الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملخص الرسالة
تشتمل هذه الرسالة على الآتي:
المقدمة - التمهيد - موضوع الرسالة، ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الأول: الصدقة الجارية: وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الأدلة الواردة في الصدقة الجارية عموما
المطلب الثاني: أنواع من الصدقة الجارية التي جاء ذكرها في الأحاديث
المطلب الثالث: صور ونماذج من فعل الصحابة رضي الله عنهم للصدقة الجارية
المطلب الرابع: بعض أحكام الوقف (الصدقة الجارية)
المبحث الثاني: العلم المُنتفع به: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الأدلة على تعليم العلم المنتفع به ونشره
المطلب الثاني: الأحاديث المتضمنة العلم المنتفع به
المبحث الثالث: الدعاء: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الأدلة على انتفاع الإنسان بعد الممات بالدعاء من الولد خاصة
المطلب الثاني: الأدلة على انتفاع الإنسان بعد الممات بالدعاء عموما، من جميع المسلمين
المبحث الرابع: موت المرابط في سبيل الله
المبحث الخامس: الأعمال الصالحة المتعلقة بذمة الإنسان عند موته
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: ما يتعلق بحق من حقوق الله تعالى
المطلب الثاني: ما يتعلق بحق من حقوق المخلوقين
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أمر الناس جميعا بالإيمان به، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، ووعد من استجاب لذلك بجنة عالية، ومن خالف وعصى بنار حامية، وجعل سبحانه دليل الاستجابة لأوامره، المبادرة بالعمل الصالح؛ ولذلك قرن الله تعالى الإيمان به في القرآن الكريم بالعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه؛ وجعله سبباً من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82]، وغير ذلك من الآيات الدالات على العمل الصالح، وقد أخبر ربنا سبحانه وتعالى، وأكد في كتابه أنه لا يضيع ولا ينقص أجر عَمل عامل من عباده المؤمنين شيئا، سواء كان ذكرا أو انثى بل يضاعف له الأجر والثواب أضعافا كثيرة جدا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ
أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، وقال سبحانه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، ولهذا كان العمل الصالح هو دأب عباد الله الصالحين وصفة المؤمنين، وقد وعد سبحانه من عمل الصالحات في هذه الحياة الدنيا بالحياة الطيبة والسعادة الدائمة والعيشة الهنيئة، قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، هذا هو الجزاء العاجل في الدنيا، وأما في الأخرة فالجزاء هو الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويرتفع الدرجات العُلى فيها، قال تعالى:{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى* جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 75، 76]. وكل أجور وثواب الأعمال الصالحة مهما عظمت وفضلت عند الله جل وعلا منقطع، نعم تنقطع أجور تلك الأعمال الصالحة بموت صاحبها كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«إذا مات الإنسان انقطع عمله»
(1)
، و لكن من رحمة الله سبحانه وتعالى وفضله وإحسانه وكرمه على عباده، أن جعل لهم عددا من الأعمال الصالحة التي يجري للعبد أجرها ويستمر ثوابها له بعد موته، وهو في قبره بعد مئات السنين ولايزال الأجر يتجدد له والثواب يصله.
(1)
سيأتي تخريجه
وقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وحثنا على العمل بها؛ ولأهمية تلك الأعمال وفضلها وما يترتب عليها من الأجور الكبيرة والفضائل الكثيرة؛ ولما غفل بعض الناس عن فضلها وما فيها من الثواب، وتذكيرا لي ولإخواني المسلمين، قمت بجمع ما يسر الله لي بجمعه من الأدلة التي تدل على الأعمال والأقوال الصالحة التي ينتفع بها العبد المسلم في حياته وبعد موته، في هذه الرسالة المتواضعة وسميتها:(الأعمال الصالحات التي يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات)، فذكرت الأدلة الدالة على انتفاع الإنسان بهذه الأعمال، مع شيء من الشرح والتوضيح؛ لكي تتم الفائدة للقارئ الكريم ويحصل على المنفعة المرجوة، فإن أصبت فمن الله وحده لا شريك له، وإن أخطأت فمن نفسي المقصرة والشيطان، والله ورسوله بريئان من ذلك، فالله أسأل العفو والمغفرة عن كل خطأ وزلل، وتقصير في القول والعمل، كما أسأله بأسمائه وصفاته أن يجعل هذا العمل صالحا خالصا لوجهه الكريم متقبلا، وأن يجعله من العلم المنتفع به بعد موتي الى يوم الدين، و يجعل فيه الخير الكثير والنفع الكبير، لي ولجميع عباد الله المسلمين، أنه ولي ذلك والقادر عليه وهو على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين،،،
كتبه/
أبو الحمزة أحمد بن محمد بن حسين بن علي الحجاجي
7 جماد الآخرة 1442 هـ
تمهيد
جاء في القرآن الكريم عدد من الأدلة التي تدل على الأعمال الصالحة التي يجري ويستمر للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، نذكر منها ما يلي:
الدليل الأول: قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، قال العلامة السعدي:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم، {وَآثَارَهُمْ} ، وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر"
(1)
انتهى.
قال ابن عاشور: في تفسير قوله تعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} : "فالمراد ب {ما قدموا} ما عملوا من الأعمال قبل الموت شبهت أعمالهم في الحياة الدنيا بأشياء يقدمونها إلى الدار الآخرة، كما يُقدم المسافر ثقله وأحماله، وأما الآثار فهي
(1)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 693).
آثار الأعمال، وليست عين الأعمال بقرينة مقابلته ب ما قدموا مثل ما يتركون من خير أو شر بين الناس وفي النفوس، والمقصود بذلك ما عملوه موافقا للتكاليف الشرعية أو مخالفا لها وآثارهم كذلك
…
فالآثار مسببات أسباب عملوا بها"
(1)
.
قال القرطبي: " فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها
…
، كل سنة حسنة، أو سيئة يستن بها "
(2)
.
قال ابن كثير: "وقوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي: من الأعمال نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وفي قوله:{وَآثَارَهُمْ} قولان:
أحدهما: آثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر
…
، والثاني: أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية.
وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بالطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب، فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق أولى
(3)
اهـ.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5]، قال صاحب اللباب:"المعنى: ما قدمت من عمل صالح، أو شيء، أو أخرت من سيئة أو حسنة، وقيل: ما قدمت من الصدقات وأخرت من التركات"
(4)
.
(1)
التحرير والتنوير (22/ 356).
(2)
تفسير القرطبي (15/ 12)، تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 7).
(3)
تفسير ابن كثير (6/ 565، 566).
(4)
اللباب في علوم الكتاب (20/ 195).
الدليل الثالث: قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]، قال البغوي: "قال ابن مسعود، وابن عباس: بما قدم قبل الموت من عمل صالح وسيئ، وما أخر بعد موته من سنة حسنة، أو سيئة يعمل بها
…
، وقال زيد بن أسلم: بما قدم من أمواله لنفسه، وما أخر خلفه للورثة"
(1)
، وقال السيوطي: "عن ابن مسعود: بما قدم من عمله، وما أخر من سنة عمل بها من بعده من خير أو شر
(2)
، وعن ابن عباس قال: بما عمل قبل موته، وما يسن فعمل به بعد موته"
(3)
، وعن أبي صالح قال:" قدم من حسنة أو أخر من سنة حسنة عمل بها بعده، علما علمه أو صدقة أمر بها"
(4)
.
(1)
تفسير البغوي - إحياء التراث (5/ 183)(5/ 184).
(2)
أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
(3)
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
(4)
الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/ 346). وأخرجه ابن المنذر.
المبحث الأول الصدقة الجارية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الأدلة الواردة في الصدقة الجارية عموما
المطلب الثاني: أنواع من الصدقة الجارية التي جاء ذكرها في الأحاديث
المطلب الثالث: صور ونماذج من فعل الصحابة رضي الله عنهم للصدقة الجارية
المطلب الرابع: بعض أحكام الوقف (الصدقة الجارية)
المبحث الأول الصدقة الجارية
نذكر في هذا المبحث بعضاً من الأدلة التي تدل على أن الصدقة الجارية من الأعمال الصالحات التي يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات
المطلب الأول
الأدلة الواردة في الصدقة الجارية عموما، مع ذكر بعض التوضيح عليها
الدليل الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم، قال:«إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم (كتاب الوصية)(باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته)(3/ 1255) رقم (1631)، أبو داود (3/ 117) رقم (2880)، النسائي (6/ 162) رقم (6445) وأحمد (14/ 438) رقم (8844)، وقال محقق مسند الأمام أحمد: وأخرجه الدارمي (559)، والبخاري في "الأدب المفرد"(38)، والترمذي (1376)، وابن أبي الدنيا في "العيال"(430)، وأبو يعلى (6457)، وابن خزيمة (2494)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(246)، وابن حبان (3016)، والطبراني في "الدعاء"(1251)، والبيهقي في "السنن"(6/ 278)، وفي "الشعب"(3447)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 190)، والبغوي (139)، والدولابي في "الكنى"(1/ 190)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(247)، والطبراني في "الدعاء"(1250) و (1252) و (1253) و (1254) و (1255)، والبيهقي (6/ 278)، وأخرجه الطبراني (1256) وأخرجه ابن ماجه (242)، وابن خزيمة (2490)
…
، هذا مختصر لتخريج هذا لحديث انظر: تخريج (مسند أحمد طبعة الرسالة (14/ 438).
التوضيح:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث:
…
،»
قال النووي رحمه الله تعالى: "قال العلماء معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف،
…
وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه، وبيان فضيلة العلم، والحث على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع، وفيه أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مجمع عليهما"
(1)
. اهـ
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: "هذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من
(1)
شرح النووي على مسلم (11/ 85).
كسبه»
(1)
، والصدقة الجارية، كالوقف ونحوه، هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى:{إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} [يس: 12]، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله"
(2)
.
وعلى هذا فعلى الأنسان أن ينظر ما يقدم لنفسه في حياته وقبل موته مما ينتفع به بعد موته ويستمر له الأجر والثواب من تلك الأعمال الصالحة، فإن كان صاحب مال عمل لنفسه صدقات جاريات من ماله، قبل الفوات، وحلول السكرات، وذهاب المال في الترف والإسراف ومما لا فائدة منه، وإن كان صاحب علم استمر عليه وتزود منه، وعلمه للناس ونشره، وإن كان صاحب أولاد عمل على صلاحهم وهدايتهم، وعلمهم العلم الشرعي الذي ينفعهم الله به في الدنيا والأخرة ويكون سببا في صلاحهم، وقلما يخلو أحد من أن يكون له واحدة من إحدى الثلاث، وقد يجتمعن في شخص ما، وهذا من فضل الله تعالى، ولهذا فمن لم يكن عنده علم يعلمه الناس مما ينتفعون به، فقد يكون عنده مال يستطيع أن يجعل منه الصدقات الجاريات، فإن لم يكن له مال ولا علم، فقد يكون له أولاد
(1)
أخرجه ابن ماجه عن عائشة (2/ 723) رقم (2137) أحمد (40/ 34) رقم (24032)، وقال محقق المسند: حديث (حسن لغيره)، وقال الألباني: حديث (صحيح) المشكاة رقم (2770) التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (6/ 313) رقم (4245).
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 465).
سواء ذكور أو إناث، فليعمل على ما يكون سببا في صلاحهم واستقامتهم لعل الله ينفعه بصلاحهم ودعائهم له في دنياه وأخراه، فهذه ثلاثة أمور جاءت في هذا الحديث مما ينتفع به الإنسان بعد موته.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ» : فقوله: «الإنسان» يشمل الذكر والأنثى، وليس مقصور على الذكور فقط بل يشمل الجميع.
أما الثلاثة الأمور المذكورة في هذا الحديث فقد شملت على أهم ما ينتفع به الإنسان من الأعمال الصالحات التي يبقى ويجري له أجرها وثوابها بعد الممات؛ وسوف نتناول في هذا المبحث الصدقة الجارية، أما العلم المنتفع به، والدعاء فسوف نتناول ذلك في المباحث التي بعد هذا.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ» :
قال أكثر أهل العلم إن الصدقة الجارية: "هي الوقف وشبهه مما يدوم نفعه" كما مر معنا؛ ولذلك قال المناوي: "معنى «جارية» دائمة متصلة كالوقوف المرصدة فيدوم ثوابها مدة دوامها"
(1)
، وعلى هذا فكل ما جعل الأنسان مما ينتفع به الناس بعد موته في الخير مما يستمر بقاؤه ويدوم نفعه لهم، فإن الأجر جار ومستمر لصاحبه بعد موته ما بقى ذلك الشيء وانتفع الناس ولو بشيء منه، سواء كان الانتفاع بالشيء ذاته وبعينه كمن بنى دارا لنشر العلم الشرعي أو للفقراء وعابري السبيل أو أوقف سيارة للدعوة أو جعل كتب نافعة في العلم الشرعي،
(1)
فيض القدير (1/ 438).
وغير ذلك مما يكون النفع بذات الشيء نفسه، أو يكون الانتفاع مما ينتج ويحصل منه كالمزرعة التي يحصل النفع من ثمرها، أو العقار الذي يحصل منه أموال من إيجارات وعوائد مالية فتصرف وتوزع في وجوه الخير والبر و هكذا.
واعلم أن الصدقة الجارية أو الوقف يكون في أبواب كثير جدا، ولذلك قال عبد الرحمن آل سعدي:" كوقف العقارات التي ينتفع بمغلها، أو الأواني التي ينتفع باستعمالها، أو الحيوانات التي ينتفع بركوبها ومنافعها، أو الكتب والمصاحف التي ينتفع باستعمالها والانتفاع بها، أو المساجد والمدارس والبيوت وغيرها التي ينتفع بها، فكلها أجرها جار على العبد ما دام ينتفع بشيء منها. وهذا من أعظم فضائل الوقف، وخصوصا الأوقاف التي فيها الإعانة على الأمور الدينية، كالعلم والجهاد، والتفرغ للعبادة، ونحو ذلك، ولهذا اشترط العلماء في الوقف: أن يكون مصرفه على وجهة بر وقربة"
(1)
.
قال العلامة ابن عثيمين عليه رحمة الله: "والمراد بالصدقة الجارية كل ما ينفع المحتاجين بعد موته نفعاً مستمراً، فيدخل فيه الصدقات التي توزع على الفقراء، والمياه التي يشرب منها، وكتب العلم النافع التي تطبع، أو تشترى وتوزع على المحتاجين إليها، وغير ذلك مما يقرب إلى الله تعالى وينفع العباد "
(2)
، وقال أيضا:
(1)
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الوزارة/ المؤلف: أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي (المتوفى: 1376 هـ) (ص: 102).
(2)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (17/ 240).
"ومن الصدقات الجارية أن يطبع الإنسان كتبا نافعة للمسلمين يقرءون فيها وينتفعون بها سواء كانت من مؤلفين في عصره أو من مؤلفين سابقين المهم أن تكون كتبا نافعة ينتفع بها المسلمون من بعده، ومن الصدقات الجارية إصلاح الطرق فإن الإنسان إذا أصلح الطرق وأزال عنها الأذى واستمر الناس ينتفعون بهذا فإن ذلك من الصدقات الجارية، والقاعدة في الصدقة الجارية كل عمل صالح يستمر للإنسان بعد موته"
(1)
.
قد يقول قائل لا تكون الصدقة الجارية إلا ببناء دار أو مسجد أو مزرعة أو شراء سيارة أو غير ذلك مما تكون كلفته كبيرة؛ نقول ليس كذلك؛ وإنما من كان لديه القدرة من المال على أن يقوم بهذا الفعل أو أكثر منه، كمن يبني عددا من المساجد أو دور العلم أو حفر آبار، فيُنوّع صدقاته الجارية في مجالات مختلفة وينفرد بتكاليف تلك الأعمال بنفسه فله أن يفعل، ومن لم يستطع وليس لديه مال كاف لفعل مثل تلك الأعمال فليكن مشارك مع غيره بحسب حاله وقدرته في فعل صدقة من الصدقات الجارية التي يستمر نفعها بعد موته، ولا يعدم لمن بحث عن ذلك وما أكثر ما يحصل من هذا فيكون العمل الخيري الواحد على حساب عدد من فاعلين الخير اشتركوا فيه، فإن لم يتيسر له المشاركة فلينظر ما يناسب حالته وقدرته مما يقل تكلفته ويعظم نفعه للناس وسيجد عند ذلك أمورا كثيرة يستطيع أن يجعل لنفسه صدقة جارية تنفعه ولو لم يكن إلا مصحفا أو كتابا نافعا أو غير
(1)
شرح رياض الصالحين (5/ 438).
ذلك مما يدوم ويستمر نفعه، ولما للصدقة الجارية من عظيم الأجر والثواب فقد بادر الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من المسلمين على مر العصور بفعل الصدقات الجاريات من أنفس أموالهم وأفضل ما لديهم من الممتلكات، راجين ثواب ذلك عند الله تعالى، والمال النافع الحقيقي للإنسان هو ما قدمه في حياته وانفقه في وجوه الخير والبر والإحسان سواء كان صدقة جارية أو غيرها؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال:«فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر»
(1)
، فقوله:«ما قدم» أي ما صرفه في حياته في مصارف الخير والطاعة، هذا هو ماله الحقيقي الذي ينتفع به، وقوله:«ما أخر» ما ادخره وأخر إنفاقه حتى ادركه الموت وتركه لوارثه، ولا يدري الإنسان كيف سيكون حال ورثته من بعده أصالحين أم طالحين، و بيّن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ما يكون للإنسان من ماله الذي جمعه وحافظ عليه طوال عمره، وربما أصابه ما أصابه من العناء والشقاء والكد والكَبَد حتى حصل عليه وجمعه، ثم بعد ذلك نمَّاه وكثَّره، ومع هذا كله تأمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: «يقول العبد: مالي، مالي، وإنما له من ماله ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى
(2)
، وما سواه فهو ذاهب وتاركه للناس»
(3)
،
(1)
أخرجه البخاري (8/ 93) رقم (6442).
(2)
فاقتنى: ادخر لآخرته أي ادخر ثوابه. [شرح محمد فؤاد عبد الباقي]
(3)
أخرجه مسلم عن أبي هريرة (4/ 2273) رقم (2959)، ابن حبان - مخرجا (8/ 121) رقم (3328).
فانظر الى ما معك أيه العبد المسلم من مالك الذي جمعته إلا هؤلاء الثلاث، ولم ينفعك عند الله تعالى في أخرتك إلا واحدة من الثلاث وهي الصدقة، فهي التي تبقى من مالك كله الذي جمعته طول حياتك بأصعب المشاق، وطول السباق، فلذلك لا يبخل الإنسان على نفسه من الإنفاق في وجوه الخير بفعل الصدقات الجاريات، فهذا هو ماله الحقيقي الذي ينتفع به في حياته وبعد موته.
فضل الصدقة:
ولما كان للصدقة عموما من فضل كبير ومرتبة عالية في الإسلام، فقد جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الآيات والأحاديث التي يطول ذكرها التي تدل على فضلها، وعلى ما وعد الله به من العوض والبركة والخير الكثير المتنوع في الدنيا، مع ما يدخره الله تعالى للمتصدق والمنفق من الأجر الكبير والثواب الجزيل في الأخرة، نذكر شيئا من ذلك:
قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
قال ابن كثير: "أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب"
(1)
، وقال السعدي في تفسيره لهذه الآية: "نفقة واجبة، أو مستحبة، على قريب، أو جار، أو مسكين، أو
(1)
تفسير ابن كثير (6/ 523).
يتيم، أو غير ذلك، {فَهُوَ} تعالى {يُخْلِفُهُ} فلا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق، بل وعد بالخَلَف للمنفق، الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فاطلبوا الرزق منه، واسعوا في الأسباب التي أمركم بها"
(1)
، وقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 261، 262]، وقال تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].
قال ابن عباس: "أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيه - وهو خبيثه - فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولهذا قال:{ولا تيمموا} أي: تقصدوا {الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه} أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما
(1)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 681).
تكرهون". وقيل: معناه: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه"
(1)
، أكتفي بذكر هذه الآيات.
أما الأحاديث: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه،
(2)
حتى تكون مثل الجبل»
(3)
، وعنه أيضا، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «ما تصدق عبد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا، ولا يصعد إلى السماء إلا طيب إلا كأنما يضعها في يد الرحمن، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه وفصيله، حتى إن اللقمة أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم»
(4)
، وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبع
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 697).
(2)
بعدل: بوزن أو بقيمة. طيب: حلال، يربيها: ينميها ويضاعف أجرها. لصاحبها: الذي أنفقها. فلوه: مهره وهو الصغير من الخيل. مثل الجبل: يصبح ثوابها كثواب من تصدق بمقدار الجبل من المال. [تعليق مصطفى البغا] على البخاري (2/ 108) رقم (1410).
(3)
متفق عليه: البخاري (2/ 108) رقم (1410)، مسلم (2/ 702) رقم (1014).
(4)
أخرجه ابن حبان (1/ 504) رقم (270) قال الألباني: حديث (صحيح) التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (1/ 325) رقم (270).
مائة ناقة كلها مخطومة»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: .... ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك»
(4)
، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا
(5)
»
(6)
، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم، على بلال وعنده صبر من المال، فقال: «أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا
(7)
»
(8)
، وعن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه مسلم (3/ 1505) رقم (1892).
(2)
أخرجه البخاري عن أبي هريرة (2/ 111) رقم (1423).
(3)
أخرجه مسلم عن أبي هريرة (4/ 2001) رقم (2588).
(4)
متفق عليه: أخرجه البخاري عن أبي هريرة (6/ 73) رقم (4684)، مسلم (2/ 690) رقم (993) واللفظ له.
(5)
خلفا: عوضا عما أنفقه. ممسكا: عن الإنفاق. تلفا: أتلف ما لديه. [تعليق البغا] على البخاري (2/ 115).
(6)
متفق عليه: أخرجه البخاري عن أبي هريرة (2/ 115) رقم (1442)، مسلم (2/ 700) رقم (1010).
(7)
إقلالا: معناه أي فقراً أو إعداماً. [مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 317)].
(8)
أخرجه البزار (4/ 204) رقم (1366)، واللفظ له، والطبراني: المعجم الأوسط (3/ 86) رقم (2572) إلا أنه قال: (عنده صبرا)، قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع (1/ 316) رقم (1512)، السلسلة الصحيحة (6/ 347) رقم (2661).
قال: «والصدقة تطفأ الخطيئة كما يطفأ الماء النّار
…
»
(1)
، فكل هذه الآيات والأحاديث تبين فضل الصدقة عموما، فكيف لو كانت صدقة جارية مما يستمر أجرها و ثوابها في الحياة وبعد الممات.
الدليل الثاني:
عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَرْبَعَةٌ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أُجُورُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ: مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أُجْرِيَ لَهُ أَجْرُهُ مَا عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَجْرُهَا يَجْرِي لَهُ مَا جَرَتْ، وَرَجُلٌ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا، فَهُوَ يَدْعُو لَهُ»
(2)
.
التوضيح:
دل هذا الحديث على أربعة أعمال من الأعمال صالحات، التي يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، فشمل ما جاء في الدليل الأول الذي هو قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا
(1)
أخرجه الترمذي (5/ 11) رقم (2616)، قال الالباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع الصغير (2/ 913) رقم (5136).
(2)
أخرجه الطبراني المعجم الكبير (8/ 205) رقم (7831)، وأخرجه أحمد (36/ 585) رقم (22247). قال محقق مسند الأمام أحمد طبعة الرسالة: حديث (صحيح لغيره)، وقال الألباني: حديث (حسن)، صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 212) رقم (877).
مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث:
…
،» وزيادة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ» ، ولشموله على أغلب الأعمال التي يجري للعبد أجرها بعد الموت، جعلت لكل عمل منها مبحث خاص به في هذه الرسالة.
••••
المطلب الثاني
أنواع من الصدقة الجارية التي جاء ذكرها في الأحاديث
جاء ذكر عدد من أنواع من الصدقة الجارية في حديثين سوف نتناولهما في هذا المطلب
الحديث الأول:
عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: «سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ:
مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلاً، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا،
أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ»
(1)
.
التوضيح:
قال المناوي: في شرحه لهذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «سبع» "أي: من الأعمال، «يجري للعبد» أي: المسلم، «أجرهن وهو في قبره بعد موته مَنْ علم علما أو أجرى نهراً أو حفر بئرا» للسبيل، «أو غرس نخلا» أي: لنحو تصدق بثمره، بوقف أو غيره، «أو بنى مسجدا» أي: محلا للصلاة، «أو ورث مصحفا» أي: خلف لوارثه من
(1)
أخرجه البزار في مسنده (13/ 483) رقم (7289)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 122) رقم (3175)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 344)، قال الألباني: حديث (حسن لغيره) صحيح الترغيب والترهيب (1/ 17) رقم (73).
بعده يعني ليُقرأ فيه، «أو كرى نهرا» من كريت النهر أكريه كريا إذا استحدثت حفره فهو مكرى، «أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته» أي: يطلب له من الله مغفرة ذنوبه، ثم قال المناوي: قال البيهقي: "هذا الحديث لا يخالف الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» فقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: «إلا من صدقة جارية» وهي تجمع ما ذكر من الزيادة"
(1)
انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وسيأتي مزيدا من التوضيح عن الأعمال المذكورة في هذا الحديث بعد ذكر الحديث التالي.
الحديث الثاني:
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ:
عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ،
أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ»
(2)
.
(1)
فيض القدير للمناوي (4/ 87) رقم الحديث (4643).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1/ 88) رقم (242)، قال الألباني: حديث (حسن) صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 443) رقم (2231).
التوضيح:
قوله صلى الله عليه وسلم: «علما علمه ونشره» ، قال الهروي في شرحه لهذا الحديث:"هو أعم من التعليم، فإنه يشمل التأليف ووقف الكتب، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وولدا صالحا»، قال أي: مؤمنا، وقوله «تركه»: أي: خلفه أي بعد موته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أو مصحفا ورثه»: أي: تركه للورثة ولو ملكا، وفي معناه: كتب العلوم الشرعية، فيكون له ثواب التسبب، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أو مسجدا بناه»، قال الهروي: وفي معناه مدرسة العلماء ورباط الصلحاء"
(1)
انتهى كلامه.
