الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملخص البحث
فهذا بحث بعنوان: " دَلَائِلُ التَّوْفِيقِ لِأَصَحِ طَرِيقٍ لِجَمْعِ الصِّدِّيِقِ"، وهو الجمع الثاني للقرآن الكريم الذي نهض له وقام به وتعاهده الخليفة الراشد أبو بكر الصِّديق بمشورة الفاروق عمر بن الخطاب وتكليف زيد بن ثابت الأنصاري بمهمة رئاسة لجنة الجمع، كما تم الجمع- كذلك- بمشاركة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وكان ذلك سنة اثنتي عشرة للهجرة.
فقام الصِّديق رضي الله عنه وجَمَعَ فيه القرآنَ بين دفتي لوح واحد بعد أن كان مفرقًا في عهد الجمع النبوي الأول، وكان ذلك إثر مقتل سبعين من القراء في موقعة اليمامة، والتي خُشِيَ من إثراها ذهاب القرآن بذهاب حملته.
وهذا البحث قد جمعه الباحث ورغب في تقديمه في صورة مختصرة تجمع بين التأصيل العلمي، وبين التحقيق والتدقيق، ولا سيما في بعض المسائل التي وقع فيها خلاف بين بعض أهل العلم، وبعض المسائل والقضايا التي كثر تناولها وتداولها دون تثبت حتى أضحت من المسلمات البديهيات، كما اعتنى الباحث بسلاسة الأسلوب وسهولة العبارة وجزالة الألفاظ وحسن وجمال العرض، ليدنيه من نظر طالبيه، ويقربه ويسهل تناوله لراغبيه، راجيًا أن يتقبله الله من عبده الضعيف بقبول حسنٍ ويُنَمِّيه.
المقدمة
الْحَمْدُ لِلَّهِ والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه
وبعد:
فإن القرآن الكريم، كلام رب العالمين، ووحيه المبين، الذي أنزل الله على خاتم النبين والمرسلين نبينا محمد خير خلقه أجمعين صلى الله عليه وسلم، قد عظَّمه اللهُ أيِّمَا تعظيم، و أجلَّه أيِّمَا إجلال، فوَصَفه بأحسن الصفات، ونعته بأجلِّ وأعظم النعوت، وسماه أجمل الأسماء، وهو سبحانه المبتدئ بتعظيمه وتوقيره وإجلاله، وقد حفظه سبحانه عنده في مكان مصون لا يقربه إلا الملائكة الأطهار، فقال في وصفه سبحانه:(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ)(البروج: 21 - 22)، ثم جَمَعَ وَصْفَهُ ومكانه المصون فيه، وَصِفَةَ الملائكة الذين لا يمسه سواهم، وَصِفَةَ منزله سبحانه في قوله جل في علاه:(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الواقعة: 77، 80).
ولعظم قدر كلام ربنا فقد اصطفى سبحانه صفوة ملائكته من أهل السماء لينزل به في أعظم وأشرف بقعةِ من المعمورة، على صفوة خلقه من أهل الأرض، في سيدة الليالي من سيد الشهور.
فقد اصطفى من الملائكة أكرمَهم وأصفاهم لتنزيله فقال سبحان في وصف الملك الكريم الذي نزل بالقرآن: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(الشعراء: 193)، ثم اصطفى أطهر القلوب ليكون محل تنزل كلامه فيسكنه فؤاده لِيَعِيِهِ، ويحفظه له فيه، فيقوم بحقه في نفسه وفي بلاغه لأمته عن ربه ليرضيه، فقال سبحانه عن ذلك المحل الذي أنزله عليه وأودعه فيه:(عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ)(الشعراء: 194)، وقال سبحانه في ذلك أيضًا:(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(البقرة: 97).
وكان ذلك في أعظم ليلة والتي وصفها ربنا بأنها ليلة مباركة فقال سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)(الدخان: 3)، وتلك الليلة هي ليلة القدر التي قال سبحانه فيها:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(القدر: 1 - 3)، وكان ذلك في أفضل شهر كما قال ربنا:(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)(البقرة: 185)
وجعل بداية ونهاية تنزله في مكة المكرمة عند بيته العتيق الذي قال سبحانه فيه: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)(آل عمران: 96)، وجعل مختتم نزوله وتوديع وحيه المنزل في حجة الوداع في شهر حرام
بجوار بيته الحرام، قال سبحانه:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(المائدة: 3).
وعلى هذا الإجلال والتعظيم والتبجيل لكلام رب العالمين رَبَّى النبيُ الكريم أصحابَه رضي الله عنهم، فأحبوا كلام الله وقاموا به في محاربيهم يتلونه زرفانًا ووحدانًا، وعمَّروا به أوقاتهم وتمسكوا بهداه فأحلُّوا حلاله وحرَّموا حرامه وجعلوه مِلْءَ قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وتداوا به من العلل الحسية والمعنوية، وتحاكموا إليه في كل شؤون حياتهم.
وقد انتقل النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى والقرآن لم يجمع في مكان واحد، ولمَّا آلت الخلافة إلى الصِّدِيِق الأول رضي الله عنه وقتل في عهده سبعون من القراء في حرب المرتدين في وقعة اليمامة، وَخُشِيَ ذهاب القرآن بذهاب حملته فهبَّ رضي الله عنه ومعهم جموع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين للقيام بأعظم عمل من الأعمال التي عرفها تاريخنا المجيد، فجمع القرآن بين دفتي مصحف واحد.
وهذا البحث هو نقل مشهد حِسِّي واقعي لهذا العمل العظيم الذي قام به صِّدِيقُ الأمة الأول وعاونه عليه هؤلاء الأعلام الكبار من السابقين الأولين للإسلام من طليعة هذه الأمة رضوان الله عليهم أجمعين.
خطة البحث
وقد ضمَّن الباحثُ بحثَه خطة بحث مكونة من أربعة فصول، وكل فصل مكون من عدة مباحث، وقد بيَّن فيه ما يلي:
أولًا: أهمية موضوع البحث
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه
خامسًا: منهجية البحث
سادسًا: خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة.
سابعًا: مجموع الفهارس:
وخطة البحث تشتمل على أربعة فصول على النحو التالي:
الفصل الأول
بواعث جمع أبي بكر وأسبابه ودواعيه
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: بداية فكرة الجمع في عهد أبي بكر الصديق-رضي الله عنه
المبحث الثاني: موقف الصحابة من جمع أبي بكر للقرآن
المبحث الثالث: أهم بواعث جمع أبي بكر-رضي الله عنه
الفصل الثاني
خصائصه ومزاياه
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: أبرز مزايا هذا الجمع
المبحث الثاني: بيان أن ترتيب الآيات في السور توقيفي
المبحث الثالث: عرض الأقوال الواردة في ترتيب السور مع الترجيح بينها
المبحث الرابع: بداية مخالفة ومعارضة الترتيب المصحفي بالترتيب النزولي وبيان مصدره
الفصل الثالث
بيان شروط جمع أبي بكر- رضي الله عنه والصفة التي تم بها
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بـ " زيد بن ثابت " المكلف بالجمع
المبحث الثاني: أبرز المقومات الداعية لاختيار " زيد "
المبحث الثالث: أسباب اختيار " زيد " لهذه المهمة إجمالًا
المبحث الرابع: الدواعي لهذا الجمع
المبحث الخامس: مميزات جمع أبي بكر- رضي الله عنه
المبحث السادس: منهج أبي بكر الذي وضعه لـ " زيد " في جمع وتدوين القرآن الكريم
المبحث السابع: مصير صحف أبي بكر- رضي الله عنه
الفصل الرابع
تاريخ وزمن هذا الجمع وأبرز نتائجه
وفيه مبحثان
المبحث الأول: أبرز نتائج جمع أبي بكر- رضي الله عنه
المبحث الثاني: أوّل من سمى القرآن بالمصحف
منهجية البحث
أولًا: أهمية موضوع البحث
إذا كان شرف العلم من شرف المعلوم، فإن موضوع البحث متعلق بأشرف وأعظم وأجل كتاب "القرآن الكريم" هذا على العموم، وعلى الخصوص فإنه متعلق بقضية جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تلك القضية التي أقلقت مضاجع صفوة الرعيل الأول من جيل الصحابة وهم حماة الدين وورثة علم النبوة وهم خيرة هذه الأمة، فقاموا بحق كتاب ربهم حق قيام ونهضوا لجمعه كما كان في عهده الأول سليمًا من الزيادة والنقصان، سليمًا من التغير والتبديل، وكان جمعهم للقرآن موافقًا للجمع الأول تمامًا، ولكنهم جمعوه في مكان واحد بعد أن كان مفرقًا بين العُسُبِ واللِّخَافِ وغيرها، كما جمعوه من المحفوظ في صُدُورِ الرِّجَالِ كذلك.
والقرآن الكريم قد تكفَّل الله تعالى في بحفظه في كل أطواره تنزله، والشواهد على ذلك من كتاب الله كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 -
قال سبحانه في عموم حفظه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9) أي من أن يُزاد فيه أو يُنقص، وهذا قول عموم أئمة التفسير، ولا يُعلم له مخالف.
2 -
ومن ذلك أيضًا قوله سبحانه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)(فصلت: 42) والباطل: إبليس، لا يستطيع أن ينقص منه حقًا، ولا يزيد فيه باطلًا.
(1)
.
3 -
ومن ذلك أيضًا قوله سبحانه: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)(الكهف: 27) وقوله: (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) أي: لا مغير لها، ولا محرِّف، ولا مؤوّل.
(2)
، والشواهد العامة على ذلك في كتاب الله تعالى أكثر من أن تُحصى.
والقرآن قد حفظه الله تعالى في كل أطواره تنزله، فأثبته الله تعالى وحفظه في اللوح المحفوظ في السماء قبل نزوله، وحفظه في طريق نزوله إلى الأرض، وحفظه بعد نزوله كذلك إلى الأرض على رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيبقى كذلك إلى أن يُرْفَعَ في آخر
(1)
- تفسير الطبري: (21/ 479). جامع البيان في تأويل القرآن، المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ) المحقق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 24
(2)
تفسير ابن كثير: (5/ 151). تفسير القرآن العظيم، المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) المحقق: محمد حسين شمس الدين الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت الطبعة: الأولى - 1419 هـ
الزمان.
أولًا: حفظ القرآن الكريم في السماء:
والقرآن الكريم قبل نزوله محفوظ في اللوح المحفوظ في السماء كما قال ربنا: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (البروج: 21، 22). فهو في اللوح المحفوظ، مصون مستور عن الأعين، لا يطلع عليه إلاّ الملائكة المقربون، ولا يمسه في السماء إلاّ الملائكة الأطهار، ولا يصل إليه شيطان، ولا يُنال منه.
(1)
وقد جعله الله تعالى كتابًا معظمًا في كتاب معظم محفوظ موقر
(2)
، وقد أقسم الله تعالى على ذلك في كتابه فقال سبحانه:{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الواقعة: 75، 80).
ثانيًا: حفظ القرآن الكريم في طريق نزوله إلى الأرض
فالذي نزل به ملك منزه مطهر أمين على وحي الله كما قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(الشعراء: 193 - 195).
فلا يستطيع شيطان الاقتراب من السماء لاستراق السمع طمعًا في الاطلاع على أخبار السماء وقت نزوله كما قال ربنا: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ. إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الصافات: 7 - 10)، والشياطين لمَّا حاولوا ذلك ما استطاعوا لأن السماء قد حفظت بحراسة مشددة من الملائكة وبالشهب الحارقة، وقد وصف الله تعالى محاولة فئة من الجنِّ ذلك في سورة "الجنِّ" في قوله سبحانه:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدَا. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدَا} (الجن: 8 - 10)
ثالثًا: حفظ القرآن الكريم بعد نزوله على الأرض على النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد حفظ الله عز وجل القرآن الكريم كذلك بعد أن أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم والذي قام بحقه خير قيام في حفظه وبلاغه عن ربه، وكان صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على حفظه وتلقيه يحرص على التعجل بتلقيه من فِي جبريل عليه السلام، فقال له ربه:(وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(طه: 114)، ثم وعده الله تعالى بحفظه له في صدره، فطمأنه ربه بتحقيق وعده فقال له سبحانه:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16 - 19).
فكان صلى الله عليه وسلم يحرك به لسانه ويتعجل ويبادر بأخذه من فِي جبريل محرِّكًا به شفتيه حين قراءة الملك للقرآن يَخْشى أن يَتَفَلَّتَ منه، فوعده الله أن يجمعه له في
(1)
الضوء المنير، لابن القيم:(5: 587).
(2)
- تفسير ابن كثير: (4/ 537). بتصرف يسير.
صدره ويُبيَّنه له على لسانه، ثم يقرأه على الناس من غير أن ينسى منه شيئًا.
وهكذا يتبين لنا أن الله تعالى قد حفظ القرآن الكريم وهو في السماء، وحفظه وقت نزوله منها، وحفظه بعد نزوله إلى الأرض.
ولقد مر جمع القرآن بثلاث مراحل، وكان جمعه في مراحله جميعًا محفوظًا في الصدور مكتوبًا في السطور.
أما المرحلة الأولى: فكانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حرص صلى الله عليه وسلم على حفظ القرآن الكريم، وقد جمعه الله له في صدره، كما اعتنى صلى الله عليه وسلم بتعليمه أصحابه ورغبهم في حفظه واستظهاره واتَّخَذَ من صفوة حفَّاظهم كتّابًا للوحي يكتبون كلّ ما ينزل عليه بين يديه، وانتقل النَّبيُ صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ولم يُجمع القرآنُ كله في مكان واحد في حياته لا في صحف ولا في مصاحف، بل كُتب مفرقًا بين الرِّقَاع، وَالأَكْتَافِ، وَالْعُسُبِ ونحوها من أدوات الكتابة المستخدمة في هذا العهد المبارك، وكان حرصه صلى الله عليه وسلم على عدم جمع القرآن بين دفتي صحيفة واحدة ترقبًا لتجدد الوحي وتتابع نزول شيء جديد منه حتى وفاته، فلو أنه رتبه أولاً بأول وجمع القرآن في مكان واحد بين دفتي مصحف واحد لحصل من جراء ذلك من المشقة والعنت ما لا يخطر ببال، ولأدى هذا الترتيب إلى حدوث تغيير وتبديل في موضع السور والآيات كلما نزل عليه صلى الله عليه وسلم شيء جديد من الوحي، وفي هذا مالا يخفى من المشقة البالغة التي جاءت الشريعة الغراء برفعها ودفعها.
وأما المرحلة الثانية: فكانت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه،
ولقد ظل القرآن الكريم مفرقًا غير مجموع بين دفتي مصحف واحد، إلى أن آلت الخلافة إلى أبي بكر، وقامت حروب الردة، واستحرّ القتل بالقراء في وقعة اليمامة - سنة اثنتي عشرة للهجرة - التي قتل فيها سبعون قارئًا من حفاظ القرآن. فهالَ ذلك الأمر عمر بن الخطاب، وخشي أن يضيع شيء من القرآن بموت حفاظه وقرائه، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن خشية ضياع شيء منه بقتل القراء والحفَّاظ، فكان هذا هو الدافع الرئيس لهذا الجمع، فقام الصديق بجمع ما كُتب مفرقًا في بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرِّقَاع، وَالأَكْتَافِ، وَالْعُسُبِ، واللخاف، والأضلاع، والأقتاب، والأَلواحِ في مكان واحد، فكان جَمْعُهُ رضي الله عنه هو نفس ما كتب في عهد النبوة مرتب الآيات والسور، لكنَّه جَمَعَهُ في مكان واحد بعد أن كان مفرقًا.
وأما المرحلة الثالثة: فكانت في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ولقد اختلفت أسباب الجمع في عهده عن أسباب الجمع في عهد الصدِّيق-رضي الله عنهما؛ ولقد كان الصحابة يقرؤون القرآن على الأحرف السبعة التي أقرأهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن وقع الاختلاف بين القراء في الفتوحات زمن عثمان رضي الله عنه، ولمّا عظم الخطب أفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في
الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فتدارك عثمانُ الأمرَ قبل تفاقمه.
ويكتفي الباحث - هنا- ببيان هذه المرحلة بإيجاز بما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القُرْآن، فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم (يعني ابتداءً)، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمانُ الصحفَ إلى حفصة، وأرسل إلى كل أُفُق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القُرْآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
(1)
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
لم يقف الباحث في حدود بحثه الضيق على بحث متأصل تناول جمع الصديق رضي الله عنه ببحث علمي مستقل، ولكن جاء تناوله ضمن جمع القرآن في مراحله الثلاث في عدد من البحوث العلمية، ومن أبرزها ما يلي:
الدراسة الأولى: جمع القران في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث، تأليف: محمد شرعي أبو زيد، رسالة ماجستير، كلية الشريعة، جامعة الكويت، سنة النشر: 1419 هـ.
وصف البحث:
هذا البحث يُبرِز عناية المسلمين بحفظ القرآن من عهد النبوة إلى الآن، ويُؤكِّد أن نقل القرآن حظِيَ بأقصى درجات العناية من المسلمين، ويرُدُّ على شبهات الطاعِنِين من أعداء الإسلام على نقل القرآن الكريم، ولجودة البحث وحسن صياغته وجودة عرضه وسبك أسلوبه وقوة حجته قد أفاد منه الكثير من الباحثين ونهلوا منه.
الدراسة الثانية: جمع القرآن (دراسة تحليلية لمروياته)، أصل الكتاب رسالة علمية، بكلية العلوم الإسلامية - جامعة بغداد، أشرف عليها الدكتور عمر محمود حسين السامرائي، ومؤلفها الباحث: أكرم عبد خليفة حمد الدليمي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1427 هـ - 2006 م، عدد الأجزاء:1.
وصف الكتاب:
وهو عبارة عن أطروحة علمية، قدمها الباحث لكلية العلوم الإسلامية، ولم يحدد المرحلة التي نال شهادتها بهذا البحث. وقد قسم الباحث هذا البحث إلى
(1)
- البخاري حديث (49).
مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
وقد تناول بحثه في أربعة فصول، فتناول كتابة القرآن في عهوده الثلاثة، كل مرحلة في فصل مستقل، وقد تابع فيها كثيرًا ممن سبقه، ثم تناول فيه شبهات حول القرآن في الفصل الرابع.
والباحث في هذا البحث تراه ممسكًا من علمين بطرف، هما: علوم القرآن والحديث. لكنه أقرب إلى الحديث ودراسة الأسانيد منه إلى علوم القرآن. وقد جاءت دراسة أسانيده والحكم عليها وتخريجها مختصرة جدًا. وهذا يلحظه المتتبع لتلك المرويات.
وقد بذل الباحث وفقه الله جهد مشكورًا وطرق موضوعًا رائعًا جديرًا بالبحث حاول أعداء الدين التسلل من خلاله للنيل من كتاب الله ومحاولة التشكيك فيه، وقد وفق في عرض شبههم والجواب عنها بأجوبة قريبة يستوعبها كل من يطلع عليها.
(1)
الدراسة الثالثة: جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين، عبد القيوم بن عبد الغفور السندي، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة النبوية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1421 هـ، عدد المجلدات:1.
وصف الكتاب:
لقد تناول الباحث الجمع في عهديه الثاني والثالث، ولم يتعرض للجمع في العهد النبوي مع أهميته ومكانته لأن بحثه جاء ضمن محاور ندوة خاصة عقدها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة بعنوان: عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه، ولكون بحثه هو أحد محاور الندوة ..
وقد اشتمل بحثه على ثلاثة مباحث في مجلد واحد في حدود 72 صفحة، وقد تناول في المبحث الأول: جمع أبي بكر رضي الله عنه، ثم تناول في المبحث الثاني: جمع عثمان رضي الله عنه، وأما المبحث الثالث فلم يسمه، وقد تناوله في مطلبين، أما المطلب الأول فتناول فيه الفروق المميزة بين الجمعين، وأما المطلب الثاني فقد تناول فيه الأحرف السبعة ومراعاتها في الجمعين.
وكان على الباحث مراعاة جوانب هامة والانتباه لها، ومن أبرزها ما يلي:
1 -
التقدمة للجمع في العهد النبوي ولو في التمهيد لأنه الأساس الذي بنيت عليه مراحل الجمع كلها، ولارتباط الجمع في عهديه التاليين به ارتباطًا وثيقًا، غير أنه أشار إليه إشارة سريعة في سطرين فحسب.
2 -
الانتبهاه لما ذهب إليه أبو عمر الداني في"الأرجوزة المنبهة"إلى أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل عام بواحد من الحروف السبعة، حيث يقول:
وكان يعرض على جبريل
…
في كل عام جملة التنزيل
فكان يقريه في كل عرضة
…
بواحد من الحروف السبعة
حتى إذا كان بقرب الحين
…
عرضه عليه مرتين
(2)
وهذا التفصيل لا يصح وهو محل نظر عند أهل التحقيق وقد قال به غير
(1)
يُنظر: تقرير عن كتاب (جمع القرآن: دراسة تحليلية لمروياته) للدكتور أكرم الدليمي، ملتقى أهل التفسير، عبدالله الحربي، بتاريخ: 4/ 11/ 2008 م. بتصرف يسير.
(2)
-الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني، البيت رقم:(70 - 72)، (ص: 87).
الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات وعقد الديانات بالتجويد والدلالات، عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو الأندلسي (371 - 444 هـ)، تحقيق: محمد بن مجقان الجزائري، الطبعة الأولى عن دار المغني- الرياض- هـ 1420 - 1999 م، عدد المجلدات: 1
واحد من أهل العلم غير الداني. وإذا تأملنا في زمن الاستزادة من الأحرف السبعة تحقق لدينا أن ذلك كان في المدينة قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرابة عام أو عامين اثنين، وقصة عمر وهشام بن حكيم في اختلاف قراءتيهما في سورة الفرقان خير شاهد، وذلك لأن هشامًا من مسلمة الفتح، وأن ذلك كان قُبيل انتقال النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى بعامين على الأكثر، وكذلك ما وقع لأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل.
فكيف كان يعرض عليه جبريل في كل عام بحرف من الأحرف السبعة! وهي لم تنزل بعد! وهذا خلف من القول من عَلَمٍ كأبي عمرو الداني، ولكن جل من لا يسهو.
3 -
الانتباه لكثرة النقول في البحث والتي غيبت وجود قلم الباحث في كثير من مواطن البحث.
وهناك بعض ملاحظات أخرى غير جوهرية، وهذه الملحوظات وغيرها لا تقل من قيمة البحث العلمية ولا من جهدالباحث الذي قد أجاد وأفاد فجزاه الله خيرًا.
