المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- أ -   بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌مقدمة المحدث شعيب الأرنؤوط: الحمدُ للهِ - الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة - ط الرسالة - المقدمة

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- أ -

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة المحدث شعيب الأرنؤوط:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعين، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وبعد.

فقد كنتُ إبَّانَ طلبِ العلمِ في الخامس والأربعين مِن القرن العشرين وما بعدها أعاني كثيرًا مِن التنقيب والبحث في حديثٍ من الأحاديثِ النبوية للتأكدِ مِن صِحته، إذ كانتِ المكتباتُ مقفِرَةً مِن كتب السُّنة، وكان التقليدُ الذي هو ظاهِرَةُ تِلْكَ الفترةِ يحولُ بَيْنَ الطالبِ وبَيْنَ القراءَةِ في كتب الحديث، والإفادةِ منها والتفقه بها، لأن الأساتذة الذين كانوا يَتَصدَّرُونَ للتدريس كانُوا يعتمدُون في ذاك العصر على الكتب الفقهيةِ المتأخرَةِ، العريَّة عن الدليلِ، أو فيها الأدلة، ولكن لا يَعْرفُ المتفقه الصحيحَ منها والضعيفَ والموضوعَ، وقد نقلوا ذلك عن شيوخهم، وكانوا شديدي التمسكِ بما فيها مِن آراء بحكم التقليد الذي نَشؤوا عليه، وتمكَّنَ مِنْ عقولِهِمْ، وقد انتقلَ هذا إليَّ، فلم يَكُنْ إذْ ذاكَ في مكتبتي إلا كتبُ الفِقه والعَربية، وما يمُتُّ إليهما بِسَبَبٍ، وكانت تخلو تمامًا مِن كُتُب الحديث حتى رياض الصَّالحين، وهو الكتابُ المتداول بَيْنَ الناسِ اليوم، ولا يكاد يخلو منهُ بيت، وكان هذا شأنَ طلبةِ العلم في جميعِ بلاد الشام إلا ما نَدَرَ.

وكان الأساتِذة يُحَذِّرونَ النبَغة والنابهين مِن تلامذتهم أن يَنْظُروا في كُتُبِ الخلاف التي تُسَمَّى اليومَ بالفقه المقارَن، وكانوا يُؤَصِّلُون في ذِهن الطالب فكرةَ التقليد إلى الأبدِ مهما كان هذا الطالب مستكملًا لأدواتِ النظر والبحث، بحيثُ يبقى عقلُه مُقْفَلًا يُشَاهِدُ الخطأَ، فلا يجرؤُ على بيانه، أو التنبيهِ إليه، أو مخالفته، مع أن الأئمة المتبوعين الذين هم على

ص: 1

- ب -

هدىً من ربهم قد عدُّوا التقليد حلة انتقالية ينبغي أن يعيشَ فيها طالبُ العلمِ المتخصصُ الذي انتدب نفسه للتفقهِ في دينِ الله وخِدمة شريعته، ثم ينتقلَ منها إلى مرحلة الاتِّباعِ التي يكونُ فيها قد بلغ مرتبةً تؤهّله، بل توجِبُ عليه أن ينظرَ في أدِلَّةِ المسائل الخلافية، ويُوازنَ بينها، ويختارَ منها ما هو الصوابُ، ولا يجوزُ له أن يفتيَ في مسائلِ الخلاف إلا بما انتهى إليه أنه الصوابُ.

أما العامَّة فإنَّهم يقلِّدُونَ، لأنهم لا يتمتعون بما يُؤهِّلُهم للاجتهادِ، ولكن ينبغي عليهم أن يتخيَّروا التقيّ العالِم الذي يُوثق بعلمه وكفايته، فيسألونَه، ويَصْدُرُونَ عن رأيه، ويعملون بمقتضى ما يُفتيهم به.