قال الطيبي: "الجمل المصدرة بـ (أو) من قسم الصدقة الجارية، و (أو) فيها للتنويع والتفصيل
(2)
، قال المبارك فوري:"هذا الحديث كالتفصيل لحديث "انقطع عمله إلا من ثلاث"
(3)
اهـ، ومن تأمل ما جاء من الأعمال المذكورة في هذين الحديثين في الجُمل المصدرة بـ (أو) هو لبيان التفصيل، والتنويع كما ذكر ذلك أهل العلم، وليس ذلك فحسب؛ بل ولبيان وذكر أفضل ما يكون فعله صدقة جارية أو وقفا؛ لأنه من تأمل هذه الأعمال التي ذُكرت في هذين الحديثين يجد أنها شملت على أهم مقومات الحياة، سواء الحياة الروحية والقلبية أو الحياة البدنية والجسدية، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده؛ ولأهمية تلك الأعمال وعد الله
(1)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 326) رقم (254).
(2)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 326) رقم (254).
(3)
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 346) رقم (255)
سبحاته وتعالى فاعلها بالأجور العظيمة والثواب الجزيل، في الدنيا والأخرة، ومجموع ما جاء ذكره من الأعمال الصالحات التي يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، في الحديثين السابقين معا، تسعة أعمال:
الأول: العلم النافع، الثاني: الصدقة الجارية، الثالث: الدعاء من الولد الصالح،
الرابع: غرس النخل
الخامس: توريث المصحف
السادس: بناء بيت لابن السبيل
السابع: اجرى النهر، الثامن: حفر البئر
التاسع: بناء المسجد.
وقد سبق أن ذكرت شيئا من الكلام عن الصدقة الجارية عموما، وأما تعليم العلم النافع، والدعاء من الولد الصالح، سوف نذكر ذلك في مواضعهما من هذه الرسالة.
أما باقي الأعمال الصالحة المذكورة هنا فسوف نتناولها في هذا المطلب مع ذكر شيء من التوضيح عنها.
العمل الأول
غرس النخل
فقوله صلى الله عليه وسلم: «أَوْ غَرَسَ نَخْلاً» ، دل هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على أن غرس النخل، من الأعمال الصالحة التي يجري للعبد أجرها بعد الممات؛ فبالغرس والزرع يحصل حياة للإنسان والحيوان والأرض؛ لما له من فوائد متنوعة في عدد من مجالات الحياة، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، ولأهمية الغرس فقد ورد في الغرس والزرع أحاديث كثيرة تدل على فضل ذلك، وما يحصل من الأجر والثواب لمن غرس أو زرع شيئا مما يُأكل منه، أو ينتفع بشيء من ذلك الغرس أو الزرع، نذكر منها ما يلي:
عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم مبشر الأنصارية في نخل لها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟» فقالت: بل مسلم، فقال:«لا يغرس مسلم غرسا، ولا يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا شيء، إلا كانت له صدقة»
(1)
، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل
(1)
أخرجه مسلم (3/ 1188) رقم (1552).
السبُع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه
(1)
أحد إلا كان له صدقة»
(2)
، وعنه أيضاً قال صلى الله عليه وسلم:«فلا يغرس المسلم غرسا، فيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا طير، إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة»
(3)
، وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة
(4)
، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها»
(5)
، وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضا ميتة، فهي له، وما أكلت العافية
(6)
منه، فهو له صدقة»
(7)
.
قال النووي: "في هذه الأحاديث فضيلة الغرس وفضيلة الزرع، وأن أجر فاعل ذلك مستمر مادام الغراس والزرع، وما تولد منه إلى يوم القيامة، وقد اختلف العلماء في أطيب المكاسب وأفضلها، فقيل التجارة، وقيل الصنعة باليد، وقيل
(1)
لا يرزؤه: أي لا ينقصه ويأخذ منه. [شرح النووي على مسلم (10/ 213)].
(2)
أخرجه مسلم (3/ 1189) رقم (1552).
(3)
نفس المصدر السابق.
(4)
فسيلة: نخلة صغيرة، (التيسير بشرح الجامع الصغير: للمناوي (1/ 372).
(5)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص: 168) رقم (479)، قال الشيخ الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 300) رقم (1424).
(6)
العافية: كل طالب رزقا من إنسان، أو دابة، أو طائر، أو غير ذلك. (شرح السنة للبغوي (6/ 150).
(7)
أخرجه أحمد (23/ 309) رقم (15081). قال محقق المسند: حديث (صحيح)، وقال الألباني: حديث (صحيح) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 111) رقم (568).
الزراعة، وهو الصحيح
…
، وفي هذه الأحاديث أيضا أن الثواب والأجر في الآخرة مختص بالمسلمين، وأن الإنسان يثاب على ما سرق من ماله أو أتلفته دابة أو طائر ونحوهما"
(1)
.
قال العيني: "حصول الأجر للغارس والزارع، وإن لم يقصدا ذلك، حتى لو غرس وباعه، أو زرع وباعه، كان له بذلك صدقة لتوسعته على الناس في أقواتهم، كما ورد الأجر للجالب، وإن كان يفعله للتجارة والاكتساب، فإن قلت: في بعض طرق حديث جابر عند مسلم: إلا كانت له صدقة إلى يوم القيامة، فقوله: إلى يوم القيامة، هل يريد به أن أجره لا ينقطع إلى يوم القيامة، وإن فني الزرع والغراس؟ أو يريد ما بقي من ذلك الزرع والغراس منتفعا به، وإن بقي إلى يوم القيامة؟ قلت: الظاهر أن المراد الثاني، وزاد النووي: أن ما يولد من الغراس والزرع كذلك، فقال فيه: إن أجر فاعل ذلك مستمر ما دام الغراس والزرع وما يولد منه إلى يوم القيامة، وأن الغرس والزرع واتخاذ الصنائع مباح وغير قادح في الزهد، وقد فعله كثير من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم "
(2)
انتهى.
قال القسطلاني: "ومقتضاه أن ثواب ذلك مستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولا منه، ولو مات غارسه أو زارعه، ولو انتقل ملكه إلى غيره.
(1)
شرح النووي على مسلم (10/ 213).
(2)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري (12/ 155).
قال ابن العربي: فيه [أي حديث الغرس والزرع] سعة كرم الله أن يثيب على ما بعد الحياة، كما كان يثيب ذلك في الحياة انتهى، ونقل الطيبي عن محيي السُنة أنه روى أن رجلا مر بأبي الدرداء، وهو يغرس جوزة فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير وهذه لا تطعم إلا في كذا وكذا عاما، قال: ما عليّ أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيري.
قال: وذكر أبو الوفاء البغدادي أنه مر أنو شروان على رجل يغرس شجر الزيتون فقال له: ليس هذا أوان غرسك الزيتون، وهو شجر بطيء الإثمار، فأجابه غرس من قبلنا فأكلنا، ونغرس ليأكل من بعدنا، فقال أنو شروان: زه أي أحسنت، وكان إذا قال زه يعطي من قيلت له أربعة آلاف درهم فقال: أيها الملك كيف تعجب من شجري وإبطاء ثمره فما أسرع ما أثمر. فقال: زه فزيد أربعة آلاف درهم أخرى، فقال: كل شجر يثمر في العام مرة وقد أثمرت شجرتي في ساعة مرتين، فقال: زه فزيد مثلها فمضى أنو شروان فقال: إن وقفنا عليه لم يكفه ما في خزائننا.
ثم إن حصول هذه الصدقة المذكورة يتناول حتى من غرسه لعياله أو لنفقته؛ لأن الإنسان يثاب على ما سرق منه، وإن لم ينو ثوابه، ولا يختص حصول ذلك بمن يباشر الغراس أو الزراعة بل يتناول من استأجر لعمل ذلك، والصدقة حاصلة حتى فيما عجز عن جمعه، كالسنبل المعجوز عنه بالحصيدة فيأكل منه حيوان، فإنه مندرج تحت مدلول الحديث "
(1)
انتهى ما ذكره القسطلاني.
(1)
شرح القسطلاني = إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (4/ 171).
قال ابن عثيمين عند شرحه لأحاديث الغرس والزرع السابقة: " فيها حث على الزرع، وعلى الغرس، وأن الزرع والغرس فيه الخير الكثير، فيه مصلحة في الدين، ومصلحة في الدنيا.
أما مصلحة الدنيا: فما يحصل فيه من إنتاج، ومصلحة الغرس والزرع ليست كمصلحة الدراهم والنقود، لأن الزرع والغرس ينفع نفس الزارع والغارس، وينفع البلد كله، كل الناس ينتفعون منه، بشراء الثمر، وشراء الحب، والأكل منه، ويكون في هذا نمو للمجتمع وكثرة لخيراته، بخلاف الدراهم التي تودع في الصناديق ولا ينتفع بها أحد.
أما المنافع الدينية: فإنه إن أكل منه طير؛ عصفور، أو حمامه، أو دجاجة، أو غيرها ولو حبة واحدة، فإنه له صدقة، سواء شاء ذلك أو لم يشأ، حتى لو فرض أن الإنسان حين زرع أو حين غرس لم يكن بباله هذا الأمر، فإنه إذا أكل منه صار له صدقة، وأعجب من ذلك لو سرق منه سارق، كما لو جاء شخص مثلاً إلى نخل وسرق منه تمراً، فإن لصاحبه في ذلك أجراً، مع أنه لو علم بهذا السارق لرفعه إلى المحكمة، ومع ذلك فإن الله تعالى يكتب له بهذه السرقة صدقة إلى يوم القيامة"
(1)
اهـ.
فيستفاد من هذه الأحاديث أن أي غرس يغرسه الإنسان، أو يزرعه من شتى أنواع الأشجار أو الزروع التي يكون للناس منها نفع وفائدة بأكل أو غيره، فإن
(1)
شرح رياض الصالحين (2/ 195).
الأجر له حاصل لأن كلمتي غرس وزرع جاءتا نكرة فدلتا على عموم الغرس والزرع مما يأكل وينتفع منه الناس، وأما ما ذُكر في الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم:«أو غرس نخلاً» فخص ذكر النخل؛ إما لكثرة ما ينتفع ويستفاد منها سواء ثمرها أو ورقها أو عيدانها أو غير ذلك؛ أو ما يتعلق بكثرة فوائد ومنافع ثمرها عن غيرها، أو لكون النخيل هو المنتشر أكثر من غيره من الأشجار والزروع في مكة والمدينة؛ أو في جزيرة العرب عموما؛ أو لكونه أحب شيء من الزروع عند الناس في ذلك الوقت، أو لطول عمرها وبقائها، ولهذا فإن غرس وزرع ما يتعمر طويلا من الأشجار والزروع أفضل لكون الأكل منه والانتفاع به يستمر ويدوم أكثر مدة من غيره مما يتعمر زمن قصير، وعلى هذا فمن كان في بلد لم يصلح أن يغرس فيه النخيل؛ فليغرس غيرها مما يناسب ذلك البلد، ويصلح فيه، وله خِبرة ودراية في زراعة وغرس ذلك الزرع والغرس، فمثلا لو غرس زيتونا أو رمانا أو عنبا أو برتقالا أو مانجو، أو غير ذلك من الأشجار التي ينتفع الناس بثمرها أو بشيء منها مما يعود لهم به نفع وفائدة، بحيث توزع ثمرها، أو قيمة ما يبتاع منها على الفقراء والمساكين والمحتاجين، فإن الأجر جار لصاحبها الذي غرسها ما أنتفع الناس بها، أو إلى يوم القيامة والله أعلم.
فائدة:
الفرق بين الغرس والزرع:
الغرس: هو دفن وتثبيت جذور الفسيلة في التربة، فهو غرس لما نبت، وطلع من على وجه الأرض، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها» ، والفسيلة هي نخلة صغيرة قابلة للغرس، قال أبو عبيد عن الأصمعي في صغار النخل قال:"أول ما يقلع من صغار النخل للغرس فهو الفسيل والودي، ويجمع فسائل، وقد يقال للواحدة: فسيلة، ويجمع فسيلا"
(1)
.
أما الزرع: فهو دفن أو رمي بذور النبات في التربة والعمل على ريه وإصلاحه حتى ينمو وينبت، ولهذا قال تعالى:{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64]، قال ابن كثير في تفسيره:"أي: تنبتونه في الأرض {أم نحن الزارعون} أي: بل نحن الذين نقر قراره وننبته في الأرض"
(2)
.
(1)
تهذيب اللغة (12/ 298).
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 540).
العمل الثاني
توريث المصاحف
فقوله صلى الله عليه وسلم: «أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ» ، دل هذا القول كسابقه، من أن توريث المصاحف من الأعمال التي يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، والمصحف هو الكتاب المتضمن والمحتوي لكلام الله تعالى، ولعِظم شأنه رتّب الله سبحانه وتعالى الأجر والثواب حتى في شرائه وتوريثه فضلا، عن قراءته وتعليمه وتعلمه، والمقصود من توريثه أن يقرأ فيه الورثة أو غيرهم، لا لجعله زينة تتخذ أو لجعله تحفة للذكريات تكسى وتعلق، أو يهمل ويهجر ونحو ذلك، وشراءه والقراءة فيه وتوريثه لا يحصل إلا لمن عنده اهتمام بالقرآن، وحبا له، و حرصا على الخير؛ وإلا فمن تأمل في حياة الناس اليوم يجدهم ينفقون أموالا كثيرة في عدد من مجالات الحياة من مآكل ومشارب وملابس ومناكح ومراكب ومساكن وغيرها من متاع الدنيا، وربما يكون للإنسان من المراكب والمساكن ما يصل الى حد الإسراف، فتجد شخصا له أربع أو خمس من السيارات، وأخر له مثل ذلك من العمارات، وأخر قد تزوج بعدد كذا وكذا من النساء، يتزوج ثم يطلق وهكذا، وأخر أنفق كثيرا من أمواله في السياحة والرحلات، وغير ذلك من الأمور التفهات، التي ينفق الناس فيها أمولا كثيرة، كل هذا فيما إذا كان الإنسان في غنى عنه، ويكفيه ما هو دون ذلك، هذا الصنف الأول.
أما الصنف الثاني: وهم الذين يصرفون أموالهم في المعاصي والمحرمات، وفي شتى أنواع المنكرات مما يورثهم العذاب الأليم، والخسران الجسيم في الدنيا والأخرة، ومع هذا الإنفاق الكثير من الأموال التي تصرف في مثل هذه الأمور وغيرها، تجد منهم من قضى حياته ولم يجعل لنفسه من هذه الاموال الطائلة والاستثمارات المتعددة أدنى صدقة جارية لينتفع بها في حياته وبعد موته، فيموت ويَقدم على الله وهو كما يقال صفر اليدين - نعوذ بالله من ذلك - لم ينتفع بتلك الأموال والثروات، فقد ذهبت تلك اللذات وانتهت الشهوات، وكأنه لم يمتلك ذلك المال، ولذلك قال تعالى:{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28، 29] قال السعدي في تفسيره: " أي ما نفعني لا في الدنيا، لم أقدم منه شيئا، ولا في الآخرة، قد ذهب وقت نفعه"
(1)
، ومن الناس من ترك هذا المال لورثة غير صالحين فلا يتصدقون بشيء منه له بعد موته، بل قد ربما لا يحصل له منهم حتى دعوة صالحة، وقد ربما يحصل منهم السب له - والعياذ بالله من ذلك-، والدعاء عليه؛ وخاصة إذا حصل اختلاف، وخصومة، وتنازع بين الورثة؛ بسبب تركة مورثهم، ومن الورثة من يتمنى موت صاحب المال قبل موته وحلول أجله، نعم قد يتمنى بعض الورثة موت مورثهم، خاصة إذا طال عمره، وهذا كله بسبب تلك الأموال التي جمعها وكدسها في حياته وحرص عليها؛ ولم يجعل منها في وجوه الخير ما ينفعه ويقربه الى الله تعالى، ولم ينفق بسخاء على من يعولهم، هذا
(1)
السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 884).
إذا لم يكن الورثة فساقا؛ أما إذا كانوا ورثة فساقا فينفقون ذلك المال في وجوه الحرام، فيجتمع عليه أمران، حسرته في عدم انتفاعه من ذلك المال والإنفاق منه في وجوه الخير؛ ليكون سببا في نجاته عند ملاقاة ربه جل وعلا هذا الامر الأول.
الثاني: كونه كان سببا في توفير المال لورثة فساقا يعصون الله به، ومع هذا كله فلن أبالغ أنه قد يوجد من الناس من يموت ممن لديه أموالا كثيرة، ولم يشتري أو يورث حتى مصحفا واحدا طول حياته، فضلا عن كتاب نافع و مفيد في العلوم الشرعية، ليكون صدقة جارية له بعد موته، مع كون المصحف أقل كلفة مما ذُكر في الحديث مقارنة مع غيره من وجوه الخير، وأعمال البر، فعلى المسلم أن يقف مع نفسه محاسبا لها، ماذا قدم لنفسه من ماله في حياته وقبل موته، من صدقة جارية أو وقف ينتفع به المسلمون من بعد موته لينال به عظيم الأجر، ووافر الثواب من الله الشكور الوهاب.
العمل الثالث
بناء بيت لابن السبيل
فقوله صلى الله عليه وسلم: «أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاه» ، قال الهروي:"أي المسافر والغريب"
(1)
، قال ابن قدامة:"وابن السبيل: هو المسافر الذي ليس له ما يرجع به إلى بلده، وله اليسار في بلده"
(2)
، وبناء بيت لابن السبيل لا يقوم به في هذا الزمان إلا من وفقه الله لذلك، مع أن هذا العمل من الأعمال الصالحة والصدقة الجارية التي يجري ويبقى للعبد أجرها وثوابها بعد الممات، ومع هذا فإن هذا العمل قد يكاد ينعدم أو منعدما عند الناس، وهذا إما بسبب جهل الناس بفضل وثواب هذا العمل الصالح، أو بسبب طغيان الحياة المادية عند الناس والسعي للحصول على المال، فاستبدلوا بناء الفنادق الكبيرة ببناء البيوت للغرباء وابن السبيل؛ ليأخذوا ممن نزل في تلك الفنادق المبالغ الباهظة، فأصبحت استثمارات ذات أهمية بالغة، وبهذا الفعل ترك الناس الاهتمام بابن السبيل والمسافر والغريب، وكأنه لا يوجد بين المسلمين ابن سبيل ولا مسافر ولا غريب ولا محتاج، وإن وجد ذلك فلا بد أن يكون معه مال ليجد له مكانا يأويه ويبيت فيه، وأما من ليس له مال فلا يجد مكانا يأويه وإن كان هو بين إخوانه المسلمين، مع أن ابن السبيل المستحق شرعا
(1)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 326).
(2)
المغني لابن قدامة (6/ 484).
قد أوجب الله له من الزكاة المفروضة حتى وإن كان غنيا حتى يرجع الى بلده؛ ولما كان الاهتمام في الإسلام بابن السبيل بهذه الأهمية، جُعل بناء بيتا له من الصدقات الجاريات والأعمال الصالحات التي يجري للعبد أجرها بعد الموت، وعليه فإن من بنى بيتا وجعله وقفا أو صدقة جارية لابن السبيل والمسافر والغريب يأوي إليه فيقيه من الحر و البرد و يلجأ إليه وقت المطر، ويستريح فيه من سفره وتعبه وسهره، فهذا لاشك أن له أجرا عظيما، وثوابا كبيرا عند الله تعالى.
فمن جعل مأوىً لابن السبيل في هذه الدنيا، سيجعل الله له مأوى في الدنيا والأخرة يأوي إليه في وقت هو أشد حاجة إليه من حاجة ابن السبيل للمأوى في بيت من بيوت الدنيا، وقد جاء في الحديث عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس، أو قال: حتى يحكم بين الناس، قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق منه بشيء، ولو كعكة ولو بصلة»
(1)
.
فيكون الجزاء من جنس العمل، والحسنة بعشر أمثالها، وكلمة بيت في الحديث نكرة تشمل أي بيت سواء كبيرا أو صغيرا، كلا على حسب قدرته واستطاعته، ومن بنا بيتا لابن السبيل فيتطلب منه أن يجعل عليه من يقوم بالمحافظة عليه،
(1)
أخرجه ابن خزيمة (4/ 94) رقم (2431)، قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 830) رقم (4510).
وإصلاح ما قد يحتاج الى إصلاحه، وإن كان في مكان لا يوجد فيها أسواق ولا مطاعم يباع فيها ما يحتاجه المسافر أو الغريب من طعام وشراب، فإن من كمال إحسانه أن يجعل له وقفا لكي يأكل ويشرب من يأوي إليه، فيجتمع له أجر المأوى، وأجر الإطعام فينال واسع الأجر وعظيم الثواب من العزيز الوهاب، والله أعلم.
•••
العمل الرابع
حفر بئر، أو إجراء نهر
فقوله صلى الله عليه وسلم: «أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ» : قال الهروي: "جعله جاريا لينتفع به الخلق"
(1)
، أي للسبيل ليشرب منه الخلق وينتفعوا به، ولاشك أن الماء من أعظم النعم التي منّ الله بها على عباده، فكانت حاجة الناس إليها شديدة وماسة ولا غنى لهم عنها، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم على أنها من الصدقات الجاريات التي يجري للإنسان أجرها وثوابها وهو في قبره وبعد موته سنين عديده وأحقاب مديدة؛ وقد وردت عدة من الأحاديث التي ترغب وتحث وتبيّن فضل صدقة الماء وسقيه، وأنها من أفضل الصدقات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا، فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش
(2)
، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى
(1)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 326).
(2)
يلهث: يرتفع نفسه بين أضلاعه أو يخرج لسانه من شدة العطش. الثرى: التراب الندي وقيل يعض الأرض. وإن لنا في البهائم لأجرا: أيكون لنا في سقي البهائم والإحسان لها أجر. في كل كبد: في الإحسان إلى كل ذي كبد. رطبة: حية. [تعليق مصطفى البغا] على البخاري (3/ 112).
الكلب، فشكر الله له، فغفر له»، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال:«في كل كبد رطبة أجر»
(1)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن لنا في البهائم» قال ابن حجر: "أي في سقي البهائم أو الإحسان إلى البهائم أجرا، وقوله صلى الله عليه وسلم:«في كل كبد رطبة أجر» أي كل كبد حية والمراد رطوبة الحياة أو لأن الرطوبة لازمة للحياة فهو كناية ومعنى الظرفية هنا أن يقدر محذوف أي الأجر ثابت في إرواء كل كبد حية والكبد يذكر ويؤنث
…
، قال الداودي المعنى في كل كبد حي أجر وهو عام في جميع الحيوان"
(2)
.
قال العيني: "في الحديث الحث على الإحسان إلى الناس، لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب، فسقي بني آدم أعظم أجرا، وفيه: أن سقي الماء من أعظم القربات، وقال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء، فإذا غفرت ذنوب الذي سقى كلبا فما ظنكم بمن سقى مؤمنا موحدا وأحياه بذلك؟ "
(3)
، وعن سعد بن عبادة، أنه قال: يا رسول الله، إن أم سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟، قال:«الماء» وفي رواية: [«سَقْيُ الْمَاءِ»]، قال: فحفر بئرا، وقال: هذه لأم
(1)
متفق عليه: البخاري (باب فضل سقي الماء)(3/ 112) رقم (2363)، مسلم (في السلام باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها) رقم (2244).
(2)
فتح الباري لابن حجر (5/ 42).
(3)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري (12/ 208).
سعد»
(1)
، وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من حفر ماء لم يشرب منه كبد حَرَّى من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة»
(2)
، والكبد الحرَّى أي: العطشى، والمراد بالكبد الحرَّى أي حياة صاحبها، والحديث يدل على أن في سقي كل ذي روح أجر
(3)
.
فخُصت الماء بأفضل الصدقة؛ لما لها من فوائد عظيمة، ومنافع جمة وأهمية بالغة، في حياة الإنسان والحيوان والنبات، ولا يصلح شيء أن يقوم مقامها، فقد تكون حاجة الناس للماء أعظم من حاجتهم الى الطعام، ولذا قد يصبر الشخص على الجوع أكثر من العطش، ولَما كانت الماء من أفضل النعم التي أنعم الله بها على الخلق كرر الله تعالى بيان فضله ورحمته بإنعامه علينا بهذه النعمة في مواطن كثيرة من القرآن، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا
(1)
أخرجه أبو داود (باب في فضل سقي الماء)(2/ 130) رقم (1681)، وما بين المعكوفين عند ابن حبان (8/ 135)، ابن ماجه (2/ 1214) رقم (3684)، قال الالباني: حسن، صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 250) رقم (1113).
(2)
أخرجه ابن خزيمة (2/ 269) رقم (1292)، قال الألباني: حديث (صحيح)، صحيح الترغيب (1/ 233) رقم (963).
(3)
انظر النهاية في غريب الحديث (1/ 364).
وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 48، 49]، وقال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].
فمن أعظم منافعها أنها سبب لحياة الانسان والحيوان والنبات وغير ذلك مما لا غنى له عن الماء، ومن أهميتها للإنسان بعد استخدامها لشربه وطعامه، انتفاعه بها في عبادته لربه سبحانه وتعالى، فإقامة الصلاة تحتاج إلى الطهارة بالماء، سواء في الغسل أو الوضوء ويحتاجها الأنسان في غسل الميت، وغير ذلك من العبادات التي يحتاج فيها المسلم إلى الماء، ولما كانت لها هذه الأهمية في الحياة فقد رتب الله تعالى لمن جعل منها صدقة جارية لينتفع به الخلق والعباد، عظيم الأجر والثواب، وليتذكر الأنسان أن من شرب أو انتفع بهذه الماء التي يجعلها صدقة جارية من انسان أو حيوان أو طير أو غير ذلك، إلا كان له به أجرا وثوابا، وإذا كان الله قد غفر لذلك الرجل، أو تلك البغي
(1)
وأدخلها الجنة بسبب سقي كلب واحد، فكيف بمن يكون سببا في سقيا خلق كثير من عباد الله المسلمين، فمن له القدرة على أن يجعل لنفسه صدقة جارية من الماء فليبادر إلى ذلك، - خصوصا وقد اطلع على شيء من بيان فضل وثواب هذا العمل الصالح-، مع اخلاص النية واحتساب الأجر والثواب من العزيز الوهاب، والله اعلم.
