المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسمى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ١

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح سنن النسائي

المسمى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الناشر: دار المعراج الدولية للنشر (جـ 1 - 5)، دار آل بروم للنشر والتوزيع (جـ 6 - 40)

الطبعة: الأولى

جـ (1 - 5): 1416 هـ - 1996 م

جـ (6 - 7):1419 هـ - 1999 م

جـ (8 - 9): 1420 هـ - 1999 م

جـ (10 - 12): 1419 هـ - 2000 م

جـ (13 - 40): 1424 هـ - 2003 م

ص: 1

شرح سنن النسائي

ص: 2

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

1416 هـ-1996 م

دار المعراج الدولية للنشر

الرياض 11421 - ص. ب. 858 - هاتف وفاكس 4026278

المملكة العربية السعودية

بيروت- ص. ب. 6366/ 14 - هاتف 831331 - فاكس 603333

القاهرة - ص. ب. 1289 - هاتف 3900318 - فاكس 3926250

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

طبعت بمطابع

الفاروق الحديثة للطباعة والنشر

خلف 60 شارع راتب باشا حدائق شبرا

ت: 647526 - 2055688 القاهرة

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي رفع أهل العلم درجات، وخص من بينهم أهل الحديث فَرَقَّاهم إلى أسمى الغايات، أكْرمْ بهم قوما صاروا مَنَار الهدى لأهل العنايات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي نشر على رؤوس أهل العلم راية قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: آية 18]، فيالها مَنقَبَةً تعلو المنقبَات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي نَوَّهَ بشرف أهل الحديث حيث قال:"نضر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه .. " الحديث

(1)

. فيا فَوزَهم ما أعلاه بين الهبات، صلى الله عليه وسلم، صلاة وسلاماً دائمين ما دام صحيحُ دينه مَرفوع الرايات، وعلى آله الذين اقتفوا أثره فيما دَقَّ وجَلَّ فحسنت أحوالهم بذلك ونالوا الحسنى والزيادات، وعلى أصحابه الذين هم الرعيل الأول فيما تسلل من الأسانيد العاليات للأخبار الغاليات، وعلى من اهتدى بهديهم من ذوي العنايات، ولا سيما أهْلُ الحديث الذين بذلوا أنفسهم في طلبه وأرخصوا الغالي في نيله، فيا فوزهم بالدرجات العاليات.

أما بعد: فيقول أفقر الورى إلى عفو الله تعالى محمَّد ابن الشيخ علي ابن آدم الإتيوبي:

لما رأيت سنن الإِمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله تعالى، المسماة بالمجتبى- بالباء أو المجتنى -بالنون- لم يقع لها شرح يَحُلّ ألفاظها حَقَّ حَلّ، ويبين معانيها أتمَّ تبيين، ويتكلم على رجال أسانيدها وغوامض متونها، ويستنبط منها الأحكام، إذ تحت كل حديث خبايا أسرار، وضمن كل أثر خفايا أنوار، وكيف لا؛ وهو

(1)

أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بسند صحيح.

ص: 5

كلام من أوتي جوامع الكلم واختُصر له الكلام اختصار

(1)

صلى الله عليه وسلم.

شمرت عن ساعد الجد تشميرا، ونبذت الكسل والملل وراء ظهري نبذاً مَريراً

(2)

.

وناديت المعاني بأعلى صوتي جهارا، فلبتني من كل جانب مُحَبَّرة بعبارات المحققين بدَارًا.

فاستعنت بالله تعالى، وقلت:{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: آية 88]. وسميته "ذخيرَةَ العُقْبَى، في شَرح المُجْتَبَى" وإن شئت قلت: "غَايَة المُنَى فى شَرْح المُجْتَنَى".

والله سبحانه أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وسببا للفوز بجنات النعيم.

تنبيه: إني لست في الحقيقة مؤلفا ذا تحرير، ومصنفا ذا تحبير، وإنما لي مجرد الجمع لأقوال المحققين، والتعويل على ما أراه منها موافقا لظاهر النص المبين، فأنا جامع لتلك الأقوال، ومرتبٌ لها في كل ما يناسبها من الحديث، ثم النظرُ فيها، وفي تناسبها، حسب قربها وبعدها منه، والاعتمادُ على ما يترجح لدى فهمي القاصر، وذهني البليد الفاتر، فلذا لا أترك من الأقوال المروية في حكم كل حديث إلا ما غاب عني بدليله، إذا كان بجانبه دليل مذكور، وإن كنت أراه ضعيفا في نظري، فعسى أن يطَّلع عليه غيري، ويراه صحيحا، لدليل يُقَوِّيه، إما من نفس ذلك الحديث لم يظهر لي وجهه، أو نص آخر أقوى منه "فرب مُبَلَّغ أوعى من سامع".

(1)

وقف عليه بالسكون للتقفية.

(2)

أي نبذًا قويا ومحكما، يقال: رجل مرير أي قوي، وأمر مرير: محكم. قاله في المعجم الوسيط.

ص: 6

تنبيه أخر: اعلم أيها الطالب للتحقيق -جعلك الله تعالى من أهل التوفيق- أنك سترى في هذا الشرح تكرارا وتطويلا، فإياك أن تلومني على هذا، فإن الشرح موضوع لهذا، واسمع ما قاله الإِمام النووي رحمه الله في أوائل شرحه لصحيح مسلم بعد ذكره لدقائق بعض الأسانيد، فقد قال رحمه الله:"ولا ينبغي للناظر في هذا الشرح أن يسأم من شيء من ذلك بما يجده مبسوطا واضحًا، فإني إنما أقصد بذلك -إن شاء الله الكريم- الإيضاح والتيسير والنصيحة لمطالعه، وإعانته، وإغناءه من مراجعة غيره في بيانه وهذا مقصود الشروح، فمن استطال شيئًا من هذا، وشبهه فهو بعيد من الإتقان، مباعد للفلاح في هذا الشأن، فَليُعَزِّ نفسَه لسوء حاله وليرجع عما ارتكبه من قبيح فعاله، ولا ينبغي لطالب التحقيق، والتنقيح، والإتقان، والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة، أو سآمة ذوي البطالة، وأصحاب الغباوة والمهانة، والملالة، بل يفرح ما يجده من العلم مبسوطا، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحًا مضبوطا، ويحمد الله الكريم على تيسيره، ويدعو لجامعه الساعي في تنقيحه وإيضاحه، وتقريره -وفقنا الله الكريم- لمعالي الأمور، وجنبنا بفضله جميع أنواع الشرور، وجمع بيننا وبين أحبابنا في دار الحبور والسرور، والله أعلم". انتهى ما قاله النووي في شرح مسلم ج 1 ص 152.

فعليك أيها الأخ العزيز أن تجعل نصيحة هذا الإمام المحقق نُصْب عينيك كلما استشعرت بشيء من التكرار والتطويل في هذا الشرح لتظفر بكنز عظيم -إن شاء الله تعالى- زادني الله تعالى وإياك حرصا على التحقيق، والغوص في علم الحديث فإنه البحر الخضَمُّ العميق، بمنه وكرمه آمين.

تنييه أخر: اعلم أنه توفر لدَيَّ من المراجع ما أستخلص منه الجواهر

ص: 7

الحديثية، من المواد الإسنادية، والمتنية، والمصطلحية، واللغوية، والنحوية، والصرفية، والفقهية، وغيرها، مما يحتاج إليه الحديثي من فنون العلوم الشرعية، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى عليَّ.

بعض المراجع التي اعتمدت عليها في هذا الشرح:

فمن المراجع الإسنادية: تقريب التهذيب بل عليه معولي، لكونه مختصرًا يشتمل على تعريف الشخص بأوجز عبارة، وأدَقِّ إشارة للحافظ أبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمَّد بن حجر العسقلاني المتوفي سنة 852 هـ. فهذا الكتاب مادة التراجم في هذا الشرح لكونه مختصرًا حوى مقاصد أصله، بل فاق عليه في ذكر ما أهمل من التراجم، وزيادة فوائد ليست فيه مثل الضبط للأسماء وغيرها، وسأنقل مقاصد خطبته في آخر مقدمة هذا الشرح، ليعرف سَبْره

(1)

، ويشهر قدره.

وتهذيب التهذيب، ولسان الميزان، وتعجيل المنفعة، والإصابة في تمييز الصحابة، وهدي الساري في مقدمة فتح الباري، وكلها له.

وتذكرة الحفاظ، وميزان الاعتدال، وسير أعلام النبلاء، وكلها للحافظ الناقد، والمحقق السائد

(2)

شمس الدين أبي عبد الله محمَّد بن أحمد الذهبي المتوفي سنة 778.

وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال للعلامة الحافظ صفي الدين أحمد ابن عبد الله الخزرجي، وطبقات الحفاظ للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفي سنة 911.

والتاريخ الكبير للإمام البخاري ت 256، والجرح والتعديل للإمام

(1)

السَّبْر -بفتح، فسكون الهيئة الحسنة كما في "ق".

(2)

أي السيد كما في "ق".

ص: 8

عبد الرحمن بن أبي حاتم ت 327. وتهذيب الأسماء واللغات. والإشارات إلى الأسماء المبهمات، كلاهُمَا للإمام النووي ت 676. والمختلف والمؤتلف، للحافظ أبي الحسن الدارقطني ت 385، والأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة للخطيب البغدادي ت 463، والمغني في ضبط أسماء الرجال للعلامة الفتَّني، وغيرها مما له تعلق في بيان الإسناد.

ومن كتب المصطلح: مقدمة علوم الحديث للحافظ أبي عمرو بن الصلاح، والتقييد والإيضاح عليها للحافظ أبي الفضل العراقي، وتقريب النواوي، وشرحه التدريب للسيوطي، وألفية العراقي، وشرحها له، وفتح المغيث للحافظ شمس الدين السخاوي، وفتح الباقي للعلامة القاضي زكريا الأنصاري، وكلاهما شرحان للألفية أيضًا، وألفية السيوطي، وشرحها للشيخ محمَّد محفوظ الترمسي، المسمى بمنهج ذوي النظر، وشرحي عليها المسمى بفتح المعطي البر، في شرح ألفية الأثر، ولم يكمل ومختصره المسمى بإسعاف ذوي الوطر، بشرح ألفية الأثر، وقد كمل، والحمد لله، ونخبة الفكر وشرحها للحافظ ابن حجر، وحاشيتها لقط الدرر، والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، وهدي الساري المتقدم ذكره، ومقدمة تحفة الأحوذي، وغير ذلك.

ومن كتب شروح الحديث: فتح الباري، وهو أجَلُّ مَأخَذي، وعليه اعتمادي، وكيف لا؟ وقد بذل مؤلفه جهده في جمعه وتحقيقه، إلا فيما يزلّ به القلم، في خلال تحريره وتدقيقه.

فلقد كان مؤلفه حَذَام المحدثين في المتأخرين، كما وصفه بذلك بعض مشايخنا المحققين، بل كان إطلاق اسم الحافظ عليه كلمة إجماع،

ص: 9

كما حققه بعض أهل الاطلاع. ولذا إذا ذكرت كلامه أطلقت عليه الحافظ فقط، لكونه معروفا به عند أهل الضبط. ومنها: عمدة القارى للعلامة بدر الدين أبي محمَّد محمود بن أحمد العيني، المتوفي سنة -855 - ، فهو أيضا من أجل المراجع، لما فيه من التحقيقات الإسنادية، والمتنية، والقواعد النحوية، واللغوية، والصرفية، والبلاغية، وغيرها، مما أودعه مؤلفه، فلقد كان رحمه الله تعالى بارعا في هذه الفنون، جاريا في مضمارها إلى المُنتهَى الميْمُون، فهذان الشرحان منهما استفدت، وعليها عولت، ولا سيما الأول، فإني إذا وجدته تكلم على الحديث لا أعدل إلى غيره، إلا إذا كان تحقيق غيره أحسن من تحقيقه.