هذا، ولم يكن أحدٌ من أهل العلم في تلكَ الفترةِ يُعْرَفُ بعلمِ الحديث روايةً ودِرَايةً لِيُرْجَعَ إليه، ويُؤخَذَ عنه، ويُستَفَادَ منه، وكنا نَجِدُ أحيانًا بعض الأحاديث في الكتب التي نقرؤُها، ولم نكن ندري أصحيحة هي أَمْ ضعيفة، وكنا نأخذها بطريقِ التسليم، وكان يتردَّدُ على ألسنة الخطباء والوُعّاظ أحاديثُ كثيرة يَغْلِبُ عليها الضعفُ والوضعُ، وكان مصدرُها - فيما تبيّن لنا بعدُ - الكتبَ التي لا تتحرّى الصحةَ، والتي يكثر فيها الضَّعيفُ والموضوعُ.

وأذْكُرُ على سبيلِ المثالِ هُنا ما وقع لي مِن ذلك، فقد حضرتُ خطبةَ الجمعةِ في أحدِ مساجدِ دمشق آنذاك، وكان الخطيبُ قد أَسْهَبَ في خطبته عن الجوعِ، وأن الإسلام يدعو إليه، ويُرغبُ فيه، ويحُثُّ عليه وأورد من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي نقلها من كتب الوعظ، وكان مِن جملة ما أورده في خطبته الحديثَ الصحيح الذي أخرجه البخاري، واختصره وزاد فيه، فأفسد معناه، فقال:"إن الشيطانَ يجري مِن ابن آدم مجرى الدَّمِ"(فضيّقوا مجاريه بالجوع) فلما انتهى من الصلاة دنوتُ منه

ص: 2

- جـ -

وسلّمتُ عليه، وكلَّمتُه برفقٍ بأنَّ الإسلامَ لا يدعو إلى الجوع، ولا يُرَغِّبُ فيه، بل إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد استعاذ منه، وأوردتُ له الحديثَ الذي رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان (1029) من حديث أبي هريرة بسند قويٍ، قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "اللَّهُمَّ إني أعوذُ بك مِن الجوع، فإنَّه بئسَ الضجيعُ"، وذكرتُ له أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يستعيذُ بالله مِن الكُفْرِ والفَقْرِ، وعذابِ القبر، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد (20381)، وصححه ابن حبان (1028)، وقلتُ له: إن الأحاديثَ التي أَوْرَدْتَها في خُطبتك لا تَصِحُّ، وبعضُها موضوعٌ، والحديثُ الصحيحُ الذي أوردتَه منها أَفْسَدْتَه بإضافة زيادة ليست منه، وأخرجتَه عن المعنى الذي وَرَدَ من أجله، فالحديثُ أخرجه البخاري (2035) و (2037)، ومسلم (2174) و (2175) دُون قوله:"فضيَّقوا مجاريه بالجوع"، وأوردتُ له الحديثَ بتمامه وهو أن صَفِيَّةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلًا تزورُهُ في مُعْتَكفِهِ، فلما قامَتْ تَنْصَرِفُ، قام مَعَها يَقْلِبُها (أي: يَرْجِعُها ذاهبًا معها) فمرَّ عليه رجلانِ مِنَ الأنصارِ، فَسَلَّما على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"على رِسْلِكُمَا، إنما هي صَفِيَّةُ بنتُ حُيَيّ"، فقالا: سُبْحانَ اللهِ يا رسولَ الله، قال:"إنَّ الشيطانَ يَجْرِي مِن الإِنْسانِ مَجْرى الدَّمِ، وإني خشيتُ أن يُلقيَ في أَنْفُسِكُما شيئًا"، فقال لي: أنا نقلتُه مِن كتاب "إحياءِ علوم الدين" للغزالي هكذا، فقلتُ له: لا عُذْرَ لك في ذلك، فإنَّ أهلَ العلم يجزِمون أن الإمامَ الغزالي بضَاعَتُهُ في الحَدِيثِ مُزْجاةٌ كما صَرَّح هو بذلك، والحافِظُ العراقي الذي تولى تخريجَ أحاديثِ الإحياء قد قال: متفق عليه دون قوله: "فضيَّقوا مجاريه بالجوع"، فكان جوابه: هَل الحافظُ العراقي أعلمُ مِن الغزالي؟! ثم ازورَّ عني، ومضى لسبيله.

