي القناة أو تضييق مجراها، وإذا سد ماء من أجل إنسان فهل لغيره السقي منه؟ واذكر التفاصيل والقيود والمحترزات والأدلة والتعليلات والخلاف والترجيح ومثل لما لا يتضح إلا بالأمثلة.
ج: ويقسم ما أخذ من ذلك بين عدد اثنين فأكثر بالسوية لاستوائهم في السبب والقسمة ممكنة وحذرًا من تأخير الحق ولا فرق في ذلك بين ذي الحاجة والتاجر؛ لأن الاستحقاق بالسبب لا بالحاجة والملك مقصود فيه على القدر المأخوذ فلا يملك ما لم يحزه ولا يمنع غيره منه.
وكذا سبق واحد فأكثر إلى ما ضاع مما لا تتبعه همة أوساط الناس كرغيف وتمرة وسوط ونحو ذلك؛ لأنه يملكه آخذه بمجرد لإلتقاط ولا يحتاج لتعريف.
وكذا من سبق إلى ما يسقط من الثلج والمن وسائر المباحات.
وإن سبق إنسان إلى لقيط أو لقطة فهو أحق به فلو رأى إنسان لقطة فسبقه آخر إلى أخذها فهي لمن سبق لا لمن رأى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» .
وإن رأى اللقطة إثنان فأمر أحدهما الآخر فأخذها المأمور ونوى الأخذ لنفسه فهي له لا للآمر.
وكذا لو لم ينوِ أنها لنفسه ولا نواها لغيره فهي له أيضًا؛ لأنه السابق إليها للحديث.
وإن نوى المأمور بأخذها أنها للآمر فهي على ما نوى للآمر في قول من يقول بصحة التوكيل في الإلتقاط.
وإن التقطاه معًا فهو لهما ووضع اليد عليه كأخذه فيملك بمجرد وضع اليد عليه، وكذا لقيط في الحكم كاللقطة إذ لا فرق بينه وبينها.
والأسباب المقتضية للتمليك: 1) الإحياء. 2) الميراث. 3) المعاوضات. 4) الوصايا. 5) الوقف. 6) الصدقات. 7) الغنيمة. 8) الإصطياد. 9) وقوع الثلج في المكان الذي أعده. 10) وإنقلاب الخمر خلا والبيضة فرخًا.
فائدة: من خط أحمد بن عطوة ونص الإمام أحمد في رواية حنبل أن للإمام أن يعطي من بيت المال ويقف على بعض المسلمين، وما في معنى ذلك، وقد أفتى في هذه المسألة ابن عقيل من أصحابنا وابن عصرون
من الشافعية بأن للإمام أن يعطي من أراضي بيت المال ويقف بعضها على بعض المسلمين وحكم به القاضي عز الدين بن جماعة في الديار المصرية في وقف السلطان الملك الناصر على خيل البريد وحكم بذلك في صحة الوقف ونفذ حكمه المالكي والحنفي والحنبلي ونفذ لهم القاضي جمال الدين.
وللإمام حمى موات لرعي دواب المسلمين التي يقوم بها ما لم يضيق على الناس؛ لما ورد عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل خيل المسلمين، رواه أحمد، وعن الصعب بن جثامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وقال:«لا حمى إلا لله ولرسوله» رواه أحمد وأبو داود وللبخاري منه: «لا حمى إلا لله ولرسوله» ، وقال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى الشرف والربذة، ولقول عمر رضي الله عنه: المال مال الله، والعباد عباد الله ولولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرًا في شبر.
قال مالك: بلغني أنه كان يحمل في كل على أربعين ألفًا من الظهر، وروي أيضًا: أن عثمان حمى واشتهر ولم ينكر، وعن أسلم قال: سمعت عمر يقول: لهني حين استعمله على حمى الربذة يا هني، اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة ودعني من نعم ابن عفان فإنهما إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع وإن هذا المسكين إن هلكت ماشيته جاء يصرح يا أمير المؤمنين فالكلأ أهون على أم غرم الذهب والورق أنها أرضهم قاتلوا عليها في الإسلام وإنهم ليرون أنا نظلمهم ولولا النعم التي تحمل عليها في سبيل الله ما حميت على الناس من بلادهم شيئًا أبدًا ووجه هذا أن ما كان من مصالح المسلمين قامت الأئمة فيه مقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لحديث:«ما أطعم الله لنبي طعمة إلا جعلها طعمة لمن بعده» .
وحديث: «لا حمى إلا لله ولرسوله» رواه أبو داود أجيب
عنه بأنه مخصوص بما يحميه الإمام لنفسه فإنه يفارقه حمى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن صلاحه يعود إلى صلاح المسلمين وماله كان يرده في المسلمين ففارق الأئمة في ذلك وساوره فيما كان صلاحًا للمسلمين؛ ولهذا اشترط في جواز الحمى أن لا يكون في قدر يضيق على المسلمين؛ لأنه إنما جاز لما فيه من المصلحة وليس من المصلحة الضرر على المسلمين.
وللإمام نقض ما حماه باجتهاده وله نقض ما حماه غيره من الأئمة؛ لأن حمى الأئمة إجتهاد فيجوز نقضه بإجتهاد آخر.
وينبني على ذلك أنه لو أحياه إنسان ملكه؛ لأن ملك الأرض منصوص عليه والنص مقدم على الإجتهاد، بل عمل كل من الإجتهادين في محله كالحادثة إذا حكم فيها قاض بحكم ثم وقعت مرة أخرى وتغير إجتهاده كقضاء عمر رضي الله عنه في المشركة.
ولا ينقض أحد ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النص لا ينقض بالإجتهاد فليس لأحد من الأئمة نقضه ولا تغييره.
ولا يملك ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحياء وهو المشار إليه في باب صيد الحرمين ونباتهما من قوله وجعل النبي صلى الله عليه وسلم حول المدينة إثني عشر ميلاً حمى.
وإذا كان الحمى لكافة المسلمين تساووا فيه جميعهم فإن خص فيه المسلمون اشترك غنيهم وفقيرهم ومنع منه أهل الذمة.
وإن خص فيه الفقراء منع منه الأغنياء وأهل الذمة ولا يجوز أن يخص فيه الأغنياء دون الفقراء ولا أهل الذمة.
فلو امتنع الحمى المخصوص لعموم الناس جاز أن يشتركوا فيه؛ لارتفاع الضرر على من يخص به ولو ضاق الحمى العام عن جميع الناس
لم يجز أن يختص به أغنياؤهم.
ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أرباب الدواب عوضًا عن مرعى موات أو حمى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أشرك الناس فيه.
قاله في «الأحكام السلطانية» : المياه نوعان مباح، وغير مباح، فأما غير المباح فهو ما ينبع من الأرض المملوكة فصاحب الأرض أحق به من غيره، وأما المباح فهو الذي ينبع في الموات فهو مشترك بين الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار والكلأ» .
فمن سبق منهم إلى شيء منه كان أحق به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» فمن أراد أن يسقي منه أرضًا، فإن كان نهرًا عظيمًا كالنيل والفرات وما أشببهما من الأودية العظيمة جاز أن يسقي منه ما شاء ومتى شاء؛ لأنه لا ضرر فيه على أحد.
وإن كان نهرًا صغيرًا كماء الأمطار، فلمن في أعلاه أن يسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى كعبه ثم يرسله إلى من يليه ثم يرسله الذي أرسل إليه وهو الذي يلي الأعلى إلى من يليه يفعل كما فعل الأول مرتبًا ثم الذي يليه يفعل كما فعلا وهلم جرا على هذا تكون الحال إلى أن تنتهي الأراضي كلها.
ومحل إرساله إلى من يليه إن فضل شيء عمن له السقي والحبس وإلا فلا شيء للباي وهو الذي بعده إذ ليس له إلا ما فضل كالعصبة مع أصحاب الفروض في الميراث؛ لحديث عبادة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النخيل من السيل أن الأعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء» رواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد، وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يمسك الماء حتى يبلغ الكعبين
ثم يرسل الأعلى على الأسفل» رواه ابن ماجه وأبو داود، ورواه الحاكم في «المستدرك» من حديث عائشة أنه قضى في سبيل مهزور ومذنب أن الأعلى يرسل إلى الأسفل ويحبس قدر الكعبين وأعله الدارقطني بالوقف.
ومهزور بتقديم الزاء على الراء واد بالمدينة ومذنب اسم موضع بها، ولحديث عبد الله بن الزبير أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله، إن كان ابن عمتك، فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا زبير، اسق ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» ، فقال الزبير: فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت فيه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} متفق عليه.
الشراج: جمع شرج نهر صغير، والحرة: أرض ملتبسة بحجارة سود، والجدر: الجدار، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير أن يسقي ثم يرسل الماء تسهيلاً على غيره فلما قال الأنصاري ما قال استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه.
فإن كان لأرض أحدهم أعلا وأسفل بأن كانت مختلفة منها العالي ومنها النازل سقى كلا من ذلك على حدته بأن يفرده فيسقي الأعلى ثم يرسل الماء إلى من يليه ثم كذلك حتى يصل إلى الأسفل فيسقيه كما تقدم.
فإن استوى إثنان فأكثر في القرب من أول النهر قسم الماء بينهم على قدر أرض كل منهم إن أمكن قسمه لتساويهم بالحق.
فلو كان لأحدهم جريب ولآخر جريبان ولآخر ثلاثة كان لرب الجريب السدس ولرب الجريبين الثلث، ولرب الثلاثة الأجربة النصف؛ لأن الزائد في الأرض من أرضه أكثر مسار في القرب فاستحق جزءًا من الماء كما لو كانوا ستة لكل واحد منهم جريب.
وإن لم يكن قسمه بينهم أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قدم بالسقي فيسقي منه بقدر حقه ثم يقرع بين الآخرين فمن قرع سقى بقدر حقه ثم تركه للآخر.
وليس لمن تخرج له القرعة أن يسقي بجميع الماء؛ لأن من لم يخرج له يساويه في الاستحقاق في الماء فإن لم يفضل عن واحد سقى القارع بقدر حقه وليس للقارع السقي بكل الماء لمساواة الآخر له في الاستحقاق، وإنما استعملت القرعة للتقدم في استيفاء الحق بخلاف الأعلى مع الأسفل فلا حق للأسفل إلا في الفاصل عن الأعلى كما تقدم.
وإن أراد إنسان إحياء أرض يسقيها من السيل أو النهر الصغير لم يمنع من الإحياء؛ لأن حق أهل الأرض الشاربة منه الماء لا في الموات ما لم يضر بأهل الأرض الشاربة منه فإن ضرهم فلهم منعه لدفع ضرره عنهم وخوف تقديمه عليهم إذا طال الزمن وجهل الحال ولا يسقي قبلهم؛ لأنهم أسبق إلى النهر منه، ولأن من ملك أرضًا ملكها بحقوقها ومرافقها فلا يملك غيرهم إبطال حقوقها، وهذا من حقوقها.
فلو أحيا سابق في أسفله مواتًا ثم أحيا آخر فوقه ثم أحيا ثالث فوق الثاني كان للأسفل السقي أولاً ثم للثاني في الإحياء وهو الذي فوق الأسفل في المثال ثم سقى الثالث الذي فوق الثاني فيقدم السبق إلى الإحياء على السبق إلى أول النهر لمن تقدم من أنه إذا ملك الأرض ملكها بحقوقها ومرافقها.
وقيل ليس لهم منعه من إحياء ذلك الموات، قال الحارثي: وهو أظهر، قال: وظاهر الأخبار المتقدمة وعمومها يدل على إعتبار السبق إلى أعلا النهر مطلقًا، قال: وهو الصحيح فله أن يسقي قبلهم على ما اختاره.
والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لحديث: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به، وهم أسبق منه» والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن حفر نهر صغير وسيق ماؤه من نهر كبير ملك الحافر الماء الداخل فيه، والنهر بين جماعة اشتركوا في حفره على حسب عمل ونفقة؛ لأنه ملك بالعمارة وإن لم يكفهم وتراضوا على قسمته بالمهايات بساعات أو أيام جاز فيه؛ لأن الحق لا يعدوهم.
وإن لم يتراضوا على قسمته وتشاحوا قسمه حاكم على قدر ملكهم بأن يقسم لكل واحد من الماء بقدر ما يملك من النهر فتؤخذ خشبة صلبة أو حجر مستوي الطرفين والوسط فيوضع على موضع مستو من الأرض في مصدم الماء فيه حزوز أو ثقوب متساوية في السعة على قدر حقوقهم.
فلو كان لأحدهم نصف، ولآخر ثلث، ولآخر سدس، جعل فيه ستة ثقوب لرب النصف ثلاثة، ولرب الثلث إثنان، ولرب السدس واحد يصب ماء كل واحد في ساقيته فيتصرف كل واحد بما في ساقيته فيما أحب لانفراده بملكه.
وإن كان النهر مشتركًا بين جماعة فليس لأحدهم أن يتصرف فيه بما أحب من فتح ساقية إلى جانب النهر ليأخذ حقه منها ولا أن ينصب على حافتي النهر رحى تدور بالماء ولا غير ذلك من نحو ما تقدم؛ لأن حريم النهر مشترك فلم يملك التصرف فيه قبل قسمة.
فإن أراد أحد الشركاء أن يأخذ من النهر قبل قسمه شيئًا فيسقي به أرضًا في أول النهر أو غيره لم يجز؛ لأن الأخذ منه ربما احتاج إلى تصرف في أول حافة النهر المملوك لغيره بلا إذن شركائه كسائر الحقوق المشتركة، لكن لكل إنسان أن يأخذ من ماء جار مملوك أو غيره لشرب ووضوء وغُسل وغَسل
ثيابه وغسل أوانيه لأكل وشرب أو يأخذ منه لأكله والإنتفاع به في نحو ذلك مما ليس بحرام.
ولا يجوز أن يأخذ منه ماء للشيشة المستعملة في الدخان ولا أن يأخذ منه ما يبلّ فيه اللحية لحلقها أو لوساة التوالية ونحو ذلك من المحرمات؛ لأنه إعانة على المعاصي، قال الله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
ولا يحل لصاحب الماء الجاري المنع من ذلك المذكور؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء فمنعه ابن السبيل» الحديث رواه البخاري بخلاف ما يؤثر فيه كسقي ماشية كثيرة ونحوه، فإن فضل عن حاجته ماء لزمه بذله لذلك وإلا فلا وتقدم.
ومن سبق إلى قناة لا مالك لها فسبق آخر إلى بعض أفواهها من فوق أو من أسفل فلكل منهما ما سبق إليه من ذلك للخبر وإن احتاج النهر المشترك ونحوه إلى عمارة أو تنظيف فعلى الشركاء بحسب أملاكهم فإن كان بعضهم أدنى إلى أوله من بعض اشترك الكل إلى أن يصلوا إلى الأول، ثم لا شيء عليه إلى الثاني، ثم يشترك الباقون حتى يصلوا إلى الثاني، ثم يشترك من بعده كذلك كلما انتهى العمل إلى موضع واحد منهم لم يكن عليه فيما بعده شيء؛ لأن الأول إنما ينتفع بالماء الذي في موضع شربه وما بعده إنما يختص بالإنتفاع به من دونه فلا يشاركهم في مؤنته كما لا يشاركهم في نفعه، فإن كان يفضل عن جميعهم منه ما يحتاج إلى مصرف فمؤنته على جميعهم لاشتراكهم في الحاجة إليه والانتفاع به فكانت مؤنته عليهم كأوله.
ولمالك أرض منعه من الدخول بها ولو كانت رسوم القناة المحياة في أرض المانع فلا يدخل المحيى للقناة في أرض غيره بغير إذنه.
ولا يملك رب أرض تضييق مجرى قناة في أرضه من خوف لص؛ لأن مجراها لصاحبها فلا يتصرف غيره فيه بغير إذنه؛ لأن فيه ضرر عليه بتقليل الماء ولا يزال الضرر بالضرر ومن سد له ماء لجاهه ليسقي به أرضه فلغيره ممن لا استحقاق له بأصل الماء إلا بالحاجة السقي من الماء المسدد للمتجوه ما لم يكن ترك هذا الغير السقي من الماء المسدود سببًا؛ لأن يرد المتجوه الماء الذي سده على من سده عنه فيمتنع عليه السقي في هذه الحالة؛ لأنه تسبب في ظلم من سد عنه بتأخير حقه.
وإذا حصل نصيب إنسان في ساقيته فله أن يسقي بها ما شاء من الأرض سواء كان لها رسم شرب من هذا النهر أو لا وله أن يعطي من يسقي به؛ لأنه ماء قد تفرد باستحقاقه فكان له أن يسقي ما شاء، كما لو انفرد إنفرد به من أصله.
من النظم فيما يتعلق في إحياء الموات
ويقرع بين اثنين إن ضاق عنهما
…
فأكثر مع سبق معًا مثل مقعد
وقيل أقسمن عند استواء وقيل من
…
يشا القاض ينكا واستنب في مبعد
ويملك ذو السبق المباح بحوزه
…
وما نبذ الملاك نبذة مبعد
وما سيبوا في مهلك لانقطاعه
…
أو العجز عن قوت لمنجيه أورد
على نصه في الحي غير رقيقه
…
وقد قيل لم يملك كمال مبدد
سوى ما رموا في البحر خوفًا بأوطد
…
وأن ينكسر فلك فبالأجرة أردد
كذا الحكم في رد المتاع ومنفق
…
على العبد في الأولى وقيل وجلعد
ويقسم بين المستوين بسبقهم
…
ونهر مباح لإزدحام ليورد
على أول يسقي إلى الكعب حابسًا
…
ويرسل للجيران حتى المبعد
وعند استواء القرب يقسم بينهم
…
فإن يمتنع قسم إلى قرعة عد
فإن يحيى أرضًا بعد قسم جماعة
…
يجز سقيها منه إذا لم تنكد
ومستحدثون النهر عند اختلافهم
…
ليقسم بظن العدل بين المعدد
وكل ليسقي ما يشاء بسهمه
…
ولم يجز القاضي بغير المعود
وحفرك مجرى حل للحل ماؤه
…
بإيصاله للنهر ملك المخدد
ويملك أيضًا حافيته وماؤه
…
مباح وحظر منه سوق مخدد
ويملك فرض النهر مع حافيته من
…
يحد إلى نهر مباح ممدد
ويبقى على حكم الإباحة ماؤه
…
ومن يبغ منه سوق ساقية ذد
وإن لدواب المسلمين حبًا امرؤ
…
أمام مواتًا لا يضر فأسعد
ولا تمنعن من لا يطيق إنتجاعه
…
بأنعامه مرعى بعيدًا فتعتد
وغير حمى الهادي يجوز إنتقاضه
…
ويملك في الأقوى بإحيا مجدد
وصحح لإعطا الأرض من بيت مالنا
…
ووقفا لقوم في المذاهب من هدي
(31)
الجعالة
س 31: تكلم بوضوح عن الجعالة لغةً، واصطلاحًا، واذكر حكمها، وأمثلة لها، وكم أركانها؟ وما هي؟ وما الحكم فيما إذا بلغ الإنسان الجعل بعد العمل أو في أثنائه أو قبل الفعل وحكم الأخذ وإذا قال من رد عبدي فله كذا فما الحكم؟ وإذا رده من المسافة المعينة أو من أبعد منها أورد أحد آبقين أو فسخ جاعل أو عامل الجعالة قبل التمام أو جمع بين تقدير مدة وعمل، واذكر الدليل والتعليل والتفصيل والفروق والمحترزات والخلاف والترجيح.
ج: الجعالة بتثليث الجيم مشتقة من الجعل بمعنى التسمية؛ لأن الجاهل يسمى الجعل للعامل أو من الجعل بمعنى الإيجاب، يقال: بجعلت له كذا وكذا أي أوجبت، ويسمى ما يعطاه الإنسان على أمره يفعله جعلاً وجعالة وما تجعل للغازي إذا غزا عنك بجعل وهي الجعائل يدفعه المضروب عليه البعث إلى من يغزو عنه، قال سليك بن شقيق الأسدي:
فأعطيت الجعالة مستميتًا
…
خفيف الحاذ من فتيان جرم
والجعالة إصطلاحًا: جعل جائز التصرف شيئًا متمولاً معلومًا لمن يعمل له عملاً مباحًا معلومًا أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة، وهي جائزة بالكتاب والسُّنة والإجماع في الجملة، قال الله تعالى:{وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين:«من قتل قتيلاً فله سلبه» ، وعن أبي سعيد قال:«انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو آتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم بعض شيء فآتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ وسعينا بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ قال بعضهم: إني والله لأرقي، ولكن والله لقد استضفنا فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من غنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة فأوفرهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر الذي يقرنا، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك، فقال: «وما يدريك أنها رقية» ، ثم قال:«قد أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم سهمًا» ، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم. رواه الجماعة إلا النسائي، وهذا لفظ البخاري.
وأجمع المسلمون على جواز الجعالة في الجملة، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك من رد ضالة وآبق وعمل لا يقدر عليه فجاز كالإجارة.
وأركان الجعالة: 1) عمل. 2) جعل. 3) صيغة. 4) عاقد.
ولا يشترط أن يكون الجعل معلومًا إن كان من مال حربي فيصح مجهولاً كما تقدم في الجهاد.
قال في «المغني» : ويحتمل أن تجوز الجعالة مع جهالة العوض إذا كانت الجهالة لا تمنع التسليم نحو أن يقول من رد عبدي الآبق فله نصفه.
ومن رد ضالتي فله ثلثها، فإن أحمد قال: إذا قال الأمير في الغزو من جاء بعشرة رؤوس فله رأس جاز، وقالوا: إذا جعل جعلاً لمن يدله على قلعة أو طريق سهل وكان الجعل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولاً كجارية يعينها العامل فيخرج هاهنا مثله، فأما إذ كانت الجهالة تمنع من التسليم لم تصح الجعالة وجهًا واحدًا.
ويشترط أن يكون العمل مباحًا لا محرمًا.
فلا تصح الجعالة على الزنا واللواط والسرقة وشرب الدخان وحلق اللحية وعمل التواليت والخنافس، ولا تصح على عمل الرؤوس الصناعية ولا على قص رؤوس النساء ولا عمل ثياب رجال لنساء ولا على عمل ثياب نساء لرجال ولا على المسابقة في الكرة، ولا على اللعب بأم الخطوط، ولا على اللعب بالورق، ولا على الخضاب بالسواد، ولا على نقل من يريد ترك الجمعة والجماعة، ولا عمل الصور أو بيعها مجسدة أو غير مجسدة إذا كانت من صور ذوات الأرواح لتحريمها بيعًا وشراء وتصويرًا واقتناءً.
ولا تصح الجعالة على تصليح آلات اللهو كالمذياع والتلفزيون والسينما والبكم وتسجيل الأغاني.
ولا يجوز جعل للمطربين رجالاً أو نساءً.
ولا تجوز الجعالة على الغيبة ولا النميمة ولا الكذب.
ولا تصح على عمل شيش للدخان ولا المجلات الخليعة.
ولا تصح الجعالة لمن يشهد بالزور وقس على ذلك جميع المحرمات،
فلا تصح عليها الجعالة كالإجارة.
ولا تصح لمن يعمل عبثًا؛ لأنه لا فائدة فيه كساع يقطع أيامًا في يوم واحد.
ومثله في عدم الصحة تكليف فوق الطاقة كرفع ثقيل من حجر أو غيره ومشى على جبل أو جدار أو قفز قليب أو نحوها فلا تنعقد الجعالة على شيء من ذلك لاشتراط الإباحة، وهذه الأشياء إما أن يخشى فاعله الضرر فحرام وإلا فمكروه على هذا يكون غير مباح.
وقال الحليمي من الشافعية: لا يراهن رجلان على قوة يختبران بها أنفسهما على عمل فيقول أحدهما: إن قدرت على رمي هذا الجبل ونحوه فلك كذا، فإنه لا يصح.
وقال ابن عبد الهادي: إذا قال من أكل هذا الرغيف أو رطل اللحم أو شرب هذا الكوز الماء أو صعد هذه الشجرة ونحو ذلك، فمن فعله استحق ذلك، قال: ومما يفعل في عصرنا أن يجعل على أكل كثير من الحلوى والفاكهة أو صعود موضع عسر ونحو ذلك، أن يقال من أكل هذه الرمانة ولم يرم منها حبة فله كذا فيصح ذلك، ومن فعل استحق الجعل، فإن قال: إن فعلت كذا فلك كذا وإن لم تأكله فعليك كذا لم يجز. اهـ.
وتصح الجعالة ولو كان العمل مجهولاً إذا كان العوض معلومًا كمن خاط لي هذا الثوب ونحوه فله كذا وكرد لقطة لم يعين موضعها؛ لأن الجعالة جائزة لكل منهما فسخها فلا يؤدي أن يلزمه مجهول بخلاف الإجارة وأن تكون مع شخص جائز التصرف أو لمن يعمل له مدة ولو كانت المدة مجهولة كمن حرس زرعي فله كل يوم كذا، قال في «الشرح» .
ويصح الجعل على مدة مجهولة أو على مجهول إذا كان العوض معلومًا؛
لأنها عقد جائز من الطرفين فجاز أن يكون العمل فيها مجهولاً والمدة مجهولة كالشركة والوكالة، ولأن الجائزة لكل منهما فسخها فلا يؤدي إلى أن يلزمه مجهول عنده إذا كان العوض معلومًا، ولأن الحاجة تدعو إلى كون العمل مجهولاً وكذلك المدة لكونه لا يعلم موضع الضالة والآبق ولا حاجة إلى جهالة العوض، ولأن العمل لا يصير لازمًا فلم يشترط كونه معلومًا والعوض يصير لازمًا بإتمام العمل فاشترط العلم به، انتهى.
فإن جعله لمعين بأن قال لزيد مثلاً: إن رددت لقطتي فلك كذا وكذا فيستحقه إن ردها ولا يستحق من ردها سوى المخاطب بذلك؛ لأن ربها لم يجاعل إلا المخاطب على ردها.
وإن كانت بيد إنسان فجعل له مالكها جعلاً ليردها لم يبح لمن هي بيده أخذ الجعل إلا إن طابت نفس مالكها حقيقة بذلك.
وتصح الجعالة ولو جعل العوض لغير معين كان يقول من بنى لي هذا الجدار فله كذا وكذا أو من رد عبدي الآبق.
وإذا قال من أذن في هذا المسجد شهرًا فله كذا وكذا ومن فعله ممن لي عليه دين فهو بريء من كذا فيصح العقد مع كونه تعليقًا؛ لأنه في معنى المعاوضة لا تعليقًا محضًا.
فمن بلغه الجعل قبل العمل المجعول عليه ذلك العوض استحق الجعل بالعمل بعد لا إستقراره بتمام العمل كالربح في المضاربة، فإن تلف فله مثل مثلي وقيمة غيره.
ولا يحبس العامل العين حتى يأخذه ومن بلغه الجعل في أثناء العمل فله من الجعل حصة تمامه.
المعنى: أنه يستحق من الجعل بقسط ما بقي من العمل فقط؛ لأن عمله قبل
بلوغه الجعل وقع غير مأذون له فيه فلم يستحق عنه عوضًا لبذله منافعه متبرعًا بها.
ومحل ذلك إن أتم العمل بنية الجعل ولهذا لو لم يبلغه الجعل إلا بعد تمام العمل لم يستحق الجعل ولا شيئًا منه لما سبق.
وحرم عليه أخذ الجعل؛ لأنه من أكل المال بالباطل إلا أن تبرع له ربه به بعد إعلامه بالحال.
وفي كلام ابن الجوزي في «المنتظم» : يجب على الولاة إيصال قصص أهل الحوائج فإقامة من يأخذ الجعل على إيصال القصص للولاة حرام؛ لأنه من أكل المال بالباطل.
قال في «الفروع» : ويتوجه إحتمال ولعله ظاهر كلام ابن الجوزي إن وجب عليه حرام وإلا فلا.
وإن قال: جائز التصرف لزيد مثلاً إن رددت لقطتي فلك كذا فيستحقه إن ردها هو ولم يستحقه من ردها دون زيد المقول له ذلك؛ لأن ربها لم يجاعله على رده وتقدمت المسألة.
وإن فعل المجاعل عليه جماعة اقتسموا الجعل بينهم؛ لأنهم اشتركوا في العمل الذي به استحق الجعل، فلو قال قائل من نقب السور فله دينار فنقبوه كلهم نقبًا واحدًا، فإن كانوا ثلاثة استحقوا الدينار بينهم أثلاثًا؛ لأنهم اشتركوا في العمل الذي يستحق به العوض فاشتركوا في العوض كالأجرة في الإجارة.
وإن نقب كل واحد نقبًا فكل واحد دينار كما لو قال من دخل هذا النقب فله دينار فدخله جماعة استحق كل واحد منهم دينارًا؛ لأن كل واحد من الداخلين دخل دخولاً كاملاً كدخول المنفرد فاستحق العوض كاملاً.
ولو اختلف المالك والعامل، فقال: عملته بعد أن بلغني الجعل، وقال المالك: بل قبله فقول عامل بيمينه؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته، هذا هو الذي تميل نفسي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولو فاوت بين الجماعة العاملين فجعل لإنسان في رد آبق على رده ريالاً وجعل للآخر ريالين وجعل للثالث ثلاثة ريالات، فإن رد واحد استحق جعله وإن رده الثلاثة فلكل واحد منهم ثلث ما جعل له؛ لأنه عمل ثلث العمل فاستحق ثلث المنتمي.
وإن رده إثنان منهم فلكل واحد منهم نصف جعله؛ لأنه عمل نصف العمل فاستحق نصف المسمى وإن جعل لواحد عوضًا معلومًا كريال مثلاً وجعل لآخر عوضًا مجهولاً فرداه معًا فلرب المعلوم نصفه وللآخر أجر عمله.
وإن جعل رب العبد الآبق مثلاً لواحد معين كزيد شيئًا فرده من جوعل وهو زيد في المثال هو وآخران معه، وقال الآخران: رددناه معاونة لزيد استحق زيد كل الجعل ولا شيء لهما؛ لأنهما تبرعا بعملهما، وإن قالا: رددناه لنأخذ العوض منه لأنفسنا فلا شيء لهما؛ لأنهما عملا من غير جعل ولزيد ثلث الجعل؛ لأنه عمل ثلث العمل.
وإن نادى غير صاحب الضالة، فقال: من ردها فله جنيه فردها رجل أو امرأة فالجنيه على المنادي؛ لأنه ضمن العوض المعنى التزمه ولا شيء على رب الضالة؛ لأنه لم يلتزم.
وإن قال المنادي غير رب الضالة في ندائه قال فلان: من رد ضالتي فله ريال، ولم يكن رب الضالة قال ذلك فردها رجل لم يضمن المنادي؛ لأنه لم يلتزم العوض والذي رد الضالة مقصر حيث لم يأخذ بالاحتياط لنفسه.
وإن قال رب عبد آبق من سيده من رد عبدي فله كذا، والمسمى أقل
من دينار أو أقل من اثني عشر درهمًا فضة اللذين قدرهما الشارع في رد الآبق، فقيل: يصح ذلك وللراد برد الآبق الجعل فقط؛ لأنه رد على ذلك فلا يستحق غيره.
وقيل: لا تصح التسمية وللراد له ما قدره الشارع لاستقراره عليه كاملاً بوجود سببه.
وما ذكر من أن الشارع قدر في رد الآبق دينار أو اثني عشر درهمًا، قال في «الإنصاف»: أنه المذهب سواء كان يساويهما أو لا لئلا يلتحق بدار الحرب أو يشتغل بالفساد، وروي عن عمر وعن عمرو بن دينار وابن أبي مليكة مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في رد الآبق خارجًا من الحرم دينارًا.
والقول الثاني هو الذي تميل إليه النفس والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن كان المسمى أكثر من دينار أو أكثر من اثني عشر درهمًا فرده إنسان استحق الجعل بعمل ما جوعل عليه كرد لقطة وبناء حائط؛ لأنه استقر على الجاعل بالعمل.
ويستحق من سمي له جعل على رد آبق ورده من دون المسافة المعينة القسط من المسمى، فإن كان المردود منه نصف المسافة استحق نصف المسمى فقط؛ لتبرعه بالزائد؛ لعدم الإذن فيه.
وهذا مع تساوي الطريق في الصعوبة والسهولة، أما إن كان يختلف بأن كان نصفه سهلاً ونصفه صعبًا كان بحسبه من المسمى.
ويصح الجمع بين تقدير المدة والعمل في الجعالة كأن يقول من خاط هذا الثوب في يوم كذا فإن أتى به فيها استحق الجعل ولم يلزمه شيء آخر وإن لم يف به فيها فلا شيء له.
ويستحق من رد أحد آبقين جوعل على ردهما نصف الجعل عن ردهما؛ لأنه رد نصفهما وكذا لو قال من خاط لي هذين الثوبين فله كهذا فخاط أحدهما فله بقدره من الجعل.
ومحل ذلك إذا لم يكن في اللفظ ما يدل على فعل الشيئين معًا، كما لو قال من ردهما كليهما فله كذا.
وبعد الشروع في العمل إن فسخ جاعل فعلى الجاعل للعامل أجرة مثل عمله؛ لأن عمل بعوض لم يسلم له فكان له أجرة عمله وما عمله بعد الفسخ لا أجرة له عليه؛ لأنه عمل غير مأذون فيه.
وإن زاد الجاعل أو نقص من الجعل قبل الشروع في العمل جاز وعمل به؛ لأنه عقد جائز فجاز فيه ذلك كالمضاربة.
وإن فسخ عامل قبل تمام العمل فلا شيء له؛ لإسقاط حق نفسه حيث لم يوف ما شرط عليه.
ومن التقط لقطة وكتمها ليبذل جعلاً على تحصيلها كما يفعله بعض الجهالة أو من لا يوثق بأمانته فهذه لقطة ويكون آثمًا بتركه التعريف وحكمه بتركه التعريف لها حكم الغاصب فلا يستحق شيئًا أصلاً.
وقد ذكر العلماء فروق بين الإجارة والجعالة.
أولاً: أن الإجارة لابد أن يكون العمل معلومًا كالعوض.
والجعالة: قد يكون معلومًا كمن بنى لي هذا البيت فله كذا وقد يكون مجهولاً كمن رد لقطتي فله كذا.
ثانيًا: الإجارة تكون مع معين، والجعالة أوسع من الإجارة؛ ولهذا تجوز على أعمال القرب كالأذان والإمامة وتعليم القرآن ونحوها بخلاف الإجارة.
ثالثًا: أن الجعالة لا يستحق العامل العوض حتى يعمل جميع العمل، وأما الإجارة ففيها تفصيل يرجع إلى أنه إن لم يكمل الأجير ما عليه فإن كان بسببه ولا عذر له فلا شيء له وإن كان التعذر من جهة المؤجر فعليه جميع الأجر وإن كان بغير فعلهما وجب من الأجر بقدر ما استوفى.
رابعًا: أن العمل في الجعالة قائم مقام القبول؛ لأنه يدل عليه.
خامسًا: أن الجعالة جائزة بخلاف الإجارة.
سادسًا: أنه لا يشترط في الجعالة العلم بالعمل ولا بالمدة.
سابعًا: أن القاعدة في العمل إذا كان مجهولاً لا تمكن الإجارة عليه فطريقه الجعالة وإذا كان معلومًا ولم يقصد لزوم العقد عدل إلى الجعالة أيضًا.
من النظم فيما يتعلق بالجعالة
وقولك من يفعل كذا فله كذا
…
فمن بعد علم الجعل يغفله يردد
إذا قاله من صح منه إجازة
…
وليس بشرط فيهما دين مهتدي
ولا شيء في فعل سبق علم جعله
…
ولو رد بعد العلم لقطة منشد
وتعيينه زيدًا بفعل معين
…
له واقسمن من الفاعلين ومهد
لكل من الجعل استووا أو تفاضلوا
…
كنسبة فعل منه من متعدد
وغير اشتراط جهل فعل ومدة
…
ولا شرط فعل في زمان مقيد
ولابد من علم بجعل وقيل ما
…
اجتهال تواتي القبض معه بمفسد
وإن منع التسليم أو صد مطلقًا
…
فلغو وأجر المثل للعامل أعدد
وإن تنو جعلاً منذ تدريه تعطه
…
وعند جواز ذي فمن شاء يفسد
فإن فسخ العمال لم يعط أجرة
…
وفي فسخها من جاعل فليزود
بأجرة مثل الفعل منذ شروعه
…
وفي الجعل قول الجاعل اقبل بأوطد
ويخرج عند الخلف فيه تحالف
…
فيلزم أجر المثل في فعل مقصد
كقربة اختص الفعول بنفعها
…
وإن يتعدى كالأذان تردد
ولا شيء في فعل بلا شرط ربه
…
سوى في مرد الأبقين بأوكد
وعن أحمد بل أربعون وعشر أو
…
دنينيران يردده من مصر أطد
وطد نحو من يردده يملك ثلثه
…
وما قال رب اجعلن كالمبعد
ومن ربه يعطى غرامة قوته
…
ولو مرمنه في الطريق المعبد
ومن أرثه إن مات خذه كجعله
…
ولو فات كل قيمة المتشرد
ومن الآباق فهو أمانة
…
لإقرارهم للمدعي أو بشهد
ولا يستحق الجعل إلا برده
…
ولو فقد المردود عن باب سيد
ومن قال من يردد فتى هند أعطه
…
منا ورق ألزمه جعل المردد
وفي بقعة عينت أورد غصبه
…
من الجعل اعطا نسبة الفعل تهتد
وجعل كذا في رد الآباق من منى
…
كنسبة مردود ومن أقرب أرفد
وإن ردهم من أبعد من منى فلا
…
تزده على الجعل المسمى المحدد
وإن قال من داوى فأبرا له كذا
…
فليس صحيحًا في الصحيح المؤطد
وقيل بلى والحكم حكم جعالة
…
وقد قيل بل حكم الإجارة فاقصد
وممن يداوي الكحل دون بقية الدواء
…
على الأقوى فمن مال أرمد
(32)
اختلاف العامل والجاعل في أصل الجعالة وقدر المسافة أو قدر الجعل
وحكم إنقاذ مال الغير من الهلاك وما يتعلق بذلك من نفقة أو نحوها
س 32: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: إذا اختلف الجاعل والعامل في أصل جعل أو في قدره أو في مسافة وإذا عمل إنسان لغيره عملاً بلا إذنه قاصد بذلك أخذ أجرة أو أنفق على آبق أو بهيمة أو مات من لزمه جعل أو نفقة أو خيف على حيوان، فما الحكم؟ وإذا كان عنده وديعة وخيف عليها أو وقع حريق بدار فهدمها على النار غير ربها بلا إذنه أو وقع آبق بيد إنسان وصدمه الآبق أو لم يجد واجد الآبق سيده، فما الحكم؟ واذكر الدليل والتعليل والتفصيل والخلاف والترجيح.
ج: إذا اختلفا في أصل الجعالة المسماة فأنكر أحدهما، فالقول قول من ينفيه منهما؛ لأن الأصل عدمه.
وإن اختلفا في قدر الجعل أو اختلفا في قدر المسافة، فقال الجاعل: جعلت ذلك لمن رده من عشرات أميال، فقال العامل: بل من ستة أميال أو اختلفا في عين العبد الذي جعل فيه الجعل في رده، فقال: رددت العبد الذي جعلت إلي الجعل فيه فأنكر الجاعل، وقال: بل شرطته في العبد الذي لم ترده، فالقول قول جاعل؛ لأنه منكر لما يدعيه العامل زيادة عما يعترف والأصل براءته.
وإن عمل شخص ولو المعد لأخذ أجرة على عمله كالملاح والمكاري والحجام والقصار والخياط والدلال والنقار والكيال والوزان وشبههم ممن يرصد نفسه للتكسب بالعمل وأذن له المعمول له في العمل فله أجرة المثل لدلالة العرف على ذلك.
وإن لم يكن معدًّا لأخذ الأجرة وعمل لغيره عملاً بلا إذن أو بلا جعل
ممن عمل له فلا شيء له؛ لأنه بذل منفعته من غير عوض فلم يستحقه ولئلا يلزم الإنسان ما لم يلتزمه ولم تطب نفسه به إلا في تخليص مال غيره ولو كان مال غيره قنا من بحر أو فم سبع أو فلاة يظن هلاكه في تركه فله أجره مثله.
وإن لم يأذن ربه؛ لأنه يخشى هلاكه وتلفه على مالكه بخلاف اللقطة، وكذا لو انكسرت السفينة فخلص قوم الأموال من البحر فتجب لهم الأجرة على الملاك؛ لأن فيه حثًّا وترغيبًا في إنقاذ الأموال من المهلكة.
ومثل ذلك، والله أعلم عندي لو خلص مال غيره من حريق أو سيل لو بقي لتلف فإن الغواص إذا علم أن له الأجرة غرر بنفسه وبادر إلى التخليص بخلاف ما إذا علم أن لا شيء له وإلا في رد الآبق من قن ومدبر وأم ولد إن لم يكن الراد الإمام، فإن كان الإمام أو نائبه فلا شيء له لانتصابه للمصالح وله حق في بيت المال على ذلك ولذلك لم يكن له الأكل من مال يتيم.
وإن كان الراد غير الإمام أو نائبه فله ما قدره الشارع دينارًا أو اثني عشر درهمًا وسواء كان الراد زوجًا أو ذا رحم في عيال المالك وسواء رده من المصر أو خارجه قربت المسافة أو بعدت ما لم يمت سيد مدبر خرج من الثلث وأولد قبل وصول إليه فيعتقا فلا شيء لرادهما في نظير الرد؛ لأن العمل لم يتم إذ العتيق لا يسمى آبقًا أو يهرب الآبق من واجده قبل وصوله؛ لأنه لم يرد شيئًا.
ويأخذ راد الآبق من سيد أو تركته ما أنفق عليه أو ما أنفق على الدابة التي يجوز إلتقاطها يرجع في قوت وعلف وكسوة وأجرة حمل احتيج إليها لا دهن وحلوى ولو هرب أو لم يستحق جعلاً لرده من غير بلد سماه أو لم يستأذن المنفق مالكًا في الإنفاق مع قدرة على استئذانه؛ لأن الإنفاق مأذون فيه
شرعًا لحرمة النفس وحثًا على صون ذلك على ربه بخلاف الوديعة.
ولا يجوز لواجد آبق أن يستخدمه بدل نفقته عليه كالعبد المرهون وأولى ويؤخذ جعل ونفقة من تركه سيد ميت كسائر الحقوق عليه ما لم ينو أن يتبرع بالعمل والنفقة فإن نوى التبرع فلا نفقة له، وكذا لو نوى بالعمل التبرع لا أجرة له ومقتضاه لا تعتبر نية الرجوع بخلاف الوديعة ونحوها، والفرق الترغيب في الإنقاذ من المهلكة فيكفي عدم نية التبرع فيرجع ولو لم ينو الرجوع وللإنسان ذبح حيوان خيف موته ولا يضمن ما نقصه؛ لأن العمل في مال الغير متى كان إنقاذًا له من التلف المشرف عليه كان جائزًا بغير إذن مالكها ولا ضمان على المتصرف وإن حصل به نقص، وقيل: يجب عليه ذبح الحيوان المأكول استنقاذًا من التلف وحفظًا لماليته، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن ادعى أنه لم يذبحه إلا خوفًا من موته فلابد من بينة إلا إن كان أمينًا كالراعي أو دلت قرينة على صدقه مثل بعير به مرض أو كان الذابح رجلاً يوثق بدينه وأمانته صدوقًا فلا يضمن، وتقدم في الإجارة إذا ادعى الراعي موتًا ولم يحضره جلدًا قبل يمينه.
قال الشيخ تقي الدين وغيره: ومن استنقذ مال غيره من مهلكة ورده استحق أجرة المثل ولو بغير شرط في أصح القولين.
وقال إذا استنقذ فرسًا أو نحوه للغير ومرض بحيث أنه لم يقدر على المشي فيجوز، بل يجب في هذه الحال أن يبيعه الذي استنقذه ويحفظ ثمنه لصاحبه نص الأئمة على هذه المسألة ونظائرها.
وقال ابن القيم: متى كان العمل في مال الغير إنقاذًا له من التلف المشرف عليه كان جائزًا كذبح الحيوان المأكول إذا خيف موته ولا يضمن ما نقص
بذبح، قال: ولهذا جاز لأحدهم ضم اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة حتى أنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة.
وينزل إنفاقه عليها منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلاً في حكم الشرع لما أقدم على ذلك، ولضاعت مصالح الناس ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضًا وتعطلت حقوق كثيرة وفسدت أموال عظيمة.
ومعلوم أن شريعة بهرت العقول وفاقت كل شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك كل الإباء، وذكر أصولاً ثم قال: وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملاً بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى حقه أو فعله حفظًا لمال المالك وإحرازًا له من الضياع، فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله، وقد نص عليه أحمد في عدة مواضع منها إذا حصد زرعه في غيبته.
ومنها: لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في البحر فخلصه، فلو ترك ذلك لضاع والمؤمنون يرون قبيحًا أن يذهب عمل مثل هذا ضائعًا ومال هذا ضائعًا ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا وينجح سعي هذا، انتهى. وكذا يجوز بيع نحو وديعة ولقطة ورهن خيف تلفه ويحفظ ثمنه لربه.
فمن حصل بيده مال غيره وجب عليه حفظه فحيث كان يخشى تلفه ولم يكن مالكه حاضرًا يمكن إعلامه فيفعل ما فيه حظ من بيع أو غيره حسب ما يراه أنفع وهو الموافق للقواعد وللنظائر.
ولو وقع حريق بدار فهدمها غير ربها بلا إذنه على النار خوف سريان
أو هدم قريبًا منها خوف تعديها وعتوها لم يضمن ذكرها ابن القيم في الطرق، ثم قال: وكذا لو رأى السيل يقصد الدار المؤجرة فبادر وهدم الحائط ليخرج السيل ولا يهدم الدار كان محسنًا ولا يضمن.
والآبق وغيره من المال الضائع بيد آخذه أمانة إن تلف قبل التمكن من رده بغير تفريط ولا تعد فلا ضمان عليه؛ لأنه محسن بأخذه.
ومن ادّعى الآبق أنه ملكه بلا بينة فصدقه الآبق المكلف أخذه؛ لأنه إذا استحق أخذه بوصفه إياه فتصديقه على أنه ملكه أولى، وأما قول الصغير فغير معتبر فإن لم يجد واجد الآبق سيده دفعه لنائب إمام فيحفظه لربه إلى أن يجده ولنائب إمام بيعه لمصلحة رآها في بيعه ويحفظ ثمنه لانتصابه.
فلو قال سيده بعد أن باعه واجده كنت اعتقته قبل صدور البيع عمل به وبطل البيع؛ لأنه لا يجر به إلى نفسه نفعًا ولا يدفع عنها ضررًا ولم يصدر منه ما ينافيه وليس لواجد العبد بيعه ولا يملكه بعد تعريف؛ لأن العبد يتحفظ بنفسه فهو كضوال الإبل لكن جاز إلتقاطه؛ لأنه لا يؤمن لحاقه بدار حرب وإرتداده وإشتغاله بالفساد.
وكل ما جاز أن يكون عوضًا في الإجارة جاز أن يكون عوضًا في الجعالة فيصح أن يجعل لعامل نفقة وكسوته كاستئجاره بذلك مفردًا أو مع دراهم مسمات وتزيد الجعال بجعل مجهول من مال حربي.
وكل ما جاز عليه أخذ العوض في الإجارة من الأعمال جاز عليه أخذ العوض في الجعالة وما لا يجوز أخذ العوض عليه في الإجارة كالغنا والزمر وسائر المحرمات وتقدم نماذج منها في (ص 190) لا يجوز أخذ الجعل عليها؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
(33)
اللقطة
س 33: ما هي اللقطة؟ وإذا أخذ نعله أو متاعه وترك بدله فما الحكم؟ وما هي أقسام اللقطة؟ اذكرها بوضوح ممثلاً لكل قسم من أقسامها مبينًا ما يدخل في كل قسم وما يخرج منه، وإذا ترك إنسان دابة بمهلكة أو فلاة أو ألقى مال خوف غرق فما الحكم؟ وما هي أركان اللقطة؟ وما الأصل فيها؟ وإذا أخذ متاع إنسان أو ثيابه من حمام أو نحوه، وما الذي يحرم إلتقاطه؟ وما مثاله؟ وما الذي تضاعف قيمته على من التقطه؟ وماذا يعمل الإمام مما حصل بيده؟ وهل يؤخذ منه؟ وهل يعرفه؟ واذكر الدليل والخلاف والترجيح.
ج: اللقطة بضم اللام وفتح القاف، وحكى ابن مالك فيها أربع لغات: لقاطة، ولقطة بضم اللام وسكون القاف على وزن حزمة، ولقط بفتح اللام والقاف بلا هاء، ونظمها في بيت:
لقاطة ولقطة ولقطه
…
ولقط لاقط قد لقط
وحكى عن الخليل اللقطة بضم اللام وفتح القاف كثير الإلتقاط، وحكى في «الشرح» اسم للملتقط؛ لأن ما جاء على فعلة فهو اسم للفاعل كالضحكة والصرعة والهمزة واللمزة واللقطة بسكون القاف الملقوط مثل الضحكة الذي يضحك.
واللقطة عرفًا: مال أو مختص ضائع أو ما في معناه لغير حربي، فإن كان لحربي فلآخذه وهو ما معه كما لو ضل الحربي الطريق فأخذه إنسان فإنه يكون لآخذه.
وأركانها ثلاثة: ملتقط، وملقوط والتقاط، والأصل في اللقطة ما روى زيد بن خالد الجهني قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق،
فقال: «أعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه» ، وسأله عن ضالة الإبل، فقال:«ملك ولها دعها، فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها» ، وسأله عن الشاة، فقال:«خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب» متفق عليه.
والوكاء: الخيط الذي يشد به المال في الخاصة في الخرقة، والعفاص: الوعاء الذي هي فيه من خرقة أو قرطاس أو غيره، قال أبو عبيد: والأصل أنه الجلد الذي يلبس رأس القارورة.
وقوله: «معها حذاؤها» يعني خفها؛ لأنه لقوته وصلابته يجري مجرى الحذاء، وسقاؤها: بطنها؛ لأنها تأخذ فيه كثيرًا فيبقى معها يمنعها العطش، والضالة: اسم للحيوان خاصة دون سائر اللقطة والجمع ضوال، ويقال لها أيضًا: الهوامي والهوامل قاله الشارح، فمن أخذ متاعه في نحو حمام من ثياب أو مداس ونحوه وترك ببناء الفعلين للمجهول بدله شيء متمول غير فالمتروك كلقطة نص عليه في رواية ابن القسم وابن بختان وجزم به في «الوجيز» وغيره.
قال في «المغني» : ومن أخذت ثيابه من الحمام ووجد غيرها لم يأخذها فإن أخذها عرفها سنة ثم تصدق، إنما قال ذلك؛ لأن سارق الثياب لم يجر بينه وبين مالكها معاوضة تقتضي زوال ملكه عن ثيابه، فإذا أخذها فقد أخذ مال غيره ولا يعرف صاحبه فيعرفه كاللقطة، انتهى.
ويأخذ المأخوذ متاعه حقه من المتروك بدل متاعه بعد تعريفه من غير رفع إلى حاكم، قال الموفق الشارح هذا أقرب إلى الرفق بالناس.
قال الحارثي: وهذا أقوى على أصل من يرى أن العقد لا يتوقف على اللفظ؛ لأن فيها نفعًا لمن سرقت ثيابه بحصول عوض عنها ونفعًا للآخر إن كان سارقًا بالتخفيف عنه من الإثم وحفظًا لهذه الثياب عن الضياع، فلو كانت الثياب المتروكة أكثر قيمة من المأخوذة كان كانت المتروكة تساوي مائة ريالاً والمأخوذة تساوي ثمانين ريالاً أخذ الثمانين؛ لأنها قيمة ثيابه والزائد عما يستحقه عشرون لم يرض صاحبها بتركها عما أخذه فيتصدق بالباقي الذي هو العشرون إن أحب أو يدفعها إلى الحاكم ليبرأ من عهدتها.
وصوب في «الإنصاف» : وجوب التعريف إلا مع قرينة تقتضي السرقة بأن تكون ثيابه أو مداسه خيرًا من المتروكة وهي مما لا تشتبه على الآخذ ثيابه ومداسه؛ لأن التعريف إنما جعل في المال الضائع عن ربه ليعلم به ويأخذه وتارك هذه عالم بها راض ببدلها عوضًا عما أخذ ولا يعرف أنه له فلا يحصل من تعريفه فائدة، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واللقطة ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا تتبعه همة أوساط الناس ولا يهتمون في طلبه كسوط وهو ما يضرب به فوق القضيب ودون العصي يجمع على سياط، ومنه الحديث:«سياط كأذناب البقر» ، قال المنخل يصف موردًا:
كان مزاحف الحيات فيه
…
قبيل الصبح آثار السياط
ومما لا تتبعه همة أوساط الناس شسع النعل أحد سيور النعل الذي يدخل بين الأصبعين، وفي الحديث:«إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في نعل واحدة» .