الدراسة الرابعة: مواقف المستشرقين من جمع القرآن الكريم ورسمه وترتيبه عرض ونقد، د. أبو بكر كافي، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة النبوية، نسخة منشورة (بي دي إف)
وصف الكتاب:
في هذا البحث الماتع يستعرض لنا الباحث -أبو بكر كافي- المواقف المشهورة عن كبار المستشرقين من مسألة جمع القرآن الكريم وتدوينه وترتيبه والمراحل التي مر بها، حيث أثار كثير من المستشرقين شبهات ومزاعم باطلة حول هذه المسألة، وفي هذا الكتاب يعرض لنا المؤلف هذه المزاعم والشبهات كما أنه يحلل لنا دوافعها وأهدافها ويتعقبها بالنقد والرد ليدحضها بشكل علمي وموضوعي مبينًا كم الأغاليط الموجودة فيها.
الدراسة الخامسة: جمع القرآن الكريم حفظا وكتابة، أ. د. علي بن سليمان العبيد، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة النبوية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1421 هـ، عدد المجلدات:1.
وصف الكتاب:
لقد تناول الباحث الجمع في عهوده الثلاثة باختصار شديد في قرابة: 73 صفحة، وقد تبع من سبقه، وقد جاء بحثه متميزًا بسهولة الأسلوب ووضوح العبارة، فجزى الله الباحث خيرًا، ولكنه لم يضف إلى بحثه جديد بحث.
الدراسة السادسة: جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين، أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، عدد الصفحات: 42، مصدر الكتاب: موقع الإسلام.
وصف البحث:
هو بحث مختصر للغاية، غير أن صاحبه له رسوخ في تقديم مادة علمية مؤصلة وإن كانت موجزة.
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
يُعد تقريب علوم القرآن بأسلوب علمي سهل المأخذ قريب التناول من الأسباب الرئيسة الدافعة لاختيار موضوع البحث، إضافة إلى أن جمع القرآن في عهوده الثلاثة ما يزال يحتاج إلى تقريب وتحقيق وتدقيق في بعض مسائله وتجليتها للعيان، وإلقاء الضوء على ما نقله جيلٌ عن جيلٍ بصورة صحيحة مع التنبيه على مالم تثبت صحته من آثار تتعلق بموضوع البحث، وقد اختار الباحث تناول جمع الصديق بالبحث والدراسة لأنه لم يقف في حدود بحثه على دراسة خاصة بهذا الجمع، كما رغب الباحثُ إبرازَ جانبِ العناية التامة والتحري والدقة التي لاقها جمع القرآن في عهد الصديق وأجمعت عليه الأمةُ سلفًا وخلفًا على صحته ودقته وسلامته.
رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه
هناك إشكالات تتعلق بموضوع البحث من أبرزها ما يلي:
1 -
لماذا لم يُجمع القرآن في عهد النبوة في مكان واحد؟
2 -
هل اختلف جمع الصديق عن الجمع في عهد النبوة؟
3 -
هل جمع القرآن في مكان واحد يُعد من الابتداع في الدين؟
4 -
هل اشتمل جمع الصديق رضي الله عنه على الأحرف السبعة؟
5 -
هل كان ترتيب الآيات في السور بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم أم كان باجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم.
وكان من أبرز أهداف البحث إبراز هذه الإشكالات الواردة وحلها بإلقاء الضوء عليها وتناولها بالبحث والدراسة والتحقيق والتدقيق.
خامسًا: منهجية البحث
لقد سلك الباحث في تناول بحثه أكثر من منهج بحثي ومن أبرز ذلك ما يلي:
1 -
المنهج الاستقرائي التحليلي
2 -
المنهج النقدي
3 -
المنهج التاريخي
ففي الفصل الأول: استقرأ الباحثُ بواعث جمع أبي بكر وأسبابه ودواعيه، وربط العلاقة التي بينه وبين الجمع الأول في العهد النبوي.
وفي الفصل الثاني: عرض الباحثُ خصائصَ هذا الجمع ومزاياه عرضًا تحليليًا باستقراء تلك المزايًا التي ميزة هذا الجمع، ثم تعرَّض لترتيب الآيات في السور، فعرض الأقوال الواردة فيها ثم قام بالترجيح بينها، ثم استقرأ بعد ذلك بداية مخالفة ومعارضة الترتيب المصحفي بالترتيب النزولي وبين مصدره وعرض ذلك كله عرضًا تحليليًا، ثم نقده ونقضه.
وأما الفصل الثالث: فتعرض الباحثُ فيه لبيان شروط هذا الجمع والصفة التي تم بها، ثم عَرَّفَ بـ " زيد " المكلف بالجمع، ثم استقرأ المقومات الداعية لاختياره، ثم عرض مميزات هذا الجمع والمنهج الذي وُضِعَ فيه لجمع وتدوين القرآن الكريم عرضًا تحليليًا، ثم بين في خاتمته مصير صحف أبي بكر- رضي الله عنه.
وأما الفصل الرابع: فذكر فيه تاريخ هذا الجمع وأنه كان في زمن خلافة الصديق رضي الله عنه، وحدد فترة استغراقه، ثم عرض عرضًا تحليليًا استنتاجيًا لأبرز نتائج هذا الجمع، ثم ختم ببيان أوّل من سمى القرآن بالمصحف، وهو في كل مرحلة من مراحل البحث يقوم بعرض المادة العلمية ويحلل أجزاءها ثم يعرض الأقوال الوارد ويقوم بدراستها دراسة تحليلية نقدية.
الفصل الأول
بواعث جمع أبي بكر وأسبابه ودواعيه
وفيه ثلاثة مباحث:
بعد موت النبي-صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه بُيع أبو بكر الصديق-رضي الله عنه-بالخلافة وكانت مدة خلافته سنتين وبضعة أشهر، وذلك من عام (11 هـ - 13 هـ)، وكانت وفاته في شهر جمادى الآخرة سنة 13 هـ.
المبحث الأول: بداية فكرة الجمع في عهد أبي بكر الصديق-رضي الله عنه
-
لقد كانت بداية فكرة جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر- رضي الله عنه في أواسط خلافته: سنة 12 من الهجرة.
وذلك "حينما ارتدت العرب واستشرى القتل بالمسلمين وخاصة يوم اليمامة وقد استحر بقراء القرآن، جاء إليه عمر وقال له: إني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القراءة والقرآن وإني أرى أن تجمع القرآن؛ وظل يراجع أبا بكر حتى شرح الله صدره لذلك؛ فكان أول من جمع القرآن".
(1)
وإنما كان ذلك بعد أن بُيع أبو بكر الصديق- رضي الله عنه وآلة الخلافة إليه بتلك البيعة، بعدها ارتدت أحياء من العرب ومنعوا الزكاة، وقد وقع هذا الأمر الجلل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حينما ارتدَّت العرب عن الإسلام قيل إلا ثلاثة مساجد كما نقل ابن إسحاق، ألا وهي: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جواثا الذي يصلي فيه بنو عبد القيس.
وذكر القاضي عياض أن أهل الردة في ذلك الوقت على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: صنف كفر بعد إسلامه وعاد لجاهليته، واتبع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وصدَّق بهما.
والصنف الثاني: صنف أقر بالإسلام إلا الزكاة فجحدها.
والصنف الثالث: صنف أقر بوجوبها لكنه امتنع عن دفعها لأبي بكر-رضي الله عنه وقالوا: إن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
(1)
الإتقان: (1/ 164)، الإتقان في علوم القرآن المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة: 1394 هـ/ 1974 م عدد الأجزاء: 4، ويُنظر: الوجيز في فضائل الكتاب العزيز: (ص: 163).
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة: 103).
فرأى أبو بكر والصحابة- رضي الله عنهم قتالهم جميعهم، الصنفان الأولان لكفرهم والثالث لامتناعهم، والامتناع مع الإقرار يختلف حكمًا من الامتناع مع الجحود ولا شك في ذلك أبدًا.
وقد ذكر أبو العباس القرطبي (656 ت: هـ) في "المفهم"رحمه الله:
أن الصنف الثالث هم الذين أُشْكِلَ أمْرُهُم على عمر وراجع فيهم أبا بكر حتى ظهر الحق. ولا يعتبرون كفارًا وإنما بغاة.
(1)
وهذا التقسيم الذي ذكره أبو العباس القرطبي قد ذهب إليه جمع من أئمة الإسلام، منهم الإمام الشافعي (ت: 240 هـ) حيث يقول- رحمه الله: -- بنحوه- في "الأم"
"وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان: منهم قوم كفروا بعد الإسلام، مثل طليحة ومسيلمة والعنسي وأصحابهم، ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات".
ثم أشار إلى أن أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما كانا مجمعين على إن الصنف الثاني ليسوا كفارًا.
فيقول بعد أن ذكر ما دار بينهما من حوار:
"
…
معرفتهما معًا بأن ممَّن قاتلوا من هو على التمسك بالإيمان".
(2)
وممَّن قرر هذا التقسيم أيضًا الخطابيُّ (ت: 388 هـ) حيث يقول رحمه الله في "معالم السنن"-:
"الذين يلزمهم اسم الردة من العرب كانوا صنفين: صنفًا منهم ارتدَّ عن الدين، ونابذ الملة، وعاودوا الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة- رضي الله عنه بقوله: (وكفر من كفر من العرب)، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب، ومن سلك مذهبهم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصنفًا آخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي".
(3)
وممَّن قرر هذا التقسيم كذلك ابن حزم الأندلسي (ت: 456 هـ) في محض كلامه عن أصناف المرتدين حيث يقول-رحمه الله في "المحلى":
"
…
والقسم الثاني: قوم أسلموا، ولم يكفروا بعد إسلامهم، ولكن منعوا الزكاة من أن يدفعوها إلى أبي بكر رضي الله عنه فعلى هذا قوتلوا".
(4)
وقد قرر هذا التقسيم أيضًا جمع من العلماء الأعلام، منهم:
أبو عمر ابن عبد البرـ وابن المنذر، والماوردي صاحب التفسير، والقاضي عياض، وابن العربي المالكي، والبغوي، والنووي، وابن حجر، وغيرهم كثير.
(5)
وكذلك هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ) رحمه الله، ولقد كان له بعض الأقوال والتقريرات التي يبدو ويظهر منها أنه يرى أن الصحابة- رضي الله عنهم كانوا يفرّقون بين أصناف المرتدين، فيجعلون بعضهم كفارًا، كالمرتدين من أتباع مسيلمة الكذاب، وبعضهم مسلمين بغاة لهم سائر أحكام أهل القبلة كما ذكر ذلك أبو العباس القرطبي في المفهم والنووي في شرحه لمسلم، ومن تلك الأقوال والتقريرات: أنه جعل قتال مانعي الزكاة من جنس قتال أهل القبلة، فقال- رحمه الله:
"والعلماء لهم في قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان: منهم من يرى قتالاً علي يوم حروراء ويوم الجمل وصفين كله من باب قتال أهل البغي، وكذلك يجعل قتال أبي بكر لمانعي الزكاة،
(1)
يُنظر: شرح النووي لمسلم حديث (22، 20) ويُنظر: المفهم للقرطبي حديث (18، 17) باب يقاتل الناس إلى أن يوحِّدوا الله ويلتزموا شرائع دينه.
(2)
الأم، للشافعي:(9/ 204).
(3)
أعلام السنن، الخطابي (1/ 741).
(4)
المحلى، ابن حزم (11/ 193).
(5)
- يُنظر: الاستذكار، ابن عبد البر (9/ 266)، والإشراف على مذاهب أهل السنة، ابن المنذر (3/ 254)، والحاوي، الماوردي (13/ 211)، وشرح السنة، البغوي (5/ 489)، شرح السنة المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 516 هـ) تحقيق: شعيب الأرناؤوط-محمد زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت الطبعة: الثانية، 1403 هـ - 1983 م عدد الأجزاء: 15، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض (1/ 243)، وعارضة الأحوذي، ابن العربي (10/ 73)، وشرح صحيح مسلم، النووي (2/ 202)، وفتح الباري، ابن حجر (12/ 276)، وإكمال إكمال المعلم، الأُبي (1/ 173)، وغيرها كثير.
وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم".
(1)
كتاب أبي بكر- رضي الله عنه إلى المرتدين:
ومما يُستأنس به ها هنا أيضًا وبه نختم هذا المبحث الهام: كتاب أبي بكر- رضي الله عنه إلى المرتدين، فقد كتب إليهم كتابًا طويلاً حوى أمورًا شتى ومتنوعة في مضمونها وفحواها، وممَّا ورد في كتابه إليهم قوله- رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا، من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه
(2)
.
فهذا يدلُّ على إن بعض أهل الردة بقي على إسلامه ولم يخرج عنه، وكلامه قد وجهه إلى فئتين اثنتين، فيُؤخذ ويُفهم ويُستدلُّ منه على أن الذي ارتد عن الإسلام من الفئتين إنما هي فئة واحدة منهما لا الفئتين.
والشاهد الأول مما سبق ذكره:
أن الصديق الأول- رضي الله عنه قام مقام الجبال الرواسي الشامخات ليرد الأمة إلى دينها فحارب وقاتل المرتدين بشجاعة وثبات ورباطة جأش، فالموقف جد عصيب فقد ارتدت جموع غفيرة وأحياء كثيرة من العرب وقد عارضه في ذلك أول الأمر أقرب المقربين ومع هذا كله فقد ثبت رضي الله عنه ثبات الجبال الرواسي واستطاع بعد عون الله وتوفيقه أن يُعيد الأمة إلى رشدها، وأن يعيد للإسلام صولته وقوته ومكانته، فكان- رضي الله عنه للإسلام يوم الردة، كما كان الإمام أحمد للإسلام كذلك يوم المحنة.
ولنتأمل ما رواه البخاري- رحمه الله من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لأَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلهَ إِلاَّ الله. فَمَنْ قَالَ: لَا إِلهَ إِلاَّ الله فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالله لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَالله لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ-رضي الله عنه: فَوَ الله مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللهَ عز وجل قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ. فَعَرفتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
(3)
ولقد كلف الصديقُ-رضي الله عنه للقيام بهذه المهمة وهذا العمل العظيم -زيد بن ثابت الأنصاري-رضي الله عنه، ولنتأمل خبر تلك الواقعة العظيمة التي قيد الله لها الخليفتين الراشدين الجليلين صاحبي خير الخلق وحبيب الحق محمد- صلى الله عليه وسلم ولندع المجال للإمام البخاري رحمه الله ليقص لنا الخبر على لسان من كُلِفَ بهذه المهمة الهامة الشاقة بنفسه ألا وهو الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري- رضي الله عنه حيث يقول:
" أَرْسَلَ إلَيَّ أبو بَكْرٍ مَقْتَلَ أهْلِ اليَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عِنْدَهُ، قالَ أبو بَكْرٍ رضي الله عنه: إنَّ عُمَرَ أتَانِي فَقالَ: إنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَومَ اليَمَامَةِ بقُرَّاءِ القُرْآنِ، وإنِّي
(1)
- يُنظر: مجموع الفتاوى: (28/ 515). مجموع الفتاوى المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ) المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية عام النشر: 1416 هـ/ 1995 م
(2)
- يُنظر: نص الكتاب: كتاب الردة، الواقدي (71)، وتاريخ الطبري (3/ 250).
(3)
أخرجه البخاري في "كتاب الزكاة""باب وجوب الزكاة" حديث (1399)، وأخرجه مسلم حديث (20)، وأخرجه أبو داود في "كتاب الزكاة" حديث (1556 و 1557)، وأخرجه الترمذي في "كتاب الإيمان""باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" حديث (2607)، وأخرجه النسائي في "كتاب الزكاة""باب مانع الزكاة" حديث (2442).
أخْشَى أنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بالقُرَّاءِ بالمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وإنِّي أرَى أنْ تَأْمُرَ بجمع القرآن، قُلتُ لِعُمَرَ: كيفَ تَفْعَلُ شيئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ عُمَرُ: هذا واللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لذلكَ، ورَأَيْتُ في ذلكَ الذي رَأَى عُمَرُ، قالَ زَيْدٌ: قالَ أبو بَكْرٍ: إنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وقدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَ اللَّهِ لو كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ ما كانَ أثْقَلَ عَلَيَّ ممَّا أمَرَنِي به مِنْ جمع القرآن، قُلتُ: كيفَ تَفْعَلُونَ شيئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟، قالَ: هو واللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أبو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ له صَدْرَ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ- رضي الله عنهما، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ واللِّخَافِ، وصُدُورِ الرِّجَالِ، حتَّى وجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مع أبِي خُزَيْمَةَ الأنْصَارِيِّ لَمْ أجِدْهَا مع أحَدٍ غيرِهِ، {لقَدْ جَاءَكُمْ رَسولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ} [التوبة: 128 - 129] حتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أبِي بَكْرٍ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بنْتِ عُمَرَ رضي الله عنها".
(1)
المبحث الثاني: موقف الصحابة من جمع أبي بكر للقرآن
الصحابة- رضي الله عنهم يدركون تمام الإدراك ويتيقنون كمال اليقين في أن الله تعالى وعده لا يتخلف أبدًا، وقد وعد سبحانه بحفظ كتابه من التغيير والتبديل ومن أن يزاد فيه أو يُنقص منه بقوله سبحانه:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 9) وهم يدركون كذلك أن سنن الله الكونية لها من الأسباب ما يقوم بها، ويدركون من خلال تلك السنن أيضًا أن هذا الدين لا يقوم بذاته بل لابد أن يكون له أنصار وأعوان من البشر يحملوا على عواتقهم هم نصرته وحمل رسالته والذب عن حياضه، ولهذا قاموا- رضي الله عنهم بواجبهم تجاهه ببذل الأسباب لحفظ كتاب ربهم من الذهاب والضياع، وهذا من قوة إيمانهم بالله ورسوله، ومن سعة علمهم بدين ربهم، وفهمهم لشرعته ومنهاجه، ومن إدراكهم لعظم الأمانة التي في أعناقهم، ولضخامة المسؤولية الملقاة على عواتقهم.
هل يُعد جمع أبي بكر- رضي الله عنه للقرآن من البدعة المحدثة في الدين؟
مفهوم البدعة في اللغة:
لنعلم أولًا أن البدعة في اللغة: مأخوذة من البَدْع، وهو الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117].
أي مخترعها على غير مثال سابق، قوله تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]. أي: ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل.
ويقال: ابتدع فلان بدعة، يعني: ابتدأ طريقة لم يسبق إليها.
والابتداع على قسمين:
القسم الأول: ابتداع في العادات
كابتداع المخترعات الحديثة، وهذا مباح؛ لأن الأصل في العادات الإباحة.
و القسم الثاني: ابتداع في الدين:
وهذا مُحرَّم؛ لأن
(1)
- البخاري، التفسير: 4311، فضائل القرآن: 4603، الأحكام: 6654، الترمذي، التفسير: 3028، أحمد، مسند العشرة: 72، جمال القراء: 1/ 86، ويُنظر: تخريجه مستوفىً في كتاب المصاحف لابن أبي داود: 1/ 169 - 179، كتاب المصاحف المؤلف: أبو بكر بن أبي داود، عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني (المتوفى: 316 هـ)، المحقق: محمد بن عبده الناشر: الفاروق الحديثة - مصر/ القاهرة الطبعة: الأولى، 1423 هـ - 2002 م عدد الأجزاء: 1، ويُنظر: المقنع لأبي الداني: 2 - 3. المقنع في رسم مصاحف الأمصار المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني (المتوفى: 444 هـ)، المحقق: محمد الصادق قمحاوي الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة عدد الأجزاء: 1
الأصل فيه التوقيف، قال صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".
(1)
.
(2)
البدعة في المفهوم الاصطلاحي:
والبدعة في المفهوم الاصطلاحي كما عرفها الشاطبي (ت: 790 هـ) رحمه الله في الاعتصام هي:
" طريقة في الدين مخترعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية".
(3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ) -رحمه الله:
" البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب".
(4)
وإذا علمنا أن البدعة هي أمر محدث ومخترع في الدين يُضاهي الشرعية وهي ما لم يشرعه الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم يُقصد به التعبد والتقرب إلى الله، على غير مثال سابق، وقد علمنا كذلك أن القرآن قد سبق وأَنْ جُمِعَ في صدور الرجال، وقد جُمِعَ كذلك في ألواحٍ عندهم، فاجتمع له جمعان: جمع في الصدور، وجمع في السطور.
لذا فلا يُعد جمعه في مكان واحد من الأمور المحدثة في الدين، وإن جمع أبي بكر-رضي الله عنه لم يكن من ذلك أبدًا، بدليل إجماع الصحابة- رضوان الله عليهم- على استحسانه، بل والمشارك فيه كذلك، وأن كل ما في الأمر أنه جمعٌ لما كتب مفرقًا في الجمع النبوي الأول فحسب.
قال الحافظ (ت: 852 هـ) في الفتح:
"وقد تسول لبعض الروافض أنه يتوجه الاعتراض على أبي بكر بما فعله من في المصحف فقال: كيف جاز أن يفعل شيئًا لم يفعله الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؟
والجواب: أنه لم يفعل ذلك إلاّ بطريق الاجتهاد السائغ الناشئ عن النصح منه لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم أَذِنَ في كتابة القرآن، ونهى أن يكتب معه غيره، فلم يأمر أبو بكر إلاّ بكتابة ما كان مكتوبًا.
ثم قال: وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يعد من فضائله، وينوه بعظيم منقبته لثبوت قوله- صلى الله عليه وسلم " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها "
(5)
(6)
فما أحدٌ بعده إلاّ وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة".
(7)
وإن أبرز ما قيل في موافقة الصحابة-رضي الله عنهم-لهذا الجمع قول علي بن أبي طالب-رضي الله عنه:
…
"أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمعه بين اللوحين.
(8)
وقد ذكر الباقلاني (ت: 402 هـ) رحمه الله وجوهًا في فعل أبي بكر من أجودها خمسة:
الأول: أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم ترك ذلك مصلحة، وفعله أبو بكر للحاجة.
(1)
أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
(2)
يُنظر: موسوعة توحيد رب العبيد، للشيخ الفوزان:(1/ 176). بتصرف يسير.
(3)
- الاعتصام (ص 28).
(4)
مجموعة الفتاوى: (4/ 107 - 108).
(5)
- مسلم الزكاة (1017)، الترمذي العلم (2675)، النسائي الزكاة (2554)، ابن ماجه المقدمة (203)، أحمد (4/ 359)، الدارمي المقدمة (514).
(6)
- الحديث أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة. صحيح مسلم ج 2 - ص 705.
(7)
- فتح الباري ج 9 - ص 10. فتح الباري شرح صحيح البخاري المؤلف: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379 رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز عدد الأجزاء: 13
(8)
-أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن: (ص: 155)، وابن أبي داود في كتاب المصاحف (ص: 5)، وأورده ابن كثير وقال عنه: إسناده صحيح، تفسير القرآن العظيم (فضائل القرآن)
(1/ 25). ويُنظر: أضواء على سلامة المصحف الشريف من النقص والتحريف: (ص: 45 - 47)، و:(ص: 94).