(1)
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها» أخرجه مسلم (4/ 1761) رقم (2245)
العمل الخامس
بناء المساجد
فقوله صلى الله عليه وسلم: «أَوْ بَنَى مَسْجِدًا» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ» ، فبناء المساجد من أفضل القربات، ومن أعظم الصدقات الجاريات كيف لا؟ والمساجد بيوت الله تعالى وهي أحب البقاع الى الله تعالى، وفيها تؤدى الصلوات والعبادات، وفيها اجتماع المسلمين وتعارفهم وتآلفهم ووعظهم وتعليمهم أمور دينهم، ومن المسجد يخرج العلماء والدعاة الى الله تعالى والفقهاء والصالحون من الناس، والمسجد هو منبر الإسلام المنيع، ومنارته الشامخة، ولأهمية المسجد ومكانته في الإسلام، كان من أوائل الأعمال التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، فور وصوله المدينة عند هجرته من مكة، ولسنا في صدد ذكر فوائد المساجد وأهميتها، يكفي أن الله أعلا شأنها ورفع مكانتها في كتابه، وجعلها محلا لذكره، وتسبيحه، حيث قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]، وقد وصف سبحانه من عمرها بالأيمان بالله واليوم الأخر، بقوله تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، قال السعدي في تفسيره: "فوصفهم بالإيمان النافع، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة، وبخشية الله التي هي أصل كل خير، فهؤلاء عمار المساجد
على الحقيقة وأهلها الذين هم أهلها"
(1)
، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وتوعد الله من منع الصلاة فيها، ومن يسعى في خرابها الحسي أو المعنوي بالخزي في الدنيا، والعذاب العظيم في الأخرة، قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]، ولما كان المسجد بهذه الأهمية بمكان، فإن الله قد وعد من بنا مسجدا لله؛ إلّا بنى الله له بيتا في الجنة، جزاء لما صنع، ففي صحيح مسلم عن عثمان ابن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ، بَنَى اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ» وفي رواية «بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»
(2)
، وليس البيت في الجنة مثل المسجد الذي يُبنى في الدنيا من أحجار أو طوب أو غير ذلك، مما تبنى به المساجد أو بيوت الدنيا، لا من حيث البناء، ولا السعة، ولا المكان، ولا يماثله من أي وجه من الوجوه، إنما مثله في مسمى البيت فقط؛ ليكون الجزاء من جنس العمل؛ لأن بناء الجنة لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك، وبيوت الدنيا ومساجدها يعتريها الخراب والدمار والزوال؛ أما في الجنة فلا يحصل شيء من ذلك فهو في نعيم مقيم وملك خالد؛ بل إن في الجنة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وموضع السوط فيها خير من
(1)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 331).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2287) رقم (533).
الدنيا وما عليها، فكيف سيكون مثله؟؟؛ ولذلك قال الشوكاني في نيل الأوطار: "وقد اختلف في معنى المماثلة، فقال ابن العربي: مثله في القدر والمساحة، ويرده زيادة:«بيتا أوسع منه»
(1)
عند أحمد والطبراني من حديث ابن عمر، وروى أحمد أيضا من طريق واثلة بن الأسقع بلفظ:«أفضل منه» وقيل مثله في الجودة والحصانة، وطول البقاء، ويرده أن بناء الجنة لا يخرب بخلاف بناء المساجد، فلا مماثلة، قال صاحب المفهم: هذه المثلية ليست على ظاهرها، وإنما يعني أن يبنى له بثوابه بيتا أشرف وأعظم وأرفع، وقال النووي: يحتمل أن يكون مثله معناه بنى الله له مثله في مسمى البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها، فإنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويحتمل أن يكون معناه، أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا"
(2)
انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: "أي بنى بناء مثله، ولفظ المثل له استعمالان:
أحدهما الإفراد مطلقا: كقوله تعالى: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} ، والآخر المطابقة: كقوله تعالى: {أمم أمثالكم} فعلى الأول: لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة فيحصل جواب من استشكل التقييد بقوله: «مثله» مع أن الحسنة بعشرة أمثالها لاحتمال أن يكون المراد بنى الله له عشرة أبنية مثله، والأصل أن ثواب
(1)
أخرجه أحمد عن أسماء بنت يزيد (45/ 585) رقم (27612) قال محقق المسند طبعة الرسالة: حديث (صحيح لغيره)، بلفظ:" من بنى لله مسجدا، فإن الله يبني له بيتا أوسع منه في الجنة ".
(2)
نيل الأوطار (2/ 173).
الحسنة الواحدة واحدة بحكم العدل، والزيادة عليه بحكم الفضل
…
، وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة عليه، ومن الأجوبة المرضية أيضا: أن المثلية هنا بحسب الكمية، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشرة بل من مائة، أو أن المقصود من المثلية أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره مع قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة؛ إذ موضع شبر فيها خير من الدنيا وما فيها، كما ثبت في الصحيح"
(1)
.
قال المناوي: "وهذا من أعظم أنواع الإعظام، والإكرام لإيذانه بأنه مقره ومسكنه قد أُعد له وهُيئ وبني، وأنه عند الله بمكان جليل يبنى له بدار القرار بجوار الغفار"
(2)
.
(1)
فتح الباري لابن حجر (1/ 546).
(2)
فيض القدير للمناوي (6/ 96).
فائدة:
قال الحافظ ابن حجر في قوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» قال: " فيه إشارة إلى دخول فاعل ذلك الجنة إذ المقصود بالبناء له أن يسكنه وهو لا يسكنه إلا بعد الدخول والله أعلم"
(1)
.
فمن بنا لله مسجد سواء كان المسجد الذي يُبنى صغيرا أو كبيرا، فإن الله قد وعد الباني ببيت في الجنة، فلا يظن العبد أن الله لا يعطيه ما وعد من الجزاء والأجر إلا إذا كان مسجدا واسعا وبناء كبيرا؛ فيتكاسل عن العمل ويترك البناء، بل يبادر فإن الأجر حاصل وواقع، سواء كان المسجد صغيرا أو كبيرا، فإن الله لا يضيع أجره وثوابه، ولذلك جاءت الأحاديث تدل وتحث على ذلك، حتى لا يحصل عدم مبادرة في فعل الخير من بناء المساجد لله سبحانه وتعالى سواء كانت صغيرة أو كبيرة؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجداً ولو مثل مَفْحَصِ قَطَاةٍ بنى الله له بيتاً في الجنة»
(2)
، فقوله صلى الله عليه وسلم:«مثل مفحص قطاة» المفحص: هو المكان الذي تضع فيه القطاة بيضها [أي كعش الطائر]،
(1)
فتح الباري لابن حجر (1/ 546)
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 614) رقم (4292)، ابن أبي شيبة (1/ 275) رقم (3156) والطبراني في المعجم الصغير وابن حبان وقال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الترغيب والترهيب (1/ 66) رقم (269).
والقطاة طائر معروف، وللعلماء قولان في المقصود من هذه العبارة الأول: حمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة؛ لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع فيه بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة فيه
…
، والثاني: هو على ظاهره، والمعنى أن يزيد في مسجد قدرا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر، وهذا كله بناء
…
،
(1)
، قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وقال ابن رجب إنما هذا لضرب المثل مع أَنه لا يكون المسجد كذلك
(2)
، قال الزركشي: خص القطاة بالذكر دون غيرها لأن العرب تضرب به المثل في الصدق ففيه رمز إلى المحافظة على الإخلاص في بنائه والصدق في إنشائه"
(3)
.
فكل هذه الأحاديث وغيرها تدل على الحث والترغيب والمسارعة والمنافسة في بناء المساجد، واغتنام هذا الخير العظيم والفضل الكبير، وللإنسان أن يتذكر كذلك ما يستمر له من الأجر والثواب في بنائه لمسجد من المساجد بعد موته، أنه ما صلى فيه مصل أو قرأ قارئ أو أذن مؤذن أو خطب خطيب أو وعظ واعظ أو غير ذلك، إلا كان له في ذلك من الأجور العظيمة ما الله به عليم، والله يضاعف لمن يشاء والله ذو الفضل العظيم.
(1)
فتح الباري لابن حجر (1/ 545).
(2)
فتح الباري لابن رجب (6/ 179).
(3)
فيض القدير (6/ 96).
تنبيه:
إن من تمام الفائدة المتصلة ببناء المساجد أن أنبه القارئ الكريم على أمور ثلاثة أحدثها الناس في بنا ء المساجد وهي:
الأمر الأول: بناء قبة، أو عدد من القباب على سطوح المساجد، وهذا العمل فيه عدة أمور:
الأول: فيه تكلفة وزيادة المبلغ المالي على الباني أو فاعل الخير المتصدق في ذلك العمل، في ما ليس به حاجة لفعله فيترك.
الثاني: أن عمل القبة أو القباب على سطح المسجد يعوق توسعته إن احتاج لذلك ببناء الدور الثاني عليه.
الأمر الثاني: بناء المآذن الطويلة، وهذا فيه ما فيه من التكلفة الباهظة التي قد ربما يُستغنى عنها بما هو أقل من ذلك، ومن عنده مال كثير وفتح الله عليه فليبني مسجدا أخر ولو صغيرا بتكلفة بناء الصوامع الشاهقة وهذا أفضل، والعجيب في ذلك أنك أحيانا تجد مسجدا صغيرا وقد جعل له مئذنة بما يقارب نصف تكلفة بناء المسجد نفسه.
الأمر الثالث: عمل الزخارف والنقوش التي تصنع داخل المساجد وهذه منهي عنها لما فيها من شغل المصلين برفع ابصارهم اليها، والتأمل فيها وقراءتها، فتشغل المصلي عن الخشوع في الصلاة وهذا لا يجوز.
جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: «كان سقف المسجد من جريد النخل» ، وأمر عمر ببناء المسجد وقال: «أَكِنَّ الناس من المطر وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ
(1)
فَتَفْتِنَ النَّاسَ»، قال أنس:«يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا» وقال ابن عباس: «لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى»
(2)
، وجاء عند أبي داوود من حديث أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد»
(3)
، وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت بتشييد المساجد» ، قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى
(4)
.
قال العلامة ابن الأمير الصنعاني: "والتشييد رفع البناء وتزيينه بالشيد وهو الجص كذا في الشرح والذي في القاموس: شاد الحائط يشيده طلاه بالشيد وهو ما يطلى
(1)
تحمر أو تصفر: أي احذر طلي المسجد بالأحمر أو الأصفر. فتفتن: تفسد عليهم صلاتهم وتوقعهم في الإثم لاشتغالهم بالألوان عن الخشوع في الصلاة. يتباهون أي: يتفاخرون ببناء المساجد ولا يحيونها بالصلاة والذكر والعلم. لتزخرفنها: أي المساجد والزخرفة التزيين بالذهب وغيره] [تعليق مصطفى البغا] صحيح البخاري (1/ 97).
(2)
أخرجه البخاري (1/ 97) سنن أبي داود (1/ 122) رقم (448).
(3)
أخرجه أبو داود (1/ 123) رقم (449) قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح أبي داود (2/ 348) رقم (476).
(4)
أخرجه أبو داود (1/ 122) رقم (448) قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح أبي داود (2/ 347) رقم (475).
به الحائط من جص ونحوه، انتهى؛ فلم يجعل رفع البناء من مسماه، والحديث ظاهر في الكراهة أو التحريم لقول ابن عباس: كما زخرفت اليهود والنصارى، فإن التشبه بهم محرم، وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس من الحر والبرد، وتزيينها يشغل القلوب عن الخشوع الذي هو روح جسم العبادة، والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل"
(1)
.
أهمية المبادرة إلى فعل الصدقة الجارية، وفعل الخير
إن على العبد الحريص على فعل الخير، وعمل الصدقة الجارية المبادرة إلى فعلها في حال صحته وعافيته وتمكنه من ذلك وهذا هو الأفضل له؛ لعدة أمور:
الأول: استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى حيث يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال سبحانه:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
(1)
سبل السلام (1/ 236).
الثاني: العمل بما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثنا عليه، من اغتنام كل الأوقات واللحظات، بفعل القربات والطاعات، والمبادرة الى الأعمال الصالحات قبل الفوات، حيث قال صلى الله عليه وسلم:«بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»
(2)
.
الثالث: عملا بما ورد في الحديث المذكور سابقا، من قوله صلى الله عليه وسلم:«أو صدقة أخرجها من ماله في صحته، وحياته»
(3)
، قال السندي:"أي أخرجها في زمان كمال حاله، ووفور افتقاره إلى ماله، وتمكنه من الانتفاع به، وفيه ترغيب إلى ذلك"
(4)
، وهذا الأمر مستفاد من الحديث الذي ذكرت فيه أنواع أعمال الصدقة الجارية مبينا فيه وقت فعلها.
الرابع: لكونها أعظم أجرا، وثوابا عند الله تعالى بدليل ما جاء في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي
(1)
أخرجه مسلم عن أبي هريرة (1/ 110) رقم (118).
(2)
أخرجه الحاكم عن ابن عباس (4/ 341) رقم (7846) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه [التعليق - من تلخيص الذهبي](7846) - على شرط البخاري ومسلم، قال الألباني: حديث (صحيح) الجامع الصغير وزيادته (1/ 243) رقم (1077).
(3)
سبق تخريجه
(4)
حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 106).
الصدقة أعظم أجرا؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان لفلان»
(1)
، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم:«صحيح» ليس فيك مرض أو علة تقطع أملك في الحياة، وقوله صلى الله عليه وسلم:«شحيح» أي: من شأنك الشح وهو البخل مع الحرص، «تخشى الفقر»: تخافه وتحسب له حسابا، «تأمل»: تطمع وترجو، وقوله:«ولا تمهل» لا تؤخر وقوله صلى الله عليه وسلم: «بلغت الحلقوم» أي: قاربت الروح الحلق والمراد شعرت بقرب الموت، «قلت لفلان كذا»: أخذت توصي وتتصدق، «وقد كان لفلان»: وقد أصبح مالك ملكا لغيرك وهم ورثتك"
(2)
.
الخامس: جريان الأجر والثواب من بدء انتفاع الناس بالصدقة الجارية، وبهذا يحصل العبد على أجور كثيرة عاجلة قبل الآجلة.
السادس: الحصول على البركة والعوض والخلف والزيادة من الله تعالى في المال المنفق منه، ولهذا أدلة كثيرة من القرآن والسنة تدل على ذلك منها ما سبق ذكره.
السابع: قد يحصل للإنسان تباطء وتأخير وتسويف في فعل الصدقة الجارية فيفوته ذلك الخير؛ لأن الشيطان حريص على أن يفسد على العبد المؤمن أي عمل صالح أو طاعة لله تعالى يحصل له منها غفران لذنوبه ورفع لدرجاته ومرضاة ربه.
(1)
متفق عليه: البخاري (2/ 110) رقم (1419)، مسلم (2/ 716) رقم (1032).
(2)
تعليق مصطفى البغا في البخاري (2/ 110).
الثامن: قد يحصل للإنسان ما يحصل من أمور الحياة العارضة، والأشغال المتواصلة، والظروف الطارئة، التي تكون سببا في تأخر الخير وحصوله.
التاسع: ليكون فاعل الصدقة الجارية أو الواقف لهذا الخير، هو من يشرف على هذا العمل الخيري والصدقة الجارية التي عزم على فعلها بنفسه؛ ليتحقق، ويتأكد، من ذلك العمل في عدة جوانب من اتقانه وإحِكامه؛ ليدوم ويستمر نفعه طويلا، لكي يستمر الأجر والثواب، وغالبا ما يحصل هذا إلا بوجود من يهتم، ويتابع.
العاشر: وهو الأمر الأهم بأن الإنسان يبادر في فعل الخير قبل أن يبغته الموت ويأتيه الأجل، وهو لم يعمل شيئا من ذلك الخير، ولذلك قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10، 11]، وقال تعالى:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، وقال تعالى:{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50]، والأدلة على هذا كثيرة معلومة.
فالمبادرة والمسارعة إلى فعل الصدقة الجارية، وأعمال لخير، هو من اغتمام الفرص التي قد ربما لا تُعوض، فيندم الإنسان على فواتها منه، ولم ينفعه ذلك الندم، والله المستعان.
تنبيه هام:
لابد من توفر شرطين أساسيين في كل ما ينوي به المسلم من وقف، أو صدقة جارية مما ينتفع الناس به؛ لكي يحصل له الأجر والثواب كاملاً تاماً، ويكون هذا العمل مقبولا عند الله تعالى، وهما:
الشرط الأول: أن يكون هذا العمل خالصا لله تعالى وحده لا شريك له، فلا ينوي به صاحبه رياء ولا سُمعة ولا شهرة ولا لأجل أن يقال فلان عمل كذا أو صنع كذا؛ بل يجعل ما عمل من وقف، أو صدقة جارية، أو غير ذلك من الأعمال الصالحة، خالصا لله تعالى لا يرجو من أحد جزاء ولا شكورا على ذلك العمل، ولذلك قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، والأدلة على ذلك كثيرة جدا.
فالإخلاص لله شرط قبول كل العبادات والطاعات، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لأمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» »
(1)
، وعن
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 6) رقم (1) ورقم (6689)، مسلم رقم (1907).
أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه»
(1)
، وعن أبي أمامة الباهلي، قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتغي به وجهه»
(2)
، وعن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري، وكان من الصحابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك»
(3)
، وعن جندب وابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ
(4)
»
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم (4/ 2289) رقم (2985).
(2)
أخرجه النسائي (6/ 25) رقم (3140) قال الألباني: حديث (صحيح) الجامع الصغير وزيادته (1/ 379) رقم (1856).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2/ 1406) رقم (4203) الترمذي (5/ 314) رقم (3154)، قال الألباني: حديث (حسن) مشكاة المصابيح (3/ 1462) رقم (5318).
(4)
من سمع: من سمع بعمله الناس وقصد به اتخاذ الجاه والمنزلة عندهم، ولم يرد به وجه الله، فإن الله تعالى يسمع به خلقه، أي يجعله حديثًا عند الناس الذى أراد نيل المنزلة عندهم بعمله، ولا ثواب له في الآخرة عليه، وكذلك قوله من يرائي: أي بعمله الناس راءى الله به، أي أطلعهم على أنه فعل ذلك لهم ولم يفعله لوجهه، فاستحق على ذلك سخط الله وأليم عقابه، شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 208).
(5)
متفق عليه: أخرجه البخاري (8/ 104) رقم (6499) واللفظ له، مسلم (4/ 2289) رقم (2986).
فهذه بعض من الأدلة التي تدل على إخلاص العمل لله تعالى وعدم الشرك به جل وعلا، ولذلك قال ابن الجوزي فيما يتعلق ببناء المساجد:"من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدا من الإخلاص"
(1)
، وقال ابن رجب الحنبلي:"فالإخلاص شرط لحصول الثواب في جميع الأعمال؛ فإن الأعمال بالنيات، وإنما لامرىٍ ما نوى، وبناء المساجد من جملة الأعمال، فإن كان الباعث على عمله ابتغاء وجه الله حصل له هذا الأجر، وإن كان الباعث عليه الرياء والسمعة أو المباهاة فصاحبه متعرض لمقت الله وعقابه، كسائر من عمل شيئا من إعمال البر"
(2)
اهـ، فعلى المسلم أن يحرص على تحقيق هذا الشرط في قرارة نفسه وقلبه، قبل البدء في كل عمل صالح يعمله؛ ليكون مقبولا عند الله تعالى، وينال به الأجر والثواب.
الشرط الثاني: أن يكون الوقف أو الصدقة الجارية من مال حلال طيب غير مغصوب، ولا مسروق، ولا منهوب، ولا يخالطه مال حرام، من ربا أو يكون فيه شبهة، أو شيء من نحو ذلك؛ بل يكون من حلال صافي لا تشوبه شائبة، فالصدقة الجارية هي عبادة لله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا طيب لا يقبل إلا طيبا؛ ولذلك خُصت الصدقة بالطيب، فعن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه،
(1)
فتح الباري لابن حجر (1/ 545).
(2)
فتح الباري لابن رجب (3/ 322).
وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله»
(1)
، وعنه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا»
(2)
.
قال النووي: "دل الحديث على الحث على الإنفاق من الحلال، والنهي عن الإنفاق من غيره"
(3)
، وقال القاري:«إن الله طيب» : أي: منزه عن النقائص والعيوب، ومتصف بالكمالات من النعوت «لا يقبل» أي: من الصدقات ونحوها من الأعمال «إلا طيبا» : أي: منزها عن العيوب الشرعية والأغراض الفاسدة في النية، قال القاضي: الطيب ضد الخبيث
…
، وإذا وصف به الأموال أريد به كونه حلالا من خيار الأموال، ومعنى الحديث أنه تعالى منزه عن العيوب، فلا يقبل، ولا ينبغي أن يتقرب إليه إلا بما يناسبه في هذا المعنى، وهو خيار أموالكم الحلال، كما قال تعالى:{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] "
(4)
، أما من عمل صدقة جارية أو أوقف وقفا من مال حرام، فهذا حاله كمن جمع مالا محرما ثم ذهب ليحج، ولهذا قيل فيه:
(1)
أخرجه مسلم (باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها)(2/ 702) رقم (1014).
(2)
أخرجه مسلم (2/ 703) رقم (1015).
(3)
شرح النووي على مسلم (7/ 100).
(4)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1889).
إذا حججت بمال أصله سحت
…
فما حججت ولكن حجت العير
(1)
والحج عبادة وفعل الصدقة الجارية بجميع أنواعها مما ذكرنا أو لم نذكر عبادة لله تعالى؛ فلا يكون في العبادات إلا المال الحلال الطيب، وأما المال الحرام فلا يجوز أخذه فضلا عن التصدق به والإنفاق منه.
ولذلك قال شاعر يهجو رجلا بنى مسجدا من مال غير طيب:
سمعتك تبني مسجدا من خيانة ** وأنت بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كد فرجها ** لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
(2)
ولهذا فلابد على الإنسان أن يتحرى في ما يجعله لله سبحانه وتعالى من المال، بأن يكون من الحلال الطيب؛ لكي يقبله الله تعالى عنده، ويعطي عليه الأجر والثواب.
(1)
لطائف المعارف لابن رجب (ص: 66).
(2)
ذكره أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني عن الشاعر ابن عمار الاسدي يهجو رجلا كان يتولا شيئا من الوقف للقاضي بالكوفة، وذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان، وقد جاء بلفظ غير هذا كساعية الرمان لما تصدقت جرت مثلا للخائن المتصدقي وبلفظ كساعيت للخير من كد فرجها .... ، والعلم عند الله.
المطلب الثالث
صور ونماذج من فعل الصحابة رضي الله عنهم للصدقة الجارية
لما عرف الصحابة رضي الله عنهم ما يترتب على الصدقة الجارية، من الأجور العظيمة والفضائل الكثيرة أسرعوا إليها، فضربوا بذلك أروع الأمثلة، وأفضل النماذج والصور في تسابقهم لفعل الصدقات الجاريات، ووقف الممتلكات، من أفضل الأموال والمدخرات، نذكر شيئا من ذلك:
الصورة الأولى:
ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أصاب عمر أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال:«إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها» ، قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه»، وفي لفظ: «غير متأثل مالا
(1)
»
(2)
.
(1)
أصاب عمر أرضا: أي أخذها وصارت إليه بالقسم حين فتحت خيبر. يستأمره: أي يستشيره طالبا في ذلك أمره. أنفس عندي: أجود والنفيس الجيد - غير متأثل: غير جامع، وليها: قام بشأنها. بالمعروف: بحسب ما يحتمل إنتاج الوقف وحسب العرف الشائع. متمول: مدخر للمال. (تعليق البغا، على البخاري (3/ 199).
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (3/ 199) رقم (2737)، مسلم (3/ 1255) رقم (1632).
قال النووي: "هذا الحديث دليل على صحة أصل الوقف وأنه مخالف لشوائب الجاهلية، وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير ويدل عليه أيضا إجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايات، وفيه أن الوقف لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، إنما يتبع فيه شرط الواقف، وفيه صحة شروط الواقف، وفيه فضيلة الوقف، وهي الصدقة الجارية، وفيه فضيلة الإنفاق مما يحب، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه، وفيه مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير"
(1)
انتهى.
قال الصنعاني: "كان أول وقف في الإسلام وقف عمر رضي الله عنه"
(2)
.
قال البسام في شرحه لهذا الحديث: أصاب عمر بن الخطاب رضى الله عنه أرضا بخيبر، قدرها مائة سهم، هي أغلى أمواله عنده، لطيبها وجودتها كانوا- رضى الله عنهم- يتسابقون إلى الباقيات الصالحات، فجاء رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم طمعاً في البر المذكور في قوله تعالى:{لَنْ تَنَالوا البِرً حَتًى تُنْفِقُوا مِمًا تُحِبونَ} يستشيره في صفة الصدقة بها لوجه الله تعالى، لثقته بكمال نصحه، فأشار عليه بأحسن طرق
(1)
شرح النووي على مسلم (11/ 86).
(2)
سبل السلام للصنعاني (2/ 127).
الصدقات، وذلك بأن يحبس أصلها ويقفه فلا يتصرف به ببيع، أو إهداء، أو إرث أو غير ذلك من أنواع التصرفات، التي من شأنها أن تنقل الملك، أو تكون سببا في نقله، ويتصدق بها في الفقراء والمساكين، وفى الأقارب والأرحام، وأن يَفُكً منها الرقاب بالعتق من الرق، أو بتسليم الديات عن المستوجبين، وأن يساعد بها المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمته ونصر دينه، وأن يطعم المسافر الذي انقطعت به نفقته في غير بلده، ويطعم منها الضيف أيضا، فإكرام الضيف من الإيمان بالله تعالى، بما أنها في حاجة إلى من يقوم عليها ويتعاهدها بالري والإصلاح، فقد رفع الحرج والإثم عمن وليها أن يأكل منها بالمعروف، فيأكل ما يحتاجه، ويطعم منها صديقا غير متخذ منها مالا زائدا عن حاجته، فهي لم تجعل إلا للإنفاق في طرق الخير والإحسان، لا للتمول والثراء، يؤخذ من الحديث أن الشروط في الوقف لابد أن تكون صحيحة على مقتضى الشرع؛ فلا تكون مما يخالف مقتضى الوقف من البر والإحسان، ومن العدل والبعد عن الجور والجنف والظلم"
(1)
انتهى.
(1)
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص: 535، 536).
الصورة الثانية:
ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالوا البِرً حَتًى تُنْفِقُوا مِمًا تُحِبونَ} [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول:{لَنْ تَنَالوا البِرً حَتًى تُنْفِقُوا مِمًا تُحِبونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، وقيل «مال رايح»
(1)
بدل (رابح)
(2)
.
فانظر يا رحمك الله الى هذا الفعل العظيم من أبي طلحة وهو أن جعل أحب أمواله إليه صدقة لله تعالى، ثم ذهب يقسم ذلك المال النفيس بنفسه بين أقاربه وبني
(1)
(بيرحاء): اسم بستان. (طيب) عذب. (البر) اسم جامع لكل خير. (مما تحبون) من أموالكم التي ترغبون بها طيبة بذلك نفوسكم. (أرجو برها وذخرها) أطمع وآمل من الله تعالى أن يدخر لي أجرها وثوابها لأجده يوم القيامة. (بخ) كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء. (مال رابح) ذو ربح كثير يجنيه صاحبه في الآخرة. (رايح) من الرواح وهو الرجوع أي يرجع نفعه إلى صاحبه. [تعليق مصطفى البغا] على البخاري (2/ 119).