ومما لا تتبعه همة أوساط الناس الرغيف، ويقال له: خبزة وككسرة وتمرة وموزة قلبن ومثل ذلك قلم ناشف وقلم رصاص وفنجال شاهي أو مرمن التي يعتادها الناس الثمينة.
والميزان أوساط الناس لا الذي يهتم للشيء البسيط جدًا ولا الذي لا يهتم للشيء الثمين.
فيملك ما لا تتبعه همة أوساط الناس بأخذه ويباح الإنتفاع به؛ لما روى جابر قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصى والسوط والحبل يلتقطه الرجل ينتفع به، رواه أبو داود وأحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق، فقال:«لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» أخرجاه.
ولا يلزم تعريفه؛ لأنه من المباحات والأفضل لواجده التصدق به ولا يلزمه بدل ما لا تتبعه همة إذا أتلف عند واجد.
قال في «الشرح» : إذا التقطه إنسان وانتفع به وتلف فلا ضمان إن وجد ربه الذي سقط منه؛ لأن لاقطه ملكه بأخذه وإن كان ما التقطه مما لا تتبعه الهمة موجودًا أو وجد ربه لزم الملتقط دفع الملتقط له.
وكالقول فيما تقدم في كون آخذه يملكه لو لقي كناس وهو المعروف الآن بالبلدي وبالذي يشيل الدمال وكنخال ومقلش قطعًا متفرقة من الفضة، فإنه يملكها بأخذها ولا يلزم تعريفها ولا بدلها إن وجد بدلها ولو كثرت؛ لأن تفرقها يدل على تغاير أربابها.
ومن ترك دابة لا عبدًا أو متاعًا بمهلكة أو تركها ترك إياس لانقطاعها بعجزها عن المشي أو عجز مالكها عن علفها بأن لم يجد ما يعلفها فتركها ملكها آخذها؛ لحديث الشعبي مرفوعًا: «من وجد دابة قد عجز أهلها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له» قال أبو عبد الله محمد بن حميد بن عبد الرحمن، فقلت: يعني الشعبي من حدثك بهذا، قال: غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود والدارقطني.
وما ألقي في البحر مما في سفينة خوف غرق يملكه آخذه لا إلقاء صاحبه
له اختيارًا فأشبه المنبوذ رغبة عنه، وقيل: إن ما ألقي في البحر خوفًا من الغرق لا يملكه آخذه، والذي تميل إليه النفس القول الأول، وهو أنه باق على ملك أهله ولآخذه الأجرة، وهذا هو الأحوط، والله سبحانه وتعالى أعلم.
القسم الثاني: الضوال جمع ضالة اسم للحيوان خاصة دون سائر اللقطة، ويقال لها: الهوامي والهوافي والهوامل وامتناعها إما لكبر جثتها كإبل وخيل وبقر وبغال وإما لسرعة عدوها كضباء وأما بطيرانها وأما بنابها كفهد معلم أو قابل للتعليم وإلا فليس بمال كما يعلم مما تقدم في البيع، وكفيل وزرافة ونعامة وقرد وهر وقن كبير.
فهذا قسم غير القن الآبق يحرم التقاطه لما ورد عن زيد بن خالد الجهني، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق، قال:«أعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه» ، وسأله عن الإبل، فقال:«ما لك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها» ، وسأله عن الشاة، فقال:«خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب» متفق عليه.
وعن منذر بن جرير قال: كنت مع أبي جرير بالبواريح في السواد فراحت البقر، فرأى بقرة أنكرها، فقال: ما هذه البقرة؟ قالوا: بقرة لحقت بالبقر فأمر بها فطردت حتى توارت، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يأوي الضالة إلا ضال» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
ولمالك في «الموطأ» عن ابن شهاب قال: كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب إبلاً مؤبلة تتناتج لا يمسكها أحد حتى إذا كان عثمان أمر بمعرفتها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، وروي عن عمر: من أخذ
ضالة فهو ضال أي مخطئ.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ضالة الإبل المكتومة بغرامتها ومثلها معها، وكان عمر رضي الله عنه يقول: من وجد بعيرًا وعرفه فلم يجد له مالكًا وضربه العلف والتعب في مؤنته فليذهب ويرسله حيث وجده ولأخذه، ولأن الأصل عدم جواز الالتقاط؛ لأنه مال غيره فكان الأصل عدم جواز أخذه كغير الضالة وإنما جاز الأخذ لحفظ المال على صاحبه، وإذا كان محفوظًا لم يجز أخذه، وأما الآبق فيجوز التقاطه صونًا عن الالتحاق بدار الحرب وإتداده وسعيه بالفساد.
وأما الحمر فألحقها بعضهم فيما يمتنع من صغار السباع واعترضه الموفق رحمه الله بأنها لا تمتنع وألحقها بالشاة، وما قاله يؤيده الواقع، فإن الحمار لا يمتنع كالشاة، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يملك ما حرم التقاطه بتعريف ولا يرجع بما أنفق لتعديه بالتقاطه؛ لعدم إذن المالك والشارع فيه أشبه الغاصب ولا فرق في ذلك بين زمن الأمن والفساد وبين الإمام وغيره.
ولإمام ونائبه أخذه ليحفظه لربه لا على أن لقطة؛ لأن له نظرًا في حفظ مال الغائب، وفي أخذه على وجه الحفظ مصلحة لمالكها بصيانتها ولا يلزم الإمام أو نائبه تعريف ما أخذه منها ليحفظه لربه؛ لأن عمر لم يكن يعرف الضوال، ولأن ربها يجيء إلى موضع الضوال، فإذا عرفها أقام البينة عليها وأخذها.
ولا يؤخذ من الإمام أو نائبه بوصف فلا يكتفي فيها بالصفة؛ لأن الضالة
كانت ظاهرة للناس حين كانت في يد مالكها فلا يختص بمعرفة صفاتها دون غيره فلم يكف ذلك، بل يؤخذ منه بينة؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليها لظهورها للناس ومعرفة خلطائه وجيرانه يملكه إياها.
وما يحصل عند الإمام من الضوال فإنه يشهد عليها ويجعل عليها وسمًا بأنها ضالة لاحتمال تغيره ثم إن كان له حمى تركها ترعى فيها إن رأى ذلك.
وإن رأى المصلحة في بيعها وحفظ ثمنها أو لم يكن له حمى باعها بعد أن يحلها ويحفظ صفاتها ويحفظ ثمنها لصاحبها، فإن ذلك أحفظ لها؛ لأن تركها يفضي إلى أن تأكل جميع ثمنها.
وإن أخذها غير الإمام أو نائبه ضمنها؛ لأنه لا ولاية له على صاحبها.
ويجوز التقاط صيود متوحشة بحيث لو تركت رجعت للصحراء بشرط عجز ربها عنها؛ لأن تركها إذن أضيع لها من سائر الأموال والمقصود حفظها لصاحبها في نفسها.
ومثله على ما ذكره في «المغني» وغيره: لو وجد الضالة في أرض مسبعة يغلب على الظن أن الأسد يفترسها إن تركت أو قريبًا من دار الحرب يخاف عليها من أهلها أو بمحل يستحل أهله أموال المسلمين كوادي التيم أو برية لا ماء فيها ولا مرعى فالأولى جواز أخذها للحفظ ولا ضمان.
ويسلمها إلى نائب الإمام ولا يملكها بالتعريف، قال الحارثي: وهو كما قال: قال في «الإنصاف» : قلت: لو قيل بوجوب أخذها والحالة هذه لكان له وجه، قاله في «شرح الإقناع» ، قال ناظم «المفردات»:
وإن تقف بهيمة بمهلكة
…
وربها يظنها في هلكة
فآخذ يملك لا بالرد
…
نقول فرق بينها والعبد
ولو كان القصد حفظها في نفسها لما جاز التقاط الأثمان، فإن الدينار دينار حيثما كان ولا يملكها بالتعريف؛ لأن الشرع لم يرد بذلك فيها.
ولا يملكها آخذها بتعريف لما تقدم من أن يحفظها لربها فهو كالوديع وأحجار طواحين وقدور ضخمة وأخشاب كبيرة وأقلام مياه كبيرة ومكائن وأصياخ وكسيارة ودباب وصناديق ضخمة ودواليب كبيرة وأبواب ونحو ذلك كإبل فلا يجوز إلتقاطها؛ لأنها لا تكاد تضيع عن صاحبها ولا تبرح من مكانها فهي أولى بعدم التعرض من الضوال بالجملة للتلف إما بسبع أو جوع أو عطش ونحوه بخلاف هذه.
وما حرم التقاطه ضمنه آخذه إن تلف أو نقص كغاصب ولو كان الإمام أو نائبه وآخذه على سبيل الحفظ؛ لأن التقاط ذلك غير مأذون فيه من الشارع.
وإن تبع شيء من الضوال المذكور دوابه فطرده فلا ضمان عليه أو دخل شيء منها داره فأخرجه فلا ضمان عليه حيث لم يأخذه ولم تثبت يده عليه وإن التقط كلبًا فلا ضمان فيه؛ لأنه ليس بمال.
ومن التقط ما لا يجوز إلتقاطه وكتمه عن ربه ثبت بينه أو إقرار فتلف فعليه قيمته مرتين؛ لحديث: «في الضالة المكتومة غرامتها ومثلها معها» قال أبو بكر في التنبيه: وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُراد سواء كان الملتقط إمامًا أو غيره.
ويزول ضمان ما حرم التقاطه ممن أخذه بدفعه للإمام أو نائبه؛ لأن للإمام نظرًا في ضوال الناس، فيقوم مقام المالك أو يرد المأخوذ من ذلك إلى مكانه الذي أخذه منه بأمر الإمام أو نائبه؛ لما روى الأثرم عن القضبي عن مالك، عن عمر أنه قال لرجل وجد بعيرًا: أرسله حيث وجدته؛ لأن أمره بردّه كأخذه منه.
وعلم مما تقدم أنه إن رده بغير إذن الإمام أو نائبه فتلف كان من ضمانه؛ لأنه أمانة حصلت في يده فلزمه حفظها فإذا ضيعها لزمه ضمانها كما لو ضيع الوديعة.
القسم الثالث: ما يجوز التقاطه، ويملك بتعريفه المعتبر شرعًا، وهو ما عدا القسمين مما تتبعه همة أوساط الناس وما لا تتبعه، من نقد ومتاع كثياب وكتب وفرش وأوان وآلات حرف ونحوها وغنم وفُصلان بضم الفاء وكسرها جمع فصيل ولد الناقة إذا فصل عن أمه وعجاجيل جمع عجل ولد البقر وجحاش جمع جحش وهو ولد الأتان، وهي الأنثى من الحمر، قال زيد الخيل:
أتاني أنهم مزقون عرضي
…
جحاش الكرملين لهم فديد
وأفلا جمع فلو بوز سحر وجرو وقدو وسمو وهو الجحش والمهر إذا فطما أو بلغ السنة والأوز والدجاج ونحوها، وقال الشيخ تقي الدين وغيره: لا يلتقط الطير والظباء ونحوها إذا أمكن صاحبها إدراكها، وأما إذا خيف عليها كما لو كانت بمهلكة أو في أرض مسبعة أو قريبًا من دار الحرب أو بموضع يستحل أهله أموال المسلمين أو ببرية لا ماء فيها ولا مرعى جاز أخذها.
ولا ضمان على آخذها؛ لأنه إنقاذ لها من الهلاك حتى لو قيل بوجوب أخذها، والحالة هذه لكان متوجهًا، وكالخشبة الصغيرة وقطعة الحديد والنحاس والرصاص والكتب وقدر صغير وصحن وإبريق ودلة ومدخنة وما جرى مجرى ذلك والمريض من كبار الإبل والبقر ونحوهما كالصغير سواء وجد بمصر أو بمهلكة لم ينبذه ربه رغبة منه، فإن نبذه كذلك ملكه آخذه وتقدم في إحياء الموات.
وقن صغير وعكة دهن أو عسل أو تنكة دهن أو عسل أو جالون فيه ذلك أو جرة فيها عسل أو دهن أو الغرارة من الحب أو الكيس من الحب أو السكر أو صندوق شاي أو قطمة هيل أو صندوق هيل أو نحوه فيحرم على من لا يأمن نفسه عليها أخذ هذه اللقطة ونحوها لما فيه من تضييعها على ربها كإتلافها وكما لو نوى تملكها في الحال أو نوى كتمانها.
وكذا عاجز عن تعريفها فليس له أخذها ولو بنية الأمانة؛ لأنه لا يحصل به المقصود من وصولها إلى ربها ويضمنها بأخذها من لا يأمن نفسه عليها إن تلفت فرط أو لم يفرط؛ لأنه أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه؛ لأنه غير مأذون فيه أشبه الغاصب ولا يملك اللقطة ولو عرفها؛ لأن السبب المحرم لا يفيد الملك بدليل السرقة.
فإن أخذها بنية الأمانة ثم طرأ له قصد الخيانة لم يضمن اللقطة إن تلفت بلا تفريط في الحول كما لو كان أودعها إياه وإن أمن نفسه على اللقطة وقوي على تعريفها فله أخذها وقيس عليه كل ما لا يمتنع بنفسه عن صغار السباع. قال في «التيسير نظم التحرير» :
أنواعها في تسعة هنا ترد
…
بقرية أو في فلاة متسع
حل التقاطه وليعرفه سنة
…
منه وإن لم يأته تملكه
فالحيوان مطلقًا إذا وجد
…
ومن صغار وحشه لم يمتنع
فإن أتى ذو الملك يومًا مكنه
…
لنفسه بصفة مملكه
(34)
الأفضل في حق من وجد لقطة وأقسام ما أبيح التقاطه ولم يملك وما يلزم الملتقط وصفة النداء على اللقطة ووقته ومكانه وحكم تأخير التعريف
والمسنون في حق آخذها وحكم لقطة الحرم
س 34: هل الأفضل أخذ اللقطة أم تركها؟ وما الحكم فيما إذا أخذها ثم ردها أو فرط فيها؟ وما الذي ينتفع به ولا يعرف؟ وبأي شيء يملك القن الصغير؟ وكم أقسام ما أبيح التقاطه ولم يملك به؟ وما الذي يلزم الملتقط نحوه؟ وهل يرجع بما أنفق عليه؟ ومن أين مؤنته؟ وما طريقة النداء على اللقطة؟ وما وقته؟ وأين مكانه؟ وإذا كانت ملتقطة في برية فما الحكم؟ وعلى من أجرة المنادي؟ وإذا أخر التعريف فما الحكم؟ وهل الخوف عذر في تأخير التعريف؟ وما حكم لقطة الحرم؟ وفيما إذا وجدت بدار حرب، أو ضاعت، أو كان الملتقط غنيًا، أو ضاعت من واجدها، وما الدليل على ذلك؟ واذكر الخلاف والترجيح.
ج: الأفضل لمن أمن نفسه على اللقطة وقوي على تعريفها تركها وعدم التعرض لها، قال أحمد: الأفضل ترك الالتقاط، وروي معناه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما: ولو وجدها بمضيعة، قاله في «المطلع» ؛ لأن في الإلتقاط تعريضًا بنفسه لأكل الحرام وتضييع الواجب من تعريفها وأداء الأمانة فيها فترك ذلك أولى وأسلم.
قال ناظم «المفردات» :
وعندنا الأفضل ترك اللقطة
…
وإن يخف عاد عليها شططه
وقال أبو حنيفة والشافعي: الإلتقاط أفضل؛ لأن من الواجب على المسلم حفظ مال أخيه، وقال مالك: كما قال أحمد الترك أفضل؛ لخبر: «ضالة المؤمن حرق النار» .
وقيل: واجب، وتأولوا الحديث على من أراد الانتفاع بها من أول الأمر قبل التعريف، والمراد ما عدا لقطة الحاج، فأجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها، بل تترك مكانها لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
والذي تميل إليه النفس قول أبي حنيفة والشافعي وهو أن الأفضل الإلتقاط لما ذكر، ولقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} والله سبحانه وتعالى أعلم.
والأفضل مع وجود ربها عكسه وهو أن يتجنبها ولا يأخذها مع وجود ربها، قال في «المبدع»: وعند أبي الخطاب إن وجدها بمضيعة وأمن نفسه عليها فالأفضل أخذها لما فيه من الحفظ المطلوب شرعًا كتخليصه من الغرق ولا يجب أخذه؛ لأنه أمانة كالوديعة وخرج وجوبه إذًا؛ لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، انتهى، والمذهب الأول والقول الثاني هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن أخذ اللقطة ثم ردها بلا إذن الإمام أو نائبه إلى موضعها حرم وضمنها، وكذا لو فرط فيها وتلفت حرم وضمنها؛ لأنها أمانة حصلت في يده فلزمه حفظها كسائر الأمانات وتركها والتفريط فيها تضييع لها، وقال مالك: لا ضمان على من أخذها ثم ردها إلى موضعها؛ لأنه روي عن عمر أنه قال لرجل وجد بعيرًا: «أرسله حيث وجدته» رواه الأثرم، ولما روي عن جرير بن عبد الله أنه رأى في بقرة بقرة قد لحقت بها فأمر بها فطردت حتى توارت، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، وحديث عمر في الضالة التي لا يحل أخذها، فإذا أخذها احتمل أن له ردها إلى مكانها ولا ضمان عليه لهذه الآثار، ولأنه ك ان واجبًا عليه تركها ابتداء فكان له ذلك بعد أخذه، وحديث جرير لا حجة فيه؛ لأنه لم يأخذ البقرة ولا أخذها غلامه، إنما لحقت بالبقر من غير فعله ولا اختياره ولذلك يلزمه ضمانًا
إذا فرط فيها؛ لأنها أمانة، والله أعلم.
وإن ردها بأمر الإمام أو نائبه بذلك فإنه لا يضمن بلا نزاع؛ لأن للإمام نظرًا في المال الذي لا يعلم مالكه، وكذا لو التقطها ودفعها للإمام أو نائبه ولو كان مما لا يجوز التقاطه، وينتفع بمباح من كلاب ولا تعرف.
ويملك قن صغير بتعريف كسائر الأموال والأثمان صححه في «الإنصاف» ، وجزم به في «الرعاية» و «الوجيز» ، قال الحارثي: وصغار الرقيق مطلقًا يجوز التقاطه ذكره القاضي واقتصر على ذلك.
وقيل: يجوز التقاط القن الصغير ذكرًا كان أو أنثى ولا يملك بالالتقاط، انتهى. والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فإن التقط صغيرًا وجهل رقه وحريته فهو حر لقيط، قال الموفق: لأن اللقيط محكوم على حريته؛ لأن الأصل على ما يأتي في اللقيط.
وما أبيح التقاطه ولم يملك به وهو القسم الثالث من أقسام اللقطة ثلاثة أقسام، الأول: الحيوان المأكول كالفصيل والشاة والدجاجة ونحوها فيلزم الملتقط نحو هذا فعل الأصح أما أكله بقيمته في الحال؛ لما في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم حين سُئل عن لقطة الشاة: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» فجعلها له في الحال؛ لأنه سوَّى بينه وبين الذئب، والذئب لا يتأنى بأكلها، ولأن في كل الحيوان في الحال إغناء عن الإنفاق عليه وحراسة لماليته على صاحبه إذا جاء.
قال ناظم «المفردات» :
والشاة في الحال ولو في المصر
…
تملك بالضمان إن لم يبر
وقال مالك وأبو عبيد وابن المنذر وأصحاب الشافعي: ليس له أكلها في المصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» ولا يكون
الذئب في المصر، ولأنه يمكنه بيعها بخلاف الصحراء، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومتى أراد أكله حفظ صفته فمتى جاء صاحبه فوصفه غرم له قيمته بكمالها، وإن شاء الملتقط لهذا القسم باع الحيوان وحفظ ثمنه؛ لأنه إذا جاز أكله فبيعه أولى وللملتقط أن يتولى ذلك بنفسه ولا يحتاج إلى إذن الإمام في أكله أو بيعه.
وإن شاء حفظ الحيوان وأنفق عليه من ماله؛ لما في ذلك من حفظه على مالكه، فإن تركه بلا إنفاق عليه فتلف ضمنه؛ لأنه مفرط.
وليس للملتقط أن يتملك الحيوان ولو بثمن المثل كولي اليتيم.
ويرجع الملتقط بما أنفق على الحيوان ما لم يتعد بأن التقطه لا ليعرفه أو بنية تملكه في الحال.
ويرجع إن نوى الرجوع بما أنفق على مالك الحيوان إن وجده كالوديعة قضى به عمر بن عبد العزيز.
فإن استوت الأمور الثلاثة بأن لم يترجح عنده الأحظ منها خير؛ لأنها كلها جائزة ولعدم ظهور الأحظ.
القسم الثاني: ما التقط مما يخشى فساده بتبقيته كالبطيخ والطماطم والعنب والموز والرمان والتفاح والبرتقال والمشمش وسائر الخضروات والفاكهة فيلزم الملتقط فعل الأحظ، أما أن يبيعه بقيمته ويحفظ ثمنه بلا إذن حاكم وإن شاء أكله بقيمته قياسًا على الشاة؛ لأن في كل منها حفظًا لماليته على مالكه ويحفظ صفاته في المسألتين.
ومتى جاء صاحبه فوصفه دفع له ثمنه أو قيمته.
وإن شاء جفف ما يجفف كعنب وتمر ونحوهما؛ لأن ذلك أمانة
في يده وفعل الأحظ في الأمانات متعين.
وإن احتاج في تجفيفه إلى مؤنة فمؤنته منه فيباع بعضه لتجفيفه؛ لأنه من مصلحته فإن أنفق من ماله رجع، وقيل: ليس له الرجوع.
والذي تميل إليه النفس أنه إن كان بإذن حاكم أو أنفق غير متطوع بالنفقة أن له الرجوع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال في «التيسير نظم التحرير» :
وثالث الأنواع ما منه فسد
…
نحو الطعام فليخير من وجد
في أكله بقيمة لربه
…
أو بيعه وحفظ اشترى به
وقال العمريطي:
وقسمت لأربعة أقسام
…
أولها يبقى على الدوام
من النقود والثياب والورق
…
ونحوها فالحكم فيه ما سبق
والثاني لا يبقى على الدوام
…
بحالة كالرطب من طعام
فإن يشا فالأكل مع غرم البدل
…
أو بيعها مع حفظ ما منه حصل
ثالثها يبقى ولكن مع تعب
…
كالتمر في تجفيفه وكالعنب
فبيعه رطبًا أو التجفيف
…
وبعد ذاك يلزم التعريف
رابعها ما احتاج ما لا يصرف
…
كالحيوان مطلقًا إذ يعلف
فأخذه يجوز بالتخيير
…
للشخص في ثلاثة الأمور
أكل وبيع ثم حفظ للثمن
…
والترك لكن أن يسامح بالمون
القسم الثالث: باقي المال وهو ما عدا القسمين المذكورين من المال كالأثمان والمتاع ونحوهما ويلزم الملتقط حفظ الجميع من حيوان وغيره؛ لأنه صار أمانة في يده في التقاطه ويلزم تعريفه سواء أراد الملتقط تملكه
أو حفظه لصاحبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به زيد بن خالد وأبي بن كعب
ولم يفرق، ولأن حفظها لصاحبها إنما يفيد بوصولها إليه، ما يتلف إذ التقط وإن وجد خمرًا أراقها.
وإن وجد دخانًا أحرقه وإن وجد تلفزيونًا أو سينما أتلفهما لتحريمها، وإن وجد مذياعًا أتلفه.
وإن وجد صورًا مجسدة أو غير مجسدة من صور ذوات الأرواح أحرقها أو مزقها، وكذا إن وجد كاميرا وهي الآلة التي يصور بها فيتلفها.
وإن وجد بكما أو اسطوانات أغاني أتلفها، وكذا إن وجد تسجيل أغاني محرمة.
وإن وجد مجلات خليعة أو كتب بدع أو كتبًا تحتوي على صور ذوات الأرواح أتلفها.
وإن وجد الورقة التي يلعب بها أتلفها؛ لأن كل هذه من المحرمات الملهيات القاتلات للأوقات.
وإن وجد الشيش المعدة لشرب الدخان أتلفها.
وإن التقط دف صنوج أو آلة تنجيم أو آلة سحر أتلفهما.
ولا غرم في جميع ما تقدم؛ لعدم إباحتها وإن التقط رؤوسًا صناعية أتلفها.
وإن التقط طفايات الدخان أتلفها وجميع الملاهي وآلات الفساد لتحريمها، ولأن في التعريف لها نشر للفساد وفي إيصالها لأصحابها إعانة لأهل المعاصي، والله تعالى يقول:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
وطريقة التعريف على اللقطة النداء عليها بنفسه أو نائبه؛ لأن إمساكها من غير تعريف تضييع لها عن صاحبها فلم يجز، ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز الإلتقاط؛ لأن بقاءها في مكانها إذًا أقرب إلى صاحبها إما بأن يطلبها في الموضع الذي ضاعت فيه فيجدها، وإما بأن يجدها من يعرفها
وأخذه لها يفوت الأمرين فيحرم فلما جاز الإلتقاط وجب التعريف كيلا يحصل الضرر ويعرفها فورًا لظاهر الأمر إذ مقتضاه الفور، ولأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها، فإذا عرفت إذًا كان أقرب إلى وصولها إليه وتعريفها يكون نهارًا؛ لأن النهار مجمع الناس وملتقاهم أول كل يوم قبل انشغالهم بمعاشهم أسبوعًا؛ لان الطلب فيه أكثر، ولأن توالي طلب صاحبها لها في كل يوم باعتبار غالب الناس أسبوعًا ثم مرة في كل أسبوع من شهر ثم مرة في كل شهر، وقيل: على العادة بالنداء، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب، قال في «الإنصاف»: وهو الصواب، ويكون على الفور. اهـ. وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومدة التعريف حول كامل من وقت التقاطه روي عن عمرو وعلي وابن عباس؛ لحديث زيد بن خالد، فإنه عليه الصلاة والسلام أمره بعام؛ لأن السنة لا تتأخر عنها القوافل ويمضي فيها الزمان الذي تقصد فيه البلاد من الحر والبرد والإعتدال فصلحت قدرًا كمدة أجل العنين.
وصفة التعريف بأن ينادي من ضاع منه شيء أو من ضاع منه نفقة ولا يصفها؛ لأنه لا يؤمن أن يدعيها بعض من سمع صفتها فتضيع على مالكها.
ويكون مكان النداء بمجامع الناس غير المساجد، فلا تعرف فيها، بل في السوق عند اجتماع الناس في الأسواق وحمام وباب مسجد وعند أبواب المعاهد والجوامع والمدارس والثانويات والمتوسطات ونحو ذلك وقت صلاة؛ لأن المقصود إشاعة ذكرها، ويحصل ذلك عند اجتماع الناس للصلاة.
وكره النداء عليها في المسجد.
وقيل: يحرم النداء عليها في المسجد؛ لما روى جابر، قال: سمع رسول الله
- صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا وجدت» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع رجلاً ينشد في المسجد ضالة، فليقل: لا أداها الله إليك، فإن المساجد لم تبن لهذا» .
وعن بريدة أن رجلاً نشد ضالة في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له» ، وقد ورد النهي عن رفع الصوت في المسجد، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويكثر تعريف اللقطة في موضع وجدت فيه؛ لأن مظنة طلبها ويكثر تعريفها في الوقت الذي يلي التقاطها؛ لأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها فالإكثار منه إذن أقرب إلى وصولها إليه. قال في «نهاية التدريب» :
ويلزم التعريف قدر عام
…
بالعرف لا في سائر الأيام
بموضع الوجدان والمجامع
…
كالطرق والأسواق والجوامع
وإن وجد لقطه في طريق غير مأتي فقيل لقطة، واختار الشيخ تقي الدين أنه كالركاز، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه أحوط، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن التقطها بصحراء عرفها بأقرب البلاد إلى الصحراء التي وجدت فيها اللقطة؛ لأنها مظنة طلبها، وإن كان لا يرجى وجود رب اللقطة لم يجب تعرفها نظرًا إلى أنه كان كالعبث، وقيل: يجب تعريفها، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأن أحوط والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن كانت دراهم أو دنانير ليست بصرة ولا نحوها، فقيل: يملكها بلا
تعريف، وقيل: أنه يجب النداء عليها، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه أحوط، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأجرة مناد على ملتقط؛ لأنه سبب في العمل فكانت الأجرة عليه كما لو اكترى شخصًا يقلع له مباحًا، ولأنه لو عرفها بنفسه لم يكن له عليه أجرة، فكذلك إذا استأجر عليه ولا يرجع بأجرة المنادي على رب اللقطة ولو قصد حفظها لمالكها؛ لأن التعريف واجب على الملتقط.
وقيل: ما لا يملك بالتعريف والذي يقصد حفظه لمالكه يرجع عليه بالأجرة.
وقيل: إن الأجرة من نفس اللقطة والقول الثاني هو الذي تميل إليه النفس والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن أخر التعريف عن الحول الأول أثم وسقط أو أخره بعض الحول الأول لغير عذر أثم الملتقط بتأخيره التعريف لوجوبه فورًا وسقط التعريف؛ لأن حكمة التعريف لا تحصل بعد الحول الأول، فإذا تركه في بعض الحول عرف بقيته فقط ولم يملكها بالتعريف بعد حول التعريف؛ لأن شرط الملك التعريف فيه ولم يوجد، ولأن الظاهر أن التعريف بعد الحول لا فائدة فيه؛ لأن ربها بعده يسلو عنها ويترك طلبها.
وقيل: لا يسقط التعريف بتأخيره؛ لأنه واجب فلا يسقط بالتأخير عن الوقت الذي هو الحول الأول كالعبادات وسائر الواجبات، ولأن التعريف بالحول الثاني يحصل به المقصود على نوع من القصور فيجب الإتيان به؛ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ، فعلى هذا إن أخر التعريف نصف الحول أتى بالتعريف في بقيته وكمله من الحول الثاني، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس
وهو الأحوط، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وليس خوف الملتقط من سلطان جائر أن يأخذها منه عذر في ترك تعريفها، فإن أخر التعريف لذلك الخوف لم يملكها إلا بعد التعريف فمتى وجد أمنًا عرفها حولاً وملكها فيؤخذ منها أن تأخير التعريف للعذر لا يؤثر.
وكذا إذا ترك تعريفها في الحول الأول لعذر كمرض أو حبس ثم زال عذر نحو مرض وحبس ونسيان فعرفها بعد، فإنه يملكها بتعريفها حولاً بعد زوال العذر؛ لأنه لم يؤخر التعريف عن وقت إمكانه فأشبه ما لو عرفها في الحول الأول.
ومن وجد لقطة وعرفها حولاً فلم تعرف فيه وهي مما يجوز التقاطه دخلت في ملكه؛ لقوله - عليه الصلاة السلام - في حديث زيد بن خالد: «فإن لم تعرف فاستنفقها» ، وفي لفظ:«وإلا فهي كسبيل مالك» ، وفي لفظ:«ثم كلها» ، وفي لفظ:«فانتفع بها» ، وفي لفظ:«فشأنك بها» وتدخل في ملك الملتقط حكمًا كالميراث ملكًا مراعًا يزول بمجيء صاحبها.
ولو كانت اللقطة عرضًا أو حيوانًا فتملك كالأثمان؛ لعموم الأحاديث التي في اللقطة جميعها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن اللقطة، فقال:«عرفها سنة» ثم قال في آخره: «فانتفع بها أو فشأنك بها» ، وقيل: لا يملك إلا الأثمان، قال ناظم «المفردات»:
ملتقط الأثمان مذ عرفها
…
حولاً فقهرًا ذا الغنى يملكها
والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما لقطة الحرم، فقيل: إنها كغيرها تملك بالتعريف حكمًا؛ لأنه أحد الحرمين فأشبه حرم المدينة، ولأنها أمانة فلم يختلف حكمها بالحل والحرم كالوديعة وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وابن المسيب، وهو
مذهب مالك وأبي حنيفة، وروي عن أحمد رواية أخرى أنه لا يجوز التقاط لقطة الحرم للتملك، وإنما يجوز حفظها لصاحبها، فإن التقطها عرفها أبدًا حتى يأتي صاحبها وهو قول عبد الرحمن بن مهدي، وأبي عبيد، وعن الشافعي كالمذهبين.
واحتج لهذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة: «لا تحل ساقطتها إلا لمنشد» متفق عليه، وقال أبو عبيد: المنشد المعرف، والناشد الطالب، وينشد: إصاخة الناشد للمنشد فيكون معناه لا تحل لقطة مكة إلا لمن يعرفها؛ لأنها خصصت بهذا من سائر البلدان، كما أنها باينت غيرها في تحريم صيدها وشجرها وتغليظًا لحرمتها، ولأن مكة لا يعود الخارج منها غالبًا إلا بعد حول أو أكثر إن عاد فلم ينتشر إنشادها في البلاد كلها، فلذلك وجب عليه مداومة تعريفها ولا فرق بين مكة وبين سائر الحرم لاستواء جميع ذلك في الحرمة.
وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج، رواه مسلم.
قال ابن وهب: يعني يتركها حتى يجدها ربها، رواه أبو داود أيضًا، وأجاب أهل القول الأول عن قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إلا لمنشد» بأنه يحتمل أن يريد إلا لمن عرفها عامًا، وتخصيصها بذلك لتأكدها لا لتخصيصها، كقوله صلى الله عليه وسلم:«ضالة المسلم حرق النار» .
والقول الذي تطمئن إليه النفس قول من قال: إن لقطة الحرم لا تملك، وهو اختيار الشيخ وغيره من المتأخرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال في «التيسير نظم التحرير» :
ورابع الأنواع لقطة الحرم
…
تعريفها على الدوام ملتزم
فليلتقط للحفظ أو ليترك
…
ولا يجوز الأخذ للتملك
وإن كان الملتقط وجد اللقطة بالجيش الذي هو معه فيبدأ بتعريفها في الجيش الذي هو فيه لاحتمال أن تكون لأحدهم، فإذا قفل أتم التعريف في دار الإسلام، فإذا لم تعرف ملكها كما يملكها في دار الإسلام، هذا إذا اشتبهت عليه وأما إذا ظن أنها من أموالهم فهي غنيمة له لا تحتاج إلى تعريف؛ لأن الظاهر أنها من أموالهم وأموالهم غنيمة.
قال في «الإنصاف» : قلت: وهذا هو الصواب، وكيف يعرف ذلك؟ وقيل: إن وجد لقطة بدار حرب وهو في الجيش عرفها سنة ابتدأ في الجيش وبقيتها في دار الإسلام ثم وضعها في المغنم، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن كانت من متاع المشركين فيجعلها في الغنيمة، وإن شك فيها عرفها حولاً وجعلها في الغنيمة؛ لأنه وصل إليها بإرادة الله بقوة الجيش.
وإن دخل إلى دار حرب متلصصًا عرفها ثم هي كغنيمة ويحتمل أن تكون غنيمة له من غير تعريف، كما قاله الموفق، قال في «الإنصاف»: عن الإحتمال، قلت: وهو الصواب، وكيف يعرف ذلك؟ انتهى.
وتدخل في ملك الغني كالفقير؛ لأنها كالميراث ولا فرق في ذلك بين الغني والفقر والمسلم والكافر والعدل والفاسق.
وإن ضاعت اللقطة من واجدها بلا تفريط فالتقطها آخر فعرفها الملتقط الثاني مع علمه بالملتقط الأول ولم يعلم الثاني الأول باللقطة أو أعلم الثاني الأول وعرفها الثاني وقصد بتعريفها تملكها لنفسه فتدخل في ملك الثاني حكمًا بانقضاء الحول الذي عرفها فيه كما لو أذن له الأول أن يتملكها لنفسه؛ لأن سبب الملك وجد منه، والأول لم يملكها ولم يوجد منه
تعريف لا بنفسه ولا بنائبه، والتعريف هو سبب الملك والحكم ينتفي لانتفاء سببه.
فإن لم يعلم الملتقط الثاني بالملتقط الأول حتى عرفها حولاً كاملاً ملكها الثاني لعدم تعديه إذًا وليس للأول إنتزاعها منه؛ لأن الملك مقدم على حق التملك، وإذا جاء رب اللقطة أخذها من الثاني ولا يطالب الأول؛ لأنه لم يفرط وإن علم الثاني بالأول ردها للأول، فإن أبى الأول أخذها فهي للثاني؛ لأن الأول ترك حقه فسقط.
وإن قال الأول للثاني عرف اللقطة ويكون ملكها لي فعرفها الثاني فهو نائبه في التعريف ويملكها الأول؛ لأنه وكله في التعريف فصح كما لو كانت بيد الأول، وإن قال: عرفها وتكون بيننا، ففعل صح، وكانت بينهما؛ لأنه أسقط حقه من نصفها ووكله في الباقي.
وإن رأى لقطة أو لقيطًا وسبقه آخر إلى أخذه أو أخذها فللآخذ، فإن أمر أحدهما صاحبه بالأخذ فأخذ ونواه لنفسه فهي له، وإلا فللآمر إن صحح التوكيل في الإلتقاط والفرق بين الإلتقاط والإصطياد أن الإلتقاط يشتمل على أمانة واكتساب بخلاف الإصطياد ونحوه، فإنه محض اكتساب.
وإن غصبها غاصب من الملتقط وعرفها أو لم يعرفها لم يملكها؛ لأنه متعد بأخذها ولم يوجد منه سبب تملكها، فإن الإلتقاط من جملة السبب ولم يوجد منه بخلاف ما لو التقطها إثنان، فإنه وجد منه الإلتقاط وإن التقطها إثنان فعرفاها حولاً كاملاً ملكاها جميعًا.
وهل تدخل اللقطة في ملك الملتقط بعد مضي حول التعريف قهرًا عليه إلا أن يختار أن تكون أمانة أو أنه يملكها بعد مضي الحول باختيار التملك، فإن لم يختر التملك لم يملك، وعلى هذا القول، فإن اختار أحدهما دون الآخر
ملك المختار نصفها دون الآخر
ومغصوب مال أن يضع فهو لقطة
…
ثلاثة أقسام يسير مزهد
كسوط وشسع والرغيف وتمرة
…
فيملك مجانًا بغير تنشد
فإن كان مما يرغب الناس عنه أن
…
تجد ربه فاردده عندي فقلد
ولم يقض بالرجعى لمالك سنبل الحصيد
…
وأثمار الجذاذ المبدد
ومحتمل ألا تعرف لقطة
…
إذا كان هذا الموجب القطع لليد
وعن أحمد قد جاء تعريف درهم
…
ودانق عين قيل عن ذكره حد
ومن يلتقط مالاً كثيرًا مفرقًا
…
يظن لقوم فاعتبر كل مفرد
وذات امتناع من صغار سباعها
…
بأنفسها من يلتقطها فمعتدي
بتعظيمها أو عدوها أو مطارها
…
أو الناب والشيء الثقيل كذا اعدد
وكالإبل الأبقار عند إمامنا
…
وأتن لضعف كالشياه بأجود
وإن خيف من مملوك صيد توحشا
…
يكن لقطة في الحكم للمتصيد
وزن قيمتي ممنوع تاو كتمته
…
ويبريك أن تدفعه للحاكم اليد
وما ردها فيء في الأقوى ولا ترد
…
لشهوة ذي بالوصف لكن بشهد
وآخذها غير الإمام لحفظها
…
ضمين سوى الخاشي عليها التوى قد
وغير الذي سقنا يجوز التقاطه
…
وتركه أولى على المتوطد
وقال أبو الخطاب إن كان واجدًا
…
بمضيعة فالأخذ أولى لمنشد
وإن لم يثق من نفسه بأمانة
…
ولا حسن تعريف كالغاصب أعدد
وقيل أن يعرفها هنا صار مالكًا
…
كأخذ الكلا من أرض شخص مصدد
ويضمن بالتفريط أهل التقاطها
…
ولو ردها في موضع الأخذ يعتدي
وواجدها إن ضاعت من الحرز مثل ذا
…
وإن يذره يلزم عطاها لمبتدي
وإلا ليملكها بتعريفها له
…
كذا إن يدر في الأردا وإن شركا طد
وما وجد الصياد أو من يبيعه
…
بحوت ولم يملك فللمتصيد
وإن يلق ذي في نحو شاة أو التقى
…
به أثر ملك فهو لقطة منشد
وفي ساحل البحران تجد نحو عنبر
…
بلا أثر ملك فهو ملك لوجد
ويملك صيدًا في شباك عدا بها
…
فلم يتعوق والشباك لينشد
وللناضب الآلات ما كان مثبتًا
…
بها وكذا ما كان ملكًا لذي يد
وفاقد نعل أو ثياب بمغسل
…
وجد دونها ما لم يشابه بمركد
فعنه تصدق به تعريفها بها
…
وقيل لذي المفقود حلل وجود
وقيل بل ادفعها لقاض يبيعها
…
ويقضيك لكن إن تزد لا تزيد
وإن يقترن منب بغلظة آخذ
…
تعرف وفيها بعد الأوجه أسند
وإن نازع السكان في الدار مالكًا
…
على الدفن فيها يعط واصفه قد
وكالشاة والفصلان والعجل جائز
…
الالتقاط في الأولى مع تخير وجد
على أكله في الحال أو بيعه أو احتياط
…
عليه إن أبى ربه أردد
وقولان في استرجاع إنفاق مشهد
…
نوى العود واللذ ما نوى العود فاصدد
وما كان كالبطيخ يخشى فساده
…
فكل ثم بع واضمنه إن تبق يفسد
وفي مذهب الجوزي عرفه دائمًا
…
إلى خشية الإتلاف فاختر كما ابتدي
وما كان من شيء بجف فكلما
…
لصاحبه كان الأحظ ليقصد
وقيمة مأكول عليك بأكله
…
وعز لكها لم تبر منها بل أنقد
فإن شئت تجفيفًا وأنفقت فارتجع
…
وإن بعت منه ثم أنفقت تحمد
وعنه يباع النزر من غير ذي بقا
…
وما كثر أرفعه لقاض مقلد
وغير الذي قدمت يلزم حفظه
…
وتعريف غير التافه المتبدد
عقيب التقاط الكل حولاً متابعًا
…
نهارًا بأرض الإلتقاط بمحشد
ويكثر من تعريفها وقت أخذها
…
وما بعد الأسبوع التوالي بموطد
وواجبه ما لا يعد بفعله الفتى
…
مهملاً في العرف دون تقيد
فإن أخر التعريف في الحول كله
…
وجب بعدو المنصوص إسقاطه أشهد
ووجهين في تأخير تعريف عاجز
…
عن الحول هل يعطى به بعد أسند
وقد قيل لا تعريف للشاة مطلقًا
…
لا طلاقة في الأخذ لما يقيد
وليس بمجد ملكها بعد ذلكم
…
وقولان في حفظ لها والتجود
وسيان ناوي حفظها وتملك
…
ولو نزرت في الحل والحرم أطد
وإن عرفت فالأجر خذ من معرف
…
ولم يعد في كل مال بأوطد
وقال أبو الخطاب أجرة ما نوى
…
به حفظه أو ليس يملك فأردد
ويذكر جنس في الندا دون وصفها
…
ويملك لا بالقصد بعد بأجود
ولا فرق بين العروض وغيرها
…
في الأولى لدى الإرشاد والشيخ قلد
وعن أحمد لا ملك في لقطة أتى
…
وعنه لى ملكًا له ذي تأيد
وعن أحمد الأثمان يملكها فقط
…
وكالشاة في الأولى وذا القول أكد
وقولان فيما ليس يملك هل له
…
التصدق مضمونًا عليه فأسند
وعن أحمد لا ملك في حرم إلا لملتقط
…
إن حاز دون تقيد
(35)
التصرف باللقطة وما يسنّ نحوها وإذا وجدها في مركوبة أو في سمكة
أو دعى ما بيد لص أو نحوه ونمائها وإذا وصفها إثنان
أو تلفت أو وجدها مبيعة إلخ
س 35: تكلم بوضوح عن حكم التصرف في اللقطة، ومتى يكون؟ وما الذي يسنّ نحوها؟ وما حكم الإشهاد على صفتها؟ وهل تدفع بلا وصف ولمن نماء اللقطة؟ ومتى تعتبر قيمتها؟ وإذا وصفها إثنان أو تلفت أو أدركها صاحبها مبيعة أو موهوبة أو احتاجت إلى مؤنة، أو قال رب اللقطة للملتقط بعد تلفها بيد الملتقط أخذتها لتذهب بها لا لتعرفها، وقال: بل لأعرفها أو استيقظ فوجد بثوبه أو كيسه مالاً أو وجد في حيوان نقدًا أو في سيارة أو في طيارة أو في قطار أو سمكة درة أو عنبرة بساحل أو ادّعى ما بيد لص أو ناهب أو قاطع طريق أنه له فما الحكم؟ وهل هنا فرق بين المعرفين للقطة؟ وما حكم التقاط القن والمدبر والمكاتب والمبعض؟ واذكر ما يتعلق بذلك من محترزات وأمثلة وتفاصيل وقيود وأدلة وتعليلات وخلاف وترجيح.
ج: يحرم تصرف الملتقط في اللقطة بعد تعريفها حولاً ولو بخلط بما لا تتميز منه حتى يعرف وعاءها وهو كيسها من جلد أو خرق أو باغة أو صوف أو وبر أو حديد أو قدر أو زق أو زجاج أو ورق ونحو ذلك وحتى يعرف وكاءها وهو ما يشد به الكيس والزق، هل هو من سير أو خيط أبريسم أو كتان أو قطن أو لون البوك أحمر أو أسود أو أخضر أو أصفر أو خياطته كذا أو حجمه كذا أو عدد ما فيه أو ألوان ما فيه وحتى يعرف قدرها بمعيارها الشرعي من كيل أو وزن أو عد أو ذرع ويعرف جنسها وصفتها التي تتميز بها.
وهي نوعها؛ لحديث زيد وفيه: «فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها
ووكاءها فأعطها إياه، وإلا فهي لك» رواه مسلم، وفي حديث أُبي بن كعب فيه:«عدلها ووعاءها ووكاءها وأخلطها بما لك، فإن جاء ربها فأدها إليه» لأن دفعها إلى ربها يجب بوصفها. وإذا تصرف بها قبل معرفة صفتها لم يبق سبيل إلى معرفة وصفها بإنعدامها بالتصرف، ولأنه حيث وجب دفعها إلى ربها بوصفها فلابد من معرفته؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وسن أن يعرف وكاءها ووعاءها وعفاصها وجنسها وقدرها وصفتها عند وجدانها؛ لأن فيه تحصيلاً للعلم بذلك، قال في «نهاية التدريب»:
والشخص إن يظفر بمال ضائع
…
بموضع كمسجد وشارع
فلقطة لواثق بنفسه
…
أولى وغير واثق بعكسه
وليعرف الملتقط الوعاء والجنس والمقدار والوكاء
وسن له أيضًا عند وجدانها إشهاد عدلين، قال أحمد: لا أحب أن يمسها حتى يشهد عليها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل» رواه أبو داود، ولم يأمر به زيد بن خالد وأبي بن كعب، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فتعين حمله على الندب وكالوديعة.
وفائدة الإشهاد حفظها من نفسه عن أن يطمع فيها ومن ورثته إن مات وغرمائه إن أفلس ولا يسن الإشهاد على صفتها لئلا ينتشر ذلك فيدعيها من لا يستحقها ويذكر صفتها كما قلنا في التعريف من الجنس والنوع ويستحب أن يكتب صفتها ليكون أثبت لها مخافة أن ينساها إن اقتصر على حفظها، فإن الإنسان عرضة للنسيان، كما قيل:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
…
ولا القلب إلا أنه يتقلب
صورته: ما إذا التقط رجل مالاً وخاف على نفسه الموت أقر فلان أنه في
الوقت الفلاني مر في المكان الفلاني فوجد بوكًا أو شنطة أو نحو ذلك ويصف اللقطة بجنسها ونوعها وقدرها ولونها ووعائها وعفاصها حتى يخرجها عن الجهالة وأنه عرف ذلك سنة كاملة آخرها كذا وكذا، ولم يحضر لها صاحب ولا طالب وجميع ذلك باق بعينه الآن ويشخصه للشهود فيشهدوا بتشخيصه ومعاينته إن أمكن، ثم يقول: وإني أخاف على نفسي فراغ الأجل المحتوم واشتغال الذمة والمطالبة بالآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فأشهد عليه بذلك ويؤرخ.
صورة أخرى لكيفية كتابتها: أقر فلان أنه في اليوم
…
من شهر كذا
…
أنه التقط في موضع كذا
…
كيسًا ضمنه كذا
…
وأنه عرفه لوقته وساعته ونادى عليه في موضعه، وفي الأسواق والشوارع والمساجد أيامًا متتالية وجُمعًا متتابعة وأشهرًا مترادفة من حين إلتقاطها إلى سنة كاملة فلم يحضر لها طالب وخشى على نفسه الموت أشهد عليه شهوده أنه وجدها فالتقطها وأنها تحت يده وفي حيازته، فإن حضر من يدعيها ووصفها وثبت ملكه لها أخذها وبرئ الملتقط المذكور عن عهدتها وخلت يده منها بتسليمه إياها لمالكها بالطريق الشرعي، وذلك بتاريخ ومتى وصف اللقطة طالبها وهو مدعي ضياعها بصفاتها ولو بعد الحول لزم دفع اللقطة له إن كانت عنده بنمائها المتصل؛ لأنه ملك مالكها ولا يمكن إنفصالها عنه، ولأن يتبع في العقود والفسوخ بلا يمين ولا بينة ظن صدقة أو لا؛ لقوله
عليه الصلاة والسلام: «فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه» ، وقوله:«فإن جاءك أحد يخبرك بعددها ووعاءها ووكاءها فادفعها إليه» ، ولأنه يتعذر إقامة البينة عليها غالبًا لسقوط حال الغفلة والسهو فلو لم يجب دفعها بالصفة لما جاز إلتقاطها، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم بينة مدعي اللقطة وصفها، فإن وصفها فقد أقام البينة.
وعند أبي حنيفة والشافعي أنه لا يلزم الدفع إلا ببينة، وفي «شرح المهذب»: وإن جاء من يدعيها ووصفها، فإن غلب على ظنه أنها له جاز له أن يدفع إليه ولا يلزم الدفع؛ لأن مال الغير فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ودفع اللقطة لمدعيها بلا وصف ولا بينة يحرم ولو ظن صدقة؛ لأنها أمانة فلم يجز دفعها إلا من لم يثبت أنه صاحبها كالوديعة ويضمن، وقال في «الشرح»: فإن دفعها فجاء آخر فوصفها أو أقام بها بينة لزم الدافع غرامتها له؛ لأنه فوّتها على مالكها بتفريطه وله الرجوع على مدعيها؛ لأنه أخذ مال غيره ولصاحبها تضمين آخذها فإذا ضمنه لم يرجع على أحد.
وإن لم يأت أحد يدعيها فللملتقط مطالبة آخذها بها؛ لأنه لا يأمن مجيء صاحبها فيغرمه، ولأنه أمانة في يده فملك الأخذ من غاصبها.
ومع رق ملتقط وإنكار سيده أنها لقطة فلابد من بينة تشهد بأنه التقطها ونحوه؛ لأن إقرار القن بالمال لا يصح؛ لأنه إقرار على سيده بخلاف إقراره بنحو طلاق.
والنماء المنفصل بعد حول تعريفها لواجدها؛ لأن ملك اللقطة بانفصال الحول فنماؤها إذن نماء ملكه فهو له؛ لقوله: «الخراج بالضمان» .
وأما النماء المنفصل في حول التعريف فيرد معها؛ لأنه تابع لها.
وإن تلفت اللقطة أو نقصت أو ضاعت قبله أي الحول ولم يفرط لم يضمنها؛ لأنها في يده أمانة فلم تضمن بغير تفريط كالوديعة.
وإن تلفت أو نقصت أو ضاعت بعد الحول، فإن الملتقط يضمنها مطلقًا سواء فرط فيها أو لم يفرط؛ لأنها دخلت في ملكه فكان تلفها من ماله.
وتعتبر قيمة اللقطة إذا تلفت وقد زادت أو نقصت يوم عرف ربها؛ لأنه وقت وجوب رد العين إليه لو كانت موجودة ويرد مثل مثلي وإن اختلفا في القيمة أو المثل، فالقول قول الملتقط مع يمينه إذا كانت اللقطة قد استهلكت في يد الملتقط؛ لأنه غارم وإن وصف اللقطة إثنان فأكثر معًا أو وصفها ثان بعد الأول، لكن قبل دفعها إلى الأول أقرع بينهما أو أقاما بينتين باللقطة أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر وتدفع لقارع بيمينه لاحتمال صدق صاحبه كما لو تداعيا عينًا بيد غيرهما ولتساويهما في البينة أو عدمها أشبه ما لو ادعيا وديعة، وقال: هي لأحدهما ولا أعرف عينه، وقيل: تقسم بينهما لتساويهما في الوصف، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه فيما أرى أقرب إلى العدل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن وصفها ثان بعد دفعها لمن وصفها أولاً فلا شيء لثان؛ لأن الأول استحقها بوصفه إياها مع عدم المنازع له حين أخذها وثبتت يده عليها ولم يوجد ما يقتضي انتزاعها منه فوجب إبقاؤها له كسائر ماله ولو أقام أحد بينة أنها له بعد أن أخذها الأول بالوصف أخذها الثاني من واصف؛ لأن البينة أقوى من الواصف فيرجع صاحبها بذلك، ولأنه يحتمل أن يكون الواصف رآها عند من أقام البينة فحفظ أوصافها فجاء وادعاها وهو مبطل.
