الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملخص البحث
فهذا بحث موسوم بـ" الإِتْقَانِ فِي ضَوَابِطِ تَسْجِيِلِ القُرْآنِ". وقد عالج فيه الباحث الآفات التي تعترض حفظ القرآن الكريم "مسجلًا"، ووضع لها ضوابط ومعايير ومقاييس علمية تأصيلية موافقة ومطابقة لما انتهى إليه جمع القرآن في عهوده الثلاثة، وعالج تلك القضية بما يناسب ويلائم التحديات الراهنة في الواقع المعاصر، ثم حذر أشد التحذير من الجرأة على كتاب الله بكل صورها وأشكالها ولا سيما تلاوته بما يسمى بـ" المقامات الموسيقية"، إجلالًا وتوقيرًا وتعظيمًا لكلامه - جَلَّ في علاه-.
دِيْبَاجَةُ البَحْثِ
الحمد لله الذي بدأ بحمد ذاتِه العليةِ قبل أن يَحْمَده حامدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي له كل المحامدِ، الأحد الصّمَد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أهل طاعته كلهم له عابدٌ، وهم له قانتون، ما بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ، حيّ لا يموت؛ قيوم لا ينام، ذو الجلال والإكرام، والهبات الكبيرة العظام؛ تكلم بالقرآن، خلق الإنسانَ، علمه النطق والإفصاح والبيانَ، أنعم على عباده بالهدى والإيمان، فأرسل رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم لجميع الإنس والجان أجمعين، وأيده بالحجة والبرهان المتجددين مع تجدد الْمَلَوينِ، وتعاقب الجديدينِ
(1)
؛ أرسله بكتاب عربي
(1)
المَلَوَانِ: اللَّيلُ والنهار، أَوْ طَرَفا النهار، والجديدان أيضًا هما اللَّيلُ والنهار، يُنظر: قاموس المعاني الجامع.
واضح مبين، وجعله فارِقًا بين التوحيد والشرك، وبين الهدى والضلال، والظلمات والنور، والشك واليقين؛ أنزله في أوجزِ لفظٍ وأعجزَ أسلوبٍ، فأعيت بلاغَتُه البلغاءَ فأخرستهم مشاكلتُه، وأعجزت فصاحتُه الفصحاءَ فأعجزتهم معارضَتُه، وأبكمت حكمتُه الحكماءَ فأعْيَتهم مناقضتُه، وأذهلت روعتُه الخطباءَ فأعجزتهم محاكاتُه ومخاطبتُه، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظَهِيرًا، كما قال ربنا في ذلك قولًا مبينًا:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء: 88).
خطة البحث
وقد ضمَّن الباحثُ بحثَه خطة بحث مكونة من فصلين، وكل فصل يندرج تحته عدد من المباحث، وكل مبحث يندرج تحته عدد من المطالب، وقد بيَّن فيه ما يلي:
أولًا: أهمية موضوع البحث
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه
خامسًا: منهج البحث
سادسًا: خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة.
سابعًا: مجموع الفهارس:
وخطة البحث تشتمل على فصلين على النحو التالي:
الفصل الأول
العناية بالقرآن
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: وجوب عناية الأمة بالقرآن من كل الوجوه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وجوب عناية الأمة بالجمع الصوتي للقرآن "خصوصًا"
المطلب الثاني: واجب الجهات المعنية في الأمة تجاه التسجيلات الفردية
المبحث الثاني: الضوابط القلبية عند تسجيل القرآن
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الإخلاص في تلاوة القرآن
المطلب الثاني: التخويف من قراءة القرآن لغير الله
المطلب الثالث: طبقات الناس وأحوالهم مع قراءة القرآن
المطلب الرابع: الإخلاص من أعمال القلوب
المبحث الثالث: التخلية والتحلية عند قارئ القرآن
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أن يكون القارئ عاملًا بالقرآن، متصفًا بالتخلية متحلِّيًا بالتحلية
المطلب الثاني: موقف الصحابة رضي الله عنهم من العمل بالقرآن
المطلب الثالث: أثر القرآن في نفوس الصحابة رضي الله عنهم
المطلب الرابع: موقف التابعين رحمهم الله من العمل بالقرآن
المبحث الرابع: أهم الضوابط العملية التي يجب مراعاتها عند تسجيل القرآن
وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: مراعاة عموم أحكام التجويد عند تسجيل القرآن
المطلب الثاني: عدم التكلف والتعسُّف عند القراءة
المطلب الثالث: مرعاة صحة الأداء
المطلب الرابع: القراءة بتؤدة واطمئنان
المطلب الخامس: عناية القارئ بالوقف والابتداء
المطلب السادس: صفة اتقان علم الوقف والابتداء
المطلب السابع: أهمية مراعاة الوقف والابتداء
المطلب الثامن: عناية السلف بالوقف والابتداء
المبحث الخامس: القراءة بخشوع وتخشع وحضور قلب
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم الخشوع لغة وشرعًا
المطلب الثاني: كيف ينتفع العبد بالقرآن
المبحث السادس: تحسين الصوت بالتلاوة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: صفة تحسين الصوت بالتلاوة
المطلب الثاني: المفهوم الصحيح لمزامير آل داود
المطلب الثالث: تحسين الصوت لا ينافي الإخلاص
المبحث السابع: فصل النزاع بين التغني و"المقامات الموسيقية"
وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم معنى الترنم
المطلب الثاني: مفهوم معنى" الموسيقى "
المطلب الثالث: تيقظ السلف مبكرًا للخلط في مفاهيم بعض الألفاظ
المطلب الرابع: حَسْمُ القول في "المقامات الموسيقية"
المطلب الخامس: إجماع السلف على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية
المطلب السادس: إجماع أهل العلم المعاصرين على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية
المطلب السابع: وجوب تنزيه القرآن عن " المقامات الموسيقية"، إجلالًا وتوقيرًا وتعظيمًا لكلام الله
المطلب الثامن: التحذير من الجرأة على كتاب الله
المطلب التاسع: تفخيم الصوت بالتلاوة
الفصل الثاني
الإجازة القرآنية وما إليها
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ضوابط الإجازة القرآنية
وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: أن يكون القارئ حافظًا مجازًا وَمَسْنَدًا
المطلب الثاني: مفهوم الإجازة القرآنية
المطلب الثالث: أهميةُ الإجازةِ
المطلب الرابع: ضابط شرط الإجازة لمن يُسجل له القرآن
المطلب الخامس: الإجازة سنة متبعة
المطلب السادس: أبرز من زكاهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم
المطلب السابع: قدر ومكانة التزكيات النبوية
المطلب الثامن: مكانة الإسناد من الدين
المبحث الثاني: أن يكون تسجيل القرآن بصوت رجلٍ "ذكرٍ"
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حكم صوت المرأة
المطلب الثاني: تسبيح المرأة في الصلاة إذا كانت بحضرة الرجال
المطلب الثالث: نهي المرآة عن الخضوع بالقول
المطلب الرابع: دواعي مناقشة ضابط تسجيل القرآن (بصوت رجلٍ "ذكرٍ")
منهجية البحث
أولًا: أهمية موضوع البحث
تكمن أهمية موضوع البحث في تعرض تَسْجِيِلِ القُرْآنِ لآفات ومعوقات تمنع خروجه مسجلًا بالصورة الصحيحة كالتي انتهى إليها الجمع في عهوده الثلاثة مكتوبًا في الصدور ومحفوظًا في السطور، فأتى هذا البحث لوضع الضوابط والمعايير والمقاييس والأسس والقواعد العلمية التي تضمن حفظه مسجلًا عبر وسائل التسجيل الحديث سليمًا من أي لحن جلي أو خفي، محفوظًا من أي تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقصان، كما كان كذلك في عهود الجمع الثلاثة، وذلك تحقيقًا لوعد الله جل في علاه الوارد في قوله سبحانه في محكم آياته:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
لم يقف الباحث في حدود بحثه الضيق على بحث متأصل تناول ضَوَابِطَ تَسْجِيِلِ القُرْآنِ ببحث علمي مستقل متكامل من جميع الجوانب، ولكن جاء تناول بعض تلك الضوابط ضمن جمع القرآن في مراحله الثلاث في عدد من البحوث العلمية، أو ذكره تنويهًا لا دراسة ومناقشة وتحقيقًا في البعض الآخر منها.
ومن أبرزها تلك الدراسة ما يلي:
الدراسة الأولى: الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، أو، المصحف المرتل: بواعثه ومخططاته، المؤلف: الدكتور/ لبيب السعيد، الناشر: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر-القاهرة، تاريخ النشر: 1387 هـ، 1967 م، (د. ط).
وصف البحث:
يُعد هذا البحث هو طليعة باكورة أعمال الجمع الصوتي للقرآن الكريم في هذا العصر، وهذه المرحلة تعد المرحلة الرابعة لجمع القرآن، بعد
جمعه في عهوده الثلاثة.
ويعود تاريخ هذا الجمع لأكثر من ستة عقود مضت من الزمان، حين تبلورة فكرته في قلب وعقل الدكتور النبيل/ لبيب السعيد (ولد سنة: 1914 م ــ وتوفي سنة: 1988 م)، والذي قام على الفور بعرض فكرته ومشروعه العملاق-الذي لم يسبق له أحد في تاريخ الإسلام- على مجلس إدارة الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم بالقاهرة، والتي كان وقتها رئيسًا لمجلس إدارتها، وكان ذلك تحديدًا في أواخر فبراير أو أوائل مارس 1959 م، والذي جاء بحثه (الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم) ترجمة علمية وعملية لهذا المشروع الأول في نوعه في تاريخ الإسلام، والذي تولت طباعته دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1387 هـ كما أسلفنا.
والحقيقة أيضًا أن هذا البحث مع كونه بحثًا تاريخيًا يحكي قصة أول جمع صوتي للقرآن في تاريخ الإسلام، ويبين فيه الباحث قصة جمعه وبواعثه وأسبابه وأهدافه وغاياته، والمعوقات التي واجهته حتى تحقق حلمه وخرج مشروعه إلى النور، ومع أنه قدم أئمة الإقراء في تسجيل تلاوات مشروعه، غير إنه رحمه الله لم يتعرض لضوابط تسجيل القرآن، غير إن لب بحثه وباكورة عمله فيه تترجم الكثير من هذه الضوابط عمليًا ولو لم يشر إليها لفظًا وخطًا.
الدراسة الثانية:
"جمع القران في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث"، تأليف: محمد شرعي أبو زيد، رسالة ماجستير، كلية الشريعة، جامعة الكويت، سنة النشر: 1419 هـ.
وصف البحث:
هذا البحث يُبرِز عناية المسلمين بحفظ القرآن من عهد النبوة إلى الآن، ويُؤكِّد أن نقل القرآن حظِيَ بأقصى درجات العناية من المسلمين، ويرُدُّ على شبهات الطاعِنِين من أعداء الإسلام على نقل القرآن الكريم، ولجودة البحث وحسن صياغته وجودة عرضه وسبك أسلوبه وقوة حجته قد أفاد منه الكثير من الباحثين ونهلوا منه.
والباحث قد تناول الجمع الصوتي للقرآن في الباب الخامس من بحثه، فناقش فيه: فكرته وأهدافه وقيمته وخطته وتنفيذه وتقويمه -فحسب- وذلك لأنه بحث فرعي وجزء من أطروحة علمية، وأما ضوابط تسجيله وشروطه فلم يتعرض لها، لأن أهداف بحثه متعلقة بمسماه:"جمع القران في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر"، وقصد من مناقشة الجمع الصوتي بداية فكرته وخطة تنفيذه ...... إلخ
الدراسة الثالثة:
التسجيل الصوتي للقرآن- دراسة نقدية-، بقلم: الدكتور/ كمال قده،
أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها،، بحث منشور- بمجلة البحوث والدراسات، العدد السابع، لعام: 2009 م، التابعة لمعهد اللغات والآداب، المركز الجامعي - جامعة حمه لخضر- بالوادي- الجزائر.
وصف البحث:
وهذا البحث لا يعد بحثًا علميًا، بل يعد مقالًا أو ورق بحثية لأنه بحث مختصر للغاية إذ يحتوي على 18 صفحة فقط، وهو كما يقول مؤلفه: يعالج موضوع التسجيل الصوتي للقرآن منذ بداية ظهوره إلى وقتنا الحاضر، حيث يتناول فيه مؤلِفه أهمية تلك التسجيلات التي سجلت لكبار القرآن.
كما تناولت دراسته- تلك- نقد المصاحف المرتلة فكشف فيها عن بعض الأخطاء التي وقعت في بعضها، حتى ينتبه لها السامع ولا يسلم لكل ما يسمع، كما نادى بعرض تلك التسجيلات على لجان متخصص قبل بثها ونشرها.
وهذا البحث مع صغر حجمه فقد أجاد فيه الباحث وأفاد، فقد نقد بعض الأخطاء الظاهرة التي وقع فيها بعض القراء، وقد نوه على أهمية الإفادة من تسجيلات كبار القراء، وقد أحسن وأجاد في التنبيه على عدم الاعتماد على تلك التسجيلات في التعلم لأنها وسائل معينة، ولا تعد مصدرًا لتلقي القرآن وتعلمه وحدها، ولا شك أن سماع تلك التسجيلات مفيدة غاية الإفادة للمتعلم غير إنها لا تعد مصدرًا للتلقي ولا يعتمد عليها في التعلم وحدها، إذ لابد في التعلم من التلقي مشافهة من أفواه المعلمين والمشايخ المهرة كما تلقى النبيُ صلى الله عليه وسلم القرآنَ عن جبريل عليه السلام، وكما تلقاه عنه أصحابُه رضي الله عنهم، وكما تلقاه التابعون عن الصحابة، وهكذا نقل القرآنُ بالتواتر والمشافهة من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا هكذا.
وكان على الباحث وجوب مراعاة جوانب هامة والانتباه لها، ومن أبرزها ما يلي:
1 -
نقده بعض الأخطاء الظاهرة التي وقع فيها قراء بأعيانهم وأسمائهم، وكان الأولى له التنويه على الأخطاء دون ذكر اسم القارئ، لأنه لا يسلم من الخطأ إلا معصوم مؤيد بالوحي.
2 -
ادعاؤه أن بحثه: "يعالج موضوع التسجيل الصوتي للقرآن منذ بداية ظهوره إلى وقتنا الحاضر"، فالناظر في بحثه يجد أن هذا القول في واقع البحث غير متطابق مع مسماه، بل يجده بعيدًا عنه كل البعد ذلك لأنه لم يتعرض لهذا الموضوع ولم يتناوله بالبحث والمدارسة غير إنه ألمح إليه إلماحًا- فحسب - والذي يبدو أن قصر البحث له دور بارز في ذلك، والله أعلم.
3 -
كان على الباحث لزامًا وجوب مناقشة ضوابط تسجيل القرآن وبحثها ومدرساتها من جميع الجوانب، لأن موضوع بحثه هو:"التسجيل الصوتي للقرآن- دراسة نقدية" والحقيقة أنه لم يتناول ضوابط تسجيل القرآن، وهذه الضوابط بينها وبين التسجيل الصوتي علاقة تلازم، غير إنه تكلم عن وجوب العناية بضبطه وقت تسجيله - فحسب-، وهذا غير كاف البتة ..
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
إما عن أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث فهي كثيرة ولكن من أبرزها انتشار تلك التلاوات المسجلة لأعداد كثيرة من القراء غير المؤهلين عبر وسائل التقنية الحديثة بشتى أنواعها ومسمياتها.
فجاءت تلك الدراسة المختصرة والمتواضعة لتعالج تلك الظاهرة وفق ضوابط ومعايير ومقاييس علمية تأصيلية بما يناسب ويلائم التحديات الراهنة في واقعنا الحاضر والتي تعترض خروج تلك التسجيلات على الوجه الصحيح الذي انتهى إليه حفظ القرآن في عهوده الثلاثة.
رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه
أ- مشكلة البحث
تكمن مشكلة البحث في سرعة انتشار تلك التلاوة المسجلة الغير منضبطة عبر وسائل التقنية الحديثة انتشار النار في الهشيم، مع ما تحويه بين جنبتيها من لحون جلية وخفية، وقد أصبحت عند جماهير غفيرة من عوام المسلمين مصادر تلقي ومصادر تعلم للقرآن، بسبب استحسان الأصوات الندية دون النظر إلى جودة التلاوة وصحة الأداء.
ب- أهداف البحث
لهذا البحث أهداف عظيمة وجليلة ومن أبزها ما يلي:
1 -
التنبيه على مسؤولية الأمة والتنويه على واجبها تجاه كتاب ربها لتنهض بعنايته وصيانته من كل الوجوه.
2 -
وضع أسس وضوابط ومقومات علمية وعملية يجب أن تتحقق فيمن يُسَجَل له القرآن.
3 -
التنبيه على واجب الجهات المعنية في الأمة تجاه التسجيلات الفردية غير المنضبطة والمنتشرة عبر وسائل التقنية الحديثة - خاصة -.
4 -
كما جاءت تلك الدراسة لتنوه على المنكرات التي تصاحب التسجيل الصوتي للقرآن عمومًا وما يسمى بـ "المقامات الموسيقية" على وجه الخصوص.
5 -
وكما أن تلك الدراسة نوهت على الأخطاء الشائعة عند التسجيل الصوت للقرآن وحذرت منها، فقد قدمت الحلول والبدائل الممكنة والمتاحة في حدود القدرات البشرية، وحمَّلت الجهات المعنية في بلاد الإسلام المسؤولية لتقوم بدورها البناء في معالجة تلك الظاهرة قدر الممكن والمتاح عملًا بقوله تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن: 16)
6 -
وضع ضوابط للإجازة القرآنية لتكون الطريق الصحيح والسبيل السوي والقنطرة النهائية التي يعبر بها إلى التسجيل الصوتي
خامسًا: منهج البحث
المنهج الوصفي التحليلي
فقد قام الباحث بإعداد المادة العلمية المتعلقة بموضوع بحثه "ضَوَابِطِ تَسْجِيِلِ القُرْآنِ"، ثم قام بعرضها عرضًا تحليليًا مرتبًا ترتيبًا حسب الأهمية، ثم وضع يده على موضع الداء وقدم له النافع من الدواء، وأما أهم أهداف وأبرز مشكلات بحثه، فقد قومها ووازنها وقابلها بوضع النتائج والحلول المناسبة وفق التحديات المعاصرة التي تواجه موضوع بحثه، فوضع لها الحلول الممكنة والمتاحة التي يمكنها معالجة مشكلة بحثه بصورة فعلية لا شكلية، وخاطب الجهات المعنية التي بيدها الحل والعقد لحل تلك المعضلات وفق الضوابط والشروط والأسس والقواعد التي أرساها لتَسْجِيِلِ القُرْآنِ الكريم.
الفصل الأول العناية بالقرآن
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: وجوب عناية الأمة بالقرآن من كل الوجوه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وجوب عناية الأمة بالجمع الصوتي للقرآن "خصوصًا"
إن من إجلال كلام الله تعالى العناية به من كل وجه، ومن أجلِّ تلك الوجوه العناية به عند تسجيله، فالقرآن كما اعتُنِيَ به في جمعه في عهوده الثلاثة فضُبِطَ محفوظًا في الصدور، وضُبِطَ كذلك مكتوبًا في السطور، فينبغي كذلك أن يُضبط عن تسجيله عبر وسائل التسجيل المتنوعة المعاصرة.
المطلب الثاني: واجب الجهات المعنية في الأمة تجاه التسجيلات الفردية
تنبيه من الأهمية بمكان
يجدر بنا هنا التنبيه على أمور عظام تتعلق بهذا الشأن ومن أبرزها ما يلي:
أولًا: من المعلوم والمشاهد أن هناك تسجيلات لتلاوات كثيرة مختلفة ومتناثرة في الإذاعات ووسائل البث لا يُحصي عددها كثرة إلا الله
ثانيًا: من هذه التسجيلات ما نال واستحق درجة الإتقان لكنه لم يخضع لإشراف أي جهة علمية متخصصة ومعتمدة وموثوقة
ثالثًا: يجب أن تخضع تلك التسجيلات لرقابة وإشراف لجان علمية معتمدة من أئمة التخصص، وذلك لضمان إخراجها خالية من أي خطأ من جهة، ولتحوز على اطمئنان المسلمين لها والثقة فيها من جهة أخرى.
رابعًا: لو أردنا أن نقيس الجمع الرابع للقرآن ألا وهو "الجمع الصوتي" على جمعه في عهديه الثاني والثالث في عهد الخليفتين الراشدين لوجدنا أنهما مع ثقتهم في الصحابة أجمعين إلا أنهما كونا لجنة بقيادة زيد بن ثابت ووضعوا لها من الأسس والضوابط والشروط المحكمة التي تضمن بها بعد توفيق الله وإعانته خروج المصحف سالمًا من الأخطاء.
خامسًا: اللجان العلمية التي تشرف على الجمع الصوتي يجب أن تشبه لجنة الجمع في عهديه الثاني والثالث، فكما أن اللجنة المشرفة على الجمع في ذانك العهدين كانت على أعلى مستوى من الخبرة والإتقان والأمانة والديانة، فكذلك يجب أن يكون الأمر نفسه في لجان الجمع الصوتي، فَتُكَوَّن لجانٌ علمية على أعلى مستوى من أهل التخصص من علماء القراءات وضبط الرسم والتجويد المشهود لهم بالإمامة في ذلك من أهل عصرهم من قبل هيئات علمية متخصصة ومعتمدة، وكما أن الجمع في هذين العهدين كان بصفة رسمية ممن ولاَّهم اللهُ أمرَ المسلمين، فكذلك يجب في هذا الجمع- الصوتي- أن يأخذ صفة-الرسمية- وكما أن المصاحف المطبوعة لا تطبع ولا تنشر إلا بإشراف جهات عليا رسمية ومأمونة وموثوقة ومعتمدة في بلاد الإسلام، كمجمع الملك فهد في المملكة العربية السعودية، وكالأزهر في مصر، فهكذا يجب أن يكون ذلك في المصاحف المرتلة المسجلة-أيضًا- سواء بسواء، وذلك قياسًا على لجنة جمع القرآن في عهديه الثاني والثالث لضمان سلامة تلك التسجيلات التي ستبقى بين يدي المسلمين إلى ما شاء الله.
سادسًا: ولذا يجب التأكيد على أن التسجيلات الفردية يجب أن تمنع منعًا باتًا ويمنع خروجها وبثها ونشرها للمسلمين حتى تخضع لإشراف لجان علمية متخصصة ومعتمدة- رسميًا- كما أسلفنا، وبذلك يُضَيَّقُ الخناقٌ على الأعمال الفردية حتى تخضع للرقابة والإشراف العلمي من الهيئات العلمية الموثوقة والمعتمدة في بلاد
الإسلام، وبذلك نضمن عدم العبث بكتاب الله والحد من تلك التسجيلات التي لم ترتق إلى المستوى المطلوب من الاتقان والجودة، وما أكثرها.
المبحث الثاني: الضوابط القلبية عند تسجيل القرآن
وفيه أربعة مطالب:
إنه لمَّا كان من الأهمية بمكان بيان أهم المعايير والضوابط التي ينبغي أن تتحقق فيمن يُسَجَّل له القرآن، وهو "القارئ" الذي يجب أن تتوافر فيه مراعاة آداب التلاوة الظاهرة-والتي تشير غالبًا إلى الآداب الباطنة-، وجودة الأداء المطلوبة، كان لزامًا على الباحث مناقشة ومدارسة تلك الضوابط وفق الخطوات التالية:
المطلب الأول: الإخلاص في تلاوة القرآن
إن الإخلاص لله تعالى مطلبٌ عزيز، ومقصدٌ نفيس، وهو دليل صلاح العبد وصدق نيته وصلاح طويته وزكاة نفسه، وسلامة إيمانه، وصدق يقينه، وهو مطلب
من أعظم مطالب الدين، وإن مراعاة جانب الإخلاص لله تعالى في تلاوة القرآن من أعظم الأمور التي حث عليه الشرع المطهر، ذلك لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان لوجهه خالصًا ولشرعه موافقًا، ومن ذلك تلاوة القرآن، التي هي من أجل العبادات، والعبادات مبناها على الإخلاص لله تعالى؛ كما قال ربنا سبحانه:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5).