(2)
متفق عليه: البخاري (2/ 119) رقم (1461)، مسلم (2/ 693) رقم (998).
عمه، بعد ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ ومن تأمل هذا الفعل يجده ثقيل على النفس من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الصدقة بأحب أمواله إليه، فقد يتصدق المتصدق منا لكن ليس من أغلا وأحب ما عنده من المال، وإن تصدق بذلك فقد ربما لا يتحمل أو لا يطيق أن يرى ذلك المال ينفق بين يديه ويعطى يمين وشمال للأخرين؛ لأنه لو نظر الى ذلك فقد ربما يمسك عن البذل والعطاء وهذا الوجه الثاني.
الوجه الثالث: أن أبا طلحة جعله في أقاربه وبني عمه، وهذا قد ربما يصعب على كثير من الناس أن يجعل تلك الاموال في أقاربه وبني عمومته لما قد يحصل بينهم من مشاحنات واختلافات، ولذلك يذهب ليتصدق على أناس أخرين و إن كانوا أحسن حال من أقاربه وبني عمه، ولسان حاله يقول هؤلاء لا يستحقون صدقة، ولكن انظر إلى فعل أبي طلحة فقد ذهب بنفسه وقسم ذلك المال ونفسه راضية بما أشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتردد أو يراجع النبي صلى الله عليه وسلم بل قال أفعل يا رسول الله، ولسان حاله كما أخبر:" أرجو برها وذخرها عند الله " فهذا أبو طلحة الأنصاري وهذا سباقه الى الخير، وكذلك عمر ابن الخطاب كما مر معنا في الصورة الأولى تصدق بأنفس ماله وأفضله ولذلك قال رضي الله عنه: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال:«إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها» ، قال: فتصدق بها عمر، فانظر الى هذه المواقف العظيمة كيف يبحثون من ذات انفسهم ودون طلب من النبي صلى الله عليه وسلم لهم، بل هم من
سارع إليه ليجعلوا تلك الأموال الغالية والنفيسة صدقة جارية لله تعالى، يريدون بها تجارة رابحة مع الله تبارك تعالى، فمن لنا برجال في هذا الزمان مثل هؤلاء فلله درهم ما أحرصهم وأسرعهم إلى فعل الخير والبذل فيه.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
(1)
الصورة الثالثة:
ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا، فأغناه الله ورسوله، وأما خالد: فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس
(2)
أدراعه و أعتاده
(3)
في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب، فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها»
(4)
.
فاحتباس خالد رضي الله عنه أدارعه في سبيل الله وهي سلاحه، والسلاح من أحب ما يكون الى النفس خاصة لمن يحب الجهاد في سبيل الله تعالى، و معروف عن خالد بن الوليد جهاده في سبيل الله تعالى فكيف سيكون حبه لذلك السلاح؛
(1)
الفرزدق.
(2)
قد احتبس: يقال حبسه واحتبسه إذا وقفه ويقال للوقف حبيس. [محمد عبد الباقي].
(3)
قال أهل اللغة الأعتاد آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها. شرح النووي على مسلم (7/ 56).
(4)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2/ 122) رقم (1468)، مسلم (2/ 676) رقم (983)
لاشك أن حبه ليس بالقليل؛ لأن السلاح الجيد سبب من أسباب النصر على العدو لمن أخذه بحقه، أضف الى ذلك ما للسلاح من أهمية ومكانة عند الناس، ومع هذا كله فقد جعله رضي الله عنه وقفا في سبيل الله تعالى، ولم يذهب ليبيعه وينتفع بثمنه، أو يبقيه ليورثه، بل جعله صدقة جارية له.
الصورة الرابعة:
عن أنس رضي الله عنه، أن رجلا قال: يا رسول الله: إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أعطها إياه بنخلة في الجنة» فأبى
(1)
، فأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي، ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم من عذق
(2)
رداح
(3)
لأبي الدحداح
(1)
قوله: "فأبى" قال السندي: قيل: كان قوله صلى الله عليه وسلم ذاك شفاعة لا أمرا، وإلا عصى بخلافه.
(2)
عذق: قيل: بالكسر الغصن، وبالفتح النخلة أو الحائط، والظاهر أن المراد ها هنا النخلة أو الحائط، لقوله تعالى:(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)[الأنعام: 160]، وقوله: والله يضاعف لمن يشاء [البقرة: 261]، واقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الواحدة لبيان أنها تكفي في الرغبة في الخير، والله تعالى أعلم، وقال القاضي عياض في "المشارق" 2/ 71: قيل: إنما يقال للنخلة: عذق، إذا كانت بحملها، وللعرجون: عذق، إذا كان تاما بشماريخه وتمره. قلنا: والشماريخ: جمع شمراخ، وهو ما يكون عليه الرطب. (حاشية مسند أحمد طبعة الرسالة (19/ 465).
(3)
رداح: قال السندي: بفتح راء، وخفة مهملة، أي: الثقيل لكثرة ما فيه من الثمار. (حاشية مسند أحمد طبعة الرسالة (19/ 465).
في الجنة» قالها مرارا، قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فإني قد بعته بنخلة في الجنة فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها»
(1)
، قال ابن الجوزي:" كان له فيه ستمائة نخلة "
(2)
.
من تأمل هذا الحديث سيجد نفسه مقصرا أو ممسكا مهما بلغ من الإنفاق في وجوه الخير مقابل فعل أبي الدحداح، فقد بذل بستانا كاملا فيه ستمائة نخلة، انظر إلى هذا العدد الكبير مقابل نخلة واحدة، لكنها في الجنة التي نعيمها لا يفنى ولا يبيد، وموضع السوط فيها خير من الدنيا وما فيها، عرف قدر الباقية فشتراها بالفانية، فربح البيع، وتدلت له ثمار الجنة، فأنعِم بها من تجارة مع الله لن تبور.
الْمَالُ مَا كَانَ قُدَّامِي لآخِرَتِي
…
مَا لا أُقَدِّمُ مِنْ مَالِي فَلَيْسَ لِيَهْ
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد (19/ 464) رقم (12482) وقال محقق المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم، قال الألباني: حديث (صحيح) سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 1131) رقم (2964) وأخرجه ابن حبان (7159)، والطبراني 22/ (763)، والحاكم 2/ 20، وعنه البيهقي في "الشعب"(3451) من طريق أبي نصر عبد الملك بن عبد العزيز التمار، عن حماد بن سلمة، به.
(2)
كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 462).
(3)
التبصرة لابن الجوزي (1/ 90).
الصورة الخامسة:
وأما الصورة الخامسة من مسارعة الصحابة رضي الله عنهم، وتسابقهم في فعل الصدقة الجارية ما جاء عن ثمامة بن حَزْنٍ القشيري، قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان رضي الله عنه، فقال: أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال:«من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» ، فاشتريتها من صلب مالي فجعلت دلوي فيها مع دلاء المسلمين
…
، قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من صلب مالي؟، قال: قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة» ، فاشتريتها من صلب مالي فزدتها في المسجد
…
،» الحديث
(1)
.
فانظر أخي الكريم الى هذه المسارعة والمسابقة من عثمان رضي الله عنه في فعل الأعمال الصالحات والصدقات الجاريات، فما تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر مما يحتاج فيه إلى مال، إلا كان عثمان رضي الله عنه سباقا إلى فعل ذلك الأمر، ببذل ماله في وجوه الخير صدقة جارية يرجو أجرها وثوابها عند الله في الجنة، وكأن لسان حاله يقول كما قال الشاعر:
(1)
سنن الدارقطني (5/ 348) رقم (4437).
إذا القوم قالوا من فتى؟ خلت أنّني *** عُنيت، فلم أكسل ولم أتبلّد
(1)
فإذا كان هذا هو فعل الصحابة الذين لهم ما لهم من المكانة والفضل عند الله ورسوله من بذلهم الصدقة الجارية والوقف لله تعالى، فما أحوجنا نحن الذين علينا من الذنوب ما علينا، فنحن أولى بالمسارعة والمسابقة في مثل فعلهم، بل وأكثر منه؛ لكثرة ما قد عَلِق بنا من ذنوب وتقصير، فأين المشمرون الى مثل هذه الأعمال الجليلة والفضائل الكبيرة، فالله المستعان، وقد احسن من قال:
يَا نفس مَا لي وللأموال أتركها
…
خَلْفي وَأخرج من دنياي عُريَانا
(2)
وقال أخر:
أَمْوَالنَا لِذَوي الْمِيرَاث نجمعها
…
ودورنا لخراب الدَّهْر نبنيها
تِلْكَ الْمنَازل فِي الْآفَات خاوية
…
أضحت خرابا وذاق الْمَوْت بانيها
(3)
هذه بعض من أحوال الصحابة رضي الله عنهم في تسابقهم في فعل الخير والأعمال الصالحات، أحببت أن أذكرها لنقتدي بهم، ونسير على ما ساروا عليه، من المسارعة والمسابقة في فعل الصدقات الجاريات، والأعمال الصالحات التي ينتفع بها العبد في حياته وبعد الممات.
(1)
ديوان طرفة/ المعلقة.
(2)
بستان الواعظين ورياض السامعين (ص: 181).
(3)
بستان الواعظين ورياض السامعين (ص: 181).
ملاحظة:
قبل أن نختم الكلام عن الصدقة الجارية لابد أن يعلم القارئ الكريم أن الإنسان ينتفع بعد موته بالصدقة عموماً، سواء كانت الصدقة جارية، أو منقطعة (أي ليست من الصدقة الجارية)، وسواء كانت من الأنسان نفسه قدمها في حياته، أو تصدق عنه أحد من الناس سواء كان من أقارب الميت أو أرحامه أو أصدقائه أو غيرهم، فإن أجرها و ثوابها يصل إليه، ولو لم تكن من الميت نفسه أو وصية منه؛ بدليل ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال:«نعم»
(1)
.
قال ابن عثيمين عند حديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله
…
،»، قال:"وهذا الحديث يراد به ما يتصدق به الميت في حياته، أو يوصي به بعد موته، لكن لا يمنع أن يكون من غيره أيضا "
(2)
، وقال أيضا: "وأما قول بعض الذين ينتسبون للعلم
…
،:"إن الصدقة لا تصح للموتى إلا أن تكون صدقة جارية"، فهذا غير صحيح، فإن الصدقة للموتى تصح، ويصل إليهم ثوابها إذا كانت خالصة لله تعالى، ومن مال طيب، سواء كانت جارية، أم منقطعة، ففي حديث عائشة دليل على جواز الصدقة عن الميت مطلقا، وأن له بذلك أجراً سواء كانت الصدقة
(1)
متفق عليه: رواه البخاري (2/ 102) رقم (1388)، مسلم رقم (1004)
(2)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (25/ 125).
الجارية، أم منقطعة"
(1)
اهـ، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة بعد ذكر حديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية
…
،» ما لفظه: "فهذا الحديث يدل بعمومه على أن ثواب الصدقة يصل إلى الميت، ولم يفصّل النبي صلى الله عليه وسلم بين ما إذا كانت بوصية منه أو بدون وصية، فيكون الحديث عاما في الحالتين
…
، فلا فرق أن تكون من قريب أو بعيد عن الميت"
(2)
، ولا شك أن للمتصدق الحي، أجر وثواب عند الله تعالى بسبب صدقته على الميت، وإن كان يريد أن يكون أجر تلك الصدقة للميت، فمن مات له قريب أو صاحب عزيز فأراد منفعته فليتصدق له، وبفعله هذا يحصل على أمرين الأول: هو نفع المتصدق عنه بثواب تلك الصدقة.
الثاني: حصول الأجر للمتصدق بسبب فعله هذا، ولذلك قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وقوله صلى الله عليه وسلم «وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»
(3)
، فهذا قد أحسن ورحم الميت فكان الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال الشافعي:"وواسع فضله تعالى أن يثيب المتصدق أيضا، ومن ثم قال الأصحاب: يسن له أن ينوي الصدقة عن أبويه مثلا فإنه تعالى يثيبهما ولا ينقص أجره"
(4)
.
(1)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (25/ 29).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (9/ 25).
(3)
متفق عليه: البخاري عن أسامة بن زيد (2/ 79) رقم (1284)، مسلم (2/ 635) رقم (923).
(4)
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (6/ 92).
المطلب الرابع
بعض أحكام الوقف (الصدقة الجارية)
إذا كانت الصدقة الجارية هي الوقف وشبهه مما يدوم نفعه، فسوف نذكر شيئا من أحكام الوقف؛ لكي يكون الواقف على علم ومعرفة فيما يتعلق بأحكام تلك الصدقة أو ذلك الوقف، والذي سنذكر هو بعض من هذه الأحكام وليس كلها، وإن كانت هذه الاحكام تحتاج إلى شرح و تفصيل؛ لكن من باب الإشارة، وإلا ليس هذا مجال ذكرها ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتب الفقه المفصلة لذلك، وما يجدر الإشارة إليه هنا هو ذكر أهم احكام الوقف وهي شروطه، ولهذا ففي موسوعة الفقه الإسلامي ما لفظه:
يشترط لصحة الوقف ما يلي:
1 -
أن يكون الواقف أهلاً للتبرع [أي مسلما، حُراً، عاقلا، بالغا، رشيدا]، مالكاً لما سيقفه.
2 -
أن يكون الموقوف مالاً متقوَّماً [أي ما يكون له قيمة]، معلوماً، مملوكاً للواقف.
3 -
أن يكون الوقف عيناً معلومة يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها.
4 -
أن يكون الوقف على بر كالمساجد، والقناطر، والأقارب، والفقراء.
5 -
أن يكون الوقف على معين من جهة كمسجد كذا، أو صنف كالفقراء، أو شخص كزيد مثلا.
6 -
أن يكون الوقف مؤبداً غير مؤقت، منجّزاً غير معلق، إلا إذا علقه بموته فيصح ويكون وصية.
[وزاد بعضهم أن لا يشترط الواقف فيه شرط ما ينافي صحة الوقف].
وقد ذكر أهل العلم الفرق بين الوقف والوصية وهي ما يلي:
1 -
أن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، بينما الوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريقة التبرع سواء كان في الأعيان أو في المنافع.
2 -
أن الوقف يلزم ولا يجوز الرجوع فيه في قول عامة أهل العلم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدَّقَ» .
أما الوصية فإنها تلزم ويجوز للوصي أن يرجع في جميع ما أوصى به أو بعضه.
3 -
الوقف يخرج العين الموقوفة عن التمليك لأحد وتخصيص المنفعة للموقوف عليه، بينما الوصية تتناول العين الموصى بها أو منفعتها للموصى له.
4 -
تمليك منفعة الوقف يظهر حكمها أثناء حياة الواقف وبعد مماته، والتمليك في الوصية لا يظهر حكمه إلا بعد موت الموصي.
5 -
الوقف لا حد لأكثره بينما الوصية لا تتجاوز الثلث إلا بإجازة الورثة.
6 -
الوقف يجوز لوارث والوصية لا تجوز لوارث إلا بإجازة الورثة
(1)
.
(1)
رسالة في الفقه الميسر (ص: 115).
وينعقد الوقف ويصح بأحد أمرين:
1 -
القول: كأن يقول: وقّفت، أو حبّست، أو سبّلت ونحو ذلك، [كالكتابة ونحوها].
2 -
الفعل: كأن يبني مسجداً ويأذن للناس بالصلاة فيه، أو يسوِّر مقبرة ويأذن للناس بالدفن فيها، أو يقيم مدرسة ويأذن للناس بالدراسة فيها، أو يحفر بئراً ويأذن للناس بالشرب منها.
وأنواع الوقف ما يأتي:
الوقف إما أن يكون على شخص كزيد مثلاً .. أو يكون على جهة خيرية كمسجد أو مدرسة أو مستشفى أو بئر ماء ونحو ذلك
…
، أو يكون على صنف معين كالفقراء، أو المعلمين، أو طلبة العلم ونحو ذلك.
ما يصح وقفه:
يجوز وقف كل ما جاز بيعه وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه من عقار، ومنقول، فالعقار كالأرض، والدار، والدكان، والبستان ونحو ذلك.
والمنقول كالحيوان، والسيارة، والسلاح، والدروع، والآلات، والكتب، والحلي، والأثاث ونحو ذلك.
مقدار الوقف:
ليس للوقف مقدار محدد، لكن الوقف يختلف باختلاف أحوال الناس في الغنى والسعة، فمن كان غنياً لا وارث له، فله أن يوقف جميع ماله، ومن كان غنياً وله
ورثة فله أن يوقف بعض المال، ويترك الباقي للورثة.
مدة الوقف:
الوقف مطلق مؤبد لله عز وجل، فمن أوقف أرضاً أو داراً أو مزرعة لله عز وجل فقد خرجت عن ملكه وتصرفه إلى ملك الله عز وجل، فلا تباع، ولا توهب، ولا تورث، ولا تسترد، وليس للورثة أن يبيعوها؛ لأنها خرجت عن ملكية المورِّث.
ثبوت الوقف:
إذا نطق الإنسان بصيغة الوقف، أو فعل الواقف ما يدل على الوقف، فقد لزم الوقف، ولا يحتاج ثبوت الوقف إلى قبول الموقوف عليه، ولا يحتاج كذلك إلى إذن الحاكم، وإذا ثبت الوقف فإنه لا يجوز التصرف فيه بما يزيل وقْفِيَّته.
اختيار الوقف:
الله تبارك وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، فإذا أراد المسلم أن يوقف شيئاً طلباً لمرضاة الله عز وجل، فيحسن به أن يختار أحسن أمواله، وأنفسها عنده، وأحبها إليه، وذلك من تمام البر والإحسان، [وقد كان الصحابة الكرام يجعلون الصدقة من أنفس أموالهم وأحبها إليهم لكي ينالوا بها عظيم الأجر والثواب عند الله تعالى].
أفضل الأوقاف:
أفضل الأوقاف وأحبها إلى الله عز وجل هو كل ما عمّ نفعه لعموم الناس في كل زمان ومكان، كوقف الماء، وبناء المساجد، ودور العلم، وعلى المجاهدين في سبيل
الله، وطلبة العلم، والأقارب، والفقراء، والبساتين التي يطعم منها الفقراء والمساكين، وأفضل الأوقاف ما فيه إحياء النفوس والقلوب، وذلك يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأموال، والأحوال، والأشخاص.
فإذا كان الإنسان في بلد يموت فيه الناس من الجوع والعطش فالأفضل الوقف على إنقاذ الأنفس من الموت والجوع والعطش، والصدقة على القريب الفقير أفضل؛ لأنها صدقة وصلة، وإذا كان الإنسان في بلد فيه الأرزاق متيسرة، والناس محتاجون إلى العلم، فبناء المساجد ودور العلم أفضل وأعظم ثواباً
…
وهكذا
(1)
.
فهذه نبذة مختصرة لبعض أحكام الوقف وإن كانت الشروط عند بعض أهل العلم تزيد أو تنقص، وما ذكرناه فيه الخير والنفع إن شاء الله تعالى، وبهذا نختم حديثنا عن الصدقة الجارية، والله أعلم.
(1)
موسوعة الفقه الإسلامي (3/ 686 _ 689).
المبحث الثاني
العلم المُنتفع به
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الأدلة على تعليم العلم المنتفع به ونشره
المطلب الثاني: الأحاديث المتضمنة العلم المنتفع به
المطلب الأول
الأدلة الدالة على تعليم العلم المنتفع به عموما ونشره
نذكر في المطلب الأدلة التي تدل على أن تعليم العلم المنتفع به، ونشره، من الأعمال الصالحات التي يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، مع ذكر شيء من التوضيح عليها
الدليل الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ:
…
، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِه»
(1)
.
الدليل الثاني:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله سلم -: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ
…
»
(2)
.
الدليل الثالث:
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «سَبْعٌ
(1)
سبق تخريجه
(2)
سبق تخريجه.
يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا،
…
»
(1)
.
التوضيح:
دلت هذه الأحاديث على أن العلم المنتفع به من الأعمال الصالحات التي يبقى ويجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، فمن علَّم علما، ونشره بين الناس فانتفع الناس بذلك العلم، جرى لصاحبه الأجر والثواب وهو في قبره؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به
…
»، فالعلم الذي يُنتفع به هو: ما علمه الإنسان الناس في حياته من تعليم، أو تصنيف أو غير ذلك، ونشره بينهم فانتفع الناس بذلك العلم بعد موته، فإن الأجر جار لصاحبه ما استمر انتفاع الناس به، ولذلك قال عبد الرحمن آل سعدي: " العلم الذي ينتفع به من بعده: كالعلم الذي علمه الطلبة المستعدين للعلم، والعلم الذي نشره بين الناس، والكتب التي صنفها في أصناف العلوم النافعة، وهكذا كل ما تسلسل الانتفاع بتعليمه مباشرة، أو كتابة، فإن أجره جار عليه
(2)
، قال السبكي:"والتصنيف أقوى لطول بقائه على ممر الزمان"
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الرشد، لعبد الرحمن آل سعدي (ص: 113)
(3)
فيض القدير للمناوي (1/ 438)
فضل العلم الشرعي ومكانته:
لا يخفى على أحد فضل العلم، وشرفه ومكانته، وماله من أهمية في ديننا الإسلامي الحنيف، ولذلك ورد في فضله كثير من الآيات، والأحاديث التي تدل على ذلك، نشير الى بعض منها:
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، وقال أيضا:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، وقال:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وقال:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ} [محمد: 19]، وغير ذلك من الآيات التي تدل على فضل العلم ومكانته الرفيعة.
أما الأحاديث: فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما
ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»
(1)
، وعن معاوية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»
(2)
، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع»
(3)
، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»
(4)
، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع»
(5)
، وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على فضل العلم ومكانته وفضل من تعلمه وعلمه وبلغه الناس.
(1)
أخرجه ابن ماجه عن أبي الدرداء (1/ 150) رقم (223) قال الألباني: حديث (حسن) مشكاة المصابيح (1/ 74) رقم (212) ..
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 25) رقم (71)، مسلم (2/ 719) رقم (1037).
(3)
أخرجه الحاكم (1/ 171) رقم (317) قال الألباني: حديث (صحيح لغيره) صحيح الترغيب والترهيب (1/ 16) رقم (68).
(4)
متفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 31) رقم (100) أخرجه مسلم رقم (2673).
(5)
أخرجه الترمذي (5/ 34) رقم (2657) وقال: هذا حديث حسن صحيح، قال الألباني: حديث (صحيح). مشكاة المصابيح (1/ 78) رقم (230).
قال الإمام أحمد: "الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه"
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ينتفع به» :
قال الهروي: "قال ابن الملك: قيد العلم بالمنتفع به؛ لأن غيره لا يؤتى به أجرا"، ثم قال الهروي:"والمراد بالمنتفع به: هو العلم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم "
(2)
، المحتوية لعلم التفسير والحديث والفقه والأصول وغيرها من العلوم الداخلة في علم الكتاب والسنة.
قال ابن الأمير الصنعاني العلم المنتفع به: "المراد النفع الأخروي، فيخرج ما لا نفع فيه، كعلم النجوم من حيث أحكام السعادة وضدها، يدخل فيه من ألف علما نافعا أو نشره فبقي من يرويه عنه وينتفع به، أو كتب علما نافعا ولو بالأجرة مع النية أو وقف كتبا"
(3)
، وسئل ابن عثيمين: هل يدخل في ذلك العلم علوم الدنيا من الفيزياء والكيمياء أم هو مقيد بالشرعي؟
فأجاب بقوله: "كل علم يُثاب عليه العبد ثم يُعلمه الآخرين فإن المتعلمين منه يثابون عليه، وإذا أثيبوا عليه ناله من الأجر بعد موته ما يستحق، وأما ما لا ثواب
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 440).
(2)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح الملا الهروي القاري (1/ 285).
(3)
سبل السلام الصنعاني (2/ 127).
في تعلمه فليس فيه أصلا ثواب حتى نقول: إنه يستمر، فمثلاً علم التفسير والتوحيد والفقه وأصوله والعربية، كل هذه علوم يثاب الإنسان عليها فإن علمها أحدا من الناس أثيب هذا المتعلم فنال المعلم من ثوابه ما يستحقه"
(1)
.
وقال أيضا في جوابه على سؤال لفظه: ما المقصود بالعلم الذي يؤجر عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: أو علم ينتفع به» ، هل المراد به العلم الشرعي أم العلم الدنيوي؟.
فأجاب بقوله: " الظاهر أن الحديث عام، كل علم ينتفع به فإنه يحصل له الأجر، لكن على رأسها وقمتها العلم الشرعي، فلو فرضنا أن الإنسان توفي وقد علم بعض الناس صنعة من الصنائع المباحة، وانتفع بها هذا الذي تعلمها فإنه ينال الأجر، ويؤجر على هذا"
(2)
، انتهى، وفي سؤال قُدم للجنة الدائمة يقول فيه: هل طباعة الكتب الشرعية الصحيحة التي ينتفع بها الناس يدخل في العلم الذي ينتفع به الإنسان بعد موته كما جاء في الحديث؟.
فكان الجواب: " إن طباعة الكتب المفيدة التي ينتفع بها الناس في أمور دينهم ودنياهم هي من الأعمال الصالحة التي يثاب الإنسان عليها في حياته ويبقى أجرها ويجري نفعها له بعد مماته، ويدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو
(1)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (26/ 41).
(2)
لقاء الباب المفتوح (117/ 16، بترقيم الشاملة آليا).
له» وكل من ساهم في إخراج هذا العلم النافع يحصل على هذا الثواب العظيم، سواء كان مؤلفا له، أو معلما، أو ناشرا له بين الناس، أو مخرجا، أو مساهما في طباعته، كل بحسب جهده ومشاركته في ذلك"
(1)
.
فعلى الإنسان أن يعمل كل ما بوسعه على أن يكون له شيء من علم ينتفع به بعد موته، ولو لم يكن إلا انتفاع أهل بيته وأولاده ومن إليهم من أقاربه وأرحامه مما يحتاجونه من أمور العلم الشرعي لتستقيم عباداتهم مع الله تعالى ومعاملاتهم مع الخلق، ويكون في ذلك مخلصا محتسبا الأجر والثواب من الله تعالى، وهذا أقل أحوال ما يكون عليه العبد؛ وإن كان هو مسؤولا عنهم بين يدي الله تعالى كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وقال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته
…
»
(2)
،
وإنك لتعجب أشد العجب ممن قد بلغ من العلم الدنيوي والجاه والمكانة بين الناس مبلغه؛ ولكن مع هذا كله لا تجده، ولا أهله، ولا أولاده، يحسنون فعل عبادة من العبادات، كالصلاة، والوضوء مثلا، ومع هذا تراه يحاضر في الجامعة، أو في المؤسسة أو في أي مكان من أماكن عمله، من العلوم الدنيوية التي قد ربما لا
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (11/ 16) السؤال الثاني من الفتوى رقم (20062)
(2)
أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر (3/ 120) رقم (2409).