ومنها إرشاد الساري، للعلامة القسطلاني، وشرح مسلم للإمام النووي، والمنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود للعلامة محمود محد خطاب السبكي، وتحفة الأحوذي للعلامة المباركفور، وعون المعبود للعلامة محمَّد شمس الحق، ونيل الأوطار للعلامة الشوكاني، وسبل السلام للعلامة الصنعاني، وتهذيب السنن للعلامة ابن القيم، ومعالم السنن للعلامة الخطابي، وزهر الربى للحافظ السيوطي، وشرح السندي، كلاهما على هذا الكتاب، وفيض القدير على الجامع الصغير للمناوي، والتمهيد للحافظ ابن عبد البر، وإحكام الأحكام للعلامة ابن دقيق العيد، وحاشيته العدة للصنعاني، وطرح التثريب للحافظ العراقي والمُحَلي في شرح المُجَلَّي لأبي محمَّد ابن حزم الظاهري وغيرها.

ومن كتب التخريجات: نصب الراية للحافظ الزيلعي، وتلخيص الحبير، وإتمام الدراية كلاهما للحافظ ابن حجر. وغيرها.

ومن سائر كتب الحديث: بقية الأمهات الست، وموطأ مالك، ومسند أحمد، ومسند الدارمي، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان ومصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، ومسند أبي يَعْلى،

ص: 10

والمعاجم الثلاثة للطبراني، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي ومسند الطيالسي، وشرح السنة للبغوي، ومستدرك الحاكم، وغيرها.

ومن كتب الأطراف: تحفة الأشراف للحافظ أبي الحجاج المزي، بل عليه جُلُّ اعتمادي. والنُّكت الظراف للحافظ ابن حجر، ومفتاح كنوز السنة، وغيرها مما يمر عليك حين أعزو المنقول إليه مما غاب عني الآن رسمه، وسأفردها بجريدة شاملة للمراجع مرتبة على الحروف الهجائية مع بيان الطبعات، إن شاء الله تعالى.

وكذا فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية فإن فيها فوائد جمة. وكذا ما كتبه العلامة أحمد محمد شاكر من التحقيقات التي خدم بها كتب السنة فإنها نافعة جدًا.

وكذا كُتُب العلامة ناصر الدين الألباني فإنها ممتعة جدًا؛ لأن له اليد الطولى في معرفة الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، كما تشهد بذلك كتبه القيمة، فقَلَّ من يُدانيه في هذا العصر الذي ساد فيه الجهل بهذا العلم الشريف، وصار جل اعتماد العلماء فيه على كلام من تقدم من الأعلام، وهذا وإن كان منهجًا قويمًا، إلا أن الأول هو الأساس الذي بني عليه السادة الأولون، من البحث والتنقيب، للوصول إلى ما هو الحق في هذا الحال، بدون تقليد، فإن ذلك شأن البليد، ولا يرضَى به إلا رديء الهمة، أو الجامد العنيد.

ومن كتب اللغة والإنساب: القاموس المحيط للمجد اللغوي، وشرحه تاج العروس للمرتضى، ولسان العرب لابن منظور، والمصباح المنير للفيومي، ومختار الصحاح للرازي، ونهاية ابن الأثير، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، وتعريفات الجرجاني، واللباب في تهذيب الإنساب لابن الأثير ومختصره لب اللباب للسيوطي، ومعجم البلدان

ص: 11

لياقوت الحموي، وغيرها.

ومن كتب الفقه: الأوسط لابن المنذر والمجموع للنووي مع تكميلتيه، والمغني لابن قدامة المقدسي، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، وغيرها من كتب المحققين.

ومن كتب النحو والصرف: كتب ابن مالك كالكافية وشرحها، والتسهيل، وشرحه المساعد لابن عقيل، والخلاصة، وشروحها، ومغني اللبيب لابن هشام الأنصاري، وسائر كتبه، وشافية ابن الحاجب

وكافيته، ومؤلفات الجلال السيوطي في النحو وغيرها.

وبالجملة فقد يسر الله لي كل ما يحتاج إليه من رام الغوص في لجج هذا البحر الزاخر، واستخراج الدرر المكنونة والجواهر، فما بقي إلا بَذْلُ الجهد والعزم البَتَّار، والمثابرةُ على مطالعتها ليلَ نَهَار، ونقلُ ما يناسب كلَّ باب، وكل حديث من خلاصتها، وتنميق

(1)

ما يَرُوق

(2)

من جواهرها، واختصاصاتها.

والله تعالى الكريم أسأل أن يعينني على ذلك، ويبارك في أوقاتي لنيل ما هنالك، فإنه كرم مسؤول، وخير مأمول.

وقبل الشروع في المقصود ينبغي أن أذكر ترجمة المصنف، وتعريف كتابه، ليَعْرفَ قدرَه الخاصُّ والعام، ويُنشر فضلُهُ العام بين الأنام، وفي ذلك مسائلُ عديدة، ومَنَاهلُ جديدة، وخاتمة سديدة، ثم فصل الخطاب، ثم الشروع في المقصود المستطاب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

يقال: نَمَقَ الكتاب: كتبه، ونَمَّقه تنميقًا: حسنه بالكتابة اهـ ق.

(2)

مضارع رَاقَه الشيءُ يروقه: إذا أعجبه. كما أفاده في المصباح.

ص: 12

‌المسأله الأولى في ذكر ترجمة المصنف رحمه الله

قال الحافظ شمس الدين الذهبي في سير أعلام النبلاء 14/ ص 125:

الإمام الحافظ، المثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، أبو عبد الرحمن: أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر، الخراساني، النسائي، صاحب السنن ولد بنسا، في سنة 215، وطلب العلم في صغره، فارتحل إلى قتيبة في سنة 230، فأقام عنده ببغلان

(1)

سنة، فأكثر عنه.

قال الجامع عفا الله عنه:

ونَسَأ بفتح النون والسين، كجبل مهموز، كما صرح به الإسنَوي

(2)

، وابن خلّكان، والسبكي، هي بلدة بخراسان، أفاده المرتضى في التاج في مادة نَسَأ وعلى هذا نظم بعضهم، فقال:

والنَّسَئيُّ نسْبَةٌ لنَسَأِ

مَدينّةٌ فِي الوَزْن مثْلُ سَبَأِ

وقال في اللباب: النسائي بفتح النون والسين وبعد الألف همزة وياء النسبة هذه النسبة إلى مدينة بخراسان، يقال لها نسا، وينسب إليها أيضًا نَسَويّ. اهـ.

وقال في معجم البلدان: كان سبب تسميتها بهذا الاسم أن المسلمين لما وردوا خراسان، قصدوها، فبلغ ذلك أهلها فهربوا، ولم يتخلف بها غير النساء، فلما أتاها المسلمون لم يروا بها رجلا، فقالوا هؤلاء نساء والنساء لا يقاتلن فننسأ أمرها الآن إلى أن يعود رجالهن، فتركوا

(1)

بغلان بفتح الباء وسكون الغين المعجمة، وفي آخره نون بلدة بنواحي بلخ.

(2)

بكسر الهمزة منسوب إلى إسنا قرية بمصر.

ص: 13

ومضوا، فسموا بذلك نسَاء، والنسبة الصحيحة إليها نسائي، وقيل: نسوي، أيضا، وكان من الواجب كسر النون. اهـ.

‌ميلاده

قد ذكرنا عن الذهبي أنه ولد سنة 215، وهذا ليس على وجه اليقين والجزم، بل سئل هو رحمه الله عن مولده، فقال: يشبه أن يكون سنة 215 هـ، وقيل: ولد سنة 214 هـ، وأصل الخلاف: هو ما نقل عن تلميذه أبي سعيد بن يونس، صاحب تاريخ مصر، قوله: رأيت بخطي في مسودتي أن مولده بنسا سنة 215، وقيل:214. وذكر في الوافي بالوفيات للصفديّ جـ 6/ ص 416 أنه ولد سنة 225، قال الحافظ السخاوي: وهو غلط جزمًا، إما من الناسخ أو غيره.

‌رحلاته

كان رحمه الله في عصر الرحلة في طلب الحديث، وكانت عناية طلاب العلم آنذاك منقطعة في إحياء الحديث وغيره، وكان النسائي من نابهي الطلبة الذين كانت لهم رحلة طويلة، بدأ بمدن إقليمه خراسان، ثم دخل العراق، والشام، والحجاز، والجزيرة، ومصر التي جعلها سكنا له من بعدُ، وكان قد دخلها طالبا قبل أن يكون عالمًا، وفي بداية حياته كما يدل على ذلك قصته المشهورة، مع الحارث بن مسكين عالم مصر، وقاضيها، الحافظ، إذ دخل عليه النسائي في زيّ أنكره الحارث عليه، إذ كان يرتدي قلنسوة وقباء، وكان الحارث خائفا من أمور تتعلق بالسلطان، فخاف أن يكون عينا عليه فمنعه من الدخول إليه، مع الطلبة، فكان يجيء، ويقعد خلف الباب ويسمع ولذلك نجده يقول دائما: أخبرنا الحارث بن مسكين قراءة عليه، وأنا أسمع.

ومما يذكر لأبي عبد الرحمن: أن رحلته لم تقتصر على أخذ الحديث

ص: 14

فقط، بل أخذ كذلك علوم القرآن، والقراءة عن أهلها، ومنهم أحمد ابن نصر النيسابوري، وأبو شعيب السوسي

(1)

.

‌شيوخه

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: وسمع من إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، ومحمد بن النضر بن مساور، وسويد بن نصر، وعيسى بن حماد زُغْبَة، وأحمد بن عبدة الضبي، وأبي طاهر بن السرح، وأحمد بن منيع، وإسحاق بن شاهين، وبشر بن معاذ العقدي، وبشر بن هلال الصواف، وتميم بن المنتصر، والحارث بن مسكين، والحسن بن الصباح البزار، وحميد بن مسعدة، وزياد بنَ أيوب، وزياد ابن يحيي الحساني، وسوار بن عبد الله العنبري، والعباس بن عبد العظيم العنبري، وأبي حصين عبد الله بن أحمد اليربوعي، وعبد الأعلي بن واصل، وعبد الجبار بن العلاء العطار، وعبد الرحمن ابن عبيد الله الحلبي ابن أخي الإمام، وعبد الملك بن شعيب بن الليث، وعبدة بن عبد الله الصفار، وأبي قدامة عبد الله بن سعيد، وعتبة بن عبد الله المروزي، وعلي بن حجر، وعلي بن سعيد بن مسروق الكندي، وعمار بن خالد الواسطي وعمران بن موسى القزاز، وعمرو بن زرارة الكلابي، وعمرو بن عثمان الحمصي، وعمرو بن علي الفلاس، وعيسى بن محمد الرملي، وعيسى بن يونس الرملي، وكثير بن عبيد، ومحمد بن أبان البلخي، ومحمد بن آدم المصيصي، ومحمد بن إسماعيل بن علية قاضي دمشق، ومحمد بن بشار، ومحمد بن زنبور المكي، ومحمد بن سليمان لُوَيْن، ومحمد بن عبد الله بن عمار، ومحمد بن عبد الله المخرمي، ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة،

(1)

انظر مقدمة تحقيق عمل اليوم والليلة للدكتور فاروق حمادة ص 15 - 16.