وبقيت هذه الظاهرة زمنًا ليس بالقصير، وفي أثناءِ دِراستي على الشيوخ كنتُ دائمًا أفكّر في المسائل الخلافية القائمةِ بَيْنَ الحنفية والشافعية فأدرسها

ص: 3

- د -

وأتتبعها من مَظانّها، وأحاول ما استطعت أن أظفرَ بالدليل الأقوى لأنتهي إليه وآخذ به، وأشجع مَن حَوْلِي مِن الطلبة أن يفعلوا مِثلي.

وقد كان يدفعني ذلك إلى البحثِ عن كُتُبِ الحديثِ للاطلاعِ عليها، والاحتجاج بما صح من الحديث فيها والتفقه فيها، وبدأ هذا التوجه يزدادُ يومًا بَعْدَ يومٍ حَتَّى أصبحتُ أُعرَفُ بَيْنَ الطلبة بذلك، وكانوا لِعَراقتهم في التقليد يتقدمون بالشكوى إلى أُستاذي ويقولون له: إنه يُخالِفُ المَذْهَبَ في عدَّةِ مسائل، وكان اللومُ والعتْب مِن أستاذي يُوجَّهُ إليَّ بأسلوبٍ قاسٍ وتهكُّمٍ بالغٍ، وتحذيرٍ شديد، وإخواني الطلبة، كانوا يتَّهِمُونني بالتَّهورِ، والخروج عن جادة الصواب، وكم عانَيتُ من ذلك، ولحقني من الأذى ما اللهُ بهِ عليم، ولكنني - وللهِ الحمد - لم أُبالِ بِكُلِّ ذلك، ليقيني بأنَّ المنهجَ الذي انتهيتُ إليه هو المنهجُ الذي كان عليه السَّلفُ الصالحُ مِنْ هذه الأُمَّةِ - ومنهم الأئمةُ الأربعةُ - المشهودِ لها بالخيريَّة على لِسانِ خيرِ البرية.

وقد كنتُ في هذهِ الفترة لا أستطيع أن أتبيّن صحيحَ الحديثِ مِن ضعيفه بنفسي، وإنما كُنْتُ أرْجِعُ إلى الحفاظِ الأثباتِ مِن أهلِ العِلْمِ المتخصّصين في الحديث، فأنقلُ عنهم، وأعْتَمِدُ عليهم، بالرغم مِنْ أنني درستُ كُتُبَ المصطلح على الشيوخ، ووعَيتُ ما فيها، إلا أنني لم أتأهَّلْ بعدُ إلى الاستفادةِ منه، ولكن الله سبحانه إذا أراد شيئًا هيأ أسبابَه، فقد أتاح لي أن أنْتَقِلَ مِن هذا العلم النظري إلى العلم التطبيقي، وبدأت أُمارِسُ ذلك، وكان مِن فضل الله وتوفيقه أنني قُمْتُ بخدمةِ كُتُبِ السُّنة النبوية تحقيقًا وضبطًا، وتخريجًا وشرحًا، وأبَنْتُ عن درجةِ كُلِّ حديث من الأحاديث التي فيها مِن حيثُ الصحةُ أو الضعفُ في مدى أربعينَ سنة وإلى ما شاء الله، وقد وفِّقتُ في ذلك أيَّما توفيقٍ، وأعدلُ شاهد على ذلك هو المجلداتُ الضخمة التي تزيد على المئةِ والخمسينَ مجلدًا في هذا العلم، وهي متداولةٌ بين طلبة العلم والأساتذة، ينتفعون بها ويعتمدون

ص: 4

- هـ -

عليها وينوِّهون بشأنِ الذي تولى خدمَتها وتحقيقَها، وقد تخرّج بي في هذه الفترة بهذا الفن غيرُ واحد من طلاب العلم النُّبَهاء، الذين تتلمذوا عليّ عشرات السنين، وأصبح لهم شأن يُذْكَر في هذا الفنّ، ودَرَجُوا فيه، وصَدَرَتْ لهم تحقيقاتٌ مُميزة.