يكون له بها أجر، بل قد ربما بعضهم يأثم، خصوصا إذا كان فيها مدح لليهود والنصارى والثناء عليهم؛ بسبب ما لديهم من العلوم المادية أو الدنيوية، و تحقير للمسلمين والاستهزاء بهم؛ وفي المقابل لم يولي أي اهتمام بالعلم الديني أو الشرعي، لا لشخصه، ولا لغيره ممن هو مسؤول عنهم عند الله تعالى، فتراه إن توضأ لا يحسن و ضوئه وإن صلى لا يحسن صلاته، ومع هذا يظن أنه قد بلغ من العلم مبلغه، وهذا من كثرة الجهل بالعلم الشرعي بين المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المطلب الثاني
الأحاديث المتضمنة العلم المنتفع به
الحديث الأول:
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(1)
، وفي رواية خارج الصحيح بزيادة:«فله أجرها، وأجرمن عمل بها إلى يوم القيامة»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (كتاب الزكاة)(باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة،)(4/ 2059) رقم (1017)، وأخرجه الطيالسي (670)، وابن أبي شيبة (3/ 109 - 110)، والنسائي في "المجتبى"(5/ 75 - 77)، وفي "الكبرى"(2335)، وأبو عوانة- كما في "إتحاف المهرة"(4/ 63) - وأبو القاسم البغوي في "الجعديات"(520)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(243)، وابن حبان (3308)، والطبراني في "الكبير"(2372)، والبيهقي في "السنن"(4/ 175)، وفي "السنن الصغير"(1247)، وفي "الشعب"(3319)، و البغوي في "شرح السنة"(1661)، وأحمد (31/ 509) رقم (19174)
…
، (تخريج المسند طبعة الرسالة).
(2)
المعجم الأوسط للطبراني (8/ 384) رقم (8946)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 56)، كشف الخفاء (2/ 304) رقم (2509).
التوضيح:
قبل البدء في الكلام عن بعض ما جاء من توضيح لهذا الحديث أذكر سبب ذكر هذا الحديث: فعن جرير رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر
(1)
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]«تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره - حتى قال - ولو بشق تمرة» قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت
(2)
، قال: ثم تتابع
(1)
قوم عراة: أي: يغلب عليهم العري حال كونهم. مجتابي: هو بالجيم وبعد الألف باء أي لابسي. النمار: بكسر النون وهي أكسية من صوف مخططة. واحدتها نمرة بفتح النون. العباء: كساء معروف، والنمرة: شملة فيها خطوط بيض وسود، أو بردة من صوف يلبسها الأعراب، عامتهم أي: أكثرهم (من مضر) قبيلة عظيمة. فتمعر: بالتشديد أي: فتغير، وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر عليه آثار الحزن لما رأى بهم، الفاقة: أي: الفقر الشديد،
…
، يعني: لما لم يكن عنده من المال ما يجبر كسرهم ويغني فقرهم ويكسبهم ويعطيهم ما يغنيهم
…
، (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: لعلي الملا القاري الهروي (1/ 292).
(2)
بصُرة: بالضم أي ربطة من الدراهم لا من الدنانير على الظاهر. تعجز عنها: أي عن حمل الصرة لثقلها لكثرة ما فيها. ثم تتابع الناس: أي توالوا في إعطاء الصدقات. كومين: الكوم بالضم العظيم من كل شيء، والكوم بالفتح المكان المرتفع كالرابية. من طعام: الظاهر أنه هنا حبوب، ولعل الاقتصار عليه من غير ذكر النقود لغلبته. يتهلل: أي يستنير فرحاً وسروراً. مذهبة: بضم الميم وسكون الذال المعجمة وفتح الهاء بعده موحدة أي فضة مذهبة أي مموهة بالذهب، ومعناه ظهور البشر في وجهه صلى الله عليه وسلم حتى استنار وأشرق من السرور، والمذهبة أيضاً صحيفة منقشة بالذهب، أو ورقه من القرطاس مطلية بالذهب، يصف حسنه وتلألؤه
…
، (مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 315).
الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل، كأنه مُذهَبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر
…
»، فمن خلال ما سبق تبين لنا سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم، من سن في الإسلام سنة حسنة، فكان سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك هو مجيء ذلك الأنصاري بالصرة التي عجزة كفه عنها، فبعد ما رأوه الصحابة تتابعوا في بذل الصدقة فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة» :
قال الهروي: "أي أتى بطريقة مرضية يُقتدى به فيها"
(1)
، وقال المبارك فوري:"أي أتى بطريقة مرضية يشهد لها أصل من أصول الدين، أو صار باعثاً وسبباً لترويج أمر ثابت في الشرع"
(2)
، أي من أحيا سنة ثابتة في الشرع قد أميتت بعدم فعل الناس لها، فبادر في فعلها فتبعه الناس.
(1)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 294).
(2)
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المباركفوري (1/ 315).
قال صاحب دليل الفالحين عند قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة» "وإن لم يكن حسنها بالنص، بل بالاستنباط بأن دعا لفعلها بقول، أو فعل، أو أعان عليها، أو فعلها فاقتدى به في فعلها"
(1)
.
قال ابن عثيمين: "أي ابتدأ العمل بسنة ثابتة، وليس أنه يأتي هو بسنة جديدة، بل يبتدئ العمل لأنه إذا ابتدأ العمل سن الطريق للناس وتأسوا به وأخذوا بما فعل
(2)
، فمعنى:«من سن في الإسلام سنة حسنة» أي سن الوصول إلى شيء مشروع من قبل، كجمع الصحابة المصاحف على مصحف واحد، فهذا سنة حسنة لاشك، لأن المقصود من ذلك منع التفرق بين المسلمين وتضليل بعضهم بعضاً، وكذلك أيضاً جمع السنة وتبويبها وترتيبها، فهذه سنة حسنة يتوصل بها إلى حفظ السنة"
(3)
. وقال أيضا في موضع أخر: " السُنة في الإسلام ثلاثة أقسام:
سنة سيئة: وهي البدعة، فهي سيئة وإن استحسنها من سنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل بدعة ضلالة» ، وسنة حسنة: وهي على نوعين:
النوع الأول: أن تكون السنة مشروعة ثم يترك العمل بها ثم يجدها من يجددها، مثل قيام رمضان بإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته في أول الأمر الصلاة بإمام في قيام رمضان، ثم تخلف خشية أن تفرض على الأمة، ثم ترك الأمر في آخر حياة
(1)
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/ 446).
(2)
شرح الأربعين النووية للعثيمين (ص: 283).
(3)
شرح الأربعين النووية للعثيمين (ص: 284).
النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه أو في خلافة عمر، رأى عمر رضي الله عنه أن يجمع الناس على إمام واحد ففعل، فهو رضي الله عنه قد سن في الإسلام سنة حسنة؛ لأنه أحيا سنة كانت قد تركت.
والنوع الثاني: من السنن الحسنة أن يكون الإنسان أول من يبادر إليها، مثل حال الرجل الذي بادر بالصدقة حتى تتابع الناس ووافقوه على ما فعل.
فالحاصل أن من سن في الإسلام سنة حسنة، ولا سنة حسنة إلا ما جاء به الشرع فله أجره وأجر من عمل بها من بعد
…
، وفي هذا الحديث الترغيب في فعل السنن التي أميتت وتركت وهجرت، فإنه يكتب لمن أحياها أجرها وأجر من عمل بها، وفيه التحذير من السنن السيئة، وأن من سن سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"
(1)
انتهى.
فمن تأمل في حياة الناس اليوم يجد كثيرا من السنن التي قد أُميتت وتركت وهجرت عند كثير من المسلمين، فعلى الإنسان أن يحرص ويبادر الى سن تلك السنن وإحيائها، والعمل بها، ودعوت الناس إليها؛ ليكن له أجرها وأجر من عمل بها بعده.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده» أي: ثواب العمل بها، يعني أجر عمله بها، وأجر من عمل بسنته الحسنة، فإن السنة سبب ثبوت الأجر فجازت
(1)
شرح رياض الصالحين (2/ 344، 345).
الإضافة
(1)
، وإنه لما تسبب في إيجادها جعل كأنه العامل لها المأجور بها، قال علي القاري:"قال ابن الملك: أي بعد ممات من سنها قيد به لما يتوهم أن ذلك الأجر يكتب له ما دام حيا اهـ. قلت [أي القاري]: وفيه أنه يتوهم حينئذ أن الأجر لا يكتب له وهو حي، فالأحسن أن يقال من بعد ما سنها"
(2)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: «من غير أن ينقص من أجورهم شيء» قال ابن علان: "أي: إن حصول أجر مثل الفاعل لها لدلالته عليها، لا يدخل به شيء من النقص في أجورهم"
(3)
، أي إنه مع ما يحصل من الأجر لفاعل السنة أو المبتدئ بها، فإن ذلك لا ينقص من أجور العاملين بها شيء، فأجورهم كاملة تامة.
تنبيه وتحذير:
لا يجوز ولا يفهم من هذا الحديث جهلا أنه يجوز للإنسان أن يُحدث ويبتدع في الدين ما ليس منه، ولا عليه دليل شرعي، سواء كانت البدع والمحدثات قولية، أو فعلية، فكل ذلك مردود على صاحبه، وهو عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، نعم؛ لأن من سن في الإسلام سنة ليست ثابتة في الشرع، فهي بدعة مردودة على صاحبها وإن ظنها حسنة؛ كونه ابتدع في دين الله ما ليس منه؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من فعل
(1)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 294).
(2)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للهروي القاري (1/ 294).
(3)
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/ 446).
ذلك بقوله: «من أحدث
(1)
في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد»
(2)
، وفي رواية «ما ليس منه فهو رد» ، وبقوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»
(3)
، فكل عمل يُعمل مما يقصد به التعبد لله وليس عليه دليل شرعي فهو بدعة، وعمل مردود على صاحبه، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولذلك قال ابن عثيمين: "وقد أخذ حديث
«[من سن في الإسلام سنة حسنة]» أولئك القوم الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه، فيبتدعون أذكاراً ويبتدعون صلوات ما أنزل الله بها من سلطان، ثم يقولون: هذه سنة حسنة، نقول: لا، كل بدعة ضلالة وكلها سيئة، وليس في البدع من حسن، لكن المراد في الحديث من سابق إليها وأسرع، كما هو ظاهر السبب في الحديث، أو من أحياها بعد أن أميتت فهذا له أجرها وأجر من عمل بها "
(4)
.
(1)
أحدث: اخترع. أمرنا هذا: ديننا هذا وهو الإسلام. ما ليس فيه: أي مما لا يوجد في الكتاب أو السنة ولا يندرج تحت حكم فيهما أو يتعارض مع أحكامها وفي بعض النسخ (ما ليس منه). رد: أي باطل ومردود لا يعتد به، [تعليق مصطفى البغا] في البخاري (3/ 184).
(2)
متفق عليه: البخاري عن عائشة رضي الله عنها (3/ 184) رقم (2697)، مسلم (3/ 1343) رقم (1718).
(3)
أخرجه مسلم (3/ 1343)(1718).
(4)
شرح رياض الصالحين (2/ 344).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها
…
»: أي أتى بطريقة غير مرضية لا يشهد لها أصل من أصول الدين، يعني بدعة شرعية
(1)
، قال صاحب دليل الفالحين:"أي: معصية وإن قلَّت بأن فعلها فاقتدى به فيها أو دعا إليها أو أعان عليها «كان عليه وزرها» أي: إثم عملها، «ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»؛ وذلك لأن فعل المكلفين وإن كان غير موجب ولا متقض لثواب ولا عقاب بذاته إلا أن الله تعالى أجرى عادته الإلهية بربطهما به ارتباط المسبب بالسبب وليس للعبد تأثير في صدور الفعل عنه بوجه، فكما يترتب كل منهما على ما يباشره بترتب على ما هو السبب فيه بنحو إرشاد أو أمر، فلما انفكت جهة المباشرة عن جهة جزاء الدلالة لم ينقص أجر الدالّ من أجر المباشر شيئاً"
(2)
.
قال ابن عثيمين: "أن من سن سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، حتى لو كانت في أول الأمر سهلة ثم توسعت، فإن عليه وزر هذا التوسع، مثل لو أن أحداً من الناس رخص لأحد في شيء من المباح الذي يكون ذريعة واضحة إلى المحرم وقريباً، فإنه إذا توسع الأمر بسبب ما أفتى به الناس فإن عليه الوزر ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، نعم لو كان الشيء مباحاً ولا يخشى منه أن يكون ذريعة إلى محرم، فلا بأس للإنسان أن يبينه للناس، كما لو كان الناس
(1)
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 316).
(2)
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/ 446).
يظنون أن هذا الشيء محرم وليس بمحرم، ثم يبينه للناس من أجل أن يتبين الحق، ولكن لا يخشى عاقبته، فهذا لا باس به، أما شيء تخشى عاقبته، فإنه يكون عليه وزره ووزر من عمل به، والله أعلم"
(1)
.
قال المبارك فوري: "وفي الحديث الحث على البداءة بالخير ليستن به، والتحذير من البداءة بالشر خوف أن يستن به، ووجه المناسبة بالعلم أن استنان السنن المرضية من باب العلم المنتفع به"
(2)
.
(1)
شرح رياض الصالحين (2/ 345).
(2)
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 315).
الحديث الثاني:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»
(1)
.
التوضيح:
قال النووي: "إن حديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة» ، وحديث: «من دعا إلى هدى
…
»، صريحان في الحث على استحباب سن الأمور الحسنة، وتحريم سن الأمور السيئة، وأن من سن سنة حسنة كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه، أم كان مسبوقا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم، أو عبادة، أو أدب، أو غير ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم:«فعمل بها بعده» معناه إن سنها سواء كان العمل في حياته أو بعد موته"
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (كتاب العلم)(باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى)(4/ 2060) رقم (2674).
(2)
شرح النووي على مسلم (16/ 226، 227).
قوله صلى الله عليه وسلم: «من دعا» أي: من بيَّن، أو أرشد، أو دلّ، غيره إلى فعل خير وهدى، وترك شر وضلال، سواء كان دعا بالقول أو بالفعل أو بالكتابة أو بغير ذلك مما يكون سببا في عمل غيره لذلك الهدى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إلى هدى» أي: إلى ما يُهتدى به من العمل الصالح، والعلم النافع، و كل ما يحبه الله و يرضاه ويثاب عليه، من الأعمال والأقوال الصالحة، ولهذا جاءت كلمة «هدى» في الحديث مطلقة شائعة في جنس ما يقال له هدى، فيطلق على القليل والكثير والصغير والكبير، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين؛ حيث جعل باب الدعوة بابا واسعا يشمل عدة مجالات متنوعة في الدعوة الى الله تعالى، فهذا يدعو الى توحيد الله تعالى، وهذا أعظم هدى يُدعا إليه، وهذا يدعو الى تعلم العلم الشرعي، وهذا يدعو الى المحافظة على أركان الاسلام من صلاة وصيام، وهكذا فكل ما جاء به الإسلام من الأعمال الصالحة، والعبادات المتنوعة، والأخلاق الفاضلة، والمقاصد الحسنة، كله من الهدى.
قال الطيبي: "فأعظمه هُدى: من دعا إلى الله عز وجل وعمل صالحا، وأدناه هدى من دعا إلى إماطة الأذى، ولهذا عَظُم شأن الفقيه الداعي المنذر حتى فُضل واحد منهم على ألف عابد؛ ولأن نفعه يعم الأشخاص و الأعصار إلى يوم الدين"
(1)
.
فأعظم هُدى يُدعى الناس إليه هو توحيد الله تعالى، والإخلاص له في سائر العبادات والطاعات، ومعرفته سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، ومعرفة الحلال
(1)
فيض القدير للمناوي (6/ 125).
والحرام، ومعرفة السُنة من البدعة، ثم ما لا يستغني عنه المسلم في سائر العبادات، كمعرفة شروط وأحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر العبادات التي لا غنى له من معرفة أحكامها، لكي تكون مقبولة عند الله جل وعلا، ومعرفة كل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ثم الأهم فالأهم، وكل على حسبه، وما يحتاجه الناس من الدعوة إليه وبيانه، وقد تيسر في هذا الزمان أمر الدعوة للخلق، وتبليغهم الهدى والرشاد عبر كثير من الوسائل التي أصبحت منتشرة بين أوساط الناس، مثل ظهور التكنلوجيا الحديثة وما فيها من وسائل متعددة تزيل كثيرا من التعب والجهد في إيصال الخير والهدى للناس، ولا شك أن الحريص على دعوة الناس إلى الهدى والخير سوف يعمل على استغلال تلك الوسائل الحديثة غاية الاستغلال، بل ويعمل كل ما في وسعه في الدعوة إلى الله تعالى بكافة الطرق والوسائل المتاحة المشروعة؛ طمعا لما عند الله من استمرار الأجر والثواب على ذلك الهدى، والعلم المنتفع به، في حياته وبعد الممات.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «كان له من الأجر» أي: كان للداعي الى الهدى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل أجور من تبعه» أي: مثل أجور جميع من تبعه من الناس سواء كانوا ذكورا أم إناثا صغارا أم كبارا، وسبب حصوله لتلك الأجور؛ لأنه تسبب في ذلك الهدى كونه سبقهم إليه، فعمل به، ودعاهم إليه فتبعوه وعملوا بذلك
الهدى، ولذلك قال المناوي:"فهبه ابتدعه أو سبق إليه؛ لأن اتباعهم له تولد عن فعله الذي هو من سنن المرسلين"
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا» أي: لا ينقص من أجور الناس الذين تبعوا ذلك الداع الى الهدى والخير شيئا، فليطمئنوا على أجور أعمالهم فإن فضل الله واسع، وكلا سيأخذ أجره كاملا دون نقصان، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَايَلِتْكُمْ
(2)
مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112].
فيستفاد من الحديث أن على الإنسان أن يبادر إلى الهدى؛ ليكون أسبق الناس في فعله، ثم بعد ذلك يسارع إلى دعوة الناس إليه، مع حرصه ليفعلهم لذلك الهدى؛ فيكون الناس له تبع، فيحصل له من الأجر مثل أجورهم ما عملوا ذلك الهدى والخير الذي دعاهم إليه، والدعوة الى الهدى من الأعمال الصالحة التي يبقى و يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، فعلى الإنسان أن يحرص كل الحرص على دعوة الناس وهدايتهم إلى الخير؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي ابن ابي طالب
(1)
فيض القدير (6/ 125).
(2)
يَلِتْكُمْ: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا. (التفسير الميسر (1/ 517).
رضي الله عنه: «فو الله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم
(1)
»
(2)
، فما أحوج الواحد منا الى ذلك الأجر والثواب من الله العزيز والوهاب.
فضل الدعوة الى الله تعالى:
إن دعوة الناس الى الله تعالى من أفضل الأعمال، وأحسنها الى الله تعالى، وعليها الأجور العظيمة، ولها فضائل جليلة، ومناقب رفيعة، ومكانة سامية، فهي وظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فمن قام بها ورث الأنبياء، واتصف بصفاتهم و سلك مسلكهم وسار على نهجهم؛ ولذلك ورد في فضل الدعوة الى الله تعالى كثير من الآيات والأحاديث تبين فضلها، وأنها عمل الأنبياء والرسل وعباد الله الصالحين، نذكر بعضا منها:
قال تعالى مخبرا عن نبيه نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5]، فانظر الى هذه الهمة العالية التي اتصف بها نبي الله نوح عليه السلام في دعوة الى الله تعالى وهو يدعو قومه، فقد ضرب أروع الأمثلة، وأعظم الصور في الدعوة الى الله، فإنه لم يكتف بدعوة قومه في النهار فقط، بل كان يدعوهم بالليل والنهار، سر وعلانية، ومع هذا لم يصبه اليأس أو الملل، بل استمر
(1)
حمر النعم: هي الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب. (دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: لابن علان البكري (2/ 452).
(2)
أخرجه البخاري (4/ 47) رقم (2942).
في دعوته على تلك الحال ألف سنة إلا خمسين عاما، وقال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، وقال سبحانه:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
قال ابن القيم: "ذكر سبحانه مراتب الدّعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعوّ: فإنّه إمّا أن يكون طالبا للحقّ محبّا له مؤثرا له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال؛ وإمّا أن يكون مشتغلا بضدّ الحقّ، ولكن لو عرفه آثره واتّبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالتّرغيب والتّرهيب؛ وإمّا أن يكون معاندا معارضا فهذا يجادل بالّتي هي أحسن، فإن رجع وإلّا انتقل معه إلى الجدال إن أمكن"
(1)
، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، قال ابن كثير عند قوله تعالى:{واجعلنا للمتقين إماما} "قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير، وقال غيرهم: هداة مهتدين ودعاة إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابا، وأحسن مآبا"
(2)
.
(1)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (4/ 1276).
(2)
تفسير ابن كثير (6/ 133).
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، قال ابن كثير:"أي دعا عباد الله إليه {وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: أي وهو في نفسه مهتد بما يقول فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعدّ، وليس هو من الّذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر، ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشرّ ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى، وهذه عامّة في كلّ من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد، ورسوله صلى الله عليه وسلم أولى النّاس بذلك"
(1)
، وروي عن الحسن البصري رحمه الله، أنه تلا هذه الآية:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، فقال:"هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحبّ أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا النّاس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال إنّني من المسلمين، هذا خليفة الله"
(2)
.
أما الأحاديث: فعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله عبدا
(3)
سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه
غير فقيه، ورب حامل فقه
(1)
تفسير ابن كثير (7/ 179).
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 180).
(3)
نضر الله: أي دعاء له بالنضرة، وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النعمة. (مرعاة المفاتيح
…
(1/ 327).
إلى من هو أفقه منه»
(1)
، وعن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار»
(2)
، وقال ابن المبارك:"ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم"
(3)
، وقال ابن الجوزي:"من أحب ألا يَنْقَطِع عمله بعد مَوته فلينشر الْعلم"
(4)
.
قال ابن عبد البر عند حديث: «من دعا الى هدى
…
،»:"هذا الحديث أبلغ شيء في فضل تعليم العلم اليوم والدعاء إليه وإلى جميع سبل الخير والبر"
(5)
.
و تبليغ الدّعوة إلى الله يكون بالقول وبالعمل وبسيرة الدّاعي الّتي تجعله قدوة حسنة لغيره فتجذبهم إلى الإسلام
(6)
.
الشطر الثاني من الحديث:
قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن دعا إلى ضلالة» قال ابن علان: "أي: من أرشد غيره إلى فعل إثم وإن قلّ أو أمره به أو أعانه عليه «كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه» عليها
(1)
أخرجه ابن ماجه (1/ 86) رقم (236) قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع (2/ 1145) رقم (6765) ..
(2)
أخرجه البخاري (4/ 170) رقم (3461).
(3)
صفة الصفوة (2/ 326).
(4)
التذكرة في الوعظ (ص: 55).
(5)
تنوير الحوالك شرح موطأ مالك (1/ 170).
(6)
أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان (470).
وامتثل أمره فيها «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» "
(1)
، وما أكثر دعاة الضلالة اليوم لا كَثّرهم الله ولا بارك فيهم، فهم لا يفترون في إضلال الناس ليلا و نهارا، بكل الوسائل والطرق، مستخدمين في ذلك ألوانا متعددة في دعوتهم الى الضلالة، وأساليب ماكرة خبيثة، وهؤلاء الداعون الى الضلالة أخبث ممن هو واقع فيها ولم يدع غيره إليها، والسبب أنهم لم يكتفوا بوقوعهم في الضلالة؛ بل يدعون غيرهم ليوقعوه فيما هم فيه من الإثم والشر، فهم دعاة الى نار جهنم مباشرة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»
(2)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: «إلى ضلالة» أي: إثم وذنب أو بدعة ابتدعها أو سبق بها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وأعظم ضلالة ما فيها شرك بالله سبحانه وتعالى أو كفر به، كمن يذبح للقبور بقصد دفع ضر أو جلب نفع، أو يدعوهم من دون الله، وتعلم السحر وتعليق التمائم و الحروز، وتصديق السحرة والكهنة والذهاب إليهم، وغير ذلك من الأعمال الشركية المنافية لتوحيد الله جل وعلا، ثم ما يكون أدنى من ذلك فأدنى كل على حسبه، حتى تصل الى أدنى فعل يترتب عليه أثم أو وزر، فهو ضلالة، لأن كلمة ضلالة جاءت في الحديث نكرة فدلت على كل ما يكون
(1)
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/ 450)
(2)
متفق عليه: عن حذيفة بن اليمان البخاري (9/ 52) رقم (7084)، مسلم (3/ 1475) رقم (1847).
فيه ذنب ووزر سواء كان صغيرا أو كبيرا، فلينتبه المرؤ على نفسه مما يدعوا الناس إليه وليكن على حذر في كل صغيرة وكبيرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن عليه من الإثم مثل آثام من تبعه» قال المناوي: "لتولده عن فعله الذي هو من خصال الشيطان والعبد يستحق العقوبة على السبب وما تولد منه، كما يعاقب السكران على جنايته حال سكره، وإذا كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا، فالله يعاقب على الأسباب المحرمة وما تولد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها، وما تولد منها؛ ولهذا كان على قابيل القاتل لأخيه كفل من ذنب كل قاتل
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«فإن عليه من الإثم مثل آثام من تبعه» ، هو موافق لقوله تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، وعن عبد الله مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل
(2)
»
(3)
.
قال عبد الرحمن آل سعدي: " الهُدى: هو العلم النافع، والعمل الصالح، فكل من علم علما أو وجه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم: فهو داع إلى
(1)
فيض القدير (6/ 125) رقم (8663).
(2)
كفل: جزء ونصيب من إثم قتلها، وقوله: سن القتل: أي ابتدع القتل على وجه الأرض. [تعليق البغا] على البخاري (4/ 133).
(3)
متفق عليه: أخرجه البخاري (4/ 133) رقم (3335)، مسلم (3/ 1303) رقم (1677).
الهدى، وكل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة: فهو داع إلى الهدى، وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين: فهو داع إلى الهدى، وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره: فهو داع إلى الهدى، وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع: فهو داخل في هذا النص، وعكس ذلك كله: الداعي إلى الضلالة.