ص: 15

ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ومحمد بن عبيد المحاربي، ومحمد بن العلاء الهمداني، ومحمد بن قدامة المصيصي الجوهري، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن المصفى، ومحمد بن مَعْمر القَيْسي، ومحمد بن موسى الحرشي، ومحمد بن هاشم البعلبكي، وأبي المُعَافى محمَّد بن وهب، ومجاهد بن موسى، ومحمود بن غَيْلان، ومَخْلد بن حسن الحراني، ونصر بن علي الجهضمي، وهارون بن عبد الله الحمال، وهناد بن السَّري، والهيثم بن أيوب الطالَقَاني، وواصل بن عبد الأعلى، ووهب بن بيان، ويحيى بن درست البصري، ويحيى بن موسى خت، ويعقوب الدورقي، ويعقوب بن ماهان البناء، ويوسف ابن حماد المَعْنيّ، ويوسف بن عيسى الزهري، ويوسف بن واضح المؤدب، وخلق كثير، وإلى أن يروي من رفقائه. اهـ سير أعلام النبلاء جـ 14/ ص 126.

‌تلاميذه

قال الحافظ الذهبي: حدَّث عنه أبو بشر الدُّولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وحمزة بن محمَّد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمَّد بن إسماعيل النحاس النحوي، وأبو بكر محمَّد ابن أحمد بن الحداد الشافعي، وعبد الكريم بن أبي عبد الرحمن النسائي، والحسن بن الخضر الأسيوطي، وأبو بكر أحمد بن السني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ومحمد بن معاوية بن الأحمر الأندلسي، والحسن بن رشيق، ومحمد بن عبد الله بن حيويه النيسابوري، ومحمد بن موسى المأموني، وأبيض بن محمَّد بن أبيض، وخلق كثير. اهـ سير جـ 14/ ص 127.

ص: 16

‌سلوكه وعقيدته

كان رحمه الله تعالى سالكا مسلك أهل الحديث عقيدة ومذهبا غير مقلد لأحد، كسائر أئمة الحديث، ويتبين ذلك في كتابه هذا، وسننبه عليه إذا مر بنا ذلك إن شاء الله تعالى، كما حققه العلامة المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي، بل أئمة الحديث من أصحاب الأصول وغيرهم ليسوا مقلدين لأحد إلا من شاء الله من المتأخرين بل هم مجتهدون، ومتبعون للدليل، خلافَ ما يُثيره بعض الناس بأن فلانا شافعي، وفلانا حنبلي من غير تحقيق لذلك، بل بالظن والتخمين، ومَنْ تَتَبَّعَ عملهم في كتبهم يظهر له خلاف ما قاله هذا المثير، فمجرد موافقة أقوالهم في بعض المواضع لبعض أهل المذاهب لا يدل على التقليد، بل ذلك من اتفاق الآراء لاتفاق الدليل، وكذا كون بعضهم أخذ عن بعض المجتهدين، أو تلاميذهم، أو تلاميذ تلاميذهم، لا يدل على ذلك، كما أن الشافعي مثلا أخذ عن مالك رحمهما الله تعالى ولا يقتضي كونه مالكيا، وأحمد أخذ عن الشافعي رحمهما الله تعالى، ولا يقتضي ذلك كونه شافعيا، فكذا نقول ها هنا، من غير فرق. والله أعلم.

ولنرجع إلى المقصود: كان رحمه الله تعالى على مذهب أهل السنة والجماعة من إثبات صفات الله تعالى، كما وردت، وأن القرآن كلام الله تعالى، غير مخلوق.

قال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمَّد بن أبي العوام السعدي: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمد بن أعين، قال: قلت لابن المبارك: إن فلانا يقول: من زعم أن قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: آية 14] مخلوق فهو كافر، فقال ابن المبارك: صدق، قال النسائي: بهذا أقول.

ص: 17

‌ثناء الناس عليه

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: وكان النسائي من بحر العلم مع الفهم والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف، جَالَ في طلب العلم في خراسان والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور، ثم استوطن مصر، ورحل الحفاظ إليه، ولم يبق له نظير في هذا الشأن، وكان شيخا مَهيبا، مَليح الوجه، ظاهر الدم، حسن الشيبة.

وعن النسائي رحمه الله تعالى: قال: أقمت عند قتيبة بن سعيد سنة وشهرين، وكان يسكن بزُقَاق القناديل بمصر

(1)

وكان نَضرَ الوَجه، مع كبر السنن، يؤثر لباس البرود النوبية، والخضر، ويكثر الاستمتاع، له أربع زوجات، فكان يقسم لهن، ولا يخلو مع ذلك من سرية، وكان يكثر أكل الديوك، تُشترى له وتُسمن، وتُخصى. قال مرة بعض الطلبة: ما أظن أبا عبد الرحمن إلا أنه يشرب النبيذ، للنضرة التي في وجهه، وقال الآخر: ليت شعري ما يرى في إتيان النساء في أدبارهن، قال: فسئل عن ذلك؟ فقال: النبيذ حرام، ولا يصح في الدبر شيء، لكن حدث محمَّد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، قال:"اسق حرثك حيث شئت" فلا ينبغي أن يتجاوز قوله.

قال الذهبي: قد تيقنا بطرق لا محيد عنها نهي النبي- صلى الله عليه وسلم عن أدبار النساء، وجزمنا بتحريمه، ولي في ذلك مصنف كبير

(2)

.

وقال الوزير بن حنزابة

(3)

: سمعمت محمَّد بن موسى المأموني

(1)

محلة بمصر مشهورة، سميت به لأنه كان فيها منازل الأشراف، وكانت على أبوابهم القناديل. أفاده ياقوت في معجمه ج 3 ص 145.

(2)

سير أعلام النبلاءج 14، ص 128.

(3)

بكسر الحاء المهملة وسكون النون بعدها زاي وهي المرأة القصيرة الغليظة، وهي هنا أم الفضل بن جعفر بن الفرات.

ص: 18

صاحب النسائي قال: سمعت قوما ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب الخصائص لعلي رضي الله عنه، وتَرْكَهُ فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب الخصائص، رجوت أن يهديهم الله تعالى، ثم إنه صنف بعد ذلك فضائل الصحابة فقيل له: وأنا أسمع ألا تخرج فضائل معاوية رضي الله عنه؟ فقال: أيَّ شيء أخرج؟ حديث "اللهم لا تشبع بطنه"؟ فسكت السائل.

قال الذهبي: لعل أن يقال: هذه منقبة لمعاوية، لقوله صلى الله عليه وسلم "اللهم من لعنته، أو سببته، فاجعل ذلك له زكاة ورحمة".

قال مأمون المصري المحدث: خرجنا إلى طرسوس مع النسائي سنة الفداء، فاجتمع جماعة من الأئمة: عبدُ الله بنُ أحمد بن حنبل، ومحمد بن إبراهيم مربع، وأبو الآذان، وكيلَجَة

(1)

فتَشَاوَرُوا: من ينتقي لهم على الشيوخ؟ فاجمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي، وكتبوا كلهم بانتخابه.

قال الحاكم: كلام النسائي على فقه الحديث كثير، ومن نظر في سننه تحير في حسن كلامه. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: أخبرنا الإمام في الحديث بلا مدافعة، أبو عبد الرحمن النسائي. وقال أبو طالب أحمد ابن نصر الحافظ: من يصبرُ على ما يصبر عليه النسائي؟ عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة، يعني عن قتيبة، عن ابن لهيعة، قال: فما حدث بها. وقال أبو الحسن الدارقطني: أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يُذْكَرُ بهذا العلم من أهل عصره. وقال الحافظ ابن طاهر: سألت سعد ابن علي الزنجاني عن رجل، فوثقه، فقلت: قد ضعفه النسائي، فقال:

(1)

كيلجة: بكسر الكاف وفتح اللام، محمد بن صالح بن عبد الرحمن البغدادي، أبو بكر الأنماطي، ثقة حافظ توفي سنة 271.

ص: 19

يا بُنَيَّ إن لأبي عبد الرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم.

قال الحافظ الذهبي: صَدَقَ، فإنه لَيَّنَ جماعةً من رجال صحيحي البخاري ومسلم.

وقال محمَّد بن المظفر الحافظ: سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار، وأنه خرج إلى الفداء مع أمير مصر فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين، واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه والانبساط في المأكل، وأنه لم يزل كذلك دأبه إلى أن استشهد بدمشق من جهة الخوارج. وقال الدارقطني: كان أبو بكر بن الحداد الشافعي كثير الحديث، ولم يحدث عن غير النسائي. وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله تعالى.

وقال الطبراني في معجمه: حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي القاضي بمصر فذكر حديثا ..

وقال أبو عوانة في صحيحه: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قاضي حمصر، حدثنا محمَّد بن قدامة، فذكر حديثا.

قال الحافظ الذهبي: ولم يكن أحد في رأس الثلاثمائة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسي، وهو جار في مضْمَار البخاري، وأبي زرعة، إلا أن فيه قليل تشيع، وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية، وعمرو، والله يسامحه. اهـ سير. جـ 14/ ص 133.

وكان النسائي يصوم صوم داود عليه السلام يفطر يوما، ويصوم يوما، وقد تسلم القضاء في أكثر من بلد

(1)

.

(1)

انظر تحقيق عمل اليوم والليلة ص 24.

ص: 20

وسئل عن اللحن في الحديث فقال: إن كان شيء تقوله العرب، وإن لم يكن لغةَ غير قريش فلا يُغير؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلم الناس بكلامهم، وإن كان مما لا يوجد في لغة العرب فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلحن. ذكره ياقوت في معجمه جـ 5/ ص 282.

‌وفاته

روى أبو عبد الله بن منده عن حمزة العقبي المصري وغيره: أن النسائي خرج من مصر في آخر عمره إلى دمشق، فسئل بها عن معاوية، وما جاء في فضائله؟ فقال: لا يرضى رأسا برأس حتى يفضل؟ قال: فما زالوا يدفعون في حضنيه

(1)

حتى أخرج من المسجد، ثم حمل إلى مكة فتوفي بها، كذا قال، وصوابه إلى الرملة.

قال الدارقطني: خرج حاجا فامتحن بدمشق، وأدرك الشهادة، فقال: احملوني إلى مكة، فحمل، وتوفي بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة وكان وفاته في شعبان سنة 303، قال: وكان أفقه مشايخ مصر

في عصره وأعلمهم بالحديث، والرجال.

وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخه: كان أبو عبد الرحمن النسائي إماما حافظا ثبتا خرج من مصر في شهر ذي القعدة من سنة 302، وتوفي بفلسطين في يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة 303.

قال الذهبي: هذا أصح، فإن ابن يونس حافظ يقظ، وقد أخذ عن النسائي، هو به عارف. اهـ سير جـ 14/ ص 133.

وقد ألف في ترجمته الحافظ المتقن أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال محدث الأندلس، ومؤرخها، المتوفي سنة 578 هـ جزءًا.

(1)

أي جنبيه، وفي شذرات الذهب: خصيتيه.