وقد كنتُ اطلعتُ في هذه الحِقبة على كتابِ "مستدركات عائشة على الصحابة" هذا، وقد جَمَع فيه مؤلفُه الإمامُ بدرُ الدين الزركشيُّ أحاديثَ السيدة عائشةَ رضي الله عنها التي انتَقدتْ فيها غيرَ واحد من الصحابة بعضَ مروياتهم التي أخطؤوا فيها - في نظرها - وقد فرحتُ بهذا الكتاب فرحًا شديدًا، لأنَّه يُصادِفُ هوىً في نفسي، ورغبةً أكيدةً في معرفة النقد النصّي الذي لم يُعْنَ به إلا القِلَّةُ القليلة مِن الحفاظ، لكن هالَني ما رأيتُ في لهذه الطبعة من كثرة التحريفاتِ والأخطاءِ التي وَقَعَتْ لِمحققه الأستاذُ سعيد الأفغاني رحمه الله، ولم أكن أتوقعُ صدورَ مثلِ ذلك منه، لِما أَعْلَمُهُ فِيهِ مِن تَمَكُّنٍ بالعربيةِ، وخِبرة بأساليبها، فأخذتُ أُدَوِّنُ على هوامش نسختي الأخطاءَ التي وقعتْ له فيه، وكانت تزيدُ يومًا بعدَ يوم، ثم رجعتُ إلى النسخةِ التي طُبعَ عنها الكتابُ، وهي مِن مخطوطات المكتبةِ الظاهريةِ بدمشق - حَرَسَها اللهُ - فقابلتُ المطبوعَ بالأصل الخطِّي، فكانت الأخطاء التي استدركتُها عليه تأتي على الصَّواب في الأصل الخطّي الذي اعتمده، واتجهتْ نيتي إذ ذاك أن أقومَ بإعادة تحقيقهِ ونشره، ولكنْ حالَ دون ذلك ما أعاقني عن متابعة عملي فيه.

ومذ سنةٍ مِن تاريخ هذه الكتابة علمتُ أن أستاذًا في جامعة أنقرة في كلية الإلهيات في قسم الحديثِ وهو الدكتورُ محمد بنيامين أرول قد ظَفِرَ بنسخةٍ خطيةٍ أخرى للكتاب في إستنبول، وكان قد نَشَر الكِتابَ باللغة التركية، فشجعتُه عَنْ طريقِ المراسلَةِ على تحقيقهِ ونشرِه بالعربية،

ص: 5

- و -

وأخبرته بما عندي مِن ملاحظات وتحقيقات على هذا الكتاب، وأبديتُ له أننى مستعدٌّ أن أُزَوِّدَه بها، فرغب في ذلك ورَحَلَ مِن أنقرة إلى عمان، فقمتُ أنا وإيَّاه بمقابلة المطبوعِ بالأصلين الخطيين، وتصحيحه من التحريفات والأخطاءِ، وقد تَمَّ ذلك في غضون خمسة أيام متوالية، وقد أشرتُ عليه أن يُعَلِّقَ على المواطن التي تحتاج إلى تعليق، ويستعينَ بنسختي التي علّقْتُ عليها، وأن يكتُبَ مقدمة تشمَل دراسةَ الكتاب ووصفَ الأصلين الخطيين، وعملَه في الكتاب، وانصرف إلى بلده مصطحبًا نسختي التي فيها تعليقاتي وتصحيحاتي وتعقُّباتي مع الأصل المصوّر من الظاهرية، على أن يُرْسلَ إلي الكتاب مبيّضًا كما اتّفقنا عليه بَعْدَ سِتَّةِ أشهُرٍ، وقد وَفَّى بذلِكَ، فأرسله في المدة المُحَدَّدَةِ، فعاودتُ قراءته مع التعليقات والمقدمة مُجدَّدًا، وضبطتُ نصوصه، وعدّلتُ بعض التعديلات في التعليقات، ثم دفعتُه إلى المطبعة، وحضر الدكتور في منتصف الشهر الثامن من هذا العام وقَرَأَهُ هو أيضًا بعد التنضيدِ، وصحح تجارب الطبع، فخرج الكِتابُ كما ترى.