المطلب الثاني: التخويف من قراءة القرآن لغير الله
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته وخوفها أيما تخويف فقال في ذلك فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "إنَّ اللهَ تبارك وتعالى إذا كان يومُ القيامةِ، ينزلُ إلى العبادِ
(1)
، ليقضيَ بينهم، وكلُّ أمةٍ جاثيةٌ، فأولُ من يُدعى به رجلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، ورجلٌ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، ورجلٌ كثيرِ المالِ، فيقولُ اللهُ عز وجل للقارئ: ألم أُعلِّمْك ما أَنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا ربِّ، قال: فما عملتَ فيما علمتَ؟ قال: كنتُ أقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فيقولُ اللهُ عز وجل له: كذبتَ، وتقولُ له الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ تبارك وتعالى: بل أردتَ أن يقالَ: فلان قارئٌ، وقد قيل ذلك ويُؤتى بصاحبِ
(1)
- وهو نزولًا على الحقيقة يليق بذاته العلية، وهذا هو معتقد أهل السنة، كما هو معتقدهم في سائر صفات الرب جل في علاه -إثباتها على الحقيقة- على وجه يليق بذاته تعالى بلا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل كما قال ربنا:(ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: 11)
المالِ، فيقولُ اللهُ عز وجل: ألم أُوَسِّعْ عليك حتى لم أدعْك تحتاجُ إلى أحدٍ؟ قال: بلى يا ربِّ؛ قال: فماذا عملتَ فيما آتيتُك؟ قال: كنتُ أَصِلُ الرَّحِمَ، أتصدَّقُ. فيقولُ اللهُ له: كذبتَ، وتقولُ الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ تبارك وتعالى: بل أردتَ أن يُقالَ: فلانٌ جوَادٌ، وقد قيل ذلك. ويؤتَى بالذي قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، فيقولُ اللهُ له: فبماذا قُتِلْتَ؟ فيقولُ: أيْ ربِّ! أُمرتُ بالجهادِ في سبيلِك، فقاتلتُ حتى قُتِلتُ، فيقولُ اللهُ له: كذبتَ، وتقولُ الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ: بل أردتَ أن يُقالَ: فلانٌ جريءٌ، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسولُ اللهِ على رُكبتي فقال: يا أبا هريرةَ أولئك الثلاثةُ أولُ خلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النارُ يومَ القيامةِ".
(1)
.
وقيل: إنَّما كان هؤلاء الثَّلاثةُ أوَّلَ خلْقِ اللهِ تعالى تُسعَّرُ بهم النَّارُ؛ لكونِ هذه العِباداتِ (تعلُّم القُرآنِ وتَعليمه، الجهاد، والإنفاق) رَفيعةَ القدْرِ عندَ اللهِ تعالى؛ فلمَّا لم يَبتَغِ أصحابُها بها وجْهَ اللهِ تعالى، بلْ طلَبوا بها العاجِلَ في الدّنْيَا، وآثَروا الفانِيَ فيها على الباقي في الآخِرةِ؛ فجازاهم اللهُ تعالى بأنْ جعَلَهم أوَّلَ مَنْ تُسعَّرُ بهم النَّارُ؛ إذ العِقابُ على قدْرِ عِظَمِ الجُرْمِ. وفي الحديثِ: التَّحذيرُ من الرِّياءِ، وبَيانُ شِدَّةِ عُقوبتِه.
(2)
وعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به.
(3)
قال الخطابي (ت: 388 هـ) رحمه الله تعليقًا على هذا الحديث:
أي: من عمل عملًا على غير إخلاص، إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يَشْهَرَه الله ويفضحه، ويبدو عليه ما كان يبطنه ويُسِرُّه من ذلك.
(4)
وقال صلى الله عليه وسلم: " تعلموا القرآن، وسلوا الله به الجنة، قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله".
(5)
ولعظم قدر القرآن ومكانته فإنه لا يُطلب به عرضًا زائلا من أعراض الدنيا كشرف المنزلة عند الناس وحسن ثنائهم عليه وصرف وجوههم إليه، أو ارتفاع
(1)
- رواه الترمذي (2382)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (22)
(2)
- يُنظر: شرح الحديث- الدرر السنية.
(3)
- رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة 11/ 336 (6499)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله 4/ 2289 (2987).
(4)
- الكبائر، للذهبي (ص: 65).
(5)
صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285)، ويُنظر: قيام الليل، محمد بن نصر المروزي (ص: 74).
على أقرانه، أو كطلب رئاسة أو جاه أو مال، أو لقضاء حوائجه والإفسحاء له في المجالس وتصديره فيها، أو نحو ذلك مما سوى التقرب إلى الله تعالى .. من حظوظ النفس ومشتهياتها. ومن أعظم ما يزجر عن هذه الخصال المذمومة قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر: 65).
المطلب الثالث: طبقات الناس وأحوالهم مع قراءة القرآن
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أحوال الناس مع قراءة القرآن، وأثره فيهم:
كما ثبت في الصحيحين من حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ.
(1)
قال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) رحمه الله في" الفتح":
قوله: طعمها طيب، وريحها طيب قيل: خص صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذا يمكن حصول الإيمان بدون القراءة.
(2)
وعن إياس بن عامر قال أخذ علي بن أبي طالب (ت: 40 هـ) رضي الله عنه بيدي ثم قال:
إنك إن بقيت سيقرأ القرآن ثلاثة أصناف: فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا ومن طلب به أدرك.
(3)
. أي أدرك ما كان يقرأ القرآن من أجله، وهذا أمرٌ واقعٌ وُمشَاهْدٌ في حياة الناس.
قال ابن القيم رحمه الله: والناس في هذا أربع طبقات:
الأولى: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس.
والثانية: من عدم القرآن والإيمان.
والثالثة: من أوتي قرآنًا، ولم يؤتَ إيمانًا.
والرابع: من أوتي إيمانًا، ولم يؤتَ قرآنًا.
قالوا: فكما أن من أوتي إيمانًا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنًا بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبرًا وفهماً في التلاوة، أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر.
(4)
(1)
- صحيح البخاري، برقم:(5427)، واللفظ له، وصحيح مسلم، برقم:(797).
(2)
- فتح الباري (11/ 81).
(3)
سنن الدارمي (2/ 526).
(4)
- زاد المعاد (1/ 338، 339). زاد المعاد في هدي خير العباد المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت الطبعة: السابعة والعشرون، 1415 هـ/ 1994 م عدد الأجزاء:5.
وفي نحو ذلك يروي أحد القراء المعاصرين فيقول:
روى لنا شيخنا المُعَمَّر، المقرئ، الشيخ: أبو منير؛ محمد السيد إسماعيل
(1)
حفظه الله وأمد في عمره: "أن السلطان: عبد الحميد العثماني، جمع كبار القراء من أقطار العالم الإسلامي، وذلك في قصر يلدز، "وهو قصر الخلافة العثمانية في اسطنبول" وطلب السماع منهم، وكان آخرهم قراءة المقرئ الشيخ: حسين موسى شرف الدين المصري الأزهري "وهو أحد مشايخ شيوخ الشيخ محمد راوي القصة؛ والذي يرد ذكره في شجرة القراء وكان مجاورًا في المدرسة البادرائية بدمشق" وبعد أن أتم القراءة. صفقت زوجة السلطان من وراء الستارة: أن يقرأ آخر مقرئ مرة أخرى. ولما طلب السلطان من الشيخ إعادة القراءة؛ غضب الشيخ وأبى قائلاً: "قرأنا لله؛ ولا نقرأ لفلان، وفلان".
(2)
، فأين قراء زماننا من هذا.؟!
قال الحسن البصري (ت: 110 هـ) رحمه الله:
قُرَّاءُ القرآنِ ثلاثة:
الأول: رجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر، يطلب به ما عند الناس
الثاني: وقوم حفظوا حروفه، وضيعوا حدوده، واستدروا به الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم
الثالث: ورجل قرأ القرآن، فبدأ بما يعلم من دواء القرآن، فوضعه على داء قلبه، فسهر ليله، وهملت عيناه، وتسربلوا بالخشوع، وارتدوا الحزن، وركدوا في محاريبهم، وحثوا في برانسهم. فبهم يسقيِ اللهُ الغيثَ، وينزل المطر، ويرفع البلاء، والله لهذا الضرب في حملة القرآن أقل من الكبريت الأحمر.
(3)
المطلب الرابع: الإخلاص من أعمال القلوب
الإخلاص عمل قلبي
والإخلاص وإن كان من أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، غير إن الله جعل ما يشير إلى ذلك في الظاهر وهو مما يدلل على ما في الباطن غالبًا، ألا وهو التحلي بالخشوع في التلاوة، فمن تحلى بالخشوع في قراءته ظهر أثر ذلك عليه لأولى الألباب، وذلك مصداق ما رواه ابن ماجه في السنن من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال قال رسول الله عليه وسلم:"إن من أحسنِ الناسِ صوتًا بالقرآنِ الذي إذا سمعتَه يقرأُ، رأيتَ أنَّه يخشى اللهَ"
(4)
، ولا شك في أن الخشوع عمل قلبي غير إن الله أظهره على الجوارح.
(1)
الشيخ: أبو منير؛ محمد السيد إسماعيل: وهو من مواليد غوطة دمشق الشرقية ـ عربيل (عربين) 1913 م تقريبًا. وهو أحد شيوخي (الكلام لأبي الخير صلاح كرنبه- كاتب المقال) وقد التقيناه من حوالي الشهر في مدينة رسول الله صلى الله علية وسلم حيث جاءها زائرًا بعد تأديته للعمرة وهو من فضل الله بكامل قواه العقلية والجسمية ولكن الذي أعاقه على العطاء في مجال القراءات ضعف سمعه قليلا بارك الله فيه وفي أمثاله من -الصفوة- أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(2)
- الإخلاص في تلاوة القرآن، أبو الخير صلاح كرنبه، ملتقى أهل التفسير بتاريخ: 5/ 71428 هـ.
(3)
-عيون الأخبار، لابن قتيبة الدينوري:(2/ 148).
(4)
- أورده السيوطي في الجامع الصغير (3965) وعزاه لابن ماجه عن جابر، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب فقال:"وروي" وهي من علامات الضعف عنده كما ذكر في مقدمته، فقد خرجه الشيخ أبو إسحاق الجويني في أجوبته عن أسئلة القراء فى مجلة التوحيد المصرية عدد رجب 1425 فى باب اسئلة القراء فقال في تخريجه: وأخرجه ابنُ ماجه (9331)، والآجري في «أخلاق حملة القرآن» (38)، وفي "فوائده"، وابنُ أبي داود في «كتاب الشريعة» ـ كما في "إتحاف السادة"(4/ 125) ـ من طرقٍ عن عبد الله بن جعفر المدينيُ، عن إبراهيم ابن إسماعيل بن مجمع، عن أبي الزبير، عن جابرٍ مرفوعًا فذكره.
قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 682): "سندُهُ ضعيفٌ".
وقال البوصيريّ في "الزوائد"(634/ 1): "هذا إسنادٌ ضعيفٌ لضعف إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وعبد الله ابن جعفر". قُلْتُ: وعنعنة أبي الزبير أيضًا، فالصوابُ أن السَّند ضعيفٌ جدًّا، واللهُ أعلمُ. انتهى.
وقد صححه الألباني في صحيح الجامع (2202)، وفي صحيح ابن ماجه ج 1 حديث، وخرجه كذلك فى الصحيحة (1583).
فإن التَّعبُّدَ للهِ عز وجل بتِلاوَةِ القُرآنِ من أفضَلِ العِباداتِ، خاصَّةً إذا كان بتَدَبُّرٍ وخُشوعِ وعَمَلٍ بما فيه؛ وحتى يَحصُلَ الخُشوعُ في التِّلاوَةِ؛ فإنَّ اللهَ عز وجل أمَر بحُسْنِ التِّلاوَةِ مع التَّدَبُّرِ، وفي هذا الحديثِ: يُخبِرُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ حيثُ قال: "إنَّ مِنْ أحسَنِ النَّاسِ صَوتًا بالقُرآنِ"، أي: أفضَلِ الأصْواتِ تِلاوَةً للقُرْآنِ "الذي إذا سَمِعتَه يَقرَأُ، رَأيتَ أنَّه يَخْشى اللهَ"، أي: أنَّ المَطْلوبَ من تَحْسينِ الصَّوتِ بالقُرآنِ أنْ تُنتِجَ قِراءَتُه خَشيَةَ اللهِ، فمَن رأيتُم فيه الخشيَةَ، فقد حسَّن الصَّوتَ بالقُرآنِ، وهذا حَثٌّ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على تَحْسينِ الصَّوتِ به، وعلى تَرْتيلِه، فإذا قَرَأَ بهذه الصِّفَةِ، كان أوقَعَ في القَلْبِ وأشَدَّ تأثيرًا لسامِعِه.
(1)
وقوله: (حسبتموه يخشى الله) أي المطلوب من تحسين الصوت بالقرآن أن تنتج قراءته خشية الله فمن رأيتم فيه الخشية فقد حسن الصوت بالقرآن المطلوب شرعًا فيعد من أحسن الناس صوتًا.
(2)
ولذا يجب أن يكون الخوف من وقوع الرياء في القراءة باعثًا للقارئ على الإخلاص في قراءته، ولا يكن ذلك الأمر مثبطًا له عن المضي في القراءة بخشوع وحضور قلب؛ فإن الشيطانَ يخوف العبدَ شاهرًا في وجهه سلاح الرياء، ليحمله على ترك العمل الصالح، فالمؤمن يقرأ ويحسن قراءته مبتغيًا بذلك وجه الله تعالى متوكلًا عليه، قائلًا لنفسه "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله عنهما"
(3)
، وما من أحد عمل عملاً إلا سار في قلبه سَوْرَتان
(4)
، فإذا كانت الأولى منهما لله فلا تَهيدَنَّه الآخرة.
(5)
.
قال ابن الأثير (ت: 606 هـ) رحمه الله:
المعنى: إذا أراد فعلًا وصحت نيته فيه فوسوس له الشيطان فقال: إنك تريد بهذا الرياء، فلا يمنعه ذلك عن فعله.
(6)
(1)
- يُنظر: شرح الحديث- الدرر السنية
(2)
- حاشية السندي على ابن ماجه: (1/ 403).
(3)
- رواه البيهقي في شعب الإيمان (6879) أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت علي بن بندار، يقول: سمعت عبد الله بن محمود، يقول: سمعت محمد بن عبد ربه، يقول: سمعت الفضيل، يقول: فذكره، وإسناده ضعيف.
(4)
- قال ابن الأثير في النهاية (2/ 420) سورة أي ثورة من حدة. ومنه يقال للمعربد سوار.
(5)
- رواه أبو عبيد، في غريب الحديث (4/ 451) قال: سمعت ابن عدي يحدث، عن عوف، عن الحسن البصري، قال: فذكره، وإسناده صحيح.
(6)
النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 286). النهاية في غريب الحديث والأثر المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفى: 606 هـ) الناشر: المكتبة العلمية - بيروت، 1399 هـ - 1979 م تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي عدد الأجزاء: 5.
فالإخلاص أن لا يكون للناس أي حظ من العبادة، ولا يترك المتعبد شيئًا منها لأجلهم.
(1)
، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة لا نسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئًا عظيمًا من مهمات الدين، وليس هذا طريق العارفين
(2)
. فليقبل العبد على ربه وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، كما قال ربنا العظيم:(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(النحل: 98 - 101).
إذًا فلا بد من استحضار النيَّة عند تلاوة القرآن، ولتكن تلاوته استجابةً لأمره سبحانه
القائل في كتابه الكريم: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (النمل: 91 - 92).
(1)
- يُنظر: شرح عمدة الأحكام لابن العطار (3/ 1719). العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام المؤلف: علي بن إبراهيم بن داود بن سلمان بن سليمان، أبو الحسن، علاء الدين ابن العطار (المتوفى: 724 هـ) وقف على طبعه والعناية به: نظام محمد صالح يعقوبي الناشر: دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1427 هـ - 2006 م عدد الأجزاء:3.
(2)
الأذكار، للنووي (ص: 10). الأذكار المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ) تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان طبعة جديدة منقحة، 1414 هـ - 1994 م.
مبحث: التخلية والتحلية عند قارئ القرآن
[*]
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أن يكون القارئ عاملًا بالقرآن، متصفًا بالتخلية متحلِّيًا بالتحلية
إن الأصل الدافع لهذا الضابط هو ما سنه الخليفة الراشد والصديق الأول أبو بكر رضي الله عنه حينا اختار "زيدًا" للقيام بمهمة الجمع الثاني فقال له: " إنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وقدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ"
(1)
فقوله: "لا نَتَّهِمُكَ" فيه معنى التخلية عن كل ما تركن إليه النفس، وكل ما تتهم به من الموانع القادحة كخوارم المروءة ومما يشين من الخلال والسمات غير الحميدة.
وقوله: "وقدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"، فيه معنى التحلية، وذلك لأن اختياره صلى الله عليه وسلم لزيد "كاتبًا للوحي" يُعد تزكية له من أعلى التزكيات، كما أن اعتماد الصديق لمنهج "التخلية والتحلية" في اختياره لزيد يُعد بذلك أول من سن في الإسلام سنة "شهادة الخبرة". بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، وبذلك تنعقد عليه الثقة وتطمئن إليه النفس.
وكما أن هذا الوصف الذي قد اجتمع في زيد في الجمع الأول، قد اعتمده وقرره الخليفة الثالث الراشد عثمان رضي الله عنه في الجمع الثالث في اختياره لزيد ليقوم بهمة الجمع الثالث، وفي ذلك إقرار لما أمضاه الصديق رضي الله عنه واعتمده في اختيار زيد رضي الله عنه.
(1)
-البخاري، التفسير: 4311، فضائل القرآن: 4603، الأحكام:6654.
(2)
- وقد فعل ذلك متأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك حين استأجر عبدالله بن أُرَيقط، وكان رجلًا مشركًا خريتًا ليدله على الطريق إلى المدينة؛ فقد روى البخاريُّ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ. الحديث رواه البخاري برقم (2264).
والخريت: الخبير بطرق الصحراء.
واستعماله صلى الله عليه وسلم لرجل له خبرة سابقة بمعرفة الطريق يُعد بما نسميه في عصرنا الحاضر بـ: "شهادة الخبرة".
[*](تعليق الشاملة): هذا المبحث ليس في المطبوع من المجلة وهو ثابت في المرسل إلينا من المؤلف - حفظه الله -
وهذا الوصف الذي اتصف به زيد يجب أن يتصف به كل من يقوم على في كل عهد من عهوده-كذلك-، وإن كان الوصف نسبيًا بين وصف الصحابي ووصف غيره. ولا شك أن الجمع الرابع" الجمع الصوتي" يندرج تحت مسمى "الجمع".
المطلب الثاني: موقف الصحابة رضي الله عنهم من العمل بالقرآن
لقد أنزلَ الله تعالى القرآنَ على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ليعلّمه أمته، وليكون منهاجًا لهم في حياتهم يتدارسونه ويعملون به، فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه.
فعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا.
(1)
قال السندي (ت: 1138 هـ) رحمه الله:
(حَزَاوِرَةٌ) جمع الحَزْوَر، ويقال له: الحزوَّر بتشديد الواو؛ هو الغلام إذا اشتد وقوي وحَزُم. كذا في الصحاح، وفي النهاية: هو الذي قارب البلوغ قوله: (فازددنا به) أي بسبب القرآن.
(2)
وفي نحو هذا الأدب يقول أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) رحمه الله:
أن يحرص قارئ القرآن على أن يعمل بما قرأه من القرآن الكريم في حياته الدنيا حتى تكون التلاوة حجة له يوم القيامة وليست حجة عليه".
(3)
وهذه هي الحال التي وصفها ابن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما بقوله:
لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ.
(4)
..
(5)
(1)
- رواه ابن ماجه (61)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه (1/ 37 - 38).
(2)
- حاشية السندي (1/ 31).
(3)
- فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 51، 75)، البرهان (1/ 449: -474). فضائل القرآن: المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224 هـ) تحقيق: مروان العطية، ومحسن خرابة، ووفاء تقي الدين الناشر: دار ابن كثير (دمشق - بيروت) الطبعة: الأولى، 1415 هـ -1995 م.
(4)
-بفتح الدال المهملة بعدها قاف مفتوحة وهو رديء التمر ويابسه وما ليس له اسم خاص وقيل: هو أردأ التمر، غريب الحديث لإبراهيم الحربي (2/ 889) والنهاية لابن الأثير (2/ 172).
(5)
- رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (4/ 84)، رواه الحاكم في المستدرك (1/ 35)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً، ووافقه الذهبي، وصححه ابن منده في " الإيمان "(106)، والهيثمي في " مجمع الزوائد "(1/ 170).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ) رحمه الله: -
الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردةً عن ألفاظِه بألفاظٍ أُخَر، كما قال جُندب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عمر: تعلَّمنا الإيمانَ ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا إيمانًا. فكان يُعلِّمهم الإيمانَ، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبَر عنه المتلقَّى بالطاعة والتصديق، وهذا حق، فإن حفاظ القرآن كانوا أقلَّ من عموم المؤمنين.
(1)
ولقد أسهم تقدم الإيمان على حفظ القرآن في جيل الصحابة، وذلك لأنه كان من أول القرآن نزولًا في العهد المكي هو "سور المفصّل" التي تركز على قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر وتؤسس الجانب العقدي الذي بُنِي عليه أس الإسلام، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يُطْلِق على سور المفصّل "لباب القرآن". "لأنه فصل فيها ما أجمل في غيره".
(2)
فعن عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، قالت: " إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ، نَزَلَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ:(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)(القمر: 46) وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ.
(3)
وروى الإمام مالك في "موطئه" عن يحيى بن سعيد القطان، أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لإنسان: إِنَّكَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَيُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاةَ، وَيُقْصِرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، يُبْدُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَل، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ الْخُطْبَةَ، وَيُقْصِرُونَ الصَّلاةَ، وَيُبْدُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ.
(4)
(1)
-جواب الاعتراضات المصرية (ص: 12). جواب الاعتراضات المصرية علي الفتيا الحموية، ط .... عزير شمس; الناشر: مجمع الفقه الإسلامي - جدة; عدد المجلدات 1.
(2)
مرعاة المفاتيح، كتاب فضائل القرآن (7/ 254). مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المؤلف: أبو الحسن عبيد الله بن محمد عبد السلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام الدين الرحماني المباركفوري (المتوفى: 1414 هـ) الناشر: إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء - الجامعة السلفية - بنارس الهند الطبعة: الثالثة - 1404 هـ، 1984 م.
(3)
- رواه البخاري (4993).
(4)
موطأ مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة (1/ 598). الموطأ المؤلف: مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179 هـ) المحقق: محمد مصطفى الأعظمي الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي - الإمارات الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م عدد الأجزاء:8.
إنما عظُم فيهم من جمع بعض سور القرآن، لما كان من شأنهم العمل بالقرآن، ولذا يقول أنس رضي الله عنه:"كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا".
(1)
، يعني: عظُم شأنه وارتفع قدره فينا، لعمله بمقتضى ما حفظ.
ويؤكد ابن عمر رضي الله عنهما هذا المعنى فيقول:
كان الفاضل من أصحاب رسول الله في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به.