ص: 21

‌المسألة الثانية في ذكر مؤلفاته القيمة

كان رحمه الله كثير المؤلفات، له كتب كثيرة في الحديث والعلل وغير ذلك.

فمن أبرزها السنن التي تسمى المجتبى بالباء، أو المجتنى بالنون، المقصودة بكتابة هذا الجامع عليها، وسأفرد عليها الكلام فيما بعد إن شاء الله تعالى.

والسنن الكبرى، وخصائص علي، وعمل اليوم والليلة، وهما

داخلان في الكبرى في بعض النسخ، وكتاب التفسير في مجلد، والكنى، والضعفاء والمتروكون، والتمييز، ومعجم شيوخه، وكتاب الطبقات، وتصنيف في معرفة الأخوة والأخوات، ومسند حديث مالك ابن أنس، ومسند حديث الزهري بعلله، والكلام عليه، ومسند حديث شعبة بن الحجاج، ومسند حديث سفيان بن سعيد الثوري، وكتاب الإغراب، وهو مسند حديث شعبة وسفيان الثوري مما رواه شعبة ولم يروه سفيان، أو رواه سفيان ولم يروه شعبة من الحديث والرجال، ومسند حديث ابن جريج، ومسند حديث يحيى بن سعيد القطان، ومسند حديث فضيل بن عياض، وداود الطائي، ومفضل بن مهلهل الضبي، والجرح والتعديل، والجمعة، ومناسك الحج، وفضائل القرآن الكريم، وهو داخل في سننه الكبرى، وتسمية فقهاء الأمصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل المدينة، وتسمية من لم يرو عنه غير رجل واحد، وجزء من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإملاآته الحديثية، ومسند منصور بن زاذان الواسطي، وشيوخ الزهري، وذكر من حدث عنه ابن أبي عروبة، ولم يسمع منه

(1)

.

(1)

انظر مقدمة تحقيق عمل اليوم والليلة ص 28 - 38.

ص: 22

‌المسألة الثالثة في بيان مذهبه في الجرح والتعديل، ومنهجه في التصنيف

كان رحمه الله من المتشددين في الجرح كما نص على ذلك غير واحد من الحفاظ، فقد تقدم قريبا أن سعد بن علي الزنجاني قال: إن لأبي عبد الرحمن النسائي شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم، وأن الذهبي قال: صدق، فإنه ليَّن جماعة من رجال الصحيحين.

وقد قسم الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي أحاديث المجتبى ثلاثة

أقسام، ومثله أبو داود: الأول الصحيح المخرج في الصحيحين، وهو أكثر كتابه. الثاني: صحيح على شرطهما. الثالث: أحاديث أبان عن علتها بما يفهمه أهل المعرفة.

وذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في مقدمته عن أبي عبد الله بن منده أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه، قال ابن منده: ومثله أبو داود، وإلى ذلك أشار العراقي في ألفيته حيث قال:

والنَّسَئي يُخْرجُ مَنْ لَمْ يُجْمعُوا

عَلَيْه تَرْكًا مَذْهَب مُتَّسعُ

وقوله مذهب متسع، أي إن لم يرد به إجماعًا خاصًا، وذلك أن الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: إن ذلك إجماع خاص، وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط، فمن الأولى شعبة، والثوري، وشعبة أشدهما، ومن الثانية يحيى القطان، وابن مهدي، ويحيى أشدهما، ومن الثالثة: ابن معين، وأحمد، وابن معين أشدهما، ومن الرابعة أبو حاتم، والبخارى، وأبو حاتم أشدهما. فقال النسائي: لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه، فهذا وثقه ابن مهدي، وضعفه يحيى القطان مثلا لا يُتْرَكُ لما عُرف من تشدد يحيى، ومَن هو

ص: 23

مثله في النقد؟ وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك، فكم من رجل أخرج له أبو داود، والترمذي تجنب النسائي إخراجَ حديثه، بل تجنب إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين.

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا الذي نقله ابن الصلاح عن ابن منده عن محمَّد بن سعد من أن

مذهب النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه، وتشبيه ابن منده عمله بعمل أبي داود غير صحيح لمخالفته صنيعه في سننه، بل الصحيح ما تقدم عن سعد بن علي الزنجاني، ووافقه عليه الذهبي فإن من تتبع عمله في سننه يظهر له ذلك، فالنسائي أشد انتقاء بخلاف أبي داود. والله أعلم.

وكَتَبَ السيوطي رحمه الله في مقدمة شرحه لهذا الكتاب المسمى بزهر الربى على المجتبى، ما نصه:

قال الحافظ أبو الفضل بن طاهر في شروط الأئمة: كتاب أبي داود والنسائي ينقسم على ثلاثة أقسام:

الأول: الصحيح المخرج في الصحيحين.

الثاني: صحيح على شرطهما، وقد حكى أبو عبد الله بن منده: أن شرطهما إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع، ولا إرسال فيكون هذا القسم من الصحيح إلا أنه طريق دون طريق ما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، بل طريقه طريق ما ترك البخاري ومسلم من الصحيح لما بينا أنهما تركا كثيرا من الصحيح الذي حفظاه.

ص: 24

الثالث: أحاديث أخرجاها من غير قطع منهما بصحتها، وقد أبانا علتها بما يفهمه أهل المعرفة، وإنما أودعا هذا القسم في كتابيهما لأنه رواية قوم لها

(1)

واحتجاجهم بها فأورداها وبينا سقمها لتزول الشبهة، وذلك إذا لم يجدا له طريقا غيره لأنه عندهما أقوى من رأي الرجال.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الكلام فيه نظر لأن أوله يدل على أنهما ما أوردا تلك الأحاديث إلا لبيان عللها، وآخره يدل على أنهما أورداها للاحتجاج بها حيث قال: إنها أقوى عندهما من رأي الرجال، وهذا تناقض، وأيضا فإن هذا الكلام لا يستقيم مع عمل النسائي إلا إذا أراد السنن الكبرى.

وقال ابن الصلاح: حكى أبو عبد الله بن منده أنه سمع محمَّد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يخرج أحاديث من لم يجمع على تركه. قال الحافظ أبو الفضل العراقي: وهذا مذهب متسع

(2)

. قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر في نكته على ابن الصلاح: ما حكاه عن الباوردي أن النسائي يخرج أحاديث من لم يجمع على تركه، فإنه أراد بذلك إجماعا خاصا، وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط: فمن الأولى شعبة وسفيان إلى آخر ما قدمناه في كلام الحافظ.

وقال أحمد بن محبوب الرملي: سمعت النسائي يقول: لما عزمت على جمع السنن استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب

(1)

كذا النسخة، ولعل الصواب لأجل رواية قوم .. إلخ.

(2)

قلت: بل هو كما قاله الحافظ من أن المراد إجماع خاص، وليس كما يتبادر إلى الذهن، هذا كله إن صح هذا المذهب منسوبا إلى النسائي، وإلا فعمله في سننه لا يتمشى عليه، ولا سيما المجتبى، بل ما نقل عنه الآتي قريبا ينافيه، فليس مذهبه مذهب تساهل بل هو لا يزال متشددا، ولا سيما في المجتبى، فتنبه.

ص: 25

منهم بعض الشيء فوقعت الخيرة على تركهم فتركت جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم. قال الحافظ أبو طالب أحمد بن نصر شيخ الدارقطني: مَن يَصبرُ على ما يَصبر عليه النسائي؟ كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة فما حدث عنه بشيء. قال الحافظ ابن حجر: وكان عنده عاليا عن قتيبة عنه، ولم يحدث به لا في السنن ولا في غيرها.

وقال أبو جعفر بن الزبير: أولى ما أرشدُ إليه ما اتفق المسلمون على اعتماده: وذلك الكتب الخمسة، والموطأ الذي تقدمها وضعا، ولم يتأخر عنها رتبة، وقد اختلف مقاصدهم فيها، وللصحيحين فيها شفوف، وللبخاري لمن أراد التفقه مقاصد جميلة، ولأبي داود في حصر أحاديث الأحكام واستيعابها ما ليس لغيره، وللترمذي في فنون الصناعة الحديثية ما لم يشاركه غيره، وقد سلك النسائي أغمض تلك

المسالك وأجلها.

وقال الحسن المعافري: إذا نظرت إلى ما يخرجه أهل الحديث فما خرجه النسائي أقرب إلى الصحة مما خرجه غيره. وقال الإمام أبو عبد الله بن رُشَيد: كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفا، وأحسنها ترصيفا، وكان كتابه جامعا بين طريقي البخاري ومسلم، مع حظ كثير من بيان العلل.

وبالجملة فكتاب السنن أقل الكتب بعد الصحيحين حديثًا ضعيفًا، ورجلا مجروحًا

(1)

ويقاربه كتاب أبي داود، وكتاب الترمذي، ويقابله من الطرف الآخر كتاب ابن ماجه فإنه تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم، مثل حَبيب بن أبي حَبيب كاتب مالك، والعلاء بن زيد،

(1)

وسيأتي في كلام السخاوي، أنه إنما أخروه عن أبي داود والترمذي لتأخره عنهما وفاة.

ص: 26

وداود بن المحبر، وعبد الوهاب بن الضحاك، وإسماعيل بن زياد السكوني، وعبد السلام بن يحيى أبي الجنوب، وغيرهم.

وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما فيه ضعف فهي حكاية لا تصح، لانقطاع سندها، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية، أو كأنه ما رأى من الكتاب إلا جزاء منه فيه هذا القدر، وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة، أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لابن أبي حاتم.

وقال محمَّد بن معاوية الأحمر -الراوي عن النسائي- قال النسائي: كتاب السنن كله صحيح، وبعضه معلول، إلا أنه لم يبين علتة، والمتتخب المسمى بالمجتبى صحيح كله. وذكر بعضهم أن النسائي لما صنف السنن الكبرى أهداه إلى أمير الرملة، فقال له الأمير: أَكُلُّ ما في هذا صحيح؟ قال: لا، قال: فجرد الصحيح منه فصنف المجتبى، وهو بالباء الموحدة، قال الزركشي في تخريج الرافعي: ويقال: بالنون أيضا، وقال القاضي تاج الدين السبكي: سنن النسائي التي هي إحدى الكتب الستة هي الصغرى، لا الكبرى وهي التي يخرجون عليها الرجال، ويعملون الأطراف.

قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الكلام نظر، فإن العلماء أدخلوا الكبرى في الأطراف أيضا، كما فعل أبو الحجاج المزي وغيره، وسيأتي مزيد بسط لذلك إن شاء الله تعالى.

وقال الحافظ أبو الفضل ابن حجر: قد أطلق اسم الصحة على كتاب النسائي أبو علي النيسابوري، وأبو أحمد بن عدي، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو عبد الله الحاكم، وابن منده، وعبد الغني بن سعيد،

ص: 27

وأبو يعلى الخليلي، وأبو علي بن السكن، وأبو بكر الخطيب وغيرهم.

وقال الخليلي في الإرشاد في ترجمة بعض الرواة الدينوريين: سمع من أبي بكر بن السني صحيح أبي عبد الرحمن النسائي.

وقال أبو عبد الله بن منده: الذين خرجوا الصحيح أربعة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.

وقال السلفي: الكتب الخمسة اتفق على صحتهما علماء المشرق والمغرب.

قال النووي: مراده أن معظم كتب الثلاثة سوى الصحيحين يحتج به.