الثاني: أن الله أخبر أنه في الصحف الأولى، وأنه عند محمد صلى الله عليه وسلم في مثلها بقوله:(يتلوا صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة)(البينة: 2 - 3)؛ فهذا اقتداء بالله وبرسوله.
الثالث: أنهم قصدوا بذلك تحقيق قول الله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 9)؛ فقد كان عنده محفوظًا، وأخبرنا أن يحفظه بعد نزوله، ومن حِفظِه تيسير الصحابة- رضي الله عنهم لجمعه-، واتفاقهم على تقييده وضبطه.
الرابع: أن النبي-صلى الله عليه وسلم كان يكتُبه كَتَبَتُهُ بإملائه إياه عليهم، وهل يخفى على متصور معنى صحيحًا في قلبه أن ذلك كان تنبيهًا على كتبه وضبطه بالتقييد في الصحف، ولو كان ما ضمنه الله من حفظه لا عمل للأمة فيه لم يكتبه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بعد إخبار الله له بضمان حفظه، ولكن علم أن حفظه من الله بحفظنا وتيسيره ذلك لنا وتعليمه لكتابته وضبطه في الصحف بيننا.
الخامس: أنه ثبت: " أن النبي-صلى الله عليه وسلم نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو "
(1)
؛ وهذا تنبيه على أنه بين الأمة مكتوب مستصحب في الأسفار.
قال أبو بكر بن العربي (ت: 543 هـ) رحمه الله: في أحكام القرآن هذا من أبين الوجوه عند النظار".
(2)
وقال الباقلاني (ت: 402 هـ) رحمه الله أيضًا:
وقد فهم عمر أن ترك النبي-صلى الله عليه وسلم جمعه لا دلالة فيه على المنع، ورجع أبو بكر لما رأى وجه الإصابة في ذلك
…
(3)
كلام الباقلاني آنفًا كلام نفيس فيه من الدلائل الواضحات والحجج البينات الدامغات ما يُرُدُّ به كلُ الشبهات الواردات. والحمد لله رب الأرض والسموات.
وقال الشاطبي (ت 790 هـ) رحمه الله في الموافقات:
وحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتًا عنه في زمانه- صلى الله عليه وسلم.
(4)
والصحابة- رضي الله عنهم خير هذه الأمة وأكثرها تعظيمًا لله ولدينه ولشرعه وأبعدها من الابتداع والإحداث في دينه الله ما ليس منه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ) رحمه الله:
"
…
فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستنير فهذا أصل أهل السنة".
(5)
ومشاركة جمعٍ غفيرٍ من الصحابة- رضي الله عنهم في هذا الجمع يُعد إجماعًا سكوتيًا لأنه ليس له أي معارض منهم أبدًا، وذلك وحده كاف في حسم القضية، لأنهم يستحيل اجتماعهم- رضي الله عنهم على ضلالة أبدًا.
والله تعالى قد أجار هذه الأمة من أن تجْتَمِع عَلَى ضَلالَة، ولقد أجمع أهل العلم على ذلك وأن هذه العصمة باقية إلى قيام الساعة.
ولقد صحت السنة الثابتة عن المعصوم-صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد ثبت من حديث كَعْبِ
(1)
رواه البخاري: (2990)، ومسلم:(1869)، من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما.
(2)
- يُنظر: أحكام القرآن: (2/ 612).
(3)
- فتح الباري: (8/ 629).
(4)
الموافقات: (3/ 41).
(5)
مجموع الفتاوى: (13 - 62 - 63).
بْنِ عَاصِمٍ (ت: 18 هـ) رضي الله عنه (أنه) قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَارَ لِي عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلاثٍ لا يَجُوعُوا، وَلا يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلالَةٍ، وَلا يستباح بيضة المسلمين".
(1)
ومن حديث ابن عمر (ت: 73 هـ) رضي الله عنهما:
قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة ").
(2)
وعَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
سَمِعْتُ ابن مَسْعُودٍ-رضي الله عنه يَقُولُ: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَجْمَعُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم-على ضلالة".
(3)
وهذا لاشك له حكم المرفوع، بل هو موافق له تمامًا.
وعصمة هذه الأمَّة المرحومة إنما هي عصمة عامة تمنعهم من الاجتماعِ على ضلالة؛ أي: إنهم لا يجتمعون على أمرٍ فيه ضلال واضح وبين مخالفٍ للسنَّة يقودُهم إلى الهلكة والضلالة والعمه.
المبحث الثالث: أهم بواعث جمع أبي بكر-رضي الله عنه
-
وكان من أهم بواعث هذا الجمع وأسبابه ما يلي:
1 -
إن من أهم البواعث التي دفعت الصحابة-رضي الله عنهم لجمع القرآن هو
انقطاع الوحي من السماء بموت النبي- صلى الله عليه وسلم ذاك المصاب العظيم والحدث الجلل الكبير والذي يُخشى على القرآن الضياع بسببه.
2 -
ومن أبرزها كذلك تحري القتل في قراء القرآن وحفاظه يوم اليمامة، ويُخشى بقتلهم ذهاب كتاب ربهم، وهم مع ذلك أيضًا معرضون للتفرق والانتشار في الأمصار للجهاد في سبيل الله، وللدعوة إلى الإسلام ونشره في أرجاء المعمورة، ولتعليم الناس أمر دينهم، لأنهم أمة بلاغ وأمة دعوة وجهاد، لا أمة نوم ورقاد.
ولذا كان من قول عمر لأبي بكر- رضي الله عنهما:
"إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن". فذهاب بعض القراء قد يعني ذهاب الآخرين، فبهذا العمل أمكن تدارك الأمر منذ بدايته.
(4)
"ولقد كانت معركة اليمامة معركة حامية الوطيس استشهد فيها كثير من قراء الصحابة وحفظتهم للقرآن ينتهي عددهم إلى السبعين وأنهاه بعضهم إلى خمسمائة من أجلهم سالم مولى أبي حذيفة. "
(5)
فتم "
…
تسجيل القرآن وتقييده بالكتابة مجموعًا مرتبًا خشية ذهاب شيء منه بموت حملته وحفاظه".
(6)
الفصل الثاني
خصائصه ومزاياه
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: أبرز مزايا هذا الجمع
المبحث الثاني: بيان أن ترتيب الآيات في السور توقيفي
المبحث الثالث: عرض الأقوال الواردة في ترتيب السور مع الترجيح بينها
المبحث الرابع: بداية مخالفة ومعارضة الترتيب المصحفي بالترتيب النزولي وبيان مصدره
ويذكر الباحث المباحث الأربعة بشيء من الإيضاح والتفصيل على النحو التالي:
المبحث الأول: أبرز مزايا هذا الجمع
اتسم جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق- رضي الله عنه بخصائص ومزايا عدة، والتي كان من أبرزها ما يلي إجمالًا:
(1)
- حسنه الألباني في الصحيحة (1331). قال الألباني بعد أن ساق للحديث عدة طرق: "ورجاله ثقات غير محمد بن إسماعيل بن عياش، قال أبو داود: لم يكن بذاك.
وقال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئا، حملوه على أن يحدث عنه فحدث.
قلت (الألباني): فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن. يُنظر: " الضعيفة "(1510) ".
(2)
- قال الألباني في صحيح الجامع الصغير: (صحيح)
…
[ت] عن ابن عمر. المشكاة 173، السنة 80، طب، ك، هق في (الأسماء) روي أيضًا موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
- مصنف ابن أبي شيبة: (37192)، السنة لابن أبي عاصم:(85)، قال الألباني في ظلال الجنة:"إسناده جيد موقوف رجاله رجال الشيخين. "والحديث رواه الطبراني أيضًا من طريقين إحداهما رجالها ثقات كما في "المجمع" 5/ 219. "، قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: (ج 6، ص 322): "إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ. "
(4)
- يُنظر: أضواء على سلامة المصحف الشريف من النقص والتحريف: (ص: 61)، و:
(ص: 91). وأصله مروي في البخاري وغيره من حديث زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وقد سبق تخريجه.
(5)
مناهل العرفان: (1/ 249). مناهل العرفان في علوم القرآن المؤلف: محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (المتوفى: 1367 هـ)، الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه الطبعة: الطبعة الثالثة عدد الأجزاء: 2
(6)
المرجع السابق: (ص: 36)، الوحي والقرآن:(ص: 150).
أولها: دقته وسلامته
ثانيها: استيفائه لشروط الجمع المتفق عليها وموافقته العرضة الأخيرة
أبرز سمات وخصائص ومزايا جمع أبي بكر-رضي الله عنه تفصيلًا:
أولها: دقته وسلامته
فقد كان التحري والتدقيق والتثبت والاستيثاق لقرآنية كل ما يُجمع من سور القرآن وآياته وثبوت تواتره ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته فحسب، وتجريده عن كل ما ليس بقرآن،
هو أبرز خصائص هذ الجمع، وذلك بإجماع الصحابة- رضي الله عنهم ..
ثانيها: استيفائه لشروط الجمع المتفق عليها وموافقته العرضة الأخيرة
إن كل ما استوفت فيه شروط الجمع المتفق عليها فإنه يضم إلى صحيفة واحدة في مكان واحد وهو ما عِرِف بعد ذلك بالمصحف، وترتب آياته وسوره ترتيبًا مصحفيًا لا ترتيبًا نزوليًا، وذلك وفق العرضة الأخيرة التي أُشِيعَ أن زيد بن ثابت
(1)
رضي الله عنه قد شهدها -، وذلك الجمع هو الموافق لما هو مثبت في اللوح المحفوظ.
ثبت عند البخاري وغيره عن عائشة عن فاطمة-رضي الله عنهما أنها قالت:
"أسَرَّ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ جبريلَ كانَ يعارضُنِي بالقرآنِ كلَّ سنةٍ وأنهُ عارضَنِي العامَ مرَّتينِ ولا أراهُ إلا حضَرَ أجَلِي".
(2)
(3)
وفي ذلك يقول أبو عبد الرحمن السُلميّ (ت: 74) رحمه الله:
قرأ زيد بن ثابت على رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.
(4)
وفي نحو ذلك يقول أبو عمرو الداني-رحمه الله في الأرجوزة المنبهة:
(5)
وكان يعرض على جبريل
…
في كل عام جملة التنزيل
فكان يقريه في كل عرضة
…
بواحد من الحروف السبعة
(6)
حتى إذا كان بقرب الحين
…
عرضه عليه مرتين
(7)
ويقول القسطلاني (ت: 923 هـ) رحمه الله:
"وقد كان القرآن كله مكتوبًا في عهده-صلى الله عليه وسلم، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور".
(8)
وذلك لأن الدواعي إلى عدم جمعه في موضع واحد مفتقرة إلى ذلك، ولا توجد ضرورة ملحة إليه في ذلك الوقت.
المبحث الثاني: بيان أن ترتيب الآيات في السور توقيفي
وترتيب الآيات في السور أمر توقيفي لا مجال للاجتهاد فيه البتة:
قال الزركشي (ت: 794 هـ) رحمه الله:
فأما الآيات في كل سورة، ووضع البسملة في أوائلها، فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه، ولهذا لا يجوز تعكيسها.
(9)
وقال السيوطي (ت: 911 هـ) رحمه الله:
الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات
(1)
وثبوت شهود زيد بن ثابت للعرضة الأخيرة محل نظر عند أهل التحقيق لضعف الروايات الواردة فيها، أما الثابت بأسانيد ثابتة صحاح فهو: شهود عبد الله بن مسعود لها، وأما شهود زيد لها فمشتهر فحسب، ومع اشتهاره فالباحث لم يقف على إسناد ثابت صحيح يُعول عليه في شهوده للعرضة الأخيرة إلا ما أشيع في مصنفات علوم القرآن وبعض كتب التفسير.
ولذا قال البغوي في " شرح السنة"(4/ 525) يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي. فرواها بصيغة التمريض "يُقال" ولم يصرح بشهوده لها.
وما سيُذْكَرُ من شهود زيد للعرضة الأخيرة في طيات البحث فإنما يُذْكَر تمشيًا مع ما أشيع واشتهر واستفاض لا على ما ثبت واستقر، الباحث.
(2)
- البخاري المناقب (3426)، مسلم فضائل الصحابة (2450)، الترمذي المناقب (3872)، ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1621)، أحمد (6/ 77).
(3)
- البخاري، فضائل القرآن: 6/ 101، المناقب، رقم: 3353، مسلم، فضائل الصحابة رقم: 2450، أبو داود رقم: 5217، مسند أحمد، رقم: 25209، وراجع فضائل القرآن لأبي الفضل الرازي، ص: 51، البرهان للزركشي: 1/ 232، لطائف الإشارات للقسطلاني: 1/ 23.
(4)
- رواه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم (1/ 598) ح 3412، ورواه النسائي في السنن الكبرى كتاب فضائل القرآن (3/ 7)، وكتاب المناقب (4/ 36).
(5)
-عثمان بن سعيد بن عثمان، أبو عمرو الداني، القرطبي، علم من أعلام القراء، ثقة حجة في القراءات وعلومها، ولد بدانية من بلاد الأندلس في: 371 هـ، له أكثر من مائة مؤلف، أشهرها التيسير في القراءات السبع الذي نظمه الشاطبي في اللامية، توفي بدانية في 444 هـ، معرفة القراء الكبار: 1/ 406، غاية النهاية: 1/ 503.
(6)
- وهذا التفصيل لا يصح وهو محل نظر عند أهل التحقيق وقد قال به غير واحد من أهل العلم غير الداني. وإذا تأملنا في زمن الاستزادة من الأحرف السبعة تحقق لدينا أن ذلك كان في المدينة قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرابة عام أو عامين اثنين فكيف كان يعرض عليه في كل عام بحرف من الأحرف السبعة! وهي لم تنزل بعد! وهذا خلف من القول من عَلَمٍ كأبي عمرو الداني، ولكن جل من لا يسهو .. الباحث.
(7)
-الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني، البيت رقم:(70 - 72)، (ص: 87).
(8)
يُنظر: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري: (7/ 446).
(9)
- الزركشي، البرهان في علوم القرآن:(1/ 256). البرهان في علوم القرآن المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794 هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة: الأولى، 1376 هـ - 1957 م الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه (ثم صوَّرته دار المعرفة، بيروت، لبنان - وبنفس ترقيم الصفحات) عدد الأجزاء: 4
توقيفي لا شبهة في ذلك، وأما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين.
(1)
ويقول السيوطي (ت: 911 هـ) - أيضًا-رحمه الله:
"والذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه، ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته بعد نزوله، هو الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان، وأنه لم ينقص منه شيئًا، ولا زيد فيه، وأن ترتيبه، ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى، ورتبه عليه رسوله صلى الله عليه وسلم من آي السور، لم يقدم من ذلك مؤخر ولم يؤخر مقدم".
(2)
وقال الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله:
ولقد" انعقد إجماع العلماء على أن ترتيب الآيات في السورة كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم-عن الله عز وجل، وأنه لا مَجال للرأي والاجتهاد فيه، ولم يُعْلَم في ذلك مُخالفٌ".
(3)
وممن قال بالإجماع الذي حكاه السيوطي والزرقاني كذلك كل من:
1 -
ابن قدامة المقدسي (ت: 620 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
ترتيب الآيات واجب؛ لأن ترتيبها بالنص إجماعًا.
(4)
2 -
وأبو جعفر الغرناطي (ت: 708 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
اعلم أولاً أن ترتيب الآيات في سورها وقع بتوقيفه وأمره-صلى الله عليه وسلم، من غير خلاف في هذا بين المسلمين.
(5)
3 -
والملا على القاري (ت: 1014 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
ترتيب الآيات توقيفي، وعليه الإجماع.
(6)
4 -
وشهاب الدين النفراوي (ت: 1127 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
ترتيب الآيات توقيفي اتفاقًا.
(7)
وقد دل على ذلك أيضًا أدلة كثيرة من السنة الصحيحة الثابتة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وهي أكثر من أن تُحصى ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 -
منها ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) إِلَى قَوْلِهِ (غَيْرَ إِخْرَاجٍ)(البقرة من آية: 240) قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.
(8)
فردُ عثمانَ بن عفان على ابْن الزُّبَيْرِ يُفهم منه أنهم-رضي الله عنهم أجمعين- يعلمون أماكن ترتيب الآيات فتَرَكَهَا عثمان مكانها مثبتةً لأن القرينة تدل عليها، ولأنه هو الذي تعلموه وهو المعمول به لديهم.
2 -
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن عمر قال ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال ألا تكفيك آية الصّيْف التي في آخر سورة النساء.
(9)
فآية الكلالة مكانها في نهاية سورة النساء وخواتيمها، ولما سأل عمرُ رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أرشده إلى مكانها في آخر السورة.
ومن هنا يتبين لنا أمران:
الأمر الأول: أن آيات السورة مرتبة ومتتابعة من أولها وحتى آخرها.
والأمر الثاني: أن ترتيب الآيات كان مما يُعَلِّمهُ النبيُ صلى الله عليه وسلم أصحابهَ الكرام رضي الله عنهم.
(1)
-السيوطي، الإتقان في علوم القرآن (1/ 211). ويُنظر: إعجاز القرآن للباقلاني (صـ 60). وأسرار ترتيب القرآن: (صـ 41). ومناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 347). وحاشيه الشهاب على تفسير البيضاوي عنايه القاضي وكفاية الراضي: (1/ 25). وفتح البيان في مقاصد القرآن ـ أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (15/ 307).
(2)
المرجع السابق: (ص: 163).
(3)
مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 346).
(4)
- كشاف القناع عن متن الإقناع: (1/ 344). ويُنظر: المبدع في شرح المقنع (1/ 433). والإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل: (1/ 119).
(5)
- البرهان في تناسب سور القرآن ـ حمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي، أبو جعفر:(صـ 182).
- أخرجه البخاري في الصحيح برقم (4536).
(6)
- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ـ الملا علي بن سلطان محمد القاري: (4/ 1520). مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المؤلف: علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى: 1014 هـ) الناشر: دار الفكر، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2002 م عدد الأجزاء: 9
(7)
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 1/ 56، 66. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني المؤلف: أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن مهنا، شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي (المتوفى: 1126 هـ) الناشر: دار الفكر الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1415 هـ - 1995 م عدد الأجزاء: 2
(8)
أخرجه البخاري في الصحيح برقم (4536).
(9)
رواه مسلم برقم (1617).
3 -
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء مرفوعًا من حفظ عشر آيات من أول الكهف عصم من الدجال وفي لفظ عنده من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف.
(1)
فقوله: (من أول الكهف) وقوله: (العشر الأواخر) واضح الدلالة على ترتيب آيات السورة كما هو شأن آيات القرآن قاطبة.
وكذلك" قراءته صلى الله عليه وسلم للسور المختلفة بمشهد من الصحابة يدلّ على أن ترتيب آياتها توقيفي وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبًا سمعوا النبي- صلى الله عليه وسلم يقرأ على خلافة فبلغ ذلك مبلغ التواتر. "
(2)
4 -
ومنها ما ثبت عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها، (أنها) قالت: سمع النبيُ صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ في المسجد، فقال:"رحمه الله، لقد أَذْكَرَنِي كذا وكذا آية، أَسْقَطْتُهُنَّ من سورة كذا، وكذا"
(3)
.
فهذا الحديث وأضرابه مما يُستدل به على تعليمه صلى الله عليه وسلم أصحابه- رضوان الله عليهم- أماكن الآيات وترتيبها في السور وأنه أمر توقيفي لا محيد عنه ولا محيص.
وهناك أدلة كثيرة جدًا تقرر هذه المسألة، فسماع النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن من أصحابه مرتب الآيات وإقراره صلى الله عليه وسلم لقراءتهم، وكذلك صلاته بهم على مدار مرحلة نزول القرآن في ثلاث وعشرين سنة وقد تكرر ذلك تكرارًا ومرارًا وهو معلوم في دواوين السنة، ففي الإشارة إليه غنية وكفاية.
ومن أراد زيادة فائدة في هذا الباب فليراجع فضائل قراءة بعض آيات من القرآن بعينها في مظانها من كتب السنة كفضل فاتحة الكتاب وهي أكثر من أن تحصى، وكفضائل الآيتين الآخرتين من سورة البقرة
(4)
، وكفضل العشر آيات الأُول من سورة الكهف
(5)
وكذلك ما واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراءته لبعض سور القرآن ولم يغير في آياتها أي شيء، لا بتقديم ولا بتأخير، وذلك كقراءته لسور البقرة، والنساء، وآل عمران، وقراءته، لسورة "ق" في العيد.
(6)
وكذلك من فوق المنبر وفي الصلاة كذلك، كما كان يقرأ بـ"المنافقون" في الجمعة
(7)
.
والنبي صلى الله عليه وسلم مع مواظبته على قراءة هذه السور والآيات فقد واظب صلى الله عليه وسلم كذلك على ترتيبها، فإنه لا يُعْلَم عنه صلى الله عليه وسلم أنه غير شيئًا منها البتة.
ولا ريب أن فعله صلى الله عليه وسلم هذا من أوضح البراهين على أن هذا الترتيب هو ما وافق ترتيبه في اللوح المحفوظ والذي تلقاه عن جبريل-عليه السلام.
أدلة أخرى تؤكد على أن ترتيب الآيات توقيفي:
ومما يؤكد على أن ترتيب الآيات ترتيب توقيفي كذلك ويبرهن عليه نزول عدد من سور القرآن جملة ودفعة واحدة.
وفي تقسيم نزول سور القرآن يذكر السيوطي النوع الثاني، وهو النوع الذي نزل جملة واحدة فيقول- رحمه الله:
"
…
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الثَّانِي: - ما نزل جملة واحدة - سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْكَوْثَرِ وَتَبَّتْ وَلَمْ يَكُنْ وَالنَّصْرُ وَالْمُعَوِّذَتَانِ نَزَلَتَا مَعًا. وَمِنْهُ سُورَةُ الصَّفِّ.
(8)
ونسوق بعض الأدلة الصحيحة الثابتة في نزول بعض السور جملة واحدة،
(1)
- رواه مسلم برقم (809).
(2)
- يُنظر: الإتقان: (1/ 62 ـ 65).
(3)
أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن باب من لم ير بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا وكذا 6/ 194 ح رقم 5042 ومسلم 33 كتاب صلاة المسافرين 33 - باب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول نسيت آية كذا، وجواز قول أنسيتها 1/ 543 ح رقم 788.
(4)
يُنظر: مسلم في صحيحه برقم: 809، وغيرهم.
(5)
يُنظر: البخاري في صحيحه برقم: (5008 - 5009 - 5040)، ومسلم برقم:(807).
(6)
رواه مسلم برقم: (891)، وغيره.
(7)
-يُنظر: مسلم برقم: (877)، وغيره من حديث أبي هريرة.