فالداعون إلى الهدى: هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين، والداعون إلى الضلالة: هم الأئمة الذين يدعون إلى النار، وكل من عاون غيره على البر والتقوى: فهو من الداعين إلى الهدى، وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان: فهو من الداعين إلى الضلالة"
(1)
.
قال العلامة ابن عثيمين: " «من دعا إلى هدى» : يعني بيّنه للناس ودعاهم إليه، مثل أن يبين للناس أن ركعتي الضحى سنة، وأنه ينبغي للإنسان أن يصلي ركعتين في الضحى، ثم تبعه الناس وصاروا يصلون الضحى، فإن له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً؛ لأن فضل الله واسع، أو قال للناس مثلاً: اجعلوا أخر صلاتكم بالليل وتراً، ولا تناموا إلا على وتر إلا من طمع أن يقوم من آخر الليل فليجعل وتره في آخر الليل، فتبعه ناس على ذلك فإن له مثل أجرهم، يعني كلما أوتر واحد هداه الله على يده؛ فله مثل أجره، وكذلك بقية الأعمال الصالحة.
(1)
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الوزارة (ص: 22).
«من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» ، أي إذا دعا إلى وزر وإلى ما فيه الإثم، مثل أن يدعو الناس إلى لهو أو باطل أو غناء أو ربا أو غير ذلك من المحارم، فإن كل إنسان تأثر بدعوته فإنه يُكتب له مثل أوزارهم؛ لأنه دعا إلى الوزر، والعياذ بالله، وأعلم أن الدعوة إلى الهدى، والدعوة إلى الوزر تكون بالقول؛ كما لو قال إفعل كذا إفعل كذا، وتكون بالفعل، خصوصاً من الذي يُقتدي به من الناس، فإنه إذا كان يُقتدي به ثم فعل شيئاً فكأنه دعا الناس إلى فعله، ولهذا يحتجون بفعله ويقولون فعل فلان كذا وهو جائز، أو ترك كذا وهو جائز"
(1)
اهـ.
الداعي الى الهدى يتعلق أجر من تبعه بإمرين:
الأول: ما يتعلق بكثرة وقلة الناس التابعين له، فكلما زاد وكثر التابعون له في الهدى الذي دعا إليه كلما كثر أجره وعظم ثوابه وانتشر فضله، والعكس كلما قل التابعون له والمقتدون به كان له من الأجر على قدر من تبعه؛ ولهذا فعلى الانسان أن يحرص على أن يكثر من دعوة الناس إلى الهدى والخير مما جاء في الكتاب والسنة، بكل الوسائل والطرق المباحة في كل مكان وزمان؛ لكي يتحصل على كثير من الأجر والثواب؛ وإن كان الأجر حاصل لمن دعا الى الهدى والخير سواء تبعه قليل من الناس أو كثير؛ كما حصل لنوح عليه السلام، فقد استمر يدعو
(1)
شرح رياض الصالحين (2/ 361).
قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع هذا فما ءامن معه إلا قليل، وهو نبي من أولي العزم مؤيد بالمعجزات من الله تعالى؛ فما بالك بمن هو دونه؛ ولكن من كثُر التابعون له من الناس، لاشك أن له مثل أجور من تبعه؛ ولهذا قال في الحديث:«مثل أجور من تبعه» ، ولذلك بكى موسى عليه السلام، عندما علم أن من يدخل الجنة من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أكثر من أمته كما في صحيح مسلم من حديث مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: قال: «ثم انطلقنا حتى انتهينا إلى السماء السادسة، فأتيت على موسى عليه السلام، فسلمت عليه، فقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما جاوزته بكى، فنودي: ما يبكيك؟ قال: رب، هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي»
(1)
، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فإني مكاثر بكم الأمم»
(2)
، ففي هذا دليل على فضل كثرة التابعين للعبد المسلم على الهدى والخير والعمل الصالح، والله أعلم.
الثاني: ما يتعلق باستمرارية الناس التابعين له، فكلما استمر من تبعه زمنا طويلا بين الناس، حصل منهم استمرار العمل بالهدى الذي دعا إليه، وتعاقبته الأجيال وتوسع وانتشر في الأفاق، فإذا حصل هذا دام وزاد أجره وثوابه، وحصل الخير الكثير والنفع العظيم، وبالعكس فإذا انقطع من تبعه على الهدى الذي دعا إليه سواء بالموت أو بترك العمل، حصل من الأجر بقدر من تبعه واستمر ذلك العمل
(1)
أخرجه مسلم عن مالك بن صعصعة (1/ 150) رقم (164).
(2)
أخرجه أبو داود (2/ 220) رقم (2050).
عند الناس؛ ولكن الفضل بيد الله تعالى، فقد يقيض الله للداعي من يجدد ذلك الهدى الذي دعا إليه ولو بعد حين، فيعمل به، وينشره بين الناس ويحصل به الخير الكثير، والله أعلم.
أهمية العلم الشرعي للداعي الذي يدعو الناس الى الخير والهدى
لابد للإنسان أن يكون على علم، ومعرفة بدين الله تعالى، قبل أن يدعو الناس الى الهدى والخير، ولا يحصل ذلك، بل لا يستطيع أن يفرق بين الهدى من الضلال، وبين الخير من الشر، إلا بموجب العلم الشرعي الذي من خلاله يميز الفرق بينهما، ولذلك قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] قال ابن كثير في تفسيره: "يقول الله تعالى لعبده ورسوله إلى الثقلين: الإنس والجن، آمرا له أن يخبر الناس: أن هذه سبيله، أي طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي"
(1)
.
فإذا لم يكن الإنسان على حجة، وعلى علم من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون داع الى الضلالة دون علم منه، وهو يظن أنه يدعو الناس الى الخير والهدى
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 422).
وهو يدعوهم الى الشر والضلال، والبدعة، والإثم، والعياذ بالله من ذلك؛ ولذلك قال الشاعر:
رام خيرا فضر من غير قصد *** ومن البر ما يكون عقوقا
وقال أخر:
عرفت الشرَّ لا *** للشرِّ ولكن لتوقِّيه
ومن لم يعرف الشرّ *** من الخير يقع فيه
فالدعوة الى الله تعالى لا تحصل إلا بالعلم الذي يعتبر سلاح الداعي وعدته وعتاده فبه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويرد عن الشبه ويدحض الباطل، وينكر البدعة ويبين السنة، وغير ذلك مما يتعلق بأعمال الداعي الى الله تعالى.
قال ابن القيم: "إذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلّها وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم، إلى حد أقصى يصل إليه السعي، ويكفي هذا في شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء"
(1)
.
فلابد للداعي أن يكون على معرفة بالعلم الشرعي مستمدا دليله من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، متمسكا أشد التمسك به، مبتعدا عن كل ما يؤدي الى الانحراف عن ذلك الطريق القويم والسبيل المستقيم، ولذلك، قال ابن القيم عليه رحمة الله تعالى: "ومن أحالك على غير أخبرنا وحدثنا فقد أحالك: إما على
(1)
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 154).
خيال صوفي، أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي، فليس بعد القرآن وأخبرنا وحدثنا إلا شبهات المتكلمين، وآراء المنحرفين، وخيالات المتصوفين، وقياس المتفلسفين، ومن فارق الدليل، ضل عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة، سوى الكتاب والسنة، وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم، والشيطان الرجيم، والعلم هو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد، والهدى والضلال، به تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام "
(1)
انتهى.
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 439).
الحديث الثالث:
عن أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنْ عَلَّمَ آيةً مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل، كَانَ لَهُ ثَوابها مَا تُليَتْ»
(1)
، وفي لفظ عند ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علم آية من كتاب الله علمه - أو باب من علم - أنمى الله أجره إلى يوم القيامة»
(2)
.
التوضيح:
لم أجد في شروح أهل العلم من تناول هذا الحديث بشرح أو تعليق؛ ولكن إن مما لاشك فيه إن تعليم القرآن من أفضل التعليم على الاطلاق، وهو مقدم على العلوم كلها؛ لكون أول عبادة بعد نطق الشهادتين الصلاة لا تتم إلا بقراءة
(1)
كنز العمال (10/ 171) رقم (28887) و أبو نعيم في الحلية (8/ 224)، وابن عساكر (59/ 290). قال الألباني: في السلسلة الصحيحة (3/ 323) رقم (1335) أخرجه أبو سهل القطان في " حديثه عن شيوخه "(4/ 243/ 2) حدثنا محمد بن الجهم حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا أبو مالك الأشجعي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. قلت: [أي الألباني] وهذا إسناد جيد عزيز، رجاله ثقات رجال مسلم غير محمد بن الجهم. وهو ابن هارون الكاتب السمري ترجمه الخطيب (2/ 161) برواية جماعة من الثقات عنه، وقال:" وقال الدارقطني: ثقة صدوق "، وقال الحافظ في " اللسان ":" ما علمت فيه جرحا "قلت: قد فاته توثيق الدارقطني إياه.
(2)
تاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 290) رقم (7533)، مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 109).
القرآن، ومعلوم أنها الركن الثاني من أركان الدين وعموده القويم؛ ولكونها تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة؛ فلما كانت الصلاة بهذه المكانة والمنزلة من الدين كان تعلم القرآن الكريم وتعليمه فرض عين لازم على كل مسلم ومسلمة؛ لكي يقوموا بإداء هذه الصلاة كاملة صحيحة؛ لأن قراءة الفاتحة من أركان الصلاة، ولذلك جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
(1)
، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن القرآن كلام الرحمن؛ فلعلو عظمة المتكلم وكماله وقدره وكل ما يليق به سبحانه وتعالى من الثناء والتعظيم والتنزيه والتقديس والكمال، علا وارتفع شرف كلامه وقُدم وفُضل على غيره من كل كلام، قراءةً وتَعلُما وتعليما؛ كونه كلام الخالق جل وعلا، فيقدم ويعلو شرفا ومرتبة وقدرا وتعظيما على كلام المخلوق العبد الضعيف، ولما كان القرآن الكريم بهذه المرتبة العالية والمكانة العظيمة من الدين؛ بيّن النبي صلى الله عليه وسلم، و رتب الأجور العظيمة والفضائل الكبيرة لمن قرأ أو تعلم أو علم حرفا واحدا أو آية من كتاب الله فله أجرها، ويستمر هذا الأجر والثواب ما تليت تلك الآية، أو الى يوم القيامة.
والآية: في القرآن هي معروفة فقول: {الحمد لله رب العالمين} آية، والفاتحة سبع آيات، وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من علم آية من كتاب الله عز وجل» ، ولو فكر الإنسان وتدبر كم سيكون له من الأجر والثواب في تعليم سورة الفاتحة
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 151) رقم (756)، مسلم (1/ 295) رقم (394).
فقط بمفردها، لَمَا تتردد لحظة واحدة في البحث عمن يعلمهم تلك السورة العظيمة.
فتأمل أخي الكريم أنك علمت رجلاً أو طفلاً أو امرأة سورة الفاتحة، وهي سبع آيات فكم ستُتلى هذه الآيات وتتكرر، فإذا كان يكررها المسلم في عدد ركعاته في الصلوات المكتوبة سبعة عشر مرة في اليوم والليلة، فكم سيكون الأجر في عدد ركعات الأسبوع وكم سيكون الأجر في عدد الركعات في الشهر وكم في السنة وهكذا، وكم سيكون الأجر في عدد ركعات العمر كله؛ و هذا كله في عدد ركعات الصلاة المفروضة فقط، فكيف وله أجرها ما تليت في كل صلوات المفروضة والنافلة، أضف الى ذلك أن لك أجر كل مَنْ تعلم ممن علمته هذه السورة العظيمة أي سورة الفاتحة، ولوكان هذا الفضل والأجر حاصل إلا في تعلم السورة كلها لكان هذا فضل كبير وأجر كثير؛ ولكن من فضل الله وكرمه أن جعل بكل حرف من حروف القرآن الكريم وبكل آية من آياته أجرا وثوابا عنده لمن قرأ وتعلم وعلم ذلك، وفضل الله واسع والله ذو الفضل العظيم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما تليت» : أي ما قُرئت هذه الآية وردد تلاوتها من تعلمها، سواء في الصلاة أو خارج الصلاة، كما هو ظاهر الحديث، وقد يحصل كذلك الأجر والثواب ويستمر للمعلم حتى لمن تعلم ممن علمه الآية الواحدة من القرآن، وهكذا يتسلسل الأجر والثواب، ولا ينقص من أجور أولئك المعلمين والمتعلمين
شيئا، كما مر بنا في الأحاديث السابقة، والله أعلم.
فضل تعلم القرآن وتعليمه:
قد جاء في فضل تعلم القرآن الكريم وتعليمه عدة أحاديث نذكر منها ما يلي:
فعن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه»
(1)
.
قال المناوي في شرحه لهذا الحديث: "أي خير المتعلمين والمعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن لا في غيره، إذ خير الكلام كلام الله فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل به، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد خيرية خاصة من هذه الجهة أي جهة حصول التعليم بعد العلم والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط؛ ولذلك استظهروا رواية الواو على أو لاقتضائها إثبات الخيرية لمن فعل أحد الأمرين ولا شك أن الجامع بينهما مكمل لنفسه ولغيره فهو الأفضل، وقال بعض المحققين: والذي يسبق للفهم من تعلم القرآن حفظه وتعلم فقهه فالخيار من جمعهما، قال الطيبي: ولا بد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص فمن أخلصهما وتخلق بهما دخل في زمرة الأنبياء"
(2)
. اهـ
قال ابن حجر: "ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه، مكمل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي، ولهذا كان أفضل وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا
(1)
أخرجه البخاري (6/ 192) رقم (5027).
(2)
فيض القدير (3/ 499).
وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع"
(1)
.
قال ابن عثيمين: "قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه الخطاب للأمة عامة فخير الناس من جمع بين هذين الوصفين من تعلم القرآن وعلم القرآن تعلمه من غيره وعلمه غيره، والتعلم والتعليم يشمل التعلم اللفظي والمعنوي، فمن حفظ القرآن يعني صار يعلم الناس التلاوة ويحفظهم إياه فهو داخل في التعليم، والنوع الثاني: تعليم المعنى يعني تعليم التفسير أن الإنسان يجلس إلى الناس يعلمهم تفسير كلام الله عز وجل
…
، كيف يُفسر القرآن وأعطاهم القواعد في ذلك فهذا من تعليم القرآن"
(2)
انتهي، وفي فضل تعلم القرآن ما جاء عن عقبة بن عامر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين
(3)
في غير إثم، ولا قطع رحم؟»، فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم، أو يقرأ آيتين
(1)
فتح الباري لابن حجر (9/ 76).
(2)
شرح رياض الصالحين (4/ 639، 640).
(3)
الصفة: أي في موضع مظلل من المسجد الشريف كان فقراء المهاجرين يأوون إليه وهم المسمون بأصحاب الصفة وكانوا أضياف الإسلام. يغدو: أي يذهب في الغدوة وهي أول النهار. بطحان: اسم موضع بقرب المدينة. العقيق: واد بالمدينة. كوماوين: الكوماء من الإبل العظيمة السنام. [شرح محمد فؤاد عبد الباقي] على مسلم (1/ 552).
من كتاب الله عز وجل، خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»
(1)
.
قال القاري في قوله صلى الله عليه وسلم: «خير له من ناقتين وثلاث» "أي: من الآيات «خير له من ثلاث» أي: من الإبل. قال ابن حبان: هذا الخبر أضمر فيه كلمة وهي "لو تصدق بها" يريد بقوله: «فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين وثلاث» لو تصدق بها لأن فضل تعلم آيتين من كتاب الله أكبر من فضل ناقتين وثلاث وعدادهن من الإبل لو تصدق بها إذ محال أن يشبه من تعلم آيتين من كتاب الله في الأجر بمن نال بعض حطام الدنيا
…
، والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أراد ترغيبهم في الباقيات وتزهيدهم عن الفانيات فذكر هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى فهم العليل، وإلا فجميع الدنيا أحقر من أن يقابل بمعرفة آية من كتاب الله تعالى أو ثوابها من الدرجات العلى، كذا في المرقاة، وفي الحديث الحث على تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته"
(2)
.
تنبيه:
لابد من الإخلاص لله تعالى في تعلم القرآن وتعليمه، فعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على
(1)
أخرجه مسلم (1/ 552) رقم (803).
(2)
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 172، 173).
وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها
(1)
، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار»
(2)
، وفي زيادة عند الترمذي بقوله:«يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة»
(3)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله،
(1)
فعرفه: بالتشديد أي: ذكره الله تعالى. نعمته: كثرة أصناف العلوم والأموال. فعرفها: بالتخفيف أي: تذكرها فكأنه من الهول والدهشة، نسيها وذهل عنها. فقال تعالى: فما عملت فيها؟: أي: في مقابلتها شكرا لها أي في أيامها لينفعك اليوم. (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 288).
(2)
أخرجه مسلم (3/ 1513) رقم (1905).
(3)
أخرجه الترمذي (4/ 593) رقم (2382)، وقال:«هذا حديث حسن غريب» قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 352) رقم (1713) التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (1/ 417) رقم (409).
لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»
(1)
. يعني: ريحها، وعنه أيضا قال قال صلى الله عليه وسلم:«من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار»
(2)
، وقال ابن مسعود:"لا تعلموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله، فإنه يبقى ويذهب ما سواه"
(3)
.
فدلت هذا الأحاديث على أهمية الإخلاص لله تعالى، وخطر منافاته في كل الأعمال التي ذُكرت في هذه الرسالة، من تعلم للقرآن وتعليمه، وكذلك العلم الشرعي، والصدقة سواء كانت جارية أو منقطعة، والموت في سبيل الله تعالى، فعلى الإنسان أن يجعل هذه الأحاديث نصب عينيه دائما، لما لذِكرها من موعظة عظيمة للقلوب والنفوس فيعمل بمقتضى ذلك، نسأل الله أن يجعل أعمالنا صالحة خالصة لوجهه الكريم متقبلة، لا يكون لأحد منها شيء، إنه على كل شيء قدير، والله أعلم.
(1)
أخرجه أبو داود عن أبي هريرة (3/ 323) رقم (3664) و الحاكم (1/ 160) رقم (289) قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1060) رقم (6159).
(2)
أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة (1/ 96) رقم (260) قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1060) رقم (6158).
(3)
جامع العلوم والحكم (1/ 78).
الحديث الرابع:
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فاعله»
(1)
، وجاء عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ»
(2)
.
التوضيح:
قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: "فيه فضيلة الدلالة على الخير، والتنبيه عليه، والمساعدة لفاعله، وفيه فضيلة تعليم العلم، ووظائف العبادات، لاسيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم، والمراد بمثل أجر فاعله أن له ثوابا بذلك الفعل كما أن لفاعله ثوابا ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء"
(3)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: «من دل» قال الهروي: "أي: بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة «على خير» أي: علم أو عمل مما فيه أجر وثواب، «فله»: أي للدال، «مثل أجر فاعله» أي: من غير أن ينقص من أجره شيء"
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (3/ 1506) رقم (1893).
(2)
أخرجه الترمذي (5/ 41) رقم (2670) قال الألباني: حديث (صحيح) سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 216) رقم (1660)، صحيح الجامع الصغير (1/ 640) رقم (3399).
(3)
شرح النووي على مسلم (13/ 39).
(4)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 291).
وقال المناوي عند قوله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير» "شمل جميع أنواع الخصال الحميدة، «فله» من الأجر «مثل أجر فاعله» أي له ثواب كما لفاعله ثواب ولا يلزم تساوي قدرهما"
(1)
.
قال السيوطي: " اختار القرطبي أنه مثله سواء في القدر، والتضعيف قال: لأن الثواب على الأعمال إنما هو بفضل من الله فيهبه لمن يشاء على أي شيء صدر منه خصوصا إذا صحت النية التي هي من أصل الأعمال في طاعة عجز عن فعلها لمانع منعه منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل أو يزيد عليه، قال: وهذا جار في كل ما ورد مما يشبه ذلك كحديث: «من فطر صائما فله مثل أجره» "
(2)
.
قال الصنعاني: "دل الحديث على أن الدلالة على الخير يؤجر بها الدال عليه كأجر فاعل الخير، وهو مثل حديث:«من سن سنة حسنة في الإسلام كان له أجرها وأجر من عمل بها» والدلالة تكون بالإشارة على الغير بفعل الخير، وعلى إرشاد ملتمس الخير على أنه يطلبه من فلان والوعظ والتذكير وتأليف العلوم النافعة،
ولفظ «خير» : يشمل الدلالة على خير الدنيا والآخرة، فلله در الكلام النبوي ما أشمل معانيه وأوضح مبانيه ودلالته على خير الدنيا والآخرة"
(3)
.
(1)
فيض القدير (6/ 127).
(2)
شرح السيوطي على مسلم (4/ 490).
(3)
سبل السلام (2/ 639).
قد يقول قائل ما صلة هذا الحديث بالعمل الصالح الذي يجري للإنسان أجره وثوابه بعد موته، أقول الدلالة في الحديث واضحة جدا؛ لعدة أمور:
الأمر الأول: إن هذا الحديث مثل حديث: العلم المنتفع به، ومثل حديث من دعا الى هدى، وحديث من سن سنة حسنة، وإن كان هناك فرق بين من علَّم العلم النافع، والدعوة الى الهدى من جهة، وبين الدلالة على الخير من جهة أخرى.
الأمر الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل أجر فاعله» لم يتقيد حصول الأجر بزمان أو مكان فيكون له مثل أجر فاعله مهما فعل من الخير.
الأمر الثالث: موافقة العلماء المماثلة بين حديث الدلالة على الخير، وبين غيره مما يحصل منه استمرار الأجر والثواب للفاعل بعد الموت، ودليل ذلك قول العلامة ابن الأمير كما مر معنا قبل هذا الإيراد، وكذلك قول النووي عند شرحه لحديث:«لا تقتل نفس ظلما إلا كان على بن آدم الأول كفل منها لأنه كان أول من سن القتل» قال: "وهذا الحديث من قواعد الإسلام وهو أن كل من ابتدع شيئا من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل مثل عمله إلى يوم القيامة، ومثله من ابتدع شيئا من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة، وهو موافق للحديث الصحيح من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة، وللحديث الصحيح من دل على خير فله مثل أجر فاعله، وللحديث الصحيح ما من داع يدعو إلى هدى وما من داع يدعو إلى ضلالة والله أعلم"
(1)
، انتهى كلامه،
(1)
شرح النووي على مسلم (11/ 166).
وصرح المناوي رحمه الله تعالى بحصول استمرار الأجر بعد الموت ودوامه عند شرحه لحديث الدلالة على الخير بقوله: "ومن تأمل هذا المعنى ورزق التوفيق انبعثت همته إلى التعليم ورغب في نشر العلم ليتضاعف أجره في الحياة وبعد الممات على الدوام ويكف عن إحداث البدع والمظالم من المكوس وغيرها فإنها تضاعف عليه السيئات بالطريق المذكور ما دام يعمل بها عامل فليتأمل المسلم هذا المعنى وسعادة الدال على الخير وشقاوة الدال على الشر"
(1)
. اهـ
الامر الربع: قد يموت الدال على الخير ويبقى العمل الخيري الذي دل عليه إذا كان العمل المدلول عليه مما يستمر خيره و يبقى نفعه، فبهذا يستمر الأجر والثواب للدال بعد الموت، ومن عمق النظر في هذا الحديث يجد أن الدلالة على الخير من أسهل أعمال العبادات وأعظمها أجرا إذا اخلص الإنسان فيها لله تعالى، وقصد الأجر والثواب منه سبحانه وتعالى، فقد يدل شخص أخر بكلمة واحدة فينفعه الله بها نفعا عظيما مالا يتوقعه الدال من المدلول أن يحصل ذلك النفع والخير، فمثلا لو قال انسان لآخر لو تعمل كذا وكذا أي من أعمال الخير، كأن يقول له، لو تبني هنا مسجدا، أو توقف وقفا، أو تطلب علما، أو غير ذلك من أوجه الخير، فعمل ذلك بما دله عليه، فبنى مسجدا واسعا، أو طلب علما فصار شيخا، أو حفر بئرا وجعله وقفا، كان للدال مثل أجر ذلك الفاعل ولا ينقص من أجره شيئا، فتأمل كم من الأجر والثواب نال الدال بسبب كلمة دل فيها
(1)
فيض القدير (6/ 127) رقم (8670).
غيره الى الخير، وقد ربما مات الرجل الدال وبقى العمل أو الخير الذي دل عليه عامرا مستمرا ينتفع به الناس سنين عديدة وأزمنة مديدة، والأجر حاصل له مثل أجر صاحبه، وهذا من سعة فضل الله وكرمه على عباده المؤمنين، والله أعلم.
•••
ملاحظة:
إنه في أثناء جمعي لهذه المادة وجدت أنه قد سبقني في ذكر الأعمال التي يجري للإنسان اجرها وثوابها بعد الموت وجمع أحاديثها جلال الدين السيوطي عليه رحمة الله تعالى، في شرحه على مسلم عند شرحه لحديث:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث» ذكر بعده أربعة أحاديث
(1)
سردا، ولم يتعرض لشرحها ثم نظم ما حصّله من تلك الأحاديث بقوله: "وقد تحصل من هذه الأحاديث أحد عشر أمرا، وقد نظمتها وقلت:
إذا مات بن آدم ليس يجري *** عليه من فعال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل *** وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر *** وحفر البئر أو إجراء نهر
(1)
الحديث الثاني: ما رواه في الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا: (أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت مرابط في سبيل الله ومن علم علما أو رجل تصدق بصدقة فأجرها له ما جرت ورجل ترك ولدا صالحا يدعو له). الثالث: ما رواه البزار من حديث أنس مرفوعا: (سبع يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته)، الرابع: ما رواه ابن ماجة وابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعا: (إن مما يلحق المؤمن من حسناته بعد موته علما نشره أو ولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته تلحقه بعد موته)، الخامس: ولابن عساكر في تاريخه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: (من علم آية من كتاب الله أو بابا من علم أنمى الله أجره إلى يوم القيامة). هذه هي الأحاديث التي ذكرها السيوطي وبنى نظمه عليها.
وبيت للغريب بناه يأوي *** إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرآن كريم فخذ *** ها من أحاديث بحصر"
(1)
. انتهى.
ونظمها كذلك بعده الشيخ محمد بن علان البكري، في كتابه دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين بقوله:
خصال عليها المرء من بعد موته *** يثاب فلازمها إذا كنت ذا ذكر
رباط بثغر ثم توريث مصحف *** ونشر لعلم غرس نخل بلا نكر
وحفر لبئر ثم إجراء نهر *** وبيت غريب في التصدق إذ يجري
وتعليم قرآن وتشييد منزل *** لذكر ونجل مسلم طيب الذكر
وفي خبر من ذا إذا حج فرضه *** و الدين عنه قد قضى كامل الفخر
روى ابن عماد ذا بحسن ذريعة *** ولم يذكر الراوي لذلك ما يدري
(2)
.