وقال الزركشي في نكته عَلى ابن الصلاح تسمية الكتب الثلاثة صحاحا: إما باعتبار الأغلب لأن غالبها الصحاح والحسان، وهي ملحقة بالصحاح، والضعيف منها ربما التحق بالحسن، فإطلاق الصحة عليها من باب التغليب. اهـ ما كتبه السيوطي في مقدمة شرحه. جـ 1/ ص 6.

وكتب محقق عمل اليوم والليلة للمصنف في دراساته فوائد حسنة أحببت إيرادها هنا وإن كان فيها طول لحسنها. قال بَعْدَ نقل ما تقدم عن الحافظ وغيره: فبهذا يظهر أن النسائي أخرج أحاديث الثقات فقط، والآخرون نص على ضعفهم كما يظهر من خلال سننه، فهذا تتبعناها وجدنا أنه يتوخى إخراج أقوى ما في الباب من الأحاديث ويعتمد العدالة والضبط في الحديث بقطع النظر عن المعتقد والاتجاه المذهبي، فقد روى عن الجُوزَجَاني مثلا، وفيه انحراف عن علي وأهل الكوفة، وهو -يعني النسائي- ميال إلى التشيع كما تقدم، وأخرج عن عمر بن سعد بن أبي وقاص المدني، وهو الذي كان أميرًا على الجيش الذي قتل الحسين ابن علي رضي الله عنهما، وكذلك وثق أسد بن وداعة، وهو ناصبي شديد النصب، كما روى عن الأجلح في اليوم والليلة، وكان مسرفا في

ص: 28

التشيع، وروى عن شمر بن عطية الأسدي في اليوم والليلة، وكان عثمانيا، وروايته عن الشيعة الحفاظ الضابطين، ولو كانوا مسرفين فكثيرة خصوصا في مسند علي كما يتبين لنا من خلال كتب الرجال؛ لأنّ المسند لم نره.

وإننا لنلاحظ أن القسم الثالث من الأحاديث التي أخرجها، وفيها ضعف كان يخرجها لأنه لم يجد غيرها، أو ذكرها لزيادة فيها على الأحاديث الصحيحة كما بين ذلك رحمه الله.

فانظر مثلا قوله: أخبرنا أبو حاتم السجستاني، قال: حدثنا عبد الله ابن رجاء، قال: حدثني سعيد بن سلمة، قال حدثني عمرو بن عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن عبد المطلب، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا قال: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز، والكسل، والبخل، والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال".

قال أبو عبد الرحمن: سعيد بن سلمة شيخ ضعيف، وإنما أخرجناه للزيادة في الحديث، وكان قد أخرجه بإسناد آخر من غير طريق سعيد بن سلمة. انظر المجتبى، 8/ 258.

وكما في حديث الخطبة قبل يوم التروية الذي رواه جابر بن عبد الله، وفيه إرسال علي رضي الله عنه إلى الموسم، وقراءة سورة براءة، وأبو بكر أمير الموسم، فعقب ذلك بقوله: قال أبو عبد الرحمن: ابن خثيم عبد الله بن عثمان بن خثيم ليس بالقوي في الحديث، وإنما أخرجت هذا لئلا يجعل ابن جريج عن أبي الزبير، وما كتبناه إلا عن إسحاق بن إبراهيم، ويحيى بنُ سعيد القطانُ لم يترك ابنَ خثيم ولا عبدُ الرحمن، إلا أن علي بن المديني قال: ابنُ خثيم منكرُ الحديث، وكان علي بن المديني خُلقَ للحديث.

ص: 29

ومن هذا النص يتبين لنا صواب وجهة النظر التي تبناها ابن حجر في الإخراج عمن لم يجمع على تركه أوّلًا، ثم ميل النسائي إلى التشدد ثانيًا، وهذا يدعونا إلى التأكد بأنه في تعليله للأحاديث وتنويعها لا يخرج عن شرطه الذي رسمه لنفسه فلا يرتضى تعليل حديث برجل واه، أو متروك، فإن كان ضعيفًا بينه ويختار الترجيح على طريقة الأحفظ والأكثر، حتى إن العلامة محمَّد بن إسماعيل الأمير في توضيح الأفكار 1/ 221، يقول: لا يخفى أنه قال أئمة هذا الشأن في سنن النسائي الكبرى بقولين: الأول: أن شرطه فيها أشد من شرط الشيخين.

الثاني: أن شرطه فيها شرط سنن أبي داود، وهو إخراج حديث من لم يجمع على تركه.

والرأي الثاني هو الصواب والحق، وإن كان في الكبرى قد أخرج عن رجال لم يخرج لهم في المجتبى لكنهم في واقع الأمر على شرطه، وهو في الغالب لا يسكت عن الضعيف بل يبينه بما يستحق، وأظهر في هذا الجانب براعة فائقة وبصيرة نافذة، ومن تتبع كلامه في هذا الجانب تحير من حسن كلامه، كما قال الحاكم النيسابوري، فانظر مثلا قوله في عمرو بن أبي عمرو: ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك تجده في غاية اللطافة، وقوله: سفيان في الزهري ليس بالقوي، وهو سفيان بن حسين، وقوله في محمد بن الزبير الحنظلي: ضعيف لا تقوم بمثله حجة، وقد اختلف عليه في هذا الحديث ثم بدأ يسوق اختلاف رواياته التي اضطرب بها مبررا دليله على ذلك، انظر المجتبى 7/ 28.

وهو في صنيعه هذا قد فاق أصحاب الكتب الستة؛ لأن الإمام البخاري لا يعرج على ذلك، وأما مسلم: فيُعنَي بالأسانيد لزيادات في ألفاظ المتون. وأما أبو داود: فكانت عنايته مُنْصَبَّةً على إخرج أحاديث الأحكام، وكفى.

ص: 30

قال الجامع عفا الله عنه: وفي هذا نظر فإن أبا داود كلامه على الأحاديث المعللة كثر من كلام النسائي فيها، بل الأمر الذي فاق فيه النسائي عليه تشدده في الرجال وانتقاء الأحاديث، فتأمل.

قال: وأما الترمذي: فكتابه فيه الكثير من الصنعة الحديثية، وبعض البيان للعلل مع بيان مذاهب الفقهاء، إلا أنه أخرج عن رجال تحاشى النسائي، وأبو داود الإخراجَ لهم.

وأما النسائي: فيُعنَى بكل ذلك، وَيُبَيِّن العلل، ويُبْرزُ أوهامَ الحفاظ الأعلام، فتجد في كتابه ما لا تجده في غيره من هذا الجانب، والجوانب الأخرى، لا يقصر عنهم فيها، وإليك بعض الأمثلة: يقول: أخبرنا محمَّد بن المثنى، قال: حدثنا الأنصاري، قال: حدثنا محمَّد بن عمرو، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، قال: نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: آية 93] الآية كلها بعد الآية التي نزلت في الفرقان بستة أشهر. قال أبو عبد الرحمن: محمَّد بن عمرو لم يسمعه من أبي الزناد. أخبرنا محمَّد بن بشار عن عبد الوهاب، قال: حدثنا محمَّد بن عمرو، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد في قوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} .. قال نزلت هذه الآية بعد التي في الفرقان بثمانية أشهر {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: آية 68]، قال أبو عبد الرحمن: أدخل أبو الزناد بينه وبين خارجة مجالد بن عوف.

أخبرنا عمرو بن علي، عن مسلم بن إبراهيم فقال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن مجالد بن عوف، قال: سمعت خارجة بن زيد بن ثابت يحدث عن أبيه، أنه قال: وساق الحديث.

ص: 31

وبيانه للعلل جعله يتكلم كثيرا في الجرح والتعديل الذي تلقفه الأئمة من بعده فاعتمدوه وجعلوه حجة في التعديل أو التجريح، فإذا أخذت كتابا من كتب الرجال، فقلما تجد رجلًا إلا وقد أبدى فيه رأيه، نقلوا ذلك من سننه، ومن كتبه الأخرى، وإنهم ليجعلون تعديله حجة، وتوثيقه معتمدًا، وكذلك جرحه؛ لأنه كان في غاية التحري والدقة، حتى إن قصته مع أحمد بن صالح المصري التي لم يوافقه عليها الجمهور قالوا عن ذلك: إن كلامه حقّ لكنه من باب عين السخط تبدي المساويا، وذلك مغمور في فضائل أحمد بن صالح المصري، وفي هذا يقول أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: قلت: النسائي إمام حجة في الجرح والتعديل، وإذا نسب مثله إلى مثل هذا كان وجهه: أن عين السخط تبدي مساوئ لها في الباطن مخارج صحيحة تَعْمَى عنها بحجاب السخط، لا أن ذلك يقع من مثله تعمدا لقدح يعلم بطلانه، وذلك أن أحمد بن صالح كانت آفته الكبْر وشَراسَة الخلق، قال المحقق المذكور: وأقول: لو كان ذلك بغير حق لكان مغمورا في بحر فضائل أبي عبد الرحمن رحمه الله؛ لأن الإنسان مهما بلغ لا يمكنه الانسلاخ من بشريته.

قال الجامع: قلت في هذا الكلام نظر، إذ لو تبين أن النسائي جرحه وهو يعلم كونه بغير حق لارتفعت الثقة عنه، إذ لا يؤمن أن يَجرَح كل من غضب عليه بغير ما عليه، وما أبعدَ العلماءَ عن هذا، ولا سيما أهل الحديث، بل الصواب ما أول به أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى. فتأمل. والله أعلم.

وقد قيل: إن النسائي يخرج عن رجال مجهولين حالا أو عينا، وواقع الأمران إخراجه عن هذه الطائفة لا تغض من قيمة مصنفه خصوصا المجهول الحال، وذلك مذهب لعدد من المحدثين أصحاب

ص: 32

الصحاح: منهم ابن حبان في صحيحه، ومذهبه أن الراوي المجهول الحال إذا روى عن ثقة، وروى عنه ثقة، ولم يأت بما ينكر، اعتبر حديثه صحيحا ووثقه، وكتابه الثقات مليء بهؤلاء. وهو مذهب معقول مقبول ارتضاه غير واحد من الأئمة: منهم أمير المؤمنين الحافظ ابن حجر العسقلاني، وعده من قبيل إدخال الحسن في قسم الصحيح، وذلك اصطلاح ولا مشاحة فيه، كما أن شيوخه المجهولي الحال والعين كان ابن حجر العسقلاني يرتضي رواية النسائي عنهم توثيقا، وتعديلا، ورفعا للجهالة عنهم، انظر مثلا ترجمة أحمد بن يحيي بن محمَّد بن كثير الحراني تجده يقول مستدركا على الذهبي في قوله: لا يعرف. قلت: بل يكفي في رفع جهالة عينه رواية النسائي، عنه، وفي التعريف بحاله توثيقه له. وقال في بذل الماعون في فضل الطاعون، عن أبي بلج يحيى الكوفي الكبير: يكفي في تقويته توثيق النسائي، وأبي حاتم مع تشددهما. بل إن الحافظ صلاح الدين العلائي يقول تعليقا على حديث "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" وفي إسناده عبد الملك بن زيد، وعبد الملك بن زيد هذا قال فيه النسائي: لا بأس به، ووثقه ابن حبان، فالحديث حسن إن شاء الله تعالى، لا سيما مع إخراج النسائي له فإنه لم يخرج في كتابه منكرا ولا واهيا، ولا عن رجل متروك، وفي ميزان الاعتدال في ترجمة أحمد بن عبد الرحمن البسري أبي الوليد، وقد أخرج له الترمذي والنسائي، وابن ماجه. قال الخطيب: وأبو الوليد ليس حاله عندنا ما ذكر الباغندي عن السكري، بل كان من أهل الصدق حدث عنه النسائي وحسبك به. ومن انتقاء النسائي وشدة تحريه استنتج التهانوي نتيجة هامة، حيث قال في كتابه قواعد في علوم الحديث: وكذا من حدث عنه النسائي فهو ثقة، وتقيد هذه القاعدة في حالة عدم تضعيفه هو له. وقال أيضًا: وكذا من أخرج له النسائي في المجتبى، وسكت

ص: 33

عنه فهو حجة.