(2)
وتحقيقًا لهذا المطلب الأسنى تراهم يتأخرون جدًا في حفظ السورة من القرآن، و ليس هذا من باب العجز عن الحفظ أو قصورًا في ذلك، وإنما لانشغالهم بالعمل بما دلت عليه آيات تلك السورة، فمن ذلك ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تعلم عمر رضي الله عنه البقرة في اثنتي عشرة سنة، لما ختمها نحر جزورًا.
(3)
فهذا الأثر يبين أن طول مكث عمر رضي الله عنه في تعلم سورة البقرة ليس من باب العجز أو الكسل أو التراخي-وحاشاه- ومن هو في فضله ومكانته وسبقه في كل خير وبر- وإنما لأن العلم بالقرآن عندهم اقترن بالعمل به.
وها هو ابن مسعود (ت: 32 هـ) رضي الله عنه يؤكد نفس المعنى فيقول:
إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به.
(4)
(1)
- تفسير البغوي: (8/ 238). معالم التنزيل في تفسير القرآن، المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ عدد الأجزاء: 5
(2)
تفسير القرطبي (1/ 39). الجامع لأحكام القرآن، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671 هـ) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، 1384 هـ - 1964 م عدد الأجزاء: 20 جزءا (في 10 مجلدات).
(3)
-أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: (3/ 346)، وينظر: تفسير القرطبي: (1/ 40).
(4)
- أخلاق أهل القرآن للآجري (ص: 10) أخلاق أهل القرآن المؤلف: أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي (المتوفى: 360 هـ) حققه وخرج أحاديثه: الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف بإشراف المكتب السلفي لتحقيق التراث الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1، ويُنظر: تفسير القرطبي (1/ 40).
المطلب الثالث: أثر القرآن في نفوس الصحابة رضي الله عنهم
-
عن أسماء بنت أبي بكر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما قالت:
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم وتُقَشعِرُّ جلودهم.
(1)
، وهم كذلك كما وصف الله أولياءه في قوله سبحانه:(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(الزمر: 23).
قال ابن منظور (ت: 711 هـ) رحمه الله: القُشَعْرِيرة: الرِّعْدَة.
(2)
قال ابن كثير (ت: 774) رحمه الله:
قَوْلُهُ: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَبَّارِ، الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لِمَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) لِمَا يَرْجُونَ ويُؤمِّلون مِنْ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ سَمَاعَ هَؤُلَاءِ هُوَ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ، وَسَمَاعُ أُولَئِكَ نَغَمات لِأَبْيَاتٍ، مِنْ أَصْوَاتِ القَيْنات.
(3)
(1)
-أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره: (18383) تفسير ابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم: المؤلف: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: 327 هـ) المحقق: أسعد محمد الطيب الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية الطبعة: الثالثة - 1419 هـ، و يُنظر: تفسير القرطبي: (15/ 249).
(2)
- لسان العرب، لابن منظور (5/ 95). لسان العرب المؤلف: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 هـ عدد الأجزاء: 15.
(3)
القَيْنات: بفتح القاف، وسكون التحتية: أي الإماء المغنيات.، يُنظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للتبريزي، كتاب الفتن، باب أشراط الساعة (1/ 78).
الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيَّا، بِأَدَبٍ وَخَشْيَةٍ، وَرَجَاءٍ وَمَحَبَّةٍ، وَفَهْمٍ وَعِلْمٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ الْأَدَبَ عِنْدَ سَمَاعِهَا، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عِنْدَ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ مَعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. لَمْ يَكُونُوا يتصارخُون وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَا لَيْسَ فِيهِمْ، بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَدَبِ وَالْخَشْيَةِ مَا لَا يَلْحَقُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا فَازُوا بالقِدح المُعَلّى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ، رحمه الله:(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) قَالَ: " هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ، وَتَبْكِيَ أَعْيُنُهُمْ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا هَذَا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ".
(1)
المطلب الرابع: موقف التابعين رحمهم الله من العمل بالقرآن
كما كان الأمر كذلك في جيل التابعين، وفي ذلك يقول الحسن البصري رحمه الله:
إن هذا القرآن قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قِبَل أوله. قال الله تعالى-:(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(ص: 29)، وما تدبُّر آياته إلا اتِّباعُه؛ ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله، فما أسقط منه حرفًا وقد- والله - أسقطه كله؛ ما ترى القرآن له في خلق ولا عمل وحتى عن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كانت القراء تقول مثل هذا؟ لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء.
(2)
(1)
تفسير ابن كثير: (7/ 55 - 56)، تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) المحقق: سامي بن محمد سلامة الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، عدد الأجزاء:8.، وينظر: تفسير القرطبي (12/ 59).
(2)
- مختصر قيام الليل، للمروزي، ص (176) مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي (المتوفى: 294 هـ) اختصرها: العلامة أحمد بن علي المقريزي الناشر: حديث أكادمي، فيصل اباد - باكستان الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1988 م عدد الأجزاء: 1، والزهد لابن المبارك، ص (274). الزهد والرقائق لابن المبارك (يليه «مَا رَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي نُسْخَتِهِ زَائِدًا عَلَى مَا رَوَاهُ الْمَرْوَزِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ») المؤلف: أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التركي ثم المرْوزي (المتوفى: 181 هـ) المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت عدد الأجزاء: 1.
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله فيما يرويه عن بعض السلف:
نزل القرآن ليُعمَل به فاتَخَذوا تلاوته عملاً؛ ولهذا كان أهل القرآن هم العاملون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم.
(1)
(1)
- زاد المعاد، لابن القيم (1/ 323).
المبحث الثالث: أهم الضوابط العملية التي يجب مراعاتها عند تسجيل القرآن
وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: مراعاة عموم أحكام التجويد عند تسجيل القرآن
إن قراءة القرآن مع مراعاة أحكام التجويد من أوجب ما يجب على القارئ العناية به ولا سيما عند تسجيل القرآن، والذي سيبقى إلى ما شاء الله، والذي سيستمع إليه- كذلك- من شاء الله من عباده من لا يحصيهم كثرة إلا هو سبحانه.
قال ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله في "النشر":
فالتجويد مصدر من جَوَّدَ تجويدًا .... فهو عندهم عبارة عن الإتيان بالقراءة مجودة الألفاظ بريئة من الرداءة في النطق، ومعناه انتهاء الغاية في التصحيح وبلوغ النهاية في التحسين، ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم أفصح
من نطق العربية
(1)
التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها. والناس في ذلك بين محسن مأجور ومسيء آثم أو معذور، فمن قدر على تصحيح كلام الله باللفظ الصحيح العربي الفصيح وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح استغناء بنفسه واستبدادا برأيه وحدسه واتكالًا على ما ألف من حفظه واستكبارًا عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه فإنه مقصر بلا شك وآثم بلا ريب وغاش بلا مرية.
(2)
. غير إنه يجب أن يراعى عدم التكلف والتعسف في القراءة والمبالغة في إقامة حروف القرآن والتعسف والتكلف والتقعر في النطق بها، وهذا التعسف والتكلف نهى عنه المعصوم صلى الله عليه وسلم عمومًا فقال:" هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ" قَالَهَا ثَلَاثًا.
(3)
والمُتَنَطِّعُونَ: المُتَعَمِّقُون، الغَالُونَ، المُجَاوِزُونَ الحُدَودَ في أقْوَالِهِم وأفْعَالِهِم.
وقال العَلاَّمَةُ، شَيْخُ القُرَّاءِ وَالأُدَبَاءِ، أبو الحسن عَلَمُ الدِّيْنِ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ السَّخَاوي (ت: 643 هـ): رحمه الله في مَطْلَعِ قَصِيدَتِهِ الموسومة بـ: (عُمْدَةُ المُفِيدِ وَعُدّةُ الْمُجِيد في مَعْرِفَةِ التَّجْويدِ)
(4)
يَا مَنْ يَرُومُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَيَرُودُ شَأْوَ أَئِمَّةِ الإِتْقَانِ
لَا تَحْسَبِ التَّجْوِيدَ مداًّ مُفْرِطًا أَوْ مَدَّ مَا لا مَدَّ فِيهِ لِوَانِ
أَوْ أَنْ تُشَدِّدَ بَعْدَ مَدٍّ هَمْزَةً أَوْ أَنْ تَلُوكَ الْحَرْفَ كَالسَّكْرَانِ
أَوْ أَنْ تَفُوهَ بِهَمْزَةٍ مُتَهَوِّعًا فَيَفِرّ سَامِعُهَا مِنَ الْغَثَيَانِ
لِلْحَرْفِ مِيزَانٌ فَلَا تَكُ طَاغِيًا فِيه وَلَا تَكُ مُخْسِرَ الْمِيزَانِ.
وهذا التكلف في إقامة حروف القرآن، يشغل عن الهدف الأسمى والمطلب الأسنى الذي أُنزل القرآن من أجله، ألا وهو: تدبر آياته، والعمل به، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه وحفظ حدوده وإقامتها كما أمر الله فيه.
(1)
هي في الأصل هكذا "الحضرة النبوية الأفصحية"، وهذه ألفاظ لم يدرج عليها كلام السلف، وإنما هي أقرب لكلام المتصوفة الذين يعتقدون حضوره صلى الله عليه وسلم مجالسهم.
"ويطلق (الدراويش) على الحفلات الدينية التي يحيونها بانتظام، كل يوم من أيام الجمعة: اسم (الحضرات). يُنظر: دائرة المعارف الإسلامية (15/ 140).
(2)
- النشر في القراءات العشر (1/ 210 - 213). بتصرف يسير. النشر في القراءات العشر المؤلف: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833 هـ) المحقق: علي محمد الضباع (المتوفى 1380 هـ) الناشر: المطبعة التجارية الكبرى [تصوير دار الكتاب العلمية] عدد الأجزاء: 2.
(3)
- رواه مسلم (2670).
(4)
- وعمدة المفيد منها نسخ مخطوطة كثيرة، منها: نسخة الظاهرية 3 (83 - 85) فهرس الظاهرية 1/ 222 - 224، 7659 (45 - 47).
وقالَ ابنُ الجَزَرِيِّ رحمه الله (ت: 833 هـ) في مُقَدّمتِهِ:
مُكَمِّلاً مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ بِاللُّطْفِ فِي النُّطْقِ بِلَا تَعَسُّفِ.
(1)
المطلب الثاني: عدم التكلف والتعسُّف عند القراءة
وفي وصف القراءة الصحيحة يقول مَكِّي بْنُ أَبِي طالبٍ القيسي (ت: 437 هـ) رحمه الله:
يجب على القارئ أن يتَوسَّطَ اللفظَ بها، ولا يتعسَّف في شِدَّة إخراجها إذا نَطَق بها، لكنْ يخرِجها بلطافةٍ ورِفْق، لأنها حرْفٌ بَعُد مَخْرَجه، فصَعُب اللفظُ بها لصعوبته.
(2)
يقول ابن الجزري رحمه الله:
فليسَ التجويدُ: بتمضيغ اللِّسَان، ولا بتقعيرِ الفَمِ ولا بتعويج الفكّ، ولا بترعيد الصوتِ، ولا بتمطيط المشدد، ولا بتقطيع المَدِّ، ولا بتطنين الغُنَّات، ولا بحصرَمة الرَّاءات، قِراءةً تنفر منها الطِباعُ، وتمُجُّها القلوبُ والأسماعُ، بل القراءة السهلةُ، العذبةُ، الحلوة اللطيفة، التي لا مَضْغَ فيها، ولا لَوكَ ولا تعَسُّفَ، ولا تكلُّف، ولا تصنُّعَ، ولا تنطُّعَ، ولا تخرج عن طباعِ العرب، وكلامِ الفصحاء بوجْهٍ من وجوه القراءاتِ والأداء.
فالتجويد: هو حلية التلاوة وزينة القراءة وهو اعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها ورد الحرف إلى مخرجه وأصله وإلحاقه بنظيره وتصحيح لفظه وتلطيف النطق به على حال صيغته وكمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف
…
ثم يقول رحمه الله أيضًا:
وهذه سنة الله تبارك وتعالى فيمن يقرأ القرآن مجودًا مصححًا كما أنزل تلتذ الاسماع بتلاوته وتخشع القلوب عند قراءته حتى يكاد أن يسلب العقول ويأخذ بالألباب؛ سر من أسرار الله تعالى يودعه من يشاء من خلقه؛ ولقد أدركنا من شيوخنا من لم يكن له حسن صوت ولا معرفة بالألحان إلا أنه كان جيد الأداء قيمًا باللفظ فكان إذا قرأ أطرب المسامع وأخذ من القلوب بالمجامع وكان الخلق يزدحمون عليه ويجتمعون على الاجتماع إليه ....... مع تركهم جماعات من ذوي الأصوات الحسان عارفين بالمقامات والألحان لخروجهم عن التجويد
(1)
- مقدمة ابن الجزري، باب التجويد، البيت رقم:(32).
(2)
- الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، لمَكِّي بْنُ أَبِي طالبٍ القيسي (ص: 145). الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة: تأليف: مكي بن ??ابي طالب بن حيوس بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الاندلسي القرطبي- تحقيق: أحمد حسن فرحات، سنة النشر: 2018 م، ط: 1، الناشر: دار ابن كثير - دمشق - سوريا، عدد المجلدات:1.
والإتقان ...... وأما اليوم فهذا باب أغلق وطريق سد نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من قصور الهمم ونفاق سوق الجهل في العرب والعجم.
(1)
وفي نحو ذلك يقول أبو شامة المقدسي (ت: 665 هـ): رحمه الله:
لم يبق لمعظم من يطلب القرآن العزيز هِمَّة إلَّا في قوة حفظه، وسرعة سرده، وتحرير النطق بألفاظه، والبحث عن مخارج حروفه، والرغبة في حسن الصوت به، وكل ذلك وإن كان حسنًا ولكن فوقه ما هو أهم وأتم وأولى وأحرى، وهو فهم معانيه، والتفكر فيه، والعمل بمقتضاه، والوقوف عند حدوده، وثمرة خشية الله تعالى من حسن تلاوته.
(2)
ويحذر ابن الجوزي (ت: 597 هـ) من هذا التكلف المذموم فيصف قراءة بعض المصلين ويقول رحمه الله تعالى:
وقد لبس إبليس عَلَى بعض المصلين فِي مخارج الحروف فتراه يَقُول: الحمد الحمد. فيخرج بإعادة الكلمة عَنْ قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عَلَيْهِ فِي تحقيق التشديد وتارة فِي إخراج ضاد المغضوب، ولقد رأيت من يَقُول المغضوب فيخرج بصاقة مَعَ إخراج الضاد؛ لقوة تشديده، وإنما المراد تحقيق الحرف فحسب وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عَنْ فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس.
(3)
قَالَ العلامة المقرئ أبو الحسن على بن مُحَمَّد النوري الصفاقيسي رحمه الله (ت: 1118 هـ):
وقد كان العالمون بصناعةِ التجويد يَنْطِقُونَ بها سَلِسَةً، سهلةً برفْقٍ، بلا تعَسُّف، ولا تكلُّف، ولا نبرةٍ شديدةٍ، ولا يتمكن أحدٌ من ذلك إلا بالرياضةِ، وتلقِّي ذلك من أفواه أهلِ العِلْم بالقراءة.
(4)
وفي ذكر أصناف المغرورين من أرباب العبادة والعمل يقول أبو حامد الغزَّالي (ت: 505 هـ) رحمه الله:
وفرقةٌ أخرى: تغلبُ عليهم الوسوسةُ في إخراجِ حروفِ الفاتحةِ وسائرِ الأذكارِ من مخارجِها، فلا يزالُ يحتاطُ في التشديدات والفرقِ بينَ الضاد والظاء، وتصحيح مخارج الحروفِ في جميعِ صلاتِه، لا يهمُّه غيرُه، ولا يتفكرُ فيما سواه، ذاهلًا عن معنى القرآنِ والاتعاظِ به وصرفِ الفهمِ إلى أسرارِه، وهذا من أقبحِ أنواع الغرورِ، فإنه لم يُكَلَّف الخلقُ في تلاوةِ القرآنِ من تحقيقِ مخارج الحروفِ إلا بما جَرَت به عادتُهم في الكلامِ.
ومثال هؤلاء: مثالُ من حملَ رسالةً إلى مجلسِ سلطانٍ وأُمِرَ أن يؤديها على وجهِها، فأخذَ يؤدي الرسالةَ وتأنقَ في مخارج الحروفِ ويكررُها ويعيدُها مرةً بعد أخرى، وهو في ذلك غافلٌ عن مقصودِ الرسالةِ ومراعاةِ حرمةِ المجلسِ، فما أحراه بأن تُقام عليه السياسة ويُرَدُّ إلى دارِ المجانين ويُحكم عليه بفقدِ العقلِ)
(5)
.
وقال الحافظ الذهبي (ت: 748 هـ) رحمه الله:
فالقرَّاءُ المجوِّدَةُ: فيهم تنطعٌ وتحريرٌ زائدٌ يؤدي إلى أن المجودَ القارئَ يبقى مصروفَ الهمةِ إلى مراعاةِ الحروفِ والتنطع في تجويدِها، بحيثُ يشغلُه ذلك عن تدبرِ معاني كتابِ اللهِ تعالى، ويصرفه عن الخشوعِ في التلاوةِ، ويخلِّيه قوي النفس مزدريًا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر إليهم بعين المقت، وبأن المسلمين يلحنون، وبأن القرَّاءَ لا يحفظون شواذَّ القراءةِ، فليتَ شِعري أنت ماذا عرفتَ وما عملتَ؟! فأما علمُك فقيرٌ صالحٌ، وأما تلاوتُك فثقيلةٌ عريةٌ من الخشيةِ والحزنِ والخوفِ، فاللهُ تعالى يوفِّقُكَ ويُبَصِّرُكُ رُشْدَكَ، يوقظك من مرقدةِ الجهلِ والرياءِ.
وضدُّهم قراءُ النغمِ والتمطيطِ، وهؤلاء من قرأ منهم بقلبٍ وخوف قد يُنتفع به في الجملة، فقد رأيتُ منهم من يقرأ صحيحًا
(1)
-يُنظر: النشر في القراءات العشر (1/ 165)، اللآلئ السنية شرح المقدمة الجزرية (ص: 69).
(2)
المرشد الوجيز (ص: 421). المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665 هـ) المحقق: طيار آلتي قولاج، الناشر: دار صادر - بيروت سنة النشر: 1395 هـ - 1975 م عدد الأجزاء: 1.
(3)
- تلبيس إبليس، لابن الجوزي (1/ 126). تلبيس إبليس المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان الطبعة: الطبعة الأولى، 1421 هـ/ 2001 م عدد الأجزاء:1.
(4)
- تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين، للصفاقسي (ص: 47). تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عما يقع لهم من الخطأ حال تلاوتهم لكتاب الله المبين المؤلف: علي بن محمد بن سالم، أبو الحسن النوري الصفاقسي (المتوفى: 1118 هـ) المحقق: محمد الشاذلي النيفر الناشر: مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله عدد الأجزاء: 1.
(5)
-الإحياء، الغزالي، (3/ 510).
ويطربُ ويبكي، ورأيتُ منهم من إذا قرأَ قسَّى القلوبَ وأبرمَ النفوسَ وبدل كلام اللهِ، وأسوأُهم حالًا "الجنائزية".
(1)
وأما القراءة بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيءٍ على التلاوة بما يُخرِج عن القصد، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراءات، اقرأ يا رجل وأعفنا من التغليظ والترقيق، وفرط الإمالة والمدود، ووقوف حمزة، فإلى كم هذا؟!
وآخر منهم: إن حضر في ختم أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت والتهوع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أنا "أبو
…
اعرفوني، فإني عارف بالسبع"، إيش نعمل بك؟! لا وصبحك الله بخير، إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة.
(2)
.
[وعلى هذا المعنى جاء كلامُ غيرهم من أهل العلم، فهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يقول وهو يذكر مكائد الشيطان على الإنسان: ومنْ ذلك: الوسوسةُ في مخارج الحروفِ، والتنطع فيها
…
ومنْ تأملَ هديَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وإقرارَه أهلِ كلِّ لسانٍ على قراءتِهم؛ تبيَّنَ له أن التنطعَ والتشدقَ والسوسةَ في إخراجِ الحروفِ ليس من سنته
(3)
]
[*]
.
المطلب الثالث: مرعاة صحة الأداء
وخاتمة هذا المبحث لريحانة الأداء الشيخ محمود خليل الحصري (ت: 1400 هـ) حيث يقول رحمه الله عن صحة الترتيل:
الترتيل: وهو تجويد كلماته، وتقويم حروفه، وتحسين أدائه، بإعطاء كل حرفٍ حقَّه، ومنحه مستحقَّه من الإجادة والإتقان، والتحقيق والإحسان.
ولا يكون ذلك إلا بتصحيح إخراج كلِّ حرفٍ من مخرجه الأصلي المختصِّ به، تصحيحًا يمتاز به عن مُقارِبِه، وتَوْفِيَة كلِّ حرفٍ صفته المعروفة به توفيةً تُخرجه عن مجانِسه، مع تيسير النطق به على صفته الحقيقية، وهيئته القرآنية.
ومع العناية بإبانة الحروف، وتمييز بعضها من بعض، وإظهار التَّشديدات، وتحقيق الهَمَزات، وتوفية الغُنَّات، وإتمام الحركات، والإتيان بكلٍّ من الإظهار والإدغام والقَلْب والإخفاء على حقيقته التي وردت عن أئمَّة القرآن.
ومع تفخيم ما يجب تفخيمه من الحروف، وترقيق ما يجب ترقيقه منها، وقَصْر ما ينبغي قَصْرُه، ومَدِّ ما يتعين مدُّه، ومع ملاحظة الجائز من الوقوف، والممنوع منه؛ ليوقَفَ على ما يصحُّ الوَقْف عليه، ويوصَلَ ما لا يصحُّ الوَقْف عليه.
ثم هو يحذر من التعسف والتشدق فيقول: على أن يكون ذلك كله من غير تشدُّق ولا إسراف، ولا تصنُّع ولا اعتساف، ولا خروج عن الجادَّة إلى حدِّ الإفراط الذي قد
(1)
-الجنائزية: نسبة إلى الجنائز، لعله يقصد القراء الذين يقرءون القرآن على الجنائز بالألحان المحرمة على ما سبق بيانه، والله أعلم.
(2)
بيان زغل العلم بالطلب، الذهبي، ص (4 - 5)، طبعة المقدسي، ويُنظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد (ص: 24 - 25). بدع القراء القديمة والمعاصرة، المؤلف: بكر بن عبد الله أبو زيد، الناشر: دار الفاروق، سنة النشر: 1410 - 1990، ط: 1، عدد المجلدات:1.
(3)
إغاثة اللهفان، ابن القيم، (1/ 252، 254). إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) المحقق: محمد حامد الفقي الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية عدد الأجزاء:2.
، ويُنظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد، ص (10). للاستزادة يُنظر: بدعة التنطع بالقراءة والوسوسة في مخارج الحروف والبعد عن التدبر والتأمل، محمد بن عبدالله المقدي، مركز إحسان للاستشارات التربوية
[*](تعليق الشاملة): مابين المعكوفين ليس في المطبوع من المجلة وهو ثابت في المرسل إلينا من المؤلف - حفظه الله -
ينشأ عنه تحريك السواكن، وتوليد الحروف، وتكرير الراءات، وتطنين النونات بالمبالغة في الغنَّات، إلى غير ذلك مما ينفر منه الطَّبْع السليم، ويأباه الذَّوْق المستقيم.
ثم هو يحذر القارئ من الإسراع والعَجَلَة في القراءة، ويوجه إلى التؤدة والاطمئنان فيقول رحمه الله:
وعلى أن يكون ذلك كلُّه - أيضًا - في تؤدةٍ وطمأنينةٍ، وبُعْدٍ عن الإسراع والعَجَلَة.
وهذه الكيفيَّة هي التي نزل بها القرآن الكريم، وهي المرادة من الترتيل الذي أمر الله به نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:(وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً)(المزمل: 4).