(8)
الإتقان: (1/ 136 - 137). بتصرف.
فمن تلك السور التي نزلت جملة واحدة سورة براءة:
فقد روى البخاري في صحيحه عَنِ البَرَاءِ- رضي الله عنه، قَالَ:" آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ".
(1)
وقد رواه البخاري كذلك
(2)
بلفظ: " آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةَ
…
"
دون لفظة " كاملة ".
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن سورة براءة نزلت مفرقة ولم تنزل جملة واحدة مدعين عدم صحة لفظة "كاملة ".
قال بدر الدين العيني- رحمه الله:
"قَوْله: (كَامِلَة) قَالَ الدَّاودِيّ: لفظ: كَامِلَة، لَيْسَ بِشَيْء لِأَن بَرَاءَة نزلت شَيْئًا بعد شَيْء، قلت: وَلِهَذَا لم يذكر لفظ: كَامِلَة، فِي هَذَا الحَدِيث فِي التَّفْسِير، وَلَفظه هُنَاكَ: آخر سُورَة نزلت بَرَاءَة ".
(3)
ولكن الطاهر بن عاشور ذكر في "التحرير والتنوير" أنها نزلت دفعة واحدة وقد عزا هذا القول لجمهور العلماء.
(4)
ومن تلك السور التي نزلت جملة واحدة كذلك سورة الفتح:
فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ، لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) ثُمَّ قَرَأَ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)(الفتح: 1).
(5)
ومن تلك السور التي نزلت جملة واحدة كذلك سورة البينة:
فعَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَبَّةَ الْبَدْرِيَّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب)[البينة: 1] إِلَى آخِرِهَا، قَالَ جِبْرِيلُ-عليه السلام: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَهَا أُبَيًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيٍّ:(إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ) قَالَ أُبَيٌّ: وَقَدْ ذُكِرْتُ ثَمَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قَالَ: فَبَكَى أُبَيٌّ.
(6)
وكذلك من السور التي نزلت جملة واحدة سورة الْكَوْثَر:
فعن أنس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: "أنزلت علي آنفًا سورة" فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (الكوثر كاملة: 1 - 3).
(7)
وكذلك من السور التي نزلت جملة واحدة سورة النصر:
فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قال لي ابن عباس: تعلم آخر سورة نزلت من القرآن، نزلت جميعًا؟ قلت:" نعم، إذا جاء نصر الله والفتح "، قال: صدقت.
(8)
وكذلك من السور التي نزلت جملة واحدة سورة المسد:
ثبت في الصحيحين من حديث عَنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ:(يَا صَبَاحَاهْ)، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ العَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟)
قَالُوا: بَلَى، قَالَ:(فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)(المسد: 1).
(9)
(1)
رواه البخاري: (4364).
(2)
رواه البخاري: (4605).
(3)
- عمدة القاري: (18/ 18).
(4)
- التحرير والتنوير: (10/ 97).
(5)
رواه البخاري: (4177).
(6)
رواه أحمد في المسند: (16001)، وقال محققوه): حديث صحيح لغيره (. و أصله في البخاري: (3809)، ومسلم:(799)، من حديث أنس.
(7)
أخرجه مسلم في 4 - كتاب الصلاة 14 - باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة 1/ 300 ح رقم 400.
(8)
صحيح مسلم في صدر كتاب التفسير 4/ 2318 ح رقم 3024.
(9)
- رواه البخاري: (4801)، ومسلم:(208).
وكذلك من السور التي نزلت جملة واحدة سورتا المعوذتين:
فعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
(1)
والخلاصة فيما سبق:
أن نزول كثير من سور قصار المفصل نزلت جملة واحدة هو أمر ثابت بأدلة صحيحة صريحة، كالفاتحة والقدر والماعون والمسد والكوثر والفيل والنصر والكافرون والإخلاص والفلق والناس. وكذا الفتح.
وأما ما ذكره بعض أهل التفسير من أن سورًا عدة قد نزلت جملة واحدة كذلك ولا سيما من الطوال، فإن أغلب تلك الأقوال محل نظر واجتهاد والخلاف فيها معلوم لأنها أقوال اجتهادية لم تنهض بها حجة واضحة من دليل صحيح صريح ثابت، ولذا لم يذكر الباحث إلا ما ثبت لديه بالدليل الصحيح الثابت الصريح.
هذا: ولابد أن يُعلم أن الأصل في القرآن الكريم أنه جُمع ورتب على أساس موافقته للعرضة الأخيرة، وقد استقرت العرضة الأخيرة لما هو مثبتٌ وموافق لما في اللوح المحفوظ كذلك.
المبحث الثالث: عرض الأقوال الواردة في ترتيب السور مع الترجيح بينها
يقول السيوطي- رحمه الله في الإتقان عن الخلاف في ترتيب السور:
وأما ترتيب السور على ما هي عليه الآن في المصحف، فقد اختلف فيه أهل هذا الشأن على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور الذي يرى أن ترتيب السور هو أمر توفيقي من اجتهاد الصحابة، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم فوَّضَ ذلك إلى أمته من بعده. ومن أبرز من نحا إلى هذا الرأي الإمام مالك.
المذهب الثاني: يرى أن هذا الترتيب توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قالت طائفة من أهل العلم.
المذهب الثالث: يجنح إلى أن ترتيب أغلب السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وعلم ذلك في حياته، وأن ترتيب بعض السور كان باجتهاد من الصحابة.
(2)
مر بنا آنفًا ما ذكره السيوطي من أقوال العلماء في القول بترتيب السور إجمالًا، والخلاف في هذه المسألة واسع جدًا وله أهميته الكبرى لتعلقه بأمر عظيم يتعلق بكلام الله تعالى، وقد ساق أصحاب كل قول أدلة ما يترجح لديهم القول به، ومن تكلم في هذه المسألة أئمة كبار ممن يُعتد برأيهم، والموضوع ليس بحثًا رئيسًا في موضوع بحثنا، والباحث لم يسق أدلة كل فريق لمناقشتها مخافة الإطالة في بحث هو جانبي عن موضوع البحث الرئيس، وإن كان من الأهمية الكبرى بمكان، لمكانته وقدره
(1)
- أخرجه مسلم 6 - كتاب المسافرين وقصرها 46 - باب فضل قراءة المعوذتين 1/ 558 ح رقم 814.
(2)
البرهان (1/ 258).
وقدر متعلقه ألا وهو كتاب الله تعالى.
والكثير من الأئمة يرى أن ترتيب سور القرآن الكريم كان ترتيبًا توقيفيًا كما كان ترتيب آياته كذلك، وقد ساقوا من الأدلة الواضحات والحجج الدامعات ما يجعل الباحث يقف عندها طويلًا ويعيد التأمل والبحث والنظر فيها كثيرًا،
ومن أبرز هذه الأقوال ما يلي:
القول الأول: قول الزركشي (ت: 794 هـ) في البرهان رحمه الله:
"قال بعض مشايخنا المحققين: قد وهم من قال: لا يطلب للآية الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المتفرقة وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلًا وعلى حسب الحكمة ترتيبًا، فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف
…
قلت: وهو مبني على أن ترتيب السور توقيفي وهذا الراجح.
(1)
ولاشك أن مثل قول الزركشي له قيمته العلمية وله مكانته وقدره كذلك، لكونه قد ناقش أدلة كل فريق من جهة، ولتمكنه من هذا العلم من جهة ثانية.
القول الثاني: قول السيوطي (ت: 911 هـ) في الإتقان-رحمه الله:
"ومما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت وَلاءً "يعني متوالية" وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات وَلاءً، بل فصل بين سورها وفصل بين "طسم" الشعراء و"طسم" القصص بـ "طس" مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهادًا لذكرت المسبحات وَلاءً، وأخرت "طس" عن القصص".
(2)
القول الثالث: قول أبي بكر الأنباري (ت: 328 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
"اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن".
(3)
القول الرابع: قول الكرماني: (ت: 893 هـ) رحمه الله:
"ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب".
(4)
القول الخامس: قول شرف الدين الطيبي (ت: 743 هـ) كذلك- رحمه الله:
"أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقًا على حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ. ".
(5)
القول السادس: قول محب الدين النُّوَيْري (ت: 857 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
وإنما أمرهم-عثمان- بالنسخ من الصحف؛ ليستند مصحفه إلى أصل أبى بكر المستند إلى أصل النبي صلى الله عليه وسلم، وعيّن زيدًا لاعتماد أبى بكر وعمر عليه، وضم إليه جماعة مساعدة له، ولينضم العدد إلى العدالة، وكانوا هؤلاء؛ لاشتهار ضبطهم ومعرفتهم. وكتبوه مائة وأربعة عشر سورة، أولها "الحمد" وآخرها "الناس" على هذا الترتيب.
(6)
يتضح من كلام النويري أنه يرى بأن نسخ أبي بكر كان كاملاً مرتب الآيات
(1)
البرهان في علوم القرآن (1/ 37). وانظر: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 1/ 56. والكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم: 10/ 76.
(2)
الإتقان: السيوطي ج 1 ص 63.
(3)
الإتقان: السيوطي ج 1 ص 62.
(4)
-البرهان: الزركشي ج 1 ص 259، والإتقان للسيوطي ط 1 ص 62.
(5)
الإتقان: السيوطي ج 1 ص 62
(6)
- شرح طيبة النشر (1/ 109).
والسور أيضًا، وأنه استند إلى المكتوب، والمحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين الآيات والسور في التوقيف، ولذا أمرهم-عثمان- بالنسخ منه.
القول السابع: قول أبي جعفر النحاس (ت: 338 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
"إن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله- صلى الله عليه وسلم
(1)
.
القول الثامن: قول أبي الحسن ابن الحصَّار (ت: 620 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
"ترتيب السور ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحي".
(2)
القول التاسع: قول البغوي (ت: 516 هـ) حيث يقول- رحمه الله:
إن الصحابة- رضي الله عنهم، جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير أن زادوا فيه، أو نقصوا منه شيئًا
…
فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير أن قدموا شيئًا أو أخروا
…
فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد، لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على الترتيب الذي هو في مصاحفنا، أنزله الله تعالى جملة واحدة في شهر رمضان ليلة القدر إلى السماء الدنيا، كما قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: 185)، وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1)
(3)
.
كلام البغوي في غاية الدقة، فهو يرى أن القرآن الذي في أيدينا ما زال كما كان في اللوح المحفوظ، فكان مرتبًا، ونزل مرتبًا إلى السماء الدنيا بكامل آياته وسوره، وأنه وإن نزل منجمًا بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جُمع بالوحي كما كان في اللوح المحفوظ، وكتبه الصحابة- رضي الله عنهم على هذا الجمع الذي تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول العاشر: قول الملا علي القاري
(4)
حيث يقول- رحمه الله:
مع أن الأصح أن ترتيب السور توقيفي أيضًا، وإن كانت مصاحفهم مختلفة في ذلك قبل العرضة الأخيرة
…
ومما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت وَلَاءً، وكذلك الطواسين، ولم يرتب المسبحات وَلَاءً، بل فصل بين سورها، وكذا اختلاط المكيات بالمدنيات
(5)
.
وفي قول ودليل "علي القاري"، يتضح أن الترتيب وإن لم يرد فيه نص نظري لكنه كان أوكد من خلال التأمل في التطبيق العملي، الذي يوحي بما لا يدع مجالًا للشك بأن الترتيب كان توقيفيًا. وكلامه فحواه مقتبس من قول السيوطي. ولما سبق لم يتردد العلماء في ترجيح هذا الرأي القائل بالتوقيف، فقد قال أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا الساعاتي: والصحيح أن ترتيب السور والآيات أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه.
(6)
ومما نُظم وقيل في ذلك قولُ أبي الحسن بن الحصار (ت: 620 هـ) في كتابه "الناسخ والمنسوخ ":
(1)
-البرهان: الزركشي ج 1 ص 259، والإتقان للسيوطي ط 1 ص 62.
(2)
- الإتقان: السيوطي ج 1 ص 62.
(3)
شرح السنة للبغوي: (4/ 521). ويُنظر: المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود: 5/ 206.
(4)
- الملا على القارئ: (ت. 1014 هـ - 1606 م)، هو الشيخ الفقيه المحدث المقرئ نور الدين أبو الحسن علي بن سلطان محمد، القارئ الهروي المكي المعروف بـ " الملّا علي القاري ". لقب بالقاري؛ لكونه عالمًا بالقراءات، والهروي: نسبة إلى مدينة هراة، من أمهات مدن خراسان، وهي ضمن جمهورية أفغانستان الحالية.
والمكي: نسبة إلى مكة أم القرى؛ لأنه رحل إليها وأخذ عن مشايخها واستوطنها حتى توفي بها.
ولد في مدينة هراة في حدود سنة 930 هجرية، وبها نشأ، وطلب العلم، وحفظ القرآن الكريم، وجوده على شيخه المقرئ معين الدين بن الحافظ زين الدين الهروي، وتلقى مبادئ العلوم الشرعية عن شيوخ عصره.
ثم رحل إلى مكة، حيث استقر بها، ولازم بها العلماء سنوات طويلة، واستمر في التحصيل، حتى صار من العلماء المشهورين.
وكان رحمه الله حنفي المذهب، كما هو معروف من مصنفاته، وسيرة حياته، وأسهم في تحرير كثير من مسائل المذهب الحنفي، وتأييدها بالأدلة الشرعية.
وكان رحمه الله معروفًا بالتدين والتورع والتعفف، وكان يأكل من عمل يده، متقللاً من الدنيا، غلب عليه الزهد والعفاف والرضا بالكفاف.
وكان قليل الاختلاط بالناس، كثير العبادة والتقوى، وكان يكتب كل عام مصحفًا بخطه الجميل، ويهمشه بالقراءات والتفسير، فيبيعه ويكفيه قوتًا عامه كله.
وكان يرى أن التقرب إلى الحكام وقبول منحهم يضر بالإخلاص والورع.
وكان يقول: " رَحِمَ اللَّهُ وَالِدِي، كَانَ يَقُولُ لِي: مَا أُرِيدُ أَنْ تَصِيرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، خَشْيَةَ أَنْ تَقِفَ عَلَى بَابِ الْأُمَرَاءِ". انتهى من "مرقاة المفاتيح"(1/ 311).
وللاستزادة من سيرته وأخباره يُنظر:
- الأعلام" للزركلي (5/ 12 - 13).
- التعليق الصبيح على مشكاة المصابيح" للكاندهلوي (ص 6).
- التعليقات السنية" للكنوي (ص 8 - 9).
- الملا علي القاري فهرس مؤلفاته وما كتب عنه" لمحمد عبد الرحمن الشماع.
(5)
- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ـ علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري:(4/ 1522).
(6)
- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد: أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا الساعاتي: 18/ 174. ويُنظر: فتح البيان في مقاصد القرآن ـ محمد صديق خان: 1/ 31 و 15، 307. وحاشية الشهاب على تفسير البيضاوي: 1/ 25. وتفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن: المقدمة: 96. والتفسير من سنن سعيد بن منصور: 1/ 239. ومرعاة المصابيح شرح مشكاة المصابيح: 7/ 334.
يا سائلي عن كتاب الله مجتهدًا
…
وعن ترتيب ما يتلى من السور
وكيف جاء بها المختار من مضر
…
صلى الإله على المختار من مضر
(1)
فابن الحصار يشير إلى أن ترتيب السور جاء بها النبي-صلى الله عليه وسلم وهي إشارة واضحة الدلالة من كلامه بأن ترتيب السور توقيفي منه-صلى الله عليه وسلم
القول الحادي عشر: جملة من أقوال بعض المعاصرين
وقد رجح جمع من المعاصرين القول بالتوقيف كذلك، وهم على سبيل المثال لا الحصر على نحو التالي:
"جاء في التفسير الوسيط: ترتيب السور على ما جاء في المصحف الشريف بأمر الله عز وجل
(2)
.
1 -
قال صاحب التفسير الوسيط:
والذي تميل إليه النفس أن ترتيب السور توقيفي، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة تميزها عن غيرها
(3)
.
2 -
وقال وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ (ت: 1436 هـ):
ولا خلاف بين العلماء في أن ترتيب آيات السور توقيفي منقول ثابت عن النّبي صلى الله عليه وسلم، كما أن ترتيب السور أيضًا توقيفي على الراجح
(4)
.
وممن قال به كذلك من المعاصرين محمد عبد الله دراز، أحمد شاكر.
ومن أبرز ما استدل به بعض هؤلاء على توقيف الترتيب المصحفي ما يلي:
1 -
إجماع الصحابة-رضي الله عنهم على ترتيب السور في المصحف العثماني،
إذ لو كان هذا الترتيب ترتيبًا اجتهاديًا لما أجمعوا عليه ولتمسكوا بمصاحفهم ولما قدموها للحرق، ولما اجتمعوا على المصحف الإمام.
ولقد" قام عثمان بن عفان- رضي الله عنه بإحراق المصاحف التي وقع فيها الاختلاف، وأبقى لهم المتفَق عليه، كما ثبت في العَرْضة الأخيرة".
(5)
وقد ثبت عند البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم على عثمان رضي الله عنه، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرِكْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلافَ اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أنْ أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم (يعني ابتداءً)، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
(6)
(7)
(1)
وللاستزادة ينظر: الإتقان للسيوطي (1/ 44).
(2)
- مجمع البحوث (10/ 2043).
(3)
التفسير الوسيط لـ محمد سيد طنطاوي (ت: 1431 هـ): (6/ 9)، وهذا التفسير تارة ينسب لـ"طنطاوي"، وتارة أخرى ينسب لمجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، كما هو الحال في طبعة: الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية الطبعة: الأولى، (1393 هـ = 1973 م) - (1414 هـ = 1993 م) عدد المجلدات: 10
(4)
- التفسير المنير للزحيلي (1/ 23). يُنظر: الموسوعة الفقهية الكويتية: 14/ 181.، الموسوعة الفقهية الكويتية صادر عن: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت عدد الأجزاء: 45 جزءا الطبعة: (من 1404 - 1427 هـ) .. الأجزاء 1 - 23: الطبعة الثانية، دار السلاسل - الكويت .. الأجزاء 24 - 38: الطبعة الأولى، مطابع دار الصفوة - مصر .. الأجزاء 39 - 45: الطبعة الثانية، طبع الوزارة، وينظر: ترتيب آيات وسور القرآن الكريم-الدكتور محمد أبو زيد عن موقعه. بتصرف
(5)
البداية والنهاية: لابن كثير: (7/ 178). البداية والنهاية المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) الناشر: دار الفكر عام النشر: 1407 هـ - 1986 م عدد الأجزاء: 15
(6)
رواه البخاري، حديث:(4987).
(7)
- قال عمر بن علي بن أحمد الشافعي، المعروف بابن الملقن:(ت: 804 هـ)
معنى (يغازي) يغزو، وإرمينية: بكسر أوله، وفتحه ابن السمعاني، وتخفف ياؤها وتشدد كما قاله ياقوت، وقال صاحبا "المطالع": بالتخفيف لا غير. وقال أبو عبيد: بلد معروف سميت بكون الأرمن فيها، وهي أمة كالروم، وقيل: سميت بأرمون بن لمطي بن يومن بن يافث بن نوح. قال أبو الفرج: ومن ضم الهمزة غلط، قال: وبكسرها قرأته عَلَى أبي منصور اللغوي؛ وقال: هو اسم أعجمي، وأقيمت -كما قال الرشاطي- سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان على يد سليمان بن ربيعة الباهلي. قال: وأهلها بنو الرومي بن إرم بن سام بن نوح.
وأذربيجان - بفتح أوله بالقصر والمد، وبفتح الباء وكسرها، وكسر الهمزة أيضًا، حكاه ابن مكي في "تنقيبه"- بلد بالجبال من بلاد العراق يلي كور إرمينينة من جهة المغرب. وقال أبو إسحاق البحيري: الفصيح ذربيجان. وقال الجواليقي: الهمزة في أولها أصلية، لأن أذر مضموم إليه الآخر. يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح: (24/ 20 - 25).
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
" يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعًا ".
(1)
وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه يدل على أنهم قد أجمعوا عليه إجماعًا سكوتيًا-رضي الله عنهم أجمعين-.
موقف ابن مسعود- رضي الله عنه:
قال ابن كثير-رحمه الله:
"روي عن عبدالله بن مسعود أنه غضب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلَّم في تقدُّم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، فكتب إليه عثمان بن عفان- رضي الله عنه يدعوه إلى اتِّباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب عبدالله بن مسعود، وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة-رضي الله عنهم أجمعين-".
(2)
وكذلك إجاب ابن مسعود- رضي الله عنه إلى المتابعة في تقديم مصحفه للحرق تعزز ما ذكرناه آنفًا من قول على بن أبي طالب- رضي الله عنه تقوى وتؤكد وتعزز القول بالإجماع السكوتي من جهة، وتقرر الإجماع الفعلي من جهة أخرى كذلك، فرضي الله عنهم أجمعين.
وفي ذلك يقول الزرقاني- (ت: 1367 هـ) في مناهله-وهو يستعرض أدلة القائلين بالتوقيف:
"إن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول- صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم. واستدل أصحاب هذا الرأي بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد. وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم. لكنهم لم يتمسكوا بها بل عدلوا عنها وعن ترتيبهم وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعا. ثم ساقوا روايات لمذهبهم كأدلة يستند إليها الإجماع".
(3)
فلو سلمنا جدلاً أن ترتيب المصحف كان في أول أمره ترتيبًا اجتهاديًا لا توقيفيًا، لقلنا إن إجماع الأمة قد استقر على الترتيب المصحفي، حتى إن كُتب التفسير كلها على هذا الأمر لا نعلم منها أي مخالف عند السلف والخلف، لكن شذ عن ذلك ثلاثة نفر من المعاصرين، وسيأتي ذكرهم في المبحث القادم بإذن الله تعالى، فلا يجوز والحال كذلك خرق هذا العمل الذي أجمعت الأمة عليه، وإنما المعنى بذلك هو كتب التفسير، لأن أمر المصاحف لا يتجرأ أحدُ على مخالفته البتة إلا مما نادى بعض المستشرقين كما سيأتي بيانه.
2 -
تحزيب الصحابة-رضي الله عنهم للقرآن
ومما استدلوا به كذلك على أن ترتيب السور توقيفي تحزيب القرآن وفي ذلك
يقول الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) -رحمه الله تعالى:
"ومما يدل على أن ترتيب
(1)
المصاحف،؛ لابن أبي داود صـ 96.
(2)
- البداية والنهاية؛ لابن كثير: (7/ 228). بتصرف يسير.
(3)
- يُنظر: مناهل العرفان: (1/ 354)
المصحف كان توقيفيًّا ما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف
…
وفيه
…
فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من "ق" حتى نختم". ثم قال ابن حجر:"فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم ".