ولو ادعى اللقطة كل واحد منهما فوصفها أحدهما دون الآخر حلف واصفها وأخذها، فإن تلفت اللقطة عند الواصف ضمنها؛ لأن يده عادية كالغاصب، ولا ضمان على دافعها لواصفها؛ لأنه دفعها بأمر الشرع كما لو دفعها بأمر الحاكم؛ لأن الدفع إذن واجب عليه.
ويغرمها الواصف لمن أقام البينة لعدوان يده.
وإن أعطى ملتقط واصفها بدلها لتلفها عنده لم يطالبه ذو البينة، وإنما
يرجع على الملتقط ثم يرجع الملتقط على الواصف بما أخذه لتبين عدم استحقاقه له إن لم يكن أقر للواصف بملكها وحينئذ يكون مدعيًا أن مقيم البينة ظلمه بتضمينه فلا يملك الرجوع على غير من ظلمه.
ولو أدرك اللقطة ربها بعد الحول والتعرف مبيعة أو أدركها موهوبة بيد من انتقلت إليه أو أدركها موقوفة فليس لربها إلا البدل؛ لأن تصرف الملتقط وقع صحيحًا؛ لكونها صارت في ملكه.
ويفسخ العقد إن أدركها ربها زمن خيار بأن بيعت بشرط الخيار سواء كان لبائع أوله وللمشتري وترد له لقدرته عليه وإن كان الخيار للمشتري وحده فليس لربها إلا البدل ما لم يختر المشتري الفسخ ولا يلزم كما لو أدركها بعد عودها إلى الملتقط بفسخ أو غيره فينتزعها؛ لأنه وجد عين ماله في يد ملتقط فكان له أخذه كالزوج إذا طلق قبل الدخول فوجد الصداق قد رجع إلى المرأة أو كما لو أدركها بعد رهنها، فإن ربها ينتزعها من يد المرتهن لقيام ملكه وإنتفاء إذنه.
ومؤنة رد اللقطة إلى مالكها إن احتاج إلى مؤنة على ربها ذكره في التعليق والانتصار لتبرع الملتقط بحفظها، ولو قال رب اللقطة بعد تلفها بيد الملتقط بحول تعريف بلا تفريط المشروع عليك ضمانها لكونك أخذتها لتذهب بها لا لتعرفها، وقال ملتقط: بل أخذتها لأعرفها، فالقول قول الملتقط بيمينه.
ووارث ملتقط فيما تقدم تفصيله كمورثه لقيامه مقامه، فإن مات ملتقط عرفها وارثه بقية الحول وملكها وبعد الحول انتقلت إليه إرثًا كسائر أموال الميت ومتى جاء صاحبها أو وارثه أخذها أو بدلها وإن عدمت قبل موته فربها غريم ببدلها في التركة.
ومن استيقظ من نوم أو صحى من بنج أو جنون أو زال الإغماء عنه فوجد بثوبه أو كيسه مالاً درهمًا أو جنيهًا أو ريالاً أو غيرها لا يدري من صره أو وضعه في كيسه أو جيبه فهو لهو بلا تعريف؛ لأن قرينة الحال تقتضي تمليكه له.
ولا يبرأ من أخذ من نائم أو مغمى عليه أو فيه بنج شيئًا إلا بتسليمه له بعد إفاقته؛ لأن الأخذ في حالة من الحالات المتقدمة موجب للضمان المأخوذ على آخذه لوجود التعدي؛ أنه إما سارق أو غاصب أو مازح فلا يبرأ من عهدته إلا برده على مالكه في حالة يصح قبضة له فيها.
ومن وجد في حيوان اشتراه كشاة ونحوها نقدًا كدراهم أو دنانير وجدها في بطن الشاة فلقطة أو وجد فيه درة أو عنبرة فهو لقطة لواجده يلزمه تعريفها كسائر الأموال الضائعة، قلت: وكذا لو اشترى سيارة أو نحوها من المركوبات الحديثة فوجد داخل خشة أو حديدة نقدًا أو نحوه.
ويبدأ في تعريف ببائع؛ لأنه يحتمل أن تكون الشاة ابتلعتها من ملكه كما لو وجد صيدًا مخضوبًا أو في أذنه قرطًا أو في عنقه خرز، فإنه لقطة؛ لأن ذلك الخضاب ونحوه يدل على ثبوت اليد عليه قبل ذلك.
وإن وجد إنسان درة غير مثقوبة في بطن سمكة ملكها باصطياده لها من البحر فالدرة لصياد، قال في «الفروع»: لأن الظاهر ابتلاعها من معدنها، قال في «المغني»: لأن الدر يكون في البحر بدليل قوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} .
وإن باع الصياد السمكة غير عالم بالدرة لم يزل ملكه عنها فترد إليه؛ لأنه لو علم ما في بطنها لم يبعه ولم يرض بزوال ملكه عنه وإن وجد الصياد في بطن السمكة ما لا يكون إلا لآدمي كدراهم أو دنانير أو وجد فيها درة أو غيرها مثقوبة أو متصلة بذهب أو فضة أو غيرهما فلقطة لا يملكها الصياد، بل
يعرفها وكطير صاده ولا اثر ملك به فهو للصياد.
وإن وجد إنسان عنبرة بساحل فحازها فهي له؛ لأن الظاهر أن البحر قذف بها فهي مباحة، ومن سيق إلى مباح فهو له.
وما روى سعيد، عن إسماعيل بن عياش، عن معاوية بن عمرو، قال: ألقى بحر عدن عنبرة مثل البعير فأخذها ناس بعدن فكتب إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب إلينا: أن خذوا منها الخمس، وادفعوا إلى آخذيها سائرها وإن باعوكموها فاشتروها فأردنا أن نزنها فلم نجد ميزانًا يخرجها فقطعناها ثنتين ووزناها فوجدناها ستمائة رطل فأخذنا خمسها ودفعنا سائرها ثم اشتريناها بخمسة آلاف دينار وبعثنا بها إلى عمر.
فلم يلبث إلا قليلاً حتى باعها بثلاثة وثلاثين ألفًا فهو اجتهاد من عمر، والمذهب أن جميعها لواجدها وتقدم في الزكاة وإن لم تكن العنبرة على الساحل فلقطة يعرفها ما لم تصد السمكة التي وجد بها الدرة من عين أو نهر لا يتصل بالبحر فكالشاة في أن ما وجد في بطنها من درة مثقوبة أو غير مثقوبة لقطة؛ لأن العين والنهر غير المتصل ليس معدًا للدر وإن كان متصلاً بالبحر وكانت الدرة غير مثقوبة أنها للصياد أو وجد بما التقط أثر ملك فهو لقطة للملتقط تجري فيه أحكامها.
قال الإمام أحمد: فيمن ألقى شبكة في البحر فوقعت فيها سمكة فجذبت الشبكة فمرت بها في البحر فصادها رجل، فإن السمكة للذي حازها والشبكة يعرفها ويدفعها إلى صاحبها فجعل الشبكة لقطة؛ لأنها مملوكة لآدمي والسمكة لمن صادها؛ لأنها كانت مباحة ولم يملكها صاحب الشبكة لكون شبكته لم تثبتها فبقيت على الإباحة، قاله في «المغني» .
ونقل عن أحمد في رجل انتهى إلى شرك فيه حمار وحش أو ظبية قد
شارف الموت فخلصه وذبحه هو لصاحب الأحبولة وما كان من الصيد في الأحبولة فهو لمن نصبها وإن كان بازيًا أو صقرًا أو عقابًا.
وسُئل عن بازي أو صقر أو كلب معلم أو فهد ذهب عن صاحبه فدعاه فلم يجبه ومر في الأرض حتى أتى لذلك أيام فأتى قرية فسقط على حائط فدعاه رجل، فأجابه، قال: يرده على صاحبه، قيل له: فإن دعاه فلم يجبه فنصب له شركًا فصاده به، قال: يرده على صاحبه.
فجعل هذا لصاحبه؛ لأنه قد ملكه فلم يزل ملكه عنه بذهابه عنه والسمكة في الشبكة لم يكن ملكها ولا حازها وكذلك جعل ما وقع في الحبولة من البازي والصقر والعقاب لصاحب الحبولة، ولم يجعله هاهنا لمن وقع في شركه؛ لأن هذا فيما علم أنه قد كان مملوكًا لإنسان فذهب وإنما يعلم هذا بالخبر أو بوجود ما يدل على الملك فيه مثل وجود السير في رجله وآثار التعلم مثل استجابته للذي يدعوه ونحو ذلك.
ومتى لم يوجد ما يدل على أنه مملوك فهو لمن اصطاده؛ لأن الأصل عدم الملك فيه وإباحته ومن ادّعى ما بيد لص أو ناهب أو قاطع طريق أنه له ووصفه فهو له.
قال في «الفروع» : ومن وصف مغصوبًا ومسروقًا ومنهوبًا ونحوه، فإنه يستحقه بالوصف ولا يكلف بينة تشهد به ذكره في «عيون المسائل» ، والقاضي وأصحابه على قياس قول الإمام إذا اختلف المؤجر والمستأجر في دفن الدار فمن وصفه فهو له لترجحه بالوصف.
قال في القاعدة الثامنة والتسعين (98): من ادّعى شيئًا ووصفه دفع إليه بالصفة إذا جهل ربه ولم تثبت عليه من جهة مالك وإلا فلا.
ولا فرق في وجوب تعريف اللقطة حولاً وملكها بعده بين ملتقط غني
وفقير وقن لم ينهه سيده ومسلم وكافر؛ لأن الالتقاط نوع اكتساب فاستووا فيه كالاحتشاش والاصطياد والاحتطاب، وأما من لا يأمن نفسه عليها فيحرم عليه أخذها وتقدم.
وإن وجد اللقطة صغير أو سفيه أو مجنون صح التقاطه؛ لأنه نوع تكسب كالاصطياد وقام وليه بتعريفها عن واجدها؛ لأنه ثبت لواجدها حق التملك فيها فكان على وليه القيام بها.
ولا تكون اللقطة للولي بل لواجدها بعد تعريف الولي؛ لأن سبب الملك تم بشرطه.
فإن تلفت اللقطة بيد أحدهم بغير تفريط فلا ضمان عليه، وإن فرط في حفظها ضمن ما تلف منها بتفريطه في ماله.
قال في «الفروع» : نص عليه في صبي كإتلافه جزم به في «المغني» و «الشرح» .
وكتم اللقطة عن ولي واجده بأن علم بها ولم يأخذها منه لكونه ليس أهلاً للحفظ حتى تلفت فعلى الولي ضمانها؛ لأنه هو المضيع لها؛ لأنه يلزمه حفظ ما يتعلق به حق موليه، قاله الأصحاب، ولو عرفها مميز بنفسه بدون إذن وليه فالأظهر الأجزاء، قاله الحارثي؛ لأنه يعقل التعريف فالمقصود حاصل.
فلو لم يعرفها الولي ولا الصغير حتى بلغ لم يملكها؛ لأنه قد مضى أجل التعريف فيما تقدم من السنين وإن عرفها فيما بعد ذلك؛ لأن التعريف بعده لا يفيد ظاهرًا لكون صاحبها ييأس منها ويترك طلبها.
قال الإمام في غلام أصاب عشرة دنانير فذهب بها إلى منزله فضاعت، فلما بلغ أراد ردها فلم يعرف صاحبها تصدق بها، فإن لم يجد وكان يجحف به تصدق قليلاً.
قال القاضي: معنى هذا أنها تلفت بتفريط الصبي وهو أنه لم يعلم وليه حتى يقوم بتعريفها.
وهذه المسألة تدل على أنه إذا ترك التعريف لعذر كان كتركه لغير عذر؛ لأن الصغير من أهل العذر، وقد تقدم ذلك في الضرب الثالث أن تأخير التعريف لعذر ليس مانعًا للتعريف بعد زوال العذر.
والقن يصح التقاطه؛ لعموم الأحاديث، ولأن الإلتقاط سبب يملك به الصغير، ويصح منه فصح من الرقيق وله تعريفها بلا إذن سيده كاحتطابه واحتشاشه واصطياده؛ لأنه فعل حسبي فلم يمكن رده.
وله إعلام سيده بها إن كان عدلاً وأمنه عليها ولسيده أخذها منه ليتولى تعريفها؛ لأنها من كسبه ولسيده إنتزاع كسبه من يده وإن كان القن قد عرفها بعد الحول عرفها السيد تمامه.
ولسيده تركها مع الرقيق الملتقط إن كان الرقيق عدلاً ليتولى تعريفها ويكون السيد مستعينًا به في حفظها كما يستعين به في حفظ ماله.
وإن كان العبد غير أمين كان السيد مفرطًا بإقرارها في يده فيضمنها إن تلفت كما لو أخذها من يده ثم ردها إليه؛ لأن العبد كيده.
وإن أعتق السيد عبده بعد التقاطه كان له إنتزاعه اللقطة من يده؛ لأنها من كسبه.
وإن لم يأمن الرقيق سيده على اللقطة لزمه سترها عنه؛ لأنه يلزمه حفظها وذلك وسيلة إليه ويسلمها إلى الحاكم ليعرفها ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان، فإن أعلم سيده بها فلم يأخذها منه أو أخذها فعرفها وأدى الأمانة فيها فتلفت في الحول الأول بغير تفريط فلا ضمان فيها؛ لأنها لم تتلف بتفريط من أحدهما.
ومتى تلفت اللقطة بإتلاف الرقيق الملتقط أو تفريطه في الحول أو بعده ولو بدفعها لسيده وهو لا يأمنه عليها، ففي رقبته ضمانها مطلقًا سواء تلفت في حول التعريف أو بعد نص عليه؛ لأنه أتلف مال غيره فكان ضمانه في رقبته كغير اللقطة.
وكذا مدبر ومعلق عتقه وأم ولد لكن إن فطرت أم الولد فداها سيدها بالأقل من قيمتها أو قيمة ما أتلفت كسائر إتلافاتها.
ومكاتب في التقاط كحر؛ لأن المكاتب يملك أكسابه وهذا منها ومتى عاد قنا فعجزه كانت كلقطة القن.
وما يلتقط مبعض فبينه وبين سيده على قدر ما فيه من الحرية والرق كسائر أكسابه.
وكذا في الحكم كل نادر من كسب كهبة وهدية ووصية وركاز ونحوها كنثار وقع في حجره، ولو أن بين المبعض وسيده مهايأة مناوبة على أن كسبه لنفسه مدة معلومة ولسيده مدة معلومة؛ لأن الكسب النادر لا يعلم وجوده ولا يظن فلا يدخل في المهايأة وإن كان الرقيق الملتقط بين شركاء فاللقطة بينهم بحسب حصصهم فيه.
من النظم فيما يتعلق باللقطة
ويلزم علم الوصف والظرف والوكا
…
لدى ملكها عونًا لعودة قصد
والإشهاد في حين التقاطك سنة
…
وعند التصرف واجب في المجود
ولا تذكرون عند الشهود صفاتها
…
بل الجنس مع نوع كتعريف منشد
ويلزم أن تعطي بمتصل النما
…
لواصفها من غير حلف وشهد
كذلك قبل الحول منفصل النما
…
وبعد في الأقوى حادث ملك وجد
وليس عليه قبل تملك غرمها
…
إذا لم يخن بل قبل ذا حكم مشهد
ويضمنها إن تتوى بعد تملك
…
وتقويمها من حين علم بقصد
ويأخذها من وصف من له بها
…
شهود بملك ثابت متأكد
ويأخذ منه الغرم بالهلك عنده
…
وليس له تضمين دافعها اشهد
وقيل بلى إن لم يسلم بحاكم
…
ومن واصف إن لم يصدقه فاردد
وعن ملك حي واجد إن تزل فلا
…
رجوع فإن عادت إليه لتردد
وتقسم بين إثنين إن وصفا معًا
…
وقيل ليحلف قارع وله جد
وإن نفدت عرضه عنها وربها
…
غريم بها إن كنت في قغر فدفد
وليس بدين قل يحضر ربها
…
ولكن إذا ما جاله الحق جدد
ويضمن معط دون وصف لمدع
…
ولا شهد للواصف المتجدد
وآخذها ألزم لرد ودافعًا
…
طلابًا بها مع فقد باغ ملدد
ومثل فقير ذو الغنى في التقاطها
…
وذو العهد في أحكامها مثل مهتدي
وقيل بأمر جد على المرء مشرفًا
…
وقيل انتزعها والأمين ليشهد
وذا الفسق مثل العدل واضمم لحفظها
…
تعريفها عدلاً إليه بأجود
وإن لم يوات حفظها منه أفردت
…
مع العدل في حفظ لها وتنشد
وإن يلتقط طفل وذو سفه إلى
…
وليهما التعريف وهي لوجد
ويضمن بالتفريط فيها إذا توت
…
كذاك الولي أن يبقها عند فوهد
وإن يلتقط عبد لعدل فإن يشا
…
يعرف بها المولى وإن شاء يجحد
وكتمانها المولى الخؤون محتم
…
وللسيد التخليص من عدل أعبد
فإن جهل المولى فعرف عبده
…
تكن ملك مولاه ويتمم ما ابتدي
فإن يتوها في حول تعريفها تكن
…
كعدوانه في نفسه عند أحمد
وإن يتوها من بعد حول تعلقت
…
بذمته من بعد عتق لينقد
إذا قيل بالتعريف يملكها الفتى
…
ولا ملك في الأولى ففي نفسه طد
كإتلافها في الحكم من بعد حوله
…
ويسقط تضمين الفتى خذ تسيد
وإن لم يعرفها فمولاه ملزم
…
بتعريفها حتمًا بغير تردد
وكالحر في حكم التقاط مكاتب
…
ومن بعضه حر له ولسيد
وقيل إذا هايا لمن في زمانه
…
أصيبت كذا في نادر الكسب وردد
وأخذكها أولى بها دون مبصر
…
متى ينوها للنفس لا للمرشد
وتعريفها للجمع فرض كفاية
…
تصير لهم طرا بتعريف مفرد
وإما تضع من واجد فالتقطتها
…
ولم تدر رب الملك للواجد أردد
ويأثم حاويها بنية كتمها
…
وليس له ملك وإن عرف أشهد
وإن يتداعى الدفن في الدار مؤجر
…
ومستأجر ذا الوصف في النص أرفد
ويملكها إن عرفت إن جهلا معًا
…
كذا إن تعلم اللاقي فعرفت في ردي
وإن وجدوا المبتاع أيضًا دفينة
…
على بعض موجود علامة من هدي
فللمشتري اجعل لقطة دون بائع
…
إذا لم يصفها أو يجيء بشهد
كذا الحكم في الحفار بالأجر والذي
…
إكتراه كلا الحكمين في نص أحمد
كذا الحكم في الموجود في بطن مشتري
…
من البر والبياع في قول أرفد
وما أخرج الصياد من سمك يرى
…
به أثر ملك لقطة لا تقيد
وفاقد أثر الملك من درة له
…
فإن باع لم يعلم فللدرة أردد
عليه كما لو باع دارًا له بها
…
من المال كنز فاقتبس وتنشد
وإن ند صيد بالشباك قصدته
…
ملكت وما معه التقاط لنشد
وترجع بالإنفاق قبل تملك
…
متى تنوه مع إذن قاض مقلد
وإما بلا إذن متى تنو رجعة
…
وتشهد على الإنفاق فارجع بأوكد
ومن يلق صيدًا أو عن البحر عنبرًا
…
بلا اثر يملك وإلا لينشد
(36)
تعريف اللقيط وبيان أركانه وحكم الالتقاط والإشهاد والنفقة عليه
وما يحكم به عليه إذا وجد وحضانته وما وجد معه أو قريبًا منه
وما يدور حول ذلك ممن مسائل وشروط وضوابط وتفاصيل
س 36: من هو اللقيط؟ وما الذي يبحث فيه هذا الباب؟ وما الأصل فيه؟ وما أركان اللقط الشرعي؟ وما حكم التقاط اللقيط والإشهاد عليه؟ ومن أين ينفق عليه؟ وإذا نفد ما ينفق عليه منه فمن أين ينفق عليه أو بان له من تلزمه نفقته فما الحكم؟ ومتى يحكم بإسلامه؟ ومتى يحكم بحريته؟ ومتى يحكم بكفره وإذا كثر المسلمون في دار الحرب فيما يحكم على لقيطها، وإذا وجد اللقيط في بلد إسلام كل أهله ذمة أو فيها مسلم أو وجد معه أو قريبًا فراش أو ثياب أو نحوها فما الحكم؟ ومن الأولى بحضانة اللقيط؟ وهل لواجده حفظ مال اللقيط؟ وما صفة الإنفاق عليه؟ وضح ذلك مع ذكر الدليل والتعليل والقيود والمحترزات والأمثلة والخلاف والترجيح.
ج: اللقيط: هو فعيل بمعنى مفعول كقتيل وجريح، وشرعًا: طفل لا يعرف نسبه ولا يعرف رقة طرح في شارع أو عند باب مسجد أو في المسجد أو نحوه أو ضل الطريق وهو صغير إلى التمييز، وقيل: إلى البلوغ وهو الذي تطمئن إليه النفس؛ لاحتياجه إلى الحفظ والقيام بتربيته وتعهد أحواله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا الباب يبين فيه حقيقته وما يفعل به وإسلامه وحريته.
والتقاط اللقيط فرض كفاية، والأصل فيه مع ما يأتي قوله تعالى:{وَافْعَلُوا الخَيْرَ} وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} ولأن آدمي محترم فوجب حفظه كالمضر إلى طعام غيره وإنجائه من غرق فإذا التقطه بعض من أهل الحضانة للقيط
سقط الإثم عن الباقين، فإن لم يلتقطه أحدًا ثم الجميع، ولو علم به واحد فقط تعين عليه ويحرم النبذ؛ لأنه تعريض بالمنبوذ للتلف ويسن الإشهاد على اللقيط كاللقطة ودفعًا لنفسه لئلا تراوده باسترقاقه.
وقيل: يجب الإشهاد عليه وإن كان اللاقط ظاهر العدالة خوفًا من أن يسترق وفارق الإشهاد عليه الإشهاد على اللقطة بأن الغرض من اللقطة المال والإشهاد في التصرف المالي مستحب ومن اللقيط حفظ حريته ونسبه فوجب الإشهاد كما في النكاح وبأن اللقطة يشيع أمرها بالتعريف ولا تعريف في اللقيط.
وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويجب الإشهاد على ما مع اللقيط تبعًا له، وقيل: يستحب والأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
صورة فيما إذا وجد رجل لقيطًا وأشهد عليه وعلى ما معه.
أشهد عليه فلان أنه في الوقت الفلاني صباحًا أو مساءً أو ليلاً اجتاز في المكان الفلاني فوجد بالشارع الفلاني أو في المسجد الفلاني أو قرب المسجد الفلاني ويعين المكان ويوضحه إيضاحًا جليًا يؤمن معه الإشتباه بغيره من الأمكنة فوجد فيه صبيًا أو طفلة ملقى على الأرض، ويذكر صفته التي وجده بها ويعينه للشهود وأنه لقيط لم يكن له فيه ملك ولا شبهة ملك ولا حق من الحقوق الموصلة لملكه ولا لملك بعضه وأنه مستمر في يده على الحكم المشروع أعلاه عرف الحق في ذلك فأقر به والصدق فاتبعه لوجوبه عليه شرعًا وأشهد عليه بذلك في تاريخ كذا وكذا.
وله ثلاثة أركان: اللقيط، وقد عرف، والإلتقاط والملتقط: وهو كل حر مكلف رشيد عدل، ولو ظاهر، وينفق عليه مما معه إن كان معه شيء؛
لأن نفقته واجبة في ماله وما وجد معه فهو ماله؛ لأن الطفل يملك وله يد صحيحة بدليل أنه يرث ويورث.
ويصح أن يشتري له وليه ويبيع من ماله وإلا يكن معه شيء فينفق عليه من بيت المال؛ لما روى سعيد عن سنين أبي جميلة، قال: وجدت ملقوطًا فأتيت به عمر، فقال عريفي: يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح، فقال عمر: أكذلك هو؟ قال: نعم، فقال: فأذهب هو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته ورضاعه.
فإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال لكونه لا مال فيه أو لكون البلد ليس فيها بيت مال ونحوه إقترض على بيت المال حاكم وظاهره ولو مع وجود متبرع؛ لأنه أمكن الإنفاق عليه بدون منة تلحقه في المستقبل أشبه الأخذ لها من بيت المال، قاله في «شرح المنتهى» فلو اقترض الحاكم ما أنفق عليه ثم بان اللقيط رقيقًا أو بان له من تلزمه نفقته كأب موسر أو وارث موسر رجع الحاكم على سيد الرقيق وأبى الحر الموسر؛ لأن النفقة حينئذ واجبة عليهم وإن لم يظهر له أحد تجب عليه نفقته، وفي الحاكم ما اقترضه من بيت المال؛ لأن نفقته حينئذٍ واجبة فيه.
وإن كان اللقيط مال تعذر الإنفاق منه لمانع أو ينتظر حصوله من وقف أو غيره فلمن أنفق عليه الرجوع أن يرجع؛ لأنه في هذه الحالة غني عن مال الغير، هذا معنى كلام الحارثي، وقال: وإذا أنفق الملتقط أو غيره نفقة المثل بإذن الحاكم ليرجع فله الرجوع، انتهى. والله أعلم.
وإذا أنفق بغير أمر الحاكم، فقال أحمد: يؤدي النفقة من بيت المال، فإن تعذر على الحاكم الإقتراض من بيت المال أو كان لا يمكن الأخذ منه لنحو منع مع وجود المال فعلى من علم حاله الإنفاق عليه مجانًا للأمر بالتعاون على البر والتقوى والإحسان، ولأنه إحياء معصوم وإنقاذ له من التلف، قال تعالى:
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} .
وكذا حكم كل فرض كفاية يلزم من علم به القيام مجانًا ولا يرجع المنفق بما أنفقه عليه عند تعذر أخذ من بيت المال أو الإقتراض عليه؛ لأنه فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين لحصول المقصود وإن ترك الكل أثموا أو لأنها وجبت للمواساة فهي كنفقة القريب وقري الضيف.
جزم به القاضي وجماعة منهم صاحب «المستوعب» و «التلخيص» ، واختاره صاحب «الموجز» و «التبصرة» ، وقالا له: أن ينفق عليه من الزكاة وقدمه في «الرعاية» ، قال الحارثي: وهو أصح؛ لأن الوجوب مجانًا واستحقاق العوض لا يجتمعان، انتهى.
ويحكم بإسلام الرقيق إن وجد بدار الإسلام، وفيه مسلم أو مسلمة يمكن كونه من أحدهما لظاهر الدار وتغليبًا للإسلام فإنه يعلو ولا يعلى عليه ويحكم بحريته؛ لأنها الأصل في الآدميين، فإن الله خلق آدم وذريته أحرارًا والرق لعارض والأصل عدمه.
فاللقيط حر في جميع أحكامه حتى في قذف وقود إلا أن يوجد اللقيط ببلد حرب ولا مسلم في يد الحرب أو فيه مسلم كتاجر وأسير فهو كافر رقيق؛ لأن الدار لهم.
وإذا لم يكن فيها مسلم كان أهلها منهم وإن كان فيها قليل من المسلمين كتاجر وأسير غلب فيها حكم الأكثر من أجل كون الدار لهم.
قال في «الرعاية» : وإن كان فيها مسلم ساكن فاللقيط مسلم.
وإلى ذلك أشار الحارثي، فقال: مثل الأصحاب في المسلم هنا بالتاجر والأسير واعتبر إقامته زمنًا حتى صرح في «التلخيص» : أنه لا يكفي مروره
مسافرًا وإن كثر المسلمون في دار الحرب فلقيطها مسلم حر تغليبًا للإسلام، وإن وجد اللقيط في بلد إسلام كل أهله ذمة، فقيل: إنه مسلم؛ لأن الدار للمسلمين، ولاحتمال كونه من مسلم يكتم إيمانه، قاله القاضي وابن عقيل.
وقال في «المنتهى» : وفي بلد كل أهله ذمة فكافر؛ لأنه لا مسلم بها محتمل كونه منه وتغليب الإسلام إنما يكون مع الإحتمال.
وقال في «الإقناع» : وإن وجد في دار الإسلام في بلد كل أهلها ذمة ووجد فيها لقيط حكم بكفره. اهـ.
وكذلك جزم الموفق والشارح وصاحب «المبدع» وغيرهم بأنه يحكم بكفره.
وما مشى عليه في «الإقناع» و «المنتهى» هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن كان ببلد إسلام كل أهله ذمة مسلم ولو واحدًا يمكن كون اللقيط من المسلم فاللقيط مسلم، قال بعض الأصحاب منهم الموفق والشارح قولاً واحدًا تغليبًا للإسلام ولظاهر الدار.
وإن لم يبلغ من لقيط قلنا بكفره تبعًا لدار الكفر وهو من وجد في بلد أهل حرب لا مسلم به أو به نحو تاجر وأسير حتى صارت دار الكفر دار إسلام فهو مسلم فيها حكمنا بإسلامه تبعًا للدار؛ لأنها صارت دار الإسلام.
وما وجد مع لقيط من فراش تحته كوطاء وبساط ووسادة وسرير وثياب وحلي أو غطاء عليه أو مال بجيه أو تحت فراشه أو وسادته أو وجد مدفونًا تحته دفنًا طريًا بأن تجدد حفره أو وجد مطروحًا قريبًا منه كثوب موضوع إلى جانبه أو وجد حيوان مشدودًا بثيابه فهو له.
وكذا ما طرح من فوقه أو ربطه به أو بثيابه أو سريره وما بيده من عنان دابة أو مربوطًا عليها أو مربوط به أو بثيابه، قاله الحارثي؛ لأن يده عليه فالظاهر أنه كالمكلف.
ويمتنع التقاطه بدون التقاط المال الموجود لما فيه من الحيلولة بين المال ومالكه.
وكذا خيمة ودار وجد فيها فهي له وجهل مالكها ولم يكن فيها غيره، فإن كان ثم بالغ في جميع ما تقدم فهو به أخص إضافة للحكم إلى أقوى السببين، فإن يد الملتقط ضعيفة بالنسبة إلى يد البالغ، وإن كان الثاني لقيطًا فهو بينهما نصفين لاستواء يدهما إلا أن توجد قرينة تقتضي إختصاص أحدهما بشيء دون شيء فيعمل بها وما وجد مدفونًا بعيدًا عنه أو مدفونًا تحته غير طري لم يكن له إعتماد على القرينة وما ليس محكومًا له به فلقطه.
والأولى بحضانة اللقيط واجده؛ لأنه وليه إن كان أمينًا عدلاً لما تقدم عن عمر رضي الله عنه؛ لأن عمر أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين قال له عريفه إنه رجل صالح ولو كان ظاهرًا لم تعلم عدالته باطنًا كولاية النكاح والشهادة فيه وأكثر الأحكام حرًا تام الحرية؛ لأن كلا من القن والمدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة منافعه مستحقة لسيده فلا يصرفها في غير نفعه إلا بإذنه.
وكذا المكاتب ليس له التبرع بماله ولا منافعه إلى بإذن سيده وكذا المبعض لا يتمكن من إستكمال الحضانة فإن أذن السيد لرقيقه أقر بيده؛ لأنه يصير كأن السيد التقطه واستعانت برقيقه في حضانته.
قال ابن عقيل: إن أذن له السيد لم يكن له الرجوع بعد ذلك وصار كما
لو التقطه مكلفًا؛ لأن غير المكلف لا يلي أمر نفسه فلا يلي أمر غيره رشيدًا؛ لأن السفيه لا ولاية له على نفسه فغيره أولى.
ويجوز لمن لا يقر بيده التقاط؛ لأن أخذه قربه لا يختص بواحد دون آخر وعدم إقراره بيده دوامًا لا يمنع أخذه ابتداء إلا الرقيق فليس له التقاطه إلا بإذن سيده إلا أن لا يعلم به سواء فعليه التقاطه لتخليصه من الهلاك كالغرق ويأتي.
ولواجدة المتصف بما تقدم حفظ مال اللقيط بلا حكم حاكم؛ لأنه وليه لقول عمر ولك ولاؤه، ولأنه ولي بحضانته لا من أجل قرابته منه أشبه الحاكم.
ولواجده المتصف بما تقدم الإنفاق على اللقيط مما وجد معه بلا إذن حاكم لولايته عليه وكما لو وصي، ولأنه من الأمر بالمعروف بخلاف من أودع مالاً وغاب وله ولد فلا ويسن لواجد اللقيط الإنفاق على اللقيط بإذن الحاكم إن وجد؛ لأنه أبعد عن التهمة وأقطع من المظنة وخروج من الخلاف وأحفظ لماله من أن يرجع عليه مما أنفق وينبغي لولي اللقيط أن ينفق عليه بالمعروف كولي اليتيم، فإذا بلغ واختلفا هو وواجده في قدر ما أنفق عليه أو اختلفا في التفريط في الإنفاق بأن قال اللقيط: أنفقت علي فوق المعروف، وأنكر واجده بأن قال: بل أنفقت عليك بالمعروف، فقول المنفق بيمينه؛ لأنه أمين والأصل براءته.
ولواجد اللقيط قبول هبة للقيط وله قبول وصية له وله قبول زكاة إن كان ممن نحل له وقبول نذر له كولي اليتيم، ولأن القبول محض مصلحة فكان له بلا إذن حاكم كحفظه وتربيته.
وقال «شرح الإقناع» : قلت: ولعل المراد يجب إن لم يضر باللقيط كما تقدم
في الحجر فيما إذا وهب لليتيم رحمة أنه يجب القبول إن لم تلزم نفقته وإنما عبروا باللام في مقالة من منع ذلك وجعله للحاكم.
(37)
أحكام تتعلق باللقيط والملتقط عند التنازع وعند عدمه
وبيان ميراثه وديته وجنايته والجناية عليه ومن يقر بيده
ومن لا يقر بيده ما حول ذلك من مسائل
س 37: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: التقاط القن، التقاط ذمي لذمي إذا التقط اللقيط كافر ومسلم، إذا التقطه من البادية، أو صبي، أو التقطه في الحضر من يريد النقلة، أو وجد بفضاء خال من السكان، أو التقطه موسر ومعسر، أو مقيم ومسافر، أو امرأة ورجل، أو ظاهر العدالة أو كريم مع ضدهما، إذا ادعى إثنان صفة الشركة في الإلتقاط، ديته، وميراثه لمن جنايته، إذا ادعى رق اللقيط، إذا ادعاه مالك أمة، إذا ادّعى اللقيط الكفر، إذا وجد في دار كفر أو في دار إسلام، إذا دني عليه؟ واذكر الدليل والتعليل والمحترزات والقيود والخلاف والترجيح.
ج: يجب الإلتقاط على قن لم يوجد غيره؛ لأنه تخليص للقيط من الهلكة وهو واجب في هذه الحال لانحصاره فيه ويصح التقاط ذمي لذمي ويقر بيده؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .
ومحل ذلك فيما إذا عرف بعلامة أو وجد في بلد أهله ذمة كما تقدم، وإن التقط اثنان لقيطًا كافرًا فهما سواء لاستوائهما في الالتقاط وللكافر على الكافر الولاية.
وقيل: المسلم أحق به؛ لأنه عند المسلم ينشأ عن الإسلام ويتعلم شرائع الدين فيفوز بالسعادة، ولأن الكفالة ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم، قال
الله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ، ولأنه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه.
وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويقرّ لقيط بيد من التقطه بالبادية مقيمًا في حلة -بكسر الحاء- وهي بيوت مجتمعة للاستيطان؛ لأنها كالقرية، فإن أهلها لا يرحلون عنها لطلب الماء والكلأ أو لم يكن في حلة لكنه يريد نقل اللقيط إلى الحضر؛ لأنه ينقله من أرض البؤس والشقاء إلى أرض الرفاهية والدين، فيقر بيده.
ولا يقر بيد ملتقطه إن كان بدويًا ينتقل في المواضع؛ لأنه إتعاب للطفل بنقله فيؤخذ من إلى من في قرية؛ لأنه أرفه له وأخف عليه.
وقيل: يقر بيده، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه أرجى لظهور نسبه وأصح لبدنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يقر بيده من وجده في الحضر فأراد نقله للبادية؛ لأن مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه وأرفه له وكونه وجده في الحضر، فالظاهر أنه ولد فيه فبقاؤه فيه أرجى لكشف نسبه وظهور أهله واعترافهم به، وقيل: يقر بيده.
والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس لما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يقر بيد واجده مع فسقه الظاهر أو رقه لانتفاء أهليته للحضانة والولاية على الأحرار إلا أن يأذن له سيده، فإن أذن له فهو نائبه.
ولا يقر بيده مدبر وأم ولد ومعلق عتقه بصفة ومكاتب وعضه حر لقيام الرق وتقدم أو مع كفر الواجد واللقيط مسلم لانتفاء ولاية الكافر على المؤمن ولا يؤمن فتنته في الدين.
ولا يقر بيد صبي ومجنون؛ لعدم أهليتهم للولاية.
وإن التقطه حضرًا من يريد نقله إلى بلد آخر لم يقر بيده أو التقطه في الحضر من يريد النقلة إلى بلد آخر أو إلى قرية أو التقطه من يريد النقلة من حلة إلى حلة لم يقر بيده؛ لأن بقاؤه في بلده أو قريته أو حلته أرجى لكشف نسبه وكالمتنقل به إلى البادية.
وقيل: إذا التقطه من يريد النقلة إلى بلد آخر يقر بيده؛ لأن البلد كالبلد، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومحل المنع ما لم يكن المحل الذي كان وجد به وبيئًا وخيمًا كغور بيسان بكسر الموحدة وبعدها مثناة تحتية ثم سين مهملة موضع بالشام استعمل عمر النعمان بن عدي بن نضلة عليه فبلغه عنه الشعر الذي قاله، وهو:
ومن مبلغ الحسناء أن خليلها
…
بميسان يسقى من زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية
…
ورقاصة تحدو على كل مبسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
…
ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه
…
تنادمونا بالجوسق المتهدم
فعزله، وقال: لا تعمل لي عملاً أبدًا، ونحو غور بيسان من الأراضي الوبيئة كالجحفة بالحجاز، فإن اللقيط يقر بيد المنتقل عنها إلى البلاد التي لا وباء فيها أو دونها في الوباء لتعين المصلحة في النقل قاله الحارثي.
وإن وجد اللقيط بفضاء خال من السكان نقله حيث شاء، قاله في «الترغيب» و «التلخيص» إذ لا وجه للترجيح.
ولا يقر اللقيط بيد مبذر وإن لم يكن فاسقًا، قاله في «التلخيص» فإن أراد السفر به لم يمنع للأمن عليه وإن كان الملتقط مستور الحال لم تعرف منه حقيقة عدالة ولا خيانة أقر اللقيط في يده؛ لأن حكمه حكم العدل في لقطة
المال والولاية في النكاح والشهادة فيه وفي أكثر الأحكام؛ لأن الأصل في المسلم العدالة، ولذلك قال عمر:«المسلمون عدول بعضهم على بعض» .
فإن أراد السفر بلقيطه لغير نقلة أقر بيده؛ لأنه يقر في يده في الحضر من غير مشرف يضم إليه فأشبه العدل، ولأن الظاهر الستر والصيانة.
وحيث قلنا لم يقر اللقيط فيما تقدم من المسائل، فإنما هو عدم إقراره عند وجود الأولى به من الملتقط، فإن لم يوجد أولى منه فإقراره بيده أولى كيف كان لرجحانه بالسبق إليه.
ويقدم موسر ومقيم من ملتقطين للقيط معًا على ضدهما فيقدم الموسر على المعسر؛ لأنه أحط للقيط وإن التقطه فقير وحده، فقيل: لا يقر بيد الفقير؛ لأنه لا يقدر على حضانته من حيث ضعف الإمكانيات اللازمة لحياة الطفل؛ لأن الغالب أن مسكن الفقير لا تتوفر فيه مسائل التهوية والأسباب الوقائية والنظافة وما إلى ذلك.
وقيل: يقر بيده؛ لأن الأمور تجري بقضاء الله وقدره بضمانه وكفالته وأن الله تعالى تكفل بحفظه إذا شاء، وأن الأسباب الضرورية للحياة ينشأ عليها أبناء الفقراء مألوفة عندهم ويشبون عليها وتبنى فيها أجسامهم كأقوى ما تبنى الأجسام وقد رؤي حسًا ومشاهدة ما يتمتع به أبناء الفقراء من مناعة ضد الأمراض مع الكفاف في العيش، وذلك من رعاية الله لخلقه.
وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويقدم المقيم على المسافر؛ لأنه أرفق به فإنه استوى الملتقطان بأن لم يتصف أحدهما بما يكون به أولى وتشاحا به أقرع بينهما؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ولأنه لا يمكن أن يكون
عندهما في حالة واحدة.
وإن تهايآه بأن جعل عند كل واحد يومًا أو أكثر أضر بالطفل؛ لأنه تختلف عليه الأغذية والأنس والألف ولا يمكن دفعه إلى أحدهما دون الآخر بالتحكم لتساويهما في سبب الاستحقاق ولا يمكن أن يسلم إلى غيرهما؛ لأنه قد ثبت لهما حق الالتقاط فلا يجوز إخراجه عنهما، فتعين الإقراع بينهما كالشريكين في تعيين السهام بالقسمة، وكما يقرع بين النساء في البداءة بالقسم ولا ترجح المرأة في الالتقاط كما ترجح في حضانة ولدها على أبيه؛ لأنها إنما رجحت هناك لشفقتها على ولدها وتوليها لحضانته بنفسها والأب يحضنه بأجنبية فكانت أمه أحظ له وأما هاهنا فهي أجنبية من اللقيط والرجل يحضنه بأجنبية فاستويا.
ولا يقدم ظاهر العدالة على مستورها ولا يقدم كريم على بخيل ولا يقدم بلدي على قروي لاستواء المذكورين في الأهلية.
وإن اختلف المتنازعان فادّعى كل واحد منهما أن الذي التقطه وحده، فاللقيط للذي له البينة به بلا نزاع سواء كان في يده أو في غيره عملاً بالبينة.
فإن أتى كل واحد ببينة نظر في تاريخ البينتين وقدم السابق بالتاريخ؛ لأن الذي بينته متأخرة إنما يريد أن يأخذ الحق ممن ثبت له، فإن اتفق التاريخ أو أطلقتا أو أرخت إحداهما وأهملت الأخرى تعارضتا وسقطتا فكدعوى المال فتقدم بينة تاريخ وإن لم يكن لهما بينة فصاحب اليد مقدم؛ لأن اليد تفيد الملك فأولى أن تفيد الإختصاص فيكون اللقيط له بيمينه لاحتمال صدق الآخر.
فإن كان اللقيط بيديهما ولا بينة استعملت القرعة لتساويهما وعدم المرجح؛ لأن القرعة تستعمل عند اشتباه المستحقين وعند تزاحمهم وليس
أحدهما أولى من الآخر، ولا طريق إلى اشتراكهما في كفالة اللقيط فمن خرجت له القرعة سلم له اللقيط بيمينه.
وإن لم تكن لمن عدمت بينتاهما أو تعارضتا يد على اللقيط فوصف أحدهما بعلامة مستورة مثل ذلك أن يقول بظهره أو بطنه أو كتفه أو فخذه شامة أو جرح أو أثره أو أثر نار أو نحو ذلك من العلامات المستورة فكشف فوجد كما ذكر قدم على من لم يصفه به؛ لأنه نوع من اللقطة فقدم بوصفها كلقطة المال، ولأنه يدل على سبق يده عليه.
وإن وصفاه جميعًا أقرع بينهما لانتفاء المرجح لأحدهما على الآخر، وإن لم يكن لهما بينة ولا لأحدهما ولم يصفاه ولا وصفه أحدهما ولا يد لهما ولا لأحدهما سلمه حاكم لمن يرى منهما أو من غيرهما؛ لأنه لا يد لهما ولا بينة فاستويا وغيرهما فيه كما لو لم يتنازعاه ولا تخيير للقيط إذ لا مستند له بخلاف اختيار الصغير أحد الأبوين؛ لأنه يستند إلى تجربة تقدمت قاله في «التلخيص» .
ومن أسقط حقه من مختلفين في لقيط سقط؛ لأن الحق لهما، فكان لكل منهما تركه الآخر كالشفيعين.
وإن ادّعى أحدهما أن الآخر أخذه منه قهرًا وسأل يمينه، ففي «الفروع»: يتوجه يمينه؛ لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على من ادّعى عليه» .
والشركة في الالتقاط أن يأخذ الملتقطان اللقيط معًا.
ووضع اليد عليه كالأخذ.
ولا اعتبار بالقيام المجرد عن الأخذ عند اللقيط؛ لأن الالتقاط حقيقة في الأخذ، وفي معناه وضع اليد فلا يوجد بدونهما.
وارث اللقيط إن مات لبيت المال ولا يرثه الملتقط؛ لأنه إذا لم يكن رحم ولا نكاح فالإرث بالولاء.
وديته إن قتل لبيت المال؛ لأنهما من ميراثه كسائر ماله إن لم يخلف وارثًا بفرض أو تعصيب فإن كانت له زوجة فلها الربع والباقي لبيت المال.
وهذا قول مالك والشافعي وأكثر أهل العلم، واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله أن ميراث اللقيط لملتقطه.
وهذا القول هو الذي تميل النفس إليه يؤيده ما روى أبو داود والترمذي من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: «المرأة تحوز ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه» والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن ماتت لقيطة لها زوج فله النصف والباقي لبيت المال، وإن كان له بنت أو بنت ابن أو ابن بنت أخذ جميع المال؛ لأن الرد والرحم مقدم على بيت المال.
ومحل ذلك ما لم يستلحقه ملتقطه بأن يدعي أنه منه، فإن استلحقه وأمكن كونه منه لحقه وجاز وارثه.
وإذا جنى اللقيط جناية تحملها العاقلة بأن جنى خطأ أو شبه عمد فدية خطئه ونحوها في بيت المال؛ لأن ميراثه له ونفقته عليه.
وإن جنى جناية لا تحملها العاقلة كالعمد المحض وإتلاف المال فحكمه فيها حكم غير اللقيط، فإن كانت توجب القصاص وهو بالغ عاقل اقتص منه مع المكافأة.
وإن كانت موجبة للمال وله مال استوفي ما وجب بالجناية من ماله وإلا كان في ذمته حتى يوسر كسائر الديون.
ويخبر الإمام في قتل عمد بين أخذ الدية وبين القصاص أيهما فعله
جاز إذا رآه أصلح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «السلطان ولي من لا ولي له» .
ومعنى التخيير تفويض النظر إليه في أصلح الأمرين، فإذا ظهر الأصلح لمن يكن مخيرًا، بل يتعين عليه فعل ذلك الأصلح ولا يجوز العدول عنه فليس التخيير هنا حقيقة وعلى هذا يقاس جميع ما ذكره الفقهاء من قولهم يخبر الإمام في كذا ويخير الولي أو الوصي في كذا ونحوه.
ومتى عفا على مال أو صالح عليه كان لبيت المال كجناية الخطأ الموجبة للمال.
وإن قطع طرف اللقيط وهو صغير أو مجنون حال كون القطع عمدًا انتظر بلوغه ورشده ليقتص أو يعفو؛ لأن مستحق الإستيفاء المجني عليه وهو حينئذ لا يصلح للاستيفاء فانتظرت أهليته وفارق القصاص في النفس؛ لأن القصاص ليس له بل لوارثه.
والإمام هو المتولي عليه فيحبس الجاني على طرف اللقيط إلى أوان البلوغ والرشد لئلا يهرب إلا أن يكون اللقيط فقيرًا عاقلاً كان أو مجنونًا فيلزم الإمام العفو على شيء من الملا يكون فيه حظ اللقيط ينفق عليه منه دفعًا لحاجة الإنفاق.
قال في «شرح المنتهى» : عن التسوية بين المجنون والعاقل أنه المذهب وصححه في «الإنصاف» ، ويأتي إن شاء الله تعالى في باب إستيفاء القصاص أن لولي المجنون العفو؛ لأنه لا أمد له ينتهي إليه بخلاف ولي العاقل وقطع به في «الشرح» و «المغني» هنا وهو ظاهر ما قطع به في «الهداية» و «المذهب» و «المستوعب» و «الخلاصة» وغيرهم هناك، وقيل للإمام: استيفاؤه قبل البلوغ.
وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه لم يظهر لي ما يدل أنه يلزم الأم العفو على مال يكون فيه حظ للقيط ينفق عليه منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعلم مما تقدم أن اللقيط لو كان مجنونًا غنيًا لم يكن للإمام العفو على مال بل ينتظر إفاقته وهو المذهب، قاله الحارثي وقطع به في «الشرح» .
وإن ادّعى جان على اللقيط رقه والجناية توجب القصاص أو المال أو ادّعى قاذفه رقه بعد بلوغه فكذبهما اللقيط، فالقول قوله؛ لأنه محكوم بحريته، فقبل قوله؛ لأنه موافق للظاهر بدليل أنه لو قذف إنسانًا وجب عليه حد الحر فللقيط طلب حد القذف وإستيفاء القصاص من الجاني وإن كان حرًا، وإن أوجبت الجناية مالاً طلب بما يجب في الحر وإن صدق اللقيط قاذفه أو الجاني عليه على كونه رقيقًا لم يجب عليه إلا ما يجب في قذف الرقيق أو جنايته عليه.
وإن ادّعى أجنبي رق اللقيط أو ادّعى إنسان أن مجهول نسب غير اللقيط مملوكه وهو بيد المدعي رقه صدق المدعي لدلالة اليد على الملك بيمنه لإمكان عدم الملك حيث كان دون التمييز أو مجنونًا ثم إذا بلغ، وقال: أنا حر، لم يقبل، قاله الحارثي، وإن لم يكن اللقيط أو مجهول النسب بيد المدعي فلا يصدق؛ لأن دعواه تخالف الأصل والظاهر.
ويثبت نسب اللقيط إذا دعاه مع بقاء رقه لسيده ولو مع بينة بنسبة، قال في «الترغيب» وغيره: إلا أن يكون مدعيه امرأة حرة فتثبت حريته فإن ادعى ملتقطه رقه أو ادعاه أجنبي وليس بيده لم يصدق؛ لأنها تخالف الظاهر بخلاف دعوى النسب؛ لأن دعواه يثبت بها حق اللقيط ودعوى الرق يثبت بها حق عليه فلم تقبل بمجردها كرق غير اللقيط.
وإلا يكن اللقيط بيد الأجنبي المدعي لرقه وحلف أن له بينة بيده كما لو قالا: نشهد أنه جاز في ملكه كان بيده حكم له باليد وحلف أن اللقيط ملكه حكم له به؛ لأن ثبوت اليد دليل الملك، فقبل قوله فيه أو شهدت له بينة بملك بأن قال أنه جار في ملكه أو أنه ملكه أو أنه مملوكه أو عبده ولو لم تذكر البينة سبب الملك حكم له به كما ل شهدا بملك دار أو ثوب أو شهدت له
بينة أن أمة المدعي ولدت اللقيط بملك المدعي أو شهدت أنه قنه ولم تذكر سبب الملك حكم له به؛ لأن الغالب أنها لا تلد في ملكه إلا ملكه.
فإن شهدت أنه ابن أمته أو أن أمته ولدته ولم تقل في ملكه لم يحكم له به؛ لأنه يجوز أن تكون ولدته قبل ملكه لها فلا يكون له مع كونه ابن أمته وكونها ولدته.
قال في «المغني» : وإن كانت له بينة لم يقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.
وإن شهدت الولادة قبل فيه امرأة واحدة أو رجل واحد؛ لأنه مما لا يطلع عليه الرجال في غالب الأحوال.
وإن ادّعى رق اللقيط ملتقط لم يقبل منه إلا ببينة تشهد بملكه له أو أن أمته ولدته في ملكه فيحكم له به كما لو لم يكن ملتقطه.
ولا تكفي يده ولا بينة تشهد له باليد؛ لأن الأصل الحرية ويده عن سبب لا يفيد الملك فوجودها كعدمها بخلاف المال، فإن الأصل فيه الملك وعدم قبول دعوى الملتقط بدون بينة إن أقامها بعد اعتراف الملتقط أنه لقيط لجنايته على نفسه بالإعتراف.
وإلا يعترف بأنه لقيط بأن ادعى رق اللقيط ابتداء من غير تقدم اعتراف منه وأقام بينة الرق قبل قول الملتقط وحكم له به كما لو صدرت دعوى ذلك من أجنبي إذ لا فرق بينهما وإن كان المدعى عليه من لقيط ومجهول نسبه بالغًا عاقلاً، وكذا مميزًا كما سيأتي في الدعاوي فأنكرا أنه رقيق، وقال: أنا حر، فالقول قوله: أنا حر؛ لأن الأصل معه.