(1)
المطلب الرابع: القراءة بتؤدة واطمئنان
وهذا الضابط من الأهمية بمكان لتفادي أي لحن خفي، إذ إن الكثير من القراء المعاصرين لهم اختلاسات واضحة وجلية تظهر لأهل التحقيق والتدقيق من أئمة الأداء وسادة الإقراء لأول وهلة، وذلك يرجع غالبًا للهجة القارئ ومنشئه، إذ اللهجات المحلية لبعض البلدان والقبائل يغلب عليها اختلاس بعض حركات الحروف كما هو معروف.
والمطلوب من قارئ القرآن هو القراءة بتؤدة واطمئنان وترسل وتمهل مع العناية بتبيّن الحروف، مع عدم العجلة المخلة بالقراءة؛ كما قال الله تعالى:(ورتّل القُرآنَ تَرتِيْلاً)(المزمل: 4)
والترتيل كما هو معلوم تبيين الحروف وإظهارها، ولا يكون ذلك إلا بإخراجها من مخارجها.
قال الزجاج (ت: 311 هـ) رحمه الله:
رتّل القرآن ترتيلًا، بينه تبيينًا، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع.
(2)
وقال ابن الجزري (ت: 833 هـ) رحمه الله:
الترتيل مصدر من رتل فلان كلامه؛ إذا أتبع بعضه بعضًا على مكث
…
قال صاحب العين: "رتلت الكلام: تمهلت فيه.
(3)
ومراتب القراءة وإن كان قد قال عنها بعض أهل التجويد أنها أربعة مراتب من جهة الإسراع والبطء، وهي:"التحقيق، والتدوير، والترتيل، والحدر"
(4)
، والبعض
(1)
أحكام قراءة القرآن الكريم، للشيخ محمود خليل الحصري (ص: 389). أحكام قراءة القرآن الكريم- محمود خليل الحصري المتوفى سنة 1401 هـ، تحقيق محمد طلحة بلال، جماعة تحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م.
(2)
- يُنظر: تفسير الفخر الرازي (16/ 107).
(3)
- التمهيد، لابن الجزري (1/ 59).
(4)
- كـ "القسطلاني" في اللآلئ السنية ص 52.
قد جعلها ثلاثًا: (الترتيل، والتدوير، والحدر)
(1)
ومنشأ الخلاف بين هذه الأقوال يرجع إلى مرتبة "التحقيق"، فالبعض يجعلها مع الترتيل مرتبة واحدة، كالإندرابي في " الإيضاح"، والبعض يجعل الترتيل صفة من صفات التحقيق، كالداني في "التحديد"
(2)
، ومنهم من يجعله مرتبة مستقلة، كالقسطلاني في "اللآلئ السنية"
(3)
، والبعض يرى أن الترتيل هو الأصل وباقي المراتب تندرج تحته وتنبثق عنه فالترتيل يندرج تحته التحقيق والحدر والتدوير.
قال ابن الجزري رحمه الله في "النشر: "
فإن كلام الله تعالى يقرأ بالتحقيق وبالحدر وبالتدوير الذي هو التوسط بين الحالتين مرتلاً مجودًا بلحون العرب وأصواتها وتحسين اللفظ والصوت بحسب الاستطاعة ..... ثم شرع في الكلام على كل مرتبة على حدة الى أن قال: عن التحقيق: وهو نوع من الترتيل .... وقال أيضًا: فالتحقيق داخل في الترتيل كما قدمنا والله أعلم.
(4)
والخلاصة
أن كلّ من يقرأ بهذه المراتب الثلاث هو في الحقيقة مرتلٌ للقرآن كما أمر الله، ما دام يقرأه كما أمره الله بأحكامه التي أُخِذَت مشافهة ونقلت بالتواتر، وهو في ذلك مؤتمرٌ بقوله تعالى:(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)(المزمل: 4)، فالمراتب الثلاث الأخرى يقرأ فيها القارئ بأحكام التجويد، غير أنها تتباين فيما بينها حسب حال القارئ والمقام المقتضي للقراءة سرعة وبطأ. فقد يكون القارئ في موطن يريد فيه أن يسرع شيئًا ما، كمن يريد المراجعة وضبط المحفوظ مثلًا، أو أن يكون في صلاة التهجد في رمضان أو غيره فيُسرع مع إعطاء الحروف حقها ومستحقها، وفي موطن آخر يريد فيه أن يبطئ شيئًا ما، كمن يقرأ بتدبر وتمعن في معاني الآيات التي يتلوها، وقد يكون في مقام التعليم والتلقين فيحتاج لبطء القراءة أكثر ليجلي صفات الحروف ومخارجها وحركاتها وأحكام التلاوة للمتعلمين بصورة جلية فيقرأ بمرتبة التحقيق، وقد يريد القارئ أن يقرأ لنفسه فيكون أسرع قليلًا وهكذا.
(1)
- كـ "الإندرابي" في الإيضاح ص 290.
(2)
-يُنظر: التحديد للداني ص 69. التحديد في الإتقان والتجويد المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني (المتوفى: 444 هـ) المحقق: الدكتور غانم قدوري حمد الناشر: مكتبة دار الأنبار - بغداد/ ساعدت جامعة بغداد على طبعه الطبعة: الأولى 1407 هـ - 1988 م عدد الأجزاء: 1.
(3)
-يُنظر: اللآلئ السنية للقسطلاني ص 52.
(4)
النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (1/ 205).
يقول أبو عمرو الداني (ت: 444 هـ) رحمه الله في "التحديد":
الترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط، والتحقيق لرياضة الألسن وترقيق الألفاظ الغليظة وإقامة القراءة وإعطاء كل حرف حقه.
(1)
ففي هذه المراتب كلها يقرأ القارئ بتؤدة واطمئنان، مسرعًا كان، أو متوسطًا في سرعته في التلاوة، أو كان يقرأ بين ذلك، وهذا يعتمد على المقام الذي يقرأ فيه
(2)
، كما يعتمد على مهارة القارئ ورياضة لسانه وكثرة دربته وتمرسه مع القراءة، وجميع تلك المراتب يجب أن يعتني فيها القارئ بأحكام التجويد.
فمراتب القراءة إذًا تعود في هذه المسألة حسب المصلحة الشرعية لما يتلوه القارئ.
وفي نحو ذلك يقول ابن الجزري- رحمه الله في "النشر ":
لا أعلم سببًا لبلوغ نهايةِ الإتقان والتجويد، ووصول غاية التصحيح والتشديد - مِثل رياضة الألسُن، والتكرار على اللفظ المتلقِّي من فم المحسن.
(3)
وأما مساواة وضبط مقادير المدود، والغنن، ومرعاة مراتب التّفخيم والتّرقيق الخ، فإنه أمرٌ لابد فيه من التلقي والضبط والعرض بالمشافهة على أهل الإتقان من أئمة الإقراء، مع وجوب العناية بهذا الجانب لأنه مع مكانته وقدره، فهو كذلك من حلية التلاوة، ومع المشافهة والتلقي لابد من الدربة والمران والرياضة حتى يصبح هذا الجانب سجية في تلاوة القارئ.
المطلب الخامس: عناية القارئ بالوقف والابتداء
إن علم الوقف والابتداء من أجلِّ علوم القرآن المتعلقة بإيضاح وجوه معاني القرآن، وهو من أهم العلوم التي يستعان بها على فهم مراد الله من كلامه سبحانه، ولا شك في أن اعتماد علماء الوقف والابتداء في وضع تلك العلامات المعروفة والمشاهدة في المصاحف، إنما بُنِيَ على التأمل في معاني آي القرآن، بحيث يقف القارئ ويبتدئ على حسب ما تقتضيه المعاني والألفاظ التي يحسن الوقوف عليها أو الابتداء بها، ولا شك أن مراعاة تلك العلامات والالتزام بها يُعد من أجَلِّ الأسباب المعينة على فهم كلام الله وتدبر آياته، وإنما قد أُخِذ اعتمادها من
(1)
- يُنظر: التحديد للداني، ص 72
(2)
- يعني تعليمًا، أو تلاوة مراجعة لضبط المحفوظ، أو قراءة يحتاج فيها لإسراع في القراءة لكثرة ما يقرأه كحال القيام في رمضان وغيره- ونحو ذلك من المقامات والأحوال التي يتعرض لها القارئ.
(3)
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (1/ 210 - 215).
المنقول والمعقول.
وفي نحو ذلك يقول علم الدين السخاوي رحمه الله:
ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دونه العلماء تبيين معاني القرآن العظيم وتعريف مقاصده وإظهار فوائده، وبه يتهيأ الغوص على درره وفرائده.
(1)
وقال ابن النَّكْزَاوي
(2)
:
باب الوقف عظيم القدر، جليل الخطر؛ لأنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل ..
(3)
وقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ (ت: 926 هـ) رحمه الله:
من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء؛ إذ لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن إلَّا بمعرفة الفواصل، فهذا أدل دليل على وجوب تعلمه وتعليمه.
(4)
وهذا العلم، علمٌ دقيق رقيقٌ قلَّ مَنْ يُتْقِنَه ونَدُرَ من يُحسنهُ، فكثيرًا ما تسمع من بعضِ القراء وقفًا قبيحًا مغايرًا للمعنى المراد، فيُكَدِّرُ سمعك ويُحْزِنُ قلبك.
لذا ينبغي على قارئ القرآن الاهتمام بضبطُ قواعدِ الوقفِ والابتداءِ الكليةِ والعناية بمواضعها الدقيقة، لما يترتب من جراء ذلك من تولد المعاني الصحيحة التي وضعت علامات الوقف والابتداء في المصاحف من أجل تحصيلها.
(5)
(1)
-جمال القراء (ص: 553). جمال القراء وكمال الإقراء المؤلف: علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري الشافعي، أبو الحسن، علم الدين السخاوي (المتوفى: 643 هـ) تحقيق: د. مروان العطيَّة - د. محسن خرابة الناشر: دار المأمون للتراث - دمشق - بيروت الطبعة: الأولى 1418 هـ - 1997 م عدد الأجزاء: 1.
(2)
- معين الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن أبي زيد الأنصاري المدني أصلاً ثم الإسكندراني المصري، المعروف بالنَّكْزَاويّ (612 - 683 هـ). يُنظر: غاية النهاية 1: 452 وحسن المحاضرة 1: 288، وتُنظر: ترجمته في: الإعلام للزركلي.
(3)
- يُنظر: الإتقان، للسيوطي:(1/ 230). الإتقان في علوم القرآن المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة: 1394 هـ/ 1974 م عدد الأجزاء: 4.
(4)
منار الهدى في بيان الوقف والابتداء (1/ 13). منار الهدى في بيان الوقف والابتداء ومعه المقصد لتلخيص ما في المرشد مؤلف منار الهدى: أحمد بن عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الأشموني المصري الشافعي (المتوفى: نحو 1100 هـ) مؤلف المقصد لتلخيص ما في المرشد: زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، زين الدين أبو يحيى السنيكي (المتوفى: 926 هـ) المحقق: شريف أبو العلا العدوي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2002 م عدد الأجزاء: 1
(5)
هذا الكلام لم يُكْتَب بقلم الباحث، فنقله هكذا، ولم يقف له على عزو، وعليه جرى التنبيه.
المطلب السادس: صفة اتقان علم الوقف والابتداء
ولمكانة علم الوقف والابتداء وقدره فقد ذكر أئمة الأداء جمعًا من العلوم يجب أن تتحقق فيمن يقوم عليه بالتمام، ويتصدر له ويتقنه بكمال وإحسان.
قال أبو بكر بن مجاهد التميمي (ت: 324 هـ) رحمه الله:
لا يقوم بالتمام إلا نحوي عالم بالقراءة عالم بالتفسير، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن.
(1)
المطلب السابع: أهمية مراعاة الوقف والابتداء
ولقد تضافرت الأدلة على أهمية مراعاة الوقف والابتداء؛ وقد كثرت النقول التي تدل على عناية سلف الأمة السلف بهذا العلم الجليل وتطبيقه عمليًا عند تلاوتهم للقرآن. قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (المزمل: 4) فهذا أمر من الله تعالى بترتيل القرآن، وندب منه سبحانه للعباد إلى ترتيل كلامه المنزل؛ ومراعاة الوقوف لا شك أنها داخله في ذلك ضمنًا.
قال ابن عباس (ت: 68 هـ) رضي الله عنهما:
في قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} . (بينه تبيينًا)
(2)
وقال الحسن:
اقرأه قراءة بيِّنة. وقال مجاهد: بعضه على إثر بعض على تؤدة وقال أيضًا: (ترسَّل فيه ترسُّلا)
(3)
.
وقال ابن كثير رحمه الله:
اقرأه قراءة على تمهل، فإنه يكون عونًا على فهم القرآن، وتدبره.
(4)
وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن: 1 - 4).
قال ابن النحاس (ت: 338 هـ) رحمه الله:
من التبيين تفصيل الحروف والوقف
(1)
-القطع والاستئناف. (ص: 94).
(2)
- رواه أحمد بن منيع في مسنده كما في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر النسخة المسندة (4/ 3777) ومختصر إتحاف المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري (8/ 6590) ورواه الطبري جامع البيان (12/ 1/ 127) وابن النحاس القطع (1/ 74) وينظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 277).
(3)
- مصنف عبد الرزاق (2/ 490) ومصنف ابن أبي شيبة (10/ 525) جامع البيان (12/ 1/ 127) والتمهيد في معرفة التجويد لأبي العلاء الهمذاني: (141) والدر المنثور: (6/ 277).
(4)
- تفسير ابن كثير (4/ 363) وقيل: إن عليًا رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف" النشر (298)(1، 316) ولم أجده (الميموني) في التفاسير التي تعتني بالمأثور وقد رواه الهذلي في الكامل ورقة (34)(مخطوط) ينظر الوقف والابتداء للغزال النيسابوري (1/ 6) رسالة دكتوراه تحقيق الدكتور العثمان إشراف الشيخ محمد محمد سالم محيسن.
على ما تم معناه منها.
(1)
وقد حكى ابن النحاس وأبو عمرو الداني وغيرهما، إجماع العلماء على أهمية مراعاة الوقف والابتداء
(2)
.
واستدلوا على ذلك بقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا ..... ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ
(3)
..
(4)
وهذا الأثر يبين مكانة الوقف والابتداء عند الصحابة رضي الله عنهم، ومدى عنايتهم به على النحو الذي تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عنايتهم به كانت كعنايتهم بمعرفة معاني القرآن الكريم، والوقوف على حلاله وحرامه ولقد شبّه ابن عمر رضي الله عنهما عدم العناية بالقراءة بنثر الدقل، الذي هو رديء التمر ويابسه.
المطلب الثامن: عناية السلف بالوقف والابتداء
لقد اشتهر اعتناء السلف رحمهم الله تعالى، بهذا العلم حتى عد ابن الجزري ذلك متواتر عنهم .....
قال ابن الجزري رحمه الله:
وصحّ بل تواتر عندنا تعلّمه والاعتناء به من السلف ...... إلى أن قال: ...... وكلامهم في ذلك معروف ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب، ومن ثم اشترط كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحدًا إلاّ بعد معرفته الوقف والابتداء، وكان أئمتنا يوقفونا عند كل حرف ويشيرون إلينا فيه بالأصابع سنّة لذلك أخذوها عن شيوخهم الأولين.
(5)
، وكانوا يعتنون بذلك حال الإقراء.
وقد حض العلماء على تعلم الوقف والابتداء والعمل به، وبينوا عظيم فضيلته، وذلك مذكور في مقدمات كثير من كتب الوقف والابتداء، وفي كثير من كتب فن التجويد ومضمن في كتب علوم القرآن.
وكان مما سطروه في ذلك قول ابن الأنباري - رحمه -:
من تمام معرفة القرآن ومعانيه، وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه، فينبغي للقارئ أن يعرف الوقف التام، والوقف الكافي الذي ليس بتام، والوقف
(1)
القطع لابن النحاس (1/ 74). القطع والائتناف المؤلف: أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النَّحَّاس المحقق: د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي الناشر: دار عالم الكتب - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1413 هـ - 1992 م.
(2)
-القطع (1/ 87) والكتفي (135) والنشر (1/ 225).
(3)
-بفتح الدال المهملة بعدها قاف مفتوحة وهو رديء التمر ويابسه وما ليس له اسم خاص وقيل: هو أردأ التمر، غريب الحديث لإبراهيم الحربي (2/ 889) والنهاية لابن الأثير (2/ 172).
(4)
- رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (4/ 84)، رواه الحاكم في المستدرك (1/ 35)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً، ووافقه الذهبي، وصححه ابن منده في " الإيمان "(106)، والهيثمي في " مجمع الزوائد "(1/ 170).
(5)
- النشر (255/ 1).
القبيح الذي ليس بتام ولا كاف
(1)
وقال الهذلي (ت: 167 هـ) في كامله:
الوقف حلية التلاوة وزينة القارئ وبلاغ التالي وفهم المستمع وفخر العالم وبه يُعرف الفرق بين المعنيَيْن المختلفَيْن والنقيضَيْن المتنافيَيْن والحكمَيْن المتغايرَيْن.
(2)
وقال أبوبكر الأنباري (ت: 328 هـ):
ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه.
(3)
المبحث الرابع: القراءة بخشوع وتخشع وحضور قلب
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم الخشوع لغة وشرعًا
أ- الخشوع لغة:
قال ابن فارس (ت: 395 هـ) رحمه الله:
خشع: الخاء والشين والعين أصلٌ واحدٌ، يدل على التَّطامُن، يقال: خشع إذا تطامن وطأطأ رأسه، ويخشع خشوعًا، وهو قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في
البدن
…
والخشوع في الصوت والبصر، قال الله تعالى:(خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ)(طه: 108)، قال ابن دريد: الخاشع: المستكين والراكع.
(4)
قال الفيروز أبادي (ت: 817 هـ) رحمه الله:
الخشوع: الخضوع، كالاختشاع - والفعل كمنع - أو قريب من الخضوع، أو هو في البدن والخشوع في الصوت والبصر، والخشوع: السكون والتذلل.
(5)
الخشوع: الخُضوعُ، والسُّكونُ، والتذلُّلُ، والفعل منه: خَشَعَ؛ يُقال: خشَع الشخصُ لربّه: أي خضع واستكان، وتضرّع، وتذلّل، والخُشوعُ يمكن أن يكون في البدن، أو الصوت،
(1)
-الإيضاح في الوقف والابتداء (1/ 108). الإيضاح في الوقف والابتداء: لابن الأنباري ط. دمشق سنة 1390 هـ - 1971 م، تحقيق محي الدين عبد الرحمن رمضان، مطبوعات مجمع اللغة العربية.، ويُنظر: كتاب فضل علم الوقف والابتداء وحكم الوقف على رؤوس الآيات، عبد الله الميموني (ص: 17).
(2)
-القول المفيد للشيخ محمد مكي نصر، ص 195 المكتبة العلمية لاهور الهند د. ت.
(3)
-إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل، (1/ 108).
(4)
- معجم المقاييس في اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، المتوفى سنة 395 هـ، تحقيق شهاب الدين أبو عمرو، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ، كتاب الخاء، باب الخاء والشين
…
، ص 316.
(5)
- القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروز أبادي، ت 817 هـ، باب العين، فصل الخاء، ص 921. القاموس المحيط، المؤلف: العلامة اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي المتوفى سنة 817 هـ، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، بإشراف: محمد نعيم العرقسُوسي، الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، الطبعة: الثامنة، 1426 هـ - 2005 م، عدد الأجزاء 1.
أو البصر.
(1)
قال أبو السعادات ابن الأثير (ت: 606 هـ) رحمه الله:
والخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن.
(2)
وقال ابن القيم رحمه الله:
والخشوع في أصل اللغة: الانخفاض، والذّل، والسكون، قال اللَّهُ تعالى:(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)(طه: 108) أي سكنت، وذلَّت، وخضعت، ومنه وصف الأرض بالخشوع، وهو يبسها، وانخفاضها، وعدم ارتفاعها بالري والنبات، قال اللَّه تعالى:(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(فصلت: 39).
(3)
ب- الخشوع شرعًا:
والخشوع في الشرع: خضوع القلب، وتذلله لله -سبحانه-، كما عرّفه بذلك الإمام ابن القيّم رحمه الله، وقِيل بأنّه: القبول، والانقياد إلى الحقّ والصواب دون أيّ مانعٍ، حتى وإن اختلف الحقّ مع الهوى والرغبة، وأضاف ابن رجب الحنبلي في تعريف الخشوع أنّه: رقّة القلب مع اللين والانكسار والحُرقة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الخشوع يكون في القلب، مع بيان آثاره في الجوارح،
(4)
ومن المواضع التي يجدر بالمسلم الخشوع فيها أثناء تلاوته لآيات القرآن الكريم؛ سواءً في الصلاة أم خارجها، إلّا أنّه في الصلاة آكدٌ.
(5)
قال ابن القيم رحمه الله:
وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب، وثمرته على الجوارح، وهي تظهره.
(6)
وقال ابن رجب الحنبلي (ت: 695 هـ) رحمه الله:
وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته، وسكونه، وخضوعه، وانكساره، وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح، والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "
…
ألَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
(7)
. والتخشُّع: تكلّف الخشوع.
(8)
.
المطلب الثاني: كيف ينتفع العبد بالقرآن
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب "الفوائد:
قاعدة جليلة:
إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وأَلْقِ سَمعك واحضر حُضُور من يخاطبه بِهِ من تكلّم بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ فانه خَاطب مِنْهُ لَك على لِسَان رَسُوله قَالَ تَعَالَى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد)
(ق: 21) وَذَلِكَ أَنْ تَمام التَّأْثِير لمّا كَانَ مَوْقُوفًا على مُؤثر مُقْتَض وَمحل قَابل وَشرط لحُصُول الْأَثر وَانْتِفَاء
(1)
- تعريف و معنى خشع في معجم المعاني الجامع - معجم عربي، بتصرّف.
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الخاء مع الشين (2/ 34).
(3)
- مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 520). مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الثالثة، 1416 هـ - 1996 م عدد الأجزاء:2.
(4)
-د. محمد الصّباغ (1999 م)، الخشوع في الصلاة (الطبعة الثالثة)، السعودية: مكتبة الورّاق: (د ت)، صفحة 12 - 16.
(5)
- صلاة المؤمن - مفهوم، وفضائل، وآداب، وأنواع، وأحكام، وكيفيتها في ضوء الكتاب والسنة (الطبعة الرابعة)، تأليف: د. سعيد بن وهف القحطاني: (1/ 310). بتصرّف.
(6)
- مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 521).
(7)
- متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، برقم 52، ومسلم، كتاب المساقاة والمزارعة، برقم 1599.
(8)
-مختار الصحاح للرازي، مادة:(خشع)(ص: 74).
الْمَانِع الَّذِي يمْنَع مِنْهُ تضمّنت الْآيَة بَيَان ذَلِك كلّه بأوجز لفظ وأبينه وأدلّه على المُرَاد فَقَوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى} اشار إِلَى مَا تقدّم من أوّل السُّورَة الى هَهُنَا وَهَذَا هُوَ المؤثّر وَقَوله {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فَهَذَا هُوَ الْمحل الْقَابِل وَالْمرَاد بِهِ الْقلب الحيّ الَّذِي يعقل عَنْ الله كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا} أَي حيّ الْقلب وَقَوله {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أَي وجَّه سَمعه وأصغى حاسّة سَمعه إِلَى مَا يُقَال لَهُ وَهَذَا شَرط التأثّر بالْكلَام وَقَوله {وَهُوَ شَهِيدٌ} أَي شَاهد الْقلب حَاضر غير غَائِب.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة الدينوري (ت: 276 هـ) رحمه الله:
اسْتمع كتاب الله وَهُوَ شَاهد الْقلب والفهم لَيْسَ بغافل وَلَا ساه وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْمَانِع من حُصُول التَّأْثِير وَهُوَ سَهْو الْقلب وغيبته عَنْ تعقّل مَا يُقَال لَهُ وَالنَّظَر فِيهِ وتأمّله فَإِذا حصل الْمُؤثر وَهُوَ الْقُرْآن وَالْمحل الْقَابِل وَهُوَ الْقلب الْحَيّ وَوجد الشَّرْط وَهُوَ الإصغاء وانتفى الْمَانِع وَهُوَ اشْتِغَال الْقلب وذهوله عَنْ معنى الْخطاب وانصرافه عَنهُ إِلَى شَيْء آخر حصل الْأَثر وَهُوَ الِانْتِفَاع والتذكّر.