وبالجملة فالمجتبى، ويلحق به السنن الكبرى أقل الكتب الستة بعد الصحيحين حديثا ضعيفًا، على أنه إذا جردت السنن من الأحاديث التي ضعفها مصنفها لبقيت كلها صحيحة، ولا تنزل عن درجة الصحيحين، وإن كنا لا ننسى أن المجتبى قد عده كثير من العلماء بهذه المرتبة، كما أنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه ذكر حديثا موضوعا في سنن النسائي إلا ما كان من صنيع ابن الجوزي، فإنه ذكر حديثا واحدا، وقد رد عليه، بينما ذكر عدة أحاديث من بقية السنن: أربعة من سنن أبي داود، وثلاثة وعشرين من الترمذي، وستة عشر من ابن ماجه، وحديثًا واحدا من صحيح مسلم، وهو ما رواه من طريق أبي عامر العقدي، عن أفلح بن سعيد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن طالت بك مدة أوشك أن ترى قوما يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته، في أيديهم مثل أذناب البقر".

ومنها حديث في صحيح البخاري من رواية حماد بن شاكر، وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، "كيف بك يا ابن عمر إذا عمرت بين قوم يخبئون رزق سنتهم".

‌مقصد النسائي من سننه

قد كتب محقق عمل اليوم والليلة في هذا الموضح كلاما نفيسا يتلخص فيما يلي: كان قصد النسائي رحمه الله تعالى في سننه جمع ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يمكن أن يستدل به الفقهاء، ولكنه لم ينس نفسه كمحدث بحت، بل جمع بين الفقه والحديث، وسار على الطريقة التي تجمع بين الاستدلال والإسناد، ورتب الأحاديث على الأبواب، ووضع لها عناوين تبلغ من الدقة منزلة بعيدة، ومن التفصيل سعة كبيرة وسلك

ص: 34

طريقة جمع الأسانيد في مكان واحد كصنيع الإمام مسلم بن الحجاج ليبرز ما فيها فكان في حقيقة الأمر جامعا بين طريقتي البخاري ومسلم، ومن هنا جاء تفضيل من فضل مسلما على البخاري لأن البخاري يفرق الحديث الواحد في أماكن متعددة، وفي غير مظانه بما يعسر الكشف عنه، ولا يبرز الفوائد والإسنادية، والعلل الحديثية، ومسلم بعكسه يسوق الحديث سردًا دون تبويب.

فالجانب الفقهي في سننه يتجلى من خلال النقاط التالية:

منها: أنه يكثر التفريعات والتفصيلات في الباب الواحد بحثا عن السنن حتى إن القارئ ليشعر أنه يتناول كتابا يخرج للفقهاء آراءهم، ويبين مستندهم، حتى في أدق الأشياء، فخذ مثلا كتاب السهو تجد أبوابه كالتالي: التكبير إذا قام من الركعتين، باب رفع اليدين في القيام إلى الركعتين الأخريين، باب رفع اليدين للقيام إلى الركعتين الأخريين حَذْوَ المنكبين، باب رفع اليدين وحمد الله، والثناء عليه في الصلاة، باب السلام بالأيدي في الصلاة، باب رد السلام بالإشارة في الصلاة، النهي عن مسح الحصى في الصلاة، باب الرخصة فيه مرة، النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة .. الخ.

وهكذا فإنك تعيش مع تفريعات الفقهاء، ودقائقهم، وهذا ما دعاه إلى تكرير الحديث عدة مرات أحيانا، وعلى سبيل المثال فقد كرر حديث النية ست عشرة مرة، حتى قيل: إنه أكثر الكتب تكرارًا للأحاديث.

قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الكلام نظر لا يخفى، بل البخاري، أكثر تكرارا، والله أعلم.

ومنها: أنه ما أخلى كتابه من النقل عن الفقهاء، وإن كان ذلك قليلًا

ص: 35

كما في 8/ 315 حيث ينقل عن مسروق فتوى في الهدية، والرشوة، وفي شرب الخمرة، وكما في 8/ 334 حيث ينقل عن إبراهيم النخعي وغيره، وفعل ذلك في مواضع أخر من كتابه.

ومنها: أنه يقتصر في أحيان كثيرة على موضع الشاهد من الحديث، وهي نزعة إلى الفقه أقرب منها إلى الحديث.

ومنها: أنه يسوق الأحاديث المتعارضة في الباب إذا صحت عنده ليقيم الدليل على صحة العملين كما فعل في الأسفار بالفجر، والتغليس به، انظر 1/ 271 وكما في قراءة البسملة، وترك قراءتها، انظر 1/ 134، وهما مسألتان شغلتا فقهاء الشافعية والحنفية، وغيرهما زمنا طويلا، وسودت فيها دواوين، ومصنفات كثيرة حتى يومنا هذا.

ومنها: أنه ينقل لنا صورة كتب فقهية في بعض الموضوعات مثل المزارعة، والشركات والتدبير، والمكاتبة، وغيرها، بعيدة تماما عن المنهج الحديثي، وهي عمل فقهي محض. من ذلك مثلا: قوله: قال أبو عبد الرحمن: كتابة مزارعة على أن البذر والنفقة على صاحب الأرض، وللمزارع ربع ما يخرج الله عز وجل منها. هذا كتاب كتبه فلان بن فلان بن فلان في صحة منه، وفي جواز أمر، لفلان بن فلان إنك دفعت إليَّ جميع أرضك التي بموضع كذا في مدينة كذا مزارعة، هي .. وساق تتمته في صفحتين كبيرتين على الطريقة الفقهية الدقيقة، انظر 7/ 52، كما أنه تحدث عن أنواع الشركات: العنَان، والمفاوضات، والأبدان ودَوَّن لنا صورة عقود كتابة هذه الشركات، ثم دَوَّن لنا عقد التفريق بين الزوجين، وصورة عقد كتابة المملوك، وتدبيره، وعتقه، وهي فوائد عظيمة تشكل معالم هادية أمام تطور الفقه الإسلامي.

ص: 36

وبالجملة فسننه سفر عظيم جمع معظم ما يتعلق بالحياة الدينية والدنيوية.

وأما الجانب الحديثى فيتجلى في الأمور التالية:

منها: أنه يعتني ببيان الخلافات التي في الأسانيد، والمتون، فيتبين بذلك ما هو الراجح من تلك الروايات، وهذا من الفوائد المهمة للحديثي.

ومنها: نقده للمتون التي ظاهرها الصحة، وتعليله لها، فمثلا في 3/ 46 يقول: قال أبو عبد الرحمن: أنبانا قتيبة بهذا الحديث مرتين، ولعله أن يكون قد سقط عليه منه شيء. وفي 6/ 170 يقول: هذا

خطأ، والصواب مرسل. ويكثر من هذه الصيغة في ثنايا كتابه.

ومنها: تبيينه للأسماء والكُنَى التي تلتبس في الأسانيد، وهذه قد

أكثر منها الترمذي في جامعه، وكذلك النسائي، فإنه قد ضرب فيها بحظ وافر مثلا في 5/ 49 يقول: قال أبو عبد الرحمن: أبو عمار: اسمه عَريب

(1)

بن حُمَيد، وعمرو بن شرحبيل يكنى أبا ميسرة، وأمثال هذا كثير.

ومنها: محافظته على إيراد الأحاديث المسندة، فيندر أن تجد فيه معلقا، وهذا منهج الإمام مسلم، بخلاف البخاري فقد أكثر من المعلقات، والموقوفات، والمقاطيع.

ومنها: نثره للجرح والتعديل عقب الأسانيد مبينا حال بعض الرواة، ويشاركه في هذا أبو دواد، وأما الترمذي فقد أكثر منه.

ومنها: أنه استعمل كثيرا من الاصطلاحات الحديثية السائدة فيما بين المحدثين، وعقَّبَ بها على الأحاديث، ولهذا فائدة هامة جدا، إذ تعطينا

(1)

بفتح العين المهملة وكسر الراء المهملة، وحميد بصيغة التصغير كما في التقريب.

ص: 37

تصورا عن مصطلحات القوم، ومن أهم ما استعمله من ذلك: حديث منكر، غير محفوظ، ليس بثابت، حديث صحيح، محفوظ، خطأ فاحش، مرسل، مسند، إسناده حسن، وهو منكر، إلى غير ذلك.

ومما ينبغي أن يتنبه له أن النسائي جمع كتابه من أصول مكتوبة، كما

يتبين ذلك من خلال كلامه في سننه، فمثلا يقول: في كتاب النكاح الباب 23، الحديث 3246. قال أبو عبد الرحمن: وجدت هذا الحديث في موضع: عن يزيد بن كيسان، أن جابر بن عبد الله، والصواب أبو هريرة.

‌المسألة الرابعة في بيان أعلى ما وقع للنسائي من الأسانيد وأنزلها

اعلم أنه لما تأخر وقته فاته كثير من الشيوخ الذين أخذ عنهم أصحاب الأصول الخمسة أمثال يحي بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ونحوهم، ولهذا لم يقع له ما وقع لغيره من الثلاثيات، وهو أن يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وسائط، كما وقع للبخاري وهي (23) حديثا، والترمذي، حديث واحد، وابن ماجه خمسة أحاديث، غير أنها من طريق جُبَارَة بن المُغَلِّس، وهو ضعيف، كذبه ابن معين، وكذا ضعفه غيره، إلا ابن نمير، قال: صدوق. فأما المصنف فأعلى ما وقع له الرباعيات، وأنزله العشاريات، وهي أن يكون بينه وبين النبي- صلى الله عليه وسلم عشرة وسائط

(1)

.

(1)

مقدمة تحقيق عمل اليوم والليلة ص 54 - 56.

ص: 38

‌المسألة الخامسة في السنن الكبرى

كتب الأستاذ عبد الصمد شرف الدين مصحح السنن الكبرى في مقدمة تصحيحه كلاما نفيسا يتعلق بهذا الكتاب، أحببت إيراد خلاصته لنفاسته:

قال: لقد اختلف أقوال الناس في السنن الكبري اختلافا يتجاوز حد المعقول، واتبعوا فيها الظن وخرصوا حتى أصبحت كأسطورة لها، وذلك على ما يظهر لندرة نسخها أو لعدم اطلاعهم عليها، ولهذا اضطربت آراؤهم في حقيقة الفرق بينها وبين ما هو المجتبى منها.

فأما الآن وقد حضرت أمامنا بحمد الله وتوفيقه هذه النسخة منها، بل حضر معها نسخة المجتبى يمكننا المعرفة التامة بها، والمقابلة الفاصلة بينها وبين الصغرى.