وإن أقر برق لقيط بالغ بأن قال: أنا ملك زيد لم يقبل إقراره ولو لم يتقدم إقرار اللقيط تصرف منه بنحو بيع أو شراء أو لم يتقدم إقراره إصداق
ولا نكاح أو لم يتقدمه اعتراف بحريته قبل ذلك بأن أقر بالرق جوابًا لدعوى مدع أو أقر ابتداء ولو صدق مقر له بالرق؛ لأنه يبطل به حق الله تعالى في الحرية المحكوم بها فلم يصح إقراره كما لو أقر قبل ذلك بالحرية، ولأن الطفل المنبوذ لا يعلم رق نفسه؛ لأنه في تلك الحال ممن لا يعقل ولم يتجدد له بعد التقاطه فكان إقراره باطلاً.
فإن شهدت لمدعي رق اللقيط أو مجهول النسب بينة بدعواه حكم له ببينته ونقض تصرفه الواقع منه قبل أن يحكم به لمدع رقه؛ لأنه بان أنه قد تصرف بدون إذن سيده.
وإن أقر لقيط بالغ بكفر وقد نطق بإسلام أو أقر به لقيط بالغ مسلم محكوم بإسلامه من طريق الظاهر تبعًا للدار بأن كان وجد في دار الإسلام فيها مسلم يمكن كونه منه فهو مرتد حكمه حكم سائر المرتدين يستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل في الصورتين، أما في الأولى فبلا نزاع في مذهب أحمد؛ لأن إسلامه متيقن فلا يقبل إقراره بما ينافيه، وأما في الثانية فالصحيح من المذهب أنه لا يقبل منه ذلك؛ لأن لاإسلام وجد عريًا من المعارض وثبت حكمه واستقر فلم يجز إزالة حكمه بقوله كما لو قال ذلك ابن مسلم، وقوله لا دلالة فيه أصلاً؛ لأنه لا يعرف في الحال من كان أبوه ولا ما كان دينه، وإنما يقول ذلك من تلقاء نفسه.
فائدة: قال أحمد في أمة نصرانية ولدت من فجور ولدها مسلم؛ لأن أبويه يهّودانه وينصّرانه، وهذا ليس معه إلا أمه.
ومنبوذ أطفال لقيط محرر
…
له في بلاد السلم حكم موحد
وفي بلد الكفار منهم بأجود
…
وقبل إن خلت منا وإلا فمهتدي
وسيان ما لم يملك المسلمون والذي
…
ملكوه ثم حيزت بجحد
وينفق بيت المال إن كان معوزًا
…
عليه ويحوي إرثه مع تفرد
فإن يتعذر منه من جاد منفقًا
…
يثب ومتى ينو الرجوع ليسعد
على الطفل بعد الرشد مع إذن حاكم
…
وإلّا فخذ من بيت مال لمشهد
وإحراز هذا الطفل فرض كفاية
…
على عالم من ذمة وموحد
وإشهاده حين احتوى الطفل سنة
…
وليس وجوبًا في الأصح المؤطد
وإن كان معه النقد والعرض فوقه
…
وتحت ومشدود إليه له أعدد
ووجهان في مال يكون بقربه
…
وليس له ملك بمال مبعد
ولا في دفين تحته وبملكه
…
قضى ابن عقيل في دفن مجدد
وملتقط حر أمين أحق بالحضانة
…
والإنفاق من غير مبعد
على الطفل من بدو إلى حضر به
…
وليس له عكس بغير تردد
وقرره في حجر المقيم بحلة
…
ووجهان في ذي نقلة متشرد
ومن ينتقل من بلدة لإقامة
…
بأخرى كالأولى يبق معه بأجود
ولاحظ فيه للرفيق وفاسق
…
ولا كافر والطفل في حكم مهتدي
ووجهان في مستور حال موحد
…
وفي فاسق وجه حكاه ابن أحمد
وقدم مقيمًا موسرًا دون عكسه
…
وإن يستوِ أقرع وعند التردد
بأيهما في حوزة الطفل سابق
…
فذا شهد قدم وإلا فذو اليد
ووجهان في إخلافه ولواصف
…
يسلمه إن يخل كذا عن يد قد
فإن لم يصفه واحد فلحاكم
…
إلى من يشا تسليمه وليجهد
وإن كان في أيديهما وتنازعا
…
فبينهما أقرع ولا تتردد
وقدم في الأولى مسلمًا مع كفره
…
ولو كان ذو فقر لينجو من الردي
وميراثه مع عقله عند قتله
…
على خطأ في بيت مال ليورد
وإن كان عمدًا فالإمام وليه
…
بتخييره في العقل والقتل أشهد
وفي قطع عضو منه أرجئ لحكمه
…
إلى حلميه يقتص أو منه يفتدي
وإن كان مجنونًا فقيرًا فإن يشارك
…
إمام على مال عفا للتفقد
وذو النسب المجهول من يبغِ رقة
…
ببينة تنبي يملك مؤكد
بأن فتاة المدعي ولدته واشترط
…
قولها في ملكه في المجود
فمن كان طفلًا أو به جنة بلا
…
شهود فعبد المدعي إن كان ذا يد
وقاذفه أو من عليه جنى إذا ادعى
…
رقه أقبل جحده بالغًا قد
وقيل أقبلن من قاذف فانف حده
…
ولا حق بالتصديق بعد الترشد
وإن كان باقي الرق ملتقطًا فلا
…
تثبت له استرقاقًا إلا بشهد
وإن يعترف بالرق بعد جحوده
…
ومفهمه بعد البلوغ ليردد
ووجهان في تصديقه من مميز
…
وإن يبع أو يبتع وينكح ويطرد
الفتى عرسه إقراره أردد بأوكد
…
وفي ثالث فيما عليه أقبلن قد
وقول لقيط مسلم بعد حلمه
…
أنا كافر ذا ردة منه فاردد
وقيل أنفه مع جزية بشروطها
…
وإلا فألحقه بمأمنه قد
وإن كان بالإسلام قد فاه قبل ذا
…
يعيه فإن لم يسلم اقتله ترشد
(38)
بيان من يتبعه اللقيط ومن لا يتبعه ونفقة المشتبه نسبه وحكم ما إذا وطئت امرأة بشبهة وتعريف القائف ومتى يحتج إليه، وما حول ذلك
من مسائل وأدلة وخلاف وترجيح
س 38: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي ممثلاً لما لا يتضح بالتمثيل، ومن الذي يتبعه اللقيط والذي لا يتبعه: إذا ادعاه جمع، إذا ألحق بإثنين ووصي له أو وهب له، إذا ألحقته بأكثر من إثنين، إذا ادّعى نسبه رجل أو امرأة، إذا لم توجد قافه، إذا اختلف القائفان، إذا لم يوجد إلا قائف واحد، ما الذي يشترط في القائف؟ واذكر ما كان مشابهًا للقيط، نفقة المولود المشتبه نسبه إذا وطئت مزوجة بزنا وأتت بمولود أو وصى إثنان أمة لهما ولا قافة وإذا ولدت ذكر وولدت أخرى واختلفا، فما الحكم؟
ج: وإن أقر إنسان أن اللقيط ولده مسلم أو ذمي يمكن كونه منه حرًا كان أو رقيقًا رجلاً كان أو امرأة ولو كانت أمة حيًا كان اللقيط أو ميتًا ألحق به؛ لأنه استلحاق لمجهول النسب إدعاه من يمكن كونه منه من غير ضرر فيه ولا دافع عنه ولا ظاهر يرده فوجب اللحاق، ولأنه محض مصلحة للطفل لوجوب نفقته وكسوته واتصال نسبه فكما لو أقر له بمال.
ولا تجب نفقة على العبد إذا ألحقناه به؛ لأنه لا يملك ولا حضانة للعبد على من استلحقه لإشغاله بالسيد فيضيع فلا يتأهل للحضانة وإن أذن السيد جاز
لانتفاء مانع الشغل.
ولا تجب نفقة من استلحقه العبد على السيد؛ لأنه محكوم بحريته والسيد غير نسيب وتكون نفقته في بيت المال؛ لأنه للمصالح العامة.
ولا يلحق بزوج امرأة مقرة به بدون تصديق زوجها؛ لأن إقرارها لا ينفذ على غيرها فلا يلحقه بذلك نسب ولد لم يولد على فراشه ولم يقر به.
فإن أقامت المرأة بينة أنها ولدته على فراش زوجها لحق به وكذلك الرجل إذا ادعى نسبه لم يلحق بزوجته؛ لأن إقراره لا يسري عليها.
ولا يتبع اللقيط رقيقًا ادّعى نسبه في رقه؛ لأنه لا يلزم من تبعته النسب الرق بدون بينة.
ولا يتبع لقيط كافرًا استلحقه في كفر؛ لأنه محكوم بإسلامه فلا يتأثر بدعوى الكافر، ولأنه مخالف للظاهر وفيه إضرار باللقيط.
ولا حق للكافر في حضانته؛ لأنه ليس أهلاً لكفالة مسلم ولا تؤمن فتنته عن الإسلام.
ونفقته في بيت المال، وكذا الحكم لو وطئ إثنان مسلم وكافر امرأة كافرة بشبهة وادعاه كل منهما وألحقته القافة بالكافر، فإنه يلحقه في النسب ولا يتبعه في الدين لاحتمال كونه من المسلم.
ولا يسلم اللقيط إلى مستلحقه إلا أن يقيم مستلحقه بينة تشهد أنه ولد على فراشه فيلحقه دينًا لثبوت أنه ولد ذميين كما لو لم يكن بشرط استمرار أبويه على الحياة إلى بلوغه عاقلاً، فإن مات أحدهما أو أسلم قبل بلوغه حكم بإسلامه.
والمجنون كالطفل إذا أقر إنسان أنه ولده لحق به إذا أمكن أن يكون
منه وكان مجهول النسب؛ لأن قول المجنون غير معتبر فهو كالطفل.
وكل من ثبت لحاقه بالاستلحاق لو بلغ أو عقل وأنكر لم يلتفت إلى قوله لنفوذ الإقرار عليه في صغره أو جنونه لمستند صحيح أشبه الثابت بالبينة.
وإن ادّعى نسب اللقيط جمع إثنان فأكثر سمعت؛ لأن كل واحد لو انفرد صحت دعواه فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى ولا فرق بين المسلم والكافر والحر والعبد، فإن كان لأحدهم بينة قدم ذوو البينة بها؛ لأنها تظهر الحق وتبينه.
وإن كان في يد امرأة وادّعت نسبه وأقامت بينة به قدمت على امرأة ادعته بلا بينة؛ لأن البينة علامة واضحة على إظهار الحق.
وإن كان اللقيط المدعي نسبه في يد أحد المدعيين وأقاما بينتين قدمت بينة خارج كالمال، فإن تساووا في البينتين بأن أقام كل منهم بينة والطفل بأيديهم أو ليس بيد واحد منهم أو تساووا بعدم البينة بأن لم يكن لواحد منهم بينة بدعواه عرض اللقيط مع مدع موجود أو مع أقارب المدعي على القافة، القافة جمع قائف، وهو من يعرف الآثار ويعرف الإنسان بالشبه ولا يختص ذلك بقبيلة معينة، ومن تكررت منه المعرفة فهو قائف، قال القطامي:
كذبت عليك لا تزال تقوفني
…
كما قاف آثار الوسيقة قائف
وقيل: إن البيت للأسود بن يعفر، والقيافة بالكسر: تتبع الأثر وتقوفه تتبعه، وأنشد ثعلب:
محلي بأطواف عتاق يبينها
…
على الضزن أغبى الضأن لو يتقوف
وكان إياس بن معاوية قائفًا وكذا شريح: فإن ألحقته القافة بواحد لحقه وحده؛ لحديث عروة عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ذات يوم وهو مسرور تبرق أسارير وجهه، فقال:«أي عائشة، ألم تر أن مجززًا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة قد غطيا رأسيهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» ، وفي لفظ:«دخل قائف والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأعجبه وأخبر به عائشة» متفق عليهما، فلولا جواز الإعتماد على القافة لما سر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه، ولأن عمر قضى به بحضرة الصحابة فلم ينكره منكر فكان إجماعًا.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في ولد الملاعنة: «انظروها، فإن جاءت به حمش الساقين كأنه وحرة، فلا أراه إلا وقد كذب عليها، وإن جاءت به أكحل جعدًا جماليًا سائغ الأليتين خدلج الساقين فهو للذي رميت به» فأتت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» ، فحكم به النبي صلى الله عليه وسلم للذي أشبهه منهما.
وقوله: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» يدل على أنه لم يمنعه من العمل بالشبه إلا الأيمان، فإن انتفى المانع يجب العمل به لوجود مقتضيه.
وقوله حمش الساقين: دقيقهما والجعد لئيم الحسب ويطلق على الكريم، قال كثير في السخاء يمدح بعض الخلفاء:
إلى الأبيض الجعد بن عاتكة الذي
…
له فضل ملك في البرية غالب
وخدلج الساقين: ممتلئهما، قال الشاعر:
إن لها سائقًا خدلجًا
…
لم يدلج الليلة فيما أدلجا
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة حين رأى به شبهًا بينًا بعتبة بن أبي وقاص: «احتجبي منه يا سودة» ، فعمل بالشبه في حجب سودة عنه.
فإن قيل: فالحديثان حجة عليكم إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه فيهما، بل ألحق الولد بزمعة، وقال لعبد بن زمعة:«هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، ولم يعمل شبه ولد الملاعنة في إقامة الحد عليها لشبهه بالمقذوف.
قلنا إنما لم يعمل به في أمة ابن زمعة؛ لأن الفراش أقوى، وترك العمل بالبينة لمعارضة ما هو أقوى منها لا يوجب الإعراض عنها إذا خلت عن المعارض، ولذلك ترك إقامة الحد عليها من أجل إيمانها بدليل قوله:«لولا الأيمان لي ولها شأن» على أن ضعف الشبه في إقامة الحد لا يوجب ضعفه عن إلحاق النسب، فإن الحد في الزنا لا يثبت إلا بأقوى البينتين وأكثرها عددًا وأقوى الإقرار حتى يعتبر فيها تكراره أربع مرات ويدرأ بالشبهات.
والنسب يثبت بشهادة امرأة واحدة على الولادة ويثبت بمجرد الدعوى ويثبت مع ظهور انتفائه حتى لو أن امرأة أتت بولد وزوجها غائب عنها منذ عشرين سنة لحقه ولدها فكيف يحتج على نفيه بعد إقامة الحد، ولأنه حكم بظن غالب ورأي راجح ممن هو أهل الخبرة، فجاز كقول المقومين.
فإن قيل: فهاهنا إذا عملتم بالقيافة فقد نفيتم النسب عمن لم تلحقه القافة به، قلنا: إنما انتفى النسب هاهنا لعدم دليله؛ لأنه لم يوجد إلا مجرد الدعوى وقد عارضها مثلها فسقط حكمها، وكان الشبه مرجحًا لأحدهما، فانتفت دلالة الأخرى فلزم إنتفاء النسب لانتفاء دليله وتقديم اللعان عليه لا يمنع العمل به عند عدمه كاليد تقدم عليها البينة ويعمل بها.
وإن ألحته القافة بإثنين لحق نسبه بهما لما روى سعيد عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال: القائف قد اشتركا فيه جميعًا فجعله بينهما، وبإسناده عن الشعبي، قال: وعلي يقول هو ابنهما وهما أبواه يرثهما ويرثانه،
رواه الزبير بن بكار عن عمر، فيرث اللقيط الملحق بأبوين كلاً من الأبوين إرث ولد كامل، فإن لم يخلف غيره ورث جميع مالهما ويرثانه إرث أب واحد. وحيث كان إلحاقه القافة لقيطًا بإثنين معتبرًا فلو تزوج من ألحقت القافة الولد به بنت المحلق الآخر المفروض في مسألتنا، قيل في الشخص الذي تزوج قد تزوج هذا أخت ابنه لأبيه في النسب لا في الرضاع؛ لأنها أجنبية منه. قال في «شرح الغاية»: قال الخلوتي: إذا ألحقته القافة بإثنين وكان لكل من هذين الإثنين بنت وللقيط أم جاز لواحد أجنبي عنهما أن يجمع بين بنتي هذين الشخصين وأم اللقيط؛ لأن كلاً منهن أجنبي من الآخرين. ويعابا بها، فيقال: شخص تزوج بأم شخص وأختيه معًا وأقر النكاح مع إسلام الجميع، وفي ذلك قلت ملغزًا:
يا فقيهًا حوى الفضائل طرا
…
وتسامى على الأنام بعلمه
أفتنا شخص تزوج أختين
…
لشخص مع البناء بأمه
وأجازوا عقوده دون ريب
…
أو ملام في الشرع أرشد لفهمه
وإن وصى الملحق بإثنين قبلا له الوصية أو وهب له قبلا له الهبة؛ لأنهما بمنزلة أب واحد، وعلى قياس ذلك سائر التصرفات من نكاح أو غيره، قال الموضح: وهما وليان في غير ذلك كنكاح وغيره.
وإن خلف الملحق بإثنين أحدهما فللمخلف منهما إرث أب كامل ونسبه مع ذلك ثابت من الميت لا يزيله شيء كما أن الجدة إذا انفردت أخذت ما تأخذه الجداب والزوجة وحدها تأخذ ما تأخذه الزوجات ولأمي أبويه إذا مات وخلفهما مع أم أمه وعاصب نصف سدس؛ لأنهما بمنزلة
جدة الأب ولأم أمه نصف السدس كما لو كانت مع أم أب واحد، وكذا لو ألحقته القافة بأكثر من إثنين فيلحق بهم وإن كثروا؛ لأن المعنى الذي لأجله ألحق باثنين موجود فيما زاد عليه فقياس عليه وإذا جاز أن يخف من إثنين جاز أن يخلف من أكثر.
ولو توقفت القافة في إلحاقه بأحد من ادّعاه أو نفته عن الآخر لم يلحق بالذي توقفت به؛ لأنه دليل له.
وإن ادّعى نسبه رجل وامرأة ألحق بهما؛ لأنه لا تنافي بينهما لإمكان كونه منهما بنكاح أو وطيء بشبهة فيكون إبنهما بمجرد دعواهما كالإنفراد، فإن قال الرجل: هو ابني من زوجتي وادّعت زوجته أنه ابنها منه وادّعت امرأة أنه ابنها فهو ابنه وترجح زوجته على الأخرى؛ لأنه زوجها أبوه فالظاهر أنها أمه.
وإن ادعت امرأة نسبه، فقيل: يقبل لأنها أحد الأبوين فقبل إقرارها بالنسب كالأب.
وقيل: لا يقبل؛ لأنه يمكن إقامة البينة على ولادته من طريق المشاهدة، فلا يحكم فيها بالدعوى بخلاف الأب، فإنه لا يمكن إقامة البينة على ولادته من طريق المشاهدة، فقبلت فيه دعواه.
ولهذا إذا قال لامرأة إن دخلت الدار: فأنت طالق لم يقبل قولها في دخول الدار إلا بينة، ولو قال لها: إن حضت فأنت طالق قبل قولها في الحيض من غير بينة فكذلك هنا.
والثالث: إن كانت فراشًا لرجل لم يقبل قولها؛ لأن إقرارها يتضمن إلحاق النسب بالرجل وإن لم تكن فراشًا قبل؛ لأنه لا يتضمن إلحاق النسب بغيرها.
وإن لم توجد قافة وادعاه إثنان فأكثر ضاع نسبه، فإن وجدت ولو بعيدة
ذهبوا إليها وإن نفته القافة عمن ادعياه أو ادعوه أو أشكل أمره على القافة فلم يظهر لهم فيه شيء ضاع نسبه؛ لأنه لا دليل لأحدهم أشبه من لم يدع نسبه أو اختلف فيه قائفان فألحقه أحدهما بواحد والآخر بآخر أو اختلف قائفان اثنان وثلاثة من القافة فأكثر بأن قال اثنان منهم هو ابن زيد، وقال الباقون هو ابن عمر ضاع نسبه لتعارض الدليل ولا مرجح لبعض من يدعيه أشبه تعارض البينتين.
ولا يرجع أحدهم بذكر علامة في جسده؛ لأنه قد يطلع عليها الغير فلا يحصل الثقة بذكرها.
ويؤخذ بقول قائفين اثنين خالفهما قائف ثالث لكمال النصاب إن اعتبر التعدد وإلا فتعارض القائفين يقتضي تساقطهما، والثالث خلا عن معارض فيعمل به كبيطارين خالفهما بيطار في عيب وكطبيبين خالفهما طبيب في عيب قاله في «المنتخب» .
ويثبت النسب ولو رجعا بعد التقويم بأن قوماه بعشرة ثم رجع إلى إثني عشر أو ثمانية لم يقبل، قاله الحارثي، وينبغي حمله على ما بعد الحكم.
ولو رجع عن دعواه النسب من ألحقته قافة به لم يقبل منه الرجوع؛ لأنه حق عليه ومع عدم إلحاق القافة به فرجع أحدهما عن دعواه ألحق بالآخر لزوال المعارض ولا يضيع سبه.
ويكفي قائف واحد في إلحاق النسب لما روي عن عمر أن استقاف المصطلقى وحده، وكذلك ابن عباس استقاف ابن كلدة واستلحق به، ولأنه حكم فقبل فيه الواحد كالحاكم وهو كحاكم فيكفي مجرد خبرة؛ لأنه ينفذ ما يقوله بخلاف الشاهد.
فإن ألحقه بواحد ثم ألحقه قائف آخر بآخر كان لاحقًا بالأول فقط؛ لأن
إلحاقه جرى مجرى حكم الحاكم فلا ينقض بمخالفة غيره له وكذا لو ألحقه بواحد ثم عاد فألحقه بغيره.
وإن أقام آخر بينة أنه ولده حكم له به وسقط قول القائف؛ لأنه بدل فيسقط بوجود الأصل كالتيمم مع وجود الماء.
ويشترط كونه القائف ذكرًا؛ لأن القيافة حكم مستند النظر والإستدلال فاعتبر فيه الذكورة كالقضاء.
ثانيًا: أن يكون عدلاً؛ لأن الفاسق لا يقبل قوله.
ثالثًا: أن يكون مسلمًا مجربًا بالإصابة؛ لأنه أمر علمي فلابد من العلم بعلمه له وذلك لا يعرف بغير التجربة فيه.
قال في «المغني» : وقد روينا أن رجلاً شريفًا شك في ولد له من جاريته وأبى أن يستلحقه فمر به إياس بن معاوية في المكتب وهو لا يعرفه، فقال: ادع لي أباك، فقال المعلم: ومن أبو هذا؟ قال: فلان، قال: من أين علمت أنه أبوه؟ قال: هو أشبه من الغراب بالغراب، فقام المعلم مسرورًا إلى أبيه فأعلمه بقول إياس فخرج الرجل، وسأل إياسًا: من أين علمت أن هذا ولدي، فقال: سبحان الله، وهل يخفى ذلك على أحد؟ لأنه لأشبه منك من الغراب بالغراب فسر الرجل واستلحق ولده.
وإن وطئ إثنان امرأة بشبهة في طهر ولا زوج لها أو وطئا أمتهما في طهر واحد أو وطئ أجنبي بشبهة زوجة لآخر أو سرية لآخر هي فراش لذلك الآخر وهو أن يجدها الواطئ على فراشه فيظنها زوجته أو أمته أو يدعو زوجته أو أمته في ظلمة فتجيبه زوجة آخر أو أمة الآخر أو يتزوجها كل واحد منهما تزويجًا فاسدًا أو يكون نكاح أحدهما صحيحًا والآخر فاسدًا مثل أن يطلق رجل امرأته فينكحها آخر في عدتها ويطؤها أو يبيع
جاريته ويطؤها المشتري قبل استبرائها، فإذا وقع شيء من ذلك المذكور وأتت بولد يمكن كونه من الواطئين، فإنه يرى القافة معهما.
قال في «المحرر» : سواء ادعياه أو جحداه أو أحدهما وقد ثبت الإفتراش ولم يدع زوج أنه من واطأ ونفقة المولد المشتبه نسبه على الواطئ لاستوائهما في إمكان لحوق بهما فإذا ألحق بأحدهما رجع من لم يلحق به على الآخر بنفقته لتبين أنه محل الوجوب.
ويقبل قول القائف في غير بنوه كأخوة وعمومة وخؤولة؛ لحديث عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه الولد أعمامه» ذكره الحارثي، ولا يختص بالعصبات كما تقدم؛ لأن المقصود معرفة شبه المدعي للميت بشبه مناسبيه وهو موجود فيما هو أعم من العصبات.
وإن وطئت مزوجة أو أمة بزنا وهي فراش لزوج أو سيد وأتت بولد بعد ستة أشهر من الواطئ فالولد الذي أتت به الزوجة لزوج والذي أتت به الأمة لسيد لقوة جانب كل منها بكونها فراشًا له وأنه إذا وطئ إثنان أمة لهما وأتت بولد وأشكل أمره في أمتهما المشتركة بينهما ولم يدعه أحدهما ولا قافة موجودة يعرض عليها أو وجد قافة وأشكل الأمر عليها يلحق الولد الواطئين معًا إذ لو انفرد كل منهما بالملك للحقه؛ لأنه صاحب فراش فكذلك هنا إذ لا فرق وتعتق بموتهما؛ لأنها أم ولدهما وبموت أحدهما يعتق منها قدر نصيبه.
وليس لزوج وطئت زوجته بشبهة وأتت بولد وألحق به الولد بإلحاق القافة به وهو يجحده اللعان لنفيه؛ لأن شرط صحة اللعان أن يكون معه قذف؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وهذا ليس بقاذف فلا يصح اللعان؛ لعدم شرطه.
ولو ولدت امرأة ذكرًا وولدت امرأة أخرى أنثى، واختلفا بأن أدّعت كل واحدة منهما أن الذكر ولدها دون الأنثى عرض الولد أن مع أميهما على قافة كرجلين فيما تقدم فليلحق كل واحد منهما بمن ألحقته به القافة كما لم يكن لها ولد آخر لا يلحق الولد الواحد بأكثر من امرأة واحدة، فإن ألحقه القائف بأمين سقط قوله لاستحالة ذلك.
فإن لم يوجد قائف اعتبر باللبن خاصة فلبن الذكر يخالف لبن الأنثى في طبعه وزنته، فلبن الذكر أثقل من لبن الأنثى، فمن كان لبنها لبن الذكر فهو ولدها والبنت للأخرى، وإن كان الولدان ذكرين أو أنثيين وادعتا أحدهما تعين عرض الولد المتنازع فيه على القائف كما تقدم وإن ادّعى إثنان مولودًا، فقال أحدهما: هو ابني، وقال الآخر: هو بنتي نظر، فإن كان ذكرًا فلمدعيه وإن كان أنثى فلمدعيها سواء كانت بينة أو لا؛ لأن كل واحد منهما لا يستحق سوى ما ادعاه وإن كان خنثى مشكل عرض معهما على القافة؛ لأنه ليس قول أحدهما أولى من الآخر، والله أعلم.
من النظم مما يتعلق باللقيط
وفي نسب ألحقه حيًا وميتًا
…
بمن يدعي حتى كفور وخرد
ولا تتبعن في الرق أو كفر مدع
…
بلا شهد في فرشه بالتولد
وقيل وقول الشاهدين بأنه
…
ولد كافرين أشرط وحيين فازدد
وعنه ولا تتبع مزوجة وفي
…
مقال عن المعروفه الأهل بعد
وقد قيل ذا أطلق كذا بادعائها
…
وعن كل زوج بإدّعا الآخر أصدد
وعبد كحر والأماء كحرة
…
إذا ادعيا في نسبة لا تبعد
وذا شهد قدمه عند تنازع
…
وإلا سبوقًا دون فرش أم فوهد
وعبد وحر والكفور ومسلم
…
كحريق مهديين في المتعدد
وإن جاء كل بالشهود تساقطا
…
لفقد إستهام واقتسام بها طد
وعند التساوي في الأمور إن تنازعوا
…
فبالقافة أفصل بينهم ثم قلد
فلحق بمن قد ألحقوه به تصب
…
ولو بمثنى أو بجمع بأوطد
ولا تتعدى إثنين عند ابن حامد
…
وعند أبي يعلى الثلاثة فاحدد
ولا تتعدى الأم من غير مرية
…
وبامرأتين إن ألحقوه ليردد
ويحظر طفل مع قرائب مدع
…
توى فيهم إن ألحق ألحق بملحد
وإن تنفه عن واحد وتوقفت
…
على خصمه ألحق بذي الخصم ترشد
وإن يتعذر قائف أو تعارضوا
…
أو أشكل عليهم أو نفوا عن معدد
فقد ضاع أصل الطفل عند ابن جعفر
…
وقيل ليلحق من يشار في الترشد
ويختار مجد الدين إلحاقه بهم
…
هنا حبذ حبرًا مجيدًا فقلد
كذا حكم وطء إثنين أنثى بشبهة
…
متى اشتركا في وطء طهر فتولد
ووطء فراش المرء أو أمة له
…
بإمكان كون الطفل من كل مورد
وسيان مع دعوى الوليد وجحده
…
من الجمع أو من بعضهم بتفرد
ومن الحقوا بالزوج والزوج منكر
…
له بلعان نفيه في المؤكد
لأن بقاه محرمًا وارثًا أذى
…
ولاحقه بالإنتساب كذا أعدد
وإن يختلف نفسان في ابن وطفلة
…
فبالقافة التوزيع في المتجود
وقيل يرى ألبان أمهما كمن
…
له خبرة التجريب في المتعود
ويقبل قول القائف الذكر الرضي
…
المجرب قدمًا في إجابة مقصد
ووجهان في حرية ثم يكتفي
…
بإخبار فرد في الأصح المسدد
وعن أحمد لا بُدَّ في قول قافة
…
من إثنين مع لفظ الشهادة فأشهد
فإن يتعارض قائفان وثالث
…
فالإثنين فاقبل حسب في نص أحمد
ولا تنقضن ما ألحقوا بتحالف
…
طرًا ومقال إثنين كالمتريد
ويسقط حكم القائفين بشهد
…
لثان كماء مع تيمم فقد
وعنه إثنتان بالولادة يثبت
…
إنتساب الذي أقصاه منه فأطد
ومن ينف طفلاً في يد لفراشه
…
ومن بتها أن تشهد امرأة قد
وقيل مقال الأم يقبل مطلقًا
…
وقد قيل لا بل من زوجة بتفرد
(39)
باب الوقف
س 39: ما هو الوقف؟ وما الأصل فيه وإلى أين يصرف ربعه؟ وما الذي يقصد به؟ وما حكمه؟ وما هي أركانه؟ وما صيغة الوقف؟ وهل يصح من الأخرس؟ واذكر أمثلة لما لا يتضح إلا بها، وما هو صريح الوقف؟ وما هي كنايته؟ وما الذي يلزم معها؟ وإذا قال: تصدقت بداري على زيد، ثم قال: رددت الوقف وأنكر زيدًا، وقال: جعلت هذا المكان مسجدًا أو جعلت ملكي للمسجد، أو وقف؟ وما الذي يلزم معها؟ وإذا قال: تصدقت بداري على زيد، ثم قال: رددت الوقف؟ والترجيح.
ج: الوقف: مصدر وقف، بمعنى حبس وأحبس، يقال: وقفت الدار للمساكين أقفها بالتخفيف لغة رديئة معناه منعت أن تباع أو توهب أو تورث
ووقف الرجل إذا قام ومنع نفسه من المضي والذهاب ووقفت أنا ثبت مكاني قائمًا وامتنعت من المشي كله بغير ألف، قال بشر:
ونحن على جوانبها وقوف
…
نغض الطرف كالإبل القماح
والوقف مما اختص به المسلمون، قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية وإنما حبس أهل الإسلام، والأصل فيه قوله تعالى:{لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فإن أبا طلحة لما سمعها رغب في وقف بيرحاء وهي أحب أمواله رضي الله عنه، فعن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة قال:«يا رسول الله، إن الله يقول: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال: «بخ بخ، ذلك مال رابح مرتين» ، وقد سمعت:«أرى أن تجعلها في الأقربين» ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» متفق عليه.
وقال تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ} ، وقال تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} ، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ، وقال تعالى:{وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والوقف من فعل الخير المأمور به، ومن أفضل القرب المندوب إليها؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه، وحمل بعضهم الصدقة الجارية على بقية الخصال العشر التي ذكروا أنها لا تنقطع بموت ابن آدم، وقد نظمها السيوطي بقوله:
إذا مات ابن آدم ليس يجري
…
عليه من خصال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل
…
وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغري
…
وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي
…
إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرآن كريم
…
فخذها من أحاديث بحصر
وفي «صحيح البخاري» من حديث عمرو بن الحارث قال: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا، ولا أمة، ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضًا جعلها صدقة» ، وقال جابر: لم يكن أحد ذو مقدرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقف.
وعن ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني، فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول، وفي لفظ:«غير متأثل مالاً» رواه الجماعة.
وفي حديث عمرو بن دينار قال في صدقة عمر: «ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكل صديقًا غير متأثل» ، قال:«وكان ابن عمر هو الذي صدقة عمر ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم» أخرجه البخاري، وفيه من الفقه أن من وقف شيئًا على صنف من الناس وولده منهم دخل فيه.
وعن عثمان: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: «من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» ، فأشتريتها من صلب مالي» رواه النسائي والترمذي، وقال: حديث حسن.
وفيه جواز إنتفاع الواقف بوقفه العام، وعن ابن عمر قال: قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن المائة السهم التي لي بخيبر لم أصيب مالاً قط أعجب إلي منها
قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أحبس أصلها وسبل ثمرتها» رواه النسائي وابن ماجه.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا، فإن شبعه وروثه في ميزانه يوم القيامة حسنات» رواه أحمد والبخاري، وعنه رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله تعالى، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها معها» ، ثم قال:«يا عمر، أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه» رواه مسلم، وفي حديث سعد ابن عبادة: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت فأي الصدقة أفضل، قال:«الماء» فحفر بئرًا، وقال: هذه لأم سعد، رواه أبو داود والنسائي، وكان صلى الله عليه وسلم يرخص في وقف المنقول والمشاع، ويقول لمن سأله عن إباحة ذلك:«إن كانت نخلاً أحبس أصلها وسبل ثمرتها» .
وعن ابن عباس قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحجتي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عندي ما أحجك، قالت: أحجتي على جملك؟ فلأن قال ذلك حبيس في سبيل الله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال:«أما أنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله» رواه أبو داود.
والوقف: تحبس المكلف الرشيد الحر ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرفه: أي إمساك المال عن أسباب التملكات بقطع تصرف مالكه وغيره في رقبته بشيء من التصرفات يصرف ريع غلة المال وثمرته ونحوها بسبب تحبيسه إلى جهة بريعينها واقف.
ومعنى قولهم وتسبيل المنفعة: إطلاق فوائد العين الموقوفة من غلة
وثمرة وغيرها للجهة المعينة تقربًا إلى الله تعالى بأن ينوي بها القربة.
وهذا الحد لصاحب المطلع وتبعه عليه في «التنقيح» ، و «المنتهى» ، و «الإقناع» ، وتبعهم المصنف، واستظهر شارح «المنتهى» أن قوله تقريبًا إلى الله تعالى إنما يحتاج إلى ذكره في حد الوقف الذي يترتب عليه الثواب لا غير ذلك، فإن الإنسان قد يقف ملكه على غيره توددًا لا لأجل القربة ويكون وقفًا لازمًا.
ومن الناس من يقف عقاره على ولده خشية على بيعه له بعد موته وإتلاف ثمنه واحتياجه إلى غيره من غير أن تخطر القربة بباله ومنهم من يستدين حتى يستغرق الدين ماله وهو مما يصح وقفه فيخشى أن يحجر عليه ويباع ماله في الدين فيقفه ليفوت على رب المال ويكون وقفًا لازمًا لكونه قبل الحجر عليه مطلق التصرف في ماله لكنه أثم بذلك، ومنهم من يقف على ما لا يقع عليه غالبًا إلا قربة كالمساكين والمساجد قاصدًا بذلك الرياء، فإنه يلزم ولا يثاب عليه؛ لأنه لم يبتغ به وجه الله تعالى ففقد الشرط المعتبر.
ولا يصح الوقف من نحو مكاتب ولا سفيه ولا وقف كلب لم يعلم ولا الخمر ولا نحو المطعوم والمشروب إلا الماء، ويأتي - إن شاء الله تعالى -، فالوقف سُّنة؛ لقوله تعالى:{وَافْعَلُوا الخَيْرَ} ؛ ولفعله عليه الصلاة والسلام وفعل أصحابه.
وأركان الوقف: واقف، ووقف، وموقوف عليه، وما ينعقد به من الصيغ القولية أو الفعلية، فيصح الوقف بإشارة من أخرس مفهمة؛ لأنها قائمة مقام القول من الناطق.
ويصح الوقف بفعل مع شيء دال على الوقف عرفًا كما يحصل بذلك القول؛ لاشتراكهما في الدلالة عليه كبناء هيئة مسجد مع إذن عام في الصلاة فيه ولو بأذان وإقامة فيما بناه على هيئة المسجد بنفسه أو بمن نصبه؛ لذلك لأن الأذان والإقامة فيه كالإذن العام في الصلاة فيه.
قال الشيخ تقي الدين: ولو نوى خلافه ونقله أبو طالب أن نية خلاف ما دل عليه الفعل لا أثر لها.
وقال الحارثي: وليس يعتبر للإذن وجود صيغة، بل يكفي ما دل عليه من فتح الأبواب والتأذين أو كتابة لوح بالأذان أو الوقف، انتهى.
وإن كان ما بناه على هيئة المسجد وأذن في الصلاة فيه سفل بيته وينتفع بسطح البيت فيصح ولو كان إنتفاعه به بجماع فيباع؛ لأنه من الإنتفاع بملكه.
وقال أبو حنيفة: إذا جعل علو داره مسجدًا دون أسفلها أو أسفلها دون أعلاها لا يصح؛ لأن المسجد يتبعه هواه والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أو جعل علو البيت مسجدًا وانتفع بعلوه وسفله ولو لم يذكر استطراقًا إلى ما جعله مسجدًا فيصح الوقف ويستطرق إليه كما لو باع بيتًا من داره ولو لم يذكر له استطراقًا فإنه يصح البيع والإجارة ويستطرق إليه على العادة.
أو بنى بيتًا لقضاء حاجة وتطهر ويشرعه يفتح بابه إلى الطريق ويملأ خابية ماء على الطريق أو ينثر على الناس نثارًا فمن فعل شيئًا من ذلك كان تسبيلاً وإذنًا في الإلتقاط وأبيح أخذه.
وكذلك دخول الحمام وإستعمال مائه من غير إذن مباح بدلالة الحال.
أو يجعل أرضه مقبرة ويأذن للناس إذنًا عامًا بالدفن فيها؛ لأن الإذن الخاص قد يقع على غير الموقوف فلا يفيد دلالة الوقف، قاله الحارثي.
وباحتماله قوي أو يفرش نحو حصير كبساط بمسجد ومدرسة ويأذن للناس إذنًا عامًا في الصلاة عليه، وكذلك لو دفعه لقيم المسجد وأمره بافتراشه فيه أو خاطه بمفروش بجانبه فيصح ذلك ويلزم بمجرد فعله ذلك.
ويحصل الوقف بقول رواية واحدة وصريحة وقفت وحبست وسبلت
فمن أتى بكلمة من هذه الثلاثة صح الوقف؛ لعدم احتمال غيره بعرف الإستعمال المنضم إليه عرف الشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها» فصارت هذه الألفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق.
وإضافة التحبيس إلى الأصل والتسبيل إلى الثمرة لا يقتضي المغايرة في المعنى، فإن الثمرة محبسة أيضًا على ما شرط صرفها إليه، فلو قال مالك: حبست ثمرة نخل على الفقراء كان ذلك وقفًا لازمًا باتفاق من يرى أن التحبيس صريح في الوقف.
وأما الصدقة فقد سبق لها حقيقة شرعية في غير الوقف هي أعم من الوقف فلا يؤدي معناه إلا بقيد يخرجها عن المعنى الأعم، ولهذا كانت ككناية فيه.
وفي جمع الشارع بين لفظي التحبيس والتسبيل تبيين لحالة الإبتداء والدوام، فإن حقيقة الوقف إبتداء تحبيسه ودوام تسبيل منفعته، ولهذا أخذ كثير من الأصحاب الوقف بأنه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة والمنفعة.
وكناية الوقف تصدقت وحرمت وأبدت لعدم خلوص كل لفظ منها عن الاشتراك، فإن الصدقة تستعمل في الزكاة وهي ظاهرة في صدقة التطوع والتحريم صريح في الظهار والتأبيد يستعمل في كل ما يُراد تأبيده من وقف وغيره.
فلا يصح الوقف بها مجردة عما يصرفها إليه ككنايات الطلاق فيه؛ لأنها لم يثبت لها عرف لغوي ولا شرعي إلا بنية للوقف.
فمن أتى بكناية واعترف أنه نوى بها الوقف لزمه حكمًا؛ لأنها بالبنية صارت ظاهرة فيه.
وإن قال: ما أردت بها الوقف قبل قوله؛ لأن نيته لا يطلع عليها
غيره أو قرن الكناية في اللفظ بأحد الألفاظ الخمسة.
وهي الصرائح الثلاثة والكنايات كقوله: تصدقت صدقة موقوفة، أو تصدقت صدقة محبسة، أو تصدقت صدقة مسبلة، أو تصدقت صدقة محرمة، أو يقول: حرمت كذا تحريمًا موقوفًا
…
إلخ.
كقوله حرمته تحريمًا محبسًا أو تحريمًا مسبلاً أو تحريمًا مؤبدًا أو قرن الكناية بحكم الوقف، كقوله: تصدقت به صدقة لا تباع أو صدقة لا توهب أو صدقة لا تورث أو تصدقت بداري على قبيلة كذا أو على طائفة كذا أو على مسجد كذا؛ لأن ذلك كله لا يستعمل في غير الوقف فانتفت الشركة.
أو قرن الكناية بحكم الوقف كأن يقول: تصدقت بأرضي على زيد والنظر لي أيام حياتي أو النظر لفلان ثم من بعده لفلان أو تصدقت به على زيد ثم بعده على ولده وعلى عمرو.
فلو قال رب دار: تصدقت بداري على زيد، ثم قال المتصدق: أردت الوقف وأنكر زيد، وقال: إنما هي صدقة فلي التصرف في رقبتها بما أريد قبل قبول زيد ولم يكن وقفًا لمخالفة قول المتصدق للظاهر؛ لأن زيدًا يدعي ما اللفظ صريح فيه، والواقف يدعي ما هو كناية فيه فقدمت دعوى زيد.
لكن إن كان الواقف قد نوى الوقف كان وقفًا باطنًا وحصل له ثواب الوقف، وبهذا يعلم الفرق بين تصدقت وغيرها من بقية الكنايات التي ليست صريحة، فلو قال: حرمت هذه الدار على زيد، وقال: أردت الوقف وأنكر زيد لم يلتفت إلى إنكاره وتكون وقفًا.
وعند الشيخ تقي الدين لو قال إنسان: قريتي التي في الثغر لموالي الذين به ولأولادهم صح وقفًا ونقله يعقوب بن بختان عن أحمد.
وعند الشيخ تقي الدين وغيره أنه يحصل الوقف بكل ما أدّى معناه.
وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإذا قال واحد جعلت هذا المكان مسجدًا أو وقفًا صار مسجدًا أو وقفًا بذلك، وإن لم تكمل عبارته أو قال كل واحد أو جماعة جعلت ملكي للمسجد أو في المسجد ونحو ذلك صح وصار بذلك وقفًا للمسجد، قاله في «الإختبارات» .
ويؤخذ منه أن الوقف يحصل بكل ما أدى معناه وإن لم يكن من الألفاظ السابقة.
ووقف الهازل ووقف التلجئة إن غلب على الوقف جهة التحرير من جهة أنه لا يقبل الفسخ فينفي أن يصح كالعتق والإتلاف وإن غلب عليه شبه التمليك فيشبه الهبة والتمليك وذلك لا يصح من الهازل على الصحيح، قاله في «الإختيارات» .
قال في «الفروع» : فيتوجه منه الاكتفاء بلفظ يشعر المقصود وهو أظهر على أصلنا فيصح جعلت هذا للمسجد وفي المسجد ونحوه، وهو ظاهر نصوصه، انتهى.
(40)
الشروط المعتبرة في الوقف وبيان ما يصح وقفه وما لا يصح وبيان الذي يصح منه الوقف والذي لا يصح منه، وما حول ذلك من المسائل
س 40: كم الشروط المعتبرة لصحة الوقف؟ اذكرها بوضوح مع ذكر المحترزات والقيود والتفاصيل، ومن الذي يصح منه الوقف والذي لا يصح منه؟ وما الذي يصح به الوقف والذي لا يصح أن يقفه؟ ومثل لذلك مما هو موجود ووضح حكم توقيف الماء واحلي وما تستحضره من المخترعات الحديثة مما يصلح للجهاد ومما يستعمل لغير ذلك؟ واذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح.
ج: شروط الوقف المعتبرة لصحته ستة: أحدها: كون الوقف من مالك جائز التصرف وهو المكلف الرشيد، فلا يصح من صغير أو سفيه أو مجنون كسائر تصرفاتهم المالية.
قال في «الإختبارات» : ويجوز للإنسان أن يتصرف فيما في يده في الوقف وغيره حتى تقوم بينة شرعية أنه ليس ملكًا له أو كون الوقف ممن يقوم مقامه كوكيله لا الولي، فلا يصح منه لعدم المصلحة للمحجور عليه فيه.
الثاني: كون الموقوف عينًا، فلا يصح وقف ما في الذمة كقوله: وقفت دارًا أو عبدًا ولو موصوفًا؛ لأنه ليس بعين معلومة يصح بيعها بخلاف نحو أم الولد وأن تكون العين من الأعيان التي ينتفع بها إنتفاعًا عرفًا.
وأن يكون النفع مباحًا بلا ضرورة مقصودة متقومًا كإجارة وإستغلال ثمرة ونحوه مع بقائها؛ لأن الوقف يُراد للدوام ليكون صدقة جارية ولا يوجد فيما لا تبقى عينه.
والإشارة بأنه كالإجارة إلى أن المنتفع به تارة يُراد منه ما ليس عينًا كسكنى الدار وركوبه الدابة وزراعة الأرض، وتارة يُراد منه حصول عين كالثمرة من الشجر والصوف والوبر والألبان والبيض من الحيوان، ولو صادف الوقف جزءًا مشاعًا من العين المتصفة بما تقدم كنصف أو سهم معلوم منها؛ لحديث ابن عمر قال: المائة سهم التي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إلي منها، فأردت أن أتصدق بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أحبس أصلها وسبل ثمرتها» رواه النسائي وابن ماجه.
ويعتبر أن يقول كذا سهمًا من كذا سهمًا قاله أحمد؛ لأنه عقد يجوز على بعض الجملة مفرزًا فجاز عليه مشاعًا كالبيع، ولأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة وهو يحصل في المشاع كحصوله في المفروز ولا نسلم إعتبار البعض وإن سلمنا فهو يصح في الوقف كما يصح في البيع، قال في «الفروع»: ويتوجه أن المشاع لو وقفه مسجدًا يثبت فيه حكم المسجد في الحال فيمنع منه نحو جنب وتتعين القسمة هنا لتعينها طريقًا للانتفاع بالموقوف، وكذا ذكره ابن الصلاح.
ويصح وقف الحيوان الذي يصح بيعه كالفرس على الغزاة أو العبد لخدمة المرضى وأثاث يفرش في مسجد كالزوالي والبسط والمدات ويصح توقيف قطار ودبابة للجهاد في سبيل الله.
ويصح توقيف براشونات للنزول من الطائرات ورادرات وصواريخ ودبابات للجهاد في سبيل الله.
ويصح توقيف سيف أو مدفع أو رشاش أو طائرات أو سيارات أو دراجات نارية أو غير نارية على الغزات في سبيل الله.
ويصح توقيف بنادق أو رصاص على الغزاة في سبيل الله، ويصح توقيف سفن ومراكب وبواخر على الغزاة في سبيل الله، أما الحيوان فلحديث أبي هريرة مرفوعًا:«من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا، فإن شبعه وروثه في ميزان حسناته» رواه البخاري.
وأما الأثاث والسلاح؛ فلقوله عليه الصلاة والسلام: «وأما خالد فقد احتبس أدراعه وإعتاده في سبيل الله» متفق عليه، وفي لفظ:«وأعتده» قال الخطابي: الإعتاد: ما يعده الرجل من مركوب وسلاح وآلة الجهاد.
وقال في «النهاية» : الإعتاد: جمع قلة للعتاد، وهو ما أعده الرجل من السلاح
والدواب وآلة الحرب ويجمع على أعتدة، وما عدا ذلك مقيس عليه؛ لأن فيه نفعًا مباحًا مقصودًا، فجاز وقفه كوقف السلاح.
وإن صادف الوقف دارًا ولم يذكر الواقف حدودها صح إذا كانت معروفة وإن وقف عقارًا مشهورًا لم يشترط ذكر حدود.
وقال في «الفروع» : نقل جماعة فيمن وقف دارًا ولم يحدها، قال: وإن لم يحدها إذا كانت معروفة. اهـ.
ويصح وقف حلي على لبس ويصح وقف حلي للإعارة للعرس أو لزينة أو غير ذلك من الأمور المباحة؛ لما روى نافع: «أن حفصة ابتاعت حليًا بعشرين ألفًا حبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته» رواه الخلال.
ولا يصح أن أطلق واقف لبس الحلي، فلم يعينه للبس ولا لإعارة؛ لأنه لا ينتفع به في غير ذلك إلا باستهلاكه، ولا يصح الوقف مبهمًا غير معين كوقفت أحد هذين العبدين؛ لأن الوقف نقل ملك على وجه الصدقة.
فلم تصح في غير معين كالهبة فإن كان المعين مجهولاً مثل أن يقف دارًا لم يرها، قال أبو العباس: منع هذا بعيد.
وكذلك هبة أو وقف ما لا يصح بيعه كأم ولد فلا يصح الوقف عليها أيضًا، فإن وقف على غيرها كعلي زيد على أن ينفق عليها منه مدة حياته أو وقف على زيد مثلاً على أن يكون الريع لأم ولده مدة حياته صح الوقف؛ لأن استثناء المنفعة لأم ولد كاستثنائها لنفسه.
ولا يصح أيضًا وقف كلب وخنزير وسباع البهائم التي لا تصلح للصيد، وكذا جوارح الطير التي لا تصلح للصيد؛ لأنه لا يصح بيعها.
واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله صحة وقف الكلب المعلم والجوارح المعلمة وما لا يقدر على تسليمه، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه لم يظهر لي ما يدل على المنع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يصح وقف تلفزيون ولا سينما لتحريمهما، ولا يصح وقف مذياع ولا مسجل للغناء ولا دخان ولا شيش لشرب الدخان ولا أوان لمن يشرب بها خمرًا، ولا بيتًا ولا حجرة لمن يعمل فيهما معصية.
ولا يصح وقف آلة تصوير ولا صور ذوات الأرواح ولا مزامير ولا أجراس؛ لما ورد من «أن الملائكة لا تصحب رفقة فيها كلب ولا صورة ولا جرس» .
ولا وقف أطبول وهي الدماميم للغناء ولا مكائن وأمواس لحلق اللحا أو قصها أو الأخذ منها أو لتصليح التواليت أو لحلق رؤوس النساء، ولا البكمات والأسطوانات وجميع آلات اللهو والمعازف.
وليحذر الإنسان كل الحذر من أن يجعل لها إتصالاً بثلثه أو ثلث والده أو قريبه أو يوقف ما كان له من أسهم فيما يستمد منه أهل المعاصي تنويرًا أو لتصليح آلاتهم وملاهيهم أو عند من ينشأ عن أعمالهم صورًا وآلات لهو ونحو ذلك.
وليحذر أن يضع ثلثه أو وصيته عند من يتعامل بالربا فيعطيه مثلاً على عشرة آلاف إذا أبقاها عنده سنة ألفًا أو أكثر أو دون فهذه الزيادة ربا، وقد قال الله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} ، والمرابي محارب لله ورسوله نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين من جميع المعاصي إنه القادر على ذلك.
ولا يصح وقف منفعة يملكها كخدمة عبد موصى له بها ومنفعة أم ولده في حياته ومنفعة العين المستأجرة.
ولا يصح أن يقف الحر نفسه وإن صحت إجارته ولا أن يقف العبد الموصى بخدمته.
ولا يصح وقف نحو أرض مصر كأرض الشام والعراق ولا وقف مرهون بلا إذن راهن؛ لأن الوقف تصرف بإزالة الملك فيما لا يصح بيعه.