(1)
المبحث الخامس: تحسين الصوت بالتلاوة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: صفة تحسين الصوت بالتلاوة
القرآن كلامُ الله، أنزلَه على قلبِ رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ليقرأَه على الناس على مُكْثٍ؛ كما قال ربنا:{وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الإسراء: 106)، و قال له ربه:(وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا)(المزمل 4)
قال القرطبي (ت: 671 هـ) رحمه الله في تفسيره:
والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام، ومنه ثغر رتل ورتل، بكسر العين وفتحها: إذا كان حسن التنضيد.
(2)
وحينما يُتلى القرآن تصغى له آذان المؤمنين، فَتَنْقَاد له قلوبهم وتخشع، وتهتدي لأوامره نفوسهم وتخضع، ولا سيما إن كانت تلاوته من صوت حسن يرتل آياته ويخشع.
ولقد دلت نصوص السنة على الترغيب في تَحسين الصوت بقراءة القرآن الكريم، فمن حَسَّنَ صوته بالقرآن من غير تكلف ولا تعسف امتثالًا لأمر الشرع المطهر فنِعِمَّا فعَل، وقد اقتدى وامتثل، فقد روى الشيخان من حديث أبي
(1)
- الفوائد، لابن القيم:(ص: 3).
(2)
- تفسير القرطبي: (19/ 37).
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به".
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وتفسيره-التغني-عند الأكثرين كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما هو تحسين الصوت به.
(2)
فالمقصود بالتغني إذًا هو تحسين الصوت بالقرآن. والتغني بالقرآن يكون بالجهر بتلاوته مع تحسين الصوت به والخشوع فيه؛ ليحرك به القلوب؛ لأن من مقاصد قراءة القرآن تحريك القلوب به لتتأثر وتخشع وتخضع لباريها؛ فتنتفع بالقرآن وبهداياته.
ومعنى قوله: "ما أذن الله"؛ أي: ما استمع الله؛ والاستماع هنا استماع على الحقيقة يليق بذات الله تعالى، وهو استماع لا يشبه استماع المخلوقين، مثله مثل سائر صفات الرب جل في علاه- وإنما يُقَال في استماعه سبحانه وإذنه مثل ما يقال في سائر صفاته سبحانه وتعالى، ويكون إثبات جميع صفات الرب جل في علاه على الوجه اللائق به سبحانه كما قال ربنا:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)(الشورى: 11).
وروى أبو داود من حديث أبي لبابة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يتغن بالقرآن فليس منا"
(3)
. و "من لم يتغن" هو من لم يحسن صوته.
(4)
قال الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله:
والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع.
(5)
قال النووي (ت: 676 هـ) رحمه الله:
اعلم أن جماعات من السلف كانوا يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرؤوا وهم يستمعون وهذا متفق على استحبابه وهو عادة الأخيار والمتعبدين وعباد الله الصالحين وهى سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ عليَّ القرآن فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئتُ إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)(النساء: 41) قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
(6)
و روى الحاكم كذلك من حديث البراء بن
(1)
- رواه البخاري (5023)، مسلم (ج 1 حديث 233).
(2)
- يُنظر: جامع المسائل لابن تيمية (3/ 304)
(3)
- صححه الألباني في صحيح أبي داود (ج 1 حديث 1305).
(4)
وهو قول الجمهور، حكاه النووي في التبيان (1/ 110).
(5)
- شرح البخاري لابن بطال (1/ 261).
(6)
البخاري (4582)، التبيان (114)
عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا".
(1)
، وفي رواية" حُسْنُ الصوت؛ زينة القرآن ".
(2)
المطلب الثاني: المفهوم الصحيح لمزامير آل داود
ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوتَ أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته، ثم قال:" لقد أوتي مِزْمَارًا من مزامير آل داود"
(3)
وفي رواية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي مُوسَى: " لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ "
(4)
، قال أبو موسى:"لو علمت يا رسول الله أنك تستمع إليَّ لحبرتّه لك تحبيرًا".
(5)
وقوله: "مزمارًا من مزامير آل داود": قال النووي- رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء:
الْمُرَاد بِالْمِزْمَارِ هُنَا الصَّوْت الْحَسَن، وَأَصْل الزَّمْر الْغِنَاء، وَآلُ دَاوُدَ هُوَ دَاوُدُ نَفْسه، وَآلُ فُلَان قَدْ يُطْلَق عَلَى نَفْسه، وَكَانَ دَاوُدُ صلى الله عليه وسلم حَسَن الصَّوْت جِدًّا "
(6)
ومما يؤيد كلام النووي ويؤكده أن المراد بِالْمِزْمَارِ هُنَا الصَّوْت الحسن لا الألحان- قوله- صلى الله عليه وسلم لأبي موسى (أُوتِيتَ) -بتاء المخاطب- بما لم يسم فاعله، مما يدل على أن الذي وهبه الصوتَ الحسن هو اللهُ سبحانه وتعالى، وأنه لم يحصل له ذلك بالتعلم والتمرن والتريض.
قال ابن الأثير- رحمه الله في "النهاية":
وفي حديث أبي موسى سَمِعه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فقال: (أُعْطِيتَ مزْمارا من مَزَامِير آلِ دَاودَ). شبَّه حُسنَ صَوته وحلاوة نَغْمَته بصوت المِزْمارِ. وداودُ هو النبي- عليه السلام وإليه المُنْتَهى في حُسْن الصَّوت بالقراءةِ.
(7)
وقال ابن خلدون (ت: 1332 هـ) رحمه الله:
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) فليس المراد به الترديد والتلحين، إنما معناه حسن الصوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنطق بها.
(8)
(1)
- رواه الحاكم في المستدرك (2125)، والدارمي (3501)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (ج 1 حديث 3581)، وفي مشكاة المصابيح (2208).
(2)
رواه الطبراني في الكبير (9881)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3144).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (فضائل القرآن)، باب (حسن الصوت بالقراءة للقرآن) برقم: 4660، ومسلم في صحيحه كتاب (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن برقم:1322.
(4)
- صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم 793.
(5)
- يُنظر: فتح الباري (14/ 272)
(6)
شرح النووي على صحيح مسلم ج 3 ص 146
(7)
النهاية، لابن الأثير (2/ 778).
(8)
- تاريخ ابن خلدون (1/ 426).
وقول أبي موسى "لحبرتّه لك تحبيرًا"
يُرِيدُ لَجَعَلْته لَك أَنْوَاعًا حِسَانًا، وَهُوَ التَّلْحِينُ، مَأْخُوذٌ مِنْ الثَّوْبِ الْمُحَبَّرِ، وَهُوَ الْمُخَطَّطُ بِالْأَلْوَانِ.
وَالْقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْضَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَمَا تَتَأَثَّرُ بِهِ الْقُلُوبُ فِي التَّقْوَى فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْأَجْرِ وَأَقْرَبُ إلَى لِينِ الْقُلُوبِ وَذَهَابِ الْقَسْوَةِ مِنْهَا.
وَالْأَصْوَاتُ الْحَسَنَةُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَزِيَادَةٌ فِي الْخَلْقِ وَمِنَّةٌ. وَأَحَقُّ مَا لُبِّسَتْ هَذِهِ الْحُلَّةُ النَّفِيسَةُ وَالْمَوْهِبَةُ الْكَرِيمَةُ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَنِعَمُ اللَّهِ إذَا صُرِفَتْ فِي الطَّاعَةِ فَقَدْ قُضِيَ بِهَا حَقُّ النِّعْمَةِ.
(1)
يقول سماحة شيخنا الإمام ابن باز (ت: 1421 هـ) رحمه الله:
لم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك؛ فدل على أن تحبير الصوت وتحسين الصوت والعناية بالقرآن أمر مطلوب؛ ليخشع القارئ والمستمع، ويستفيد هذا وهذا
(2)
.
المطلب الثالث: تحسين الصوت لا ينافي الإخلاص
وفي ذلك يقول الإمام أبو بكر الآجُرِّي (ت: 360 هـ) رحمه الله:
ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصه بخير عظيم؛ فليعرف قدر ما خصه الله به، وليقرأ لله، لا للمخلوقين، وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا، والميل إلى حسن الثناء والجاه عند أبناء الدنيا، والصِّلات بالملوك، دون الصلات بعوام الناس؛ فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه: خفت أن يكون حسن صوته فتنة عليه، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله عز وجل في السر والعلانية، وكان مراده أن يُسْتَمَعَ منه القرآنُ لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل، وينتهوا عما نهاهم؛ فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته، وانتفع به الناس.
(3)
المبحث السادس: فصل النزاع بين التغني و"المقامات الموسيقية"
وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم معنى الترنم
يبين الباحث هنا حقيقة التغني بالقرآن المأمور به شرعًا وبين القراءة بـ"المقامات الموسيقية"، والتي يسميها البعض بـ" المقامات الصوتية" هروبًا من
(1)
-أحكام القرآن، لابن العربي المالكي (4/ 1595)
(2)
نشر في كتاب (فتاوى إسلامية)، جمع وترتيب الشيخ/ محمد المسند، ج 4، ص:18. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 24/ 378). مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420 هـ) أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر عدد الأجزاء: 30 جزءًا.
(3)
أخلاق أهل القرآن، للآجري (ص 161).
مسماها الأصلي مع توضيح وتجلية الفرق بينهما.
وإنما تأتي تسميتها بغير اسمها من باب قلب الحقائق، لترويج الباطل، وذلك ليسوغ للمتلقِّي قبولها، واستحسانها، غير مُعَظِّمٍ لحرمتها، وذلك لما تضفيه علي تلك المسميات "التي تقلب الحقائق" عن أصلها إلى قالب مستساغ "لفظه" من أسماء براقة، وذلك ليهون من فظاعتها وفظاظتها وشدة قبحها وحرمتِها.
ولقد كان للشيطان قدمُ السبق في هذا المضمار، وذلك لأنه كان أول من سن تلك السنة السيئة التي تقلب الحقائق الثابتة بتغير مدلولاتها بألفاظ أُخر- مكرًا وخديعة وكذبًا وتدليسًا- ليتلقَّاه ويتلقَّفها منه أولياؤه، ويوحي بها بعضهم لبعض زخرف القول غرورًا، كما قال ربنا:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)(الزخرف: 12)، ومن أظهر ذلك قلبه لحقيقة الشجرة التي نهى الله الأبوين من قربانها فسمها بغير اسمها، سماها بـ" شجرة الخلد وملك لا يبلى".
قال ابن القيم- رحمه الله في إغاثة اللهفان":
وإنما كذبهما عدو الله، وغرّهما، وخدعهما؛ بأن سمّى تلك الشجرة "شجرة الخلد"، فهذا أول المكر والكيد، ومنه وَرِثَ أتباعُهُ تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها، فسمَّوا الخمر أمَّ الأفراح، وسمَّوا أخاها بلُقَيْمة الراحة
(1)
، وسمَّوا الربا بالمعاملة، وسمَّوا المُكُوسَ بالحقوق السلطانية، وسمَّوا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسمَّوا أبلغ الكفر- وهو جحد صفات الرب- تنزيهًا، وسمَّوا مجالس الفسوق مجالس الطَّيبة! فلما سمَّاها "شجرة الخلد" قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في الجنة ولا تموتا؛ فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون.
(2)
.
وحين تقلب الحقائق عن معانيها المقصودة فلابد من التحاكم للغة العرب التي نزل بها القرآن، ونطق بها أفصح الخلق عليه الصلاة والسلام، فمن تأمل الألفاظ التي رغَّب فيها الشرعُ بتحسين الصوت يجدها ترجع إلى عبارات لغوية تدور حول هذا المعنى مثل ألفاظ "التغني بالقرآن"، أو غيرها من الألفاظ التي وردت على ألسنة بعض شراح الأحاديث التي رغَّب فيها الشرع بتحسين الصوت، كلفظ "الترنم"، ولفظ "النغم"، ولفظ "التطريب"، فمن تأمل تلك الألفاظ وجد مادتها تدور حول تحسين الصوت بالتلاوة والجهر به فحسب.
(1)
- لعله يقصد الحشيش.
(2)
إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان: (1/ 112 - 113).
ولنا أن نتأمل في معنى الترنم الذي أورده الزبيدي (ت: 1205 هـ) في تاج العروس حيث يقول- رحمه الله:
أولًا: قال في معنى "الترنم":
((و) الرَّنَم (بالتَّحْرِيك: الصَّوتُ). وقد رَنِم بالكَسْر: إذا رَجَّع صَوْتَه كما في الصحاح، (والرَّنِيم والتَّرْنِيم: تَطْرِيبُه) كما في المُحْكَم، وقال الجوهريّ: والتَّرْنِيم: تَرْجِيعُ الصَّوت).
وترجيع الصوت: تَرْدِيدُهُ في الَحْلْقِ.
(1)
ثانيًا: قال في معنى "النغم":
(النَّغَمُ: مُحَرَّكَةً، وتُسَكَّنُ: الكَلَامُ الخَفِيُّ، الوَاحِدةُ بِهَاءٍ)، قَالَ شَيْخُنَا: فَمُفْرَدُهُ تابَعٌ لِجَمْعِه في الضَّبْطِ، انتهى، وفُلَانٌ حَسَنُ النَّغْمَةِ، أي: حَسَنُ الصَّوْتِ في القِرَاءَةَ، كَمَا في الصَّحَاحِ).
والنَّغْمةُ: جَرْسُ الكلمة وحُسْن الصوت في القراءة وغيرها.
(2)
ثالثًا: قال في معنى "الغناء":
((والغِناءُ، ككِساءٍ؛ من الصَّوْتِ: ما طُرِّبَ به) قالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْر: وعَجِبْتُ به أَنَّى يكونُ غِناؤُها، وفي الصِّحاح: الغِناءُ، بالكسْرِ، من السماعِ. وفي النِّهايةِ: هو رَفْعُ الصَّوْتِ وموالاته. وفي المِصْباح: وقيِاسُه الضَّم لأنَّه صَوْتٌ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
الغناء يطلق على رفع الصوت، وعلى الترنم الذي تسميه العرب (النَّصْب)، وعلى الحُداء، ولا يسمَّى فاعله مغنيًّا، وإنما يسمَّى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح.
(3)
رابعًا: قال في معنى "التطريب":
(والتَّطْرِيب في الصَّوْت: مَدُّهُ وتَحْسِينُه. وطَرَّبَ في قِراءَته: مَدَّ ورجَّعَ وطرَّبَ الطَّائِرُ في صَوْتِه كَذَلِكَ، وخَصَّ بَعْضُهُم بِهِ المُكَّاءَ. وفُلَانٌ: قَرأَ بِالتَّطْرِيب).
(4)
و طَرَّبَ في صَوْتِهِ: رجَّعَهُ ومَدَّهُ وحَسَّنَهُ.
(5)
وفي ضوء المفهوم اللغوي لألفاظ الترنم، والنغم، والغناء، والتطريب، يتبين بوضوح وجلاء أنها ألفاظ تدل على تحسين الصوت وعلوه وتردده في الحلق، ومنه سمي الغناء غناءً.
(1)
-تعريف و معنى ترجيع الصوت في معجم المعاني الجامع.
(2)
- لسان العرب: مادة نغم.
(3)
- فتح الباري (2/ 442). فتح الباري شرح صحيح البخاري المؤلف: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379 رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز عدد الأجزاء: 13.
(4)
يُنظر: تاج العروس - الزبيدي (2/ 182). تاج العروس من جواهر القاموس المؤلف: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 هـ) المحقق: مجموعة من المحققين الناشر: دار الهداية.
(5)
-تعريف و معنى التطريب في معجم المعاني الجامع
المطلب الثاني: مفهوم معنى" الموسيقى "
وأما لفظ: " الموسيقى ": فهو " لفظ يوناني وليس له جذر عربي أصلًا، وهو لفظ يحتمل التذكير والتأنيث، ويطلق على فنون العزف على آلات الطرب
…
والموسيقى في الاصطلاح: علم يُعرف منه أحوال النغم والإيقاعات وكيفية تأليف
اللحون وإيجاد الآلات ".
(1)
وقيل هو: علم يبحث في أصول الأنغام من حيث التنافر والائتلاف وتأليف الألحان وأحوال الأزمنة التي تخلل بيتها.
(2)
والتغني بالقرآن وتحسين الصوت والجهر به لا علاقة له بالموسيقى وبمقاماتها، ولذا ينبغي أن يُعلم خطر تلك المعازف وآلاتها، وأنه لا يليق أن ترتبط تلاوة القرآن بها وبمقامتها.
المطلب الثالث: عقوبة استحلال المعازف
وإذا استحل قومٌ المعازفَ مُسخوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ
وفي ذلك يقول النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ، وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
(3)
(1)
- يُنظر: الموسوعة الفقهية (38/ 168). الموسوعة الفقهية الكويتية صادر عن: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت عدد الأجزاء: 45 جزءا الطبعة: (من 1404 - 1427 هـ) .. الأجزاء 1 - 23: الطبعة الثانية، دار السلاسل - الكويت .. الأجزاء 24 - 38: الطبعة الأولى، مطابع دار الصفوة - مصر .. الأجزاء 39 - 45: الطبعة الثانية، طبع الوزارة تنبيه: تراجم الفقهاء في الأصل الورقي ملحقة بآخر كل مجلد، فجُمعت هنا - في هذا الكتاب الإلكتروني - في آخر الموسوعة تيسيرا للوصول إليها، مع الحفاظ على ترقيم الصفحات.
(2)
- يُنظر: تعريف و معنى الموسيقي في معجم المعاني الجامع.
(3)
-رواه البخاري في كتاب الأشربة معلقًا مجزومًا بصحته، ووصله البيهقي في "السنن الكبرى"(6317)"، الطبراني في " المعجم الكبير " (3/ 319) وابن حبان في " صحيحه " (8/ 265، 266)، وصححه ابن القيم في " تهذيب السنن " (5/ 270 - 272) والحافظ ابن حجر في " الفتح " (10/ 51) والألباني في " الصحيحة " (91).
وقد زعم ابن حزم أنه منقطع، وتبعه في ذلك بعض المقلدين، ورد عليه الأئمة المحققون.
قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح:
فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابًا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندًا متصلاً، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع".
كما إن ابن الصلاح قد حكى الإجماع على حرمة السماع. يُنظر: مقدمة أبي عمرو ابن الصلاح (ص 36).
وقد نقل الإمام أبو عمرو ابن الصلاح (ت: 463 هـ) الإجماع على تحريم السماع في "أدب المفتي والمستفتي" فقال رحمه الله:
فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت: فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والخلاف: أنه أباح هذا السماع.
(1)
ولذا فقد حذر علماء الإسلام من خطر تلك المعازف أشد التحذير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ) رحمه الله:
والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حلَّ فيهم الشرك، ومالوا إلى الفواحش، وإلى الظلم، فيشركون، ويقتلون النفس التي حرم الله، ويزنون، وهذه الثلاثة موجودة كثيرًا في أهل سماع المعازف.
(2)
وقال ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله:
والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب: أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها: إلا سلط الله عليهم العدو، وبُلوا بالقحط والجدب وولاة السوء، والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر، والله المستعان.
(3)
فإذا تبين لنا ذلك، عُلِمَ حرمة وخطورة تعلم "المقامات الموسيقية" ومن ثم حرمة قراءة القرآن الذي هو كلام الرحمن على مقامات "الشيطان".
وإنما وَهِمَ مَنْ وَهِمَ وأخطأ من أخطأ وزل من زل في هذا الباب غالبًا بسبب سوء فهمه للألفاظ التي استعملها بعض أهل العلم، كالترنيم والتغني والتطريب ونحو ذلك من الألفاظ، والتي عَرَّفَهَا أهل العلم وفق ما دلت عليه لغة العرب.
وفي هذا الصدد يقول ابن جرير الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله:
معنى الحديث تحسين الصوت والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع صوته، كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه ..
(4)
وقال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) رحمه الله:
يحسن به صوته جاهرًا به مترنمًا على طريق التحزن
…
ولا شك أن النفوس تميل إلى القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم. لأن للتطريب تأثيرًا في رقة القلب وإجراء الدمع.
(5)
(1)
-أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (2/ 500).
(2)
- مجموع الفتاوى (10/ 417).
(3)
- مدارج السالكين (1/ 500).
(4)
- شرح ابن بطال (10/ 260)، زاد المعاد (1/ 486).
(5)
فتح الباري (9/ 72).
فابن جرير قد فسر" التغني" بالغناء، وابن حجر قد فسر حسن الصوت بـ "الترنم" و" التطريب" وإنما كان ذلك كله وفق ما دلت عليه اللغة.
غير إن المخالفين قد حملوه هذه الألفاظ وأمثالها على المعنى العامي الشائع والدارج في استعمال الناس له، ولو أنهم رجعوا إلى ما دلت عليه تلك الألفاظ من معاني في لغة العرب، أظن لانتهى بهم المطاف وظهر لهم الحق جليًا، إن كانوا ممن يبحث عن الحق ويتجرد عن الهوى.
المطلب الثالث: تيقظ السلف مبكرًا للخلط في مفاهيم بعض الألفاظ
يقظة السلف لمثل هذا مبكرً
ا:
ومن أجل هذا وأمثاله ورد النهي عن بعض السلف التحديث ببعض هذه الأحاديث التي فيها الترغيب في التغني بالقرآن وتحسين الصوت به خشية أن تحمل تلك النصوص على غير المراد منها، كالذي نحن بصدده من حمل تلك الألفاظ على جواز تعاطي تلك الألحان الموسومة بـ" المقامات الموسيقية" التي هي من خصائص أهل الفسق والخنا ممن يتعاطون الغناء الفاحش المقرون بالمعازف.
قال أبو عبيد القاسم بن سلاَّم (ت: 224 هـ) رحمه الله:
حدثني يحيى بن سعيد القطان عن شُعبة بن الحجَّاج قال: "نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم"
(1)
.
قال أبو عبيد- رحمه الله:
وإنما كره أيوب فيما نرى أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم في هذه الألحان المبتدعة، فلهذا نهاه أن يحدث به.
(2)
فحَمْلُ هذه الألفاظ العربية والاستدلال والاحتجاج بها على جواز استعمال "المقامات الموسيقية" وقراءة القرآن بها وإباحتها، بورود مثلها في بعض الأحاديث واستعمال أهل العلم لها، فلاشك في أن هذا خطأ ظاهر جلي، وقد نبه على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن كثير وغيرهم من أهل العلم الأثبات.
المطلب الرابع: حَسْمُ القول في "المقامات الموسيقية"
حَسْمُ ابنِ القيم رحمه الله للخلاف في هذه المسألة:
وقد حَسَمَ الإمامُ ابن القيم الخلاف في هذه المسألة، وذكر إجماع السلف على
(1)
أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (7544)، من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه، وأخرجه موصولاً أبو داود (1468)، والنسائي (1015)، وابن ماجه (1342)، وأحمد (18517) مختصرا، والحاكم (2125) واللفظ له،. وإسناده صحيحٍ، وأصله في صفة الصلاة للألباني (2/ 570).