وإنني إذ أقولُ ذلك، لأشهدُ شهادةَ حقٍ بأن صاحبي الدكتورَ محمد بنيامين أرول قد وُفِّقَ غايةَ التوفيق في إصدارِ هذا الكتاب محققًا على الوجهِ الذي سينال - إن شاء الله - إعجابَ المختصين في هذا الفن وطلبةِ العلم، وأشهدُ أنه قد أحيا سنة الأقدمين في تجشُّم الأسفار، والرحلة في طلب العلم، والمذاكرة والانتفاع بآراء أهل العلم الذين بَعُدُوا عنه، وهم متفرقون في العالم الإسلامي، وهذا شأنُ طالبِ العلم المُجِدّ المُخلِصِ الحريصِ على نيلِ العلم مِن أصوله، وأخذه عن أهله، وإن بَعُدَتْ عليه الشُّقَّة.

وأسأل الله سبحانه أن يُسبِغَ عليه نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وباطِنَةً وأن يُوفِّقه لِخدمة الحديثِ النبويِّ الشريف، الذي هو المصدرُ الثاني بَعْدَ القرآن،

ص: 6

- ز -

يفصِّلُ مُجْمَلَهُ، ويُقَيِّدُ مُطْلَقَهُ ويُخصِّصُ عامَّه، ويَنْفَرِدُ بأحكامٍ مُستنبَطة من المعاني الكلِّية التي فيه، يُحقِّقُ نُصوصَها، ويُجلِّي كُنُوزَهَا، وَيُيَسِّرُ الانتفاعَ بها، ويَنْفِي عنها تَحْرِيفَ الغَالِيْنَ، وانتحالَ المُبْطِلِينَ، وتأويلَ الجاهِليْنَ.

وبعد، فإن ما انتهتْ إليه السيدةُ عائشةُ مِن استدراكاتها على مرويات بعضِ الصحابة، وتخطئتهم فيما قالوه، معتمدةً على المنهجِ الذي فَصَّلَ فيه القولَ صاحبُنا الدكتورُ محمد بنيامين في مقدمته لا يُعَدُّ القَوْلَ النِّهائيَّ في نقدِ المرويات من جهة النص، بل هو النموذجُ الأمثل الذي يَصْلُح أن يُحتذَى، ويُعتمد عليه في نقدِ المتن يُتيحُ للنبغةِ مِن أهلِ الاختصاصِ الذين عَمَرَتْ قلوبُهم بالتقوى، وإخلاصِ النية، والتجرُّدِ مِن الهوى والعصبية على مَدَى العُصُورِ، وإن كانوا قِلَّة، أن يستدرِكُوا عددًا مِن الأحاديث كما صَنَعَتْ عائشة رضي الله عنها ينتقدونَها ويَحْكُمُون عليها بمقتضى المقاييس المعتبرة، فيجزِمون بنفي صُدُورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم أبقى المتقدمُ للمتأخرِ، والسابقُ لللاحقِ، والسلفُ للخَلَفِ.

ولا ينبغي للمحدِّث المتخصِّصِ أن يكتفيَ بظاهرِ سلامةِ الإسنادِ دُونَ أن يُمْعِنَ النظر في متن الحديث، أو يغفلَه كُلَّ الإغفال، فقد صرَّحَ أَهْلُ العِلْم بأنه ليس كُلُّ حديثٍ صَحَّ سندُه، صحَّ متنه، فإذا حكم المحدِّثُ على إسنادِ حديثٍ قد استوفى شُروطَ الصِّحة، فلا يعني أن مَتْنَهُ صحيحٌ، بل قد يكونُ صحيحًا، وقد يكُونُ غيرَ صحيح، فإِنَّ الراويَ الثقةَ غَيْرَ المعصومِ مهما بَلَغَ مِن الحفظِ والإتقانِ والضبط، لا يَبْعُد وقوعُه في الخطأِ والوَهْمِ، فيرفعَ الموقوفَ، أو يصِلَ المقطوع، أو يقعَ له الوهمُ والنَّسيان مما يجعل بعض حديثه مناقضًا للأصولِ القطعيةِ المعتدِّ بها عندَ الأئمة، فيُحْكَمُ عليه بالبُطلانِ، ومن هذه الأحاديثِ المنتقَدةِ التي وصِفَت أسانيدُها بالصِّحَّةِ وحَكَمَ عليها الأئمةُ بالبُطلانِ:

ص: 7

-ح -

حديثُ أبي هريرة في صحيح مسلم (2789) قال: أَخَذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال:"خلق الله عز وجل التُّربَةَ يومَ السبت. ." الحديث. وحديثُ سلمةَ بن يزيد الجُعفي عند أحمد (15923)، والنسائي في "الكبرى"(11585)"الوائدة والموؤودة في النار".

وحديثُ أبي سفيانَ في "صحيح مسلم"(2501) أنه قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ثلاثٌ أعطنيهن ..

وحديثُ الإسراء مِن رواية شَريك بن عبد الله بن أبي نَمِر عن أنس عند البخاري برقم (7517).

وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذا: وقد عُلِمَ أن صحةَ الإِسنادِ شَرْطٌ مِن شروطِ صحةِ الحديث، وليست موجبةً لِصحة الحديث، فإن الحديثَ إنما يَصِحُّ بمجموع أمورٍ، منها: صحةُ سنده، وانتفاءُ علته، وعدمُ شذوذه ونكارته.

وإنّ تحقُّقَ الانتفاعِ بكتاب المستدركات والتأهلَ لتسوُّرِ مرتبة النقدِ التي انتهت إليها السيدة عائشة رضي الله عنها إنما هو خاصٌّ بطالبِ العلمِ التقيِّ المتمرِّسِ الذي تضلَّع في معرفة السننِ الصحيحةِ، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها مَلَكَةٌ، وصار له اختصاصٌ شديد بمعرفةِ السننِ والآثارِ، ومعرفةِ سيرةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَدْيهِ فيما يأمُرُ به، وينهى عنه ويُخبر عنه، ويدعو إليه، ويُحبه ويكرهه، ويَشْرعُهُ للأمة بحيث كأنه مخالِطٌ لِلرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه.

فمثلُ هذا يَعْرِفُ مِن أحوال الرسولِ صلى الله عليه وسلم وهَدْيهِ وكلامِه وما يجوز أن يُخْبِرَ به وما لا يَجُوزُ، ما لا يعرفه غيرُه، فهذا شأنُ كُلِّ مُتَّبعٍ مع متبوعه، فإن للأخصِّ به الحريصِ على تتبعِ أقوالهِ وأفعاله مِن العِلْمِ

ص: 8

- ط -

بها، والتمييزِ بين ما يَصِحُّ أن يُنْسَبَ إليه وما لا يَصِحُّ، ما ليسَ لمن لا يكونُ كذلك

(1)

.

ونسأل الله المبتدئَ لَنا بنعَمِه قبلَ استحقاقِها، المديمَها علينا، مع تقصيرِنا في الإتيانِ على ما أوجبَ به من شكره بها، الجاعلَنا في خير أمة أُخرجت للناس، أن يَرْزُقَنا فَهْمًا في كتابه، ثم سنةِ نبيه، وقولًا وعملًا يؤدِّي بها عنا حقّه، ويوجب لنا نافلةَ مَزيدِهِ.

ونسأل المولى سبحانه أن يسدّد خُطانا، ويُنجح مَسعانا، وينوّلنا رضاه، إنه خير مسؤول، وأفضل مجيب.

عمان

21/ 7/ 1423 هـ

28/ 9/ 2002 م

شعَيّب الأرنؤوْط

(1)

"المنار المنيف" ص 44.

ص: 9