فلو وقف جائز التصرف نحو أرض مصر كأرض الشام والعراق وكل ما فتح عنوة ووقف على المسلمين على نحو مدارس كمساجد وخوانك وغيرها إنما الأرض أرصاد: إعتداد وأرصاد الأرض اعتدادها فكأنه أعدها لصرف نمائها إلى الجهة التي عينها وإفرازها يقال: أفرز الشيء إذا عزله وميزه وبابه ضرب فكأنه أفرزها عن ملكه.
ووقف الأرض مساجد يكتفي في ثبوت وقفه لها بناء المسجدية بصورة المسجد كبناء محراب أو منبر ويكتفي بذلك أيضًا بتسميته مسجدًا، فإذا زالت تلك الصور بانهدامها وتعطل منافعها عادت الأرض إلى حكمها الأصلي، من جواز لبث جنب فيها وعدم صحة إعتكاف لزوال حكم المسجدية عنها وعودها إلى الحكم الذي كانت عليه قبل ذلك إذ هي وقف الإمام عمر رضي الله عنه على المسلمين ولم يقسمها بينهم، كما وصل إلينا ذلك بالتواتر والوقف لا يوقف فلذلك جعل وقفها مجرد إرصاد وإفراز وموافق للقواعد.
ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقائه دائمًا غير ماء فيصح وقفه.
قال في «الفائق» :
ويجوز وقف الماء، قال الفضل: سألته عن وقف الماء، فقال: إن كن شيئًا
إستخاروه بينهم، قال الحارثي: هذا النص يقتضي تصحيح الوقف لنفس الماء كما يفعله أهل دمشق يقف أحدهم حصته أو بعضها من ماء النهر.
وهو مشكل من وجهين: أحدهما: إثبات الوقف فيما لم يملكه بعد فإن الماء يتجدد شيئًا فشيئًا، الثاني: ذهاب العين بالإنتفاع، ولكن قد يقال: بقاء مادة الحصول من غير تأثيره بالإنتفاع يتنزل منزلة بقاء أصل العين مع الإنتفاع ويؤيده هذا صحة وقف البئر، فإن الوقف وارد على المجموع الماء والحفيرة، فالماء أصل في الوقف، وهو المقصود من البئر ثم لا أثر لذهاب الماء بالإستعمال لتجدد بدله فهنا كذلك.
فيجوز وقف الماء لذلك، كمطعوم ومشموم يسرع فساده؛ لأنه لا ينتفع به مع بقاء عينه بخلاف ند وصندل وقطع كافور فيصح وقفه لشم مريض وغيره لبقائه مع الإنتفاع، وقد صحت إجارته لذلك فصح وقفه واستظهر في «الإنصاف»: أن هذا من المتفق على صحته لوجود شروط الوقف فيه.
ولا يصح وقف دهن على مسجد ولا وقف شمع كذلك ولا وقف الريحان ليشمه أهل المسجد لما تقدم.
وقيل: يجوز ذلك ويصح وقفها، قال في «الإنصاف»: وقال الشيخ تقي الدين: لو تصدق بدهن مسجد ليوقد فيه جاز، وهو من باب الوقف وتسميته وقفًا بمعنى أنه وقف على تلك الجهة لا ينتفع به في غيرها لا تأباه اللغة وهو جار في الشرع.
وقال أيضًا: يصح وقف الريحان ليشمه أهل المسجد، وقال: وطيب الكعبة حكمه حكم كسوتها، قال في «الإنصاف»: فعلم أن التطيب منفعة مقصودة، لكن قد تطول مدة التطيب، وقد تقصر ولا أثر لذلك.
وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله أعلم.
وكذا يجوز وقف لنبات وأكواع ونجفات ومراوح وكنديشات لنفع المسلمين.
ولا يصح وقف أثمان ولو لتحل ووزن كقنديل على مسجد وحلقة من نقد ذهب أو فضة تجعل في باب المسجد فلا يصح وقف شيء من ذلك على المسجد، كما لا يصح وقف الدراهم والدنانير لينتفع باقتراضها؛ لأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
قال في «الفائق» : وعنه يصح وقف الدراهم فينتفع بها في القرض ونحوه، اختاره شيخنا يعني به الشيخ تقي الدين رحمه الله، وقال في «الاختيارات»: ولو وقف الدراهم على المحتاجين لم يكن جواز هذا بعيدًا، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقيل: يصح وقف الأثمان للتحلي والوزن قياسًا على الإجارة، ويستثنى منه ما لو وقف فرسًا بسرج ولجام مفضين، فإنه يصح ويدخل تبعًا، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما لا ينتفع به إلا في الإتلاف لا يصح فيه ذلك فيزكي النقد ربه لبقاء ملكه عليه، ولما كان واقف الإثمان يصح في بعض الصور على سبيل التبعية أشار إلى ذلك بقوله إلا إذا وقف الإثمان تبعًا كوقف فرس في سبيل الله تعالى بلجام وسرج مفضضين، فيصح الوقف في الكل فتباع الفضة؛ لأنها لا ينتفع بها ويصرف ثمنها في وقف مثله.
قال الإمام أحمد فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض يوقف في سبيل الله: فهو على ما وقف ووصي، وإن بيعت الفضة من السرج واللجام وجعل ثمن ذلك في وقف مثله، فهو أحب لي؛ لأن الفضة لا ينتفع بها ولعله
يشتري بتلك الفضة سرج ولجام فيكون أنفع للمسلمين، قيل: فتباع وتجعل في نفقته.
قال في «المغني» : فأباح أن يشتري بفضة السرج واللجام سرجًا ولجامًا؛ لأنها صرفها في جنس ما كانت عليه حين لم ينتفع بها فيه فأشبه الفرس الحبيس إذا عطب فلم ينتفع به في الجهاد جاز بيعه وصرف ثمنه في مثله ولم يجز إنفاقها على الفرس؛ لأنه صرف لها إلى غير جهتها ولا تصرف في نفقة الفرس، وقيل: يباع ذلك وينفق عليه، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومثل ما تقدم وقف دار بقناديل نقد من ذهب أو فضة على جهة بر، فإنها تباع القناديل ويشتري بثمنها دارًا أو حانوتًا يكون وقفًا وتصرف غلة ذلك إلى الجهة التي عينها الواقف ما لم تكن الدار محتاجة لعمارة أو إصلاح ولم يكن في الوقف ما يصرف منه فتباع ويصرف ثمنها في ذلك لدعاء الحاجة إليه ولجواز بيع بعض الوقف لإصلاح باقيه عند الإحتياج إليه فهذا أولى.
الشرط الثالث: كون الوقف على بر وهو إسم جامع للخير وأصله الطاعة لله تعالى واشتراط معنى القربة في الصرف إلى الموقوف عليه؛ لأن الوقف قربة وصدقة، فلابد من وجودها فيما لأجله الوقف سواء كان الوقف من مسلم أو ذمي؛ لأن ما لا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي كالوقف على غير معين.
قال أحمد في نصارى وقفوا على البيعة وماتوا ولهم أبناء نصارى فأسلموا والضياع بيد النصارى: فلهم أخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم، لا يقال ما عقده أهل الكتاب وتقابضوه ثم أسلموا
وترافعوا إلينا لا ينقض؛ لأن الوقف ليس بعقد معاوضة وإنما هو إزالة ملك عن الموقوف على وجه القربة، فغذا لم يقع صحيحًا لم يزل الملك فيبقى بحاله كالعتق.
والقربة قد تكون على الآدمي كالفقراء والمساكين والغزاة والمتعلمين، وقد تكون على غير آدمي كالحج والغزو والسقاية التي يتخذ فيها الشراب في المواسم وغيرها وإصلاح الطرق والمساجد والقناطر والمقابر والمدارس والبيمارستانات، وإن كانت منافعها تعود على الآدمي فيتصرف في مصالحها عند الإطلاق.
ومن النوع الأول الأقارب فيصح الوقف على القريب؛ لأنه شرع لتحصيل الثواب، فإذا لم يكن على بر لم يحصل مقصوده الذي شرع لأجله.
قلت: بل يستحب الوقف على القريب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة:«أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبتي عمه» متفق عليه.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: صدقة للسائل والمحروم والضيف ولذي القربى وابن السبيل، وفي سبيل الله، وكتب علي -كرم الله وجهه- بصدقته ابتغاء مرضاة الله ليولجني الجنة، ويصرف النار عن وجهي ويصرفني عن النار في سبيل الله، وذي الرحم والقريب والبعيد لا يباح ولا يورث، وكتبت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقراء بني هاشم وبني المطلب.
ويصح على ما فيه قربة كالربط والخانات لأبناء السبيل وكتب العلم النافع كالحديث والتفسير والفقه والتوحيد والفرائض والعربية، فلا يصح الوقف على تعليم شعر مباح ولا على مكروه كتعليم منطق لانتفاء
القربة ولا على معصية، وتأتي أمثلته لما فيه من المعونة عليها.
ويصح الوقف من مسلم على ذمي معين؛ لما روي أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم وقفت على أخ لها يهودي، ولأنه موضع للقربة لجواز الصدقة عليه، ولو كان الذمي الموقوف عليه أجنبيًا من الواقف؛ لأنه تجوز صلته.
وفي «الإنتصار» : لو نذر الصدقة على ذمية لزمه كعكسه كما يصح من ذمي على مسلم معين أو طائفة، وكالفقراء والمساكين ويستمر الوقف إذا أسلم بطريق الأولى كما عدم هذا الشرط ويلغو شرط الواقف إستحقاقه ما دام كذلك ذميًا لئلا يخرج الوقف عن كونه قربة.
ومثل ذلك ما لو وقف على زيد ما دام زيد غنيًا أو على فلانة ما دامت متزوجة.
ولا يصح الوقف على كنائس جمع كنيسة متعبد اليهود والنصارى أو الكفار، قاله في «القاموس»: ولا يصح على بيوت نار أو على بيع جمع بيعة بكسر الباء الموحدة متعبَّد النصارى ونحوها كديور وصوامع ورهبان ومصالحها كقناديلها وفرشها ووقودها وسدنتها؛ لأنه معونة على معصية ولو كان الوقف على ما ذكر من ذمي، فلا يصح لما تقدم من أن ما لا يصح من المسلم لا يصح من الذمي.
قال في أحكام أهل الذمة، وللإمام أن يستولي على كل وقف وُقف على كنيسة أو بيت نار أو بيعة ويجعلها على جهة قربات.
ويصح الوقف على المار بها من المسلمين لجواز الصدقة على المجتازين وصلاحيتهم للقربة.
ولا يصح الوقف على ذمي فقط قدمه في «الفروع» ، ولا يصح الوقف على
الفساق ولا على قطاع الطريق ولا على المغاني وكل المحرمات ولا على المسارح ولا على لاعبي الكرة لم ينشأ عنها من إضاعة صلاة وكلام فاحش من لعن وقذف وأضرار بدنية، ولا يصح على المجلات التي يجتمع فيها أناس للنظر إلى السينما والتلفزيون ولا على لاعبي الشطرنج والورق والنرد والكيرم ولا على طبع المجلات الخليعة ولا على الكتب التي فيها سب للدين أو لحملته ونحو ذلك، ولو خص الفقراء من الفساق وما عطف عليه لم يصح؛ لأنه إعانة على المعصية.
ولا يصح الوقف على كتابة نحو التوراة والإنجيل أو شيء منهما؛ لأنه معصية ولو كان الوقف من ذمي لوقوع التبديل والتحريف.
وقد روي من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لما رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال:«أفي شك أنت يا ابن الخطاب، ألم آت بها بيضاء نقية، لو كان أخي موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي» .
وكذا كتب بدع، قال في «شرح المنتهى»: ويلحق بذلك كتب الخوارج والقدرية ونحوهما.
وكالدواوين التي فيها إلحاد أو هجاء للمسلمين أو تهييج للفساق أو قتل للوقت بلا منفعة دينية أو دنيوية تعين على الدين.
ولا يصح الوقف على حربي أو على مرتد؛ لأن ملكه تجوز إزالته والوقف يجب أن يكون لازمًا، ولأن إتلاف أنفسهما والتضييق عليهما واجب فلا يجوز فعل ما يكون سببًا لبقائهما والتوسعة عليهما.
ولا يصح وقف ستور وإن لم تكن حريرًا لغير الكعبة كوقفها على الأضرحة.
ولا يصح وقف الإنسان على نفسه؛ لأن الوقف إما تمليك للرقبة أو المنفعة
ولا يجوز له أن يملك نفسه من نفسه، كما لا يجوز له أن يبيع ماله من نفسه ونقل حنبل وأبو طالب ما سمعت بهذا ولا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله تعالى، وبهذا قال مالك والشافعي.
وقيل: يصح الوقف على النفس وهو رواية عن الإمام أحمد، وبه قال أبو حنيفة واختاره جماعة منهم ابن أبي موسى والشيخ تقي الدين، وصححه ابن عقيل والحارثي وأبو المعالي في «النهاية» و «الخلاصة» و «التصحيح» و «إدراك الغاية» ، ومال إليه في «التلخيص» ، وجزم به في «المنور» و «منتخب الآدمي» ، وقدمه في «النهاية» ، و «المستوعب» و «الهادي» ، و «الفائق» ، والمجد في «مسودته على الهداية» ، وعليه العمل في زمننا وقبله عند حكامنا من أزمنة متطاولة، وهو أظهر، وفي «الإنصاف» ، وهو الصواب وفيه مصلحة عظيمة وترغيب في فعل الخير وهو من محاسن المذهب، وفي «الفروع» ومتى حكم به حاكم حيث يجوز له الحكم، فظاهر كلامهم ينفذ حكمه ظاهرًا وإن كان فيه في الباطن خلافه.
وهذا هو القول الذي تميل إليه النفس يؤيده ما ورد عن عثمان رضي الله عنه أنه وقف بئر رومة، وقال: دلوي فيها كدلاء المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعلى القول الأول ينصرف في الحال إلى من بعد فمن وقف على نفسه ثم أولاده أو الفقراء صرف في الحال إلى أولاده أو الفقراء؛ لأن وجود من لا يصح الوقف عليه كعدمه فكأنه وقفه على من بعده إبتداء، فإن لم يذكر غير نفسه فملكه بحاله ويورث عنه.
ويصح وقف قنه على خدمة الكعبة صانها الله تعالى.
قال في «الإختيارات» : وينبغي أن يشترط في الواقف ممن يمكن من تلك
القربة فلو أراد الكافر أن يقف مسجدًا منع منه.
ولا يصح الوقف على تنوير قبر ولا على تبخيره وتطييبه ولا على من يقيم عنده أو يخدمه.
ولا يصح الوقف على من يشد الرحل إلى زيارة القبور لتحريم ذلك.
ولا يصح وقف القن على حجرة النبي صلى الله عليه وسلم لإخراج ترابها أو إشعال قناديلها أو إصلاحها ويعتبر هذا من الغلو ولا يحل الغلو في القبور ولا إشعالها وتنويرها ولا البناء عليها ولا يجوز زخرفتها؛ لأن كل هذا وسيلة وذريعة إلى الشرك بالله.
ولا يصح وقف بيت أو عمارة فيها قبور مسجدًا؛ لقول ابن عباس: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها السرج والمساجد» أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي.
ومن وقف شيئًا على غيره كأولاده أو مسجدًا واستثنى غلته كلها لنفسه أو استثنى سكناه أو استثنى بعضها له مدة حياته أو مدة معينة صح أو استثنى غلته أو بعضها لولده أو غيره صح أو استثنى الأكل مما أوقفه أو النفقة عليه أو استثنى الانتفاع لنفسه أو لأهله مدة حياتهم أو اشترط أنه يطعم صديقه مدة حياته.
وقال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن: لا يصح الوقف إذا وقف على غيره واستثنى الأكل منه مدة حياته؛ لأنه إزالة ملك فلم يجز إشتراط نفعه لنفسه كالبيع والهبة، وكما لو اعتق عبدًا واشترط أن يخدمه ولأن ما ينفقه على نفسه مجهول، فلم يصح اشتراطه كما لو باع شيئًا واشترط أن ينتفع به، ولأن الوقف يقتضي حبس العين وتمليك المنفعة والعين محبوسة عليه ومنفعتها مملوكة له فلم يكن للوقف معنى ويخالف وقف عثمان
رضي الله عنه وقف عام، ويجوز أن يدخل في العام ما لا يدخل في الخاص، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في المساجد وهي وقف على المسلمين، ولأن الوقف العام يدخل فيه من غير شرط ولا يدخل في الوقف الخاص فدل على الفرق بينهما، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أو اشترط أنه يطعم صديقه مدة معينة صح الوقف والشرط على ما قال سواء قدر ما يأكله أو عياله أو صديقه ونحوه أو أطلقه.
قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله اشترط في الوقف أني أقف على نفسي وعيالي، قال: نعم، واحتج بما روي عن حجر المدري أنه في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر، ويدل له أيضًا قول عمر لما وقف لا جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقًا غير متمول فيه وكان الوقف في يده إلى أن مات، ولأنه إذا وقف وقفًا عامًا كالمساجد والسقايات والرباطات والمقابر كان له الانتفاع بذلك وكذلك هنا.
فلو مات من استثنى نفع ما وقف مدة معينة في أثناء المدة المعينة لنحو السكنى، فالباقي منها لورثته كما لو باع، واستثنى سكناها سنة ثم مات فيها.
قال في «شرح الإقناع» : قلت: فيؤخذ منه صحة إجارة كل ما ملك منفعته وإن لم يشرطها الواقف له ولورثته إجارتها للموقوف عليه ولغيره كالمستثنى في البيع، ومنه يؤخذ صحة إجارة ما شرط سكناه لنحو بنته أو أجنبي أو خطيب أو إمام، قاله البهوتي، فلو لم يكن لمن مات، وقد بقي له بعض المدة ورثة، فالباقي من المدة التي مات عنها لبيت المال كباقي تركته ولا يعطي للموقوف عليه؛ لأنه لا يستحق شيئًا إلا بعد فراغ جميع المدة التي عينها الواقف.
ومن وقف شيئًا على الفقراء فافتقر شمله الوقف وتناول الواقف منه؛
لوجود الوصف الذي هو الفقر فيه.
ولو وقف إنسان مسجدًا أو مقبرة أو بئرًا أو مدرسة؛ لعموم الفقهاء أو بعضهم: نوع من الفقهاء كالحنابلة والشافعية أو وقف ربطًا أو غيرها للصوفية المستقيمين أو نحوهم مما يعم فالواقف كغيره في الإستحقاق والإنتفاع ما وقفه؛ لقول عثمان هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال:«من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» فاشتريتها من صلب مالي، فجعلت فيها دلوي مع دلو المسلمين، قالوا: اللهم نعم.
والصوفية: هم المشتغلون بالعبادات في غالب الأوقات المعرضون عن الدنيا المتبتلون للعبادة وتصفية النفس من الأخلاق المذمومة.
فمن كان من الصوفية جماعًا للمال، ولم يتخلق بالأخلاق المحمودة ولا تأدب بالآداب الشرعية غالبًا لا آداب وضعية إذ لا أثر لما وضعوه من الآداب الغير المطلوبة في الشرع.
وإن كان فاسقًا لم يستحق شيئًا من الوقف على الصوفية، قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله لعدم دخوله فيهم.
وقال الصوفي: الذي يدخل في الوقف على الصوفية يعتبر له ثلاثة شروط: الأول: أن يكون عدلاً في دينه، الثاني: أن يكون ملازمًا لغالب الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وإن لم تكن واجبة كآداب الأكل والشرب واللباس والنوم والسفر والصحبة والمعاملة مع الخلق إلى غير ذلك من آداب الشريعة قولاً وفعلاً.
ولا يلتفت لما أحدثه بعض الصوفية من الآداب التي لا أصل لها في الدين من التزام شكل مخصوص في اللبسة ونحوها كلباس خرقة متعارفة
عندهم من يد شيخ، وغير ذلك مما لا يستحب في الشريعة إذ لا دليل على اشتراطه في الشرع.
بل ما وافق الكتاب والسُّنة فهو حق يصار غليه وما لا يكون كذلك فهو باطل لا يعول إليه فلا يلتفت إلى اشتراطه وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق.
الثالث: أن يكون قانعًا بالكفاية من الرزق بحيث لا يمسك ما يفضل عن حاجته هذا ملخص ما ذكره في كتاب الوقف من «الفتاوى المصرية» .
الشرط الرابع: من شروط الوقف كونه على معين من جهة كمسجد كذا أو شخص كزيد غير نفسه يملك ملكًا ثابتًا؛ لأن الوقف يقتضي تحبيسًا لا تجوز إزالته.
والوقف على المساجد ونحوها وقف على المسلمين إلا أنه غير معين في نفع خاص لهم.
فلا يصح الوقف على مكاتب ومعلق عتقه بصفة؛ لأن الوقف تمليك فلا يصح على من لا يملك والمكاتب ملكه غير مستقر، وأما الوقف على المكاتبين فيصح؛ لأنهم جهة يُراد معناه صرفه على جهة المكاتبين فمن كان مكاتبًا استحق قضاء كتابته، ونحو ذلك قاله ابن نصر الله.
ولا يصح على مجهول كرجل لصدقة بكل رجل ومسجد بصدقة بكل مسجد ولا على مبهم كأحد هذين الرجلين أو المسجدين ونحوهما لتردده كبعتك أحد هذين العبدين، والذي تميل إليه النفس أنه يجوز ويخرج أحدهما بقرعة، والله أعلم.
ولا يصح الوقف على من لا يملك كقن وأم ولد ومدبر.
وقيل: يصح الوقف على العبد ويكون لسيده وسواء قلنا: يملك أو لا،
وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال الشيخ تقي الدين: يصح الوقف على أم ولده بعد موته وإن وقف على غيرها على أن ينفق عليها مدة حياتها أو يكون الريع لها مدة حياتها صح، وما قاله هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى.
ولا يصح على ميت وجن وملك بفتح اللام أحد الملائكة ولا على بهيمة؛ لأنها لا تملك ولا على حمل أصالة كوقف داره على حمل هذه المرأة؛ لأنها تمليك إذن والحمل لا يصح تمليكه بغير الإرث والوصية، وقيل: يصل الوقف على الحمل إبتداء، اختاره الحارثي وصححه ابن عقيل، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه لم يظهر لي دليل على المنع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يصح الوقف على المعدوم كعلى من سيولد لي أو على من سيولد لفلان فلا يصح إصالة، بل يصح الوقف على الحمل أو على من سيولد تبعًا لمن يصح الوقف عليه، كقول واقف وقفت كذا على أولادي ومن سيولد لي من فلان أو لفلان بلا نزاع.
وإن وقف شيئًا على شخص اشترط تعيينه لما تقدم من أن الوقف لا يصح على مبهم وإن كان الوقف على جهة فلا يشترط تعيين أشخاصها، بل يشترط تعيين الجهة فقط، كقوله: وقفت على مصنفي التفسير أو شراح الأحاديث أو الأصوليين الذين يصنفون في التوحيد أو على من يدرس الحديث أو التفسير أن الفقه أو الفرائض أو التجويد أو غيره من العلوم المباحة في موضع كذا أو يطلق أو على من يؤذن أو يقيم الصلاة في مسجد كذا أو مدرسة كذا من مدارس المسلمين أو المعهد العلمي أو الجامعة الإسلامية أو الكليات لما في ذلك من تقوية الدين فيصح الوقف في ذلك كله.
ويذكر في الوصية أو في الوقف أن الذي يدرس دروسًا محرمة
كالرسام لصور ذوات الأرواح ونحو ذلك لا يستحق من ذلك الوقف شيئًا البتة؛ لأن عمله محرم.
ويلزم بمجرد التعيين لصدوره من أهله في محله.
وإذا عين الواقف لوقفه ناظرًا، فإنه يقرر ذلك الناظر في الجهات المذكورة الصالح لمباشرة ما عينه الواقف، وهو المتأهل لذلك العمل فلو أقر الناظر غير صالح للقيام بشرط الواقف فلا ينفذ تقريره.
وإن قال إنسان: وقفت كذا على أولاد فلان وفي أولاد فلان حمل فيشمله الوقف كمن لم يخلق من أولاد الأولاد تبعًا فيستحق العمل بمجرد وضع وكل حمل من أهل وقف.
قال في «الإنصاف» : يتجدد حق الحمل بوضعه من ثمر وزرع ما يستحقه مشتر لشجر أو أرض من ثمر وزرع.
قال في «القواعد» : سُئل أحمد عمن وقف نخلاً على ولد قوم ثم ولد مولود قال: إن كان النخل قد أبر فليس له في ذلك شيء وهو ملك الأول وإن لم يكن أبر فهو معهم.
وكذلك الزرع إذا بلغ الحصاد فليس له شيء وإن لم يبلغ الحصاد فله فيه.
وفي «المغني» : ما كان من الزرع لا يتبع الأرض في البيع فلا حق فيه للمتجدد؛ لأنه كالثمر المؤبر وما يتبع وهو لم يظهر مما يتكرر حمله فيستحق فيه المتجدد في الثمر، وتقدم في بيع الأصول والثمار لا يدخل في بيع نحو أرض ما فيها ما يحصد من زرع إلا مرة كبر وشعير وقطنيات ونحوها ويبقى لبائع إلى أول وقته بلا أجرة ما لم يشترطه مشتر.
وإن كان يجز مرة بعد أخرى كرطبة، وبقول أو تتكرر ثمرته كقثاء
وباذنجان فأصوله لمشتر وجزة ظاهرة ولقطة أولى لبائع هذا إذا وجد حالة الوقف.
وأما إن كان البذر من مال الموقوف عليهم فهو لهم فلا يستحق الحمل بوضعه منه شيئًا وإنما يستحق قدر نصيبه من المنفعة.
وإن كان من مال الوقف، فالظاهر أنه كذلك وكالحمل في تجدد الإستحقاق من أي إنسان قدم إلى مكان موقوف عليه كثغر نزل في ذلك المكان أو خرج منه إلى مثله فيستحق من ثمر وزرع ما يستحقه مشتر لم تقدم قياسًا للإستحقاق على عقد البيع إلا أن يشترط لكل زمن معين فيكون له بقسطه وقياسه من نزل في مدرسة ونحوه.
وقال ابن عبد القوى ولقائل أن يقول: ليس كذلك؛ لأن واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السنة كالجعل على اشتغال من هو في المدرسة عامًا فينبغي أن يستحق بقدر عمله في السنة من ريع الوقف في السنة لئلا يفضي إلى أن يحضر الإنسان شهرًا فيأخذ جميع الوقف ويحضر غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة فلا يستحق شيئًا، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها.
وكذا قال الشيخ تقي الدين يستحق بحصة من مغله ومن جعله كالولد فقد أخطأ وللورثة من المغل ما باشر مورثهم وأعلم أنه إذا كان استحقاق الموقوف عليه بصفة محضة مثل كونه فقيهًا أو فقيرًا فحكمه حكم الحمل.
وأما إذا كان استحقاقه عوضًا عن عمل أو كان إستغلال الأرض لجهة الوقف، فإنه يستحق كل من اتصف بصفة الإستحقاق في ذلك العام منه حتى من مات في أثنائه استحق بقسطه وإن لم يكن الزرع قد وجد، وبنحو ذلك أفتى الشيخ تقي الدين.
وشجر الحور الموقوف إن أدرك أوان قطعة في حياة البطن الأول فهو له وإن مات البطن الأول وبقي الحور في الأرض مدة حتى زاد كانت الزيادة حادثة من منفعة الأرض مدة حتى زاد كانت الزيادة حادثة من منفعة الأرض التي للبطن الثاني، ومن الأصل الذي لورثة الأول، فإما أن تقسم الزيادة على قدر القيمتين، وإما أن يعطى الورثة أجرة الأرض للبطن الثاني، والأول قياس ما تقدم في بيع الأصول والثمار، وفيما أرى أن الكندل والأثل يقال فيه مثل ما يقال في شجر الحور، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن غرس الحور البطن الأول من مال الوقف ولم يدرك أو أن قطعه إلا بعد انتقاله إلى البطن الثاني فهو لهم وليس لورثة الأول فيه شيء؛ لأنه يتبع أصله في البيع فيتبعه في انتقال الإستحقاق كما تقدم في الثمر غير المتشقق، قاله الشيخ تقي الدين.
الشرط الخامس من شروط الوقف: أن يقف ناجزًا غير معلق ولا موقت ولا مشروط بنحو خيار.
فلا يصح تعليق الوقف على شرط سواء كان التعليق في ابتدائه كقوله: إذا قدم زيد أوولد لي ولد أو جاء رمضان فداري وقف على كذا، أو كان التعليق لانتهائه، كقوله: داري وقف على كذا إلى أن يحضر زيد أو يولد لي ولد ونحوه؛ لأنه كالهبة إلا أن علق واقف الوقف بموته، كقوله: هو وقف بعد موتي، فإنه يصح.
والتعليق بهذه الصيغة تبرع مشروط بالموت، فصح كما لو قال: قفوا داري على جهة كذا بعد موتي، واحتج أحمد بأن عمر وصى فكان في وصيته هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث الموت أن تمغًا صدقه وذكر بقية الخبر، رواه أبو داود بنحو من هذا ووقفه هذا
كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم واشتهر في الصحابة ولم ينكر فكان إجماعًا.
ويفارق التعليق بشرط في الحياة؛ لأن هذا وصية وهي أوسع من التصرف في الحياة بدليل جوازها بالمجهول والمعدوم، قال في «القاموس»: وثمغ بالفتح مال بالمدينة لعمر وقفه.
ويلزم الوقف المعلق بالموت من حين صدوره منه إذ من أحكام الوقف لزومه في الحال أخرجه مخرج الوصية أم لم يخرجه.
وعند ذلك ينقطع التصرف فيه بالبيع ونحوه، قال أحمد في رواية الميموني في الفرق بينه وبين المدبر: أن المدبر ليس لأحد فيه شيء وهو ملك الساعة، وهذا متى وقفه على قوم مساكين فكيف يحدث به شيئًا، قاله الحارث، والفرق عسر جدًا.
وقال كلام الأصحاب: يقتضي أن المعلق على الموت أو على شرط في الحياة لا يقع لازمًا قبل وجود المعلق عليه؛ لأن ما هو معلق بالموت وصية والوصية في قولهم لا تلزم بالموت والمعلق على شرط في الحياة في معناها فيثبت فيه مثل حكمها، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن كان الموقوف نحو أمة ففي القواعد صارت كالمستولدة فينبغي أن يتبعها ولدها وأما الكسب ونحوه فالظاهر أنه للواقف وورثته إلى الموت؛ لأن الوقف المعلق بالموت يكون لازمًا من حين العقد لزومًا مراعى بموت الواقف؛ لأنه كالوصية فما دام الوقف حيًا يتصرف في نمائه وكسبه ومتى مات انتقل إلى الجهة التي عينه له.
فيعتبر الوقف المعلق بالموت من ثلث مال الواقف؛ لأنه حكمه حكم الوصية، فإن خرج من الثلث لم يكن لأحد من الورثة ولا غيرهم رد شيء
منه وما زاد على الثلث فإنه يلزم الواقف منه في قدر الثلث والزائد موقوف على إجازة وأرث.
قال في «المغني» : لا نعلم في هذا خلافًا عند القائلين بلزوم الوقف، قال الحارثي: وإذا قال: داري وقف على موالي بعد موتي دخل أمهات أولاده ومدبروه؛ لأنهم من مواليه حقيقة إذن.
الشرط السادس من شروط الوقف: أن لا يشترط الواقف في الوقف شرطًا ينافيه من الشروط الفاسدة كشرط نحو بيعه أو هبته متى شاء أو شرط خيار فيه بأن قال: وقفته بشرط الخيار أبدًا أو مدة معينة أو شرط توقيته كقوله: هو وقف يومًا أو سنة أو نحوها أو بشرط تحويل الوقف من جهة لأخرى، كقوله: وقفت داري على جهة كذا على أن أحولها عنها أو عن الوقفية بأن أرجع عنها متى شئت، فإن الشرط شيئًا من ذلك بطل الشرط والوقف.
وقال الشيخ تقي الدين: يصح في الكل نقله عنه في «الفائق» ، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله أعلم.
وكذلك لو شرط الواقف تغيير شرطه أو متى شاء أبطله لم يصح الوقف؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف لكن إن وقف على ولده بأن قال: هذا وقف على ولدي سنة ونحوها كشهر ثم على المساكين صح الوقف والتوقيت.
وكذلك إن قال: هذا وقف على ولدي مدة حياتي ثم هو بعد موتي للمساكين، صح؛ لأنه وقف متصل الإبتداء والإنتهاء.
وإن قال: هو وقف على المساكين ثم على ولده صح للمساكين دون ولده؛ لأن المساكين لا إنقراض لهم.
قال في «المغني» : ولا تأثير لشرط بيع الموقوف إذا خرب وصرف ثمنه بمثله فلو شرط الواقف ذلك أو شرطه للناظر بعده فسد الشرط فقط، وصح الوقف كما في الشروط الفاسدة في البيع، ذكره الحارثي واستصوبه صاحب «الإنصاف» .
قال في «الفروع» : وشرط بيعه إذا خرب فاسد في المنصوص نقله حرب وعلل بأنه ضرورة ومنفعة لهم.
من النظم فيما يتعلق بالوقف
ألا حبذا المال الحلال لمن هدي
…
إلى البذل في أبواب بر معدد
وذلك فضل الله يؤتيه من يشا
…
ومن خير بر المرء وقف مؤبد
إذا انقطعت أعمال بر الفتى أتى
…
إليه أنيسًا عند وحشة مفرد
فلا تك جماعًا منوعًا مكاثرًا
…
وسارع لبذل الفرض في المال وإبتد
وإياك والمال الحرام مورثًا
…
لباذله في البر تشقى وتسعد
تعد لعمري أخسر الناس صفقة
…
وأكثرهم غبنًا وعضًا على اليد
فبادر إلى تقديم مالك طائعًا
…
صحيحًا شحيحًا رغبة في التزود
ولا تخش فوت الرزق فالله ضامن
…
لنا الرزق ما أبقاك في اليوم والغد
ووقفك حبس الأصل مع بذل نفعه
…
يصح بقول ثم فعل بأوطد
مؤد لمعناه كجاعل أرضه
…
كمقبرة أو كالرباط ومسجد
ويأذن في فعل يعد لأجله
…
وألفاظ تصريح ثلاثة أعدد
وقفت حبست الشيء سبلت والكنى
…
تصدقت أو خرمت أبدت وأنشد
لصحة وقف بالكنى أن تقارن الصحيح
…
وإلا حكم وقف مخلد
كأبدت موقوفًا وليس بقابل انتقال
…
بوجه من وجوه التعقد
وينفذ أن يتوي بها الوقف باطنًا
…
وفي ظاهر خذه بتغيير مقصد
ولا تمضه في غير ما جاز بيعه
…
بشرط بقا نفع ورشد المؤبد
وينفذ في المنقول مثل عقاره
…
وينفذ أيضًا في المشاع كمفرد
ووقف حلي جائز اللبس جائز
…
لعارية واللبس في المتأكد
ووقف على المجهول ملغى ووقفه
…
وكل حرام البيع كالكلب فاعدد
ورهن وسبع لا يصيد وصائد
…
بوجه وحمل مفرد دوام مولد
ويبطل مع شرط الخيار وبيعها
…
متى شا وقيل الشرط لا الوقف أفسد
وما لم يدم نفع به مع بقائه
…
كطعم وأثمان وريحان أردد
وليس صحيحًا في سوى البر من يقف
…
على غير معروف وبر فما هدي
ووقف لأصناف الزكاة مجوز
…
وإصلاح جسر أو رباط ومسجد
وللناس حتى أهل عهد تعينوا
…
ويفسد موقوف لأهل التهود
وبيعتهم أو كتابة كتبهم
…
ولو كان منهم واقف ذو تجود
ويلغى على المرتد أو أهل حربنا
…
وقطاع درب أو ذوي آلة ألدد
ومن ليس أهل الملك مثل ملائك
…
وجن كذا العجماء مع قن اعبد
ووقف على خيل الغزاة لأهلها
…
وخان وربط مسجد هو لقصد
ووجهان فيمن ملكه ناقص وفي
…
الوقوف على حمل كالايصالة أعدد
ووقف على الفساق والأغنياء لا
…
يصح ولا ما فيه عون لمفسد
ووقف الفتى شيئًا على نفسه أجز
…
على الظاهر المنصوص من نص أحمد
وثنياك من وقف على الغير نفعه
…
حياتك والإنفاق كل ليوطد
وإن يشترط إخراج من شا من أهله
…
وإدخال من شا من سوى أهله أردد
وإن يشترط حرمان من شاء ناظر
…
متى لم يعين مستحقوه أطد
وشرطك ذا فيمن يواتيك حصرهم
…
أرى كاستوى جهل السباق فأفسد
وتوقيته كالوقف عامًا أو إن أتى
…
فلان فداري وقف بأجود
وقيل يصح الوقف والشرط باطل
…
وإن قال هي وقف إذا مت فأشهد
بصحة ذا من ثلثه بعد موته
…
كوقف أبي حفص وقيل بل أردد
وإن صح توقيت يكن بعد وقته
…
كمنقطع في الحكم في بابه أقصد
ويلزم في الإيجاب في المتأكد
…
وعنه وبالإخراج أيضًا عن اليد
شرط في الأقوى قبول معين
…
وقفت عليه كالعطالا المعدد
فمع شرطه أن ينعدم يغط آنفًا
…
لمن بعده من أهل وقف مؤبد
كوقف على أولاده إن ردوا أو تووا
…
وإن رد بعض أو توى من بقا أزيد
وفي مجلس العلم اشتراط قبولهم
…
من بعد موت الواقف أن يتقيد
ووقف على من لا يجوز وبعده
…
على جائز صحح لمن جاز فاشهد
وقيل إلغ في المردود مع ذي مآله
…
وقيل إن تأتي علم فقد المفسد
كمنقطع فاصرفه حتى انقراضهم
…
ومن بعدهم للجائز الصرف أورد
(41)
إذا وقف وسكت أو لم يخرج الموقوف عن يده أو ارتد الموقف وبيان مصرف الوقف وحكم تغيير شرط الواقف وحكم صحيح الوسط ومنقطع الابتداء وانقطاع الجهة إلخ
س 41: تكلم بوضوح عن ما يلي: إذا قال إنسان وقفت كذا وسكت إذا لم يخرج الموقوف عن يده، متى يلزم الوقف، قبول الوقف، إذا ارتد الموقف، إلى أين يتعين مصرف الوقف، متى يجوز ركوب الفرس الحبيس؟ صرف موقوف لبناء مسجد على بناء منارة أو شراء سلم للسطح أو صرفه في زخرفة أو في مكانس أو مجارف للمسجد تغيير شرط واقف، وكيف يصرف منقطع الإبتداء؟ الوقف على من لا يصح الوقف عليه، وكيف يصرف منقطع الآخر إذا وقفه وسكت؟ وكيف يقع الحجب بين ورثة الواقف؟ وما مثال ذلك؟
وإذا لم يوجد
لواقف ورثة من النسب، أو انقطعت الجهة والواقف حي فما الحكم؟ وكيف يعمل في وقف صحيح الوسط فقط؟ وما مثاله؟ وإذا وقف على ثلاثة ثم على المساكين أو وقف على ثلاثة ولم يذكر مآلاً، فما الحكم في ذلك؟ وفيما إذا ماتوا وفيما إذا وقف على أولاده وعلى المساكين أو على مسجد أو على مساجد؟ واذكر الدليل والتعليل والتفصيل والقيود والمحترزات والأمثلة والخلاف والترجيح.
ج: لا يشترط لصحة الوقف ذكر الجهة التي يصرف إليها الوقف، فإذا أطلق ولم يعين مصرفًا للوقف فهو صحيح؛ لأنه إزالة ملك على وجه التقرب إلى الله، وما أطلق من كلام الآدميين محمول على المعهود في الشرع.
فإذا قال إنسان: وقفت كذا وسكت صح وصرف لورثة الواقف نسبًا لا ولاء ولا نكاحًا.
ولا يشترط للزوم الوقف إخراج الموقوف عن يد الواقف؛ لحديث عمر روي عنه رضي الله عنه أنه كان في يده إلى أن مات رحمه الله.
ويلزم الوقف بمجرده كالعتق ويزول ملكه عنه؛ لأن الوقف تبرع يمنع البيع والهبة فلزم بمجرد اللفظ كالعتق، والهبة تمليك مطلق.
والوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة فهو بالعتق أشبه فإلحاقه به أولى وعلم منه أن إخراجه عن يده ليس شرطًا بطريق الأولى، وعلى القول بالاشتراط لو شرط نظره لنفسه سلمه لغيره ثم ارتجعه منه.
قال في «الفروع» : ولا يشترط فيما وقف على شخص معين قبوله للوقف؛ لأنه إزالة ملك يمنع البيع والهبة والميراث، فلم يعتبر فيه القبول أشبه العتق.
والفرق بين الوقف والهبة والوصية أن الوقف لا يختص المعين، بل يتعلق
به حق من يأتي من البطون في المستقبل فيكون الوقف على جميعهم إلا أنه مرتب فصار بمنزلة الوقف على الفقراء لا يبطل برد واحد منهم ولا يقف على قبوله بخلاف الهبة والوصية لمعين.
وإذا كان الوقف على غير معين كالمساكين والفقراء والعلماء أو كان الوقف على من لا يتصور منه القبول كالمسجد والقناطر لم يفتقر إلى القبول من ناظرها ولا من غيره كنائب الإمام؛ لأنه لو اشترط لامتنع صحة الوقف عليها.
ولا يبطل الوقف على معين برده للوقف فقبوله له ورده وعدمها سواء في الحكم.
ويتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة من قبل الواقف له نصًا نقله الجماعة وقطع به أكثر الأصحاب؛ لأن تعيين الواقف لها صرف عما سواها.
فلو سبل ماء للشرب لم يجز الوضوء به ولا الغسل ونحوه، وكذا لو سبل ماء للوضوء لم يجز الشرب منه؛ لأنه لو لم يجب إتباع تعيينه لم يكن له فائدة، ولا يصح الوضوء ونحوه به.
قلتُ: ومثل ذلك ما جعل في الأزيار والقرب في المساجد، فلا يجوز الوضوء به، ولا يجوز الأخذ منه للبيوت والحجر إلا لضرورة أو حاجة، وكذا ما جعل للمارة لم يجز أخذه للبيوت والدكاكين، بل من أراد شرب منه كغيره، وكذا ما جعل في المدارس مخصصًا لهم الظاهر أنه لا يجوز لغيرهم إلا عند الحاجة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
لأنه غير مباح أشبه المباح المغصوب قال في «شرح الغاية» : ينبغي أن يقيد هذا في البلاد القليلة المياه التي يجمعون ماء الوضوء في أحواضها بالدلاء والسقايات أو يجرون الماء إليها في بعض الأوقات على حسب نوبهم، فهذه لو استعملت
للشرب وإزالة النجاسة لضاق على الناس أمر طهارتهم، بل ربما تعطلوا بالكلية، وكذلك المصانع الصغار التي على الطرقات إنما بنيت لإرواء ظمأ المارة، فلو استعملت في غير ذلك لنفدت في مدة يسيرة وتبقى المارة بقية السنة بلا ماء.
وأما في البلاد الكثيرة المياه كدمشق الشام وأمثالها من البلاد الكثيرة المياه، فالظاهر أنه لا مانع من استعمال ماء البرك في مدارسها ومساجدها المعدة للوضوء في الشرب وغيره.
وإن كان الواقف لاحظ في بنائها أن تستعمل في الوضوء؛ فإنه لو تناول من البركة الواحدة الخلق الكثير في آن واحد لا ينقص ماؤها إذ كلما أخذ منها شيء خلفه أضعافه.
وكذلك السبلات التي بنيت في الأزقة للشرب المشتملة على شيء من الماء مع جريان إليها دائمًا والمصانع الكبرى في الصحارى المبني عليها محارب يباح إستعمال مائها شربًا ووضوءًا إذ وضع واقفيها عليها المحارب قرينة منهم على إباحة إستعمالها لذلك كله.
ويؤكد ما ذكر قول الشيخ تقي الدين الآتي قريبًا يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، ونقل في «الفروع» قولاً إن سبل ماء للشرب جاز الوضوء منه، ثم قال: فشرب ماء موقوف للوضوء يتوجه عليه.
ولا يركب فرس حبيس في حاجة غير تأديبه وغير جمال المسلمين ورفعتهم وغيظ عدوهم أو في علف الفرس وسقيه ولا يعار أو يؤجر إلا لنفعه قاله الآجري، قلت: وكذا المراكب الحديثة لا تستعمل إلا لما يعود إلى مصالح الجهاد في سبيل الله.
وسُئل عن التعليم بسهام الغزو، فقال: هو منفعة للمسلمين وعن الإمام
يجوز إخراج بسط مسجد وحصره لمنتظر جنازة؛ لأنها موقوفة لنفع المسلمين وهذا منها.
ويجوز صرف موقوف على بناء مسجد لبناء منارته وإصلاحها وبناء منبره وشراء سلم للسطح وبناء ظلة؛ لأنه ذلك من حقوقه ومصالحه ولا يجوز صرف الموقوف على المسجد في بناء مرحاض وهو بيت الخلاء وجمعه مراحيض لمنافاته المسجد وإن ارتفق به أهله.
ولا يجوز صرفه أيضًا في زخرفته بالذهب أو الأصباغ؛ لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت بتشييد المساجد لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى» رواه أبو داود.
وليس ببناء، بل لو شرط لما صح؛ لأنه ليس قربة ولا داخلاً في قسم المباح ولا في شراء مجازف ومكانس وقناديل؛ لأنه ليس ببناء ولا سببًا له فانتفى دخوله في الموقوف عليه.
قال الحارثي: وإن وقف على مسجد أو مصالحه جاز صرفه في عمارته وفي نحو مكانس كحصر ومدات ووقود بفتح الواو كزيت ومجارف ومساحي ورزق إمام ومؤذن ومقيم لدخول ذلك كله في مصالح المسجد وضعًا أو عرفًا.
قال في «الوهبانية» :
ويدخل في وقف المصالح قيم
…
إمام خطيب والمؤذن يعبر
قلت: وكذا مراوح ونجفات ولمبات وجميع أدوات الكهرب من أسلاك ومواسير وأكواع وطفايات وعداد وكنديشات وقناديل ودواليب لحفظ المصاحف وآلات التنوير.
وفي «فتاوى الشيخ تقي الدين» : إذا وقف على مصالح الحرم وعمارته جاز
صرفه لقائم بالوظائف التي يحتاج إليها المسجد من تنظيف وحفظ وفراش وفتح باب وإغلاقه ممن يجوز الصرف إليهم.
وعند الشيخ تقي الدين يجوز تغيير شرط واقف لما هو أصلح منه فلو وقف على فقهاء أو صوفية واحتيج للجهاد صرف للجند.
ووقف منقطع الإبتداء فقط كوقفه على من لا يجوز الوقف عليه كعلى عبده ثم ولده ثم الفقراء يصرف في الحال لمن بعده فتصرف لولده في الحال لما تقدم من أن وجود من لا يصح الوقف عليه كعدمه.
ويصرف منقطع الوسط كوقفه على زيد ثم عبده ثم على المساكين بعد انقطاع من يجوز الوقف عليه لمن بعد ما هو منقطع منه فيصرف بعد موت الولد إلى المساكين؛ لأن الواقف قصد صيرورة الوقف إلى الأوسط والآخر في الجملة ولا حالة يمكن انتظارها فوجب الصرف إليه لئلا يفوت غرض الواقف ولكيلا تبطل فائدة الصحة، ولأن وجود من لا يصح الوقف عليه كعدمه فيكون كأنه وقف على الجهة الصحيحة من غير ذكر الباطلة ولأننا لما صححنا الوقف مع ذكر من لا يجوز الوقف عليه فقد ألغيناه، فإنه يتعذر الصحيح مع اعتباره.
وإن وقف على من لا يصح الوقف عليه ولم يذكر له مآلاً صحيحًا كأن يقول وقفته على الأغنياء أو الذميين أو على الكنيسة ونحوها بطل الوقف؛ لأنه عين المصرف الباطل واقتصر إليه.
ويصرف منقطع الآخر كعلى زيد ثم عمرو ثم عبيده أو الكنيسة بعد من يجوز الوقف عليه إلى ورثته حين الإنقطاع نسبًا على قدر إرثهم وقفًا وكذا لو وقف على زيد ولم يزد عليه.
ويصرف ما وقفه وسكت إلى ورثته، كما لو قال: وقفت هذه الدار ولم
يسمّ مصرفًا صحيحًا؛ لأن مقتضى الوقف التأييد فيحمل على مقتضاه ولا يضر تركه ذكر مصرفه، ولأن الإطلاق إذا كان له عرف صح وحمل عليه وعرف المصرف هاهنا أولى الجهات به فكأنه عينهم بصرفه.
فيصرف ريعه إلى ورثة الواقف حين إنقطاع الوقف لا حين موته كما يفهم من «الرعاية» ؛ لأن حكمه حكم الوقف المنقطع الانتهاء نسبًا؛ لأن الوقف مصرفه البر وأقاربه أولى الناس ببره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة وبني عمه، متفق عليه؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم:«الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة» .
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» ، ولأنهم أول الناس بصدقاته النوافل والمفروضات فكذا صدقته المنقولة لا ولاء ولا نكاحًا؛ لعدم الإنتساب ويكون على قدر إرثهم من الوقف وقفًا عليهم فلا يملكون نقل الملك في رقبته، وعلم منه صحة الوقف وإن لم يعين له مصرفًا.
وعلى قوله إلى ورثته قال ابن نصر الله في «حواشي الفروع» : هل المراد ورثته حين موته أو حين إنقطاع الوقف وإذا صرف إليهم فماتوا فهل ينتقل إلى ورثتهم أم لا؟ فأما الأول ففي «الرعاية» ما يقتضي أن المراد ورثته حين إنقطاع الوقف؛ لأنه إلى ورثته إذًا أي حين الإنقطاع، وأما المسألة الثانية ففي «شرح الخرقي» للزركشي، وحيث قلنا يصرف إلى الأقارب فانقرضوا أو لم يوجد له قريب، فإنه يصرف إلى بيت المال؛ لأنه مال لا مستحق له نص عليه أحمد في رواية إبراهيم وأبي طالب وغيرهما، وقطع به أبو الخطاب وأبو البركات.
وقال ابن عقيل في «التذكرة» ، وصاحب «التلخيص» ، وأبو محمد: يرجع إلى
الفقراء والمساكين إذ القصد بالوقف الصدقة الدائمة، انتهى. ولم يذكر إذا مات بعض الورثة فهل يصرف إلى ورثة الواقف إذ ذاك وأنه إذا حدث للواقف وارث، فإنه يشارك الموجودين كما في نظائره، والله أعلم. ع ن.
والذي تميل إليه النفس قول من قال: إنه يرجع إلى الفقراء والمساكين إذ القصد بالوقوف الصدقة الدائمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويقسم بينهم على قدر إرثهم من الواقف فيستحقونه كالميراث ويقع الحجب بين ورثة الواقف فيه كوقوعه في إرث والغني والفقير في ذلك سواء لاستوائهم في القرابة.
قال القاضي: فلبنت مع ابن ثلث وله الباقي، والأخ لأم مع أخ لأب سدس وله ما بي وإن كان جد لأب وأخ لأبوين أو لأب يشتركان سوية ويقتسمان ريع الوقف المذكور كالميراث، ويأتي إن شاء الله في الجزء الذي بعد هذا في الفرائض الكلام على الجد والأخوة والخلاف والراجح، وإن كان أخ لغير أم انفرد به العم كالميراث، فإن عدموا بأن لم يكن لواقف ورثة النسب فمعروف وقفه للفقراء والمساكين وقفًا عليهم؛ لأن القصد بالوقف الثواب الجاري على وجه الدوام وإنما قدم الأقارب على المساكين لكونهم أولى، فإذا لم يكونوا فالمساكين أهل ذلك، فصرف إليهم، وقيل: يصرف في مصالح المسلمين فيرجع إلى بيت المال، والذي تطمئن إليه النفس القول الأول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومتى انقطعت الجهة الموقوف عليها والواقف حي بأن وقف على أولاده أو أولاد زيد فقط فانقرضوا في حياته رجع إليه وقفًا، وقيل: إنه لا يرجع إلى الواقف وقفًا لانقطاع الجهة الموقوف عليها.
والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال في «شرح المنتهى» : أي متى قلنا يرجع إلى أقارب الواقف وقفًا، وكان الواقف حيًا رجع إليه وقفًا، وكذا الوقف على أولاده وأنسالهم أبدًا على أنه من توفي منهم عن غير ولد رجع نصيبه إلى أقرب الناس إليه فتوفي أحد أولاده عن غير ولد والأب الواقف حي عاد نصيبه إليه لكونه أقرب الناس.
وقيل: إلى عصبته وذريته، والذي تميل إليه النفس القول الثاني أنه يعود إليه وقفًا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويعمل في وقف صحيح وسط فقط دون الإبتداء والآخر كما لو وقف داره على عبده ثم على زيد ثم على الكنيسة بالاعتبارين بأن يلغى ما عدا الوسط ويجعل كأنه جعل وقفه ما عدا الطرفين فيصرف في الحال لزيد ويرجع بعد زيد لورثة واقف نسبًا وقفًا على قدر إرثهم ثم على المساكين.