(2)
فضائل القرآن لأبي عبيد (1/ 335).
منع القراءة بالألحان الموسيقية، وتلاوة القرآن بطريقة أهل الفسق والمجون التي يستخدمها أهل الخلاعة من المغنين وأضرابهم، وهي ما يعرف في عصرنا الحاضر بـ"المقامات الموسيقية"، كما فرق رحمه الله بين الطبيعة الجبلية في القراءة وبين التكلف المذموم في التغني بالقرآن حتى يصل إلى حد التمطيط، وهم لا يحصل لهم ذلك إلا بالتعلم والتمرن والتصنع كما يفعل ذلك أهل الغناء بألحان وإيقاعات مخصوصة على أوزان مخصوصة قد اخترعوها وابتدعوها.
وقد أطال فيها النفس- رحمه الله بعد أن ساق الأدلة المسكتة التي برهن بها على بطلان تلك الفعلة الشنيعة، ثم بين هنا أن التغني منه المحمود ومنه المذموم.
فقال في ذلك رحمه الله:
وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين:
أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين كما قال أبو موسى الأشعري للنبي- صلى الله عليه وسلم "لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا"
(1)
والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستعملونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويسوغوها، ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه
(1)
-يُنظر: فتح الباري (14/ 272)
عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال:(ليس منَّا من لم يتغنّ بالقرآن)
(1)
وفيه وجهان:
أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله
والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته.
(2)
وفي نحو ذلك يقول ابن كثير رحمه الله في " فضائل القرآن ":
والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي فالقرآن ينزه عن هذا ويُجلّ، ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب.
(3)
كما نوه على ذلك-أيضًا- الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت: 695 هـ) - في " نزهة الأسماع "فقال رحمه الله:
وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة تهيّج الطباع، وتلهي عن تدبر ما يحصل له من الاستماع حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن، وإنما وردت السنّة بتحسين الصوت بالقرآن لا بقراءة الألحان، وبينهما بون بعيد.
(4)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ) رحمه الله:
فلا يسوغ أن يُقرأ القرآن بألحان الغناء، ولا أن يُقرن به من الألحان ما يُقرن بالغناء من الآلات وغيرها، لا عند من يقول بإباحة ذلك، ولا عند من يحرمه، بل المسلمون متفقون على الإنكار لأن يُقرن بتحسين الصوت بالقرآن الآلات المطربة بالفم كالمزامير، وباليد كالغرابيل. فلو قال قائل: النبي- صلى الله عليه وسلم قد قرأ القرآن، وقد استقرأه من ابن مسعود، وقد استمع لقراءة أبي موسى، وقال:"لقد أوتى مزمارًا من مزامير آلِ داود"
(5)
فإذا قال قائل: إذا جاز ذلك بغير هذه الألحان، فلا يتغير الحكم بأن يُسمع بالألحان، كان هذا منكرًا من القول وزورًا باتفاق الناس.
(6)
وقال رحمه الله في موضع آخر: والسلف
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه (7527)
(2)
- زاد المعاد، لابن القيم (1/ 470).
(3)
- فضائل القرآن (ص 114). فضائل القرآن المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) الناشر: مكتبة ابن تيمية الطبعة: الطبعة الأولى - 1416 هـ عدد الأجزاء: 1.
(4)
- نزهة الأسماع، لابن رجب (ص: 70)
(5)
- صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم 793.
(6)
-الاستقامة، لابن تيمية 1/ 241).
كانوا يحسنون القرآن بأصواتهم من غير أن يتكلّفوا أوزان الغناء مثل ما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يفعل.
(1)
وقال القرطبي (ت: 671 هـ) رحمه الله حين تكلم عن حرمة القرآن:
ومن حرمته ألا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعين والمتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلفًا فإن ذلك محدث ألقاه إليهم الشيطان فقبلوه عنه ومن حرمته ألا يقرأه بألحان الغناء كلحون أهل الفسق.
(2)
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: 224 هـ) رحمه الله:
وعلى هذا تُحمل هذه الأحاديث التي ذكرناها في حُسن الصوت، إنَّما هو طريق الحزن والتخويف والتشويق، يُبَيِّنُ ذلك حديث أبي موسى: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استمعن قراءته، فأُخْبِرَ بذلك، فقال: (لو علمت لشوَّقت تشويقًا، أو حبّرت تَحبِيْرًا. فهذا وجهه لا الألحان المطرِبة الملهية
(3)
.
المطلب الخامس: إجماع السلف على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية
ولقد أجمع السلف على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية، وقد نُقِلَ الإجماعُ عن جمع من أهل العلم، ومنعه على الإطلاق آخرون، منهم:
1 -
ابن القيم وابن تيمية: وقد مر بنا كلامهما آنفًا
2 -
ابن رجب الحنبلي:
وقد نقل ابن رجب في "نزهة الأسماع" إجماع السلف- كذلك- على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية عن أبي عبيد وغيره من الأئمة، فقال: وأنكر ذلك أكثر العلماء، ومنهم من حكاه إجماعًا، ولم يُثبت فيه نزاعًا؛ منهم أبو عبيد وغيره من الأئمة.
(4)
3 -
ابن سرين:
ومما حكى هذا الإجماع- كذلك- محمد بن سيرين (ت: 110 هـ) حيث يقول:
كانوا يرون هذه الألحان في القرآن محدثة.
(5)
، وقوله:"كانوا" يعني به الصحابة والتابعين.
4 -
ابن كثير:
وقال الحافظ ابن كثير- رحمه الله في مقدمة تفسيره - بعد أنّ ذكر كلام السلف في النهي عن قراءة الألحان-:
وهذا يدل على أنه محذور كبير، وهو
(1)
-جامع المسائل: (3/ 304).
(2)
- تفسير القرطبي (1/ 29).
(3)
فضائل القرآن، لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص 164).
(4)
نزهة الأسماع (ص: 70).
(5)
- رواه الدارمي (3546).
قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة، رحمهم الله، على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفًا أو ينقص حرفًا، فقد اتفق العلماء على تحريمه.
(1)
5 -
ابن الجوزي
وابن الجوزي يعتبره من خوارم المروءة المسقطة للعدالة، حيث يقول رحمه الله:
التلحين في القراءة، تلحين الغناء والشَّعر. وهو مسقط للعدالة ومن أسباب رد الشهادة، قَضَاءً. وكان أول حدوث هذه البدعة في القرن الرابع على أيدي الموالي.
ومن أغلظ البدع في هذا تلكم الدعوة الإلحادية إلى قراءة القرآن على إيقاع الأغاني مصحوبة بالآلات والمزامير.
(2)
وقال في موضع آخر:
فأما الألحان التي يصنعها قراء هذا الزمان فمكروهة عند العلماء لأنها مأخوذة من طرائق الغناء.
(3)
وقال في موضع آخر- أيضًا-رحمه الله:
وأما ما أحدث بعدهم - يعني السلف - من تكلف القراءة على ألحان الغناء، فهذا يُنهى عنه عند جمهور العلماء؛ لأنه بدعة.
(4)
6 -
أبو العباس القرطبي
وقال أبو العباس القرطبي (ت: 656 هـ) في "كشف القناع": -
كيفية قراءة القرآن نُقلت إلينا نقلاً متواترًا، وليس فيها شيء مِمَّا يُشبه التلحين، ولا أساليب إنشاد الأشعار، فينبغي ألاّ يُجَوَّزَ غيْرُها، وإنَّما قلنا ذلك، لأنَّا قرأنا القرآن على مشايِخِنَا، وهم العدد الكثير، والجمُّ الغفير، ومشايخنا على مشايخهم، وهكذا إلى العصر الكريم، وتلقينا عنهم كيفية قراءته بالمشافهة، فلو كان التلحين فيه مشروعًا لتعلَّموه من مشايخهم، ولنقلوه عنهم، كما نقلوا عنهم المدَّ والقصر، وما بيْن اللفظين، والإمالة والفتح والإدغام والإظهار، وكيفية إخراج الحروف من مَخارجها، فإنه لَمَّا نقله الخلف عن السلف وعلَّموا عليه، اتصل ذلك لنا وتلقيناه عنهم، وهذا جاء مع توفر الدواعي على النقل وكثرة المتعمقين من القرَّاء الغالين في كيفية قراءته، ومع ذلك فلم يُنقل عن أحد من القرَّاء المشاهير، ولا عن الرواة عنهم شيء من ذلك، فدَلَّ ذلك على أنَّ تلحين القرآن ما كان معروفًا عندهم، ولا معمولاً به فيما بيْنهم، فوجب ألاّ يُعمل به، ولا يُعرَّج عليه، فإنه أمرٌ مُحْدَثٌ، وكلُّ مُحْدَثٍ بدعةٌ، "وكل بدعة ضلالة"
(5)
،.
(6)
.
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 65).
(2)
-تلبيس إبليس (ص: 113 - 114)
(3)
- كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (1/ 269)
(4)
- المرجع السابق (3/ 304 - 305).
(5)
- صححه الألباني في صحيح أبي داود (4607)
(6)
- كشف القناع عن حكم الوجد والسماع (ص 113).
وقول أبي العباس القرطبي من أجود ما قيل في هذه المسألة.
المطلب السادس: إجماع أهل العلم المعاصرين على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية
وقد أجمع أهل العلم المعاصرين على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية.
ومن أبرز هؤلاء:
1 - سماحة شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله
-:
حيث يقول سماحته:
لا يجوز للمؤمن أن يقرأ القرآن بألحان الغناء وطريقة المغنين بل يجب أن يقرأه
كما قرأه سلفنا الصالح من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، فيقرأه مرتلاً متحزنًا متخشعًا حتى يؤثر في القلوب التي تسمعه وحتى يتأثر هو
بذلك. أما أن يقرأه على صفة المغنين وعلى طريقتهم فهذا لا يجوز.
(1)
2 - شيخنا العلامة صالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله
-
حيث سئل ما حكم تلاوة القرآن على المقامات الموسيقية؟
فأجاب -حفظه الله- قائلًا: نعوذ بالله من ذلك لا يجوز قراءة القرآن بالألحان وجعلها أغاني، المقامات هذه للأغاني عند الصوفية، ولا يجوز قراءة القرآن عليها، ولا يجوز اتخاذ القرآن أغاني وإنما يتلى القرآن كما كان النبي- صلى الله عليه وسلم وصحابته وأهل العلم يتلونه، أما أن يتلى كما تتلوه الصوفية والمبتدعة والمغنين هذا حرام.
(2)
.
وقول شيخنا الفوزان في وجوب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته هو نفس قول شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله، وكأنه خرج من مشكاة واحدة.
3 - الدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري:
(3)
حيث يقول: القراءة بالألحان لا تخرج عن حالتين:
…
الحالة الأولى:
الألحان التي تسمح بها طبيعة الإنسان من غير تصنّع، وهذا ما يفعله أكثر الناس عند قراءة القرآن، فإن كل من تغنّى بالقرآن فإنه لا يخرج عن ذلك التلحين البسيط، وذلك جائز، وهو من التغني الممدوح المحمود، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
(ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن)
(4)
، وعلى هذه الحالة يحمل الحكم بالجواز والاستحباب.
الحالة الثانية:
الألحان المصنوعة والإيقاعات الموسيقائية التي
(1)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/ 9 ص/ 290.
(2)
-عن الموقع الرسمي لمعالي الشيخ الفوزان.
(3)
- نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه ورئيس قسم القرآن وعلومه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
(4)
- أخرجه البخاري في صحيحه (7527)
لا تحصل إلا بالتعلم والتمرين، ولها مقادير ونسب صوتية لا تتم إلا بها، فذلك لا يجوز؛ لأن أداء القرآن له مقاديره التجويدية المنقولة التي لا يمكن أن تتوافق مع مقادير قواعد تلك الألحان إلا على حساب الإخلال بقواعد التجويد، وذلك أمر ممنوع.
(1)
كما أفتى بالمنع جمع من أعلام المعاصرين كذلك منهم على سبيل البيان لا الحصر أصحاب الفضيلة:
1 -
علماء اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
(2)
- وحسبك بهم-
2 -
الشيخ العلامة الفقيه محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
3 -
الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك
4 -
الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله وإن كان ضمن أعضاء اللجنة الدائمة إلا أن له فتوى مستقلة بالمنع أيضًا
4 -
الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين رحمه الله
5 -
فضيلة الشيخ/ أحمد بن عيسى المعصراوي شيخ عموم المقارئ المصرية
6 -
فتاوى علماء الأزهر.
ولا يُعلم عن أحد من أعلام الأمة الأثبات-المعتبرين-المعاصرين- أي خلاف في تحريم قراءة القرآن بتلك "المقامات الموسيقية" المبتدعة التي ليس عليها عمل السلف.
وما ينادي به بعض الناس من تلحين القرآن بزعم تصوير المعاني وضبط الأنغام، وربما تمادى بعضهم وطالب بما يقارن تلك الألحان بالآلات الموسيقية: فكل ذلك جرأة على كتاب الله - تعالى ذِكرُه وتقدس اسمُه-، ولا شك أن الاشتغال بتلك الأنغام يوقع القارئ في تحوير الألفاظ، ويصرف السامع عن تدبر المعاني، بل يفضي بها إلى التغيير، وكتاب الله تعالى المجيد ينزه عن ذلك.
(3)
ونعجب ممن اشتهر في العالم الإسلامي بحسن قراءته أن يكون طريقه في التعلم وإتقان القراءة: الأغاني الماجنة! وقد اعترف بعضهم أنه كان يستمع للأغنية ذات
(1)
- تقرير عن لقاء (القراءة بالألحان بين المنع والتجويز والنظرية والتطبيق)، مقال عن موقع الألوكة، الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري، - تاريخ الإضافة: 29/ 10/ 2010 ميلادي - 21/ 11/ 1431 هجري.
(2)
يُنظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: (26/ 37). فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى المؤلف: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش عدد الأجزاء: 26 جزءا الناشر: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء - الإدارة العامة للطبع - الرياض.
(3)
مقتبس من مقال في " ملتقى أهل التفسير ".
المعازف حتى يتعلم طريقة القراءة! وقد انتشرت صورة لبعض كبار القراء وهو بجانب " البيانو "! بل وتشترط إذاعة عربية على كل مقرئ فيها أن يحمل شهادة من معهد موسيقي! وإلا حُرِمَ القراءة فيها، وقد وفق الله تعالى كثيرًا من القراء في العالم الإسلامي، وأثروا في الناس بقراءتهم ولم يتعلموا مقامًا ولم يسمعوا أغنية، وبعض المهووسين بهذه المقامات يسمع القارئ المتقن الموفَّق فينسب قراءته لإحدى المقامات ويوهم نفسه وغيره أن هذا القارئ ممن يمشي على طريقته بالقراءة على حسب أغنية أو لحن معيَّن، وليس الأمر كذلك، وإنما هو وَهْمٌ مَحْضٌ.
(1)
المطلب السابع: وجوب تنزيه القرآن عن " المقامات الموسيقية"، إجلالًا وتوقيرًا وتعظيمًا لكلام الله
وهنا تنبيهات هامة يجدر التنبيه عليها والانتباه إليها
وأخيرًا بعد البحث القاصر في هذه المسألة فإنه يجب الإشارة إلى بعض التنبيهات الهامة على النحو التالي:
التنبيه الأول: أن قراءة القرآن بتلك "المقامات" أمر محدث ليس عليه عمل السلف.
ولذا لا يحل لمسلم أن يقرأ القرآن إلا بالطريقة التي تعبد الله تعالى بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهي التي تلقاها عن الأمين جبريل عليه السلام وعلمها أصحابه، وهي التي تواتر نقلها مشافهة عنهم حتى وصلت إلينا على الحال الأولى التي نزل بها القرآن.
التنبيه الثاني: أنه يجب تنزيه القرآن عن العبث بأي صورة وتحت أي مسمى، ولا سيما بما يسمى بـ" المقامات الموسيقية"، إجلالًا وتوقيرًا وتعظيمًا لكلام الله جل في علاه.
التنبيه الثالث: لقد أنزل الله القرآن لِيُتدبر كما قال سبحانه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)(ص: 29)، أي: ليتدبَّروا حُجَج الله التي فيه، وما شرع فيه من شرائعه، فيتعظوا ويعملوا به
(2)
، ولا شك في أن تعلم تلك المقامات صارف عن التدبر الذي أنزل القرآن لأجله.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ولأن ذلك فيه تشبيه القرآن بالغناء، ولأن ذلك يورث أن يبقى قلب القارئ مصروفًا إلى وزن اللفظ بميزان
(1)
مقتبس من مقال، تلاوة القرآن على المقامات، الإسلام سؤال وجواب، بتاريخ: 25/ 5/ 20011 م. بتصرف يسير.
(2)
- تفسير الطبري (79/ 20).
الغناء لا يتدبره ولا يعقله، وأن يبقى المستمعون يصغون إليه لأجل الصوت الملحَّن كما يصغى إلى الغناء لا لأجل استماع القرآن وفهمه وتدبره والانتفاع به.
(1)
ويقول ابن رجب (ت: 695 هـ) رحمه الله:
وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة تُهيِّج الطباع وتلهي عن تدبر ما يحصل له الاستماع حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبّر معاني القرآن.
(2)
قال ابن الصلت الأهوازي (ت: 408 هـ) رحمه الله:
سمعت جماعة من شيوخي يقولون لا يجوز للمقرئ أن يقرأ بخمسة أضرب:
بالترقي، والترعيد، والتطريب، والتلحين، والتحزين؛ إذ ليس لها أثر ولا نقل عن أحد من السلف، بل ورد إلينا أن بعض السلف كان يكره القراءة بها.
(3)
وقال أبو بكر الطرطوشي (ت: 520 هـ) رحمه الله:
وهذا يمنع أن يُقرأ بالألحان المطربة والمشبهة للأغاني؛ لأن ذلك يُثمر صدَّ الخشوع ونقيض الخوف والوجل.
(4)
.
المطلب الثامن: التحذير من الجرأة على كتاب الله
من أكبر الفواجع
ومن أكبر الفواجع الكبرى التي قد سمعنا عنها قديمًا إقدام أحد المطربات الشهيرات على تسجيل بعض آيات القرآن الكريم بصوتها، ومن تلك الفواجع الناجمة عن فتح هذا الباب على مصراعيه أيضًا إقدام بعض أهل الطرب المعاصرين على طلب التصريح بتسجيل القرآن بصوته رسميًا من الأزهر، وقد رُفِضَ طلبه بشدة.
وقد ألف ابن كيال الدمشقي (ت: 929 هـ) كتابًا في النهي عن قراءة القرآن بالألحان سماه " الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر".
(5)
المطلب التاسع: تفخيم الصوت بالتلاوة
ومن آداب تلاوة القرآن كذلك: أن يفخم القارئ تلاوته بلا تكلف ولا تعسف.
قَالَ الْحَلِيمِيُّ:
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ، وَلَا يُخْضِعُ الصَّوْتَ فِيهِ
(1)
جامع المسائل (3/ 305).
(2)
نزهة الأسماع في مسألة السماع: (ص: 85).
(3)
-الإقناع في القراءات السبع (1/ 155).
(4)
- الحوادث والبدع: (ص: 87).
(5)
الذيل على كشف الظنون (1/ 131).
كَكَلَامِ النِّسَاءِ.
(1)
والمقصود بالتفخيم هنا، أي: أنه لا يقرأه بصوتٍ ناعم منغم كصوت النساء -مثلاً-، ولا بصوت فيه نوع تميع، وذلك كالتلاوات التي انتشرت بمثل هذه الطريقة، وإنما يقرأه ويفخمه على أنه رجل، ويقرأ بسجيته وجبلته بلا تكلف ولا تعسف، فيقرأ الرجل بجبلته وسجيته، كما أن المرأة- كذلك- تقرأ بجبلتها وسجيتها، كل بجبلته وسجيته. وممن نوه على مثل ذلك صاحب البرهان.
(2)
ويُعد ذكر هذا الضابط من الأهمية بمكان تحذيرًا وتنبيها لما يُرى من كثرة انتشار بعض الأصوات الشبابية التي فيها تكلف للتنعم والتنغم وكأنها أصوات نسائية.
الفصل الثاني الإجازة القرآنية وما إليها
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ضوابط الإجازة القرآنية
وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: أن يكون القارئ حافظًا مجازًا وَمَسْنَدًا
أضف إلى ما سبق ذكره من ضوابط: أن يكون القارئ المزمع تسجيل القرآن بصوته من الحفاظ المتقنين ليتمكن من جودة النطق وعدم التلعثم الذي قد يعتري من لم يحفظ غالبًا، وأن يكون مجازًا بالقراءة أو الرواية التي يريد تسجيلها بصوته من أئمة عصره ومصره الأثبات بالسند المتصل إلى من نزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم، والذي تلقَّاه عن جبريل عليه السلام، كما بين الله تبارك وتعالى ذلك بقوله سبحانه:(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(النمل: 6)، وقوله (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي: يلقى عليك فتلقَّاه وتعلمه وتأخذه
(3)
. وقد جاء جليًا صريحًا ذُكْرُ من عَلَّمَهُ وتلقَّاه عنه في قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)(النجم: 5)، و (شَدِيدُ الْقُوَى) هو جبريل عليه السلام.
وإن رب العزة جل في علاه قد تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وسمعه جبريل عليه السلام كذلك من رب العزة بحرف وصوت فنزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فبلغه إياه كما سمعه، وقد قال في ذلك سبحانه:(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(الشعراء: 193 - 195).
فَوَعّاه اللهُ قَلْبَهُ وثَبَتَه فيه فلا ينْساه أَبدًا، وقد بَلَّغَهُ صلى الله عليه وسلم لأمته كما تلقَّاه وسمع من جبريل عليه السلام دون أدنى تصرف فيه.
(4)
(1)
- الإتقان، للسيوطي:(1/ 109).
(2)
- البرهان في علوم القرآن: (1/ 467).
(3)
- تفسير القرطبي (7/ 105).
(4)
- و (القرآن كلام الله، منه بدا، بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر (الطحاوية 1/ 168 (اللجنة العلمية)).
المطلب الثاني: مفهوم الإجازة القرآنية
والإجازة القرآنية: هي عمليةُ النَّقلِ الصوتيِّ للقرآن الكريمِ من جيلٍ إلى جيل، وفيها يَشهدُ المُجيزُ أنَّ تلاوةَ المُجازِ قد صارت صحيحةً مئةً بالمئةِ بالنسبةِ للروايةِ - أو الرواياتِ - التي أجازَهُ بها، ثم يَأذَنُ له أَنْ يَقرأَ ويُقرِئَ غَيرَه القرآنَ الكريمَ.
(1)
وعلى هذا فالإجازة المعتبرة يسمع فيها الشيخُ المُجيزُ من القارئ المُجَاز القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته حرفًا حرفًا، وهو يتلقاه عنه طرفًا طرفًا.
المطلب الثالث: أهميةُ الإجازةِ
مما لا شكَّ فيه أنَّ طلبَ الإجازةِ في قراءةِ القرآنِ الكريمِ، قراءةً صحيحةً، متَّصلةَ السَّنَدِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرٌ محمودٌ شرعًا، كيف لا وقد جاء عن بعضِ السلَفِ رحمهم الله الرِّحلةُ في طلب الحديث؟ فالرِّحلةُ في طلبِ إتقانِ تلاوةِ القرآنِ مِنْ بابِ أَوْلى، وصاحبُها مأجورٌ مشكور.