(1)
وهذا أيضًا دليل واضح جلي ذكره الحافظ في الفتح واستدل به على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الأن كان كذلك في عهد تنزله الأول على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
3 -
النظم الترتيبي لبعض السور المتشابهة في مفتتحها، وفي ذلك يقول السيوطي -رحمه الله تعالى-:
"ومما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت وَلاءً "يعني متوالية" وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات وَلاءً، بل فصل بين سورها وفصل بين "طسم" الشعراء و"طسم" القصص بـ "طس" مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهادًا لذكرت المسبحات وَلاءً، وأخرت "طس" عن القصص".
(2)
وقد مر ذكره عند عرض أقوال القائلين بتوقيف ترتيب السور.
وهذا الترتيب الدقيق الذي ذكره السيوطي للسور المتشابهات في مفتتحها ومطلعها وصفة ترتيبها وتتابعها بتك الدقة المتناهية من سور "آل حميم" وسور "آل طسم"، إذ إن سور "آل حم" السبع رتبت ترتيبًا متواليًا وكذلك سور "آل طسم" الثلاث، وأما سور المسبحات السبع فرغم تشابه مفتتحها فإنها لم تأت متوالية. وقوله:(وأخرت طس) يعني النمل المفتتحة بـ (طس) فقد أخرت عن القصص فجاءت بعدها، وقد وقعت بين سورتي الشعراء والقصص المتشابهتين في الافتتاح بـ (طسم)، فدلل بذلك على أن ترتيب السور توقيفي بلا شك، وهذا استدلال من السيوطي له قوته ووجاهته وحجيته.
وسور الحواميم هي: سور ذَوات "آل حم".
وسور الطواسين أو الطواسيم هي: السور ذَوات "آل طسم ". وقد جُمِعَتْ على غيرِ قِياس.
أما سور "آل حم": فهي سور "آل حم" السبع التي افتتحت بـ"حم" وهي سور:
1 -
غافر
2 -
فصلت
3 -
الشورى
4 -
الزخرف
5 -
الدخان
6 -
الجاثية
7 -
الأحقاف.
قال الكميت بن يزيد
(3)
:
وجدنا لكم في آل حاميم آية
…
تأوّلها منّا تقيّ ومعرب
(4)
وهي على الترتيب المصحفي على النحو التالي:
الأولى: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)) [غافر].
الثانية: (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2)) [فصلت].
الثالثة: (حم (1) عسق (2)) [الشورى].
(1)
- فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج 9 ص 42، 43.
(2)
- الإتقان: السيوطي ج 1 ص 63.
(3)
-الكميت بن زيد الأسدي وكنيته أبو المستهل، (60 هـ - 126 هـ) شاعر عرب من قبيلة بني أسد ومن أشهر شعراء العصر الأموي، سكن الكوفة واشتهر بالتشيع وقصائده في ذلك المسماة بالهاشميات. يُنظر الموسوعة الحرة-ويكيبيديا.
(4)
- البيت للكميت بن زيد الأسدي، مجاز القرآن لأبي عبيدة:(218 - 1) وديوانه طبعة الموسوعات بالقاهرة 18. وآل حاميم وذوات حاميم: السور التي أولها" حم" نص الحريري في درة الغواص، على أنه يقال: آل حاميم، وذوات حاميم، وآل طسم، ولا يقال: حواميم ولا طواسيم.
الرابعة: (حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2)) [الزخرف].
الخامسة: (حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2)) [الدخان].
السادسة: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)) [الجاثية].
السابعة: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)) [الأحقاف]
"وقد تجعل "حم" اسمًا للسورة ويدخل الإعراب ولا يصرف".
(1)
وأما سور "آل طسم": فهي السور المفتتحة بـ (طسم) أو (طس)، وهي ثلاث سور:
1 -
الشعراء
2 -
والنمل
3 -
والقصص.
وهي على الترتيب المصحفي على النحو التالي:
الأولى: (طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [الشعراء].
الثانية: (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ)(1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)) [النمل].
الثالثة: (طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2)) [القصص].
أنشد أبو عبيدة:
وبالطّواسيم الّتي قد ثلّثت
…
وبالحواميم الّتي قد سبّعت
(2)
وهو يعني بقوله: " قد ثلّثت" أنها ثلاث سور، وبقوله:" قد سبّعت "أنها سبع سور.
وأما المسبحات فهي السور المفتتحة بالتسبيح، وهي سبع سور:
1 -
الإسراء.
2 -
الحديد.
3 -
الحشر.
4 -
الصف.
5 -
الجمعة.
6 -
التغابن.
7 -
الأعلى.
وهي على الترتيب المصحفي على النحو التالي:
الأولى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ)(1)[الإسراء].
الثانية: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)[الحديد].
الثالثة: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)[الحشر].
الرابعة: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)[الصف].
الخامسة: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(1)[الجمعة].
السادسة: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1)[التغابن].
السابعة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)(1)[الأعلى].
وبعد بيان استعراض أقوال وأدلة القائلين بالقول بأن ترتيب السور توقيفي والحكم عليها يتبين لنا ما يلي:
(1)
- يُنظر: زاد المسير: 7/ 204 - 205. زاد المسير في علم التفسير المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ
(2)
- يُنظر: زاد المسير: 7/ 204 - 205، جمال القراء: 1/ 34 - 36.
أولًا: قوة أدلتهم وحجيتها ووجاهتها ورجحانها
ثانيًا: أن ترتيب السور المصحفي الذي استقر عليه المصحف الإمام هو الموافق لما هو مثبت في اللوح المحفوظ بلا شك وهو الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم وتلقته الأمة بالقبول وعليه يجب التمسك والاعتصام والعمل به وعدم الحيد عنه سواء كان هذا الترتيب ترتيبًا توقيفيًا أم ترتيبًا اجتهاديًا، مع رد الدعوات المغرضة المنادية بإعادة ترتيب المصحف ترتيبًا نزوليًا أو ترتيبًا موضوعيًا ورد أي دعوة مماثلة لتك الدعاوي الباطلة الهابطة كتلك الدعاوي التي صدرت من بعض المستشرقين الذين سيأتي ذكرهم ومن تأثر بهم وتابعهم ونادى بفكرتهم من بعض المعاصرين كذلك.
المبحث الرابع: بداية مخالفة ومعارضة الترتيب المصحفي بالترتيب النزولي وبيان مصدره
لقد تَعرَّضَ لهذا الترتيب فئة من المستشرقين ولا غرابة في ذلك فهذا شأنهم وديدنهم، ولكن عندما يتعرض لهذا الترتيب فئة من بني جلدتنا وممن ينتمون لقبلتنا فمن هنا يأتي التعجب!.
فقد أحدث ثلاثة نفر خرقًا لهذا الإجمال، فصنفوا تفاسيرهم على الترتيب النزولي، تاركين الترتيب المصحفي الذي عليه عمل السلف واستقر عليه إجماع الأمة.
أما التفاسير الثلاثة فهي:
1 -
تفسير بيان المعاني: وهو "تفسير كتاب الله الحكيم حسب النزول لـ" عبد القادر ملا حُوَيِّش" (ت: 1398 هـ)
(1)
.
2 -
التفسير الحديث: لـ" محمد عزة دروزة "(ت: 1404 هـ)
(2)
.
3 -
كتاب "معارج التفكر ودقائق التدبر" لـ" عبد الرحمن حبنكة الميداني"(ت: 1425 هـ).
(3)
.
أما الشيخ "عبد القادر ملا حُوَيِّش "، والأستاذ "محمد عزة دروزة"، وهما (معاصريين) قد أقرا بأن ترتيب السور في المصحف توقيفي ولا يجوز مخالفة هذا الترتيب، لأنه كان بوحي من الله إلى جبريل إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم ".
(4)
ومع ذلك فقد خالفا الترتيب التوقيفي في تفسيريهما، وقد احتجا بأن طريقة تناول التفسير تختلف عن الترتيب المصحفي، وقد قدما أعذارًا لا تقوم بها حجة ولا تضح بها محجة.
ولم يتعرض الباحث هنا لتلك الحجج الواهية ومناقشتها والرد عليها لضعفها ووهنها من جهة وطولها كذلك، ولكونهم لم يقدموا أي أدلة مقنعة يمكن أن تنهض للاحتجاج من جهة أخرى، وقد ناقشها الباحث مع مدارسة التفاسير الثلاثة في بحث خاص.
(5)
وقد أملى كل من " حُوَيِّش " و"دروزة" تفسيرًا معاصرًا قد رتبه كل منهما ترتيبًا نزوليًا لا
(1)
وحُوَيِّش هو: عبد القادر بن ملّا حُوَيِّش السيد محمود آل غازي (ت: 1398 هـ) العاني، الديرزوري، الفراتي. وهو حنفي أشعري.
"واتُهِمَ بأنه كان "صوفيًا نقشبنديًا"، ولكن ابنه نفى ذلك وأخبر أنه كان يذهب إلى شيخ الطريقة النقشبندية ويستضيفه في بيتنا". فحسب! .. ! ..
يُنظر: التفسير والمفسرون أساسه واتجاهاته ومناهجه في العصر الحديث. د فضل عباس حسن: (3/ 250).، دار النفائس-عمان-الأردن، ط 1، 1437 هـ.
(2)
محمد عزة بن عبد الهادي دَرْوَزَة: (21/ 6/ 1887 م-26/ 6/ 1984 م)، مفكر وكاتب ومناضل قومي عربي ولد في نابلس وتوفي في دمشق، إضافة إلى نضاله السياسي، كان أديبًا ومؤرخًا وصحفيًا ومترجمًا ومفسرًا للقرآن، هو أحد مؤسسي الفكر القومي العربي.
للاستزادة من ترجمته يُنظر:
1 -
مولد محمد عزة دروزة: موقع قصة الإسلام. تاريخ الولوج 6/ 11/ 2009 م.
2 -
محمد عزة دروزة: الكاتب المناضل موقع إسلام أون لاين. تاريخ الولوج 14/ 12/ 2009 م.
3 -
العهد الناصري والانتقال من التنظير إلى التطبيق جريدة الوطن. شاكر النابلسي، تاريخ الولوج 25/ 11/ 2009 م. نقلًا عن الموسوعة الحرة.
(3)
- وُلدَ الشيخ عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني الدِّمشقي سنة: (1345 هـ -1927 م)، في أحد أعرق أحياء دمشقَ، حيِّ المَيدان، لأُسرة علمٍ ودعوة وجهاد؛ فأبوه العلاَّمةُ المربِّي المجاهد حاملُ لواء الدَّعوة في الشام، الإمامُ حسن حَبَنَّكَة المَيداني، عضوُ المجلس التأسيسيِّ لرابطة العالم الإسلاميِّ، وتَرجعُ أُصولُ أسرة الشيخ إلى عَرَب بني خالد الذين تمتدُّ منازلُهم إلى بادية حَماة من أرض الشام.
وفي ليلة الأربعاء 25 من جُمادى الآخرة 1425 هـ قضى الله قضاءه الحقَّ بوفاة الشيخ عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني، عن 80 سنة، في إثْر مرض ألمَّ به.
للاستزادة: يُنظر: العلامة المفكر عبدالرحمن حبنكة الميداني-أيمن بن أحمد ذو الغني-مقال عن موقع الألوكة- بتاريخ: 19/ 3/ 1428 هـ.، ويُنظر "زوجي كما عرفته"-عائشة الجراح-دار القلم- دمشق (د. ت).
(4)
- يُنظر: بيان المعاني 1/ 3، والتفسير الحديث 1/ 9.، التفاسير حسب ترتيب النزول في الميزان: د. مصطفى مسلم. مقال عن موقع أهل التفسير، بتاريخ: 15/ 12/ 1432 هـ. بتصرف يسير لينتظم الكلام ويتآلف فحسب.
(5)
- يُنظر: عرفة بن طنطاوي، التفاسير التي رُتِبَت على ترتيب النزول والرد عليها. عرض، ودراسة، ومناقشة.
ترتيبًا مصحفيًا، و "حُوَيِّش" هو رأس الحربة الذي ابتدأ هذا الأمر الجلل، إذ هو أول من أقبل على هذا العمل الذي خالف فيه ما درج عليه أئمة التفسير وسادات التحبير والتأويل سلفًا وخلفًا، ثم تبعه "دروزة"- كذلك-، وقد تبعهما على هذا العمل كذلك - أيضًا- الشيخ "عبد الرحمن حبنكة الميداني".
وجميع هؤلاء بذلك قد خرقوا إجماع الأمة على اتباع الترتيب المصحفي والذي عليه عمل أئمة التفسير من السلف والخلف، وفي حدود علم الباحث واطلاعه الضيق أن هذا العمل لم يسبقهم إليه أحدٌ أبدًا من هذه الأمة، إلا ما كان من دعوة ونداء بعض المستشرقين لإعادة ترتيب القرآن ترتيبًا نزوليًا وذلك سعيًا منهم لبث الشبهات حول القرآن ولزعزعة الثقة في كتاب الله ولاسيما في نفوس الأجيال المقبلة،
ومن أبرز هؤلاء المستشرقين:
1 -
المستشرق الألماني غوستاف ليبرشت فْلوجِل: (ت: 1278 هـ).
2 -
والمستشرق الألماني اليهودي غوستاف فايل: (ت: 1306 هـ).
3 -
والمستشرق الألماني فريدريش شفالي: (ت: 1338 هـ)، وهو تلميذ تيودور نولدكه
4 -
وشيخ المستشرقين الألماني تيودور نولدكه: (ت: 1349 هـ).
وهو من أوائل المستشرقين الذين أثاروا مسألة إعادة ترتيب القرآن الكريم، "وفق ترتيب النزول". ولقد أفنى جزءًا كبيرًا من حياته، معتمدًا على كتاب أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي من رجال القرن الخامس.
(1)
ويقال بأنه ندم في آخر حياته على الجهد الكبير الذي بذله في علم لا يمكن أن يصل فيه إلى نتائج قطعية بسبب اختلاف الروايات وتضاربها.
5 -
والمستشرق الإنجليزي ديفيد صموئيل مرجليوث: (ت: 1358 هـ).
6 -
والمستشرق الفرنسي ريجي بلاشير: (ت: 1393 هـ)
وقد قام "بلاشير"(زعمًا منه) بترجمة القرآن الكريم للفرنسية عام 1371 هـ-1950 م، والحقيقة أن الترجمة تمتنع تمامًا لأسباب كثيرة لا يسع المجال لذكرها، وإن الذي يمكن ترجمته إنما هو معاني القرآن فحسب.
وقد رتب "بلاشير" تلك الترجمة المزعومة بحسب ترتيب النزول أول الأمر. ثم بعد سبع سنوات من تأمله ثبت لديه عدم صواب وجدوى طريقته الأولى التي استخدمها ألا وهي الترتيب بحسب ترتيب النزول فأعاد ترتيب ترجمته هذه بحسب الترتيب المصحفي.
ولقد تأثر بهؤلاء المستشرقين الكفرة بعض المعاصرين كذلك، ومن أمثال هؤلاء:
1 -
يوسف راشد (ت:؟) الذي يقول:
"إن ترتيب القرآن في وضعه الحالي يبلبل الأفكار ويضيع الفائدة من تنزيل القرآن، لأنه يخالف منهج التدرج التشريعي الذي روعي في النزول. ويفسد نظام التسلسل الطبيعي للفكرة، لأن القارئ إذا انتقل من
(1)
- يُنظر: تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني: (ص: 71).
سورة مكية إلى سورة مدنية اصطدم صدمة عنيفة، وانتقل بدون تمهيد إلى جو غريب عن الجو الذي كان فيه. وصار كالذي ينتقل من درس في الحروف الأبجدية إلى درس في البلاغة".
(1)
وكذلك له رسالة تحت عنوان: "رتبوا القرآن كما أنزله الله".
وقد أقام اللهُ لها الدكتورَ/ محمد عبد الله دراز-رحمه الله فقام بالرد عليها بتقرير رفعه إلى إدارة الأزهر.
(2)
2 -
وميرزا باقر الأسكوئي الحائري الرافضي (ت: 1301 هـ)
3 -
والدكتور/ يوسف صديق التونسي (معاصر) من مواليد (1362 هـ)، هو فيلسوف وعالم انثروبولوجي.
4 -
وعائشة بنت عبد الرحمن المعروفة بـ "بنت الشاطئ"(ت: 1419 هـ) والتي لها التفسير البياني للقرآن، وقدر صدر في جزئين تناولت فيه تفسير بعض سور القرآن.
وأخيرًا فهل تحققت الأهداف التي رامها مُفْتَتِحُو هذا الباب
أولًا: لم تتحقق تلك الأهداف كما مر معنا، وكيف تتحقق في أمر عظيم جلل أجمع عليه جماهير العلماء سلفًا وخلفًا وقد خرقوا هذا الإجماع.
ثانيًا: كيف تتحقق تلك الأهداف ولم تقترن بأي مبررات مقنعة أو أي معالم ظاهرة أو حجج دامغة وبراهين ساطعة وأجوبة مسكتة.
وإنما الذي تحقق من الأهداف هو ما أراده مُؤسسو ومرجو هذا الفكرة أولًا من المستشرقين، بل إن أحدهم قد تراجع عن هذا العمل ألا وهو المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير:(ت: 1393 هـ) وقد مر معنا آنفًا ذكر خبر تراجعه عن ترتيب ترجمته للقرآن بحسب ترتيب النزول لما رأى خطأه، فأعاد ترتيب تلك الترجمة بحسب الترتيب المصحفي، هذا مع سوء نيته وخبث طويته.
فهل كان للثلاثة نفر الذين خرقوا هذا الخرق أن يتراجعوا عن فعلهم كما تراجع عن مثله ذلك المستشرق، ويؤبوا إلى ما أجمع عليه أسلافهم الصالحون، لأنهم بذلك قد أفسدوا نظم القرآن.
وقد قيل في نحو ذلك: "من قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن".
(3)
.
وَلَمَّا أنهم كانوا قد قضوا نحبهم وقضوا آجالهم فحق لأهل الحل والعقد من الجهات المعنية في الأمة أن يبرموا في ذلك أمر رشيدًا وأن يعملوا على رأب صدعهم بعد أن أفضوا إلى ربهم، فكان لزامًا عليهم أن يقوموا بما أوجب الله عليهم تجاه كتاب ربهم، ولقد عناهم الله بقوله:(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)(آل عمران: 187).
قال ابن سعدي في تفسيره:
"الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه الله الكتب وعلمه العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصًا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه،
(1)
- مقال: " النقد الفني لمشروع ترتيب القرآن الكريم حسب نزوله"، عبد الله دراز، مجلة الأزهر، رئيس التحرير: محمد فريد وجدي بكّ، تحت إدارة ديوان الإدارة للأزهر، والمعاهد الدينية، بالقاهرة، عدد شهر رمضان سنة (1370 هـ/ 1950 م، مجلد 22). مطبعة الأزهر، ص:784.
(2)
-وقد نشر هذا الرد في مجلة " كنوز القرآن" في عدد أكتوبر 1951 م. يُنظر: الجمع الصوتي للقرآن: (ص: 359) وهامش (1).
(3)
الإتقان: السيوطي ج 1 ص 62. وعزاه لابن الأنباري.
ويوضح الحق من الباطل".
(1)
فلزمهم أن يقوموا بواجبهم تجاه كتاب ربهم ويردوا تلك المصنفات إلى ما أجمعت عليه الأمة وسارت عليه تلك القرون الطوال، كما يُرد المتشابه إلى المحكم، فإن من خصائص أهل الحق رد المتشابه إلى المحكم، كما إن من خصائص أهل الباطل اتباع المتشابه ورد المحكم.
طوام كبرى نخشاها
هذا ونخشى أن يأتي على الأمة زمان يأتي فيه من يُنادي بإعادة ترتيب آيات القرآن ترتيبًا نزوليًا كما نادى المستشرقون بترتيب السور ترتيبًا نزوليًا كذلك، وهم يريدون بذلك الطعن في القرآن ليفقد بذلك أعظم دلائل بقائه وحفظه، من مصداقيته، وتحقق أوجه إعجازه، وجزالة لفظه، ودقة نظمه، وترابط نصه، ووحدة موضوعيته، ولكن كما قال الله تعالى:(وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(التوبة من آية: 32)، فقد تولى الله تعالى حفظ كتابه بذاته العلية فقال سبحانه:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9)، ونخشى أن يتبعهم على ذلك من أعمى الله بصائرهم عن لزوم الحق والتمسك به ممن لا خلاق لهم ولا حظ ولا نصيب من علم ولا ورع ولا تقوى من بني جلدتنا، والله تعالى وحده من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله رب العالمين.
بيان وجوب احترام الترتيب المصحفي وعدم التعرض له، والتصدي لمن تعرض له
والخلاصة فإن الأمر قد انتهى إلى أنه يجب احترام هذا الترتيب.
"وسواء أكان ترتيب سور القرآن اجتهاديًا (من الصحابة) أو توقيفيًا (من عند الله) فإنه يجب احترامه خصوصًا في كتابة المصاحف لأنه عن إجماع الصحابة والإجماع حجة. ولأن خلافه يجر إلى الفتنة ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب. ".
(2)
وبعد الانتهاء من بيان أمر تلك التفاسير الثلاثة التي خالف مؤلفُوها جماهير السلف والخلف في لزوم الترتيب المصحفي، والجنوح عنه إلى الترتيب النزولي نرجع إلى أصل البحث هنا ألا وهو استعراض أقوال وأدلة القائلين بالقول بأن ترتيب السور توقيفي والحكم عليها،
وقد تبين لنا أمورًا ذكرنا منها أمرين اثنين وننتقل إلى ما تبقى من تلك الأمور فيما يلي:
ثالثًا: إن كان في ترتيب آيات القرآن فيه من الإعجاز ما فيه، فإن ترتيب السور قد استخرج منه العلماء دررًا في علم المناسبات بين السور كذلك. فهو لا يقل شأنًا عن ترتيب آياته.
قال محمد بن سيرين (ت: 110 هـ) لعكرمة (ت: 107 هـ) أيّام الجمع الأول للقرآن:
"ألَّفوه كما أُنزل الأول فالأول، فقال عكرمة: لو اجتمع الإنس والجن على أن يألفوه ذلك التأليف ما استطاعوا ".
(3)
رابعًا: الأولى في تلاوة القرآن مراعاة الترتيب المصحفي سواء كان ذلك في الصلاة أم
(1)
تفسير ابن سعدي: (161/ 1).
(2)
- الزرقاني: مناهل العرفان: (1/ 344).
(3)
السيوطيّ، الإتقان:(ص: 155).
خارجًا عنها لأنه الأصل، وإن حاد عنه أحيانًا جاز له ذلك ولكنه ترك الأفضل والأولى والأحسن والأكمل والأتم، وذلك لأن ترتيب التلاوة أمر مندوب وليس بواجب بدليل فعله-عليه الصلاة والسلام ذلك في صلاته في بعض الأحايين.