ولو وقف على زيد وعمر وبكر ثم على المساكين فمن مات منهم رجع نصيبه لمن بقي منهم؛ لأنه الموقوف عليه أولاً وعوده إلى المساكين مشروط بانقراضهم؛ لأن استحقاقهم مرتب بثم، فإن مات الثلاثة فللمساكين عملاً يشرطه.
وإن وقف على ثلاثة ولم يذكر الواقف مآلاً، بل سكت فمن مات منهم رجع نصيب ميت منهم لباق كالتي قبلها لا كمنقطع إذ احتمال الانقطاع في غاية البعد، قاله الشيخ تقي الدين.
وقيل: إذا وقف على ثلاثة ولم يذكر مآلاً فمن مات منهم فحكم نصيبه حكم المنقطع، فإذا مات الثلاثة جميعًا صرف كمنقطع لورثة الواقف نسبًا على قدر إرثهم وقفًا، فإن عدموا فللمساكين، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن وقف على أولاده وعلى المساكين فهو بين الجهتين نصفين يصرف لأولاده النصف وللمساكين النصف لاقتضاء الإضافة التسوية، وكذا لو وقف على مسجد معين أو وقف على مساجد معلومات وعلى إمام يصلي في المسجد أو يصلي في أحد المساجد فيكون ما وقفه بين الجهتين نصفين لانتفاء مقتضى التفاوت.
(42)
زوال ملك الواقف وإنتقاله وجناية الموقوت وزكاته
ونماؤه وتزويجه وأرش الجناية وعتق الرقيق الموقوف إلخ
س 42: متى يزول ملك الواقف فيما وقف على نحو مسجد؟ ومتى ينتقل فيما وقف على آدمي؟ وإذا جنى القن الموقوف فما الحكم؟ ومن الذي تلزمه فطرة القن الموقوف وزكاته، وهل يقطع بسرقة الموقوف، ولمن نماؤه، ونفعه، وهل يتزوج موقوف عليه أمة موقوفة عليه، وهل ينفسخ به نكاحها؟ وهل له ولاية تزويجها؟ ومتى يلزم الولي تزويجها؟ وما حكم ولدها مع شبهة، وعتق الرقيق الموقوف؟ وإذا قطع عضو من أعضاء موقوف فما الحكم؟ وأين مصرف أرش رقيق عفى عن الجناية، وإذا قتل عمدًا الرقيق، فماذا يجب؟ وما حكم العفو عنها؟ وإذا قتل قودًا فهل يبطل الوقف؟ وهل يبطل بالقطع؟ وكيف يتلقى الوقف كل بطن؟ وما الذي يترتب على ذلك؟ واذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح.
ج: يزول ملك الواقف فيما وقف على نحو مسجد كمدرسة ورباط وقنطرة وفقراء وغزاة، وكذا بقاع المساجد والمدارس والقناطر والسقايات وينتقل بمجرد وقف لله تعالى، قال الحارثي: بلا خلاف.
وينتقل الملك فيما وقف على آدمي معين كزيد وعمرو له وعلى جمع محصور كأولاده وأولاد زيد للمحصور؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة فملكه المنتقل إليه كالهبة وفارق العتق من حيث أنه إخراج عن حكم المالية، ولأنه لو كان تمليكًا للمنفعة المجردة لم يلزم كالعارية والسكنى.
وقال أحمد: من وقف على ورثته في مرضه يجوز؛ لأنه لا يباع ولا يورث ولا يصير ملكًا للورثة يحتمل أنه أراد أنهم لا يملكون التصرف في الرقبة جمعًا بين قوليه لا يقال عدم ملكه التصرف فيها يدل على عدم ملكه لها؛ لأنه ليس بلازم بدليل أم الولد، فإنه يملكها ولا يملك التصرف في رقبتها.
فينظر في الوقف الموقوف عليه إن كان مكلفًا رشيدًا، قال ابن رجب: قال في «الإنصاف» : هذا المذهب بلا ريب أو ينظر فيه وليه إن كان الموقوف عليه صغيرًا أو مجنونًا أو سفيهًا حيث لا ناظر بشرط يأتي في الكلام على الناظر.
ولو كان الموقوف أرضًا على معين وقلنا إنه يملك الوقف فغصبها إنسان وزرعها وأدركها من وقفت عليه والزرع قائم فإنه يتملك زرع غاصب بنفقته وهي مثل بذره وعوض لواحقه كمالك الأرض المطلق.
ويلزم الموقوف عليه المعين أرش جناية خطأ الموقوف إن كان قنًا كما يلزم سيد أم الولد فداؤها ولا يتعلق الأرش برقبته؛ لأنه لا يمكن تسليمه كأم الولد ولا يلزم الموقوف عليه أكثر من قيمته، بل يفديه بالأقل من أرش الجناية أو قيمته، وفي «الغاية وشرحها»: ويتجه أنه لا يلزم الموقوف عليه عمده أي ما جناه القن الموقوف عمدًا، وإن الموقوف عليه له تسليم القن الجاني عمدًا لولي الجناية الموجبة للقصاص؛ لعموم قوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، لقتل إن اختاره الولي لوجوبه بالجناية سواء كانت الجناية على الموقوف
عليه أو على غيره، وللموقوف عليه تسليم الجاني ليتملكه ولي الجناية بدل ملكه الذي فوته عليه بجنايته، لكن التسليم للتمليك تأباه القواعد لخروجه عن التأبيد الذي هو أعظم المقاصد وإن عفا ولي الجناية على مال، فعلى الموقوف عليه المعين أقل أمرين كما سبق. اهـ.
وقيل: إن جنى الوقف خطأ فالأرش يكون في كسبه إذا كان الموقوف عليه معينًا؛ لأنه ليس له مستحق معين ولا يمكن تعلقها برقبته، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويلزم موقوفًا عليه فطرة القن الموقوف، وكذا لو اشترى عبدًا من غلة الوقف لخدمة الوقف، فإن الفطرة تجب قولاً واحد التمام التصرف فيه.
قال أبو المعالي: ويلزم موقوفًا عليه زكاته لو كان إبلاً أو بقرًا أو غنمًا سائمة على ظاهر كلام الإمام أحمد، واختيار القاضي في التعليق والمجد وغيرهما.
قال الناظم: لكن يخرج من غيرها، وقدمه الزركشي، وتقدم في الزكاة بأتم من هذا، وتقدم أيضًا تجب الزكاة في غلة شجر وأرض موقوفة على معين بشرطه.
ويخرج من عين ثمر وزرع؛ لأنه ملك الموقوف عليه.
ويقطع سارق الموقوف وسارق نمائه إذا كان على معين ولا شبهة للسارق لتمام الملك فيه، قال في «الشرح»: فيستوفيه بنفسه وبالإجارة والإعارة ونحوها إلا أن عين في الوقف غير ذلك.
وللموقوف عليه المعين نفع الموقوف بإستعماله، وله نماؤه وغلته بلا نزاع.
وجناية موقوف على غير آدمي معين كعبد موقوف على مسجد أو على
المساكين إذا جنى فأرش جنايته في كسبه؛ لأن ليس له مستحق معين يمكن إيجاب الأرش عليه ولا يمكن تعلقها في رقبته فتعين في كسبه.
ولا يتزوج موقوف عليه أمة موقوفة عليه؛ لأن الملك لا يجامع النكاح وينفسخ بوقفها عليه نكاحها للملك ولا يطأ لأمة الموقوفة ولو أذن في وطئها واقف؛ لأن ملكه ناقص ولا يمكن منع حبلها فتنقص أو تتلف أو تخرج من الوقف بأن تبقى أم ولد.
وللموقوف عليه ولاية تزويجها لملكه لها ويلزم الولي تزويجها إن طلبت صيانة لها عن الوقوف في المحرم إن لم يشرط واقف ولاية التزويج لغير الموقوف عليه ولموقوف عليه الأمة أخذ مهرها إن زوجها هو أو غيره ولو كان المهر لوطء شبهة؛ لأنه بدل المنفعة وهو يستحقها كالأجرة.
وكالصوف واللبن والثمرة، وسواء كان الواطئ الواقف أو غيره وهذه كلها فوائد القول بأنه يملكها وكذا النفقة عليه وولد الموقوفة من وطء مع شبهة بنحو زوجة حرة كبأمته ولو كان الواطئ من قن اشتبهت عليه بمن ولده منها حر لاعتقاده حريته.
وعلى واطيء قيمة الولد لتفويته عليه رقه بإعتقاده حريته يوم وضعه حيًا تصرف قيمته في شراء مثله يكون وقفًا مكانه؛ لأن القيمة بدل عن الوقف فوجب أن ترد في مثله وتصير الموقوفة أم ولده؛ لأنه أحبلها بحر في ملكه وولد من زوج، ولا شرط حريته أو من زنا وقف معها هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، قاله في «شرح الغاية» ، وقال في «شرحها»: لأن ولد كل ذات رحم حكمه حكمها كأم الولد والكسب ما لم يعرض لذلك ما يمنعه كالشبهة واشتراط زوج الأمة على سيدها عند تزويجها حرية ولدها ونحوهما، قاله في «شرح المنتهى» .
ونظر البهوتي في شرحه عليه وعلله بأن الموقوف عليه لا يملك عتقه بالتصريح فلا يملك شرطه، انتهى مع أن عبارة شارك «المنتهى» لا تؤدي ما فهم منها إذ ما ذكروه بيان لأصل المسألة وإيضاح لأصل القاعدة من أن ولد كل ذات رحم حكمه حكمها فاستثنى من القاعدة الشبهة واشتراط الحرية ولابد في الشبهة من كونها اشتبهت بمن ولدها منه حر ولو كان الواطيء رقيقًا، فمن أمعن النظر ظهر له الحق.
وحيث قلنا أن الموقوف عليه يملك الموقوفة فوطئها، فإنه لا حد عليه للشبهة ولا مهر عليه بوطئه إياها؛ لأنه لو وجب لوجب له ولا يجب للإنسان شيء على نفسه.
وولد الموقوف عليه من الموقوفة حر للشبهة وعلى الواطيء قيمة الولد يوم وضعه حيًا تصرف في مثله؛ لأنه فوت رقه على من يؤول الوقف عليه بعده، ولأن القيمة بدل عن الوقف فوجب أن ترد في مثله.
وتعتق المستولدة ممن هي وقف عليه بموته؛ لأنها صارت أم ولده لولادتها منه وهو مالكها وواطيء الأمة الموقوفة عليه لا يزول ملكه عنها باستيلاده إياها ما دام حيًا مع بقاء تحريمها عليه وكونها صارت أم ولده لا يباح له وطؤها لنقص ملكه، ولأنه ممنوع من وطئها إبتداء فمنع منه دوامًا.
ويجب قيمتها في تركته إن كانت؛ لأنه أتلفها على من بعده من البطون يشتري بقيمتها مثلها ويشتري بقيمة وجبت بتلفها أو تلف بعضها مثلها يكون وقفًا مكانها لينجبر على ذلك البطن ما فاتهم أو يشتري بذلك منقص من أمه إن تعذر شراء أمة كاملة يصير ما يشتري بالقيمة أو بعضها وقفًا بمجرد الشراء كبدل أضحية.
ولا يصح عتق رقيق موقوف بحال لتعلق حق من يؤول الوقف به، ولأن الوقف عقد لازم لا يمكن إبطاله، وفي القول بنفوذ عتقه إبطال له وإن كان بعضه غير موقوف فأعتقه مالكه صح فيه ولم يسر إلى البعض الموقوف؛ لأنه إذا لم يعتق بالمباشرة فلان لا يعتق بالسراية أولى غير قن مكاتب وقفه سيده بعد مكاتبته وأدى ما عليه من مال الكتابة.
وقيل: لا يصح وقف المكاتب؛ لأن الوقف يجب أن يكون مستقرًا والوقف فيه غير مستقر، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويملك الموقوف عليه الوقف إذا كان الموقوف عليه آدميًا معينًا أو جمعًا محصورًا؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة فملكه المنتقل إليه كالهبة وفارق العتق من حيث أنه أخرج عن حكم المالية، ولأنه لو كان تمليكًا للمنفعة المجردة لم يلزم كالعارية والسكنى، وقيل: لا يملكه، بل ينتقل إلى الله ويكون ملكًا لله؛ لأنه حبس عين وتسبيل منفعة على وجه القربة، فأزال الملك إلى الله تعالى كالعتق، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن قطع عضوًا من أعضاء موقوف كيده ونحوها عمدًا فللقن الموقوف القود؛ لأنه حقه لا يشرك فيه أحد وإن عفى الرقيق الموقوف عن الجناية عليه أو كان القطع أو الجرح لا يوجب قودًا؛ لعدم المكافأة أو كونه خطأ أو جائفة ونحوه فأرشه يصرف في مثل المجني عليه إن أمكن وإلا اشترى به شقص من مثله؛ لأنه بدل عن بعض الوقف، فوجب أن يرد في مثله.
قال الحارثي: اعتبار المثلية في البدل المشتري بمعنى وجوب الذكر في الذكر والأنثى بالأنثى والكبير بالكبير وسائر الأوصاف التي تتفاوت
الأعيان بتفاوتها لاسيما الصناعة المقصودة في الوقف، والدليل على الاعتبار أن الغرض جبران ما فات ولا يحصل بدون ذلك.
وإن قتل رقيق موقوف عبدًا أو أمة ولو كان قتله عمدًا محضًا من مكافيء له، فالواجب بذلك قيمته دون القصاص؛ لأن الموقوف عليه لا يختص به فلم يجز أن يقتص من قاتله كالعبد المشترك.
ولا يصح عفو الموقوف عليه عن قيمة المقتول، ولو قلنا أنه يملكه؛ لأن ملكه لا يختص به لتعلق حق البطن الثاني به تعلقًا لا يجوز إبطاله ولا يعلم قدر ما يستحقه هذا منه فيعفو عنه.
وإن قتل الموقوف قودًا بأن قتل مكافئًا له عمدًا فقتله ولي المقتول قصاصًا بطل الوقف كما لو مات حتف أنفه ولا يبطل الوقف إن قطع عضوًا منه قصاصًا كما لو سقط بآكلة.
ويتلقى الموقوف عليهم الوقف كل بطن منهم عن واقفه لا من البطن الذي قبله، قال القاضي في «المجرد» ، وابن عقيل في «الفصول» ، والموفق في «المغني» ، وابن رجب في «القواعد الفقهية» ، وصححه الطوفي في «قواعده»: لأن الوقف صادر على جميع أهل الوقف من حينه فمن وقف شيئًا على أولاده ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم ما تناسلوا كان الوقف على جميع نسله إلا أن استحقاق كل طبقة مشروط بانقراض من فوقها، قال في «المغني»: وإن رتب، فقال: وقفت هذا على ولدي وولد ولدي ما تناسلوا أو تعاقبوا الأعلى فالأعلى أو الأقرب فالأقرب أو الأول فالأول أو البطن الأول ثم البطن الثاني.
أو على أولادي ثم أولاد أولادي أو على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولاد أولادي فكل هذا على الترتيب ويكون على ما شرط ولا يستحق البطن الثاني شيئًا حتى ينقرض البطن الأول كله ولو بقي واحد من البطن الأول
كان الجميع له؛ لأن الوقف ثبت بقوله فينبع فيه مقتضى كلامه.
وإن قال على أولادي وأولادهم ما تعاقبوا وتناسلوا على أنه من مات منهم عن ولد كان ما كان جاريًا عليه جاريًا على ولده كان ذلك دليلاً على الترتيب؛ لأنه لو اقتضى التشريك لاقتضى التسوية ولو جعلنا لولد الولد سهمًا مثل أبيه ثم دفعنا إليه سهم أبيه صار له سهمان ولغيره سهم.
وهذا ينافي التسوية، ولأنه يفضي إلى تفضيل ولد الغبن الإبن على الإبن والظاهر من إرادة الواقف خلاف هذا، فإذا ثبت الترتيب، فإنه ترتيب بين كل والد وولده، فإذا مات عن ولد انتقل إلى ولده سهمه سواء بقي من البطن الأول أحد أو لم يبق.
فإذا امتنع البطن الأول حال استحقاقهم من اليمين مع الشاهد لهم بالوقف لثبوت وقفه فلمن بعده من البطون ولو قبل استحقاقهم الوقف الحلف مع الشاهد بالوقف لثبوته؛ لأنه موقوف عليه.
وعلم منه أنهم لا يستحقونه بالحلف، بل عد إنقراض من قبلهم، ففائدة ذلك عدم صحة تصرف من بيده الوقف فيه ببيع ونحوه وحيث ثبت الوقف بالحلف المذكور، فإن الريع يكون للبطن الأول؛ لأن يدخل في ملكهم قهرًا كالإرث.
(43)
ما يرجع به عند التنازع في شيء من أمر الوقف وما يرجع إليه وما يتعلق بالشرط في الوقف وبيان التخصيص وإدخال شيء أو إخراجه وحكم تغيير الشرط وما قال الشيخ تقي الدين حول ذلك
س 43: إلى أي شيء يرجع عند التنازع في شيء أمر الوقف الذي يملكه الإنسان والذي تحت يده ولا يملكه؟ وهل الإستثناء كالشرط؟
وما الذي مثل الشرط؟ وما حكم العمل بالشرط؟ ومتى يجب الرجوع إلى الشرط الذي شرطه الواقف؟ وفي أي شيء يرجع؟ وما صفة التساوي؟ وما صفة التفضيل؟ وإذا خرج الواقف شيئًا أو أدخله فهل يعمل بذلك، واذكر أمثلة للصفات التي يستحق بها، وما حكم تغيير الشرط وإذا خصص مدرسة أو مقبرة أو إمامتها بأهل مذهب فما الحكم؟ وإذا شرط أن لا ينتفع بالوقف أو خصص إمامة بذي مذهب مخالف، وما معنى قول العلماء نصوص الواقف كنصوص الشارع؟ واذكر الدليل والتعليل والتفصيل والمحترز والقيد والخلاف والترجيح.
ج: يرجع عند التنازع في شيء من أمر الوقف وجوبًا لشرط واقف كقوه شرطت لزيد كذا ولعمر وكذا؛ لأن عمر شرط في وقفه شروطًا، ولو لم يجب إتباع شرطه لم يكن في إشتراطه فائدة، ولأن ابن الزبير وقف على ولده وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها فإذا استغنت بزوج فلا حق لها فيه، ولأن الوقف متلقى من جهته فاتبع شرطه.
ولو كان الشرط مباحًا كشرطه الدار الموقوفة أن تكون للسكنى دون الإستغلال، فإنه يجب إعتباره في كلام الواقف، وأما وقف الدار عند الإطلاق، فقيل: يحمل على الإستغلال لا على السكنى، قال في «النظم الوهباني»:
ومن وقفت دار عليه فما له
…
سوى الأجر والسكنى بها لا تقرر
ولا يعمل بمكروه كشرطه أن لا يصلي في مسجد بناه إلا طائفة كذا.
وفي «الغاية وشرحها» : ويتجه أنه يعتبر هذا الشرط ويرجع إليه وجوبًا إذا وقف الإنسان وقفًا يملكه بنوع من أنواع التملكات الصحيحة، والقول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فأما وقف الأمراء والسلاطين فلا يتبع شروطهم؛ لأنهم لا ملك لهم إذ ما بأيديهم إما مجتمع من المظالم أو من الغنائم أو من الجزية أو من مال لا وارث له ونحو ذلك.
وعلى كل حال ليس لهم مما بأيديهم شيء، وإنما هو للمسلمين يصرف في المصالح العامة فلو اشتروا مما بأيديهم شيء عقارات ووقفوها وشرطوا في أوقافهم شروطًا، فلا تجب العمل بها، فمن كان له حق في بيت المال ومنع منه فله أن يتناول من أوقافهم كفايته ولو لم يعمل مما شرطوه إلا أن كان فيما شرطوه مصلحة للمسلمين كمدرس كذا من العلوم النافعة وطالب كذا منها كذلك، وكشرطهم إن مات عن ولد والولد في مرتبة والده بأن يكون فيه أهلية للقيام بوظيفة أبيه، فالوظيفة له لاستحقاقه إياها.
ففي هذا كله يجب العمل بشروطهم إذ في العمل بها مصلحة للمسلمين فيجب العمل بها، ولا يجب العمل بشرطهم إذا شرطوا أن وظيفة الوالد لولده وإن لم يكن مثل والداه؛ لأن ذلك رفع الشيء لغير أهله ووضعه في غير محله أو شرط لأحدهم أن يدفع كذا من ريع وقفه لمن يقرأ الدرس من العلوم النافعة كالفقه والتفسير والتوحيد والحديث والفرائض والعربية في مدرسته، فلا يتعين عليه فعله في تلك المدرسة، بل عليه أن يقرأ الدرس المشروط في أي موضع كان عملاً بشرط الواقف في الجملة.
ومثل شرط صريح في حكم وجوب الرجوع إليه استثناه، قال في «الإنصاف»: والإستثناء كالشرط على الصحيح من المذهب نص عليه، انتهى فيرجع إليه.
فلو وقف على أولاده وأولاد زيد أو قبيلة كذا إلا بكرًا لم يكن له شيء.
ومثل الشرط مخصص من صفة كما لو وقفه على أولاده الفقهاء أو
المشتغلين بالعلم، فإنه يختص بهم فلا يشاركهم من سواهم وإلا لما كان لتخصيصه فائدة.
ومثل الشرط في حكم الرجوع إليه مخصص من عطف بيان؛ لأنه مشبه بالصفة في إيضاح متنوعه وعدم إستقلاله، فمن وقف على ولده أبي محمد عبد الله، وفي أولاده ومن كنيته أبو محمد غيره اختص به عبد الله.
ومثله في حكم أيضًا مخصص من توكيد كما لو وقف على أولاد زيد نفسه فلا يدخل أولاد أولاده.
وكذا مخصص من بدل كمن له أربعة أولاد، وقال: وقفت على ولدي فلان وفلان وفلان وعلى أولاد أولادي، فإن الوقف يكون على أولاده الثلاثة وأولاده الأربعة؛ لأنه أبذل بعض الولد وهو فلان وفلان وفلان من اللفظ المتناول للجميع وهو ولدي، فاختص بالبعض المبدل؛ لأنه المقصود بالحكم، كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} لما خص المستطيع بالذكر اختص الوجوب به.
ولو قال: ضربت زيدًا رأسه ورأيت زيدًا وجهه اختص الضرب بالرأس والرؤية في الوجه، قال في «المغني»: ومنه قوله تعالى: {وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} وقول القائل: طرحت الثياب بعضها فوق بعضها، فإن الفوقية تختص بالبعض مع عموم اللفظ الأول كذا هاهنا.
ولو قال: وقفت على ولدي فلان وفلان ثم الفقراء لا يشمل ولد ولده ونحو ما تقدم تقديم الخبر، كقوله: وقفت داري على أولادي والساكن منهم عند حاجته بلا أجرة فلان، وكذا مخصص من جار ومجرور نحو وقفت هذا على أنه من اشتغل بالعلم من أولادي صرف إليه.
وكذا إن قال: وقفته بشرط أنه من تأدب بالآداب الشرعية صرف إليه
ونحوه فيرجع إلى ذلك كله كالشرط فلو تعقب الشرط ونحوه جملاً عاد الشرط ونحوه إلى جميع الجمل.
وكذا الصفة إذا تعقبت جملاً عادت إلى الكل.
قال في «القواعد الأصولية» : في عود الصفة للكل لا فرق بين أن تكون متقدمة أو متأخرة.
وقال الشيخ تقي الدين: موجب ما ذكره أصحابنا في عود الشرط ونحوه للكل؛ لأنه لا فرق بين العطف بالواو وبالفاء أو بثم على عموم كلامهم.
ويجب العمل بالشرط في عدم إيجار الوقف أو قدر مدة الإيجار، فإن شرط أن لا يؤجر أكثر من سنة لم تجز بالزيادة عليها، لكن عند الضرورة يزاد بحسبها ولم يزل عمل القضاة عليه من أزمنة متطاولة.
وقال الشيخ تقي الدين: والشروط إنما يلزم الوفاء بها إذا لم تفض الإخلال إلى المقصود الشرعي.
وقال رحمه الله: قاعدة فيما يشترط الناس في الوقف، فإن فيها ما فيه عوض دنيوي وأخرون وما ليس كذلك، وفي بعضها تشديد على الموقوف عليه.
فنقول: الأعمال المشروطة في الوقف على الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين والمشتغلين بالعلم من القرآن والحديث والفقه ونحو ذلك أو بالعبادات أو بالجهاد في سبيل الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: عمل يتقرب به إلى الله وهو الواجبات والمستحبات التي رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وحض على تحصيلها، فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به ويقف إستحقاق الوقف على حصوله في الجملة.
والثاني: عمل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه، فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء لما قد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب على منبره، فقال:«ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله! من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل» ، وإن كان مائة شرط، وكذا ما كان من الشروط مستلزمًا وجود ما نهى عنه الشارع فهو بمنزلة ما نهى عنه.
وما علم أنه نهى عنه ببعض الأدلة الشرعية فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه، ومن هذا الباب أن يكون العمل المشترط ليس محرمًا في نفسه؛ لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به.
ومثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته، وهذا مكروه في الشريعة مما أحدثه الناس أو يشترط على الفقهاء إعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسُّنة أو بعض الأقوال المحرمة أو يشترط على الإمام أو المؤذن ترك بعض سنن الصلاة والأذان أو فعل بعض بدعهما مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل أو أن يصل الأذان بذكر غير مشروع أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة أو المسجد مع إقامة المسلمين لها على سُّنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا الباب أن يشترط عليهم أن يصلوا وحدانًا ومما يلحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزمًا ترك ما ندب إليه الشارع مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة أو جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم، فإن هذا دعا إلى ترك الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله فلا يلتفت إلى مثل هذا.
القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشرع ولا مستحب، بل هو مباح مستوى الطرفين، فهذا قول بعض العلماء بوجوب الوفاء به والجمهور من
العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أن شرطه باطل، فلا يصح عندهم إلا ما كان قربة إلى الله تعالى، وذلك لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما فيه منفعة في الدين أو الدنيا فما دام الإنسان حيًا فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة؛ لأنه ينتفع بذلك.
فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعض صالح قد أمر به أو أعان عليه أو أهدي إليه ونحو ذلك، فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله فلا ينتفع بها الميت بحال، انتهى من «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» .
وقال المصنف: لذلك وأنه يجب العمل بالشرط إن لم يحتج إلى زيادة على القدر المشروط، أما إذا احتيج بأن تعطلت منافع الموقوف ولم يمكن تعميره إلا بذلك جاز.
وإن تعذر عقود حيث احتيج إليه كعقد واحد حتى لو شرط أن لا يؤجر أبدًا واحتاج الوقف إلى الإجازة فللناظر أن يؤجره وهو أولى من بيعه وقد أفتى به المرداوي وغيره ولم تزل علماؤنا تفتي به وهو أولى من بيعه ولا تجوز المحافظة على بعضها مع فوات المقصود بها ويأتي.
وقال في «شرح الوجيز» : إن كان الوقف يحتاج إلى عمارة لا تحصل إلا بأن يزاد على المدة المشروطة مدة أخرى جاز أن يزاد عليها بقدر ما يحتاج إليه فقط ككون العمارة تحتاج إلى إستلاف دراهم، ولم يحصل من يسلفهم إلا من يستأجر أكثر من هذه المدة وأن تكون عمارته من الخراب ليعمر بما يحصل من الأجرة لا تمكن إلا مع الزيادة، فإنه يجوز أن يزاد بقدر الحاجة، فإن عمارة الوقف واجبة وما لا يتم الواجب إلا به فلابد من فعله، وهذا واجب بالشرع، انتهى.
ويجب الرجوع إلى شرط الواقف في قسمة الوقف على الموقوف عليهم
بمعنى أنه يرجع إلى شرط بتقدير الإستحقاق من تساو أو تفضيل كعلى أن للأنثى سهم وللذكر سهمين، أو على أن للمؤذن كذا، وللإمام كذا وللخطيب كذا، وللمعلم كذا أو نحوه.
ويرجع أيضًا إلى شرطه في تقديم بعض أهل الوقف كقوله: وقفت هذا على زيد وعمرو وبكر ويبدأ بالدفع لزيد بكذا أو وقفت على طائفة كذا ويبدأ بنحو الأصلح كالأفقه أو الأدين أو المريض أو الفقير.
ويرجع أيضًا إلى شرطه في تأخير وهو عكس التقديم كقوله: يعطي منه أولاً ما سوى كذا، ثم ما فضل لفلان فليس للمؤخر إلا ما فضل، فإن لم يفضل شيء يسقط.
ويرجع أيضًا إلى شرطه في جمع كجعل الاستحقاق مشتركًا في حالة واحدة كأن يقف على أولاده وأولادهم.
ويرجع أيضًا إلى شرطه في ترتيب كجعل إستحقاق بطن مرتبًا على الآخر كأن يقف على أولاده ثم أولادهم، فالتقديم بقاء الاستحقاق للمؤخر على صفة أن له ما فضل عن المقدم وإلا بأن لم يفضل عن المقدم شيء سقط المؤخر، والمراد إذا كان للمقدم شيء مقدر كمائة مثلاً فحينئذ إن كانت الغلة وافرة حصل بعد المقدر للمقدم فضل فيأخذه المؤخر وغلا بأن كانت الغلة غير وافرة فلا يفضل بعده فضل، فلا شيء للمؤخر.
والترتيب عدم إستحقاق المؤخر مع وجود المقدم فضل عنه شيء أولاً.
والتساوي جعل ريع بين أهل وقف متساويًا كقوله: وقفت على جميع أولادي يقسم بينهم بالسوية.
والتفضيل جعل الريع متفاوتًا كقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} ونحوه والتسوية والتفضيل هو معنى قوله في قسمته، ويرجع إلى شرطه في إخراج من
شاء من أهل الوقف مطلقًا أو بصفة كإخراج من تزوجت من البنات ونحوه.
وإدخال من شاء من أهل الوقف مطلقًا كوقف على أولادي أخرج من أشأ منهم وأدخل من أشأ منهم.
أو بصفة كصفة فقر أو اشتغال بعلم؛ لأن ليس بإخراج للموقوف عليه من الوقف، وإنما علق الإستحقاق بصفة فكأنه جعل له حقًا في الوقف إذا اتصف بإرادته أعطاه ولم يجعل له حقًا إذا اتفقت تلك الصفة فيه.
وليس هو تعليق للوقف بصفة، بل وقف مطلق والإستحقاق له صفة.
ولا فرق بين أن يشترط الواقف ذلك لنفسه أو للناظر وفرضها في «الشرح» وغيره، فيما إذا اشترطه للناظر بعده، لكن التعليل يقتضي التعميم.
ووقف على زوجته ما دامت عازبة ومتى تزوجت فلا حق لها أو وقف على أولاده وشرط أن من تزوج من بناته فلا حق لها لما تقدم عن ابن الزبير، ومعنى الإخراج والإدخال بصفة جعل الإستحقاق والحرمان مرتبًا على وصف مشترط فمن اتصف بصفة من صفات الإستحقاق استحق ما شرط له.
فإن زالت تلك الصفة زال استحقاقه، فإن عادت الصفة عاد استحقاقه.
ولا يصح الوقف إن شرط فيه إدخال من شاء من غير أهل الوقف وإخراج من شاء منهم؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف فأفسده، قاله الموفق ومن تابعه كشرط الواقف تغيير شرط، فلا يصح ويبطل به وقف وظاهره سواء شرط ذلك لنفسه أو للناظر بعده؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف فأفسده كما لو شرط أن لا ينتفع به بخلاف إدخال من شاء منهم وإخراجه وتقدم تعليله.
ويرجع إلى شرط واقفه في ناظر الوقف؛ لأن عمر جعل وقفه إلى ابنته حفصة ثم يليه ذو الرأي من أهلها، ولأن مصرف الوقف يتبع فيه شرط واقفه، فكذا في ناظره، وفي إنفاق عليه إذا خرب وإذا كان حيوانًا بأن يقول: ينفق عليه أو يعمر من جهة كذا، وفي سائر أحواله؛ لأنه ثبت بوقفه فوجب أن يتبع فيه شرطه كما لو شرط أن لا ينزل فيه فاسق ولا شرير ولا متجوه ونحو كذي بدعة فيعمل به.
قلت: وكذا لو شرط الموقف أن لا ينزل فيه مصور أو معلم التصوير أو حلاق اللحى أو بائع آلات اللهو كالسينما والتلفزيون والراديو والشيش المعدة للدخان، وبائع الصور لذوات الأرواح مجسدة أو غير مجسدة وبائع المجلات الخليعة والكتب المضلة ومصلح آلات اللهو من بكمات وسينمات وتلفزيونات ونحو ذلك، فيحرم تأجيرهم وتسكينهم.
وكذا لو شرط أن لا ينزل فيه من لا يصلي الجماعة ممن تجب عليه أو لا يشهد الجمعة وهو ممن يجب عليه حضورها، وكذا لو شرط أن لا ينزل فيه من يبيع الرؤوس الصناعية أو يصلح التواليتات أو الخنافس أو يتعاطى بالتأمين على الأموال أو الأنفس، وتقدم حكم التأمين في الجزء الخامس (ص 338).
وكذا لو شرط أن لا يسكنه من نساؤه سافرات أو مغنيات أو مطربات فيجب العمل ويحرم تأجيرهم وتسكينهم؛ لأن ذلك إعانة على هذا المنكر وتحرم إعانة صاحب المعصية، قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
وكذا لو شرط أن لا ينزل فيه من يعمل للدعايات المحرمة في اللوحات والأوراق ونحوها، وكذا لو شرط أن لا ينزل فيه من لا يصلي أبدًا فيجب العمل بذلك كله، وكذا لو شرط أن لا ينزل فيه من يبيع الدخان أو يشربه
أو يبيع طفاياته أو يورده أو ينقله أو لا ينزل فيه بائع آلات التصوير أو أدوات الملاهي.
أو لا يسكن فيه من يعمل للدعايات المحرمة أو يعلم التصوير لذوات الأرواح أو لا ينزل فيه من يحلق لحيته أو يقصها أو ينتفها أو منهم بلواط أو زنا فيجب العمل بذلك كله، ويحرم تسكينهم وتأجيرهم.
وكذا لو شرط أن لا ينزل فيه لاعبي الكرة أو من يبيعها لما فيها من المضار للدين والدنيا والبدن ومن إلهاء عن الصلاة وضياع وقتها وسب وقذف، ونحو ذلك فيجب العمل بذلك، نسأل الله العصمة لنا ولإخواننا المسلمين من هذه المنكرات المفسدات للأخلاق والأديان والأبدان.
وقال الشيخ تقي الدين: الجهات الدينية كالخوانك والمدارس وغيرها لا يجوز أن ينزل فيها فاسق بقول أو فعل، سواء كان فسقه بظلمة الخلق وتعديه عليهم بقوله من نحو سب أو ضرب أو كان فسقه بتعديه حقوق الله يعني ولو لم يشرطه الواقف؛ لأنه يجب الإنكار عليه وعقوبته فكيف ينزل.
وما قاله الشيخ تقي الدين صحيح موافق للقواعد، قال الحارثي: الشرط المباح الذي لا يظهر قصد القربة منه هل يجب إعتباره ظاهر كلام الأصحاب، والمعروف عن المذهب الوجوب وهو مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم واستدل له إلى أن قال: ولا يلزم من انتفاء جعل المباح جهة للوقف إنتفاء جعله شرطًا فيه؛ لأن جعله أصلاً في الجهة مخل بالمقصود وهو القربة وجعله شرطًا لا يخل به، فإن الشرط إنما يفيد تخصيص البعض بالعطية، وذلك لا يرفع أصل القربة وأيضًا فإنه من قبيل التوابع والشيء قد يثبت له حال تبعيته ما لا يثبت له حال أصالته.
وإن خصص الواقف مقبرة أو رباطًا أو مدرسة أو خصص إمامتها أو
خصص خطابتها بأهل بلد أو قبيلة مستقيمين على الإسلام تخصصت بها أعمالاً للشرط إلا أن يقع الاختصاص بنحلة بدعة.
ولا يصح شرط واقف المدرسة ونحوه تخصيص المصلين بها بذي مذهب، فلا تختص بهم؛ لأن إثبات المسجدية يقتضي عدم الاختصاص كما في «التحرير» فاشتراط التخصيص ينافيه، ولغيرهم الصلاة بها لعدم التزاحم بها ولو وقع وهو أفضل؛ لأن الجماعة تراد له.
ولا يصح تخصيص الإمامة بذي مذهب مخالف لصريح أو ظاهر السنة سواء كن خلفه لعدم الإطلاع عليها أو لتأويل ضعيف إذ لا يجوز إشتراط مثل هذا، قاله الحارثي.
ولا يصح شرط واقف أن لا ينتفع بالوقف أو شرطه عدم إستحقاق مرتكب الخير لشيء من ريع الوقف؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف.
قال الشيخ تقي الدين: قول الفقهاء نصوص الوقف كنصوص الشارع، يعني في الفهم والدلالة على المراد الواقف لا في وجوب العمل بها أي أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه، فكما يعرف العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظ الشارع، فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف مع أن التحقيق أن لفظ الواقف ولفظ الموصى والحالف والناذر وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها سواء وافقت لغة العرب أو لغة الشارع.
وأما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا كفر بإتفاق المسلمين إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشروط إن وافقت
كتاب الله كانت صحيحة وإن خالفت فباطلة.
وقال: ولا خلاف أن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي، ونحو ذلك لم يصح وقفه، والخلاف الذي بينهم في المباحات كما لو وقف على الأغنياء، ولا يجوز إعتقاد غير المشروع مشروعًا وقربة وطاعة واتخاذه دينًا.
وقال: الشروط إنما يلزم الوفاء بها إذا لم تقض إلا الإخلال بالمقصود الشرعي، ولا يجوز المحافظة على بعضها مع فوات المقصود الشرعي بها.
وقال ابن القيم رحمه الله: والصواب الذي لا تسوغ الشريعة غيره عرض شرط الواقفين على كتاب الله سبحانه وعلى شرطه فما وافق كتاب الله وشرطه فهو صحيح، وما خالفه كان شرطًا باطلاً مردودًا ولو كان مائة شرط.
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: فمن شرط في القربات أن يقدم فيها الصنف المفضول فقد شرط خلاف شرط الله كشرطه في الإمامة تقديمة غير الأعلم، وقال أيضًا: إن نزل مستحق تنزيلاً شرعيًا لم يجز صرفه عما نزل فيه بلا موجب شرعي؛ لأنه نقض للاجتهاد بالاجتهاد.
وقال: كل متصرف بولاية إذا قيل يفعل ما يشاء، فإنما هو إذا كان فعله لمصلحة شرعية حتى لو صرح واقف بفعل ما يهواه الناظر أو ما يراه فشرط باطل لمخالفته الشرعي وغايته أن يكون مباحًا وهو باطل على الصحيح المشهور حتى لو تساوى فعلان عمل بالقرعة.
وقال: الشرط المكروه باطل إتفاقًا، وعند الشيخ إنما يلزم العمل بشرط مستحق، قال: وعلى الناظر بيان المصلحة أي التثبت والتحري فيها بدليل قوله، فيعمل بما ظهر له أنه مصلحة ومع الإشتباه إن كن الناظر عالمًا عادلاً ساغ له إجتهاده.
وقال: لو شرط الصلوات الخمس على أهل مدرسة بالقدس بها كان أفضل لأهلها صلاة الخمس بالمسجد الأقصى، ولا يقف استحقاقهم على الصلاة بالمدرسة، وكان يفتي به ابن عبد السلام وغيره.
وقال: إذا شرط في استحقاق ربع الوقف العزوبة، فالمتأهل أحق من المتعزب إذا استويا في سائر الصفات.
وقال: إذا وقف على الفقراء، فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة، وإذا قدر وجود فقير مضطر كان دفع ضرورته واجبًا، وإذا لم تندفع ضرورته إلا بتنقيص كفاية أقارب الواقف من غير ضرورة تحصل لهم تعين ذلك.
وقال في وقف مدرسة: شرط أن لا يصرف ريعها لمن له وظيفة بجامكية أو مرتب في جهة أخرى إن لم يكن في الشرط مقصود شرعي خالص أو راجح كان الشرط باطلاً كما لو شرط عليهم نوع مطعم أو ملبس أو مسكن لا تستحبه الشريعة ولا يمنعهم الناظر من تناول كفايتهم من جهة أخرى هم مرنبون فيها، وليس هذا إبطالاً للشرط؛ لكنه ترك للعمل.
وقال: لو حكم حاكم بمحضر وقف فيه شروط هم مرتبطون فيها والمحضر خط يكتب في واقفه خطوط الشهود في آخره لصحة ما تضمنه صدره، قاله في «القاموس» ، ثم ظهر كتاب الوقف بخلافه وجب ثبوته والعمل به إن أمكن إثباته أو أقر موقوف عليه أنه لا يستحق في هذا الوقف إلا مقدارًا معلومًا، ثم ظهر شرط الواقف أنه يستحق أكثر مما قاله حكم له بمقتضى الشرط ولا يمنع منه الإقرار المتقدم. اهـ.
وذكر التاج السبكي في كتابه «الأشباه والنظائر» : الصواب أنه
لا يؤخذ سواء علم شرط الواقف وكذب في إقراره أم لم يعلم، فإن ثبوت هذا الحق له لا ينتقل بكذبه، انتهى.
وقال ابن نصر الله:
ومما يؤيده أن شرط صحة الإقرار كون المقر يملك نقل الملك في العين التي يقر بها ومستحق الوقف لا يملك ذلك في الوقف فلا يملك الإقرار به قبل قبضه أو جواز بيعه ولا يصح منه، ولو صح الإقرار بالريع قبل ملك المستحق له لاتخذ وسيلة إلى إجارة مدة مجهولة بأن يأخذ المستحق عوضها من شخص عن ريعها أو عن رقبته ويقر له به مدة حياة المقر أو مدة إستحقاق المقر، فلا يجوز إعتبار إقرار المستحق بالوقف ولا بريعه إلا بشرط ملكه للريع ولم أزل أفتي بهذا قديمًا وحديثًا من غير أن ولكنني قلته تفقهًا، ولا أظن لمن نظر تام في الفقه يقول بخلاف ذلك، والله أعلم.
ويأكل الناظر للوقف بمعروف، وقال الشيخ تقي الدين: له أخذ أجرة عمله مع فقر. اهـ.
من النظم فيما يتعلق بالوقف
ووقف على من جاز فقدهم ولم
…
تعين مآلاً عادة لم تفقد
كذا إن تعين بعدما ليس جائزًا
…
وقولك ذا وقف ولما تزيد
فعند إنقراض الجائز الوقف أعطه
…
المساكين في أولى روايات أحمد
وعنه لقربى الواقف الورث اصرفن
…
على قدر ميراث لكل فتى جد
وعنه لقربى الواقف الورث اصرفن
…
ولا تخصصن ذا الفقر منهم بأوكد
ومن قلت يعطاه فوقف مؤبد
…
بنص وقيل أرده ملكًا وأفسد
وعنه إجعلن كالفيء بعد إنقراضهم
…
كوارثه أو مع بقا مبتد ردي
وإن قال ذا وقف ولم يبد مصرفًا
…
كمنقطع فاجعله لا تتردد
ووقف على من لا إنقراض لهم لهم
…
ولو قال فيه ثم يعطى لأعبد
وبعد لزوم الوقف يملك عينه المحبس
…
موقوفًا عليه بأوكد
فيلزم في الأنعام فرض زكاتها
…
ولكن ليخرج من سواها ويمدد
ويملك تزويج الإماء بأوطد
…
وقيل بل القاضي، وقيل بل اصدد
ويملك مهرًا وانتفاعًا وغلة
…
كثمر وألبان وصوف ملبد
وليس له وطء الإماء فإن عدا
…
فلا مهر في هذا وعن حده حد
ومولوده حر في الأقوى ويفتدي
…
بقيمته والأم من إرثه حد
بقيمتها إذ عتقها بعد موته
…
ومثلهما وفقًا بذا المال أرصد
ولا تمض في وقف الرقيق عتاقه
…
ولو باشر الإعتاق ذو الوقف يعتدي
وأولادها وقف من الزوج أو زنى
…
ومن شبهة حر بقيمته فدي
لدى الوضع مع مهر وقيمتها إن توت
…
وبالقيمتين إبتع مثيلاً وخلد
وقيل من الغلات موقوف نسلها
…
وقيمته إن حر ملك لذي اليد
وفي مال أرش إعتدا وقفه خطا
…
وفي الكسب في وجه وفيء بمبعد
وإن كان وقفًا للمساكين كان في
…
تكسبه في وجه مال كما ابتدى
وإن كان مجنيًا عليه فأرشه
…
به عنه اشتر مثله ثم أبد
فإن لم يف خذ ما تأتي كشقص أو
…
سوى آدمي إن تعذر خلد
وليس لب الوقف عفو عن أرش ذا
…
ولا قود في النفس لا يبعد إن فدي
وبعد لزوم زال عن ملك واقف
…
فيمنع إلغا شرط أو من تزيد
وناظره من خص في لفظ وقفه
…
ومتصلاً واشرط أمينًا بأجود
وليس له التبديل بعد لزومه
…
ومع فقد تعيين لذي الوقف أسند
إذا كان ذا رشد وليس بفاسق
…
وأنثى وقيل أضمم أمينًا لمعتدي
وقيل يلي قاض لفقد معين
…
كوقف على جمع منافي التعدد
وليس له من دون إذن محبس
…
ولا منعه التفويض في المتجود
فإن حاز فاخصص ناظرًا عن محبس
…
لأهل كقاض غير مبطل ما ابتدي
وليس له من غير تعيين واقف
…
سوى أجر مثل للفقير بمبعد
وإن كان عن كاف ليعط كفاية
…
ولا رد إن عن كسب إلهي بأجود
وواقفه أن يشرطن نظرًا له
…
فيسند له من بعد عزل بأجود
وعنه يكون الوقف لله ربنا
…
إذًا فيليه حاكم ذا تأيد
وما من زكاة لا ولا شفعة له
…
ومن ريعه أرش الجناية فأعدد
وقيل لبيت المال والنفع مطلقًا
…
ليعط لموقوف عليه ويفرط
سوى واقف ما عم نفعًا لمسجد
…
وبئر فإن المرء أسوة مفرد
ولا شيء في ترتيب وقف لمن تلا
…
ولو لم يكن من سبق غير أوحد
وبعد انقراض السابقين جميعهم
…
أو الرد منهم للمصلين أرفد
وقف عند قسم الوقف مع شرط واقف
…
كجمع وترتيب ووصف مقيد
وإطلاقه ثم التساوي بينهم
…
وتفضيل بعض وإنتقاص مزيد
والإنفاق فيه ثم سائر شأنه
…
لأن إتداء الوقف منه فقلد
وإن يشترط إخراج من شاء من ذوي
…
الوقوف وإدخال الأجانب تفسد
فتفضيل من صلى على سابق إلى
…
مقاصد أهل الوقف أولى بمفسد
ومن غلة الموقوف إصلاح شأنه
…
إذا لم يعين غيرها ذو التجود
وإن يبغ أهل الوقف علم أموره
…
ونسخ كتاب الوقف يحبو بمبعد
(44)
ظهور الوقف منافيًا لما تصادق عليه مستحقوه، كيفية العمل بالوقف العام، إذا جهل شرط قسم واقف جهالة اسم الموقوف عليه، الشروط وعدمها حول الوقف فسق الناظر على الوقف وضعفه أو عدم رشده، وما حول ذلك من المسائل
س 44: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: إذا ظهر كتاب الوقف منافيًا لما تصادق عليه مستحقوه، وماذا يعمل بالوقف العام الذي ليس له ناظر، إذا جهل شرط قسم واقف، إذا وقف على أحد أولاده وجهل اسمه، إذا لم يشرط واقف ناظرًا أو شرطه لمعين فمات المشروط له، إذا أطلق النظر للحاكم، إذا شرط النظر لفلان فإن مات ففلان فعزل نفسه أو فسق أو شرطه لأفضل أولاده فأبى أو استوى اثنان في الفضل أو شرط النظر لإثنين من أفاضل ولده فلم يوجد إلا واحد، وما يشترط في الناظر الأجنبي، وإذا كان الناظر ضعيفًا أو فسق بعد أن كان عدلاً أو ولى النظر أجنبي من واقف وهو فاسق أو فسق أو كان النظر لموقوف عليه وهو غير رشيد، فما الحكم؟ واذكر ما حول ذلك من المسائل والأدلة والتعاليل والقيود والمحترزات والتفاصيل والخلاف والترجيح.
ج: إذا تصادق مستحقو الوقف على شيء من مصارفه وعلى مقادير إستحقاقهم في الوقف ونحوه ثم ظهر كتاب الوقف منافيًا لما تصادقوا عليه عمل بما تضمنه كتاب الواقف وجوبًا على حسب وصف الواقف من تعيين مصارف وتقدير وظائف وألغي التصادق الذي جرى بينهم لمخالفته كتاب الواقف أفتى به الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -.
وقال القاضي أبو يعلى في «الأحكام السلطانية» : يعمل والي المظالم في وقف عام ليس له ناظر معين بكتاب ديوان حاكم وهو الذي يسمونه
القضاة سجلاً إذ هو للصحة والضبط أقرب من غيره أو يعمل بما في ديوان سلطنته وهو المعروف الآن الدفتر السلطاني؛ لأنه مأمون التزوير غالبًا ومحفوظ من التبديل والتغيير في الغالب أو يعمل بكتاب وقف قديم ظهر وعليه أمارات الصدق بحيث يقع في النفس صحته، ولا يحتاج ذلك إلى من يشهد للقرينة الدالة على صحة ما تضمنه، ولأن إقامة البينة على القديم متعذر فاكتفى بمجرد وجوده.
وإن لم يعلم شرط قسم واقف غلة ما وقفه وأمكن التأنس بصرف من تقدم ممن يوثق به رجع إليه؛ لأن أرجح ممن عداه، والظاهر صحة صرفه ووقوعه على الوقف، فإن تعذر وكان الوقف على عمارة أو إصلاح صرف بقدر الحاجة، وإن كان على قوم عمل بعادة جارية إن كانت، فإن لم تكن عادة عمل يعرف مستقر في الوقف في مقادير الوقف كفقهاء المدارس؛ لأن العرف المستقر يدل على شرط الواقف أكثر من دلالة لفظ الإستفاظة، قاله الشيخ تقي الدين.
ولأن الغالب وقوع الشرط على وقفه وأيضًا فالأصل عدم تقييد الواقف فيكون مطلقًا، والمطلق منه يثبت له حكم العرف، فإن لم تكن عادة ولا عرف ببلد الوقف كما لو كان ببادية ليس لها عادة ولا عرف ساوى فيه بين المستحقين؛ لأن الشركة ثبتت ولم يثبت التفضيل فوجب التسوية.
ومحل كون القسمة بينهم على السواء إذا كان الموقوف وفي أيديهم أو لا يد لواحد منم عليه، فإن كان في يد بعضهم، فالقول قوله كذا نبه عليه جماعة، فإن كان الواقف حيًا رجع إلى قوله.
وأفتى الشيخ تقي الدين فيمن وقف على أحد أولاده وقفًا وجهل اسم الموقوف عليه أنه يميز بقرعة ولو وجد في كتاب وقف رجلاً وقف على فلان
وعلى بنيه واشتبه هل المراد بين بنيه جمع ابن أو المراد بني بنته واحدة البنات، فيكون الوقف لبني البنين خاصة ولا يشاركهم بنو البنات، وقال ابن عقيل في «الفنون»: يكون بينهما لتساويهما كما في تعارض البينتين.
وقال الشيخ تقي الدين: ليس من تعارض البينتين، بل هو بمنزلة تردد البينة الواحدة، ولو كان من تعارض البينتين فالقسمة عند التعارض رواية مرجوحة وإلا فالصحيح إما التساقط وإما القرعة فيحتمل أن يقرع هنا.
ويحتمل أن يرجح بنو البنين؛ لأن العادة أن الإنسان إذا وقف على ولد بنيه لا يخص منهما الذكور، بل يعم أولادهما بخلاف الوقف على ولد الذكور، فإنه يخص ذكورهم كثيرًا كآبائهم.
ولأنه لو أراد ولد البنت لسماها باسمها أو لشرك بين ولدها وولد سائر بناته قال: وهذا أقرب إلى الصواب، نقله عنه في «الإنصاف» .
وإذا لم يشرط واقف ناظرًا على الموقوف أو شرط النظر لمعين فمات المشروط له فليس للواقف ولاية النصب لانتفاء ملكه فلم يملك النصب ولا العزل ويكون نظره لموقوف عليه إن حصر موقوف عليه كأولاده وأولاد زيد فينظر كل منهم على حصته كالملك المطلق المشترك سواء كان عدلاً أو فاسقًا؛ لأنه ملكه وغلته له.