فمنهم من يظن أن أحاديث السنن الكبرى ليست كلها صحيحة، وأن فيها ما هو معلول كما راجت تلك الرواية الركيكة الحاكية بأن مؤلفها لما صنفها أهداها لبعض الأمراء فسأله أكل ما فيها صحيح؟ فقال: لا، فقال: جَرِّدْ لي منها الصحيح، فعمل له المجتبى وكفى بها كذبا وزورا أنها رواية لا إسناد لها. وكيف يتسنَّى لهؤلاء الظانين بهذا الإمام الفذّ هذا الظن، وقد ذكر الحافظ أبو القاسم ابن عساكر بإسناده إلى أبي عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن محبوب الرملي (ت 357) بمكة يقول: سمعت أبا عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي يقول: لما عزمت على جمع كتاب السنن "وهي الكبرى" استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشيء فوقعت الخيرة على تركهم، فنزلت في جملة من الحديث كنت أعلو فيه عنهم اهـ.

ص: 39

وهذا كما حكى الدارقطني (ت 385) قال: سمعت أبا طالب "أحمد ابن نصر" الحافظ (ت 323) يقول: من يصبر على ما يصبر عليه أبو عبد الرحمن النسائي؟ كان عنده حديث ابن لهيعة "يعني عاليا عن شيخه قتيبة عن ابن لهيعة" فما حدث بها. اهـ. فكان لا يرى أن يحدث بحديث ابن لهيعة مع كثرته لاختلاف الناقدين فيه.

‌المسألة السادسة في ذكر رواة السنن عن النسائي

روى السنن عن النسائي رحمه الله تعالى كثيرون ذكر الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته منهم عشرة: منهم ابنه عبد الكريم، وأبو بكر أحمد بن محمَّد بن إسحاق بن السني (ت 364) وأبو علي الحسن ابن الخضر الأسيوطي (ت 361) والحسن بن رشيق العسكري (ت 375) وأبو القاسم حمزة بن محمَّد بن علي الكناني (ت 357) وأبو الحسن محمَّد بن عبد الكريم بن زكريا بن حيويه (ت 366) ومحمد بن معاوية بن الأحمر (ت حوالي سنة 358) ومحمد بن القاسم الأندلسي (ت 327) وعلي بن أبي جعفر الطحاوي

(1)

وأبو بكر أحمد بن محمد بن المهندس (ت 385).

وزاد محقق عمل اليوم والليلة: أبا علي الحسن بن بدر بن هلال، وأبا الحسن أحمد بن محمد بن أبي الشام إمام المسجد الجامع بمصر، وأبا العصام، والحسين بن جعفر الزيات

(2)

.

قال: وإن كان الأمر في الواقع لا يحصر؛ لأن الرواة عن النسائي وتلامذته كثيرون جدًا ولكن هؤلاء اشتهروا بروايتها، وإقرائها،

(1)

لم أجد تاريخ وفاته.

(2)

وزاد بعضهم: عبد الله بن الحسن أبا محمَّد المصري، وأبا الحسن علي بن الحسن الجرجاني، وأبا الطيب محمَّد بن الفضل بن العباس، وأبا القاسم مسعود بن علي بن مروان البجاني

ص: 40

وسنذكر ترجمة أشهرهم لما لهم من وثيق الصلة بالموضوع:

1 -

ابن السني

هو أبو بكر أحمد بن محمَّد بن إسحاق بن إبراهيم الدِّينَوَريّ، روى عن النسائي، وأبي خليفة الجُمَحي، وطبقتهما، ورحل، وكتب الكثير، ولكنه لازم النسائي وتخرج به، وهو حافظ إمام ثقة مصنف مشهود له بالفضل والضبط، رَوَى عنه كثيرون، وعلى رأسهم أحمد بن الحسين الكسار الذي نقل عنه سنن النسائي، كما رَوَى عنه أحمد بن عبد الله الأصفهاني، ومحمد بن علي العلوي، وعلي بن عمر الأسدابادي، وغيرهم.

ولابن السني مصنفات عديدة في الحديث والسنن:

منها: عمل اليوم والليلة، وكتاب القناعة، والإيجاز في الحديث، والطب النبوي، وفضائل الأعمال، وتأليف في رواية الإخوة بعضهم عن بعض، والصراط المستقيم

(1)

.

توفي ابن السني سنة 364 هـ نص على ذلك الذهبي وغيره، قال ابنه أبو علي الحسن كان أبي رحمه الله يكتب الأحاديث فوضع القلم في أنبوبة المحبرة ورفع يديه يدعو الله عز وجل فمات رحمه الله تعالى.

روى ابن السني المجتبى عن النسئي، وعنه القاضي أحمد بن الحسين الكسار، ورواها عن الكسار أبو محمَّد عبد الرحمن بن الحسن الدُّوني، وعنه انتشرت في المشرق. وسيأتي عن الذهبي أن ابن السني هو الذي اختصر المجتبى عن الكبرى والردّ عليه.

(1)

ذكر في مقدمة تحقيق عمل اليوم والليلة للمصنف المطبوع منها والمخطوط، ومحل وجودها ص 61 - 62.

ص: 41

2 -

الحسن بن رشيق العسكري

هو الإمام الحافظ مسند بلده أبو محمَّد العسكري المصري، حدث عن خلق كثير على رأسهم النسائي، وروى عنه الحفاظ الكبار مثل الدارقطني، وعبد الغني الأزدي، وخلق كثير من المصريين والمغاربة، ولد في صفر 283 وتوفي سنة 370، قال أبو القاسم الطحان تلميذه: روى عنه خلق لا أستطيع ذكرهم فما رأيت عالما كثر حديثا منه.

3 -

حمزة بن محمد الكناني

هو الحافظ الزاهد العالم محدث مصر أبو القاسم حمزة بن محمَّد بن علي بن العباس أحد أئمة الشأن ولد سنة 275 وسمع النسائي، والحسن ابن أحمد بن الصيقل، وعمران بن موسى بن حميد الطيب، وكثر التَّطواف، وجمع، وصنف. وروى عنه أبو عبد الله بن منده، وعبد الغني بن سعيد الأزدي، والدارقطني، وغيرهم. وهو ثقة ثبت بصير بالحديث وعلله، مقدم في ذلك، ولم يكن للمصريين في زمانه أحفظ منه، قال الحاكم: وحمزة المصري على تقدمه في معرفة الحديث كان أحد من يذكر بالزهد والورع والعبادة.

وقال الحافظ عبد الغني الأزدي: كل شيء لحمزة ففي سنة خمس: ولد سنة 275 وأول ما سمع سنة 295 ورحل سنة 305.

وقال ابن عبد البر: سمعت محمَّد بن أسد، سمعت حمزة الكناني يقول: خَرَّجت حديثا واحدا عن النبي صلى الله عليه وسلم من نحو مائتي طريق فداخلني لذلك من الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك، فرأيت يحيى بن معين في المنام فقلت: يا أبا زكريا خرَّجت حديثًا واحدًا من مائتي طريق فسكت عني ساعة ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} . توفي حمزة سنة 357. قال علي بن عمر الحراني

ص: 42

سمعت حمزة بن محمَّد وجاءه غريب فقال: وصلت عساكر المعز إلى الإسكندرية فقال: "اللهم لا تحيني حتي تريني الرايات الصفر" فمات حمزة ودخلوا بعد موته بثلاثة أيام. وله آراء في هذا الفن تناقلها العلماء عنه، ونسبوها إليه وارتضوها، من ذلك قوله: في سويد بن غفلة لا يصح له عن علي سوى حديث واحد، هو حديث الخوارج. أما روايته للسنن الكبرى فهي رواية كاملة ينقصها كتاب الخيل، والطب فقط. ورواها عنه أئمة أعلام منهم:

أبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن يحيى بن مفرج، وأبو محمَّد عبد الله ابن محمَّد بن أسد الجهني، وأضاف لها كتاب الخيل عن أبي هريرة عن أبي العصام عن النسائي، وكتاب الطب عن عبد الكريم بن الإِمام النسائي عن أبيه. وأبو القاسم أحمد بن محمَّد بن يوسف المعافري. وأبو الفرج محمَّد بن عمر بن محمَّد بن إبراهيم الصوفي المعروف بالحطاب. وأحمد ابن فتح بن عبد الله بن التاجر المعافري، وقد روي عنه كتاب الخصائص

(1)

.

4 -

أبو الحسن ابن حيويه

هو أبو الحسن محمَّد بن عبد الله بن زكريا بن حيوة النيسابوري، ثم المصري القاضي، سمع بكر بن سهل الدمياطي، والنسائي، وطائفة، توفي سنة 366 في شهر رجب، وهو في عشر التسعين. كان من الحفاظ الثقات المصنفين، له جزء من وافقت كنيته كنية زوجته من الصحابة، رواه عنه أبو الحسن علي بن منير. في منزله سنة 366 ويوجد في المكتبة الظاهرية.

(1)

انظر فهرست ابن خير الإشبيلي، ص 116.

ص: 43

5 -

ابن الأحمر

هو محدث الأندلس محمَّد بن معاوية بن عبد الرحمن أبو بكر الأموي مولاهم القرطبي، المرواني المعروف بابن الأحمر. روى عن عبيد الله ابن يحيى الليثي، وخلق كثير، وفي رحلته إلى المشرق عن النسائي والفريابي، وأبي خليفة الجمحي، ودخل الهند للتجارة، وقيل للاستشفاء من علة فغرق له ما قيمته ثلاثون ألف دينار، ورجع فقير المال، لكنه ملأ العيبة من العلم، والمصنفات فقد رجع بمصنف النسائي الكبير، وعنه انتشر في الأندلس، وبث في الأندلس حديث أبي خليفة الجمحي، كما حمل معه كتاب جعفر الفريابي آداب الإسلام، وعنه رَوَىَ هذا الكتاب، وتمكن هو من الحديث تمكنا قويا فصنف مسندا أثنى عليه ابنُ خير في فهرسته، وقال عنه: فيه من الحديث المسند أربعة آلاف حديث، وثلاثة وثلاثون حديثا، ومن الصحابة ثلاثمائة وثلاثة عشر، ومن النساء ثلاث وأربعون امرأة، وقد ألف تلميذه ابن الحجام "يعيش ابن سعيد بن محمد الوراق" ت 393 مسند حديث ابن الأحمر بأمر الحكم المستنصر.

واشتهر من الرواة عنه للسنن الكبرى أعلام منهم:

أبو محمَّد الباجي، وأبو عثمان سعيد بن محمَّد القلاس، وأبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث، وأبو بكر محمَّد بن مروان بن زهر الإيادي، وروايته تنقص كتاب الخصائص، والاستعاذة، ومناقب الصحابة، وقدره أربعة أجزاء حديثية، والنعوت جزء، والبيعة جزء، وثواب القرآن جزء، والتعبير جزء، والتفسير خمسة أجزاء، وتوفي ابن الأحمر حوالي سنة 358، وقد قيل: إنه أول من أدخل سنن النسائي إلى الأندلس.

ص: 44

6 -

ابن سيار الأموي

هو محمَّد بن قاسم بن محمَّد بن قاسم بن محمَّد بن سيار الأموي مولاهم أبو عبد الله البياني القرطبي، الحافظ الإمام أكثر عن أبيه، وبقي ابن مخلد، ومحمد بن وضاح، ومطين، والنسائي. روى عنه ولده أحمد بن محمَّد، وخالد بن سعيد، وسليمان بن أيوب، وآخرون، وكان من أئمة هذا الشأن بالأندلس، ومن ثقات الأعلام رأسا في عقد الوثائق والشروط، قال عنه تلميذه أبو محمَّد الباجي: لم أدرك بقرطبة

من الشيوخ أكثر حديثا منه، وقد كان سماعه من النسائي، هو، وابن الأحمر واحدًا كما نص على ذلك ابنُ خير في فهرسته، وقد توفي في آخر عام 327.