ويلحق البعض بذلك تعليم الصغار من بداية قصار المفصل لوجود المشقة والعنت في حفظ السور الطوال - بداية -، بل ولامتناعه عليهم أيضًا، وقد جرى على ذلك عمل الكثير من الأوليين في تعليم الصغار، وقد يلحق بهم كذلك تعليم الأعاجم الذين لا يحسنون العربية، وكذلك من أسلم وكان حديث عهد بكفر، وكذلك كبار السن ومن لديه تعثر وثقل في اللسان، وكل من يلحقه عنت ومشقة في الحفظ وتعلم التلاوة من بداية السور الطوال، وذلك لاشتراكهم جميعًا مع الصغار في العلة والسبب على حد سواء، ووجه الجواز في ذلك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا على غير الترتيب المصحفي مما يدلل على عدم وجوب ذلك تلاوة من- جهة-، كما يدلل على جوازه عند الحاجة التي يتعثر معها الحفظ كالتي ذكرنا وما في نحوها كذلك من - جهة ثانية-، ولأن تلاوة كل فرد غير مثبتة في مصحف خاص لديه، بل إن كل منهم يتلو ويحفظ من مصحف واحد في ترتيبه المصحفي الذي أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا وجرى قبوله إجماعًا والعمل عليه ماض في الأمة عبر كل أجيالها، فتغير الترتيب المصحفي سالم ومأمون. والله أعلم.
ومما يدلل على ذلك ما ثبت عند مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ذاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَح البقَرَةَ، فقلتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فقلتُ: يُصَلَّي بِهَا في ركْعَةٍ، فمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَح النِّسَاءَ فَقَرأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَها، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذا مَرَّ بِآيَةِ فِيها تَسْبيحٌ سَبَّحَ، وَإِذا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإذَا مَرَّ بتَعوَّذ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ
…
الحديث.
(1)
وفي نحو ذلك يقول النووي- رحمه الله في التبيان:
"قال العلماء رحمهم الله: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف، فيقرأ الفاتحة، ثم البقرة ثم آل عمران، ثم النساء إلى أن يختم بـ (قُلْ أَعوذ بربِ النَّاس) سواء قرأ في الصلاة أم خارجًا عنها، ويستحب أيضًا إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها السورة التي تليها، ولو قرأ في الركعة الأولى:(قُلْ أَعوذ بربِ النَّاس) يقرأ في الثانية من البقرة
ودليل هذا: أن ترتيب المصحف لحكمة، فينبغي أن يحافظ عليها إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة، يقرأ في الركعة الأولى:(ألم تَنزيل) وفي الثانية: (هَلْ أتَى) وصلاة العيدين (قاف) و (اقتربت).
ولو خالف الترتيب فقرأ سورة ثم قرأ التي قبلها، أو خالف الموالاة فقرأ قبلها ما لا يليها جاز وكان تاركًا للأفضل، وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فمتفقٌ على منعه وذمِّه؛ فإنه يُذهب بعض أنواع الإعجاز، ويزيل حِكمة الترتيب ".
(2)
(1)
- رواه مسلم: (17/ 1176).
(2)
يُنظر: التحبير في علم التفسير: للسيوطي: (ص: 637).
وكما كان-صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة أحيانًا بـ الجمعة في "الأولى" والغاشية في "الثانية".
خامسًا: بما أن الترتيب المصحفي قد أجمعت الأمة عليه سلفًا وخلفًا وجرى العمل عليه فلا يحق لأحد كائنًا ما كان خرق الإجماع الذي هو حجة في ذاته والحيد عنه إلى غيره من أنواع الترتيب، نزوليًا كان أو موضوعيًا أو تاريخيًا أو غير ذلك مما لم يجر عليه عمل من جمعوا القرآن في عهوده الثلاثة، ولم يجر عليه عمل أي أحد ممن اتبعوهم بإحسان، وسواء كان الترتيب المصحفي هذا ترتيبًا توقيفيًا، أم كان ترتيبًا اجتهاديًا، وذلك صيانة وحفظًا لكتاب الله تعالى من التبديل والتغيير والتحريف، ولما يترتب على ذلك من مفاسد وطوام لا تحمد عقباها، وكذلك لما قد يفتح باب التجرؤ على العبث في كتاب الله تعالى الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 42).
من هنا كان واجب التصدي لمثل هذا العمل وإبرازه للعباد بين الفينة والفينة انتصارًا لكتاب الله تعالى وردًا لمطاعن الطاعنين والمشككين في كتاب رب العالمين من سائر أعداء الملة والدين من الذين لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار ولا يتوقفون عن الطعن في كتاب الله تعالى ويعملون ويسعون في ذلك ليل نهار عبر الزمان والمكان، ورد سهامهم في نحورهم لينقلبوا إلى أهلهم خاسرين ويندحروا خاسئين ويرجعوا إلى جحورهم ذليلين وينقلبوا صاغرين.
- نعم يقومون بذلك نصحًا لله تعالى ولكتابه كما قام الصديق الأول- رضي الله عنه يوم الردة، وكما قام الإمام المبجل أحمد بن حنبل الشيباني إمام أهل السنة- رحمه الله لكتاب الله يوم المحنة.
فكان التصدي لهؤلاء وأمثالهم وأذنابهم جميعًا من أوجب الواجبات المتحتمات على المعنين بهذا الشأن العظيم من المرابطين على ثغور الإسلام وحماته ومن الغيور على دينهم وكتاب ربهم وممن يحبون أن يشملهم وصف ربهم لهم: (والذين اتبعوهم بإحسان) فيتحقق لهم وعده في قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(التوبة: 100).
وذلك كله سعيًا في تحقيق وعد ربهم الذي لا يتخلف ولا يتأخر ولا يتبدل ولا يتغير أبدًا، الذي قال فيه سبحانه:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 109)
وختامًا لهذا المبحث نسوق لطيفة للألباني - محدث العصر- رحمه الله:
وقد وُجِهَ إليه هذا السؤال:
ما الغاية من جمع القرآن ووضعه في المصحف وهل ترتيب السور في المصحف توقيفي أو اجتهادي.؟
فكان مما أجاب عنه بعد كلام طويل-رحمه الله: ما يلي:
"
…
ما أدري، لا أدري، هنا المسألة يقال فيها مسألة تعبدية لأن ترتيب القرآن ليس على حسب التاريخ، التاريخ النزولي الذي تشير إليه، هذه مسألة اختلف فيها العلماء هل
هي توقيفية أم اجتهادية بعكس لما تنظم آية فتوضع في سورة، فهذا توقيفي يقينًا، أما ترتيب السور تقديمها وتأخيرها فمثلا اقرأ باسم ربك المفروض حسب السؤال المطروح آنفا أنها توضع في أول ما نزل فهي قد وضعت في آخر ما نزل، اختلفوا في هذا الترتيب للسور وليس في ترتيب الآيات في السور، ترتيب الآيات في السور توقيفي بدون أي تردد، أما ترتيب السور كما هو الآن في المصحف اختلفوا فمنهم من يقول هذا توقيفي أيضًا من الرسول-عليه السلام ومنهم من يقول لا هذا باجتهاد من بعده، أما أنا شخصيًا ليس عندي رأي قاطع في الموضوع ولكن أقول إذا كان الراجح أنه توقيفي فهنا يأتي جواب السؤال السابق الله أعلم، وإذا كان هو باجتهاد ممن جمعوا القرآن بعد الرسول-عليه السلام وصنفوه من بعده على هذا التصنيف فأنا ما عرفت ما هي الحكمة، ولذلك فأكل العلم إلى عالمه".
(1)
فلنتأمل كيف بعلم من الأعلام وسيد من سادات الأنام يقول مثل هذا الكلام، (ما أدري، لا أدري،
…
فأنا ما عرفت ما هي الحكمة،
…
ولذلك فأكل العلم إلى عالمه)
فرحم الله الألباني ذاك العالم الرباني.
وقد طال بنا البحث والتطواف فيما مضى ذكره لعظم الخطب. والحمد لله رب العالمين.
(2)
الفصل الثالث
بيان شروط جمع أبي بكر-رضي الله عنه والصفة التي تم بها
وفيه سبعة مباحث:
وهي إجمالًا على النحو التالي:
المبحث الأول: التعريف بـ " زيد بن ثابت " المكلف بالجمع
المبحث الثاني: أبرز المقومات الداعية لاختيار " زيد "
المبحث الثالث: أسباب اختيار " زيد " لهذه المهمة إجمالًا
المبحث الرابع: الدواعي لهذا الجمع
المبحث الخامس: مميزات جمع أبي بكر- رضي الله عنه
المبحث السادس: منهج أبي بكر الذي وضعه لـ " زيد " في جمع وتدوين القرآن الكريم
المبحث السابع: مصير صحف أبي بكر- رضي الله عنه
وهي تفصيلًا على النحو التالي:
المبحث الأول: التعريف بـ " زيد " المكلف بالجمع
أما المكلف بالجمع فهو: زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، من كتَّاب الوحي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم وكان مشهورًا بالصدق والأمانة، وتفقَّه في الدين حتى أصبح رأسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض على عهد عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وكان يُعدُّ من الراسخين في العلم، تُوفِّي سنة 45 هـ، ولمَّا تُوفِّي رثاه حسان بن ثابت- رضي الله عنه، وقال أبو هريرة رضي الله عنه:"اليوم مات حبر هذه الأمَّة وعسى الله أن يجعل في ابن عبَّاس منه خلفًا"
(3)
ولقد " ولد في المدينة، ونشأ بمكة، وقتل أبوه وهو ابن ست سنين، وهاجر مع النبي- صلى الله عليه وسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة، تعلم السريانية في سبعة عشر يومًا ".
(4)
وإنما اختصه النبي صلى الله عليه وسلم بتعلم لغة اليهود، ليكتب النبي- صلى الله عليه وسلم إليهم وليقرأ له ما يكتبون.
(5)
ولقد عُرِفَ زيدٌ واشتهر بكمال الدين والعلم مع حسن السيرة والعدالة، وكان من أصحاب الفتوى الستة من الصحابة رضي الله عنهم.
وحفظ القرآن الكريم كله عن ظهر قلب في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم وكان من أبرز كُتَّابِ الوحي بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم، كما عرف أنه كان ممن يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك كذلك، وغير ذلك من المناقب العظيمة.
ولقد بوب الإمام البخاري- رحمه الله في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب " مناقب زيد بن ثابت رضي الله عنه. "
(6)
(1)
- سلسلة الهدى والنور: (257). بتصرف يسير جدًا في الألفاظ لأنها وردت مسجلة، فعدلت ألفاظ يسيرة جدًا ليستقيم المعنى كتابة.
(2)
- يُنظر: عرفة بن طنطاوي، التفاسير التي رُتِبَت على ترتيب النزول والرد عليها. عرض، ودراسة، ومناقشة.
(3)
- تذكرة الحفاظ: 1/ 29، تهذيب التهذيب: 3/ 399، غاية النهاية: 1/ 296، الإصابة: 1/ 561، طبقات ابن سعد: 2/ 273، الأعلام: 3/ 57.
(4)
- يُنظر: كتاب المصاحف لابن أبي داود: 1/ 156، ت: د محب الدين واعظ.
(5)
- الكامل 2: 176 والطبري 2: 561 وسيأتي الكلام حوله وراجع الصحيح من السيرة 5 المخطوط والمستدرك للحاكم 3: 421 و 422 وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5: 446 وثقات ابن حبان 1: 264 والمعرفة والتاريخ 1: 484 وكنز العمال 15: 8 و 9 والمنتظم 3: 206.
(6)
- للاستزادة يُنظر: باب: مناقب زيد بن ثابت رضي الله عنه، صحيح البخاري:
(3 - 47) رقم: (3599).
المبحث الثاني: أبرز المقومات الداعية لاختيار " زيد "
لقد تحلى زيدٌ رضي الله عنه وتجمل بمحاسن الصفات الذاتية والمقومات الإيمانية العالية التي تؤهله للقيام بهذه المهمة العظيمة وتحمل مسؤوليتها، وذلك من النشاط والقوة والحيوية المصحوبة برجاحة العقل والورع والأمانة والتقوى المقرونة بالجُرأة في الحق مع تعظيم شعائر الله، إضافة إلى تحمله للمسؤولية ومعرفة ضخامة المهمة، كل ذلك مع اتقانه وحفظه للقرآن المقرون بتوافر الخبرة السابقة في أداء المهمة نفسها، ألا وهى كتابة الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك في أن تلك الصفات التي تحلى بها تعينه على دقة التحرِّي في جمع الكريم على الوجه المطلوب والذي يليق بمكانة كتاب الله تعالى سعيًا في تحقيق وعد الله تعالى الذي لا يتخلف الذي قال فيه سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر: 9).
ولنتأمل ما ثبت في الجامع الصحيح في الحديث المشهور الذي رواه البخاري بسنده عن زَيْد بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجمع القرآن، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَ اللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جمع القرآن. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) (التوبة: 128) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ- رضي الله عنه.
(1)
وبدأ زيد بن ثابت رضي الله عنه في مهمته الشاقة، معتمدًا على المحفوظ في صدور القراء والمكتوب لدى الكُتَّاب، وقد راعى غاية التثبت؛ فمع كونه حافظًا لم يكتفِ بمجرد وجدانه الآيات مكتوبة حتى يشهد بها من تلقَّاها سماعًا،
قال ابن شامة:
وكان غرضهم ألا يكتب إلا عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة (لم أجدها مع غيره) أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون
(1)
- صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن حديث رقم 4986.
الكتابة.
(1)
لقد اختاره أبو بكر-رضي الله عنه لهذه المهمَّة العظيمة والخطب الجسيم، لما تفرس فيه من الأمانة ورجاحة العقل، وقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتماده- صلى الله عليه وسلم، عليه.
ويقول الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله في ذلك:
" اجتمع فيه من المواهب ذات الأثر في جمع القرآن، ما لم يجتمع في غيره من الرجال، إذ كان من حفاظ القرآن، ومن كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد العرضة الأخيرة
(2)
للقرآن في ختام حياته صلى الله عليه وسلم، وكان فوق ذلك معروفًا بخصوبة عقله، وشدة ورعه، وعظم أمانته، وكمال خلقه، واستقامة دينه
(3)
.
المبحث الثالث: أسباب اختيار " زيد " لهذه المهمة إجمالًا
يمكن إجمال هذه الأسباب فيما يلي:
1 -
أنه من الحفاظ الذين اشتهروا بحفظ القرآن واتقانه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
2 -
توفر عنصر القوة والنشاط والحيوية فيه، وإنما يؤخذ ذلك من قول أبي بكر-رضي الله عنه له:"إنك رجل شاب"؟ والشاب له من القوة والنشاط ما ليس لغيره.
والشباب له ميزة قد تخفى غالبًا، ألا وهي أنهم علموا ما نسخ مما بقيت تلاوته بخلاف الكثير من الكبار الذين تقدم إسلامهم، والذين قد يخفى على البعض منهم ما نسخ، وذلك بخلاف الشباب، والله أعلم.
3 -
اتصافه بالذكاء والفطنة ورجاحة العقل وسرعة البديهة وهي مقومات تعينه على حسن التصرف ولا سيما عند تشابك وتشابه الأمور، ولاشك أن ذلك أدعى لكمال العمل وإتمامه وإحسانه، وإنما يؤخذ ذلك من وصف أبي بكر- رضي الله عنه له بأنه:"عاقل"، ومما يدلل على ذلك أيضًا صدوره عن رأي أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما ورجوعه إليه بعد أن علم أنه الحق. ويتبين ذلك من قوله:" فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما"، فما كان تردده- رضي الله عنه وتوقفه في بادئ الأمر إلا عن رجاحة عقلٍ وإعمال فكرٍ.
4 -
ما ناله من اطمئنان وتزكية أبي بكر- رضي الله عنه له من خلوه من الموانع القادحة كخوارم المروءة ومما يشين من الصفات، فلا تتوجس النفس منه ولا ترتاب ولا تشك فيه، وبذلك لا تلحقه أدنى تهمة قادحة في دينه تمنع من قبول عمله وأداء مهمته الجسيمة، ويستنبط ذلك من قوله له:" لا نتهمك ".
5 -
وجود الخبرة السابقة لديه في نفس المهمة التي سيقوم بها ألا وهي كتابة الوحي للنبي- صلى الله عليه وسلم، مع ما - قيل- واشتهر من شهوده للعرضة الأخيرة، وهي ما يشبه ما يسمى بـ" شهادة الخبرة " في عصرنا الحالي.
(1)
- مباحث في علوم القرآن 127. مباحث في علوم القرآن المؤلف: مناع بن خليل القطان (المتوفى: 1420 هـ) الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة: الطبعة الثالثة 1421 هـ- 2000 م عدد الأجزاء: 1
(2)
- سبق بيان عدم ثبوت شهود زيد للعرضة الأخيرة بأدلة ثابتة صحيحة، ومعتمد البعض على الشهرة والاستفاضة، وفي مثل هذه القضايا يكتفى بهما عند البعض.
(3)
- مناهل العرفان: 1/ 250، وراجع الفتح: 9/ 13، والمقنع:124.
ذلك لأن زيدًا- رضي الله عنه قيل- أنه شهد العرضة الأخيرة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم والتي بيَّنَ لهم فيها ما نُسِخ من القرآن وما استقر بقاؤه، فأمَر- صلى الله عليه وسلم بإبقاء الناسخ وتركِ المنسوخ، وقرأ-صلى الله عليه وسلم القرآن على الحالة التي استقر عليها على زيدٍ، فكان- رضي الله عنه يؤمُّ الناس به حتى وفاته صلى الله عليه وسلم.
ولاشك أن تلك ميزة تميز بها زيدٌ لم تجتمع لأحد من الصحابة- رضي الله عنهم سواه، إلا ما كان من ابن مسعود رضي الله عنه.
ولقد روى البَغَويُّ (ت: 516 هـ) عن أبي عبدالرحمن عبد الله بن حبيب السُّلَمِي (ت: 74 هـ) أنه قال: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين
…
إلى أن قال عن زيد بن ثابت أنه: " شهد العرضة الأخيرة، وكان يُقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتبة المصاحف- رضي الله عنهم أجمعين - ".
(1)
.
"وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة ".
(2)
6 -
تحليه بالتقوى وتعظيم شعائر الله. ويؤخذ ذلك أيضًا من قوله- رضي الله عنه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟!
قال ابن بطال-رحمه الله:
" إنما نفر أبو بكر أولًا، ثم زيد بن ثابت ثانيًا، لأنهما لم يجدا رسول الله- صلى الله عليه وسلم فعله، فكرها أن يحلا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول- صلى الله عليه وسلم".
(3)
.
ولا شك أن ذلك من شواهد تقوى الله- تعالى- وتعظيم شعائره.
7 -
جُرأته في الحق، ويتبين ذلك من قوله لأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟!، فلم يمنعه قول ذلك لأكبر رأسين في الأمة لمَّا ظنَّ أنهما على غير صواب، وهذا من أبين المقومات التي تؤهله للقيام بهذه المهمة الجسيمة بلا مجاملة ولا محابة لأحد أبدًا.
8 -
حرصه على الاتباع وخشيته من الابتداع وحرصه على لزوم حدوده الله، ويؤخذ ذلك من رفضه القيام بالمهمة أول الأمر وتردده في قبولها، فما لبث أن شرح الله صدره لما شرح له صدر أبي بكر وعمر- رضي الله عنهم أجمعين-.
9 -
تحمله للمسؤولية ومعرفة ضخامة المهمة وعظم شأنها وجليل قدرها، ويتبين ذلك من قوله- رضي الله عنه:" فَوَ اللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ ".
المبحث الرابع: الدواعي لهذا الجمع
أولًا: بيان تلك الدواعي بإيجاز
كان السبب في جمع القرآن الكريم في زمن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه خوفُ الصحابة رضي الله عنهم من ضياع شيءٍ منه، خاصّةً بعد استشهاد كثيرٍ من حَفَظة القرآن، فكان الأفضل أن يُجمَع في موضعٍ واحدٍ؛ لِما في ذلك من أمانٍ، وحِفاظٍ عليه؛ خوفاً ممّا قد
(1)
- شرح السنة: البغوي ج 4 ص: 525 - 526، والبرهان للزركشي، ج 1 ص: 237، والإتقان للسيوطي ج 1، ص 59. سبق بيان عدم ثبوت شهود زيد للعرضة الأخيرة بأدلة ثابتة صحيحة .. ، ولذا يُذكر ذلك بصيغة التمريض، كما ذكرها البغوي. الباحث.
(2)
-المرشد الوجيز ص 96. المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665 هـ) المحقق: طيار آلتي قولاج، الناشر: دار صادر - بيروت سنة النشر: 1395 هـ - 1975 م عدد الأجزاء: 1
(3)
- فتح الباري: (9/ 11).
يحصل في المستقبل،
(1)
وكانت معركة اليمامة التي جرتْ أحداثها في السنة الثانية عشرة للهجرة قد استشهد فيها قريبًا من سبعين صحابيًا من كبار القراء وحفّاظ القرآن الكريم.
(2)
ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتم جمع القرآن الكريم في عهده في المصاحف، بل كان محفوظًا في صدور الصحابة الكرام وبعض سوره مكتوبة في الألواح وبعض الصحُف، وعندما بُويع أبو بكرٍ الصدِّيق بالخلافة صار من الضروري أن يتم جمع القرآن الكريم كلِّه في الصحف وذلك لأسباب عديدة أولُها وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهاية الوحي، وكذلك بسبب وفاة الكثير من الصحابة في حروب الردة والذين كان من بينهم كثير من الحفظة لكتاب الله، وقد تنبَّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لذلك فاقترح على الخليفة أبي بكرٍ الصديق أمرَ جمع القرآن الكريم وبسرعة، وتدوينه في الصحف حتى لا تضيع آياتُ الذكر الحكيم بموت الحفظة، واستجاب أبو بكر الصديق لذلك بعد تردده في بداية الأمر، لأنَّه أمرٌ غير مسبوق ولم يحدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
- يعني جمعه بين دفتين في مصحف واحد.
ولقد "كثرة الصُّحُف التي بين أيدي الصحابة الكرام، والتي اعتزَّ كلٌّ منهم أنه كتبها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم مَنْ أسلم في بداية العهد المكي. ولا يُعقَل أن يكونوا كتبوها جميعًا، في عهد أبي بكر.
وبهذا يطمئن القلب أن القرآن الكريم كله كان مكتوبًا في عهده النبي الكريم، وإن كان غير مجموع في موضع واحد".