وتبرُزُ أهميةُ الإجازةِ بأنه: لا يَصحُّ لأحدٍ أن يُقرئَ القرآنَ الكريم، حتى يأخذَه أخذًا كامِلًا من أفواهِ المشايخِ العارفين المُتقِنين، ويُؤذَنَ له بالإقراء، فإن لم يُؤذنْ له بالإقراءِ فلا ينبغي أن يُقرئَ القرآنَ حتى لو قرأَ القرآنَ مراتٍ عديدة، فإنَّ السماعَ والعَرْضَ لا يكفِيانِ في صِحَّةِ أداءِ القرآنِ بعد زمانِ شُيوعِ اللَّحْن، بل لا بُدَّ معهما من إجازةٍ وإذنٍ بالقراءةِ والإقراءِ، وذلك لأنَّ الطالبَ قد يقرأُ القرآنَ كلَّه على شيخِه مِرارًا ولا يُتقِنُ الأداءَ فلا يُجيزُه الشيخ، ومِن ذلك ما ذكرَه ابنُ الجزريِّ -رحمه اللهُ تعالى- عن الإمامِ أحمدَ بنِ أحمدَ بنِ إبراهيمَ الهاشميِّ (ت 646 هـ) أنَّه قرأ عليه أبو جعفرٍ بنُ الزبيرِ روايةَ ورشٍ عِدَّةَ خَتَمات، قال: ولم يُجِزْني، وقرأ عليه بعضُ أَتْرابي وأجازَ له.
ومِن هنا: كان بعضُ السَّلفِ رحمهم الله يَطلُبون من بعضِ تلاميذِهم إِعادةَ قراءةِ القرآن مرَّاتٍ عديدةٍ حتى يَستوثِقوا مِنْ إتقانِهم.
فمِن ذلك: أنَّ مجاهدَ بنَ جَبْرٍ المكِّيَّ قرأ على ابنِ عبَّاسٍ ثلاثينَ ختمة يستوقفه عند كل آيةٍ يسأله عنها.
(2)
ومِن ذلك: أنَّ الإمامَ أبا جعفرٍ عرَضَ القرآنَ على مولاه عبدِ اللهِ بنِ عيَّاش، وعلى عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ، وعلى أبي هريرةَ رضي الله عنهما.
ومِن ذلك: أنَّ الإمامَ نافعَ بنَ أبي نُعيَمٍ قال:
(1)
المعايير العلمية لتعليم القرآن الكريم في مجال الإجازة القرآنية بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المجلس العالمي لشيوخ الإقراء، بتاريخ: 25 ربيع الآخر 1440 هـ.
(2)
(الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 6 صـ 19)، (والجرح) 8/ 319، (والحلية) 3/ 280، (وتهذيب الأسماء) 2/ 83، (وتهذيب الكمال (3/ 1305، (والعبر) 1/ 95)
قرأتُ على سبعينَ مِنْ التابعِين.
(1)
فإذا أجاز الشيخ المُجِيزُ القارئَ إجازةً صحيحةُ بشرطها المعتبر عند أهل البحث والنظر فقد اتصل سنده بتلك الإجازة بإسناد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح ضمن سلسلة الناقلين للقرآن الكريم بالسند الصحيح الثابت بالنقل المتواتر المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أصبح بذلك أهلًا لإجازة غيره.
المطلب الرابع: ضابط شرط الإجازة لمن يُسجل له القرآن
وضابط شرط الإجازة لمن يُسجل له القرآن أن يكون مجازًا من أئمة عصره ومصره الأثبات وذلك لأمور: من أهمها ما يلي:
1 -
لضمان عدم التساهل في الإجازة التي حدثت في الأزمنة المتأخرة
2 -
لزيادة تحقق الاستيثاق من هذه الإجازة، وذلك لاشتهار أئمة كل عصر ومصر بين أهل زمانهم وظهورهم وبروزهم فيهم فلا ينسب إليهم إجازة من لم يجيزوه
3 -
لدفع القراء لطلب للإتقان وطلب علو الإسناد والأخذ والتلقي عن الأكابر للتأهل قبل التصدر.
المطلب الخامس: الإجازة سنة متبعة
وقد زكى النبي صلى الله عليه وسلم جمعًا من أصحابه ممن تلقوا عنه وأتقنوا قراءة القرآن.
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه القرآن منذ بزوغ فجر نزوله في الغار، وكذلك حرص أصحابه على التلقي والأخذ عنه صلى الله عليه وسلم وتنافسوا في هذا المضمار أيما تنافس، وقد سطع نجم عدد منهم فاعتنوا بالقرآن وتعلمه وإتقانه حتى تميزوا في تَعَلُمِهم فزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم وحث ورغَّب في التلقي والأخذ عنهم.
المطلب السادس: مكانة الإسناد من الدين
قال عبدالله بن المبارك (ت: 181 هـ) رحمه الله:
الإسنادُ من الدِّين، ولولا الإسنادُ لقال مَنْ شاء ما شاء، فإذا قيل له: مَنْ حَدَّثَك؟ بَقِي أي: بقى متحيرًا لا يدري ما يقول، لأنه لا إسناد معه يعرف به صحة الحديث أو ضعفه
(2)
(1)
-المعايير العلمية لتعليم القرآن الكريم في مجال الإجازة القرآنية بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المجلس العالمي لشيوخ الإقراء، بتاريخ: 25 ربيع الآخر 1440 هـ.
(2)
- مقدمة صحيح مسلم، باب في أن الإسناد من الدِّين وأن الرواية لا تكون إلاّ عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل مِنْ الذبّ عن الشريعة المكرمة، 1/ 15، والعِلَل الصغير المطبوع في آخر السنن، محمد بن عيسى التِّرمِذي، تحقيق: أحمد شاكر، (القاهرة: مطبعة الحلبي وشركاه، بدون تاريخ)، 5/ 740.
وللتوسع حول هذه الكلمة الهامة وتصحيفاتها يُنظر: أبو غدة، عبدالفتاح، الإسناد من الدين وصفحة مشرقة من تاريخ سماع الحديث عند المحدثين، الطبعة الأولى، (دمشق: دار القلم، 1412 هـ 1992 م)، (ص: 51).
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله:
الإسناد خصيصةٌ فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسُنّةٌ بالغة مِنْ السنن المؤكَّدة، وقد رُوِّينا من طريق أبي العباس الدغولي قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إنّ الله تعالى قد أَكرمَ هذه الأمةَ وشَرَّفَها وفَضَّلَها بالإسناد، وليس لأحدٍ مِنْ الأمم كلِّها قديمها وحديثها إسنادٌ موصول، إنما هو صُحُفٌ في أيديهم، وقد خَلَطُوا بكتبهم أخبارَهم، فليس عندهم تمييزٌ بين ما نزل مِنْ التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتَّخذوها عن غير الثقات.
(1)
(1)
-الزَّرْقاني، محمد بن عبدالباقي، شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللَّدنية بالمِنَح المحمدية للقَسْطَلاني، تحقيق: محمد عبدالعزيز الخالدي، الطبعة الأولى، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1417 هـ 1996 م)، 7/ 474.
مطلب: أبرز من زكاهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم
[*]
أولًا: التزكيات الجماعية
فقد زكى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جمعًا ممن تميزوا في التلقي عنه، وممن زكاهم تزكية جماعية لسبقهم وفضلهم أربعة نفر.
فقد ثبت في الصحيحين أنه ذُكِرَ عبدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو، فَقالَ: ذَاكَ رَجُلٌ لا أزَالُ أُحِبُّهُ، سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أرْبَعَةٍ مِنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ - فَبَدَأَ به -، وسَالِمٍ، مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ، ومُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ.
(1)
وهذه التزكيات الجماعية لهؤلاء الأربعة نفر من الصحابة هي بمثابة الإجازة، فقوله (خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أرْبَعَةٍ) يُعد إجازة صريحة، كما يُعد تزكية لهم لا تعلوها تزكية، حيث جاء الأمر بالأخذ عنهم بلفظ صريح من النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: تزكية أبيِّ بن كعب رضي الله عنه
-:
ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال لِأُبَيٍّ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ القُرْآنَ قالَ أُبَيٌّ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قالَ: اللَّهُ سَمَّاكَ لي فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي، قالَ قَتَادَةُ: فَأُنْبِئْتُ أنَّهُ قَرَأَ عليه: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ)(البينة: 1).
(2)
وقد ثبت عند الترمذي وغيره بسند صحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ..... وأقرؤُهُم لِكِتابِ اللَّهِ أبيُّ بنُ كعبٍ .... ".
(3)
وهذه لا شك تزكية صريحة لسيد القراء رضي الله عنه.
ثالثًا: تزكية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
-
ثبت في المسند بسند صحيح عن زر بن حبيش من حديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: .... من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد .....
(4)
وهذه تزكية قل أن تعلوها تزكية وإن كانت، ومع ذلك فهي منقبةٌ عظيمةٌ جليلة القدر.
وها هو عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه يقول عن نفسه:
"والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت،
ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه".
(5)
عن شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: خطبنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ-رضي الله عنهم فقَالَ:
"وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم-أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ".
قالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا، يَقُول غَيْرَ ذَلِكَ.
(6)
رابعًا: تزكية أبيِ موسى الأشعري رضي الله عنه
-
ولقد استمع رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لقراءة أَبِي مُوسَى ثم قَالَ له: "لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ "
(7)
،
ومجرد حرصه صلى الله عليه وسلم على الاستماع لقراءة أَبِي مُوسَى يُعد تزكية من أعلى التزكيات.
خامسًا: تزكية مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما
-
لقد أرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مصعبَ بن عمير العَبْدري وعبدَ الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما ليعلما الناسَ القرآنَ في المدينة قبل هجرته، ولاشك في أن إرسالهما للتعليم والقيام بهذه المهمة الجليلة يُعد تزكية لهما.
وقد ثبت عند البخاري من حديث البَرَاء بْن عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ
…
(8)
.
سادسًا: تزكية عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهم
-
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمِعتُ هشامَ بنَ حَكيمِ بنِ حزامٍ يقرأُ سورةَ الفرقانِ، فقرأَ فيها حُروفًا لم يَكُنْ نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أقرأَنيها، قُلتُ: مَنْ أقرأَكَ هذِهِ السُّورةَ؟ قالَ: رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلتُ: كذبتَ، ما هَكَذا أقرأَكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! فَأخذتُ بيدِهِ أقودُهُ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! إنَّكَ أقرأتَني سورةَ الفرقانِ، وإنِّي سمِعتُ هذا يقرأُ فيها حروفًا لم تَكُنْ أقرأتَنيها! فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا هشامُ. فقرأَ كما كانَ يقرأُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ: اقرَأ يا عمرُ. فقرأتُ، فقالَ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ: إنَّ القرآنَ أُنْزِلَ علَى سَبعةِ أحرُفٍ.
(9)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا هشامُ" ....... ثم قوله: "هَكَذا أُنْزِلَت". ثمَّ قوله: "اقرَأ يا عمرُ ...... ثم قوله: "هَكَذا أُنْزِلَت"، فهذه تزكية لهما تدلل على صحة قراءتيهما.
وغير هذه التزكيات وردًا كثيرًا على لسان من أُنْزِل عليه القرآنِ صلى الله عليه وسلم.
مطلب: قدر ومكانة التزكيات النبوية
[*]
وهذه التزكيات النبوية الواردة في الأحاديث السابقة تدل دلالة واضحة بينة على تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لأولئك النفر من أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهي تزكيات بمثابة ومكانة الإجازات اللفظية المتعارف عليها عند أهل العلم عمومًا وعند أهل الإقراء خصوصًا، وهي وإن كانت تزكيات، فهي في حكم الإجازات اللفظية، ولا شك في أن تلك التزكيات والإجازات اللفظية لها مكانتها وقدرها بل وتقدمها على الإجازات الخطية، وهي تعد بمثابة إجازات سمعية، وأن لها قدرها ومكانتها باعتبار قدر ومكانة خير مُجِيزٍ وخير مُجَازٍ.
كما أنه صلى الله عليه وسلم قد زكى جمعًا من أصحابه غير هؤلاء وأثنى على قراءتهم وتلاوتهم كذلك.
ومن أبرز هؤلاء زيد بن ثابت الذي - قيل أنه- حضر العرضة الأخيرة
(10)
ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.
(11)
.
وكذلك تزكية كُتَّابِ الوحي وهم جمع غفير، فمنهم من كان يكتب في بعض الأحايين، ومنهم من كان مستديمًا على كتابة الوحي ومتفرِّغًا ومتخصِّصاً له، وهؤلاء الكُتَّابِ منهم من اتخذهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، ومنهم من اتخذهم بعد الهجرة في المدينة وأضافهم إليهم، ومنهم من اتخذهم بعد الحديبية وأضافهم إليهم كذلك، وقد ذكرهم محمود شاكر في "التاريخ الإسلامي" بأسمائهم.
(12)
.
واتخاذ هؤلاء الكُتَّاب للوحي يعُد تزكية لا تعلوها تزكية، حيث ائتمنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على كتابة الوحي لعلمهم بالكتاب ولحسن ديانتهم وأمانتهم.
(1)
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب أُبي بن كعب (779) رقم الحديث (3808)، والترمذي في جامعه، كتاب المناقب، باب: مناقب عبدالله بن مسعود (864) برقم (3810)، وقال:"حديث حسن صحيح"، وأحمد في مسنده (2/ 163).
(2)
رواه البخاري (4960) واللفظ له، ومسلم (799). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
رواه الترمذي (3791)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8242)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3791).
(4)
مسند الإمام أحمد 7/ 359 رقم 4340. وقال شعيب الأرناؤوط ومن معه: " صحيح بشواهده، وهذا إسناد حسن ". وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة 5/ 379 رقم 2301.
(5)
-صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن (4716)
(6)
-صحيح البخاري، كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ-بَاب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى، حديث رقم:(4641).
(7)
- صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم 793.
(8)
- صحيح البخاري (3925)، ويُنظر: التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، كتاب النبوة والرسالة (3/ 238).
(9)
أخرجه البخاري (2419)، ومسلم (818)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2943)، والنسائي (936) واللفظ له، وأحمد (158).
(10)
وثبوت شهود زيد بن ثابت للعرضة الأخيرة محل نظر عند أهل التحقيق لضعف الروايات الواردة فيها، أما الثابت بأسانيد ثابتة صحاح فهو: شهود عبد الله بن مسعود لها، وأما شهود زيد لها فمشتهر فحسب، ومع اشتهاره فالباحث لم يقف على إسناد ثابت صحيح يُعول عليه في شهوده للعرضة الأخيرة إلا ما أشيع في مصنفات علوم القرآن وبعض كتب التفسير.
ولذا قال البغوي في " شرح السنة"(4/ 525) يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي. فرواها بصيغة التمريض "يُقال" ولم يصرح بشهوده لها.
وما يُذْكَرُ من شهود زيد للعرضة الأخيرة في طيات البحث فإنما يُذْكَرُ تمشيًا مع ما أشيع واشتهر واستفاض لا على ما ثبت واستقر، الباحث.
(11)
- رواه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم (1/ 598) ح 3412، ورواه النسائي في السنن الكبرى كتاب فضائل القرآن (3/ 7)، وكتاب المناقب (4/ 36).
(12)
التاريخ الإسلامي ـ محمود شاكر، (ص 937 - 380).
[*](تعليق الشاملة): هذان المطلبان ليسا في المطبوع من المجلة وهما ثابتان في المرسل إلينا من المؤلف - حفظه الله -
المبحث الثاني: أن يكون تسجيل القرآن بصوت رجلٍ "ذكرٍ"
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حكم صوت المرأة
لقد اختلف أهل العلم في حكم صوت المرأة: هل هو عورة أم لا؟
والراجح في أصح قولي العلماء أن صوت المرأة ليس بعورة في حد ذاته إطلاقًا، وهذا القول هو الموافق لعموم الأدلة. وإنما تمنع المرأة من إظهار صوتها عند غير محارمها من الرجال الأجانب لغير حاجة، كما تمنع من ذلك أشد المنع في حال إظهاره على وجه من الترخيم، أو أن يكون فيه تنغم وتنعم وتمطيط و تكسر في الحديث وتليين، أو تغنّج فاتن، أو على وجه فيه انبساط ومؤانسة، أو على وجه فيه خلط بيِّنٍ للضحك والمفاكهة، أو بأي طريقة قد يحصل بها فتنة بسبب صوتها.
ورد في الموسوعة الفقهية:
إنْ كَانَ صَوْتَ امْرَأَةٍ، فَإِنْ كَانَ السَّامِعُ يَتَلَذَّذُ بِهِ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ فِتْنَةً حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُهُ، وَإِلاَّ فَلَا يَحْرُمُ، وَيُحْمَل اسْتِمَاعُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَصْوَاتَ النِّسَاءِ حِينَ مُحَادَثَتِهِنَّ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ تَرْخِيمُ الصَّوْتِ وَتَنْغِيمُهُ وَتَلْيِينُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ إثَارَةِ الْفِتْنَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا)(الأحزاب: 32)
(1)
فنهاهنَّ الله سبحانه عن الخضوع بالقول درءًا للفتنة وخشية أن يطمع فيهنَّ أهل الفساد والشَّهوات ومرضى القلوب.
وسئل أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية:
ما هو الحكم في إقامة مباريات
(1)
-الموسوعة الفقيهة الكويتية (90/ 4).
ترتيل القرآن الكريم بالنسبة للنساء بحضور الرجال؟
فأجابت اللجنة:
ترتيل البنات للقرآن بحضرة الرجال لا يجوز؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة بهن، وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع المفضية للحرام.
(1)
وقد سئل شيخنا الفقيه العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
ما حكم تحسين الصوت في قراءة القرآن للطالبات عند المدرس في الكلية مع أنها غير مطالبة بذلك؟
فأجاب رحمه الله بقوله:
لا أرى أن تحسن صوتها؛ لأن الله تعالى يقول: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا)(الأحزاب: 32)، فكون الطالبة تأتي بالقرآن على وجه الغنة، وتحسين الصوت يخشى منه الفتنة، ويكفي أن تقرأ القرآن قراءة مرسلة عادية.
(2)
.
هذا مع بقاء أن الأصل في المرأة أنها تعلم بني جنسها من النساء، وأن الأصل في الرجل أنه يعلم بني جنسه من الرجال، إلا ما دعت إليه الحاجة والضرورة، وبالضوابط الشرعية، وقل كذلك في التداوي والتطبيب والعلاج.
ويقول شيخنا العلاَّمة المحدث محمد ناصر الدين الألبانيُّ (ت: 1421 هـ) رحمه الله:
الْمُقرِئ إذا كان يُعلِّم النِّساء بواسطة الهاتف؛ ثمَّ هنَّ يقرأنَ ويُسمِعنَ صوتَهنَّ للمُقرِئ؛ فالحكم كما لو سَمِع صوتهنَّ من وراء السِّتارة، ولا يَرى أجسامَهنَّ؛ فالفِتنة حاصلةٌ على الوجهين: سَمِعَ صوتهنَّ بواسطة الأثير والهواء بدون وسيلة الأسلاك هذه، أو بواسطة الأسلاك؛ فالصوتُ هو صوتُ المرأة عينُه.
وصوتُ المرأة ليس بعورة؛ بخلاف ما هو مشهورٌ عند النَّاسِ؛ ولكن يُشترط في ذلك أن يكون صوتُها ذلك الصُّوتُ الطَّبيعي؛ أمَّا وهي تقرأ بالغنَّة، والإقلاب، والإظهار، و ...... و ....... إلخ، والمدُّ الطبيعي والمتَّصِل والمنفَصِل، وهذا هو التَّجوِيد.
ويأتي قوله عليه السلام"مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا
(3)
" إذن هي ينبغي أنْ تَتغنَّى بالقرآن. فلا ينبغي أن يكون هذا أمام رجال إطلاقًا، سواء كان هذا بواسطة الإذاعة، أو بواسطة التليفون.
(4)
وسُئِلَ شيخنا العلامة صالح بن فوزان الفوزان- حفظه الله -:
بالنسبة لصوت المرأة؛ هناك بعض البرامج في تلاوة القرآن يكون من ضمن المشاركين عن طريق الهاتف نساءٌ يَتْلُونَ القرآن، هل في ذلك شيء؟
قال -حفظه الله-: في الإذاعة يعني؟
(1)
- فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية رقم: (5413)
(2)
- من فتاوى اللقاء الشهري، للشيخ ابن عثيمين، لقاء رقم (42)، ويُنظر: الإسلام سؤال وجواب.
(3)
- رواه البخاري (7527).
(4)
- المصدر: فتاوى جدة: الشريط: 20/ الوجه الأول/ الدقيقة: 1: 47 إلى الدقيقة: 3: 53.
السائل: هذا الذي يظهر يا شيخ ..
فأجاب - حفظه الله -:
ما يجوز هذا، ما يجوز أن تُسْمِعَ صوتها للرجال ويسمعها الناس من خلال الإذاعة، هذا ما يجوز، هذا شيءٌ مُحْدَثٌ، ولا هو موجود حتى في إذاعات العالم كلها! ما هو موجود أنَّ النساء تقرأ في الإذاعة، هذا شيء أحدثوه الآن في إذاعة القرآن عندنا في الإذاعة أيضًا البرنامج العام .. أحدثه أُناسٌ جهَّالٌ، هذا لا يجوز أبداً يجب أن يُبَلَّغوا ويقال لهم هذا لا يجوز، نعم، يا أخي الإذاعات الدول العربية كلها ما فيها نساءٌ تقرأ، وهذه الإذاعة أولى الإذاعات بالعمل بالسنة وعدم إحداث شيءٍ ليس له سابقةٌ في الشرع.
(1)
المطلب الثاني: تسبيح المرأة في الصلاة إذا كانت بحضرة الرجال
تسبيح الرجال وتصفيح النساء للتنبيه في الصلاة
وقد ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ..... مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ؛ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ". وفي رواية: "إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ"
(2)
.
والتصفيح هو: التصفيق، كما وضحته الرواية الثانية.
وحكمة التفريق بين الرجال والنساء في التنبيه أثناء الصلاة ظاهرة، فالمرأة مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقًا؛ خشية الافتتان بها بحضرة الرجال الأجانب، فناسبه مشروعية التصفيق في حقها لا التسبيح، واختُلف إذا لم تكن بحضرة رجال أجانب فهل تسبح؟ قيل تسبح؛ لأن التسبيح ذكر مشروع في الصلاة، ولانتفاء العلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد التفريق بقوله:" التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" إذا كانت بحضرة الأجانب، وهو وجيه.
(3)
وقيل: تصفق مطلقًا لعموم النص، ولا دلالة فيه على التفريق بين حال وجود رجال أجانب من عدمه، وهذا القول أقوى لظاهر الحديث.
(4)
وإذا كانت المرأة مطالبة بالتصفيق بصفحها أي: بـ"كفها" مقابلة وعوضًا
(1)
-من درس "المنتقى من أخبار سيد المرسلين" بتاريخ: 6/ 4/ 1434 هـ
(2)
-أخرجه البخاري في "كتاب الأذان""باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر جازت صلاته"(684)، وأخرجه مسلم (421)، وأخرجه النسائي في" كتاب الإمامة""باب إذا تقدم الرجل من الرعية ثم جاء الوالي هل يتأخر"(783).
(3)
- يُنظر: فتح الباري لابن رجب (9/ 310).
(4)
- وهذا الرأي هو اختيار شيخنا العثيمين رحمه الله، ولاشك أنه رأي له وجاهته، حيث وقف الشيخ فيه عند النص، يُنظر: تعليقه على مسلم (3/ 127).
يقول الباحث: وإن كان لها أن تجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية حال إمامتها بالنساء.
عما يخص الرجال من التسبيح في مواطن التنبيه في الصلاة، والتي هي محل الخشوع والخضوع والذل وحضور القلب وسكون الجوارح وتعظيم الرب جل في علاه، فما ظنك بغيرها من المواطن.!.
فإذا كانت قراءة القرآن من قارئ حسن الصوت تؤثر في السامع وتجذبه إليه، فلا شك في أن المرأة التي تقرآ القرآن وترتله وتجوده ستحاول التأثير في السامعين بكل ما أُتت من قوة كذلك، فستجتهد في تحسن صوتها وتجمله وترخمه وترققه وتنمقه وبالتالي ستكون أكثر تأثيرًا، وهذا الأمر هو الذي يفتح باب الافتتان بصوتها ولا سيما من مرضى القلوب.