وقد نظمتُ في أبيات مختصرة مفيدة، الأعمال الصالحات التي يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، في أخر هذه الرسالة.
(1)
شرح السيوطي على مسلم (4/ 228).
(2)
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لابن علان البكري (7/ 177).
المبحث الثالث
الدعاء
ويشتمل هذا المبحث على مطلبين:
المطلب الأول: الأدلة الدالة على انتفاع الإنسان بعد الممات بالدعاء من الولد، خاصة
المطلب الثاني: الأدلة الدالة على انتفاع الإنسان بعد الممات بالدعاء عموما، من جميع المسلمين
المطلب الأول
الأدلة على انتفاع الإنسان بعد الممات بالدعاء من الولد خاصة
الدليل الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث:
…
، أو ولد صالح يدعو له»
(1)
.
الدليل الثاني:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله سلم: «سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ
…
، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ»
(2)
.
الدليل الثالث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ:
…
، و وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ،
…
،»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
الدليل الربع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: «تُرْفَعُ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ دَرَجَتُهُ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: وَلَدُكَ اسْتَغْفَرَ لَكَ»
(1)
.
الدليل الخامس:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم:«إِنَّ اللهَ عز وجل لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص: 28) رقم (36)، قال الشيخ الألباني:(حسن) صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني (1/ 334) رقم (1617).
(2)
أخرجه أحمد عن أبي هريرة (16/ 356) رقم (10610)، قال محقق المسند: إسناده حسن من أجل عاصم بن أبي النجود-وهو ابن بهدلة-، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة (10/ 396)، وأحمد بن منيع كما في "أطراف المسند"(7/ 179 - 180) عن يزيد بن هارون، بهذا الإسناد، وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 387)، وابن ماجه (3660)، والبزار (3141 - كشف الأستار) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، والطبراني في "الأوسط"(5104)، وابن عبد البر في "التمهيد"(23/ 142) من طرق عن حماد بن سلمة، به، وأخرجه البيهقي (7/ 78 - 79)، والبغوي (1396) من طريق حماد بن زيد، عن عاصم بن أبي النجود، به. وفي رواية البزار والبيهقي والبغوي:(بدعاء ولدك لك)، وأخرجه ابن عبد البر (23/ 143) .... ، هذا (تخريج مسند أحمد طبعة الرسالة)، قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 334) رقم (1617) الصحيحة (1598) بلفظ: «إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك» .
التوضيح:
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أنه بموت الإنسان ينقطع عمله إلا من ثلاث، و قد سبق أن ذكرنا الصدقة الجارية، والعلم المنتفع به، والثالثة هي الدعاء من الولد الصالح، فالدعاء مما يصل للإنسان أجره وثوابه بعد الممات، فإذا كان للإنسان ولد صالح يدعو له بعد موته، فإنه ينتفع بدعاء ولده له، ويرتفع بذلك درجات في الجنة، و الولد هو من كسب أبيه، فكان حري أن ينتفع الإنسان بدعاء ولده له بعد موته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه»
(1)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «ولد صالح» : يشمل الذكور والإناث، فإنه يطلق لفظ الولد عليهم جميعا، وليس محصورا على الذكور فقط، بدليل قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، ويدخل في ذلك أولاد الابن، وأولاد البنت وإن نزلوا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «صالح» ذكر أهل العلم له معنيين: الأول: مؤمن، قاله ابن حجر المكي
(2)
، والثاني: مسلم
(3)
. قال ابن الملك: "قيد الولد بالصالح لأن الأجر لا
(1)
أخرجه ابن ماجه عن عائشة (2/ 723) رقم (2137) أحمد (40/ 34) رقم (24032) وقال محقق المسند: حديث (حسن لغيره) وقال الألباني: حديث (صحيح) المشكاة رقم (2770) التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (6/ 313) رقم (4245).
(2)
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 306).
(3)
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 177).
يحصل من غيره، وإنما ذكر دعاءه تحريضا للولد على الدعاء لأبيه، حتى قيل: للوالد ثواب من عمل الولد الصالح سواء دعا لأبيه أم لا، كما أن غرس شجرة يجعل للغارس ثواب بأكل ثمرتها، سواء دعا له الآكل أم لا
(1)
، وفائدة التقييد بالولد مع أن غيره لو دعا لنفعه؛ تحريضا للولد على الدعاء، وأنه كالواجب عليه"
(2)
.
قال ابن باز: "لأن الولد الصالح أقرب إلى أن يجاب من الولد الفاجر، وإن كان الدعاء مطلوبا من الجميع للوالدين، ولكن إذا كان الولد صالحا صار أقرب في إجابة دعوته لوالديه"
(3)
، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"ولده من كسبه، ودعاؤه محسوب من عمله، بخلاف دعاء غير الولد: فإنه ليس محسوبا من عمله، والله ينفعه به"
(4)
.
خص الولد بالصالح؛ لأن من كمال صلاحه الدعاء لوالديه، في حياتهما وبعد موتهما فيُرجى منه ذلك، بخلاف الولد الفاسق؛ فإنه بسبب فسقه، وعقوقه قد ربما لا يدعو لوالديه، ولا يرجى منه الدعاء، بل وقد لا يدعو حتى لنفسه.
(1)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 285).
(2)
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 306).
(3)
مجموع فتاوى ابن باز (4/ 349).
(4)
منهاج السنة النبوية (6/ 228)
ونفهم من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أو ولد صالح يدعو له» ، أنه يجب علينا تربية الأولاد تربية صالحة، وتنشئة كريمة، مبنية على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل الطاعات وترك المحرمات، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة، وتعلم العلم الشرعي الذي به تعرف الطاعة من المعصية، وبتحقق هذه الأعمال يحصل انتفاع الوالدين بصلاح أولادهم في حال حياتهما وبعد وفاتهما، فالتربية الصالحة للأولاد في صغرهم تكون سببا في صلاحهم في كبرهم ولهذا قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ** على ما كان عوده أبوه
فمن أجل ذلك فلا بد على الوالدين من فعل كل الأسباب التي تؤدي إلى صلاح جميع الأولاد، ذكوراً وإناثاً.
خص الصالح من الولد بالدعاء لوالديه في الحديث؛ لأن الدعاء منه مقدم على غيره و مرجو فعله منه لعدة أمور:
الأول: أن الدعاء من جملة فعل العبادة التي أمر الله بها ومنها الدعاء للوالدين في الحياة وبعد الممات، ودليل هذا قوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، قال ابن كثير:"أي في كبرهما وعند وفاتهما"
(1)
، وقال السعدي:"أي: ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا"
(2)
، قال ابن
(1)
تفسير ابن كثير ط العلمية (5/ 60).
(2)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 456).
عاشور: "ثم أمر بالدعاء لهما برحمة الله إياهما وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى"
(1)
.
فلا يستشعر هذا الأمر ويقوم به إلا الصالح البار من الأولاد فكان مرجوا منه الدعاء لوالديه أكثر من غيره؛ لأنه عاملا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أما الفاسق أو غيره من العصاة فالغالب عليهم التهاون أو ترك العمل بأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعوا أنفسهم فضلا عن غيرهم.
الثاني: من باب تمام البر الذي على الولد لوالديه، ولذلك جاء في الحديث: عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال:«نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما»
(2)
فكما بر بهما في حياتهما، كان الدعاء لهما بعد موتهما من أفضل البر بهما بعد الموت؛ لأن البر في حياتهما يكون معظمه متعلق في إصلاح المعيشة الدنيوية، وأما الدعاء لهما بعد الموت يكون كله متعلق بالحياة الأخروية والدار الباقية التي هي دار القرار، فيكون به تكفير
(1)
التحرير والتنوير (15/ 72).
(2)
أخرجه أبو داود (4/ 336) رقم (5142)، والحاكم (4/ 171) رقم (7260) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " [التعليق - من تلخيص الذهبي] 7260 - صحيح قال الألباني: ضعيف
السيئات التي هي سببا في عذابهما في النار، ويحصل به رفع الدرجات في الجنة، وبهذا يكون الدعاء للوالدين من أفضل البر بهما بعد الموت.
الثالث: من كمال الإحسان إليهما الذي وصى الله به في كتابه العزيز، قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، قال السعدي في تفسيره:"أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم"
(1)
.
الرابع: من لوازم الشكر الذي وصى به الله عباده، في قوله تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
الخامس: من باب تمام حقوق الصُحبة وآدابها، ولذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:«أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك»
(2)
.
(1)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 57).
(2)
متفق: البخاري (8/ 2) رقم (5971)، مسلم رقم (2548). (رجل) هو معاوية بن حيدة جد بهز بن حكيم رضي الله عنه، (أحق
…
صحابتي) أولى الناس بمعروفي وبري ومصاحبتي المقرونة بلين الجانب وطيب الخلق وحسن المعاشرة، [تعليق مصطفى البغا]
فمن تمام حقوق الصحبة الدعاء للوالدين في حياتهما بالهداية، والثبات على الدين وحسن الخاتمة، وبعد الموت بالرحمة، والمغفرة، ورفع الدرجات، وغير ذلك من أنواع الدعاء، الذي يكون سببا في رفع الدرجات للوالدين في الجنة، والله أعلم.
•••
المطلب الثاني
الأدلة على انتفاع الإنسان بعد الممات بالدعاء عموما، من جميع المسلمين
الدليل الأول:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَآءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
الدليل الثاني:
عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال:«إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ» ، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ:«لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» ، ثُمَّ قَالَ:«اللهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ»
(1)
.
الدليل الثالث:
عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يقول: «اللهُمَّ، اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ، وَأَكْرِمْ
(1)
أخرجه مسلم (كتاب الجنائز)(باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر)(2/ 634) رقم (920).
نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ» قَالَ عَوْفٌ:«فَتَمَنَّيْتُ أَنْ لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَيِّتَ، لِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ الْمَيِّتِ»
(1)
.
التوضيح:
دلت هذه الأدلة على أن الدعاء من أعظم ما ينتفع به الإنسان في حياته وبعد مماته، وفي كل الأوقات، وليس الانتفاع محصورا على الأولاد من البنين والبنات الذين هم من صلبه فقط، بل ينتفع الإنسان بالدعاء عموماً؛ سواء كان من أولاده، أو من أقاربه، وأرحامه، أو أصدقائه ومحبيه، أو من غيرهم من الناس، فليس شرطا أن يكون الدعاء للميت من رجل مخصوص من المسلمين؛ وهذا أمر معلوم معروف عند جميع المسلمين، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، والأدلة على ذلك كثيرة.
قال النووي: "إن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة وهما مجمع عليهما"
(2)
، وقال ابن القيم في كتابه الروح: " والدليل على انتفاع [الإنسان بعد
(1)
أخرجه مسلم (كتاب الجنائز)(باب الدعاء للميت في الصلاة)(2/ 663) رقم (963).
(2)
شرح النووي على مسلم (11/ 85).
موته] بغير ما تسبب فيه القرآن، والسنة، والإجماع، وقواعد الشرع"
(1)
، ومنها الدعاء له من جميع المسلمين، ثم ساق الأدلة على ذلك، وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية:"والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه، الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح"
(2)
، ثم ذكر الأدلة.
قال ابن عثيمين: "وقد دل الكتاب، والسنة، والإجماع، على انتفاع الميت بدعاء غير ولده له، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَآءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، والذين سبقوهم بالإيمان في هذه الآيات هم المهاجرون والأنصار، والذين جاؤوا من بعدهم شامل لمن بعدهم إلى يوم القيامة، فهم يدعون بالمغفرة لهم وإن لم يكونوا من أولادهم وينفعهم ذلك، و ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أغمض أبا سلمة رضي الله عنه حين مات وقال:«اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه، وافسح له في قبره ونور له فيه»
(3)
، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي على أموات المسلمين ويدعو لهم، وصح عنه أنه قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله
(1)
الروح (ص: 118).
(2)
شرح الطحاوية (2/ 665).
(3)
أخرجه مسلم عن أم سلمة (2/ 634) رقم (920).
فيه»
(1)
، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يزور المقابر ويدعو لأهلها، ويأمر أصحابه بذلك، فهذه دلالة الكتاب والسنة على انتفاع الإنسان بدعاء غير ولده له، وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على ذلك إجماعاً قطعياً فما زالوا يصلون على موتاهم، ويدعون لهم وإن لم يكونوا من آبائهم"
(2)
. انتهى
فضل الدعاء:
الدعاء من العبادات التي أُمرنا أن نتعبد الله بها؛ ولذلك جاء عدد من الأدلة من الكتاب والسنة تبين فضله، وأهميته، نذكر بعضا منها:
قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقال تعالى:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28]، والأدلة من السنة كثيرة نذكر بعضاً منها:
فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الدعاء هو العبادة، {قال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]»
(3)
، وعن سلمان الفارسي رضي الله
(1)
أخرجه مسلم عن ابن عباس (2/ 655) رقم (948)
(2)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (17/ 272).
(3)
أخرجه أبو داود (2/ 76) رقم (1479) قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح أبي داود (5/ 219) رقم (1329).
عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه، أن يردهما صفرا»
(1)
، وعن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذا نكثر
(2)
، قال: الله أكثر»
(3)
.
فكل هذه الأدلة تدل على فضل الدعاء ومكانته في ديننا الإسلامي الحنيف، ومما لاشك فيه أن للأولاد أجور عظيمة كلما دعوا الله واستغفروا لوالديهم، وكذلك من يدعو لإخوانه المسلمين بظهر الغيب فهو مأجور ومثاب على ذلك الدعاء، فعن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل»
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (2/ 78) رقم (1488) قال الألباني: حديث (صحيح)، صحيح أبي داود (5/ 226) رقم (1337).
(2)
قال السندي: قوله: نكثر: من الإكثار، أي: الدعاء، قوله:"الله أكثر"، أي: فضله وعطاؤه أكثر من دعائكم، والله تعالى أعلم [مسند أحمد طبعة الرسالة (17/ 215)].
(3)
أخرجه أحمد (17/ 213) رقم (11133)، قال الألباني: حديث (صحيح)، صحيح الأدب المفرد (ص: 264) رقم (265).
(4)
أخرجه مسلم (4/ 2094) رقم (2733).
شروط استجابة الدعاء
لتكملة الفائدة للقارئ الكريم فإن من شروط إجابة الدعاء، طيب المطعم، والمأكل، والملبس، ولذلك جاء في الحديث عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
…
، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟»
(1)
.
ومن شروطه كذلك الإخلاص لله تعالى في الدعاء، وعدم الاستعجال، وألا يدعو بإثم، أو قطيعة رحم، وكذلك أن يكون موقنا بالإجابة، وأن يكون قلبه حاضرا غير غافل أولاهٍ، وغير ذلك من الشروط فعلى الإنسان أن يحرص على فعل تلك الشروط حتي يستجيب الله له دعائه، فنسأل الله أن يجعلنا ممن يستجاب لهم الدعاء.
قال المناوي عند شرحه لحديث: «إذا مات الانسان انقطع عمله
…
» قال: "بدأ بالصدقة لأن المال زينة الدنيا، والنفوس متعلقة بحبه، فإيثار الخروج عنه لله آية صدق فاعله، وثنى بالعلم لاشتراكه معها في عموم منافعه وجموم مناقبه، وختم بدعاء الولد، تنبيها على أن شرف الأعمال المتقدمة لا ينكر، ولأنها أرجح من الأعمال القاصرة"
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (2/ 703) رقم (1015).
(2)
فيض القدير (1/ 438).
من تأمل حديث: «إذا مات الانسان انقطع عمله
…
» يجده بدأ بأهم ما يشمل نفعه لكل الناس من عالم وعامي وصغير وكبير وذكر وأنثى من المسلمين في حياتهم الدنيوية وبقائهم من حيث جنسهم، لكون الصدقة الجارية تكون من أمور متنوعة؛ فخيرها ونفعها متعديا الى جميع الخلق، فبالصدقة يبنى المسجد ودور العلم، وبالصدقة الجارية تطبع كتب العلم الشرعي، وينشر العلم النافع، وبالصدقة يصرف على طلبة العلم المحتاجين، وهكذا، فالصدقة الجارية قُدم ذكرها في الحديث لما لها من أهمية بالغة في جميع شئون الحياة عامة.
ثم ذكر العلم لنفعه لجميع الناس، ونفعه لهم يشمل نفعهم في الدنيا والآخرة، والنفع الأخروي هو الأهم، والأعظم من النفع العاجل، كما أن في الصدقة الجارية نفع للجسد، ففي العلم نفع للروح، والقلب، والجسد كذلك، ونفع العلم مُتعد كذلك الى الغير، وبهذا فالصدقة نفعها أعم وأشمل، والعلم أفضل وأبقى وأدوم، وأما الدعاء فهو قاصر نفعه على الداعي والمدعو له فقط؛ لذلك جاء أخر الثلاثة الأعمال المذكورة في الحديث، وبهذا نكون قد انتهينا من ذكر ثلاثة أعمال من الأعمال الصالحات التي يبقى ويجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات.
المبحث الرابع
موت المرابط في سبيل الله
نذكر في هذا المبحث بعضا من الأدلة التي تدل على أن موت المرابط في سبيل الله من الأعمال الصالحات التي يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، مع ذكر بعض من التوضيح
الدليل الأول:
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ، إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ»
(1)
.
(1)
أخرجه الترمذي (باب ما جاء في فضل من مات مرابطا)(4/ 165) رقم (1621) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، أحمد (39/ 374) رقم (23951)، قال الألباني: حديث (صحيح) مشكاة المصابيح (2/ 1124) رقم (3823)، وقال محقق المسند: إسناده صحيح، وهو في "الجهاد" لابن المبارك (174)، ومن طريق ابن المبارك أخرجه الترمذي (1621)، وابن أبي عاصم في "الجهاد"(317)، وابن حبان (4624)، والطبراني في "الكبير" 18/ (802)، والحاكم (2/ 144)، وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2414)، وأبو داود (2500)، والبزار في "مسنده"(3753)، وأبو عوانة (7463)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(2316)، والطبراني 18/ (803)، والحاكم (2/ 79)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4287)
…
، (تخريج مسند أحمد طبعة الرسالة).
الدليل الثاني:
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ»
(1)
.
الدليل الثالث:
عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال:
أَرْبَعٌ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أُجُورُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ: رَجُلٌ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرَجُلٌ عَلَّمَ عِلْمًا فَأَجْرُهُ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا عَمِلَ بِهِ، وَرَجُلٌ أَجْرَى صَدَقَةً فَأَجْرُهَا يَجْرِي عَلَيْهِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِمْ، وَرَجُلٌ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا يَدْعُو لَهُ»
(2)
.
وجاء هذا الحديث بلفظ آخر
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (كتاب الإمارة)(باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل (3/ 1520) رقم (1913).
(2)
أخرجه أحمد ط الرسالة (36/ 656) رقم (22318)، وأخرجه الطبراني المعجم الكبير (8/ 205) رقم (7831)
(3)
أخرجه أحمد (36/ 585) رقم (22247) بلفظ: «أَرْبَعَةٌ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أُجُورُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ: مُرَابِطٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أُجْرِيَ لَهُ مِثْلُ مَا عَمِلَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَجْرُهَا لَهُ مَا جَرَتْ، وَرَجُلٌ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا فَهُوَ يَدْعُو لَهُ» . قال محقق مسند الأمام أحمد طبعة الرسالة وقوله: "ومن عمل عملاً، أُجرِيَ له مثلُ ما عمل" خطأ، صوابه:"ورجلٌ عَلَّمَ عِلماً، فأجرُه يَجْري عليه ما عُمِلَ به"، ثم قال المحقق: حديث (صحيح لغيره)، وقال الألباني: حديث (حسن)، صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 212) رقم (877).
الدليل الرابع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال:«مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَجْرَى عَلَيْهِ أَجْرَ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِ، وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنَ الْفَزَعِ»
(1)
.
التوضيح:
دلت هذه الأحاديث أن من مات مرابطا في سبيل الله فإنه يجري ويُنمى له عمله بعد موته، والرباط: ملازمة الثغر للجهاد، وأصله الحبس; كأن المرابط حبس نفسه فيه على الطاعة، والثغر: ما يلي دار العدو، «وإن مات»: أي المرابط بدلالة الرباط في ذلك المقام، أو في تلك الحالة
(2)
.
قال ابن عثيمين: " والمرابطة في سبيل الله يعني أن يرابط الإنسان على الحدود، أو تجاه العدو في سبيل الله عز وجل؛ لإعلاء كلمة الله، وحفظ دين الله وحفظ المسلمين فإن هذا من أفضل الأعمال"
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2/ 924) رقم (2767) قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1115) رقم (6544).
(2)
فتح الباري لابن حجر (1/ 121)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2458).
(3)
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (5/ 356).
وقال القرطبي الرباط: "هو الملازمة في سبيل الله، مأخوذ من ربط الخيل ثم سمي الملازم لثغر من ثغور المسلمين: مرابطاً، فارساً كان أو راجلاً، واللفظة مأخوذة من الرباط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في منتظري الصلاة:«فذلكم الرباط»
(1)
، إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، والرباط اللغوي هو الأول، وهو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، فأما سكان الثغور دائماً بأهلهم الذي يعمرون ويكتسبون هناك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين "
(2)
.
قال البيهقي: "القصد من هذا [أي حديث المرابطة]، ونحوه الإخبار بتضعيف أجر المرابط على غيره، ويختلف ذلك بحسب اختلاف حال الناس نية وإخلاصا، وباختلاف الأوقات"
(3)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل ميت يختم على عمله» : قال الهروي: "أي يطبع على عمله، فلا يكتب له ثواب جديد"، قال السندي:"والمراد به العمل المنقطع بموته، فلا يشكل بالعمل الجاري كالوقف ونحوه، أي: يتم عمله المنقطع فلا ينمو بعد موته إلا المرابط، فإنه ينمو عمله المنقطع أيضا"
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (1/ 219) رقم (251) عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا بلى يا رسول الله قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» ،
(2)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 418).
(3)
تطريز رياض الصالحين (ص: 717).
(4)
حاشية مسند أحمد ط الرسالة (39/ 375).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمى» : قال الهروي: "أي يزاد له «عمله» بأن يصل إليه كل لحظة أجر جديد «إلى يوم القيامة» فإنه فدى نفسه فيما يعود نفعه على المسلمين، وهو إحياء الدين بدفع أعدائهم من المشركين"
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فتنة القبر» أي: مما يفتن المقبور به من ضغطة القبر والسؤال والتعذيب"
(2)
، وفي حديث سلمان قوله صلى الله عليه وسلم:«جرى عليه عمله» أي: ثواب عمله «الذي كان يعمله» : أي في حياته، والمعنى أنه يصل إليه ثواب عمله أبدا"
(3)
.
قال الطيبي: "ومعنى «جرى عليه عمله» : كقوله جرى عليه القضاء أي: يُقدر له من العمل بعد الموت، كما جرى منه قبل الممات، فجرى هنا بمعنى قدر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأجري عليه رزقه» : أي أوصل إليه رزقه من الجنة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأمن الفتان» أي: عذاب القبر وفتنته"
(4)
.
قال النووي: "هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصة به لا يشاركه فيها أحد،
…
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأجري عليه رزقه» موافق لقول الله تعالى في الشهداء {أحياء عند ربهم يرزقون} "
(5)
اهـ.
(1)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2476).
(2)
تحفة الأحوذي (5/ 250)
(3)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2458).
(4)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2458).
(5)
شرح النووي على مسلم (13/ 61).
قال ابن عثيمين: "يعني: أن الناس إذا ماتوا ودفنوا أتاهم ملكان يسألان الرجل عن ربه ودينه ونبيه، إلا من مات مرابطا في سبيل الله فإنه لا يأتيه الملكان يسألانه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك، فقال:«كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنه»
(1)
، فالشهيد والمرابط كلاهما لا يأتيه الملكان في قبره فيسألانه بل يأمن ذلك وهذا فضل عظيم وأجر عظيم"
(2)
.
قال القرطبي: "ولا معنى للنماء إلا المضاعفة وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى؛ لأن أعمال البر لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منهم بحراسته بيضة الدين، وإقامة شعائر الإسلام، وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه، هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة"
(3)
.
فضل المرابطة في سبيل الله تعالى:
جاء في فضل المرابطة في سبيل الله تعالى عدد من الأدلة منها ما رواه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من
(1)
أخرجه النسائي (4/ 99) رقم (2053)، قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 827) رقم (4483).
(2)
شرح رياض الصالحين (5/ 356)
(3)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 416).
الدنيا وما عليها»
(1)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا»
(2)
، ومن عِظم فضل الجهاد في سبيل الله تعالى في الإسلام، أن من لم يغزُ، ولم يُحدّث نفسه به في حياته مات على شعبة من النفاق؛ فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات ولم يغز، ولم يحدث
(3)
نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق»
(4)
.
قال ابن الأمير الصنعاني: "ولا يخفى أن المراد من الحديث هنا أن من لم يغز بالفعل، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على خصلة من خصال النفاق، فقوله صلى الله عليه وسلم:«ولم يحدث نفسه» لا يدل على العزم الذي معناه عقد النية على الفعل بل معناه هنا: لم يخطر بباله أن يغزو ولا حدّث به نفسه ولو ساعة من عمره، ولو حدثها به وأخطر الخروج للغزو بباله حينا من الأحيان، خرج من الاتصاف بخصلة من
(1)
أخرجه البخاري (4/ 35) رقم (2892).
(2)
أخرجه سنن النسائي (6/ 13) رقم (3110)، قال الألباني: حديث (صحيح)، صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1262) رقم (7616 - 2743).
(3)
قوله: "ولم يحدث"، قال السندي: من التحديث، قيل: بأن يقول في نفسه: يا ليتني كنت غازيا، أو المراد: ولم ينو الجهاد، وعلامته إعداد الآلات، قال تعالى:(ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة)[التوبة: 46](مسند أحمد ط الرسالة (14/ 454).
(4)
أخرجه أبي داود (3/ 10) رقم (2502) قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح أبي داود - الأم (7/ 263) رقم (2260).
خصال النفاق، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم:«ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه» أي لم يخطر بباله شيء من الأمور، وحديث النفس غير العزم وعقد النية"
(1)
.
ولابد أن يكون الرباط، والجهاد خالصا لله تعالى وحده لا شريك له، نصرة لدين الله وإعلاء لكلمته سبحانه وتعالى، فعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه
(2)
، فمن في سبيل الله؟ قال:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
(3)
.