(4)
ولقد ظل القرآن الكريم على هذه الحال مفرقًا غير مجموع في مصحف واحد، إلى أن كانت خلافة أبي بكر، فواجهته أحداث جسيمة، وقامت حروب الردة، واستحرّ القتل بالقراء في وقعة اليمامة - سنة اثنتي عشرة للهجرة - التي استشهد فيها سبعون قارئًا من حفاظ القرآن. هالَ ذلك عمر بن الخطاب، وخاف أن يضيع شيء من القرآن بموت حفظته، فدخل على أبي بكر، وأشار عليه بجمع القرآن وكتابته خشية الضياع، فنفر أبو بكر من مقالته، وكَبُرَ عليه أن يفعل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فظل عمر يراوده حتى اطمئن أبو بكر لهذا الأمر. ثم كلف أبو بكر زيد بن ثابت بتتبع الوحي وجمعه، فجمعه زيد من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال.
حرص زيد بن ثابت على التثبت مما جمعه، ولم يكتف بالحفظ دون الكتابة، وحرص على المطابقة بين ما هو محفوظ ومكتوب، وعلى أن الآية من المصدرين جميعًا. فكان ذلك أول جمع للقرآن بين دفتين في مصحف واحد. واحتفظ أبو بكر بالمصحف المجموع حتى وفاته، ثم أصبح عند حفصة بنت عمر.
(5)
ثانيًا: بيان الباعث الرئيس لجمع الصديق
إن جمع أبي بكر الصِّدِّيق للقُرْآن كان بسبب خشيته أن يذهب من القُرْآن شيء بذهاب حَمَلتِه؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف
(1)
-علي بن سليمان العبيد، جمع القرآن الكريم حفظاً وكتابة، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد، (ص: 34 - 35) بتصرّف.
(2)
مناهل العرفان، للزرقاني:(1/ 249) بتصرّف.
(3)
جمع القرآن في عهد أبي بكر، حنين شودب، موقع: موضوع، بتاريخ: 19/ 5/ 2019 م. بتصرّف.
(4)
الإصابة، ابن حجر 2/ 444 (2546).
(5)
يُنظر: جمع القرآن، الموسوعة الحرة.
مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
ثالثًا: تتلخص أبرز الأسباب والدواعي لهذا الجمع فيما يلي:
1 -
انقطاع الوحي بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لزامًا على المسلمين حفظ كتاب ربهم من الضَّياع.
2 -
ويعد من الأسباب الرئيسة والباعثة على كتابة القرآن وجمعه في عهد الصديق رضي الله عنه مقتل سبعين من القراء يوم اليمامة، إذا كان الخوف من ضياع شيء من القرآن وذهابه بذهاب وموت حملته وحفاظه في حروب الردة.
3 -
كما كان خشية تكرار تحري القتل في حفاظ القرآن فيما يستقبل من معارك وجهاد المشركين من الأسباب الداعية لجمعه في مكان واحد كذلك، ويخشى أن يكون عند أحد من الصحابة شيء من القرآن المكتوب فيذهب بموت حامله.
لذا فإنه لمّا تحر القتل في القراء يوم اليمامة وخشي الصحابة رضي الله عنهم ذهاب القرآن بذهاب حملته الذين قتلوا في حرب المرتدين، وخشيتهم استمرار ذلك القتل فيما يستقبل من معارك كذلك؛ فأجمعوا أمرهم على جمع القرآن في مكان واحد بقيادة أبي بكر- رضي الله عنهم أجمعين.
و إن أمر هذا الجمع كان معتمده على المحفوظ في الصدور والمكتوب في السطور، ولذلك اعتنى الصديق بتلك الصحف عناية بالغة بالصحف فبقيت عنده حتى وفاته، ثم عند عمر حتى وفاته، ثم بقيت عند حفصة حتى طلبها عثمان رضي الله عنه في جمع الأمة على " الإمام".
"وكان الغرض من هذا الجمع تقييد القرآن كله مجموعًا في مصحف واحد حتى لا يضيع منه شيء، دون أن يحمل الناس عليه لعدم ظهور الخلاف في قراءته".
(2)
المبحث الخامس: مميزات جمع أبي بكر- رضي الله عنه
-
أما عن مميزات هذا الجمع فيُجملها الزرقاني (ت: 1367 هـ) رحمه الله في مناهله فيما يلي:
مزايا جمع القرآن في عهد أبي بكر
كان لِجمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه منزلة عظيمة بين المسلمين، فلم يَحصل خلاف على شيء مِمَّا فيه، وامتاز بِمزايا عديدة، منها:
أولًا: أنه جمع القرآن على أدقِّ وجوه البحث والتحري، وأسلم أصول التثبت العلمي ..
ثانيًا: حصول إجماع الأمة على قبوله، ورضى جميع المسلمين به.
ثالثًا: بلوغ ما جُمِع في هذا الجمع حدّ التواتر، إذ حضره وشهد عليه ما يزيد على عدد التواتر من الصحابة.
رابعًا: أنه اقتصر في جمع القرآن على ما ثبت قرآنيته من الأحرف السبعة، بثبوت عرضه في العرضة الأخيرة، فكان شاملاً لما بقي من الأحرف السبعة
(3)
، ولم يكن
(1)
المصاحف لابن أبي داود: (11/ 16).
(2)
أصولٌ في التفسير، لمحمد بن صالح بن عثيمين:(ص: 3).
(3)
وثبوت الأحرف السبعة في هذا الجمع محل خلاف عند أهل التحقيق، وهو كذلك في مصحف عثمان، ويحتاج لدراسة متأنية وتحقيق وتدقيق وطول تأمل وإمعان نظر فيما كان عليه رسم هذا المصحف، وهل رسم محتملا لتك الأحرف السبعة كالمصاحف العثمانية التي نسخت عن المصحف الإمام وبعث بها عثمان إلى الأمصار وبعث مع كل مصحفٍ قارئًا يقرئ بما يحمله من رسم على الأغلب، والبعض يرى إن استفاضة القول بأن مصحف أبي بكر رضي الله عنه اشتمل على الأحرف السبعة وتلقي العلماء له بالقبول لا تكفي للجزم والقطع ولكنها تكفي للظن الراجح، والظن الراجح كاف في هذه القضايا والمسائل-عند بعض أهل العلم-. والله أعلم. الباحث.
فيه شيء مِمَّا نُسِخَت تلاوته.
خامسًا: أنه كان مرتب الآيات دون السور.
ومن هنا يتأكد لدينا:
أن هذا الجمع كان مرتب الآيات في مواضعها في السور، ولم يُكتب منه إلا نسخة واحدة من القرآن، وقد حظى هذا الجمعُ على إجماع الصحابة ومن ثم على الأمة قاطبة، كما أجمعوا على تواتر ما فيه.
ولا يطعن في ذلك التواتر أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبي خزيمة؛ فإن المراد أنه لم يوجد مكتوبًا إلا عنده، وذلك لا ينافي أنه وجد محفوظًا عند كثرة من الصحابة بلغت حد التواتر، وكان المعتمد عليه وقتئذ هو الحفظ والاستظهار، وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر زيادة في الاحتياط، ومبالغة في الدقة والحذر.
(1)
وختامًا لهذا المبحث الهام يحسن التنبيه هنا والتأكيد على خلاصة ما يلي:
أولًا: إن المتأمل في جمع الصديق رضي الله عنه يعلم يقينًا أن الباعث الأول عليه هو تحرِّ القتل في القراء يوم اليمامة، وقد قُتِلَ منهم عدد كبير ينتهي إلى السبعين وقد أنهاه بعضهم إلى خمسمائة. وكان الهدف الأسمى منه جمع القرآن في مكان واحد خشية ذهابه بذهاب حفظته.
ثانيًا: أن عمل الصديق رضي الله عنه هو جمع القرآن النازل الثابت قراءته في مصحف واحدٍ بعد أن كان مفرقًا في الرقاع واللخاف والأقطاب والعسيب، وهو القرآن الذي جمعه وكتبه كتَّابُ الوحي ودوّنوه بين يدي رسول صلى الله عليه وسلم، فكان عمل أبي بكر رضي الله عنه هو جمع ما تفرق من القرآن في مصحف واحدٍ فحسب، ذلك لأن القرآن الذي جمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في مصحف واحد بل كان متفرقًا، فَجَمْعُ الصديق هو نفس الجمع النبوي، غير أن الجمع النبوي كان مفرقًا، وجمع الصديقِ صار جمعًا للقرآن بين دفتي مصحف واحد.
ثالثًا: أن الصديق رضي الله عنه التزم في جمعه ترتيب سور وآيات القرآن وفق ما استقرت عليه العرضة الأخيرة، وهذا الترتيب هو الموافق للقرآن المثبت في اللوح المحفوظ لأنه توقيفي على القول الراجح، ولذا يبقى جمع الصديق للأصل الذي كان عليه القرآن في الجمع النبوي الأول مرتب السور والآيات، وهذا الأمر لا يمكن الحيد عنه إلا بنص واضح الدلالة؛ لأن الصديق انحصرت مهمته في جمع القرآن الذي جمع في العهد الأول مفرقًا، يجمعه في مصحف واحد متأسيًا ومتبعًا فيه ما انتهى إليه أمر الجمع الأول الذي أتمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلا وقد اتضحت أماكن السور والآيات واستقرت في ترتيبها المصحفي وفق ما استقرت عليه العرضة الأخيرة، أما كونه قد اقتصر في جمعه على إثبات وتقيد وكتابة ما ثبتت تلاوته وقرآنيته في العرضة الأخيرة مما لم تنسخ تلاوته فحسب، وإهمال المنسوخ منها، فهذا القول وإن
(1)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 253). بتصرف.
كان هو أقرب الأقوال للصواب، غير أنه يحتاج لزيادة تحقيق واستيثاق واستقراء للأدلة وتثبُّت منها، وإن كانت النفس تميل إليه. مع وجوب التنبه إلى ما سيأتي في فقرة "رابعًا".
وقد نتج من جراء ذلك الجمع أن جمعت نسخة واحدة من القرآن بين اللوحين في مكان واحد وليس نُسَخًا متعددة لكل حرف نسخة، وبقيت في مصحف واحد عند خليفة المسلمين حياته.
رابعًا: أن جمع الصديق رضي الله عنه لم يتضمن نوع الزام للمسلمين وحملهم على هذا الجمع ولزومه، ولذا كان بعض من لم يشهد العرضة الأخيرة من الصحابة لا يعلم بنسخ بعض الآيات، فكان يقرأ ببعض ما نُسخ من القرآن مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون علمه بالنسخ المتأخر الذي استقرت عليه العرضة الأخيرة.
خامسًا: أن جمع الصديق رضي الله عنه يصعب الجزم والقطع بأنه اشتمل على الأحرف السبعة، ومما يدلل حتمًا على ذلك أن هناك كلمات لا يكفي فيها الكتابة وحدها، إذ لابد فيها من الجمع بين الكتابة وطريقة النطق الصحيحة بها، ولا مجال لذلك البتة إلا بالصوت، ولنأخذ على سبيل المثال كلمة "الصراط" والتي قد كتبت في جميع المصاحف بالصاد، وقد قرئت بـ "الزاي" إشمامًا، أي بإشمام الصاد زايًا، وقد قرأ بها خلف عن حمزة، فالمعتمد فيها على الصوت نطقًا لا على المرسوم خطًا، وقل كذلك أيضًا في الإمالة والتقليل والإدغام وما شابه ذلك مما لا يمكن ضبطه إلا بالنقل والضبط الصوتي، ولاشك أن هذه الأمور لم ينقل ولم يحفظ أن جمع الصديق قد حواها، ومن ادعى غير ذلك فليأت ببرهان ساطع ودليل قاطع.
وأقصى ما يُقال في ذلك أن جمع الصديق رضي الله عنه لم يهمل وجوه القراءة وفق الرسم، وذلك لأن جمعه لم يكن بواسطة المكتوب في السطور فحسب، بل كان معتمدًا كذلك على مطابقته لما هو محفوظ في الصدور، ذلك لأنَّ الأصل في قراءة القرآن نقله وتلقيه بالمشافهة، ولا يفهم من هذا أن جمعه كان محتملًا لوجه واحد من الرسم فيكون قد أهمل إعمال وجوه القراءة الأخرى التي يحتملها الرسم؛ فإن مثل هذا لا يُنقل إلا عن طريق التلقي والمشافهة لا عن طريق الرسم المكتوب، ذلك لأن أخذ القراءة بالتلقي والمشافهة قاض على الرسم، ولذا فإن الصحابة حين كتابة الصحف لم يعتبروا اختلاف الرسم بل اعتبروا القراءة أولًا وجعلها قاضية وحاكمة على الرسم وذلك باعتبار أنها الأصل والرسم تابع لها.
والقول بثبوت الأحرف السبعة في الصحف البكرية قول يفتقر لحُجّة واضحة قاطعة ودليل ثابت صحيح يُعتمد عليه، لأن مثل هذه الدعوى لا يمكن قبولها أبدًا إلا بنقل ثابت صحيح يصلح للاحتجاج، إذ يلزم من هذا القول أن تكون الصحف البكرية قد كتبت جمعًا بين الأحرف السبعة في الرسم في المصحف الواحد وهو أمر محال،
إذ يلزم بثبوتها في الصحف البكرية تكرار كتابة الكلمات التي فيها اختلاف في أوجه القراءة على غرار كتابة المصاحف العثمانية التي بعثها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار، ويترتب على ذلك الجزم بعدم احتواء جمع الصديق رضي الله عنه للأحرف السبعة، والباحث في حدود بحثه لا يعلم عن أحد من السلف قال خلاف هذا القول. والله أعلم.
(1)
قال ابن أبي داوود- رحمه الله (ت: 316 هـ) في "كتاب المصاحف":
" ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة رضي الله عنهم على صحته ودقته وأجمعوا على سلامته من الزيادة أو النقصان وتَلقَّوه بالقبول والعناية التي يستحقها
حتى قال عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه:
"أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين ".
(2)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
وإذا تأمَّل المنصف ما فعله أبو بكرٍ من ذلك جزم بأنه يعد في فضائله، ويُنوِّه بعظيم منقبته؛ لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: من سنَّ سنة حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بِها.
(3)
ثم قال: فما جمع القرآن أحدٌ بعده إلا وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة.
(4)
وجمع أبي بكرٍ هو الذي نسخ منه المصحف الإمام ولم يتغير منه شيء.
المبحث السادس: منهج أبي بكر الذي وضعه لـ " زيد بن ثابت " في جمع وتدوين القرآن الكريم
لقد نهج الصديق-رضي الله الله عنه- نهجًا محكمًا وطريقة متقنة بلغتا مبلغًا عظيمًا من الدقة والإحكام والإتقان في جمع القرآن الكريم، ثم أمر زيدًا- رضي الله الله عنه - بجمعه القُرْآن وفق الخطة والطريقة التي وضعها له والتي فيها من أخذ الحيطة ووضع الضمان والأمان لصيانة كتاب الله ولوزم الحذر والدقة والتأني والتثبُّت، فلم يكتفِ- رضي الله عنه بما حفظ في صدره ولا بما سطره بيده ولا بما سمع بأذنه، بل جعل يتتبع ويستقصي كل أسباب التحري والدقة والإتقان والحيطة، آخذًا على نفسه الاعتماد في على مصدرين رئيسين:
المصدر الأول: المكتوب في السطور، وهو ما كتب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. -
والمصدر الثاني: المحفوظ في الصدور، وهو ما كان محفوظًا في صدور الصحابة رضي الله عنهم.
فلا يقبل شيئًا من المكتوب حتى يشهد له شاهدان عدلان أنه كُتب بين يدَيْ رسول الله- صلى الله عليه وسلم وذلك لأخذ الحيطة والحذر والتأكد من إنه كُتِبَ فعلًا بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
روى ابن شبة عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب (ت: 104 هـ) قال:
أراد عمر- رضي الله عنه أن يجمع القرآن، فقام في الناس، فقال: من كان تلقَّى من رسول الله- صلى الله عليه وسلم شيئًا من القُرْآن فليأتِنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شاهدان.
(5)
المراد بالشاهدين:
قال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) رحمه الله: المراد بالشاهدين:
(1)
يُنظر: عرفة بن طنطاوي، الشفعة بين الجمع العثماني والأحرف السبعة:(ص: 678). بتصرف يسير.
(2)
- المصاحف: لابن أبي داود السجستاني: (ص: 11).
(3)
رواه مسلم عن جرير بن عبد الله: باب العلم، باب من سن سنة حسنة. صحيح مسلم مع شرح النووي (16/ 225 - 226).
(4)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/ 628).
- رواه مسلم عن جرير بن عبد الله: باب العلم، باب من سن سنة حسنة. صحيح مسلم مع شرح النووي (16/ 225 - 226).
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/ 628).
(5)
تاريخ المدينة لابن شبة صـ 705.
الحِفظ والكتابة.
ويبين السخاوي (ت: 902 هـ) رحمه الله المراد بالشاهدين فيقول:
المراد بهما رجُلان عدلان يشهدان على أن ذلك المكتوب كُتب بين يدَيْ رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ولم يعتمد زيدٌ على الحفظ وحده؛ ولذلك قال في الحديث الذي رواه البخاري: إنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبي خزيمة؛ أي: لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، مع أن زيدًا كان يحفظها، وكان الكثير من الصحابة يحفظونها، ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة، زيادةً في التوثُّق، ومبالغة في الاحتياط، وعلى هذا المنهج الرشيد تم بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة وإجماع الأمة عليه دون نكير، وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل لأبي بكر في الإشراف، ولعمر في الاقتراح، ولزيد في التنفيذ، وللصحابة في المعاونة والإقرار".
(1)
وما ختم به السخاوي - رحمه لله- كلامه آنفًا يُكتب بماء العين.
ونختم هذا المبحث باختصار كيفية تنفيذ زيد لمهمة جمع القرآن في الفقرات التالية:
أولًا: قام الفاروق بالإعلان للناس عن إحضار ما لديهم من القرآن مكتوبًا.
ثانيًا: جلس زيد والفاروق على باب المسجد يستقبلون ما يجيء به الصحابة من القرآن. وهو مروي بسند منقطع كما أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح.
فَيُرْوَى أن أبا بكر قال لزيد وعمر بن الخطاب:
اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.
(2)
ثالثًا: كان يطلب من كل من جاء بشيء من القرآن إحضار شاهدين على أنه كتب هذا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
رابعًا: قام زيد بكتابة القرآن من خلال مطابقة ما كتب من القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما يحفظه الصحابة في صدورهم من القرآن.
قال زيد:
فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره.
(4)
أي لم يجدها مكتوبة إلا عند أبي خزيمة، وإلا فزيد وغيره من الصحابة يحفظ هذه الآيات، لكنه يريد أن تكون الآيات محفوظة ومكتوبة، وذلك لزيادة التوثيق والاحتياط.
قال الحافظ ابن حجر:
وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف على عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
(5)
خامسًا: كان بداية مهمة جمع القرآن بعد معركة اليمامة في نهاية السنة 11 للهجرة، وانتهت قبل وفاة أبي بكر في منتصف سنة 13 للهجرة.
سادسًا: بعد كتابة القرآن وجمعه، سُلم لأبي بكر الصديق وبقي عنده حتى وفاته، ثم بقي عند عمر حتى استشهد على يد أبي لؤلؤة المجوسي، فبقي عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، ثم طلبها عثمان لينسخ منها نسخ للأمصار وأعادها لحفصة،
(1)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 253: 252). وعزاه للسخاوي.
(2)
المصاحف لابن أبي داود صـ 12، وجمال القراء للسخاوي 1/ 86، قال ابن حجر: ورجاله ثقات مع انقطاعه. الفتح 9/ 14.، وإسناده منقطع؛ لأنَّ عروة لم يلق أبا بكر.
(3)
- مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان:(ص: 132).
(4)
- صحيح البخاري (4986).
(5)
- الفتح 9/ 15.
فلما توفيت حفصة سنة 41 للهجرة، طلب أمير المدينة مروان بن الحكم هذا الصحف من عبد الله بن عمر وأتلفها، حتى تجتمع كلمة المسلمين على المصاحف التي نسخت عن مصحف الصديق ووزعت في البلاد بأمر عثمان رضي الله عنه.
وبهذا أصبح القرآن الكريم مكتوبًا ومرتبًا ومجموعًا في مكان واحد، وذلك وفق أعلى معايير الضبط والتوثيق، ومن خلال عمل جماعي وعلمي وشفاف، أجمع كافة الصحابة رضوان الله عليهم على دقته وصحته وسلامته من الزيادة أو النقصان، بفضل الله وتوفيقه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة واحدة فقط.
(1)
وختامًا فإنه قد تبين لنا تميز هذا الجمع بما يلي:
1 -
تميز هذا الجمع بمنتهى الدقة والإتقان
2 -
وإهماله لما نسخ من الآيات، واشتماله على ما ثبت في العرضة الأخيرة دون سواه
3 -
وظفر بإجماع الأمة عليه، وتواتر ما فيه
4 -
ولم يكن منه إلا نسخة واحدة حفظت عند إمام المسلمين أبي بكر رضي الله عنه باتفاق العلماء.
(2)
المبحث السابع: مصير صحف أبي بكر- رضي الله عنه
-
يبين السخاوي مصير صحف أبي بكر رضي الله عنه فيقول:
وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيد بن ثابت بما تستحق من عناية فائقة؛ فحفِظها أبو بكر عنده، ثم حفظها عمرُ بعده، ثم حفظتها أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر، حتى طلبها منها خليفة المسلمين عثمان بن عفان- رضي الله عنهم أجمعين-، حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القُرْآن، ثم ردها.
(3)
ويؤكد أبو شامة المقدسي (ت: 665 هـ) رحمه الله مصير تلك الصحف فيقول:
بعد أن أتمَّ زيد- رضي الله عنه في المصحف سَلَّمَه لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه فحفظه عنده حتى وفاته ثم انتقل إلى أمير المؤمنين من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعد وفاته انتقل المصحف إلى حفصة أم المؤمنين- رضي الله عنها لأن عمر- رضي الله عنه جعل أمرَ الخلافة من بعده شورى، فبقي عند حفصة إلى أن طلبه منها عثمان- رضي الله عنه لنسخه بعد ذلك ثم أعاده إليها، ولما توفِّيت حفصة رضي الله عنها أرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليُرْسِلَنَّ بها فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان- رضي الله عنه.
(4)
وقد روى هذا الخبر عمر بن شبة في "تاريخ المدينة" من طريق حفص بن عمر الدوري فقال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما ماتت حفصة أرسل مروان إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعزيمة، فأعطاه إياها، فغسلها غسلًا.
(5)
وهكذا جُمِعَ القرآنُ في عهد أبي
(1)
قصة جمع القرآن الكريم، أسامة شحادة، موقع سلف، بتاريخ: 30/ 12/ 1439 هـ. بتصرف في الترتيب بـ"الترقيم".
(2)
- البرهان للزركشي 1/ 297، ودراسات في علوم القرن لفهد الرومي صـ 82. بتصرف وترتيب يسير.
(3)
- نفس المرجع السابق.
(4)
-المرشد الوجيز: أبو شامة المقدسي، ص 52.
(5)
- جمع القرآن: (78 - 79).