المطلب الثالث: نهي المرآة عن الخضوع بالقول
والله تبارك تعالى قد نهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن الخضوع بالقول، ومن هنّ في الشرف، ورفعة المكانة، وعلو القدر؟! هنَّ أمهات المؤمنين المطهرات المبرءات، وهنَّ من أشرف نساء العالمين، وهنَّ اللائي لا يلحقهنَّ في الفضيلة والمنزلة والمكانة والقدر أحدٌ، فهنَّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وهنَّ أمهات للمؤمنين في الإكرام، والتبجيل، والتقدير، والفضل، والمكانة، والتوقير، والإجلال، والإعظام، والإكبار قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الأحزاب: 6).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاحهن بعد موته صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب احترامهن، فهن أمهات المؤمنين في الحرمة، والتحريم، ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية.
(1)
.
وهنَّ اللائي لم ولن يطمع فيهن بشرٌ، ومع ذلك كله فقد قال سبحانه لهنَّ:(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا)(الأحزاب: 32) وكان هذا في عصر خير أصحاب لخير لنبي.
والخطاب وإن كان موجه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، أو ليس من باب أولى أن يوجه لعموم نساء الأمة كذلك، وهنَّ تبع لهنَّ في ذلك، ولا سيما في زمن الغربة والبعد عن نور الوحي ومشكاة النبوة، وشيوع الجهل، وانتشار وفشو الرذائل، وكثرت وشيوع تواجد الرويبضة وتمكينهم من البروز في وسائل الإعلام المتنوعة، وكثرت دعاة التحرر والتمدن والتحلل من القيم والأخلاق باسم الحرية، ناهيك عن علو صوت الكثير من منتكسي الفطرة من دعاة الانحلال الأخلاقي ممن يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وهؤلاء هم الذين توعَّدهم الله تعالى بالعذاب في قوله سبحانه: (إِنَّ
(1)
- يُنظر: منهاج السنة لابن تيمية. (4/ 207)، بتصرف.
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19)، وهم الذين ترى حرصهم على إخراج الطاهرات العفيفات من خدورهنَّ بكل وسيلة وتحت مسمى أي غاية.
المطلب الرابع: دواعي مناقشة ضابط تسجيل القرآن (بصوت رجلٍ "ذكرٍ")
وختامًا
فإن الباحث لم يقف على مناقشة هذا المبحث وإفراده بالبحث والمناقشة والمدارسة من قِبِلِ أيِّ من الباحثين المعاصرين في سياق مبحث "تسجيل القرآن"؟!، فلماذا كانت مناقشة هذا الضابط إذًا؟!، ويا تُرى ما هي الدواعي لانفراده ببحث هذا الضابط ومناقشته ومدارسته ولم يناقشه أحدٌ ببحث مستقل فيما يعلم؟!، وهل تعد مناقشته تلك من نافلة القول، ومن التعسف والتكلف الذي لا داعي لذكره أصلًا لأنه أمر معلوم بالبديهة أن الذي سَيُسَجَلٌ له القرآنُ لا بد أن يكون رجلًا ذكرًا لا امرأة، أم هي من صلب وأساس موضوع البحث؟!
يبين الباحث أهم تلك الدواعي فيقول:
أولاً: إن من أهم تلك الدواعي تدارك عدم تكرار تلك الواقعة التي قد يستبعد الكثير وقوعها أصلًا، فإن تسجيل صوت النساء للقرآن قد وقع بالفعل وتكرر في عشرينيات القرن الميلادي الماضي من قبل بعض المقرئات في مصر، وأذيعت تلك التسجيلات في الإذاعات الأهلية وبعضها أذيع في إذاعات عالمية إبَّان الحرب العالمية الثانية، وبعض تلك التسجيلات ما تزال موجودة ومتداولة، وقد وقف الباحث على بعض منها، وهي مبثوثة عبر وسائل التقنية الحديثة.
(1)
(1)
- ومن هؤلاء النسوة المقرئات:
1 -
الشيخة أم محمد: أول مقرئة للقراَن الكريم فى مصر، وهى تعتبر أول مقرئة للقراَن الكريم فى مصر، ظهرت فى عهد "محمد على باشا" وكان من عادتها إحياء ليالي شهر رمضان في حرملك الوالي، وكانت تقوم بإحياء ليالي المآتم في قصور قواد الجيش وكبار الدولة، وكانت موضع إعجاب محمد على وأمر بسفرها إلى اسطنبول لإحياء ليالي شهر رمضان في حرملك السلطان، وقد ماتت الشيخة "أم محمد" في أواخر حكم محمد على ودفنت في مقبرة أنشئت لها خصيصًا في مسجد الإمام الشافعي، وجرت مراسم تشييع الجنازة في احتفال عظيم. (مع التحفظ من دفن الأموات في المساجد، وذلك للنهي الوارد في اتخاذ القبور مساجد في أحاديث كُثُر، منها على سبيل المثال لا الحصر قوله- صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها". رواه مسلم (972). من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه.
2 -
الشيخة سكينة حسن: أول صوت نسائي تسجل تلاوتها للقراَن على أسطوانات
3 -
الشيخة كريمة العدلية: الصوت النسائي الذى غزى الإذاعات الأهلية بتلاوة القراَن، وقد وُجِدَ لها مؤخرًا تسجيلًا عمره أكثر من قرن تقرأ فيه الجزء الأول من سورة الإسراء.
4 -
الشيخة منيرة عبده: أصغر مقرئة قراَن، صوتها تعدى حدود مصر، ففي عامها الـ 18 بثت لها الإذاعة (1920 م) بعض التلاوات، ورغم أنها كانت كفيفة إلا أنها تمكنت أن تكون الوحيدة التى يسمح لها بقراءة القراَن فى الإذاعة وكانت تتقاضى عن ذلك 5 جنيهات وذاع صيتها حتى بلغ دول عدة فى الوطن العربي، حتى أن أحد أثرياء تونس عرض عليها إحياء ليالي شهر رمضان فى قصره إلا أنها لم تستطع السفر.
5 -
الشيخة مبروكة: التى اكتشفت لها تسجيلاً عمره مئة عام بالتمام والكمال، تقرأ فيه أول سورة الإسراء بصوتها الجهوري الممتلئ
6 -
الشيخة نبوية النحاس: التى توفت عام 1973 م، والتي كانت ترتل فى المناسبات العامة
والدينية والافراح والمآتم، وبهذا انطوت صفحة تلاوة المرأة للقرآن وكان الاستماع إليها مقصورًا على النساء.
للاستزادة يُنظر: كتاب " ألحان من السماء" لـ"محمود السعدني" (ص: 36، وما بعدها، وقدم ترجم لهن "السعدني" في خمسة صفحات من كتابه، وقد تم نقل تراجمهنَّ بتصرف واختصار وترتيب وتهذيب من الباحث، والكتاب عليه مآخذ شديدة يصعب حصرها.
6 -
الشيخة خوجة إسماعيل
يقول الباحث عصمت النمر في مقال نشرته مجلة "الهلال":
قدمت الإذاعة في الأسبوع التالي قارئة ثالثة هي الشيخة "خوجة إسماعيل" وجاءت تلاوتها الإذاعية الأولى في العاشرة من صباح الأحد 19 نيسان (أبريل) 1936، ونوهت مجلة الراديو المصري في صفحة 16 العدد 571 ليوم 18 نيسان (أبريل) 1936 أن عدد التلاوات في الظهور الأول للشيخة خوجة إسماعيل بلغ ثلاث تلاوات صباحية أيام 19 و 21 و 23 نيسان (أبريل) 1936 م".
كما ظهرت أسماء أخرى لبعض القارئات أمثال: منيرة أحمد المصري، الحاجة دربالة، الحاجة خضرة في المنوفية، والست عزيزة في الإسكندرية، والست رتيبة في المنصورة، والشيخة أم زغلول فى السويس.
وقد نشرت لأغلب هؤلاء القارئات تلاوات بالتعاون مع راديو "مصرفون" الذي وفّر تلك التسجيلات السمعيّة القديمة، وبعضها منتشر على الشبكة العنكبوتية ..
ثانيًا: أن تأييد رجوع تسجيل تلاوات النساء في الإذاعات أصبح غير مستبعد؛ بسبب المواقف المعلنة والمؤيدة لضرورة وجود قارئات للقرآن في الإذاعات.
وقد ظهرت مؤخرًا رغبة بعض أهل المجون في تسجيل القرآن بأصواتهم، هذا وقد طلب أحدهم التصريح رسميًا بتسجيل القرآن بصوته، وقد تعالت معه أصوات أخر تنادي بعودة تسجيل القرآن بأصوات نسائية كما كان في عشرينيات القرن الميلادي الماضي.
وفي سنة 1958 م نشرت صحف إحدى الدول العربية اقتراحًا بتسجيل القرآن كله بصوت مطربة شهيرة طبقة شهرتها الآفاق، وقد سبق أن تجرأت تلك المطربة على تسجيل بعض آي القرآن وبثها بين الخلائق، وهذه المسألة سبق وأن أثيرت عام 1950 م كذلك.
ثالثًا: ومن أبرز تلك الدواعي الخوف أن نؤتى من داخل الصف فيكون المصاب جللًا
- فقد سبق وأن تَقدّم نقيب قراء القرآن الكريم في إحدى الدول الإسلامية بطلب لإذاعة بلده عام 2009 م بالموافقة على قبول قارئات للقرآن في الإذاعة، وذلك بعد فترة وجيزة من قبول النقابة لعضوية عشرات القارئات، غير إنّ الرفض كان من نصيب تلك المحاولة.
(1)
.
- هذا وقد سجل أحد مشاهير القراء الكبار
(2)
ذلك الموقف في تصريحات صحفية له قائلًا: "إن صوت المرأة ليس بعورة، لقوله تعالى في سورة الأحزاب (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) (الأحزاب: 55)، مضيفًا "الأصل في الأشياء هو الإباحة، وما كان حلاله حلالاً فإن حرامه حرام، بمعنى أن المرأة التي تتحدث بترقيق متعمد لصوتها، يعد صوتها بالأساس خضوعًا بالقول ولا يجوز لها ترتيل القرآن بهذه الطريقة، في حين أنّ المرأة الرصينة الملمة بقواعد التجويد وأحكام الترتيل، لا غبار على قراءتها".
(3)
وأخيرًا فالمرآة الحصيفة الناصحة لنفسها ولعباد الله تجد مكانها في تعليم القرآن الكريم لبنات جنسها، ولاشك أن في ذلك من الأجر العظيم والثواب الجزيل ما لا يحصيه إلا الله، إذا صدقن النية وأصلحن الطوية، كما أن في ذلك غنية عن تسجيل المرأة صوتها.
هذا ويسأل الباحثُ رَبَهُ أن يوفقه لسلوك سبيل المؤمنين، وأن يجنبه وإخوانه
المسلمين الإحداث والابتداع في الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
خاتمة البحث،
وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة.
أ- خاتمة البحث
في ختام هذا البحث يحمد الباحثُ ربَه على التوفيق لإتمامه على وجه يرجو أن يتحقق به الإعذار إلى الله في بيان وجوب عناية الأمة بكتاب ربها من كل الوجوه ولا سيما في مرحلة الجمع الرابع (حفظ القرآن مسجلًا)، وبيان واجب
(1)
- يُنظر، رحلة المنع والحصار لقارئات القرآن الكريم في مصر، سامح فايز، عن موقع حفريات، بتاريخ: 6/ 6/ 2018 م.
(2)
- وهو مع هذا كان وقتها نقيبًا للقراء في إحدى الدول الإسلامية حتى وفاته- رحمه الله.
(3)
-يُنظر، رحلة المنع والحصار لقارئات القرآن الكريم في مصر، سامح فايز، عن موقع حفريات، بتاريخ: 6/ 6/ 2018 م. بتصرف.
الجهات المعنية في بلاد الإسلام تجاه هذا الواجب على وجه الخصوص، وبيان السبل الصحيحة والضوابط التي يجب مراعاتها عند تسجيل القرآن الكريم.
ب- بيان أهم النتائج
توصلت تلك الدراسة المتواضعة والمختصرة لنتائج جمة من أبينها ما يلي:
1 -
أن الجهات المعنية في بلاد الإسلام يقع على عاتقها واجب عظيم تجاه كتاب ربها ولا سيما فيما يتعلق بتسجيله.
2 -
على الجهات المعنية الانتباه إلى أن كل من أراد الإقدام على تسجيل القرآن لا بد وأن تتحقق فيه مجموعة من المقومات والضوابط القلبية والعلمية والعملية.
3 -
أن قراءة القرآن بما يسمى بـ"المقامات الموسيقية" أمر منكر ليس عليه عمل السلف يجب تنزيه القرآن عنه، وعلى تحريمه جرى إجماع السلف، وإجماع أهل العلم المعاصرين - كذلك -.
4 -
أ ن ضابط الإجازة القرآنية بشروطها المعتبرة عند أهل التخصص من أهل العلم والتحقيق يُعَدُ من أهم الضوابط التي يجب تحققها فيمن أراد الإقدام على تسجيل القرآن.
5 -
أن ضابط تسجيل القرآن بصوت رجلٍ "ذكرٍ" ليس فيه نوع تعسف أو تكلف، وليس هو بخلف من القول، بل هو شرط وضابط أساسي له اعتباره، وقد ساق الباحث من الأدلة النقلية والعقلية ما يكفي لإقامة الحجة على المخالف له، كما بين وأوضح المحجة لمن أراد سلوك سبيل الهدى وطريق الرشاد واتباع سبيل المؤمنين.
فهرس
المراجع
1 -
الأذكار المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ) تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان طبعة جديدة منقحة، 1414 هـ - 1994 م.
2 -
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) المحقق: محمد حامد الفقي الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية عدد الأجزاء:2.
3 -
أخلاق أهل القرآن المؤلف: أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي (المتوفى: 360 هـ) حققه وخرج أحاديثه: الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف بإشراف المكتب السلفي لتحقيق التراث الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء:1.
4 -
أحكام قراءة القرآن الكريم- محمود خليل الحصري المتوفى سنة 1401 هـ، تحقيق محمد طلحة بلال، جماعة تحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م.
5 -
الإتقان في علوم القرآن المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة: 1394 هـ/ 1974 م عدد الأجزاء: 4.
6 -
الإيضاح في الوقف والابتداء: لابن الأنباري ط. دمشق سنة 1390 هـ - 1971 م، تحقيق محي الدين عبد الرحمن رمضان، مطبوعات مجمع اللغة العربية.
7 -
بدع القراء القديمة والمعاصرة، المؤلف: بكر بن عبد الله أبو زيد، الناشر: دار الفاروق، سنة النشر: 1410 - 1990، ط: 1، عدد المجلدات:1.
8 -
تاج العروس من جواهر القاموس المؤلف: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 هـ) المحقق: مجموعة من المحققين الناشر: دار الهداية.
9 -
تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) المحقق: سامي بن محمد سلامة الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، عدد الأجزاء:8.
10 -
تفسير ابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم: المؤلف: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: 327 هـ) المحقق: أسعد محمد الطيب الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية الطبعة: الثالثة - 1419 هـ.
11 -
تفسير البغوي: معالم التنزيل في تفسير القرآن، المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ عدد الأجزاء:5.
12 -
تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671 هـ) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، 1384 هـ - 1964 م عدد الأجزاء: 20 جزءا (في 10 مجلدات).
13 -
تلبيس إبليس المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان الطبعة: الطبعة الأولى، 1421 هـ/ 2001 م عدد الأجزاء:1.
14 -
تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عما يقع لهم من الخطأ حال تلاوتهم لكتاب الله المبين المؤلف: علي بن محمد بن سالم، أبو الحسن النوري الصفاقسي (المتوفى: 1118 هـ) المحقق: محمد الشاذلي النيفر الناشر: مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله عدد الأجزاء: 1.
15 -
التحديد في الإتقان والتجويد المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني (المتوفى: 444 هـ) المحقق: الدكتور غانم قدوري حمد الناشر: مكتبة دار الأنبار - بغداد/ ساعدت جامعة بغداد على طبعه الطبعة: الأولى 1407 هـ - 1988 م عدد الأجزاء: 1.
16 -
جمال القراء وكمال الإقراء المؤلف: علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري الشافعي، أبو الحسن، علم الدين السخاوي (المتوفى: 643 هـ) تحقيق: د. مروان العطيَّة - د. محسن خرابة الناشر: دار المأمون للتراث - دمشق - بيروت الطبعة: الأولى 1418 هـ - 1997 م عدد الأجزاء: 1.
17 -
جواب الاعتراضات المصرية علي الفتيا الحموية، ط .... عزير شمس; الناشر: مجمع الفقه الإسلامي - جدة; عدد المجلدات 1.
18 -
الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة: تأليف: مكي بن ??ابي طالب بن حيوس بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الاندلسي القرطبي- تحقيق: أحمد حسن فرحات، سنة النشر: 2018 م، ط: 1، الناشر: دار ابن كثير - دمشق - سوريا، عدد المجلدات:1.
19 -
زاد المعاد في هدي خير العباد المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت الطبعة: السابعة والعشرون، 1415 هـ/ 1994 م عدد الأجزاء:5.
20 -
الزهد والرقائق لابن المبارك (يليه «مَا رَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي نُسْخَتِهِ زَائِدًا عَلَى مَا رَوَاهُ الْمَرْوَزِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ») المؤلف: أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التركي ثم المرْوزي (المتوفى: 181 هـ) المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت عدد الأجزاء: 1.
21 -
شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللَّدنية بالمِنَح المحمدية للقَسْطَلاني، تحقيق: محمد عبدالعزيز الخالدي، الطبعة الأولى، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1417 هـ 1996 م.
22 -
الخشوع في الصلاة (الطبعة الثالثة)، السعودية: مكتبة الورّاق: (د ت).
23 -
شرح العقيدة الطحاوية المؤلف: صدر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد ابن أبي العز الحنفي، الأذرعي الصالحي الدمشقي (المتوفى: 792 هـ) تحقيق: جماعة من العلماء، تخريج: ناصر الدين الألباني الناشر: دار السلام للطباعة والنشر التوزيع والترجمة (عن مطبوعة المكتب الإسلامي) الطبعة: الطبعة المصرية الأولى، 1426 هـ - 2005 م عدد الأجزاء:1.
24 -
صلاة المؤمن - مفهوم، وفضائل، وآداب، وأنواع، وأحكام، وكيفيتها في ضوء الكتاب والسنة (الطبعة الرابعة)، تأليف: د. سعيد بن وهف القحطاني.
25 -
عَرَفةَ بْنُ طَنْطَاوِيِّ: مقدمة كتابه: (المدخل الموسوعي لدراسة التفسير الموضوعي).
26 -
العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام المؤلف: علي بن إبراهيم بن داود بن سلمان بن سليمان، أبو الحسن، علاء الدين ابن العطار (المتوفى: 724 هـ) وقف على طبعه والعناية به: نظام محمد صالح يعقوبي الناشر: دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1427 هـ - 2006 م عدد الأجزاء:3.
27 -
فتح الباري شرح صحيح البخاري المؤلف: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379 رقَّم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز عدد الأجزاء: 13.
28 -
فضائل القرآن: المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224 هـ) تحقيق: مروان العطية، ومحسن خرابة، ووفاء تقي الدين الناشر: دار ابن كثير (دمشق - بيروت) الطبعة: الأولى، 1415 هـ -1995 م.
29 -
فضائل القرآن: المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) الناشر: مكتبة ابن تيمية الطبعة: الطبعة الأولى - 1416 هـ عدد الأجزاء: 1.
30 -
فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى المؤلف: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش عدد الأجزاء: 26 جزءا الناشر: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء - الإدارة العامة للطبع - الرياض.
31 -
القطع والائتناف المؤلف: أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النَّحَّاس المحقق: د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي الناشر: دار عالم الكتب - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1413 هـ - 1992 م.
32 -
القاموس المحيط، المؤلف: العلامة اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي المتوفى سنة 817 هـ، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، بإشراف: محمد نعيم العرقسُوسي، الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، الطبعة: الثامنة، 1426 هـ - 2005 م، عدد الأجزاء 1.
33 -
لسان العرب، لابن منظور (5/ 95). لسان العرب المؤلف: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 هـ عدد الأجزاء: 15.
34 -
مجموع الفتاوى المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (ت: 728 هـ) المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416 هـ- 1995 م.
35 -
مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420 هـ) أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر عدد الأجزاء: 30 جزءًا.
36 -
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت عدد الأجزاء: 2 في مجلد 1.
37 -
معجم المقاييس في اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، المتوفى سنة 395 هـ، تحقيق شهاب الدين أبو عمرو، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ.
38 -
الموطأ المؤلف: مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179 هـ) المحقق: محمد مصطفى الأعظمي الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي - الإمارات الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م عدد الأجزاء:8.
39 -
الموافقات للشاطبي: المؤلف: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790 هـ) المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان الناشر: دار ابن عفان الطبعة: الطبعة الأولى 1417 هـ/ 1997 م عدد الأجزاء: 7.
40 -
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المؤلف: أبو الحسن عبيد الله بن محمد عبد السلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام الدين الرحماني المباركفوري (المتوفى: 1414 هـ) الناشر: إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء - الجامعة السلفية - بنارس الهند الطبعة: الثالثة - 1404 هـ، 1984 م.
41 -
المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665 هـ) المحقق: طيار آلتي قولاج، الناشر: دار صادر - بيروت سنة النشر: 1395 هـ - 1975 م عدد الأجزاء: 1.
42 -
منار الهدى في بيان الوقف والابتداء ومعه المقصد لتلخيص ما في المرشد مؤلف منار الهدى: أحمد بن عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الأشموني المصري الشافعي (المتوفى: نحو 1100 هـ) مؤلف المقصد لتلخيص ما في المرشد: زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، زين الدين أبو يحيى السنيكي (المتوفى: 926 هـ) المحقق: شريف أبو العلا العدوي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2002 م عدد الأجزاء:1.
43 -
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الثالثة، 1416 هـ - 1996 م عدد الأجزاء:2.
44 -
مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي (المتوفى: 294 هـ) اختصرها: العلامة أحمد بن علي المقريزي الناشر: حديث أكادمي، فيصل اباد - باكستان الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1988 م عدد الأجزاء:1.
45 -
الموسوعة الفقهية الكويتية صادر عن: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت عدد الأجزاء: 45 جزءا الطبعة: (من 1404 - 1427 هـ) .. الأجزاء 1 - 23: الطبعة الثانية، دار السلاسل - الكويت .. الأجزاء 24 - 38: الطبعة الأولى، مطابع دار الصفوة - مصر .. الأجزاء 39 - 45: الطبعة الثانية، طبع الوزارة تنبيه: تراجم الفقهاء في الأصل الورقي ملحقة بآخر كل مجلد، فجُمعت هنا - في هذا الكتاب الإلكتروني - في آخر الموسوعة تيسيرا للوصول إليها، مع الحفاظ على ترقيم الصفحات.
46 -
المعايير العلمية لتعليم القرآن الكريم في مجال الإجازة القرآنية بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المجلس العالمي لشيوخ الإقراء، بتاريخ: 25 ربيع الآخر 1440 هـ.
47 -
النشر في القراءات العشر المؤلف: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833 هـ) المحقق: علي محمد الضباع (المتوفى: 1380 هـ) الناشر: المطبعة التجارية الكبرى [تصوير دار الكتاب العلمية] عدد الأجزاء: 2.
48 -
النهاية في غريب الحديث والأثر المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفى: 606 هـ) الناشر: المكتبة العلمية - بيروت، 1399 هـ - 1979 م تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي عدد الأجزاء: 5.