وإن كان الموقوف عليه غير محصور كالوقف على الفقراء والمساكين والعلماء والقراء فنظره للحاكم، وإلا فالموقوف على المسجد أو مدرسة أو رباط أو قنطرة أو سقاية فنظره لحاكم ببلد الوقف؛ لأنه ليس له مالك معين ومن يقيمه الحاكم؛ لأنه يتعلق به حق الموجودين وحق من يأتي من البطون فكان نظره للحاكم أو من يستنيبه الحاكم.
ومن أطلق النظر من الواقفين للحاكم فلم يعينه شمل لفظ الحاكم أي
حاكم كان سواء كان مذهب الحاكم مذهب حاكم البلد زمن الموقوف أم لا وإن لم نقل بذلك لم يكن له نظر إذا انفرد وهو باطل إتفاقًا، قاله الشيخ تقي الدين.
وإن شرط النظر لحاكم المسلمين كائنًا من كان فتعدد الحاكم، فقيل: إن النظر فيه للسلطان يوليه من شاء من المتأهلين لذلك ولو فرض النظر حاكم لإنسان لم يجز لحاكم آخر نقضه؛ لأنه كنقض حكمه.
ولو ولى كل من حاكمين النظر على وقف لا ناظر له شخصًا في آن واحد وجهل سابق وتنازع الشخصان قدم ولي وهو السلطان أحقهما لتعلق حق كل منهما فلا يتعدى به إلى غيرهما، ولا يشتركان؛ لأن كلا منهما إنما ولي لينظر فيه على انفراده، فكان أحقهما بذلك أولى، قاله الشيخ تقي الدين.
فإن استويا في الأحقية أقرع بينهما وإن علم الأول تعين لوقوعه في محله، ولذلك لم يملك الثاني نقضه ولو فوض النظر حاكم لإنسان لم يجز لحاكم آخر نقضه، بل ينظر الحاكم مع المفوض له النظر حفظًا للوقف.
وقال الشيخ تقي الدين: لا يجوز لواقف شرط نظر لذي مذهب معين دائمًا، ومن شرط النظر لفلان، فإن مات ففلان بأن قال الواقف: النظر لزيد، فإن مات فلعمرو مثلاً فعزل زيد نفسه أو فسق فكموته؛ لأن تخصيصه الموت خرج مخرج الغالب فلا يعتد بمفهومه وإن أسقط حقه من النظر لغيره فلس له ذلك؛ لأنه إدخال في الوقف لغير أهله فلم يملكه وحقه باق فإن أصر على عدم التصرف إنتقل إلى من يليه كما لو عزل نفسه فإن لم يكن من يليه أقام الحاكم مقامه كما لو مات.
وإن شرط النظر لأفضل أولاده أو أولاد زيد فالنظر للأفضل منهم عملاً بالشرط فإن أبى الأفضل القبو فالنظر لمن يليه كأنه لم يكن ولو ولي النظر الأفضل فحدث من هو أفضل منه انتقل النظر إليه لوجود الشرط فيه، فإن استويا إثنان في الفضل اشتركا في النظر، وإن شرط النظر لإثنين من أفاضل ولده فلم يوجد إلا فاضل واحد من أولاده ضم إليه أمين ينظر معه عملاً بشرط الواقف.
وكذا الحكم لو جع النظر لإثنين غير مستقلين لم يصح تصرف أحدهما دون الآخر بلا شرط واقف كالوكيلين والوصيين عن واحد، فلو مات أحدهما أو انعزل ضم إلى الحي أمين ينظر معه.
وشرط في ناظر أجنبي شروط والمراد بالأجنبي غير موقوف عليه، وكذا إن كان لبعض الموقوف عليهم إن كانت ولايته من حاكم كوقف على جماعة غير محصورين ولم يعين واقفه ناظرًا ففوضه الحاكم إلى إنسان أو كانت ولايته من ناظر أصالة وذلك بجعل الواقف له ذلك أو بدونه أو جاز للوكيل أو يوكل.
فأول الشروط: إسلام، إن كان الموقوف عليه مسلمًا أو كانت من جهات الإسلام كمسجد ومدرسة ورباط ونحوه؛ لقوله تعالى:{وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ، الشرط الثاني: التكليف؛ لأن غير المكلف لا ينظر في ملكه الطلق، ففي الوقف أولى، والشرط الثالث: الرشد؛ لأن السفيه محجور عليه في تصرفاته في ماله فلا يتصرف في غيره، والشرط الرابع: الكفاية في التصرف والعلم بالتصرف وقوته عليه، قال الله تعالى مخبرًا عما قال يوسف:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ، وقال عما قالته ابنة صاحب مدين:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} وإذا
لم يكن المتصرف متصفًا بهذه الصفات لم يكن في إمكانه مراعاة الحفظ للوقف.
ولا يشترط في الناظر الذكورية؛ لأن عمر أوصى بالنظر لحفصة رضي الله عنها.
ويضم لناظر ضعيف تعين كونه ناظرًا بشرط واقف أو كون الوقف عليه قوي أمين ليحصل المقصود.
وإن كانت الولاية على الوقف من ناظر أصلي فلابد من شرط العدالة فيه؛ لأنها ولاية على مال فاشترط لها العدالة كالولاية على مال اليتيم، فإن لم يكن الأجنبي المولى من حاكم أو ناظر أصلي عدلاً لم تصح ولايته لفوات شرطها وهو العدالة وأزيلت يده عن الوقف حفظًا له.
فإن فسق منصوب حاكم بعد أن كان عدلاً عزل أو أصر متصرفًا بخلاف الشرط الصحيح عالمًا بتحريمه عزل من التولية وأزيلت يده عن الوقف؛ لأن ما منع التولية إبتداء منعها دوامًا فإن عاد إلى أهليته عاد حقه كوصي عزل لمقتض، ثم زال فيعاد، فإن عاد إلى أهليته يعاد إلى النظر ما لم يقرر الحاكم شخصًا غيره قبل عوده، فإن قرره قبل عوده لم يكن له إزالته بدن موجب شرعي لمصادفة تقريره محله.
وإن ولي النظر أجنبي من واقف بأن شرطه له والأجنبي فاسق أو وهو عدل ثم فسق يضم أمين لحفظ الوقف ولم تزل يده؛ لأنه أمكن الجمع بين الحقين.
ومتى لم يمكن حفظه نه أزيلت ولايته فإن مراعاة حفظ الوقف أهم من إبقاء ولاية الفاسق عليه وإن كان النظر لموقوف عليه إما بجعل الواقف النظر للموقوف عليه أو لكون الموقوف عليه أحق بالنظر لعدم تعيين غيره، فالموقوف
عليه مع رشد أحق بالنظر عدلاً كان أو فاسقًا رجلاً كان أو امرأة؛ لأن يملك الوقف فهو ينظر لنفسه وإن كان الموقوف عليه غير شيد ولم يشرط النظر لغيره فوليه يقوم بالنظر مقامه؛ لأنه يملكه كملكه الطلق.
وإن شرط النظر واقف لغيره من موقوف عليه أو أجنبي ثم عزله لم يصح عزله له كإخراج بعض الموقوف عليهم إلا أن شرط الواقف لنفسه ولاية العزل، فإن شرطها له فله شرطه.
وإن شرط الواقف النظر لنفسه ثم جعل النظر لغيره أو أسنده أو فوّض النظر إليه بأن قال: جعلت النظر أو فوضته أو أسندته إلى زيد، فللواقف عزل المجعول أو المسند أو المفوض إليه؛ لأنه نائبه أشبه الوكيل.
ولناظر بإصالة كموقف عليه إن كان معينًا وحاكم فيما وقف على غير معين ولم يعين الواقف غيره نصب وكيل عنه وعزله لأصالة ولايته أشبه المتصرف من مال نفسه وتصرف الحاكم في مال يتيم ولكل من موقوف عليه وحاكم عزل وكيله وكونه له عزله لأصالة نظره فمن نصبه الناظر أو الحاكم نائبه كما في المطلق وله الوصية لنظر لأصالة الولاية.
وللمستنيب عزل نائبه متى شاء؛ لأنه وكيله وللموكل أن يعزل وكيله متى شاء ولا ينصب ناظر بشرط؛ لأن نظره مستفاد بالشرط ولم يشترط النصب له ولو مات الناظر بالشرط في حياة الواقف لم يملك الواقف نصب غيره بدون شرط ولاية النصب لنفسه وانتقل الأمر إلى الحاكم، وإن مات بعد وفاة الواقف فكذلك بلا نزاع.
ولا يوصي ناظر بشرط بالنظر بلا شرط واقف؛ لأنه إنما ينظر بالشرط ولم يشترط الإيصاء له سواء كان في مرض موته أو لا خلافًا للحنفية فإنهم
يوجبون العمل بوصيته بالنظر في مرض الموت بلا شرط واقف.
وإن جعل الواقف له أن يوصي صح إيصاؤه به وكذلك لو كان الموقوف عليه هو المشروط فالأشبه أن له النصب لأصالة ولايته إذ الشرط كالمؤكد لمقتضى الوقف عليه.
وإن أسند الواقف النظر لإثنين فأكثر من الموقوف عليهم أو غيرهم أو جعل النظر الحاكم أو الناظر الأصلي إليهما لم يصح تصرف أحدهما منفردًا عن الآخر بلا شرط؛ لأن الواقف لم يرض بواحد وإن لم يوجد إلا واحد وأبى أحدهما أو مات أقام الحاكم مقامه آخر.
وإ ن شرط واقف النظر لكل منهما بأن قال: جعلت النظر لكل واحد منهما صح، وكذا يصح إذا جعل التصرف لواحد أو جعل اليد لآخر أو جعل عمارة الوقف لواحد وجعل تحصيل ريعه لآخر صح تصرف أحدهما منفردًا.
وإذا مات أحدهما أو أبى لم يحتج إلى إقامة آخر واستقل الموجود منهما؛ لأن البدل مستغنى عنه واللفظ لا يدل عليه، فلو تنازع ناظران غير مستقلين بالتصرف في نصب إمام، نصب أحدهما زيدًا والآخر عمرًا لم تنعقد ولاية الإمامة لأحدهما لإنتفاء شرطها.
وإن استقلا وقررا في وظيفة وسبق نصب أحدهما الآخر انعقدت وقدم الأسبق منهما دون الثاني؛ لأن ولايته لم تصادف محلاً وإن اتحد واستوى المنصوبان أقرع بينهما فمن قرع صاحبه قدم لعدم المرجح.
وفي «الغاية وشرحها» : ويتجه وجوب إتباع شرط الواقف فيما وظفه فلا يجوز اشتراك اثنين فأكثر في وظيفة واحدة كإمامة وخطابة ونحوها من وظائف أوقاف حقيقة كأوقاف التجار ونحوهم، كما لا يجوز جمع شخص واحد جملة من الوظائف في وقف ويأتي.
بل يجوز اشتراك ثنين فأكثر في وظيفة في أوقاف صورية كأوقاف الأمراء والملوك، فإن أوقافهم من حيث الصورة، وأما في نفس الأمر فهي للمسلمين.
وأول من أحدث وقف أراضي بيت المال على جهات الخير نور الدين الشهيد صاحب دمشق، ثم صلاح الدين يوسف صاحب مصر لما استفتيا ابن أبي عصرون فأفتاهما بالجواز على معنى أنه إرصاد وإفرار من بيت المال على بعض مستحقيه ليصلوا إليه بسهولة؛ لأنه وقف حقيقي إذ من شرط الموقوف أن يكون مملوكًا للواقف والسلطان ليس بمالك لذلك ووافق ابن عصرون على فتواه جماعة من علماء عصره من المذاهب الأربعة.
وحيث كانت هذه الصورية إفرازًا وإرصادًا فللسلطان أو نائبه المفوض إليه التصرف في ذلك أن يقيم وكيلاً عنه في التصرف في ذلك بإجارة أو غيرها كما في بقية الأحكام والتصرفات المتعلقة ببيت المال ولا ريبة في صحة هذا الناظر المنصوب وكيلاً عمن له ولاية التصرف. اهـ.
ولا نظر لحاكم مع ناظر خاص؛ لأنه ليس استحقاقه من جهة الحاكم، قال في «الفروع»: ويتوجه عدم النظر لغير الناظر مع حضوره في البلد أما إذا غاب الناظر فيقرر حاكم في وظيفة خلت في غيبته لما فيه من القيام بلفظ الواقف في المباشرة ودوام نفعه، فالظاهر أنه يريده ولا حجة في تولية الأئمة مع البعد لمنعهم غيرهم التولية فنظيره منع الواقف التولية لغيبة الناظر. اهـ.
فعليه لو ولي الناظر الغائب إنسانًا وولى الحاكم إنسانًا آخر قدم الأسبق تولية منهما.
ولحاكم النظر العام فيعترض على الناظر الخاص إن فعل ما لا يسوغ له
فعله لعموم ولايته.
وللحاكم ضم أمين إلى الناظر الخاص مع تفريطه أو تهمته ليحصل بالأمين المقصود من حفظ الوقف واستصحاب يد من أراده الواقف والظاهر أن الأول يرجع إلى رأي الثاني ولا يتصرف إلا بإذنه ليحصل الغرض من نصبه.
وكذا إذا ضم إلى ضغيف قوي معاونًا له فلا تزال يد الأول عن المال ولا نظره والأول هو الناظر دون الثاني، هذا قياس ما ذكر في الموصى له.
ولا اعتراض لأهل الوقف على ناظر أمين ولاه الواقف ولهم سؤاله عما يحتاجون إلى عمله من أمر وقفهم حتى يستوي علمه وعلمهم فيه.
ولأهل الوقف المطالبة بإنتساخ كتاب الوقف لتكون نسخته وثيقة في أيديهم لهم.
وللناظر الإستدانة على الوقف بلا إذن حاكم لمصلحة كشراء للوقف نسيئة أو شراء بنقد لم يعينه.
وعلى الناظر سواء كان الحاكم أو غيره نصب جاب مستوف للعمال المتفرقين إن احتيج إليه أو لم تتم مصلحة إلا به.
وله أن يفرض لكل على عمله ما يستحقه مثله في كل مال يعمل فيه بمقدار ذلك المال الذي يعمل فيه إن احتيج إلى المستوفي أو لم تتم مصلحة إلا به، فإن لم يحتج إليه وتمت المصلحة بدونه لقلة الأعمال ومباشرته الحساب بنفسه لم يلزمه نصبه.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يباشر الحكم وإستيفاء الحساب بنفسه ويولي مع البعد ذكره الشيخ تقي الدين.
وإذا قام المستوفي بما عليه من العمل استحق ما فرض له وإن لم يقم به لم يستحقه ولم يجز أخذه.
ولولي الأمر نصب ديوان يكون مستوفيًا لحساب أموال الأوقاف عند المصلحة كما له نصب ديوان لحساب الأمور السلطانية كالفيء وغيره مما يؤول إلى بيت المال من تركات ونحوها.
(45)
ما يتعلق بالناظر والوظيفة في الوقف والشروط المعتبرة في الإمام الذي نصبه رئيس القرية أو الجيران والذي يجب أن يولى وما حول ذلك من المسائل
س 45: تكلم بوضوح عن وظيفة الناظر، وما الذي له؟ وهل يتوقف الإستحقاق على نصبه؟ واذكر ما يوضح لذ لك من أمثلة وحكم الجمع بين وظائف لواحد واستنابة من ولاه السلطان ولمن الإمامة فيما بناه أهل الشوارع والقبائل من المساجد؟ وما الذي يعتبر في الإمام الذي نصبه جيران المسجد أو رئيس القرية؟ وهل للإمام النصب؟ ومن الذي يجب أن يولى في الوظائف وإمامة المساجد؟ وهل يولى الفاسق وإذا قرر بوظيفة على وفق الشرع فهل يصرف عنها؟ وإذا لم يقم بالوظيفة فهل يبدل؟ وإذا عطل المغل الموقوف على المسجد فكيف تكون الأجرة؟ وتكلم عما وقف على مصالح الحرم، وعما يأخذه الفقهاء من الوقف وما وقف على أعمال بر، وما الذي قاله الشيخ تقي الدين في أخذها ما فوق الحاجة بأضعاف ومن لهم جهات معلومة يأخذون ويستنيبون في الجهاد بيسير؟ وما حول ذلك من المسائل والأدلة والتعليلات والقيود والتفاصيل والمحترزات والخلاف والترجيح.
ج: وظيفة الناظر: حفظ وقف وعمارته وإيجاره وزرعه ومخاصمته فيه
وتحصيل ريعه من أجرة أو زرع أو ثمر والإجتهاد في تنميته وصرفه في جهاته بما تحصل به تنميته من عمارة وإصلاح وإعطاء مستحق.
ويقبل قول الناظر المتبرع في دفع المستحق وإن لم يكن متبرعًا لم يقبل قوله إلا ببينة، قال في «شرح الإقناع»: ولا يعمل بالدفتر المستحق المعروف في زمننا بالمحاسبات في منع مستحق ونحوه إذا كان بمجرد إملاء الناظر والكاتب على ما أعتيد في هذه الأزمنة.
ومن وظيفة الناظر نحو شراء طعام وشراب شرطه الواقف؛ لأن الناظر هو الذي يلي الوقف وحفظه وحفظ ريعه وتنفيذ شرط واقفه وطلب الحظ مطلوب فيه شرعًا، فكان ذلك إلى الناظر.
ويقبل قول الناظر المتبرع في دفع المستحق وإن لم يكن متبرعًا فلابد من البينة كما تقدم في الوكالة.
وللناظر وضع يده على الوقف وعلى ريعه وله التقرير في وظائفه ذكروه في ناظر المسجد، فينصب من يقوم بوظائفه من إمام ومؤذن وقيم وغيرهم كما أن للناظر الموقوف عليه نصب من يقوم بمصلحة الواقف من جاب وحافظ.
ومتى امتنع من نصب من يجب نصبه، نصبه الحاكم كولي النكاح إذا عضل وإن طلب على النصب جعلا سقط حقه وقرر الحاكم من فيه أهلية.
وليس لمتكلم على وقف من ناظر وغيره وتقرير نفسه أو من لا تقبل شهادته له كولده ونحوه في شيء من وظائف الوقف؛ لأنهم كهو، ولذلك لا تصح إجارته له ولا لهم كما تقدم في الوكالة.
وكذا لا يجوز مع كونه ناظرًا أن يكون شاهدًا لوقف ولا مباشرًا فيه
ولا أن يتصرف بغير مسوغ شرعي.
ولا يتوقف الإستحقاق على نصب الناظر ولا الإمام إلا بشرط من الواقف.
فإن شرط الواقف في الصرف نصب الناظر للمستحق كالمدرس والمعيد والمتفقه في المدرسة مثلاً، فلا إشكال في توقف الاستحقاق على نصب الناظر له عملاً بالشرط وإن لم يشرط الواقف نُصب الناظر للمستحق، بل قال: ويصرف الناظر إلى مدرس أو معيد أو متفقه بالمدرسة فلا يتوقف الاستحقاق على نصب ناظر ولا إمام، فلو انتصب بمدرسة مدرس أو معيد وأذعن له الطلبة بالاستفادة وتأهل لذلك استحق ولم ينازع لوجود الوصف المشروط؛ لأن الإجازة من الشيخ غير شرط في جواز التصدي للإقراء والإفادة.
قلت: ومن باب أولى وأحرى الشهادات الموجودة في زمننا التي اعتمد كثير من أهل هذا الزمان عليها وصاروا يتواصون بها ويحرض بعضهم بعضًا على الحصول عليها والتمسك بها وتركوا التوكل على الله الذي هو فريضة يجب إخلاصه لله تعالى، وعنه تنشأ الأعمال الصالحة، فإن الإنسان إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية صح إخلاصه ومعاملته مع الله جل وعلا، قال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فمن علم من نفسه الأهلية جاز له ذلك وإن لم يحمل الشهادة المعروفة في هذا الزمان وإن لم يجزه أحد وعلى ذلك السلف، وكذلك في كل علم، وفي الإقراء والإفتاء خلافًا لما يتوهمه الجهلة الأغبياء من اعتقاد كونها شرطًا.
قال في «الإتقان» : ولا يجوز أخذ المال في مقابلتها إجماعًا، بل إن علم أهليته وجب عليه الإجازة أو عدمها حرم عليه، قال: وادّعى ابن خير الإجماع
على أنه ليس لأحد أن ينقل حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يكن له به روية ولو بالإجاز، انتهى.
وكذا لو أقام بالمدرسة طالب متفقهًا ولو لم ينصبه ناصب استحق لوجود التفقه، وكذا لو شرط الصرف المطلق إلى إمام مسجد ونحو مؤذن كقيمه فأم إمام ورضيه الجيران أو أذن فيه مؤذن أو قام بخدمة المسجد قائم كان مستحقًا لوجود الشرط ومع شرط واقف نحو ناظر كأمين ومدرس ومعيد وإمام لم يجز قيام شخص واحد بالوظائف كلها ولو أمكنه جمع بينها.
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وإن أمكن أن يجمع بين الوظائف لواحد فعل، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال في «الأحكام السلطانية» : ولا يجوز أن يؤم في المساجد السلطانية وهي الجوامع الكبار إلا من ولاه الإمام أو نائبه لئلا يفتات عليه فيما وكل إليه.
وإن ندب له إمامين وخص كلا منهما ببعض الصلوات الخمس جاز، كما في تخصيص أحدهما بصلاة النهار والآخر بصلاة الليل، فإن لم يخصص فهما سواء وأيهما سبق كان أحق، ولم يكن للآخر أن يؤم في تلك الصلاة بقوم آخرين وإن حضرا معًا وتنازعا أقرع بينهما إذ لا مزية لأحدهما على الآخر.
ويستنيب من ولاه السلطان أو نائبه إن غاب ويصير نائبه أحق لقيامه مقامه وإن غاب ولم يقم نائبًا فيقدم من رضيه أهل المسجد لتعذر إذنه.
وما بناه أهل الشوارع والقبائل من المساجد، فالإمامة لمن يرضونه لا يعترض عليهم في أئمة مساجدهم، فإن تعذر إتفاقهم على واحد فلرئيس
القرية نصب إمام عدل؛ لأنه محل حاجة.
وليس لهم بعد الرضابة والإتفاق عليه عزله عن إمامته ما لم تتغير حاله بنحو فسق أو ما يمنع الإمامة؛ لأن رضاهم به كالولاية فلم يجز صرفه.
لكن يستنيب إن غاب؛ لأن تقديم الجيران له ليس ولاية وإنما قدم لرضاهم به.
ولا يلزم من رضاهم به الرضى بنائبه كما في الوصي في الصلاة على الميت بخلاف من ولاه الناظر أو الحاكم؛ لان الحق صار بالولاية فجاز أن يستنيب.
وأقل ما يعتبر في الإمام الذي نصبه جيران المسجد أو رئيس القرية: العدالة ظاهرًا وباطنًا، والقراءة الواجبة في الصلاة، والعلم بأحكام الصلاة وما يعتبر بها من صحة وفساد.
وللإمام النصب أيضًا؛ لأنه من الأمور العامة لكن لا ينصب إلا برضى الجيران، وكذا ناظر خاص فلا ينصب من لا يرضونه الجيران لما في كتاب أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ثلاثة: «لا يقبل الله منهم صلاة من تقدم قوم وهم له كارهون» إلخ.
وقال الحارثي: ما معناه ظاهر المذهب ليس لأهل المسجد مع وجود إمام أو نائبه نصب ناظر في مصالحه ووقفه كما في غير المسجد، فإن لم يوجد القاضي كالقرى الصغار والأماكن النائية أو وجد وكان غير مأمون أو وجد وهو مأمون لكنه ينصب غير مأمون فلأهله النصب تحصيلاً للغرض ودفعًا للمفسدة.
وكذا ما عدا المسجد من الأوقاف لأهله نصب ناظر فيه لعدم وجود القاضي المأمون ناصبًا لمأمون، قال في «الإنصاف»: ويجب أو يولى في الوظائف
وإمامة المساجد الأحق شرعًا وأن يعمل بما يقدر عليه من عمل واجب.
وقال في «الأحكام السلطانية» : الإمامة بالناس طريقها الأولى لا الوجوب بخلاف ولاية القضاء والنقابة؛ لأنه لو تراضى الناس بإمام يصلي لهم صح وليس للناس أن يولوا عليهم الفساق سواء كانت الولاية خاصة أو عامة.
قال في «المبدع» : والحاصل إن كان النظر لغير موقوف عليه وكانت ولايته من حاكم أو ناظر فلابد فيه من شرط العدالة وإن كانت ولايته من واقف وهو فاسق أو عدل ففسق صح، وضم إليه أمين.
ومن قرر بوظيفة على وفق الشرع حرم على ناظر وغيره صرفه عنها بلا موجب شرعي يقتضي ذلك كتعطيله القيام بها وفسق ينافيها وله الإستنابة ولو عينه واقف.
ومن لم يقم بوظيفة بدل وجعل بدله من له الولاية ممن يقوم بها تحصيلاً لغرض الواقف إن لم يتب ويلتزم الواجب قبل صرفه وإن قصر وترك بعض العمل لم يستحق ما قابله وإن زاد على العمل المشروط لم يستحق شيئًا على الزيادة.
قلت: والذي يظهر لي أنه إن كان تاركًا للعمل في يوم البطالة، ولكن يشتغل في بيته بالتحضير والمطالع والتحرر لأوقات التدريس والقضاء، فهذا يستحق ما قابله إلا إن كان الواقف أو الجاعل قدر للدرس لكل يوم مبلغًا معلومًا، فاليوم الذي لا يدرس فيه أو لا يقضي فيه لا يستحق ما قابله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال الشيخ تقي الدين: من وقف وقفًا على مدرس وفقهاء فلناظر ثم حاكم تقدير أعطيتهم فلو زاد النماء فهو لهم. اهـ.
وليس تقدير الناظر أمرًا حتمًا كتقدير الحاكم بحيث لا يجوز له
أو لغيره زيادته ونقصه لمصلحة وقريب منه تغير أجرة لمثل ونفقته وكسوته؛ لأنه يختلف باختلاف الأحوال والأزمان وليس من نقض الاجتهاد بالاجتهاد، بل عمل بالاجتهاد الثاني لتغير السبب، وإن قيل إن المدرس لا يزاد ولا ينقص بزيادة النماء ونقصه للمصلحة كان باطلاً؛ لأنه لهم والحكم بتقديم مدرس أو غيره باطل لم نعلم أحدًا يعتد به، قال: به ولا بما يشبه ولو نفده حاكم وبطلانه لمخالفته الشرط والعرف أيضًا؛ لأنه إنما يجوز أن ينفذ الحاكم حكم من هو أهل للحكم كالمجتهد؛ لأنه لحكمه مساغ.
والضرورة وإن ألجأت إلى تنفيذ حكم المقلد، فإنما التنفيذ يسوغ إذا وقف المقلد على حد التقليد ولم يتجاسر على قضية لو نزلت على عمر لجمع لها أهل الشورى، وإنما كان الحكم بالتقديم باطلاً؛ لأنه حكم على ما سيوجد فهو كحكم الحاكم في غير محل ولاية فوض إليه الحكم بها فلا ينفذ حكمه، ولأن النماء لم يخلق بعد وإنما قدم القيم ونحو إمام ومؤذن؛ لأن ما يأخذه أجرة عمله، ولهذا يحرم أخذه فوق أجرة مثله بلا شرط بخلاف مدرس ومعيد وفقهاء، فإنهم من جنس واحد، ولهذا كان القياس أن يسوي بينهم.
قال في «الفائق» : ولو شرط على مدرس أو فقهاء وإمام فلكل جهة الثلث وإن تفاوتوا في المنفعة كالجيش، فإن فيه المقاتلة وغيرهم مع أنهم في المغنم سواء لكن دل العرف على التفضيل.
وقال الشيخ تقي الدين: لو عطل مغل وقف مسجد سنة قسطت أجرة مستقبلة على السنة التي تعطل مغلها وعلى السنة الماضية التي لم يتعطل مغلها لتقويم الوظيفة فيها؛ لأنه خير من التعطيل ولا ينقص الإمام بسبب تعطل الزرع بعض العام.
وقال في «الفروع» : فقد أدخل يعني الشيخ تقي الدين مغل سنة في سنة وقد
أفتى غير واحد من الحنالة في زمننا فيما نقص عما قدره الواقف كل شهر أنه يتمم مما بعده وحكم به بعضهم بعد سنين.
وفي «فتاوى الشيخ تقي الدين» : إذا وقف على مصالح الحرم وعمارته فالقائمون بالوظائف التي يحتاج إليها المسجد من التنظيف والحفظ والفرش وفتح الأبواب وإغلاقها ونحو ذلك يجوز الصرف إليهم.
وما يأخذه الفقهاء من الوقف فكرزق من بيت المال وما يؤخذ من بيت المال رزق للإعانة على الطاعة والعلم لا كجعل أو كأجرة على أصح الأقوال الثلاثة اختاره الشيخ تقي الدين، وجزم به في «التنقيح» ، ولذلك لا يشترط العلم بالقدر وينبني على هذا أن القائل بالمنع من الأجرة على نوع القرب لا يمنع من أخذ المشروط في الوقف، قاله الحارثي في الناظر، وكذا ما وقف على أعمال بر وموصى به ومنذور له ليس كالأجرة والجعل، انتهى.
وقال القاضي في خلافه: ولا يقال إن منه ما يؤخذ أجرة عن عمل كالتدريس ونحوه؛ لأنا نقول أولاً لا نسلم أن ذلك أجرة محضة، بل هو رزق وإعانة على العلم بهذه الأموال، وهذا موافق لما قاله الشيخ تقي الدين، وفي «شرح المنتهى»: قلت: وعلى الأقوال الثلاثة حيث كان الاستحقاق بشرط فلابد من وجوده. اهـ.
وهذا في الأوقاف الحقيقية، وأما الأوقاف التي من بيت المال كأوقاف الأمراء أو الملوك فليست بأوقاف حقيقة، وإنما هي أوقاف بالصورة فكل من له الأكل من بيت المال له التناول منها وإن لم يباشر المشروط كما أفتى به صاحب «المنتهى» موافقة للشيخ الرملي وغيره في وقف جامع طولون ونحوه.
وفي «الينبوع» للسيوطي: فرع نذكر ما ذكره أصحابنا الفقهاء في
الوظائف المتعلقة بأوقاف الأمراء والسلاطين كلها إن كان لها أصل من بيت المال أو ترجع إليه فيحوز لمن كان بصفة الاستحقاق من عالم للعلوم الشرعية وطالب العلم كذلك.
وصوفي على طريقة الصوفية من أهل السُّنة أن يأكل مما وقفوه غير متقيد بما شرطوه ويجوز في هذه الحالة الإستنابة لعذر وغيره، ويتناول المعلوم وإن لم يباشر ولا استناب، ومن لم يكن بصفة الاستحقاق من بيت المال لم يحل إلا كل من هذا الوقف ولو قرره الناظر وباشر للوظيفة؛ لان هذا من بيت المال لا يتحول عن حكمة الشرعي بجعل أحد. اهـ.
وقال الشيخ تقي الدين: من أكل المال بالباطل قوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم من بيت المال وقوم لهم جهات معلومها كثير يأخذونه ويستنيبون في الجهات بيسير من المعلوم؛ لأن هذا خلاف غرض الواقفين.
وقال الشيخ تقي الدين: والنيابة في مثل هذه الأعمال المشروطة من تدريس وإمامة وخطابة وأذان وغلق باب ونحوه جائزة ولو عينه الواقف، وفي عبارة أخرى له: ولو نهى الواقف عنه إذا كان النائب مثل مستنيبه في كونه أهلاً لما استنيب فيه ولا مفسدة راجحة، انتهى.
وجواز الإستنابة في هذه الأعمال كالأعمال المشروطة في الإجارة على عمل في الذمة كخياطة الثوب وبناء الحائط.
(46)
مسائل فيما يتعلق بالناظر والموقوف عليه وأمثلة للوقف على الأولاد وكيفية إستحقاقهم وبيان من يدخل فيما ذكر ومن لا يدخل
وما حول ذلك البحوث والأدلة
س 46: إذا أجر الناظر الوقف بأنقص من أجرة المثل أو غرس أو بنى في الوقف عليه، فما الحكم؟ وممّ ينفق على الموقوف ذي الروح، وإذا تعذر ما ينفق عليه منه أو احتاج العقار إلى تعمير، فما الحكم؟ ومن الذي يدخل إذا وقف على أولاده ثم المساكين؟ وكيف استحقاقهم للوقف؟ وهل يدخل أولاد البنات في الوقف إذا قال على ولده أو بنيه ووضح ترتيب الجملة وترتيب الأفراد وترتيب الاشتراك؟ واذكر ما حول ذلك من أمثلة ومحترزات وضوابط وشروط وأدلة وخلاف وترجيح.
ج: إذا أجر ناظر الوقف المعين العين الموقوفة بأنقص من أجرة المثل صح عقد الإجارة وضمن الناظر نقصًا لا يتغابن به في العادة إن كان المستحق غيره؛ لأنه يتصرف في مال غيره على وجه الأحظ فضمن ما نقصه عقد كالوكيل إذا باع أو أجر بدون ثمن أو أجر مثل.
ولا تفسخ الإجارة حيث صحت لو طلب الوقف بزيادة عن الأجرة الأولى وإن لم يكن فيها ضرر؛ لأنها عقد لازم من الطرفين ومن غرس أو بنى لنفسه فيما وقف عليه وحده فالغراس والبناء للغارس أو الباني محترم؛ لأنه وضعه بحق.
قال في «الإقناع» : فلو مات وانتقل الوقف لغيره فينبغي أن يكون كغراس وبناء انقضت مدته وإن كان الغارس أو الباني شريكًا في الوقف بأن كان على جماعة فغرس فيه أحدهم أو بنى فغرسه وبناؤه له غير محترم فيقلع، وكذا إن كان له النظر فقط دون الإستحقاق فغرس أو بنى في الوقف
فغرسه وبناؤه غير محترم فيقلع وليس له بقاؤه بغير رضى أهل الوقف فيقلع إن أشهد أنه له.
وإن غرس أو بنى موقوف عليه أو ناظر وقف فهو له إن شهد أنه غرسه أو بناه له وإن لم يشهد أنه له فغرسه وبناؤه للوقف تبعًا للأرض.
وإن غرسه الناظر أو بناه للوقف أو من مال الوقف فهو وقف وإن غرس إنسان غير ناظر وموقوف عليه فهو للوقف بنيته.
وقال الشيخ تقي الدين: يد الوقف ثابتة على المتصل به ما لم تأت حجة تدفع موجبها كمعرفة كون الغارس غرسها له بحكم إجارة أو إعارة أو غصب ويد المستأجر على المنفعة فليس له دعوى البناء بلا حجة ويد أهل عرصة مشتركة ثابتة على ما فيها بحكم الاشتراك إلا مع بينة باختصاصه ببناء ونحوه.
وينفق الناظر على موقوف ذي روح كالرقيق والخيل مما عين واقف الإنفاق منه رجوعًا إلى شرط الواقف، فإن لم يعين الواقف محلاً للنفقة فنفقته من غلته؛ لأن الوقف اقتضى تحبيس أصله وتسبيل منفعته ولا يحصل ذلك إلا بالإنفاق عليه فكان ذلك ضرورته.
فإن لم يكن له غلة لضعفه ونحوه فنفقته على موقوف عليه معين؛ لأنه ملكه، فإن تعذر الإنفاق عليه من الموقوف عليه لعجزه أو غيبته ونحوهما بيع الموقوف وصرف ثمنه في مثله.
لكن غير ذي روح يكون وقفًا لمحل الضرورة إن لم يمكن إيجاره، فإن أمكن إيجاره كعبد أو فرس أو جر مدة بقدر نفقته لاندفاع الضرورة المقتضية للبيع بذلك ونفقة حيوان موقوف على غير معين كفقراء ومسجد تؤخذ من بيت المال؛ لأن الإنفاق هنا من المصالح.
فإن تعذر الأخذ من بيت المال بيع الموقوف وصرف ثمنه في عين أخرى كما تقدم فيما إذا كان على معين وتعذر الإنفاق عليه بكل حال، وإن مات العبد الموقوف فمؤنة تجيزه على من تلزمه نفقته.
وإن كان الموقوف عقارًا واحتاج لعمارة لم تجب عمارته على أحد مطلقًا سواء كان على معين أو لا بلا شرط من واقفه كالطلق ذكره الحارثي وغيره مع أنه قال بعد في عمارة الوقف تجب إبقاء للأصل ليحصل دوام الصدقة وهو معنى قول الشيخ تقي الدين تجب عمارة الوقف بحسب البطون.
فإن شرط العمارة واقف عمل بالشرط على حسب ما شرط لوجوب اتباع شرطه سواء شرط البداءة بالعمارة أو تأخيرها فيعمل بما شرط لكن إن شرط تقديم الجهة عمل ما لم يؤدّ إلى تعطيل الوقف، فإذا أدى إليه قدمت العمارة حفظًا للأصل.
واشتراط الصرف إلى الجهة في كل شهر كذا في معنى اشتراط تقديمه على العمارة ومع الإطلاق تقدم على أرباب الوظائف وتقدم عمارة نحو مسجد ومدارس وزوايا على أرباب وظائف سواء شرط البداءة بالعمارة أو بالجهة الموقوف عليها أو لم يشرط شيئًا ما لم يفض تقديم العمارة إلى تعطيل مصالحه فيجمع بين العمارة وأرباب الوظائف حسب الإمكان لئلا يتعطل الوقف أو مصالحه.
ولو احتاج خان مسبل أو احتاجت دار موقوفة وقفت للسكنى لنحو حاجّ كعابر سبيل وغزاة إلى مرمه وهي تصليح ما وهي وتضعضع أو جر من ذلك الموقوف جزء بقدر ما يحتاج إلى مرمته بقدر الضرورة والظاهر أنه يؤجر منه ذلك جوازًا أن العمارة لا تجب إلا بشرط من الواقف.
وعلم منه أنه لا يجوز أن يؤجر أكثر من قدر الحاجة وتسجيل كتاب الوقف منه كالعادة ذكره الشيخ تقي الدين، وقال: لو عمر وقفًا بالمعروف فله أخذه من غلته.
وقال الشيخ أيضًا: ولو وقف مسجدًا أو شرط إمامًا وستة قراء وقيمًا ومؤذنًا وعجز الوقف عن تكميل حق الجميع ولم يرض الإمام والمؤذن والقيم إلا بأخذ جامكية مثلهم صرف للإمام والمؤذن والقيم جامكية مثلهم مقدمة على القراء، فإن هذا المقصود الأصلي.
ومن وقف على ولده ثم على المساكين أو وقف على أولاده ثم المساكين أو وقف على ولد غيره أو وقف على أولاد غيره ثم على المساكين دخل موجود من أولاده حال الوقف فقط الذكور والإناثي والخناثي بينهم بالسوية، أما كون الأنثى كالذكر؛ لأن الولد يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى كما قاله أهل اللغة، وأما كونه بينهم بالتسوية فلأنه جعل لهم وإطلاق التشريك يقتضي التسوية كما لو أقر لهم بشيء وكولد الأم في الميراث.
ولا يدخل فيهم المنفي بلعان؛ لأنه لا يلحقه كولد الزنا ثم لا فرق بين صيغة الولد أو الأولاد في الإستقلال الموجود منهم في الوقف واحدًا كان أو اثنين أو أكثر؛ لأن عمل الواقف بوجود ما دون الجمع دليل إرادته من الصيغة.
ولا يدخل ولد حادث للواقف بأن حملت به أمه بعد صدور الوقف منه، وقيل: إن حدث للواقف ولد بعد وقفه استحق كالموجودين ومحل ذلك ما لم يقل الواقف: وقفت كذا على ولدي، ومن يولد لي، فإن قال ذلك دخل من كان موجودًا حال الوقف ومن يحدث.
والقول الثاني: وهو أنه يدخل ولو لم يقل الواقف ومن يولد لي وهو الذي تطمئن إليه النفس، والعرف الجاري بين الناس يؤيده أن الواقف لا يقصد حرمان ولده المتجدد، بل هو عليه أشفق لصغره وحاجته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويدخل في الوقف على ولده أو أولاده أو ولد غيره أو أولاده ولد بنيه الموجودين تبعًا سواء وجدوا حالة وقف أو لا كوصية لولد فلان فيدخل فيه أولاده الموجودون حال الوصية وأولاد بنيه وجدوا حال الوصية أو بعدها قبل موت الموصى لا من وجد بعد موته ما لم تكن قرينة تصرفه عن ذلك.
وأما ولد البنات، فقيل: لا يدخلون في الوقف؛ لأنهم لا ينسبون إليه، بل إلى آبائهم، قال الله تعالى:{ادْعُوَهُمْ لآبَائِهِمْ} قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: ما تقول في رجل وقف ضيعة على ولده، فمات الأولاد وتركوا النسوة حوامل، فقال: كل ما كان من أولاد الذكور بنات كن أو بنين فالضيعة موقوفة عليهم، وما ك ن أولاد البنات فليس لهم فيه شيء؛ لأنهم من رجل آخر، ووجه ذلك قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} دخل فيه ولد البنين وإن سفلوا، ولما قال تعالى:{وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} تناول ولد البنين.
فالمطلق من كلام الآدمي إذا خلا عن قرينة ينبغي أن يحم لعلى المطلق من كلام الله تعالى ويفسر بما يفسر به، ولأن ولد الولد ولد بدليل قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ} ، و {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:«ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا» ، وقالوا: نحن بنو النظير بنو كنانة، والقبائل تنسب إلى جدودها، ولأنه لو وقف على ولد فلان وهم قبيلة، دخل فيه ولد البنين فكذلك إذا لم يكونوا قبيلة، وإنما يسمى ولد الولد ولدًا مجازًا، ولهذا يصح نفيه،
فيقال: ما هذا ولدي، وقيل: لا يدخل ولد الولد بحال وسواء في ذلك ولد الولد أو ولد البنت؛ لأن الولد حقيقة وعرفًا إنما هو ولده لصلبه، وإنما سمي ولد مجازًا، ولهذا يصح نفيه، والقول الأول هو الذي تميل إليه نفسي، والله أعلم.
فأما ولد البنات فعلى القول الأول لا يدخلون، قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
…
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وممن قال: لا يدخل ولد البنات في الوقف الذي على أولاده وأولاد أولاده مالك ومحمد بن الحسن.
وقيل: يدخل في أولاد البنات، وهو مذهب الشافعي وأبي يوسف؛ لأن البنات أولاده فأولادهن أولاده حقيقة فيجب أن يدخلوا في اللفظ لتناوله لهم، وقد دل على صحة ذلك قوله تعالى:{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} وهو ولد بنت فجعله من ذريته.
وكذلك ذكر الله تعالى قصة عيسى وإبراهيم وإسماعيل وإدريس، ثم قال:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} وعيسى فيهم، وعن أبي بكرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول:«أن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» رواه البخاري.
وعن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحسن وحسين على وركيه: «هذان ابناي وابنا بنتي، اللهم إني أحبهما، فأحبهما وأحب من يحبهما» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وعن أنس قال: قال بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت
يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، وقالت: قالت لي حفصة أنت ابنة يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، فبم تفخر عليك» ، ثم قال:«اتقي الله يا حفصة» رواه أحمد والترمذي، وصححه النسائي، وفي حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي:«وأما أنت يا علي، فختني وأبو ولدي» رواه أحمد، ولما قال تعالى:{وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} دخل في التحريم حلائل أبناء البنات.
وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويستحق أولاد البنين الوقف مرتبًا بعد آبائهم وإن سفلوا لكن يحجب أعلاهم أسفلهم، كقوله: وقفته على أولادي أو الأعلى فالأعلى أو الأول فالأول أو قرنًا بعد قرن ونحوه مما يدل على الترتيب ما لم يكونوا قبيلة كولد النظر بن كنانة أو يأتي بما يقتضي التشريك كعلى أولادي وأولادهم فلا ترتيب وإن قال: وقفت على ولدي وولد ولدي شمل قوله فوق ثلاثة بطون؛ لان الولد يتناول أولاد الابن، وقيل: يدخل ثلاثة بطون دون من بعدهم.
والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن قال: وقفت على ولدي ثم ولد ولدي ثم الفقراء شمل قوله البطن الثالث، وشمل من بعده لتناول الولد أولاد الإبن، وقيل: لا يشمل البطن الثالث، ومن بعده، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن قال: وقفت على أولادي لصلبي لم يدخل ولد ولد، أو قال: وقفت على أولادي الذين يلوني اختص بهم ولم يدخل ولد ولد معهم، وإن قال: وقفت على عقبي أو نسلي، أو قال: وقفت على ولد ولدي، أو قال: وقفت على ذريتي لم يدخل فيهم ولد البنات إلا بقرينة.
ونقل عنه: يدخلون، وقال أبو بكر وابن حامد -رحمهما الله تعالى-: يدخلون في الوقف إلا أن يقول على ولد ولدي لصلبي فلا يدخلون، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لقوله تعالى في حق الذرية ودخول أولاد البنات فيهم:{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ} إلى قوله: {وَعِيسَى} ابن مريم، فدل على دخول أولاد البنات في ذرية الرجل؛ لأن عيسى إنما ينسب إلى إبراهيم بأمه مريم، فإنه لا أب له.،
وروى ابن أبي هاشم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره، قال: أليس تقرأ سورة الأنعام: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} حتى بلغ: {وَيَحْيَى وَعِيسَى} قال: بلى، قال: أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب، قال: صدقت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن الوقف المحرم ما يفعله بعض الموقفين فيوقف على ذريته الذكور والأنثى حياة عينها، فهذا كما قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد: أنه وقف الجنف والإثم لما فيه من الحيلة على حرمان أولاد البنات ما جعل الله لهم في العاقبة، وهذا القوف على هذا الجهة بدعة ما أنزل الله بها من سلطان وغايته تغيير فرائض الله بحيلة الوقف.
قال: وقد صنف فيها شيخنا - رحمه الله تعالى - وأبطل شبه المعارضين ولا يجيزه إلا مرتاب في هذه الدعوة الإسلامية. اهـ. قلت: فعلى المسلم أن يتجنب هذا الجنف والحيف والضرر العظيم الذي هو حرمان أولاد بناته، فإنه يسبب العقوق من أولاد البنات ويبغضه لهم فلا يسمحون بالدعاء له، وقد لا يعيش من نسله إلا هم فيأخذ وقفه البعيد وأولاد بنته يحرمون كيف؟ وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله سنين ثم يحضرهما الموت، فيضار أن في
الوصية، فتجب لهما النار» ثم قرأ أبو هريرة قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} رواه أبو داود.
وإن قال على البطن الأول من أولادي ثم على الثاني ثم الثالث وأولادهم، والبطن الأول بنات، ونحو ذلك مما يدل على دخول أولاد البنات فيدخلون بلا خلاف.
ومن وقف أولاده ثم أولادهم أو أولاده ما تناسلوا أو تعاقبوا الأعلى فالأعلى أو الأقرب فالأقرب أو طبقة بعد طبقة أو نسلاً بعد نسل، أقال على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولاد أولادي فترتيب جملة على جملة مثلها لا يستحق البطن الثاني شيئًا قبل إنقراض البطن الأول؛ لأن الوقف ثبت بقوله فيتبع فيه مقتضى كلامه كقوله بطنًا بعد بطن، ونحوه كقرن بعد قرن فمتى بقي واحد من البطن الأول كان الكل له، والمراد لمن وجد من البطن الأعلى حيث كان الوقف على ولده أو أولاده أو ذكر ما يقتضي الترتيب.
وعند الشيخ تقي الدين المرتب بثم إنما يدل على ترتيب الأفراد لا ترتيب البطون، فعليه يستحق الولد نصيب أبيه بعده فلو قال الواقف ومن مات عن ولد فنصيبه لولده، فهو دليل ترتيب؛ لأنه لو اقتضى التشريك لاقتضى التسوية، ولو جعلنا لولد الولد سهمًا مثل سهم أبيه ثم دفعنا غليه مثل سهم أبيه صار له سهمان ولغيره سهم، وهذا ينافي التسوية، ولأنه يفضي إلى تفضيل ولد الإبن والظاهر من مراد الواقف خلافه.
فإن ثبت الترتيب، فإنه ترتيب بين كل والد وولده، فإذا مات من أهل الوقف واحد أو أكثر مما له ولد استحق كل ولد بعد أبيه نصيبه الأصلي والعائد إليه سواء بقي من البطن الأول واحد أو لم يبق منه أحد؛ لعموم قوله:«من مات عن ولد فنصيبه لولده» مثل أن يكون الموقوف عليهم ثلاثة إخوة
فيموت أحدهم عن ولد انتقل إليه نصيبه، ويموت الثاني عن غير ولد فنصيبه لأخيه الثالث، فإذا مات الأخ الثالث عن ولد استحق الولد جميع ما كان في يد أبيه من الثالث الأصلي والثلث العائد إليه من أخيه؛ لعموم «فنصيبه لولده» ؛ لأنه مفرد مضاف لمعرفة فيعم.
وفي «الاختيارات الفقهية» : وقول الواقف «من مات عن ولد فنصيبه لولده» يشمل الأصلي لا العائد وهو احد الوجهين، وكذا إن زاد الواقف في شرطه على أن مات عن ولد في حياة والده، والمراد قبل دخوله في الوقف، وله ولد ثم مات الوالد عن أولاده لصلبه وعن ولد ولده لصلبه الذي مات أبه قبل استحقاقه فلولد الابن مع أعمامه ما لأبيه لو كان حيًا، فهذا تصريح في ترتيب الأفراد، فإذا مات واحد من مستحقي الوقف وجهل شرط الواقف صرف إلى جميع المستحقين بالسوية ذكره في «الاختيارات الفقهية» .
وقال في «الفروع» : وقول الواقف «من مات فنصيبه لولده» يعم ما استحقه وما يستحقه مع صفة الاستحقاق، استحقه أو لا تكثر للفائدة ولصدق الإضافة بأدنى ملابسة فلو مات إنسان عن ولد ولد قبل أن يدخل أبوه في الوقف المشروط فيه أن من مات عن ولد فنصيبه لولده، فلولد الولد نصيب جده؛ لأن أباه استحقه أن لو كان موجودًا، ثم قال بعد قوله بأدنى ملابسة، ولأنه بعد موته لا يستحقه، ولأنه المفهوم عند العامين الشارطين ويقصدونه؛ لأنه يتيم لم يرث هو وأبوه من الجد، ولأن في صورة الاجتماع ينتقل مع وجود المانع إلى ولده.
وصفات الاستحقاق للوقف ثلاثة: ترتيب جملة، وترتيب الأفراد، وترتيب الاشتراك، فترتيب الجملة: عبارة عن كون البطن الأول ينفرد بالوقف كله عمن بعده ما دام منه واحد ثم إذا انقرض أهل البطن الأول كلهم انتقل إلى الثاني فقط، وما دام من الثاني واحد لم ينتقل منه شيء، وهكذا.
وترتيب أفراد: عبارة عن كون الشخص من أهل الوقف لا يشاركه ولده ولا يتناول من الوقف شيئًا ما دام الأب حيًا، فإذا مات الأب انتقل ما بيده إلى ولده فاستحقاقه مشروطًا بموت أبيه.
والاشتراك: عبارة عن استحقاق جميع الموجودين من البطون من غير توقف على شيء، بل هم على حد سواء فيشارك الولد والده، وكذا ولد الولد ثم الصفة الأولى تحصل بصيغ:
منها: أن يقول هذا وقف على أولادي أو ولدي أو بطنًا بعد بطن أو طبقة بعد طبقة أو قرنًا بعد قرن أو ثم أولادهم.
وتحصل الثانية بقوله من مات فنصيبه لولده أو عن غير ولد فلمن في درجته.
وتحصل الثالثة بالواو بأن قال: على أولادي وأولادهم وأولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم كان الواو للاشتراك؛ لأنها لمطلق الجمع فيشتركون فيه بلا تفضيل فيستحق الأولاد مع آبائهم لما تقدم من أنها لا تقتضي الترتيب بلا قرينة.
وإن قال الواقف: هذا وقف على أولادي ثم أولادهم على أن نصيب من مات عن ولد فنصيبه لولده فهو ترتيب بين كل والد وولده فيستحق كل ولد بعد أبيه نصيبه؛ لأنه صريح في ترتيب الأفراد.
ولو قال: وقفت على أولادي ثم أولاد أولادي على أنه من توفي منهم عن غير ولد فنصيبه لأهل درجته استحق كل ولد نصيب أبيه بعده كالمسألة التي قبلها بقرينة، قوله: عن غير ولد فهذا دال على إرادة ترتيب الأفراد وإن مات ولد فنصيبه له.
وإن قال علي: أن نصيب من مات عن غير ولد لمن في درجته، والوقف
مرتب ثم أو نحوها فمات أحدهم فنصيبه لأهل البطن الذي هو منهم دون بقية البطون من أهل الوقف المستحقين له دون عملاً بسوابق الكلام.
فلو كان البطن الأول ثلاثة فمات أحدهم عن ابن ثم مات الثاني عن ابنين ثم مات أحد الابنين وترك أخاه وبن عمه وعمه وأبناء لعمه الحي كان نصيبه لأخيه وابن عمه الذي مات أبوه دون عمه الحي وابنه.