(1)
سبل السلام (2/ 459).
(2)
للمغنم: أي من أجل الغنيمة. للذكر: الشهرة بين الناس. ليرى مكانه: مرتبته في الشجاعة، [تعليق مصطفى البغا] في البخاري (4/ 20).
(3)
متفق عليه: البخاري (4/ 20) رقم (2810)، مسلم (3/ 1512) رقم (1904).
المبحث الخامس
الأعمال الصالحة المتعلقة بذمة الإنسان عند موته
ويشتمل هذا المبحث على مطلبين:
المطلب الأول: ما يتعلق بحق من حقوق الله تعالى.
المطلب الثاني: ما يتعلق بحق من حقوق المخلوقين.
المطلب الأول
ما يتعلق بحق من حقوق الله تعالى
نذكر في هذا المطلب الأعمال الصالحات المنقطعة المتعلقة بحق من حقوق الله تعالى التي يصل أجرها وثوابها للإنسان بعد الممات، مع ذكر الأدلة عليها،
وهذه الأعمال هي التي مات عنها الإنسان وهي باقية أو متعلقة في ذمته ولم يؤدها، فإذا قضها أو أداها عنه وليّه، أو غيره، تبرأ ذمته، فهي ليست كالأعمال السابقة المذكورة التي يحصل بها استمرار الأجر والثواب؛ وإنما هي من باب إبراء ذمة الميت وقضاء ما عليه، ولكن يصله أجرها وثوابها.
العمل الأول: أداء الحج والعمرة.
العمل الثاني: قضاء الصوم لمن كان عليه صوم واجب فمات عنه.
العمل الثالث: الوفاء بالنذر لمن مات وعليه نذر.
الأدلة على هذه الأعمال ما يلي:
الدليل الأول:
عن بريدة رضي الله عنه، قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه و آله سلم، إذ أتته امرأة، فقالت: إني تصدقتُ على أمي بجارية، وإنها ماتت، قال: فقال:
«وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ:«صُومِي عَنْهَا» قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ:«حُجِّي عَنْهَا»
(1)
.
الدليل الثاني:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله سلم، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»
(2)
.
الدليل الثالث:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله سلم،
فقال: إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ:«أَرَأَيْتَ لَوَ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ» قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (باب قضاء الصيام عن الميت)(2/ 805) رقم (1149).
(2)
أخرجه البخاري (3/ 18) رقم (1852).
(3)
أخرجه ابن حبان (9/ 305) رقم (3992). قال الألباني: حديث (صحيح) التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (6/ 150) رقم (3981).
الدليل الرابع:
عن عبد الله بن عباس، أن سعد بن عبادة الأنصاري، اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، «فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا»
(1)
.
التوضيح:
قبل البدء في ذكر شيء من أقوال أهل العلم حول هذه الأحاديث يتبين لنا من خلالها أن الحج يصح عن الميت، وأن أجر وثواب ذلك الحج يصله، وهذا من الأعمال الصالحة التي يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره، سواء كان بوصية منه أو لم يكن بوصية وإنما حج عنه أحد من الناس؛ ولكن أجر هذا العمل ليس مما يدوم ويستمر أجره سنين عديدة كالصدقة الجارية، أو العلم المنتفع به، أو نحو ذلك من الأعمال الصالحات التي مرت معنا، نعم فهو يختلف مع ما سبق في هذه المسألة - أي مسألة استمرار الأجر ودوامه- ولكن الأجر والثواب حاصل، والدليل فيه واضح وفاصل، وفيه ردا على من يقول بعدم مشروعية الحج عن الميت
(2)
، وسأذكر طرفا من أقوال أهل العلم في شروحهم لهذه الأحاديث.
قال النووي عن الحديث الأول: " فيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي والجمهور أن النيابة في الحج جائزة عن الميت والعاجز المأيوس من برئه
…
، وفيه قضاء الدين
(1)
أخرجه البخاري (8/ 142) رقم (6698).
(2)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 524)، فتح الباري لابن حجر (4/ 66).
عن الميت وقد أجمعت الأمة عليه، ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث، أو غيره، فيبرأ به بلا خلاف"
(1)
.
وقال الشوكاني إن الحديث: " يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره، حيث لم يستفصله أوارث هو أم لا، وشبهه بالدين"
(2)
، وفيه دليل أيضا على إجزاء الحج عن الميت من الولد، وكذلك من غيره، وفيه دليل على أنه يجوز للابن أن يحج عن أبيه حجة الإسلام بعد موته، وإن لم يقع منه وصية ولا نذر، ويدل على الجواز من غير الولد، للحديث الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عن شبرمة"
(3)
.
وقال ابن الامير الصنعاني أيضا فيه: "دليل على أن الناذر بالحج إذا مات ولم يحج أجزأه أن يحج عنه ولده، وقريبه، ويجزئه عنه، وإن لم يكن قد حج عن نفسه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسألها حجت عن نفسها أم لا ولأنه صلى الله عليه وسلم، شبهه بالدين وهو يجوز أن يقضي الرجل دين غيره قبل دينه، ورُد بأنه في حديث شبرمة ما يدل على عدم إجزاء حج من لم يحج عن نفسه"
(4)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (8/ 27).
(2)
نيل الأوطار (4/ 339).
(3)
نيل الأوطار (4/ 340).
(4)
سبل السلام (1/ 606).
أما حديث شبرمة هو ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من شبرمة؟ " قال: قريب لي، قال:"هل حججت قط؟ " قال: لا، قال:"فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة"
(1)
، وعند هذا الحديث قال ابن الأمير:"أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه، فإذا أحرم عن غيره فإنه ينعقد إحرامه عن نفسه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعله عن نفسه بعد أن لبى عن شبرمة، فدل على أنها لم تنعقد النية عن غيره؛ وإلا لأوجب عليه المضي فيه"
(2)
، قال المناوي:"وفيه أنه لا يصح ممن عليه حج واجب الحج عن غيره، وكذا العمرة"
(3)
.
قال بعض أهل العلم أن الحج لم يسقط عن المسلم بالموت إن كان مستوفي الشروط في حياته وقبل موته، بل إن الحج باقي في ذمته، وهو دين عليه يجب الوفاء به حتى بعد الموت، ولذلك قال الشنقيطي تحت الأحاديث المذكورة سابقا: "هذه الأحاديث تدل قطعًا على مشروعية الحج عن المعضوب والميت، وأن الأظهر عندنا وجوب الحج فورًا، وعليه فلو فرط وهو قادر على الحج حتى مات مفرطًا مع القدرة أنه يحج عنه من رأس ماله إن ترك مالاً، لأن فريضة الحج ترتبت
(1)
أخرجه أبو داود (2/ 162) رقم (1811)، ابن ماجه (2/ 969) رقم (2903) قال الألباني: حديث (صحيح) صحيح أبي داود - الأم (6/ 76) رقم (1589).
(2)
سبل السلام (1/ 610).
(3)
فيض القدير (3/ 375).
في ذمته فكانت دينًا عليه، وقضاء دين الله صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال:«فدين الله أحق أن يقضى» ، أما من عاجله الموت قبل التمكن فمات غير مفرط فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه، ولا دين لله عليه؛ لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته، ولن يكلف الله نفسًا إلا وسعها"
(1)
اهـ، وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء ما لفظه:"من مات وعليه فرض حج فإنه يعطى من تركته من يحج عنه؛ لأنه دين عليه لله يجب قضاؤه، وإن لم يكن له تركة وحج عنه أحد أقاربه، أو أحد إخوانه من المسلمين نفعه ذلك وأبرأ ذمته، بشرط أن يكون النائب قد حج عن نفسه أولا"
(2)
، وفي سؤال قُدم كذلك للجنة الدائمة مضمونه:"أن رجلا ادركه الموت قبل أن يحج فهل يجب عليه الحج"، فكان الجواب بما يلي: " إذا كان ابنك أدركه الموت قبل أن يحج حجة الفريضة فإن كان له مال وجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه؛ لأن حجة الإسلام تجب على المسلم الحر القادر العاقل البالغ،
…
، فدل ذلك على أن من مات وعليه حج، فإنه يجب على أحد أولاده أو أقاربه أن يحج عنه من ماله، أو يجهز من يحج عنه من مال الميت، أما إذا لم يكن له مال عند وفاته فإن الحج لم يجب عليه؛ لعدم قدرته عليه، لكن يستحب لأحد أقاربه أن يحج عنه، وله الأجر والثواب الكثير إن شاء الله
(1)
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 401).
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 63، 64)، السؤال الثالث من الفتوى رقم (17006).
تعالى، وينبغي لك الدعاء له، وسؤال الله له المغفرة والرحمة والتصدق عنه، إن قدرت على ذلك"
(1)
انتهى المراد.
فائدة:
جواز حج المرأة عن الرجل، فإذا أرادت المرأة أن تحج عن قريب لها فلها أن تحج عنه إذا توفرت لها شروط الحج، ودليل ذلك ما جاء في البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن امرأة من خثعم، جاءت الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال:«نعم» وذلك في حجة الوداع
(2)
، قال العيني:"في الحديث دليل على أن المرأة يجوز لها أن تحج عن الرجل"
(3)
، وأما حج الرجل عن المرأة فهو أمر معلوم بجوازه.
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 67، 68)، سؤال الأول من الفتوى رقم (19909).
(2)
أخرجه البخاري (3/ 18) رقم (1855).
(3)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري (9/ 128).
فضل الحج وشروطه:
أما فضل الحج فلا يخفى على كل مسلم ما في الحج من فضائل وأجور، فهو من أركان هذا الدين، وفيه الأجر العظيم، والخير الكثير في الدنيا والاخرة، ولهذا جاءت أدلة كثيرة تدل على ذلك منها ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه
(1)
»
(2)
، وعنه أيضا، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»
(3)
، وعنه كذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور
(4)
ليس له جزاء إلا الجنة»
(5)
.
وأما شروط الحج فهي خمسة شروط هي: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، وهي متفق عليها بين العلماء، قال ابن قدامة في المغني: "لا نعلم في
(1)
يرفث: من الرفث وهو الجماع والتعريض به وذكر ما يفحش من القول. يفسق يرتكب محرما من المحرمات ويخرج عن طاعة الله عز وجل. كيوم ولدته أمه: من حيث براءته من الذنوب. [تعليق مصطفى البغا] على البخاري (2/ 133).
(2)
متفق عليه: البخاري (2/ 133) رقم (1521) مسلم (2/ 983) رقم (1350).
(3)
أخرجه البخاري (2/ 133) رقم (1519).
(4)
(المبرور): المقبول وهو الذي لا يخالطه إثم مشتق من البر وهو الإحسان
(5)
متفق عليه: البخاري (3/ 2) رقم (1773)، مسلم (2/ 983) رقم (1349).
هذا كله اختلافا"
(1)
، ولا يجب الحج على من لم تتوفر فيه خصال الاستطاعة لأن القرآن خص الخطاب بهذه الصفة في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، ففي الموسوعة الفقهية ما لفظه: وخصال الاستطاعة التي تشترط لوجوب الحج قسمان: شروط عامة للرجال والنساء، وشروط تخص النساء، القسم الأول: شروط عامة للرجال والنساء: شروط الاستطاعة العامة أربع خصال: القدرة على الزاد وآلة الركوب، وصحة البدن، وأمن الطريق، وإمكان السير.
القسم الثاني: الشروط الخاصة بالنساء:
وأما ما يخص النساء من شروط الاستطاعة شرطان لا بد منهما لكي يجب الحج على المرأة يضافان إلى خصال شرط الاستطاعة التي ذكرناها، هذان الشرطان هما: الزوج أو المحرم، وعدم العِدة. و الْمَحْرَمُ المشروط للسفر: الْمَحْرَمُ الأمين المشروط في استطاعة المرأة للحج: هو كل رجل مأمون عاقل بالغ يحرم عليه بالتأبيد التزوج منها سواء كان التحريم بالقرابة أو الرضاعة أو الصهرية
(2)
.
ولذلك جاء عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: فانطلق فحج مع
(1)
المغني لابن قدامة (3/ 214) الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 27) ..
(2)
الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 27، 28، 35، 36)،
امرأتك»
(1)
، وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها»
(2)
، قال الشوكاني: تعليقا على هذه الأحاديث: "إنها تدل على أنه لا يجب الحج على المرأة إلا إذا كان لها محرم"
(3)
.
وبناء على ما سبق فمن مات له قريب سواء كان ذكرا أو أنثى لم يحج، فله أن يحج عنه، وليعلم أن أجر وثواب ذلك الحج سيصل إلى ذلك الميت وينتفع به وهو في قبره إن شاء الله تعالى، وبهذا يكون الحج من الأعمال الصالحات التي يجري للعبد أجرها بعد الممات.
الصوم والوفاء بالنذر:
أما الصوم والوفاء بالنذر، فقال النووي: "اختلف العلماء فيمن مات وعليه صوم واجب من رمضان أو قضاء أو نذر أو غيره هل يقضى عنه، وللشافعي في المسألة قولان مشهوران أشهرهما لا يصام عنه، ولا يصح عن ميت صوم أصلا، والثاني يستحب لوليه أن يصوم عنه ويصح صومه عنه ويبرأ به الميت، ولا يحتاج إلى إطعام عنه، وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صححه
(1)
أخرجه أبو داود الطيالسي (4/ 453) رقم (2855) الطبراني في الكبير (11/ 425) رقم (12204) واللفظ له.
(2)
أخرجه مسلم (2/ 977) رقم (1339).
(3)
نيل الأوطار (4/ 346).
محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة"
(1)
انتهى، قال الطيبي:"جوّز أحمد أن يصوم الولي عن الميت ما كان عليه من قضاء رمضان أو نذر أو كفارة "
(2)
، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة في مسألة من مات وعليه صوم أو نذر ما لفظه: "إذا كان عليه فرض صيام من شهر رمضان، أو من نذر، وصام غيره عنه أجزأه ذلك؛ للأحاديث الواردة في قضاء الحج وقضاء الصيام عن الميت،
…
، فإن لم يتيسر من يصوم عنه أطعم عنه من التركة عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد لبعض الفقراء"
(3)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (8/ 25).
(2)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1359).
(3)
فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 67، 68) رقم (19909).
المطلب الثاني
ما يتعلق بحق من حقوق المخلوقين
الأول: قضاء الدَّيْنَ إذا كان على الإنسان دين فمات عنه.
الدليل الأول:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله سلم، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»
(1)
.
الدليل الثاني:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، قال:«يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (3/ 1502) رقم (1886).
الدليل الثالث:
عن جابر رضي الله عنه، قال: مات رجل، فغسلناه، وكفناه، وحنطناه، ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وآله سلم، حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالصلاة عليه، فجاء معنا خطى، ثم قال:«لعل على صاحبكم دينا؟» قالوا: نعم، ديناران فتخلف، فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله، هما علي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«هما عليك وفي مالك والميت منهما بريء» فقال: نعم فصلى عليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا لقي أبا قتادة يقول:«ما صنعت الديناران؟» حتى كان آخر ذلك قال: قد قضيتهما يا رسول الله قال: «الآن حين بردت عليه جلده»
(1)
.
التوضيح:
قال ابن القيم: " أجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمته، ولو كان من أجنبي أو من غير تركته"
(2)
.
قال الشوكاني: " يلحق بالحج، حق ثبت في ذمته، من نذر، أو كفارة، أو زكاة، أو
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 66) رقم (2346) والفظ له، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي:(صحيح) رقم (2346)، وأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (4/ 6) رقم (3469) انظر: أحكام الجنائز للألباني: (1/ 16).
(2)
الروح لابن القيم (ص: 121).
غير ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم:«فالله أحق بالوفاء» فيه دليل على أن حق الله مقدم على حق الآدمي، وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس"
(1)
.
قال البسام عند قوله صلى الله عليه وسلم: «فدين الله أحق بالقضاء» فيه دليل على تقديم الزكاة وحقوق الله المالية إذا تزاحمت حقوقه وحقوق الآدميين في تركة المتوفى، وبعضهم قال بالمساواة بين الحقوق"
(2)
.
ملاحظة:
اختلف أهل العلم في ما سوى هذه الأعمال الصالحة التي سلف ذكرها في هذا الكتاب وجعل ثوابها للميت: مثل الأضحية، وإهداء ثواب العمل الصالح، وغير ذلك؛ كون هذه الأمور لم يأت بها دليل يدل عليها؛ ولكون هذه عبادات يتقرب بها العبد الى الله تعالى، والأصل في العبادات أنها مبنية على التوقف، فلا تُفعل أي عبادة إلا بدليل شرعي على مشروعيتها، وإلا فهي بدعة محدثة ما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما لفظه: "الصحيح من أقوال العلماء: أن فعل القُرب من حي لميت مسلم لا يجوز، إلا في حدود ما ورد الشرع بفعله؛ مثل الدعاء له، والاستغفار، والحج، والعمرة، والصدقة عنه،
(1)
نيل الأوطار (4/ 340).
(2)
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص: 334).
والضحية
(1)
، وصوم الواجب عمن مات وعليه صوم واجب، وكذلك قضاء الدين، وأما الحج فيجزئ عن الميت عند الشافعي وموافقيه، وهذا داخل في قضاء الدين إن كان حجا واجبا، وإن كان تطوعا وصى به فهو من باب الوصايا، وأما إذا مات وعليه صيام فالصحيح أن الولي يصوم عنه
…
، وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت، والصلاة عنه ونحوهما، فمذهب الشافعي والجمهور أنها لا تلحق الميت وفيها خلاف"
(2)
انتهى.
(1)
الأضحية عن الغير: فيها خلاف بين اهل العلم: قال الشافعية: لا يضحى عن الغير بغير إذنه، ولا عن ميت إن لم يوص بها، لقوله تعالى:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39/ 53] فإن أوصى بها جاز، وبإيصائه تقع له. ويجب التصدق بجميعها على الفقراء، وليس لمضحيها ولا لغيره من الأغنياء الأكل منها، لتعذر إذن الميت في الأكل. وقال المالكية: وكره فعلها عن ميت إن لم يكن عينها قبل موته، فإن عينها بغير النذر، ندب للوارث إنفاذها. وقال الحنفية والحنابلة: تذبح الأضحية عن ميت، ويفعل بها كعن حي من التصدق والأكل، والأجر للميت، لكن يحرم عند الحنفية الأكل من الأضحية التي ضحى بها عن الميت بأمره. (الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي (4/ 2743)، ودليلهم ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3/ 182) رقم (3059) عن حذيفة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرب كبشين أملحين، فيذبح أحدهما فيقول:«اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد» ، وقرب الآخر، فقال:«اللهم هذا عن أمتي لمن شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ» . تحقيق الألباني: صحيح، الإرواء (1138). صحيح وضعيف سنن ابن ماجة (7/ 122، بترقيم الشاملة آليا)(سنن ابن ماجة) رقم (3122)
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (9/ 48).
أما القراءة القرآن بالأجرة للميت فهو بدعة
(1)
.
(1)
تنبيه: حكم من يجعل قارئاً يقرأ القرآن للميت بأجرة: قال ابن عثيمين: "أما ما يفعله بعض الناس من التلاوة للميت بعد موته بأجرة، مثل أن يحضروا قارئاً يقرأ القرآن بأجرة، ليكون ثوابه للميت فإنه بدعة ولا يصل إلى الميت ثواب؛ لأن هذا القارئ إنما قرأ لأجل الدنيا ومن أتى بعبادة من أجل الدنيا فإنه لا حظ له منها في الاخرة كما قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]. وإني بهذه المناسبة أوجه نصيحة لإخواني الذين يعتادون مثل هذا العمل أن يحفظوا أموالهم لأنفسهم أو لورثة الميت، وأن يعلموا أن هذا العمل بدعة في ذاته، وأن الميت لا يصل إليه ثواب، وحينئذ يكون أكلاً للأموال بالباطل ولم ينتفع الميت بذلك"(مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (17/ 224). انتهى، وفي فتاوى اللجنة الدائمة ما لفظه:"قراءة القرآن عبادة من العبادات البدنية المحضة، لا يجوز أخذ الأجرة على قراءته للميت، ولا يجوز دفعها لمن يقرأ، وليس فيها ثواب، والحالة هذه، ويأثم آخذ الأجرة ودافعها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يصح الاستئجار على القراءة وإهداؤها إلى الميت؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة، وقد قال العلماء: إن القارئ لأجل المال لا ثواب له، فأي شيء يهدى إلى الميت؟ " انتهى. والأصل في ذلك: أن العبادات مبنية على الحظر، فلا تفعل عبادة إلا إذا دل الدليل الشرعي على مشروعيتها، قال تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وقال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» . فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (9/ 36). قال ابن أبي العز: وأما استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت فهذا لم يفعله أحد من السلف ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رخص فيه. والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف". شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (2/ 672).
أما إهداء ثواب العمل الصالح، كقراءة القرآن مثلا، قال ابن عثيمين هو: "بمعنى أن القارئ ينوي بثوابه أن يكون لهذا الميت، فإذا تقرر أن هذا من البدع فالبدع
لا أجر فيها "كل بدعة ضلالة" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تنقلب الضلالة هداية، ثم إن هذه القراءة في الغالب تكون بأجرة، والأجرة على الأعمال المقربة إلى الله باطلة، والمستأجر للعمل الصالح إذا نوى بعمله الصالح هذا الصالح من حيث الجنس، وإن كان من حيث النوع ليس بصالح، كما سيتبين إن شاء الله إذا نوى بالعمل الصالح أجراً في الدنيا، فإن عمله هذا لا ينفعه ولا يقربه إلى الله ولا يثاب عليه؛ لقوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الأَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، فهذا القارئ الذي نوى بقراءته أن يحصل على أجر دنيوي نقول له: هذه القراءة غير مقبولة، بل هي حابطة ليس فيها أجر ولا ثواب وحينئذ لا ينتفع الميت بما أهدي إليه من ثوابها لأنه لا ثواب فيها، إذن فالعملية إضاعة مال، وإتلاف وقت، وخروج عن سبيل السلف الصالح رضي الله عنهم، لاسيما إذا كان هذا المال المبذول من تركة الميت وفيها حق قُصّر وصغار
وسفهاء، فيأخذ من أموالهم ما ليس بحق فيزاد الإثم إثماً والله المستعان"
(1)
انتهى كلامه، ومن اراد المزيد عن هذه المسألة ينظر: جامع المسائل لابن تيمية - عزير شمس (4/ 245)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 29، 30، 31،
…
)، وكتاب الروح لابن القيم (ص: 117 إلى - 141)، والمغني لابن قدامة (2/ 423) و، المجموع شرح المهذب للنووي (15/ 519، 520) الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين (5/ 372) الموسوعة الفقهية الكويتية (2/ 334)، (15/ 57) الموسوعة الفقهية الكويتية (16/ 45).
(1)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (17/ 225).
الخاتمة
إن الأعمال الصالحات التي يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات مجموع أبوابها خمسة أمور هي:
الأمر الأول: الصدقة الجارية:
وما جاء من تفصيل وتنويع في الأحاديث، من حفر البئر، وغرس النخل، وبناء المسجد، وتوريث المصحف، وغيرها كل هذه الأمور داخلة ضمن الصدقة الجارية.
الأمر الثاني: العلم المنتفع به:
ويدخل فيه حديث: «من سن في الإسلام سُنة حسنة» ، وحديث: «من دعا إلى هدى
…
»، وحديث:«من علم آية من كتاب الله» ، وحديث:«من دل على الخير» ، فهذه الأحاديث داخلة ضمن العلم المنتفع به.
الأمر الثالث: الدعاء للإنسان بعد الموت:
من الولد أو من غيره من المسلمين.
الامر الرابع: من مات مرابطا في سبيل الله تعالى:
وهذه الأمور الأربعة مجموعة في حديث أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أَرْبَعَةٌ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أُجُورُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ: مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ
عَلِمَ عِلْمًا أُجْرِيَ لَهُ أَجْرُهُ مَا عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَجْرُهَا يَجْرِي لَهُ مَا جَرَتْ، وَرَجُلٌ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا، فَهُوَ يَدْعُو لَهُ»
(1)
.
الأمر الخامس: ما تعلق بذمة الإنسان عند موته:
وهذا يشمل جميع الحقوق سواء كانت من حقوق الله تعالى، أو من حقوق المخلوقين؛ فإذا أداها عنه أحد من الناس، تبرأ ذمته، ووصله أجر وثواب ذلك العمل، وبهذا تكون الأعمال الصالحة التي يجري أجرها وثوابها للعبد المسلم، وجاء بها الدليل، مجموعة في خمسة أمور استنتجتها من خلال جمعي لهذه الرسالة،
وقد نظمت هذه الخمسة الأمور في هذه الأبيات التالية فقلتُ:
كل فعل بعد موتكْ ينقطعْ *** غير ما خُصْ بدليلٍ قد سُمعْ
جُمِعَتْ أبوابها في خمسةٍ *** ما سوى ذاك يكن منها تبع
صدقات جاريات ودعاء *** ثم علم بعد موت يُنْتفع
ومماتٍ في رباط إن يقعْ *** ما بقي في ذمة عنه اجتَمع
مثل دَينٍ أو صيام أو تحجْ *** عنه هذا يابن آدم فانتفع
وبذكر هذه الخاتمة أكون قد انتهيت من هذه الرسالة المتضمنة الأعمال الصالحات التي يبقى ويجري للإنسان أجرها وثوابها بعد الممات، فالحريص على فعل الخيرات
(1)
أخرجه الطبراني المعجم الكبير (8/ 205) رقم (7831) مسند أحمد ط الرسالة (36/ 585) رقم (22247). قال محقق مسند الأمام أحمد طبعة الرسالة: حديث (صحيح لغيره) وقال الألباني: حديث (حسن)، صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 212) رقم (877).
التي تكون سببا لغفران الذنوب والسيئات، ورفع المنازل والدرجات، في جنة عرضها الأرض والسماوات، لا شك أنه سيبادر إلى اغتنام كل اللحظات في هذه الحياة؛ لفعل ما استطاع من هذه الأعمال الصالحات، متداركا ما فات، من عمره، وماله، وصحته، قبل الفوات، وحلول الندم والسكرات، وقد ذكرت في هذه الرسالة ما فيه تذكرة لمن تذكر، وذكرى لمن أعتبر، وكان ذا عقل رشيد، ورأي سديد، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وأخيرا أسال الله أن يجعل لنا نصيبا من كل عمل صالح مما يبقى ويجري لنا أجره وثوابه إلى يوم الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو أرحم الراحمين، وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله وتوفيقه
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك،،،
* * *