بكر- رضي الله عنه-الجمع الثاني- على قطع متناسقة متساوية في الحجوم، مرتب الآيات والسور، بطريقة توثيقية لم يعرف التاريخ البشري لها مثيلاً من حيث الضبط والإتقان، يقول علي بن أبي طالب- رضي الله عنه: أعظم الناس أجرًا في المصحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله.
(1)
الفصل الرابع
تاريخ وزمن هذا الجمع وأبرز نتائجه
وفيه مبحثان
المبحث الأول: أبرز نتائج جمع أبي بكر- رضي الله عنه
لاشك أن الدافع لهذا الجمع هو خوف ذهاب حملته إبَّان مقتل سبعين من القراء يوم اليمامة، وكان بداية جمعه بعد تلك المعركة أي في قرابة نهاية السنة الحادية عشرة من الهجرة تقريبًا، وانتهت مهمة الجمع قبل وفاة أبي بكر-رضي الله عنه في منتصف السنة الثالثة عشرة من الهجرة.
فإن فترة خلافته-رضي لله عنه- كانت من: الثاني عشر من ربيع الأول سنة 11 هـ إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 13 هـ.
وقيل إن فترة الجمع قد استغرقت خمسة عشر شهرًا، وقيل غير ذلك أيضًا.
والحقيقية أن هذا الكلام تقريبي ولا يمكن الجزم به لعدم الوقوف على شيء ثابت موثق يثبت ويؤكد تلك المدة بالتحديد تمامًا. والله أعلم.
وفي ختام الكلام عن هذا الجمع نبحث مسألتين هامتين:
أولًا: لقد تم هذا الجمع بإجماع من الصحابة الكرام-رضي الله عنهم أجمعين-.
ثانيًا: حصل بجمعه نوع اطمئنان من الخوف من ضياعه أو تفلت من توثيقه بكماله وتمامه أي شيء.
ثالثًا: تم هذا الجمع على أوثق طرق الجمع والحيطة لكتاب الله تعالى، فقد جمع بطريقي الحفظ- صدرًا وسطرًا- ثم دون كل ما جُمِعَ في مكان واحد بناء على ذلك، ولم يقبل تدوين أي شيء فيه إلاّ ما أجمع الصحابة-رضي الله عنهم-على أنه قرآن وتواترت روايته كذلك.
رابعًا: أصبح هذا الجمع هو النسخة الوحيدة الموثوقة والمقيدة والتي أجمع الصحابة كلهم- رضي الله عنهم أجمعين- على صحتها وسلامة كل ما فيها من الزيادة والنقصان.
خامسًا: بإجماع الصحابة- رضي الله عنهم واتفاقهم على هذا الجمع زالت كل شبهة ولاسيما شبه التبديع والإحداث في الدين.
وختامًا: فإنه قد تبين معنا في ثنايا البحث:
"أن جمع أبي بكر الصديق للقرآن كان بسبب خشيته أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم".
(2)
وبهذا يتبين الفرق بين الجمع في عهديه: الأول، والثاني.
(1)
يُنظر: مباحث في علوم القرآن لمناع القطان، ص 132.
(2)
-المصاحف لابن أبي داود ص 11: ص 16.
المبحث الثاني: أوّل من سمى القرآن بالمصحف
قال الزركشي- رحمه الله في البرهان: " ذكر المظفري (ت: 642 هـ) في تاريخه:
لَمَّا جَمعَ أبو بكر القرآنَ قال: سَمُّوهُ. فقال بعضُهم: سَمُّوهُ إِنْجيلًا. فَكرهوه. وقال بعضُهم: سَمُّوهُ السِّفْرَ. فكرهوه مِنْ يهود. فقال ابنُ مَسعودٍ: رأيتُ للحَبَشَةِ كِتَابًا يدعونهُ المُصْحَفَ، فسمُّوهُ بهِ ".
(1)
والحقيقة أن رواية مثل هذه لا يُعتمد عليها لأن ليس لها أي سند يُعتمد عليه، وقد رويت مرسلة بغير عزو ولا إسناد، وهي مغايرة لما ثبت من حديث أنس- رضي الله عنه عند البخاري وقد ذكر فيه الصحف في قوله:
فأرسل عثمان إلى حفصة: أنْ أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف
…
إلى أن قال:
ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
(2)
.
وهناك آثار أخر كالتي ذكرها المظفري- كذلك- لكنها لا ترتقي لدرجة الثبوت واليقين.
"المصحف" كلمة عربية:
وكلمة صَحيفة اسم: والجمع صَحيفات وصَحائفُ صِحَاف وصُحُف، الجمع: صَحِيفٌ، والصَّحِيفَةُ: ما يكتب فيه من وَرَقٍ ونحوه ويطلق على المكتوب فيها والجمع: صُحُفٌ.
(3)
فالكلمة إذًا عربية بحتة، وعلى فرض ثبوت ما نُسِب من استعمال الحبشة لها - كذلك، فلعلها من مشترك الألفاظ بين اللغتين.
ضبط كلمة "مصحف" وبيان معناها في اللغة:
والأصل المشهور في ضبط كلمة: "مُصْحَفُ" بضم الميم، ويجوز "مِصْحَفُ" بكسرها، وهي لغة تميم.
والمصحف: اسمٌ لكلِّ مجموعة من الصُّحُف المكتوبة ضُمَّت بين دفَّتين، وجاء في (اللِّسان) عن الأزهري- رحمه الله:"وإنَّما سُمِّي المصحفُ مصحفًا؛ لأنه أُصْحِفَ، أي جُعل جامعًا للصُّحُفِ المكتوبة بين الدَّفتَّين".
(4)
ومقتضى كلام الفيروز آبادي- رحمه الله:
أنَّ المُصحف (بالضم): اسم مفعول من أصْحَفَه إذا جمعه. والمَصحف (بالفتح): موضع الصُّحُف، أي: مجمع الصَّحائف. والمِصحف (بالكسر): آلة تَجْمع الصُّحف.
(5)
وقال الشهاب الخفاجي: (1069 هـ):
"المصحف بضم الميم وكسرها ونقل فيه التثليث وهو مجمع الصحف من أصحف إذا جمع وهو مخصوص بالقرآن".
(6)
قال الفراء (ت: 207 هـ):
"وقد استثقلت العرب الضمة في حروف فكسرت ميمها وأصلها الضم من ذلك مصحف ومخدع ومطرف ومغزل ومجسد؛ لأنها في المعنى مأخوذة من أصحف جمعت فيه الصحف
…
".
(7)
قال أبو إسحاق الوهراني المعروف بابن قُرْقُول: (ت: 569 هـ):
"والمصحف مأخوذ من الصحيفة".
(8)
وقال المطرزي (ت: 610 هـ):
"والمصحف الكراسة وحقيقتها مجمع
(1)
- البرهان: (1/ 377).
(2)
رواه البخاري، حديث:(4987).
(3)
- يُنظر: تعريف و معنى صحيفة في معجم المعاني الجامع
(4)
-يُنظر: لسان العرب (7/ 290 - 291)، مادة:(صحف).
(5)
يُنظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (1/ 86).
(6)
- يُنظر: نسيم الرياض في شرح شفا القاضي عياض ص 554:
(7)
- يُنظر: إصلاح المنطق ص 120، وأدب الكاتب ص 555، وتهذيب اللغة 4/ 254:
(8)
- يُنظر: مطالع الأنوار 4/ 264:
الصحف".
(1)
وقال السمين الحلبي (ت: 756 هـ):
"والمصحف هو الجامع للصحف المكتوبة
…
وغلب على ما كتب من القرآن".
(2)
المصحف اصطلاحًا:
وأما المصحف في اصطلاح العلماء رحمهم الله فهو اسمٌ للمكتوب فيه كلام الله تعالى بين الدَّفتَّين.
(3)
ويصدق المصحف على ما كان حاويًا للقرآن كلِّه، أو كان ممَّا يُسمَّى مصحفًا عُرفًا ولو قليلًا كحزب، على ما صرَّح به القليوبي- رحمه الله، أو أقلَّ من ذلك كورقة فيها بعض سورة، أو لوحًا، أو كتفًا مكتوبة.
(4)
"وقيل للقرآن مصحف؛ لأنَّه جُمِعَ من الصَّحائِف المتفرِّقة في أيدي الصَّحابة، وقيل: لأنَّه جَمَعَ وحَوَى - بطريق الإجمال - جميعَ ما كان في كتب الأنبياء، وصُحُفِهم، (لا) بطريق التَّفصيل".
(5)
.
و" المصحف "اسمٌ للمكتوبِ من القرآن الكريم، المجموع بين الدَّفَّتين، و"القرآن" اسمٌ لكلامِ الله تعالى المكتوبِ في المصاحف
(6)
.
وفي نحو ما سبق يقول القسطلاني (ت: 923 هـ) رحمه الله:
" والفرق بين الصحف والمصحف: أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر، وكانت سورًا مفرقة، كل سورة مرتبة بآياتها على حدة، لكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت، ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفًا ".
(7)
ونختم هذ المبحث الهام ببعض نظم أبي عمرو الداني (ت: 444 هـ) رحمه الله في "الأرجوزة المنبهة":
القَوْلُ فِي المَصَاحِفِ وَجَمْعِ القُرْآنِ فِيهَا
وَاصْغَ إلى قَوْلِيَ فِي المَصَاحِفِ
…
وَمَا أَنُصُهُ عَنْ الأسَالِفِ
مِنْ شَأنِهَا فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ
…
وَالمُرْتَضَى عُثْمَانَ ذِي التَوْفِيقِ
لَمَّا تُوُّفِيَّ رَسُولُ اللَّهِ
…
صَلَى عَلَيهِ دَائِمَاً إلَهِي
وَوَلِيَ الصِّدِّيقُ أمْرَ الأُمَّهِ
…
مِنْ بَعْدِ مَا جَرَتْ أُمُورٌ جَمَّه
ارْتَدَّتْ العْرَبُ فِي البُلْدَانِ
…
وَأعْلَنَتْ بِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ
وَمَنَعَتْ فَرِيضَةَ الزَّكَاةِ
…
وَفَرْضُهَا قُرِنَ بِالصَّلاةِ
رَأى خَلِيفَةُ النَّبِيِّ المُصْطَفَى
…
جِهَادَهُم فَرِيضَةً وَشَرَفَا
فَجَيَّشَ الجُيُوشَ وَالعَسَاكِرَا
…
نَحْوَهُمُ وَوَجَّهَ الأَكَابِرَا
مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ
…
مُرْتَجِيًا لِنُصْرَةِ القَهَّارِ
فَحَقَقَ الإلَهُ مَا رَجَاهُ
…
وَرَضِيَ الرَأيَ الَّذِي رَآهُ
وَأُيِّدَ الجَيْشُ الَّذِي أعَدَّه
…
فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا المُرْتَدَّه
وَلَجَأَ البَعْضُ إلى الحُصُونِ
…
وَصَالَحُوا عَلَى التِزَامِ الدِّينِ
وَذَاكَ بَعْدَ مِحْنَةٍ وَشِدَّه
…
جَرَتْ عَلَى الصَّحْبِ مِنَ اهْلِ الرِدَّه
وَاسْتُشْهِدَ القَرَأَةُ الأَكَابِرُ
…
يَوْمَئذٍ هُنَاكَ وَالمَشَاهِرُ
(1)
- يُنظر: المغرب في ترتيب المعرب 1/ 467
(2)
يُنظر: عمدة الحفاظ 2/ 371
(3)
- يُنظر: الموسوعة الفقهية، لمجموعة من الباحثين (38/ 5).
(4)
- يُنظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 125)؛ حاشية القليوبي على منهاج الطالبين (1/ 35).، ويُنظر: الفرق بين القرآن والمصحف-د. محمود بن أحمد الدوسري، مقال عن موقع الألوكة بتاريخ: 11/ 7/ 1439 هـ.
(5)
يُنظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (1/ 87).
(6)
يُنظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني (3/ 8 - 9).
(7)
-لطائف الإشارات: (1/ 106).
وَوَصَلَ الأمْرُ إلى الصِّدِّيقِ
…
فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى التَوْفِيقِ
وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ الفَارُوقُ
…
مَقَالَةً أيَّدَهَا التَوْفِيقُ
إنِّي أرَى القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّا
…
بِحَامِلِي القُرْآنِ وَاسْتَمَرَّا
وَرُبَّمَا قَدْ دَارَ مِثْلُ ذَاكَا
…
عَلَيهِمو فَعُدِمُوا بِذَاكَا
فَاسْتَدْرِكْ الأمْرَ وَمَا قَدْ كَانَا
…
وَاعْمَل عَلَى أنْ تَجْمَعَ القُرْآنَا
وَرَاجَعَ الصِّدِّيقَ غَيْرَ مَرَّه
…
فَشَرَحَ اللَّهُ لِذَاكَ صَدْرَه
فَقَالَ لابْنِ ثَابِتٍ إذْ ذَاكَا
…
إنِّي لِهَذَا الأمْرِ قَدْ أرَاكَا
قَدْ كُنْتَ بِالغَدَاةِ والعَشِيِّ
…
تَكْتُبُ وَحْيَ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ
فَأنْتَ عِنْدَنَا مِنَ السُّبَّاقٍ
…
فَاجْمَعْ كِتَابَ اللهِ فِي الأَوْرَاقِ
فَفَعَلَ الَّذِي بِهِ قَدْ أَمَرَه
…
مُعْتَمِدًا عَلَى الَّذِي قَدْ ذَكَرَه
وَجَمَعَ القُرْآنَ فِي الصَّحَائِفِ
…
وَلَمْ يُمَيْزْ أَحْرُفَ التَخَالُفِ
(1)
بَلْ رَسَمَ السَّبْعَ مِنَ اللُّغَاتِ
…
وَكُلَّ مَا صَحَّ مِنَ القِرَاتِ
فَكَانَتْ الصُّحُفُ فِي حَيَاتِه
…
عِنْدَ أبِي بَكْرٍ إلى مَمَاتِه
ثُمَّةَ عِنْدَ عُمَرَ الفَارُوقِ
…
حِينَ انْقَضَتْ خِلافَةُ الصِّدِّيقِ
ثُمَّةَ صَارَتْ بَعْدُ عِنْدَ حَفْصَه
…
لَمَّا تُوُّفِيَّ كَمَا فِي القِصَّه.
(2)
وبانتهاء المبحث الثاني ينتهي الفصل الرابع والأخير. و الحمد لله العلي الكبير.
خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة.
الحمد لله الذي أنعم عليّ عبده الفقير إليه سبحانه في كل أحواله، الظاهر ضعفه وذله واستكانته بين يديه جل في علاه في كل أطواره وفي حله وترحاله.
وبعد:
فقد توصلت تلك الدراسة المختصرة والمتواضعة إلى عدة حقائق ونتائج، ولعل من أبينها وأبرزها وأهمها ما يلي:
1 -
بيان عظم قدر الكتاب الخاتم المنزل من عند الله، ومدى تحقق حفظ الله له، وذلك بتقدير الأسباب والسنن الكونية التي قدرها سبحانه ويسر سبلها لحفظه، والتي في طليعتها الجمع في عهد الصديق رضي الله عنه.
2 -
تحقق الخيِّرية لصدر هذه الأمة -الصحابة الكرام الأطهار الأبرار رضي الله عنهم أجمعين-، علمًا، وعملًا، ديانة وأمانة، همة وعلو قدر، سبقًا في كل خير ومسارعة في كل فضل، وقد تمثل ذلك في قيامهم بحفظ كتاب ربهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم خير قيام-جمعًا له- حفظًا له في الصدور، - وكتابته وتدوينه- حفظًا له في السطور.
3 -
إن حفظ القرآن بطريقي " الحفظ في الصدور- والكتابة في السطور" يدلل ويشير إلى أبرز اسمين علمين على القرآن ألا وهما:
(1)
- واشتمال جمع أبي بكر رضي الله عنه على الأحرف السبعة أمر يصعب الجزم، به إذ ليس عليه دليل قطعي الثبوت عند أهل التحقيق، وقد سبق التنويه إليه في غير ما موضع في طيَّات البحث. الباحث.
(2)
-الأرجوزة المنبهة لأبي عمر الداني- (مرجع سابق)، الأبيات من رقم:(178 - 155)، (ص: 105 - 110).
"القرآن والكتاب"، فـ"اسم القرآن" يشير إلى حفظه في الصدور لأنه مقروء، و"اسم الكتاب" يشير إلى حفظه في السطور، لأنه مكتوب.
4 -
ولقد تم هذا الجمع على أعلى درجة من الاحتياط لكتاب الله تعالى تحقيقًا، وتدقيقًا، وتوثيقًا وتحريًا لما جمعوه، واختيارًا لمن قاموا بجمعه على أحسن وأجود وأدق أساليب الاختيار- أداءًا للأمانة وإبراءً للذمة، ووفاء بالعهد لتحمل أمانة حفظ وصيانة القرآن من الضياع بعد نبيهم الخاتم - رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم.
5 -
وعلى هذا المنهج الرشيد تم- جمع القرآن- بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة وإجماع الأمة عليه دون نكير، وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل، لأبي بكر في الإشراف، ولعمر في الاقتراح، ولزيد في التنفيذ، وللصحابة في المعاونة والإقرار".
(1)
6 -
أن هذا الجمع لا يُعد من الابتداع في الدين، لأن القرآن قد جمع في عهد النبوة لكنه كان مفرقًا، وهذا الجمع لم يأت بجديد، غير أنه جمع القرآن بين دفتين بعد أن كان مفرقًا فحسب.
7 -
التحقق من أن ترتيب الآيات في السور توقيفي
8 -
توصلت الدراسة إلى أن القول في ترتيب السور توقيفي لا اجتهادي.
9 -
أن معارضة الترتيب المصحفي بالترتيب النزولي مخالف لإجماع الأمة-سلفًا، وخلفًا.
10 -
باكتمال هذا الجمع، وعلى هذه الدقة تم الاطمئنان على حفظ كتاب الله تعالى، والتأكد والتثبت من أن الذي بين دفتيه هو كلام الله ووحيه المنزل المتحقق قرآنيته، المنقول بالتواتر، وأنه ليس فيه أي آية من القرآن المنسوخ، وهو القرآن الذي استقرت عليه العرضة الأخيرة، وهو القرآن الموافق لما هو مثبتٌ في اللوح المحفوظ عند رب العزة جل في علاه، وأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، ولا تحريف فيه ولا تغيير ولا تبديل، لأنه:(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)(فصلت: من آية: 42)، وذلك لأنه:(تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(فصلت: من آية: 42)، وهو متضمن لتحقيق وعد الله الذي لا يتخلف ولا يتبدل الذي قال فيه سبحانه وتعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(الحجر: 9).
وهناك نتائج كثيرة متحققة في ثنايا البحث، وهي جلية غير خفية، ولم يذكرها الباحث هنا لوضوحها وجلائها.
(1)
- مناهل العرفان للزرقاني: (1/ 253: 252)، وعزاه عن للسخاوي.
أ- فهرس
المراجع
1 -
الإتقان في علوم القرآن المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة: 1394 هـ/ 1974 م، عدد الأجزاء: 4
2 -
الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات وعقد الديانات بالتجويد والدلالات، عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو الأندلسي (المتوفى: 444 هـ)، تحقيق: محمد بن مجقان الجزائري، الطبعة الأولى عن دار المغني- الرياض- 1420 هـ - 1999 م، عدد المجلدات: 1
3 -
البرهان في علوم القرآن المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794 هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1376 هـ - 1957 م، الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه (ثم صوَّرته دار المعرفة، بيروت، لبنان - وبنفس ترقيم الصفحات) عدد الأجزاء: 4
4 -
البداية والنهاية المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ)، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1407 هـ - 1986 م عدد الأجزاء: 15
5 -
تفسير الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ)، المحقق: أحمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 24
6 -
تفسير ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ)، المحقق: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار
الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت الطبعة: الأولى - 1419 هـ
7 -
عرفة بن طنطاوي، التفاسير التي رُتِبَت على ترتيب النزول والرد عليها. عرض، ودراسة، ومناقشة (د. ط). عدد الأجزاء: 1
8 -
عرفة بن طنطاوي، الشفعة بين الجمع العثماني والأحرف السبعة (د. ط) عدد الأجزاء: 2
9 -
زاد المسير في علم التفسير المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ)، المحقق: عبد الرزاق المهدي، الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ
10 -
شرح السنة المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 516 هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط-محمد زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت الطبعة: الثانية، 1403 هـ - 1983 م عدد الأجزاء: 15
11 -
فتح الباري شرح صحيح البخاري المؤلف: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379 رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز عدد الأجزاء: 13
12 -
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، المؤلف: أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن مهنا، شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي (المتوفى: 1126 هـ)، الناشر: دار الفكر، الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1415 هـ - 1995 م عدد الأجزاء: 2
13 -
كتاب المصاحف، المؤلف: أبو بكر بن أبي داود، عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني (المتوفى: 316 هـ)، المحقق: محمد بن عبده الناشر: الفاروق الحديثة - مصر/ القاهرة الطبعة: الأولى، 1423 هـ - 2002 م عدد الأجزاء: 1
14 -
المقنع في رسم مصاحف الأمصار المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني (المتوفى: 444 هـ)، المحقق: محمد الصادق قمحاوي الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة عدد الأجزاء: 1
15 -
الموسوعة الفقهية الكويتية صادر عن: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت عدد الأجزاء: 45 جزءًا، الطبعة:(من 1404 - 1427 هـ) .. الأجزاء 1 - 23: الطبعة الثانية، دار السلاسل - الكويت .. الأجزاء 24 - 38: الطبعة الأولى، مطابع دار الصفوة - مصر .. الأجزاء 39 - 45: الطبعة الثانية، طبع الوزارة.
16 -
مباحث في علوم القرآن، المؤلف: مناع بن خليل القطان (المتوفى: 1420 هـ)، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة: الطبعة الثالثة 1421 هـ- 2000 م عدد الأجزاء: 1
17 -
مجموع الفتاوى المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ)، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية عام النشر: 1416 هـ/ 1995 م
18 -
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المؤلف: علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى: 1014 هـ)، الناشر: دار الفكر، بيروت.
19 -
المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665 هـ)، المحقق: طيار آلتي قولاج، الناشر: دار صادر - بيروت سنة النشر: 1395 هـ - 1975 م عدد الأجزاء: 1
20 -
مناهل العرفان في علوم القرآن، المؤلف: محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (المتوفى: 1367 هـ)، الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة: الثالثة، عدد الأجزاء: 2
21 -
مجلة الأزهر، رئيس التحرير: محمد فريد وجدي بكّ، تحت إدارة ديوان الإدارة للأزهر، والمعاهد الدينية، بالقاهرة، عدد شهر رمضان سنة (1370 هـ/ 1950 م، مجلد 22). مطبعة الأزهر.