وكذا لو وقف على ثلاثة من بنيه الأربع على أن نصيب من مات عن غير ولد لمن في درجته فمات أحد الثلاثة عن غير ولد كان نصيبه بين أخويه من أهل الوقف دون الثالث؛ لأنه ليس من أهل الاستحقاق أشبه ابن عمهم.
وقال السبكي: إذا وقف على شخص ثم أولادهم وشرط أن من مات من بناته فنصيبها للسباقين من إخوتها ومن مات قبل استحقاقه لشيء وفله ولد استحق ولده ما كان يستحقه المتوفى لو كان حيًا فمات الموقوف عليه وخلف ولدين وولد ولد مات أبوه في حياة والده، فأخذ الولدان نصيبهما وهما ابن وبنت وأخذ ولد الولد النصيب الذي لو كان والده حيًا لأخذه ثم ماتت البنت فهل يختص أخوها الباقي بنصيبها أو يشاركه فيه ابن أخيه؟
قال: تعارض اللفظان المذكوران، ونظرنا فرجحنا أن التنصيص على الإخوة وعلى الباقين منهم كالخاص، وقوله: من مات قبل الاستحقاق كالعام فيقدم الخاص على العام، فلذلك ترجح عندنا تخصيص الأخ وإن كان الآخر محتملاً وهو مشاركة ابن الأخ، انتهى.
(47)
الوقف المشترك بين البطون، وإذا رتب ثم شرك، أو قال من مات عن ولد فنصيبه لمن في درجته، والوقف على القرابة من يدخل ومن لا يدخل،
والوقف على الآل والأهل وقومه
س 47: تكلم بوضوح عن أحكام ما يلي: إذا كان الوقف مشتركًا بين البطون وشرط أن من مات عن غير ولد فنصيبه لمن في درجته، إذا قال: وقفت على زيد، وإذا انقرض أولاده فعلى المساكين، وإذا رتب ثم شرك، أو قال بعد الترتيب ثم على أنسالهم وأعقابهم، وإذا وقف شيئًا على بنيه أو على بني فلان أو على قرابته أو قرابة زيد فمن يدخل من أولئك ومن يدخل في الوقف على العترة، وإذا وقف على أهل بيته أو نسائه أو قومه أو آله أو أهله، فما الحكم؟ وما الدليل؟ وضحه مع ذكر الخلاف والترجيح.
ج: إذا كان الوقف مشتركًا بين البطون وشرط إن مات عن غير ولد فنصيبه لمن في درجته فيختص به أهل الوقف الذي هو منهم من أهل الوقف، وليس للأعلى مع أهل درجة الميت شيء من نصيبه وإن كانوا مشاركين لهم قبل موته.
فإن لم يوجد في درجة من مات عن غير ولد أحد من أهل الوقف فكما لو لم يذكر الشرط؛ لأنه لم يوجد ما تظهر فائدته فيه فيشترط الجميع من أهل الوقف في مسألة الاشتراك؛ لأن الاشتراك يقتضي التسوية وتخصيص بعض البطون يفضي إلى عدمها ويختص البطن الأعلى بنصيب المتوفي الذي لم يوجد في درجته أحد في مسألة الترتيب؛ لأن الوقف مرتب فيعمل بمقتضاه حيث يوجد الشرط المذكور.
وإن كان الوقف على البطن الأول كما لو قال وقفت على أولادي على
أن نصيب من مات منهم لمن في درجته فكذلك نصيبه لأهل البطن الذي هو منهم من أهل الوقف كما تقدم، فإن لم يكن في درجته أحد اختص به الأعلى كما لو لم يذكر الشرط.
وحيث كان نصيب ميت لأهل البطن الذي منهم فيستوي في ذلك كله إخوة الميت وبنو عمه وبنو عم أبيه وبنو عم أبي أبيه؛ لأنهم في درجته في القرب إلى الجد الذي يجمعهم والإطلاق يقتضي التسوية، وكذا أناثهم حيث لا مخصص للذكور إلا أن يقول الواقف يقدم الأقرب فالأقرب إلى المتوفي ونحوه فيختص نصيب الميت بالأقرب وليس من الدرجة من هو أعلى من الميت كعمه أو أنزل منه كابن أخيه.
والحادث من أهل الدرجة بعد موت الآيل نصيبه إليهم كالموجودين حين الموت لوجود الوصف فيه والشرط منطبق عليهم.
فعلى هذا إن حدث من هو أعلى من الموجودين وكان الشرط في الوقف الأعلى فالأعلى كما لو وقف على أولاده ومن يولد له ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم ما تناسلوا ومات أولاده وانتقل الوقف لأولادهم ثم ولد له ولد أخذ هذا الولد الوقف من أولاد إخوته؛ لأنه أعلى منهم درجة فلا يستحقونه معه.
ولا يرجع عليهم بما قبضوه فيما مضى من غلته؛ لأن المقبوض إنما استحقه قاضه ومالكه بوضع يده عليه وتناوله إياه في مدة كان يستحقها فيها دون غيره.
قال في «شرح الإقناع» : فائدة لو قال على أن من مات قبل دخوله في الوقف عن ولد وإن سفل وآل الحال في الوقف إلى أنه لو كان المتوفي موجودًا لدخل قام ولده مقامه في ذلك وإن سفل واستحق ما كان أصله
يستحقه من ذلك أن لو كان موجودًا فانحصر الوقف في رجل من أولاد الواقف ورزق خمسة أولاد مات أحدهم في حياة والده وترك ولدًا ثم مات الرجل عن أولاده الأربعة وولد ولده ثم مات من الأربعة ثلاثة عن غير ولد وبقي منهم واحد مع ولد أخيه استحق الولد الباقي أربعة أخماس ريع الوقف وولد أخيه الخمس الباقي.
وجه ذلك أن قول الواقف على أن من مات منهم قبل دخوله في هذا الوقف إلخ مقصور على استحقاق الولد لنصيب والده المستحق له في حياته لا يتعداه إلى من مات من إخوة والده عن غير ولد بعد موته، بل ذلك إنتمنا يكون للإخوة الأحياء عملاً بقول الواقف على أن من توفي منهم عن غير ولد إلخ إذ لا يمكن إقامة الولد مقام أبيه في الوصف الذي هو الأخوة حقيقة والأصل حمل اللفظ على حقيقته، وفي ذلك جمع بين الشرطين وعمل بكل منهما في محله وذلك أولى من إلغاء أحدهما. اهـ.
ولو قال واقف ومن مات عن غير ولد وإن سفل فنصيبه لإخوته ثم نسلم وعقبهم عم ولو من لم يعقب من إخوته ثم نسلهم ومن أعقب ثم انقطع عقبه أي ذريته؛ لأنه لا يقصد غيره، واللفظ يحتمله فوجب الحمل عليه قطعًا، قاله الشيخ تقي الدين.
ولو رتب الواقف أولاً بعض الموقوف عليهم، فقال: وقفت على أولادي ثم على أولاد أولادي ثم شرك بينهم بأن قال بعد أولاد أولادي وأولادهم أو عكس بأن قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي ثم على أولادهم، فهو على ما شرط ففي المسألة الأولى يختص الأولاد باقتضاء ثم للترتيب.
فإذا انقرض الأولاد صار مشتركًا بين من بعدهم من أولادهم وأولاد أولادهم وإن نزلوا؛ لأن العطف فيهم بالواو وهو لا تقتضي الترتيب، فإن قيل: قد رتب أولاً فهل حمل عليه ما بعده، فالجواب قد يكون غرض الواقف
تخصيص أولاده لقربهم منه.
وفي المسألة الثانية وهي ما إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده ثم أولادهم وأولاد أولادهم يشترك البطنان الأولان للعطف بالواو دون غيرهم فلا يدخل معهم في الوقف لعطفه بثم، فإذا انقرضوا اشترك فيه من بعدهم لما تقدم.
ولو قال بعد الترتيب بين أولاده بقوله هذا وقف على أولادي ثم على أولادهم ثم على أنسالهم وأعقابهم استحقه أهل العقب مرتبًا لقرينة الترتيب فيما قبله ولا يستحقونه مشتركًا مع الأنسال نظرًا إلى عطفهم بالواو لمخالفة القرينة السياق وصوب استحقاق أهل العقب مرتبًا في «الإنصاف» .
قال في «الاختيارات» : الواو كما لا تقتضي الترتيب لا تنفيه لكن هي ساكتة عنه نفيًا وإثباتًا ولكن تدل على التشريك وهو الجمع المطلق، فإن كان في الوقف ما يدل على الترتيب مثل أن رتب أولاً عمل به ولم يكن ذلك لمقتضى الواو، انتهى.
ومن وقف على بني فلان أو على بنيه فهو للذكور يختصون به؛ لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة؛ لقوله تعالى: {أَصْطَفَى البَنَاتِ عَلَى البَنِينَ} ، وقوله:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} ، وقوله تعالى:{المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} فلا يدخل خنثى؛ لأنه لا يعلم كونه ذكرًا، وكذلك لو وقف على بناته اختص بالبنات فلا يدخله فيه الذكور ولا الخناثى؛ لأنه لا يعلم كونهن إناثًا وإن كانوا بنو فلان قبيلة كبيرة، قال في «الرعاية» كبني هاشم وبني تميم وقضاعة دخل فيه الإناث؛ لقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}
ولأن القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها دون أولاد النساء من تلك القبيلة إذا كانوا من رجال غير القبيلة؛ لأنهم لا ينسبون إلى القبيلة الموقوف عليها، بل إلى
غيرها وكما لو قال المنتسبين إليّ ويدخل أولادهن منهم لوجود
الإنتساب حقيقة ولا يشمل مواليهم؛ لأنهم ليسوا منهم حقيقة كما لا يدخلون في الوصية.
وقال الشافعي: لا يصح الوقف على من لا يمكن استيعابهم وحصرهم في غير المساكين وأشباههم؛ لأن هذا تصرف في حق آدمي فلم يصح مع الجهالة كما لو قال: وقفت على قوم، وهذا أحد قولي الشافعي والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأن من صح الوقف عليهم إذا كانوا محصورين صح وإن لم يحصوا كالفقراء، والله أعلم.
وإن وقف على عترتبه وعشريته فكما لو قال: وقفت على القبيلة، قال في «المقنع»: العترة هم العشيرة؛ لقول أبي بكر في محفل من الصحابة نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيضته التي تفقأت عنه ولم ينكره أحد وهم أهل اللسان، وقيل: العترة الذرية، وقيل: ولده وولد ولده.
وفي «القاموس وشرحه» : العترة: نسل الرجل وأقرباؤه من ولد وغيره.
وإن وقف على قرابته أو قرابة زيد فالوقف لذكر وأنثى من أولاده وأولاد أبيه وهم إخوته وأخواته وأولاد جده وهم أبوه وأعمامه وعماته وأولاد جد أبيه وهم جده وأعمامه وعماته فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى المشار إليه في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى} فلم يعط من هو أبعد كبني عبد شمس وبني نوفل شيئًا، ولا يقال هما كبني المطلب، فإنه صلى الله عليه وسلم علل الفرق بينهم وبين من سواهم ممن ساواهم في القرب بأنهم لم يفارقوا في جاهلية الإسلام ولا إسلام ولم يعط قرابته من ولد أمه وهم بنو
زهرة شيئًا منه، ولا يدخل في الوقف على القرابة مخالف لدين الواقف، فإن كان الواقف مسلمًا لم يدخل في قرابته كافرهم وإن كان
كافرًا لم يدخل المسلم إلا بقرينة ولا يدخل في الوقف على قرابته أمه أو قرابته من قبلها، وقيل: يدخل كل من عزف بقرابته من جهة أبيه ومن جهة أمه من غير تقيد بأربعة آباء، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه صادق عليهم أنهم قرابته فيتناولهم الاسم ويدخلون في عمومه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعلى كلا القولين إن كان في اللقيط من الواقف ما يدل على إرادة الدخول كتفضيل جهة قرابة أبيه على قرابته من جهة أمه أو قول الواقف إلا ابن خالتي فلانًا ونحو ذلك فيعمل بمقتضى القرينة أو وجدت قرينة تخرج بعضهم عمل بها والوقف على أهل بيته أو على قومه أو على نسائه أو على آلة أو على أهله ونسبائه كعلى قرابته؛ لأن قوم الرجل قبيلته وهم نسباؤه.
قال الشاعر:
فقلت لها أما رفيقي فقومه
…
تميم وأما أسرتي فيماني
فلكل قرابة أما في أهل بيته فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لي ولا لأهل بيتي» وفي رواية: «آل محمد لا تحل لنا الصدقة» فجعل سهم ذوي القربى لهم عوضًا عن الصدقة التي حرمت عليهم، فكان ذوي القربى الذين سماهم الله تعالى هم أهل بيته وإن وقف على ذوي أرحامه، فإنه يكون لكل قرابة للواقف من جهة الآباء سواء كانوا عصبة كالآباء والأعمام وبينهم أولاً كالعمات وبنات العم ولكل قرابة من جهة الأمهات كأمه وأبيه وأخواله وأخوالها وخالاته وخالاتها؛ لأن القرابة من جهة الأم أكثر استعمالاً، فإذا لم يجعل ذلك مرجحًا فلا أقل أن لا يكون مانعًا ولكل قرابة له من جهة الأولاد ممن يرث بفرض أو تعصيب أو رحم كابنه وبنته وأولادهم؛ لأن الرحم يشملهم.
من النظم فيما يتعلق بالوقف
ووقف لأولاد والفتى ووصيه
…
كذكرانهم خنثى وأنثى ليردد
ويشترط الإطلاق دون قرينة
…
لدى الخلف والترتيب حتم بأجود
ويختص منهم من لدى الوقف كائن
…
كالإيصا عنه قبل موت المؤيد
فمن يتجدد بعد لا قبل ما بدي
…
ثمار وزرع خص بالبائع أصدد
وإن جاو فيها ما يخص بمشتر
…
يشارك فاطلب يا أخي العلم وأجهد
وليس كهذا من تنزل طاريًا
…
بمدرسة بل جعل فعل مقيد
ووقف لأولاد وأولاد ولده
…
فأنزل فالمنصوص دون المزيد
ووقف على زيد وعمر ومعمر
…
ومن مات من نسل حووا حصة الردى
ومن مات لم يعقب ليعط نصيبه
…
بشرط لأهل الوقف دون المعدد
فمات عن ابن معمر وأخوه لم
…
يعقب فللباقي مع ابن أخ جد
وإن قال من لم يعقب امسخ نصيبه
…
مساوية في الرتبة إن رتب أشهد
بأن نصيب الميت عن غير وارث
…
يخص ببطن منهم ميت قد
كذا أن يقف بين البطون مشركًا
…
وقل هنا بل للجميع فجود
ويدخل أولاد البنات بأجود
…
نحاه أبو بكر مع الشيخ قلد
كذا الحكم في نسل وذرية الفتى
…
وفي عقب والخلف في كل أبعد
وكالذكر أنثى من قضى بدخولهم
…
وذا المال منهم كالفقير المقتردي
وفي هؤلاء أولاد سعد وخالد
…
وجيهان في تعميم من لم يعدد
ويشرع قسم الوقف كالطلق بينهم
…
وليس بمكروه كوجه مبعد
وإن خص بعضًا عن هوى كرهوا له
…
وأما لمعنى تقتضيه فجود
ومن صار أهل قبل حصد زراعة
…
وتأبير نخل يستحق كمبتدي
ويدخل عن كانوا بنيه قبيلة
…
نساء سوى أولادها من مبعد
ويختص في اسم القرابة ولده
…
وقربى أبي الإنسان مع علو مصعد
وعنه على قربى أب رابع فقط
…
وعنه على قربى الثلاثة قيد
لأن رسول الله لم يعد هاشمًا
…
بسهم ذوي القربى فكن خير مقتد
ولا تعط إلا مسلمًا والغني
…
والفقير والأنثى سوٌ ما لم يقيد
وعنه إن يكن حال الحياة مواصلاً
…
قرابته أم أعط وإلا فأبعد
وذو رحم قربى أبيه وأمه
…
وأولاده أعلم من قريب وأبعد
وبيت الفتى والقوم مثل قرابة
…
وقيل كذا الأرحام عند التفقد
وقيل نساء مثل رحم له وقد
…
قيل هم والآل كالأقرباء أعدد
وعترتهم ذرية قيل بل هم
…
عشيرته الأدنون عرفًا بأجود
(48)
الوقف على الأيامى والعزاب والأحفاد والأرامل والأسباط والقوم والشيوخ والأبكار والثيبات والعوانس والأخوة والأخوات والعلماء والقراء
والزهاد وسبل الخيرات والقرابة والجيران وأهل قريته وما حول ذلك
وصفة الوقف، وما يتعلق بذلك من معانٍ وأحكام
س 48: تكلم بوضوح عن معاني وأحكام ما يلي: إذا وقف على الأيامى أو العزاب أو الأرامل أو الأحفاد أو الأسباط أو القوم أو الأبكار أو الثيبات أو العوانس أو الأخوة أو العمومة أو الأخوات أو لجماعة أو جمع من الأقارب فمن يدخل ومن لا يدخل، وإذا وقف على العلماء أو القراء أو الزهاد أو على مواليه أو على الفقراء أو على المساكين فمن الذي يتناوله الوقف، وإذا وقف على صنف من أصناف الزكاة أو على أصنافها أو صنفين فأكثر أو وقف على سبل الخيرات فلمن يكون، ووضح من يشمله اللفظ ومن لا يشمله وإذا وقف على أهل قريته أو جيرانه أو وصى لهم بشيء، فهل يدخل المخالف في الدين؟ وهل الوصية كالوقف فيما مر؟ وما الطريقة التي ينبغي للواقف أن يسلكها في قسم وقفه؟ واذكر القيود والأدلة والتعليل والمحترزات والخلاف والترجيح.
ج: الأيامى: جمع أيم، وهي المرأة التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا، وكل ذكر لا أنثى معه، قال الشاعر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي
…
وإن كنت أفتى منكموا أتأيم
وقال التبريزي في شرح ديوان أبي تمام: قد كثر استعمال هذه الكلمة في الرجل إذا ماتت امرأته، وفي المرأة إذا مات زوجها، وفي الشعر القديم ما يدل على أن ذلك الموت وبترك الزوج من غير موت، قال الشماخ:
يقر لعيني أن أحدث أنها
…
وإن لم أنها أيم لم تزوج
وقيل: إنها الثيب، واستدل له بما روي أنه صلى الله عليه وسلم، قال:«الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» حيث قابلها بالبكر.
وقال الشاعر:
خلقنا رجالاً للتجلد والعزا
…
وتلك الأيامى للبكا والمآثم
وقال الآخر:
ولا تنكحن الدهر ما عشت أيمًا
…
مجربة قد مل منها وملت
وأما العزب فجمعه أعزاب، كسبب وأسباب، ويقال: رجل عزب وامرأة عزب، قال ثعلب: وإنما سمي عزبًا لانفراده وكل شيء انفرد فهو عزب، وفي «صحيح البخاري»: عن ابن عمر: وكنت شابًا أعزب، وأما الأرامل فهي النساء اللاتي فارقهن أزواجهن، وقيل: المساكين من رجال ونساء، وفي شعر أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقال الآخر:
ليبك على ملحان ضيف مدفع
…
وأرملة تزجى مع الليل أرملا
وقال جرير:
كل الأرامل قد قضيت حاجتها
…
فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وأما اليتامى: جمع يتيم وهو من مات أبوه ولم يبلغ، قال صاحب «اللامية»:
فأيمت نسوانًا وأيتمت إلدة
…
وعدت كما أبديت والليل اليل
وسواء كان ذكرًا أو أنثى ولا يشمل الوقف على اليتامى ولد زنى؛ لأن لليتيم إنكسار يدخل على القلب بفقد الأب، والحفيد والسبط ولد ابن وبنت والرهط ما دون العشرة من الرجال خاصة لغة لا واحد له من لفظه، وأما القوم فقيل: الجماعة من الرجال والنساء؛ لأن قوم كل رجل شيعته وعشيرته، وقيل: الرجال دون النساء لا واحد له من لفظه، قال الجوهري: ومنه قوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} ثم قال: ولا نساء من نساء، فلو كانت النساء من القوم لم يقل ولا نساء من نساء، وقال زهير:
وما أدري وسوف أخال أدري
…
أقوم آل حصن أم نساء
ومنه الحديث: «فليسبح القوم ولتصفق النساء» ، وسموا الرجال بذلك؛ لأنهم قوامون على النساء بالأمور التي ليس للنساء أن يقمن بها، والبكر يشمل الذكر والأنثى والثيب كذلك وعانس كذلك وهو من بلغ حد التزويج ولم يتزوج، قال الشاعر:
رأيت فتيان قومي عانسي حدر
…
إن الفتوا إذا لم ينكحوا عنسوا
وأما الكهل من الرجال فمن وخطه الشيب، وقيل: من جاوز الثلاثين، وقيل: من زاد على الثلاثين إلى الأربعين، والعرب تتمدح الكهولة، قال:
وما ضر من كانت بقاياه مثلنا
…
شباب تسامى للعلى وكهول
وقال الأعشى:
كهولاً وشبانًا فقدت وثروة
…
فلله هذا الدهر كيف ترددا
وقال الأزهري: إذا بلغ خمسين؛ قيل له: كهل. ومنه قوله:
هل كهل خمسين إن شاقته منزلة
…
مسفه رأيه فيها ومسبوب
فجعله كهلاً وقد بلغ خمسين، ويجمع على كهول وكهلون وكهال وكهلان بالضم، قال:
وكيف ترجيها وقد حال دونها
…
بنو أسد كهلانها وشبابها
وأما الشيخ فهو من جاوز الخمسين إلى ثمانين وما بعده هرم، وقيل إلى السبعين.
والصبيان والغلمان يختص الذكور قبل البلوغ والشبان من البلوغ حتى الثلاثين، وقيل: إلى خمس وثلاثين، ومثله الفتى وأخوة وعمومة لذكر وأنثى الأخوات للإناث خاصة والثيوبة زوال البكارة بالوطء، والطفل من
حين يخرج من بطن أمه إلى أن يحتلم، قال الله تعالى:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} .
ويقال: طفل وطفلة، وفي حديث الاستسقاء: أن أعرابيًّا أنشد النبي صلى الله عليه وسلم:
أتيناك والعذراء يدمي لبانها
…
وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وقال الآخر:
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت
…
كأنما هي ياقوت ومرجان
وإن قال: هذا وقف لجماعة أو لجمع من الأقرب إليه فثلاثة؛ لأنهم أقل الجمع، فإن لم يف الدرجة الأولى بأن لم يكن فيها ثلاثة كأن يكون له ولدان وأولاد ابن تمم الجمع من الدرجة التي بعدها وهم أولاد الابن فيتم الجمع بواحد منهم يخرج بقرعة.
ويشمل الجمع أهل الدرجة وإن كثروا لعدم المخصص والعلماء حملة الشرع ولو أغنياء، وقيل: من تفسير وحديث وفقه أصوله وفروعه، قاله في «الفروع»:
لا ذو أدب ونحو ولغة وصرف وعلم كلام أو طب أو حساب أو عروض أو هندسة وهيئة وتعبير رؤيا وقراءة قرآن وإقرائه وتجويده.
وأهل الحديث من عرفه ولو حفظ أربعين حديثًا لا من سم عه من غير معرفة، والقراء في عرف هذا الزمان حفاظ القرآن، وفي الصدر الأول هم الفقهاء، وأعقل الناس الزهاد؛ لأنهم أعرضوا عن الفاني للباقي.
قال ابن الجوزي: وليس من الزهد ترك ما يقيم النفس، ويصلح أمرها ويعينها على طريق الآخرن بل هذا زهد الجهال، وإنما الزهد ترك فضول العيش، وهو ما ليس بضرورة في بقاء النفس نفسه وعياله، وعلى هذا كان
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يؤيد قوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء أن يضيع من يعول» .
وتقدم لابن الجوزي كلام آخر نفيس حول هذا الموضوع في «المجلد الثاني» (ص 124) في فصل «صدقة التطوع» : وإن وقف على مواليه وله موال من فوق فقط وهم أعتقوه اختص الوقف بهم وإن كان له موال من فوق وموال من أسفل تناول الوقف جميعهم واستووا في الاستحقاق إن لم يفضل بعضهم على بعض؛ لأن الأسهم تتناولهم.
ومتى انقرض مواليه فالوقف لعصبة مواليه ومن لم يكن له موال حين قال: وقفت على موالي فالوقف لموالي عصبته لشمول الاسم لهم مجازًا مع تعذر الحقيقة، فإن كان إذ ذاك موال ثم انقرضوا لم يرجع من الوقف شيء لموالي عصبته؛ لأن الاسم تناول غيرهم فلا يعود إليهم إلا بعقد جديد ولم يوجد وإن وقف على الفقراء تناول المساكين وإن وقف على المساكين تناول الفقراء؛ لأنه إنما يفرق بينهما في المعنى إذا اجتمعا في الذكر.
وإن كان الوقف على صنف من أصناف الزكاة كالفقراء والرقاب والغارمين لم يدفع لواحد فوق حاجته؛ لأن المطلق من كلام الآدمي يحمل على المعهود في الشرع فيعطى فقير ومسكين تمام كفايتها مع عائلتهما سنة ومكاتب وغارم ما يقضيان دينهما وابن سبيل ما يحتاجه لسفره وغازيًا ما يحتاجه لغزوه.
وإن كان الوقف على أصناف فوجد من فيه صفات كابن سبيل غازيًا غارمًا استحق بالصفات كالزكاة على ما تقدم تفصيله في الجزء الثاني، ولو وقف على أصناف الزكاة أو صنفين فأكثر من أصنافها أو على الفقراء أو على المساكين جاز الاقتصار على صنف كزكاة؛ لأن مقصود الواقف عدم مجاوزتهم،
وذلك حاصل بالدفع إلى صنف منهم، بل إلى شخص واحد ولا يعطى فقير وغيره من أهل الزكاة أكثر مما يعطاه من زكاة إن كان الوقف على صنف من أصنافها.
وإن وقف على سبيل الخيرات فلمن أخذ من الزكاة لحاجته كفقير ومسكين وابن سبيل ولا يعطى مؤلف وغارم وعامل؛ لأن كلامه لا يشمل.
وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم واستيعابهم كبنيه أو بني فلان وليسوا قبيلة أو موالي غيره وجب تعميهم والتسوية بينهم فيه؛ لأن اللفظ يقتضي ذلك وأمكن الوفاء به فوجب العمل بمقتضاه كما لو أقر لهم بمال ولو أمكن حصرهم فيه في ابتداء الوقف ثم تعذر بكثرة أهله كوقف علي رضي الله عنه عمم من أمكن منهم بالوقف وسوى بينهم فيه؛ لأن التعميم والتسوية كانا واجبين في الجميع، فإذا تعذر في بعض وجب فيما لم يتعذر فيه كالواجب الذي تعذر بعضه.
وإن لم يمكن حصرهم ابتداء كالمساكين والقبيلة الكبيرة كبني هاشم وقريش وبني تميم جاز التفصيل والاقتصار على واحد، والتفضيل بينهم أولى وكالوقف على المسلمين كلهم أو على إقليم كالشاة ومدينة كمكة فيجوز التفضيل والاقتصار على واحد.
ويشمل جمع مذكر سالم كالمسلمين وضميره وهو الواو الأنثى تغليبًا؛ لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} .
ولا يشمل جمع المؤنث السالم وضميره الذكر إذ لا يغلب غير الأشرف عليه.
وإن وقف على أهل قريته أو على قرابته أو على إخوته أو على جيرانه أو وصى لهم بشيء لم يدخل فيهم مخالف لدين الواقف والموصى؛ لأن الظاهر من
حال الواقف أو الموصى لم يرد من يخالف دينه سواء كان مسلمًا أو كافرًا إلا بقربته تدل على دخولهم فيه فيدخلون كما مر.
ومن القرائن كونهم كلهم كفارًا فيدخلون؛ لأن عدم دخولهم لم يؤدي إلى رفع اللفظ بالكلية والمستحب للواقف أن يقسم الوقف على أولاده على حسب قسمة الله في الميراث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} .
وقال القاضي: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى؛ لأن القصد القربة على الدوام، وقد استووا في القرابة.
والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لأنه إيصال للمال إليهم فينبغي أن يكون على حسب الميراث قسمته كالعطية، ولأن الذكر في مظنة الحاجة أكثر من الأنثى؛ لأن كل واحد منهما في العادة يتزوج ويكون له الولد، فالذكر تجب عليه نفقة امرأته وأولاده والمرأة ينفق عليها زوجها ولا يلزمها نفقة أولادها، وقد فضل الله تعالى الذكر على الأنثى في الميراث على وفق هذا المعنى، والله أعلم.
وإن فضل بعضهم على بعض لما به من الحاجة والمسكنة أو عمى أو نحوه أو خص أو فضل المشتغلين بالعلم أو ذا الدين دون الفساق؛ لأن الفساق يستعينون به على المعاصي وأهل العلم والدين يستعينون به على طاعة الله وهذا فرق عظيم أو خص أو فضل المريض أو خص أو فضل من له فضيلة من أجل فضيلته، فلا بأس بذلك؛ لأنه لغرض مقصود شرعًا.
ومن ليس ذا روح غريب وأيم
…
وقيل الفتى عزب ونال لخرد
وهن الأرامل مع فراق بعولة
…
وقد قيل أيضًا للرجال به أقصد
ووقف أخيات يخص الإناث والعمومة
…
للصنفين كالأخوة أشهد
ووقف سبيل الله والخير والجزا
…
لغاز بلا فرض وقربى ومرمد
ولا تدخلن في رفقة لقرابة
…
وقربته من خالف الدين تعتد
وقيل ادخل الإسلام في وقف كافر
…
وما صرح ابتعه وبالحال قيد
ومولى الفتى اسم للعتيق ومعتق
…
وقيل أخصصن بالوقف أهل التجود
وذو سكة الإنسان هم أهل دربه
…
وجيرانه من كل قطر ليعدد
ثلاثون دارًا بعدما عشر أدور
…
وعنه مداد الأربعين بها أحدد
ولاحظ للمولى بوقف لقومه
…
ولا من طريق أهل سكة مرفد
وفي أقرب القربى أب وابنه سوا
…
وقيل ابنه أولى بذا البر بعد
ومثل أخ جد وقيل الأخ أخصصن
…
وذا الأم إن يدن كذا الأب فأعدد
ومن أبوين الأخ أقرب منهما
…
والإيصا كذا أيضًا وتزويج نهد
ومثل أب أم ومدل بها إذا
…
كمدل إليه بالأب إن دخلوا قد
وإن قال يعطي منهم لجماعة
…
فمن أقرب القربى ثلاثة أرفد
وأن يتحد في القرب أكثر عمموا
…
وإن نقصوا كمل من المتبعد
وللعصبات الوقف يشمل وارثًا
…
ومحجوبهم من كل دان وابعد
وإن وقف الإنسان للعلماء بل
…
إلى علماء الشرع بالوقف وأقصد
ووقف لتباع امرئ لا يضر أن
…
يخالف في نزل وفي مذهب ردي
وإن كان للأيتام فهو لفاقد
…
أباه ولم يبلغ وأنثى كفوهد
ووقف لصبيان وغلمان أخصصن
…
ذكورية قبل البلوغ المرشد
ووقف لفتيان وشبان اعتبر
…
بلوغهم حتى الثلاثين وأرصد
ومنها إلى الخمسين للكهل مدة
…
وما جاوز الخمسين للشيخ فأحدد
ويدخل في هذي المسائل ذو الغنى
…
وذو الفقير في الإعطاء ما لم يقيد
ووقف لسبل الخير للحج ثلثه
…
وللغزو ثلث ثم للفقر أجد
وتعميم جمع ممكن الحصر واجب
…
وتسوية في قسم غير المقيد
ومع عدم الإمكان تخصيص مفرد
…
وتفضيل بعض القوم جوز بأوطد
وقد قيل لا يجزيه دون ثلاثة
…
وكالوقف في ذا الفصل الإيصا أخي طد
وكل فتى يعطى كمثل الزكاة من
…
وقوف على أصنافها لا تزيد
وإن أمكن استيعابهم ثم لم يطق
…
فعمم وسوّ ما استطعت تسدد
وهل واجب صرف في الأصناف كلها
…
أم الصرف في صنف يجوز فردد
وذو الفقر والمسكين صنفان فادر
…
في الزكاة وصنف في سواها ليعدد
(49)
لزوم الوقف وما لا ينفسخ به وحكم نقله والتصرف فيه وتعميره وما يقاس عليه وحكم ما فضل عن حاجته وبيان من له الأمر في ذلك
وبيان الحالات المسوغة لما يترتب على ذلك
س 49: متى يلزم الوقف؟ وهل ينفسخ أو يباع أو يوهب أو يورث أو يستبدل، وإذا لم يوجد ما يعمر به أو خرب محلته وضح ذلك وما يترتب عليه، وهل يعمر من ريع وقف آخر أو من بعضه؟ وهل يغير أو ينقص أو ينقل؟ ومن الذي يتولى ما يترتب على ذلك؟ وتكلم عن الوقف على الثغر وعلى القنطرة وعلى حفر البئر في المسجد وغرس الشجر فيه ورفعه وما حول ذلك من المسائل، واذكر الشروط والمحترزات، ومثل لما لا يتضح إلا بالأمثلة، واذكر الدليل والتعليل والخلاف والترجيح.
ج: الوقف عقد لازم بمجرد القول أو ما يدل عليه؛ لأنه تبرع يمنع البيع والهبة فلزم بمجرده كالعتق، قال في «التلخيص» وغيره: وحكمة اللزوم في الحال أخرجه مخرج الوصية أو لم يخرجه حكم به حاكم أولاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث» قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم وإجماع الصحابة على ذلك، ولأنه إزالة ملك يلزم بالوصية، فإذا تجرد في الحياة لزم من غير حكم كالعتق.
وقيل: لا يلزم إلا بالقبض وإخراج الوقف عن يده، اختاره ابن أبي موسى كالهبة، وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف لا يلزم بمجرده للواقف الرجوع فيه إلا أن يوصى به بعد موته فيلزم أو يحكم بلزومه حاكم وحكاه بعضهم عن علي وابن مسعود وابن عباس.
وخالف أبا حنيفة صاحباه، فقال كقول سائر أهل العلم واحتج له بما روي أن عبد الله بن زيد صاحب الأذان جعل حائطه صدقة وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبواه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله، لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ماتا فورثهما، رواه المحاملي في أماليه، ولأنه إخراج ماله على وجه القربة من ملكه، فلا يلزم بمجرد القول كالصدقة.
والقول الأول هو الذي تطمئن إليه النفس لما تقدم، وقال الحميدي: تصدق أبو بكر بداره على ولده وعمر بربعه عند المروة على ولده وعثمان برومة، وتصدق علي بأرضه ينبع وتصدق الزبير بداره بمكة وداره بمصر وأمواله بالمدينة على ولده وتصدق سعد بداره بالمدينة، وداره بمصر على ولده وعمرو بن العاص بالوهط وداره بمكة على ولده.
وتصدق حكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده، فلذلك كله
إلى اليوم، وقال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف، هذا إجماع منهم، فإن الذي قدر على الوقف منهم وقف واشتهر ذلك، فلم ينكره أحد، فكان ذلك إجماعًا، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ولا يفسخ الوقف بإقالة ولا غيرها؛ لأنه عقد يقتضي التأييد فكان من شأنه ولا يوهب ولا يورث ولا يستبدل ولا يناقل به ولو بخير منه؛ للحديث المتقدم، ولا يباع فيحرم بيعه ولا يصح، وكذا المناقلة به إلا أن تتعطل منافعه المقصودة منه بخراب أو غيره مما يأتي التنبيه عليه بحيث لا يرد الوقف شيئًا على أهله أو يرد شيئًا لا يعد نفعًا بالنسبة إليه، وتتعذر عمارته وعود نفعه ولم يوجد في ريع ما يعمر به.
ولو كان الخارب الذي تعطلت منفعته وتعذرت إعادته مسجدًا حتى بضيقه على أهله المصلين به وتعذر توسيعه في محله أو كان المسجد متعذرًا الإنتفاع به لخراب محلته، وهي الناحية التي بها المسجد أو كان مسجدًا وتعذر الانتفاع به لاستقذار موضعه أو كان الوقف حبيسًا لا يصلح لغزوه فيباع وجوبًا.
قال في «الفروع» : وإنما يجب بيعه؛ لأن الولي يلزمه فعل المصلحة ولو شرط واقفه عدم بيعه وشرطه إذا فاسد ويصرفه ثمنه في مثله إن أمكن؛ لأن في إقامة البدل مقامه تأييدًا له وتحقيقًا للمقصود فتعين وجوبه أو يصرف ثمنه في بعض مثله؛ لأنه أقرب إلى غرض الواقف، وقال الخرقي: لا يشترط أن يشتري من جنس الوقف الذي بيع، بل أي شيء اشترى بثمن مما يرد على الوقف جاز.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما المسجد ونحوه فليس ملكًا لمعين باتفاق المسلمين، وإنما هو ملك لله، فإذا جاز إبداله بخير منه للمصلحة فالموقوف
على معين أولى بأن يعوض بالبدل وإما أن يباع ويشترى بثمنه البدل، والإبدال بجنسه مما هو أنفع للموقوف عليه.
وقال: إذا كان يجوز في المسجد الموقوف الذي يوقف للانتفاع بعينه وعينه محترمة شرعًا يجوز أن يبدل به غيره للمصلحة لكون البدل أنفع وأصلح وإن لم تتعطل منفعته بالكلية، ويعود الأول طلقًا مع أنه متعطل نفعه بالكلية، فلأن يجوز الإبدال بالأنفع والأصلح فيما يوقف للاستغلال أولى وأحرى، فإنه عند أحمد يجوز ما يوقف للاستغلال للحاجة قولاً واحدًا.
وفي بيع المسجد روايتان، فإذا جوز على ظاهر مذهبه أن يجعل المسجد طلقًا ويوقف بدله أصلح منه وإن لم تتعطل منفعة أول أحرى، فإن بيع الوقف المستغل أولى من بيع المسجد وإبداله أولى من إبدال المسجد؛ لأن المسجد تحترم عينه شرعًا، ويقصد للانتفاع بعينه فلا تجوز إجارته ولا المعاوضة عن منفعته بخلاف وقف الاستغلال، فإنه تجوز إجارته والمعارضة عن نفعه وليس المقصود أن يستوفي الموقوف عليه منفعته بنفسه كما يقصد ذلك في المسجد الأول ولا له حرمة شرعية لحق الله تعالى كما للمسجد.
وقال: يجب بيع الوقف مع الحاجة بالمثل وبلا حاجة يجوز بخير منه للمصلحة، ولا يجوز بمثله لفوات التغرير بلا حاجة، وذكره وجهًا في المناقلة.
وأومأ إليه الإمام أحمد، وقال شهاب الدين بن قدامة في كتابه «المناقلة في الأوقات» .
واقعة نقل مسجد الكوفة، وجعل بيت المال في قبلته وجعل موضع المسجد سوقًا للتمارين، اشتهرت بالحجاز والعراق والصحابة متوافرون ولم ينقل إنكارها ولا الاعتراض فيها من أحد منهم، بل عمر هو الخليفة
الآمر وابن مسعود هو المأمور الناقل، فدل على مساغ القصد والإقرار عليها والرضى بموجبها، وهذه حقيقة الاستبدال والمناقلة.
وهذا كما أنه بدل على مساغ بيع الوقف عند تعطل نفعه، فهو دليل أيضًا على جواز الاستدلال عند رجحان المبادلة، ولأن هذا المسجد لم يكن متعطلاً، وإنما ظهرت المصلحة في نقله لحراسة بيت المال الذي جعل في قبلة المسجد الثاني، انتهى.
وصنف صاحب «الفائق» مصنفًا في جواز المناقلة للمصلحة سماه المناقلة في الأوقاف، وما في ذلك من النزاع والخلاف، قال في «الإنصاف»: وأجاد فيه ووافقه على جوازها الشيخ تقي الدين، وابن القيم، والشيخ عز الدين حمزة ابن شيخ السلامية، وصنف فيه مصنفًا سماه «دفع المناقلة في بيع المناقلة» .
وقال مالك والشافعي: لا يجوز بيع الوقف، ولو تعطلت منافعه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث» ، ولأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها كالعتق، والقول الأول هو الذي تميل إليه النفس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويجوز نقل آلة مسجد جاز بيعه ونقل أنقاضه لمسجد آخر إن احتاجها لمثله؛ لما ورد من أن ابن مسعود رضي الله عنه قد حول مسجد الجامع من التمارين بالكوفة ولا يعمر بآلة المسجد مدرسة ولا رباط ولا معهدًا ولا جامعة ولا متوسطة ولا كلية ولا مستشفى ولا بئرًا ولا حوضًا ولا خزانًا للماء ولا قنطرة وكذا آلات هذه الأمكنة لا يعمر بها ما عداها؛ لأن جعلها في مثل هذه العين ممكن فتعين لما تقدم ويصير حكم المسجد بعد بيعه للثاني الذي اشترى بدله، وأما إذا نقلت آلته من غير بيع فالبقعة باقية على أنها مسجد ونقل أنقاضه وآلاته إلى مثله أولى من بيعه لبقاء الانتفاع من غير خلل فيه.
ويصح بيع بعضه لإصلاح باقيه؛ لأنه إذا جاز بيع الكل عند الحاجة فبيع البعض مع بقاء البعض أولى إن اتحد الواقف، والجهة الموقوف عليها، فإن اختلفا أو أحدهما لم يجز وإن كان الموقوف عينين على جهة واحدة من واقف واحد كدارين خربتًا فتباع إحداهما لإصلاح الأخرى للإتحاد أو كان الموقوف عينًا واحدة فيجوز بيع بعضها لإصلاح باقيها.
ومحل ذلك إن لم تنقض قيمة العين المبيع بعضها بالتشقيص لانتفاء الضرر ببيع البعض إذًا وإلا بأن كان المبيع عينًا واحدة ونقصت القيمة بالتشقيص بيع الكل.
قال الشيخ تقي الدين: وجوز جمهور العلماء تغيير صورته لمصلحته كجعل الدار حوانيت والحكورة المشهورة فلا فرق بين بناء ببناء وعرَصة بعرَصة هذا صريح لفظه.
وقال أيضًا فيمن وقف كرومًا على الفقراء يحصل على جيرانها به ضرر يعوض عنه بما لا ضرر فيه على الجيران ويعود الأول ملكًا، والثاني وقفًا، انتهى.
وإن توقفت عمارة المسجد على بيع بعض آلاته جاز؛ لأنه الممكن من المحافظة على الصورة مع بقاء الانتفاع ويجوز اختصار آنية موقوفة كقدور وقرب ونحوها، إذا تعطلت واختصارها بأن يجعلها أصغر من الأولى وإنفاق الفضل على الإصلاح محافظة على بقاء الوقف، فإن تعذر اختصارها بيعت وصرف ثمنها في آنية مثلها رعاية للنفع الذي لأجله وقفت.
قال في «الإنصاف» : وهو الصواب، ويجوز تجديد بناء المسجد للمصلحة؛ لحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت
له بابين، بابًا شرقيًا، وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم» رواه البخاري، ولا يجوز قسم المسجد مسجدين ببابين إلى دربين مختلفين؛ لأنه تغيير لغير مصلحة له، ويجوز نقض منارة المسجد وجعلها في حائطه لتحصينه من نحو كلاب.
وحكم فرس حبيس على الغزو إذا لم يصلح للغزو وكوقف فيباع ويشترى بثمنه فرسًا يصلح للغزو، قلت: وكذا حكم المركوبات والآلات الحديثة إذا وقفت للغزو في سبيل الله، ثم حصل لها ما يبطل نفعها، فإنه يُشترى بثمنها إذا بيعت من جنسها من الآلات المستحدثة النافعة للجهاد في سبيل الله في كل زمان بحسبه.
والذي يتولى بيع الوقف حيث جاز بيعه حاكم، إن كان الوقف على سبل الخيرات كعلى المساجد والقناطر والمدارس والمعاهد والجوامع والكليات والمتوسطات والفقراء والمساكين ونحو ذلك.
وإن لم يكن على سبل الخيرات بأن كان على شخص معين أو جماعة معينين أو من يؤم أو يؤذن في هذا المسجد ونحوه فيبيعه ناظره الخاص إن كان، والأحوط إذن حاكم للناظر ببيعه؛ لأنه يتضمن البيع على من سينتقل إليهم بعد الموجودين الآن أشبه البيع على الغائب، فإن عدم الناظر الخاص فيبيعه حاكم لعموم ولايته.
وبمجرد شراء البدل لجهة الوقف يصير وقفًا كبدل أضحية وبدل رهن أتلف، والأحوط وقفه لئلا ينقضه من لا يرى وقفيته بمجرد شراء البدل وفضلة موقوف على معين استحقاقه مقدر من الوقف يتعين إرصاده.
وقال الشيخ تقي الدين: إن علم أن ريعه يفضل دائمًا وجب صرفه؛ لأن بقاءه فساد له وإعطاء المستحق فوق ما قدر له الواقف جائز؛ لأن تقديره لا يمنع استحقاقه.
قال: ولا يجوز لغير ناظر الوقف صرف الفاضل؛ لأنه إفتئات على من له ولايته، قال في «شرح الإقناع»: قلت: والظاهر لا ضمان كتفرقة هدي وأضحية.
وما فضل عن حاجة المسجد من حصره وزيته ومغله وإنقاضه وآلته وثمنها إذا بيعت جاز صرفه إلى مسجد آخر محتاج إليه؛ لأنه صرف في نوع المعين وجازت بالمذكورات على فقراء المسلمين؛ لأنه في معنى المنقطع.
قال الحارثي: وإنما لم يرصد لما فيه من التعطل فيخالف المقصود ولو توقعت الحاجة في زمن من آخر ولا ريع يسد مسدها لم يصرف في غيرها؛ لأن الأصل الصرف في الجهة المعينة وإنما سومح بغيرها حيث لا حاجة حذرًا من التعطل.
وخص أبو الخطاب والمجد الفقراء بفقراء جيران لاختصاصهم بمزيد ملازمته والعناية بمصلحته.
قال الشيخ: يجوز صرف الفاضل في مثله، وفي سائر المصالح، وفي بناء مساكن لمستحق ريعه القائم بمصلحته. اهـ.
ويصح بيع شجرة موقوفة يبست وبيع جذع موقوف انكسر أو لي أو خيف أو انهدم، كما بي بيع دواب الحبيس التي لا ينتفع بها تباع ويجعل ثمنها في الحبيس.
قال في «التلخيص» : إذا أشرف جذع الوقف على الانكسار أو دار الوقف على الانهدام وعلم أنه لو أخر لخرج عن كونه منتفعًا به، فإنه يباع رعاية للمالية أو ينقض تحصيلاً للمصلحة.
قال الحارثي: وهو كما قال والمدارس والربط والخانات المسبلة ونحوها جائز بيعها عند خرابها على ما تقدم وجهًا واحدًا.
ومن وقف على ثغر فاختل صرف في ثغر مثله أخذًا من مسألة بيع الوقف
إذا خرب إذ المقصود الأصلي هنا الصرف إلى المرابط فأعمال شرط الثغر المعين معطل له فوجب الصرف إلى ثغر آخر.
ومن وقف على قنطرة فانحرف الماء أو انقطع يرصد مال الوقف لعل الماء يرجع إلى القنطرة فيصرف إليها ما وقف عليها، فإن أيس من رجوعه صرف إلى قنطرة أخرى.
ويحرم حفر بئر بمسجد ولو لمصلحة العامة؛ لأن منفعة البقعة مستحقة للصلاة فتعطيلها عدوان ويحرم غرس شجرة بالمسجد لغير مصلحة راجحة للمصلين كاستظلالهم بها.
ومقتضاة أن الحفر أو الغرس إذا كان فيه مصلحة راجحة وليست البئر أو الشجرة ببقع المصلين ولم يحصل به ضيق يجوز، فإن حفر أو غرس طمت البئر وقلعت الشجرة، فإن لم تقلع الشجرة فثمرتها لمساكين المسجد ولغيرهم من الفقراء، وإن غرست قبل بناء المسجد ووقفت معه، فإن عين الواقف مصرفها بأن قال: تصرف في حصر أو زيت أو نحو ذلك أو للفقراء ونحوهم عمل بما عينه الواقف، وإن لم يعين مصرفًا فكوقف منقطع تصرف ثمرتها لورثة الواقف، فإن انقرضوا فللمساكين.
ولا يجوز نقل المسجد إلى مكان آخر غير مكانه الأول مع إمكان عمارته ولو دون العمارة الأولى؛ لأن الأصل المنع فجوز للحاجة وهي منتفية هنا.
وسُئل شيخ الإسلام فيمن بنى مسجدًا لله وأراد غيره أن يبني فوقه بيتًا وقفًا له إما لينتفع بأجرته في المسجد أو ليسكنه الإمام ويرون ذلك مصلحة للإمام أو للمسجد، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب بأنه إذا كان ذلك مصلحة للمسجد بحيث يكون ذلك أعون على ما شرعه الله ورسوله من الإمام والجماعة وغير ذلك مما شرع في المساجد، فإنه ينبغي فعله كما نص على
ذلك غير واحد من أئمة حتى سُئل الإمام أحمد عن مسجد لاصق بالأرض فأرادوا أن يرفعوه ويبنوا تحته سقاية، وهناك شيوخ فقالوا: نحن لا نستطيع الصعود إليه.
فقال أحمد: ينظر ما أجمع عليه أكثرهم ولعل ذلك أن تغيير صورة المسجد وغيره من الوقف لمصلحة راجحة جائز إذ ليس في المساجد ما هو معين بذاته إلا المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال إذ هي من بناء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فكانت كالمنصوص عليه بخلاف المساجد التي بناها غيرهم، فإن الأمر فيها تبع المصلحة، ولكن المصلحة تختلف باختلاف الأعصار والأمصار.
وقال الشيخ تقي الدين: والأرزاق التي يقدرها الواقفون ثم يتغير النقد فيما بعد نحو أن يشترط مائة درهم ناصرية ثم يحرم التعامل بها وتصير الدراهم ظاهرية، فإنه يعطى المستحق من نقد البلد ما قيمته قيمة المشروط.
قال ابن عقيل: لا بأس بتغيير حجارة الكعبة إن عرض لها مرمة؛ لأن كل عصر احتاجت الكعبة فيه إليه قد فعل ولم يظهر نكير ولو تعينت الآلة لم يجز التغيير كالحجر الأسود، فلا يجوز تغييره ولا نقله من موضعه إلى موضع آخر.
من النظم فيما يتعلق في بيع الوقف أو نقله
وليس صحيحًا وقف قابل فسخه
…
بوجه ولا عود لواقفه أشهد
وبالوقف ألزمه وعنه وقبضه
…
وليس بشرط حكم قبض مقلد
ومتلف وقف إلزمنه بقيمة
…
وفي مثله أصرفه بعد وإن معتد
وما تركهم تضمين وقف إعارة
…
نوى دون تفريط بعيد الذي اليد
ويحرم بيع الوقف ما دام نفعه
…
وبع عطلاً وإعتض به كالمنكد
كمثل حبيس الخيل إن قل نفعه
…
يباع ويمضي في حبيس مجدد
فإن لم تبع شقصًا كذا دائم الجدا
…
لذي الوقف حتى غير جنس المفقد
فإن لم يوات إصرف لإصلاح مثله
…
كفاضل ما يكفي في آلات مسجد
وإن شئت فاصرفها إلى فقرائنا
…
وبع بعضه واصرفه في دم مفسد
وناظر كذا شرطا يلي عقد بيعه
…
وقيل إن يعين مالك النفع يعقد
وعن أحمد ما إن تباع مساجد
…
بل آلاتها انقلها إلى غيره قد
وما فيه نفع ما وإن قل لم يبع
…
سوى آفة في العرف غير معدد
ولا تلزمن من ذا الوقف تعمير دائر
…
بغير اعتداء لا بديع مجدد
ولا ينفذ الإعتاق في الوقف مطلقًا
…
ولو أنه من مالك عن تقصد
ويبدأ من وقف بإصلاح أصله
…
وثن بموقوف عليه تسدد
وإن كان وقفًا من أناس تعددوا
…
فلم لا يقيد مثل وقف مفرد
ويحرم إحداث الغراس بمسجد
…
فإن وقفت مع وقفه المتأكد
فإن كان عن أثمانها ذاغن فكل
…
وإلا ففي إصلاحه بعه وأردد
وإن في طريق واسع تبن مسجدًا
…
بإذن إمام لا يضر تسدد
ولا تبنه من غير إذن بأوكد
…
فقف مع مراسيم الشريعة تهتدي
هذا آخر ما تيسر لي جمعه من كتب الحديث والفقه مبتدئًا بهذا الجزء من كتاب الغصب إلى آخر كتاب الوقف، وكان الفراغ من هذا الكتاب في يوم الأربعاء الساعة 230 الموافق 10/ 5/1392 هـ، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع وأوله باب الهبة والعطية والله المسؤول أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا، إنه قريب مجيب على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وسلم.