وقد جمع أبو محمَّد الباجي تلميذه بين سماعه وسماع ابن الأحمر في السنن، ووحده في نسخة واحدة هي التي كتب لها الانتشار في الغرب الإسلامي.

وأبرزُ الرواة عن محمَّد بن قاسم أبو محمَّد الباجي، وأبو بكر عباس ابن أصبغ الحجازي، وروايته تزيد على رواية ابن الأحمر كتاب الاستعاذة، وخصائص علي، وتتفق معها في سائر الكتب.

7 -

ابن خضر

هو أبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي، وهو من ثقات المصريين، وحفاظهم، توفي سنة 361.

8 -

ابن المهندس

هو أبو بكر أحمد بن محمَّد بن إسماعيل بن المهندس محدث ديار مصر كان ثقة تقيا، وتوفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.

ص: 45

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال المحقق المذكور تبعا للحافظ أن ابن المهندس ممن روى عن النسائي السنن الكبرى إلا أن الذهبي خطأ من قال بذلك في سير أعلام النبلاء 16/ 462 في ترجمته قال: وأخطأ من قال: سمع من النسائي اهـ. والله أعلم.

وقال مصحح السنن الكبرى الأستاذ عبد الصمد بعد ذكر ما ذكره الحافظ ابن حجر من رواة السنن عن النسائي: ما حاصله: فإذا استثنينا الحافظ ابن السني، المختص براوية السنن الصغرى عن النسائي، فعدد الذين رووا عنه السنن الكبرى تسعة، منهم خمسة من أجلة الحفاظ المحدثين الذين قد اشتهروا بروايتهم السنن الكبرى عن النسائي، ثلاثة مصريون، وهم حمزة بن محمَّد الكناني، والحسن بن علي بن الخضر الأسيوطي، وأبو الحسن بن حيويه، واثنان أندلسيان: وهما: ابن الأحمر، وابن سيار. أهـ باختصار ص 22.

‌المسألة السابعة في ذكر عناية كبار الحفاظ بالسنن الكبرى

قد اعتنى العلماء الحفاظ بالسنن الكبرى فعملوا لها الأطراف، فمن أول من اعتنى بذلك محدث الشام أبو القاسم علي بن محمَّد بن عساكر (ت 571) فقد صنف كتابه في أطراف السنن الأربع لأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وسماه الإشراف على معرفة الأطراف، وقد ضمن فيه كل حديث خرجه النسائي سواء كان في سننه الكبرى أو الصغرى.

ثم جاء الحافظ أبو الحجاج المزي (ت 742) فتبع ابن عساكر في ترتيب كتابه تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف في أطراف الكتب الستة، فرتبه على كتاب أبي مسعود الدمشقي (ت 401) وكتاب خلف

ص: 46

الواسطي (ت 401 أيضا) في أحاديث الصحيحين، وعلى إشراف ابن عساكر في كتاب السنن الأربعة، بل قد أضاف إلى ذلك ما وقع له من الزيادات التي أغفلها ابن عساكر، لا سيما من أحاديث سنن النسائي، وأشار إليه بقوله: في الرواية، ولم يذكره أبو القاسم، وما شابهه.

قال المصحح عبد الصمد: ونسخة الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير (ت 774) تلميذ المزي وصهره من تحفة الأشراف تعد أكمل النسخ لهذا الكتاب بما فيها من زيادات كثيرة من أحاديث الكبرى رواية ابن الأحمر.

أما الحافظ ابن كثير فقد نوه بكتابي السنن كليهما حيث يقول تحت ترجمة النسائي (البداية ج 11 ص 123) في وفيات سنة 303 وقد جمع السنن الكبير، وانتخب منه ما هو أقل منه حجما بمرات، وقد وقع لي سماعهما اهـ.

ثم جاء أخيرًا الحافظ المتقن الماهر ابن حجر (ت 852) فعظم من شأن الحافظ المزى رحمه الله على تأليفه كتاب الأطراف لأحاديث الصحاح الستة، ومنها السنن الكبرى للنسائي. وكتب تعاليقه على أوهام له سماها النكت الظراف على الأطراف قال في مقدمته: ثم وجدت جملة من الأحاديث أغفلها، وخصوصا من كتاب النسائي رواية ابن الأحمر وغيره.

‌المسألة الثامنه في بيان السنن الصغرى المسماة بالمجتبى

اعلم أنه وقع اختلاف بين العلماء في المجتبى هل هي من تصنيف النسائي نفسه، أو من انتخاب ابن السني من السنن الكبرى؟ وقد أشبع الكلام في هذا الموضوع محقق عمل اليوم والليلة، ومصحح السنن الكبرى، بما لا مزيد على تحقيقهما شكر الله سعيهما، وأنا أنقل خلاصة

ص: 47

ذلك، فأقول: قال الأول: ما حاصله: إنه اختلف الناس في هذه المسألة على فريقين: فريق يقول: المجتبى من انتقاء ابن السني، وهو اختصار للسنن الكبرى، وممن قال بهذا الإمام الذهبي، وتبعه على هذا الإمام ابن ناصر الدين، الدمشقي (ت 748) يقول الذهبي في ذلك: والذي وقع لنا من سننه هو الكتاب المجتبى من انتخاب أبي بكر بن السني سمعته ملفقا من جماعة سمعوه من ابن باقا بروايته عن أبي زرعة المقدسي سماعا لمعظمه وإجازة لفوت له محدد في الأصل قال: أنبأنا أبو محمَّد عبد الرحمن بن حمد الدُّونيُّ، قال: أنبأنا القاضي أحمد بن الحسين الكسار، أخبرنا: ابن السني، عنه، وكرر نحو هذا الكلام في غير موضع من كتبه. وأما ابن ناصر الدين فقد تابعه على ذلك، ورأيت عبارته في شذرات الذهب لابن العماد في ترجمة ابن السني إذ قال: قال ابن ناصر الدين: اختصر سنن النسائي وسماه المجتبَى.

وتبعه على هذا أيضًا كما قال المصحح عبد الصمد: تلميذه القاضي تاج الدين ابن السبكي (ت 771) فقال في ترجمة ابن السني من طبقاته 2/ 96 ما نصه: وصنف في القناعة، وفي عمل اليوم والليلة، واختصر سنن النسائي. اهـ.

قال المصحح: وقد أدى بالسبكي هذا الوهم إلى الظن بفقدان السنن الكبرى من الوجود أصلًا، دون الصغرى، فقد نقل السيوطي عنه في مقدمة زَهْر الرُّبَى قوله: سنن النسائي التي هي إحدى الكتب الستة هي الصغرى لا الكبرى، وهي التي يخرجون عليها الرجال، ويعملون الأطراف، وكأن السيوطي يصدقه في هذا حيث قرره ولم يتعقبه بشيء، فقد غلب على السبكي ما زعمه شيخه الذهبي في سنن النسائي، وغاب عنه ما صنعه شيخه الآخر وهو الحافظ المزي رحمه الله حيث عمل أطرافه في تحفة الأشراف على سننن النسائي الكبرى والصغرى معا. اهـ كلام

ص: 48

المصحح بالمعنى. 1/ 31.

وأما الفريق الآخر فيرى أن المجتبى من اختصار النسائي نفسه من السنن الكبرى، وليس لابن السني إلا مجرد الرواية، وعلى هذا جُلُّ العلماء الأعلام، وهو المعروف عند الخاص والعام، وهو الذي ارتضاه

المحقق، والمصحح جزاهما الله تعالى.

قال الجامع: لا أرى غيره عند التحقيق، للأدلة الواضحة الرافعة للنِّزَاع والاختصام، التي ذكرها المحقق والمصحح بدقة وانتظام، وأنا أذكر خلاصتها لتكون لهذا الموضوع مسك الختام:

قال المحقق: بعد ذكر نحو ما تقدم من قول الفريق الثاني: ما نصه: وهو الرأي الذي أصوبه، وأرتضيه لدلائل عديدة كما يلي:

منها: أنه لم يقدم لنا الذهبي دليلًا علي هذا الذي جاءنا به، لا نقلا ولا استنباطًا، وان كان هو من الأعلام لكنه خولف، والوهم لا يخلص منه إنسان.

ومنها: وجود مثبتات على ذلك منها ما نقله ابن خير الإشبيلي (ت 575) بسنده عن أبي محمَّد بن يربوع قال: قال لي أبو علي الغساني رحمه الله: كتاب الإيمان والصلح ليسا من المصنَّف إنما هما من المجتبى له -بالباء- في السنن المسندة لأبي عبد الرحمن النسائي اختصره من كتابه الكبير المصنَّف، وذلك أن أحد الأمراء سأله عن كتابه في السنن كله صحيح؟ فقال: لا، قال: فاكتب لنا الصحيح مجردا فصنع المجتبى، فهو المجتبى من السنن ترك كل حديث أورده في السنن مما تكلم في إسناده بالتعليل، روى هذا الكتاب عن أبي عبد الرحمن ابنه عبد الكريم بن

ص: 49

أحمد، ووليد بن القاسم الصوفي، ورواه عن أبي موسى عبد الكريم من أهل الأندلس أيوبُ بنُ الحسن قاضي الثغر، وغيره .. انتهى كلام ابن خير. قال المحقق: وهذا نص ظاهرٌ في الموضوع، وأبو علي الغساني حافظ ثبت قال فيه الذهبي: كان من جهابذة الحفاظ البُصَراء بصيرا بالعربية واللغة، والشعر والأنساب صنف في ذلك كله، ورحل الناس إليه، وعوَّلوا في النقل عليه، وتصدر بجامع قرطبة، وأخذ عنه الأعلام، ووصفوه بالجلالة، والحفظ، والنباهة، والتواضع والصيانة، ولد في المحرم سنة 427، وتوفي في ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 498. اهـ. تذكرة الحفاظ 4/ 1233.

قال الجامع عفا الله عنه: وقصة النسائي مع الأمير الذي سأله تجريد الصحيح من غيره قد أنكرها مصحح السنن الكبرى، كما أن الذهبي أنكرها وإن اختلف وجه إنكارهما وسيأتي الكلام علي ذلك، إن شاء الله تعالى.

قال المحقق: كما أني وجدت مجلدين من المجتبى قديمين جدا كُتبت عليهما سماعات بين سنة 530 وسنة 561 فيهما نص ظاهر أنها من تأليف النسائي، وقد جاء في صدر أحدهما: الجزء الحادي والعشرون من السنن المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليف أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن بحر النسائي، رواية أبي بكر أحمد بن إسحاق بن السني، عنه. رواية القاضي أبي نصر أحمد بن الحسين بن الكسار عنه. رواية الشيخ أبي محمَّد عبد الرحمن بن محمَّد الدُّوني

(1)

عنه. رواية أبي

(1)

نسبة إلى دون قرية من أعمال دينور وهو من آخر من حدث في الدنيا بكتاب النسائي وإليه كانت الرحلة وتوفي سنة 501 ووصفه في معجم البلدان بأنه رَاويَةُ كتب ابن السني.

ص: 50

الحسن سعد الخير بن محمَّد بن سهل الأنصاري عنه. رواية الشيخ الإمام زين الدين أبي الحسن علي ابن إبراهيم بن نجاد الحنبلي الواعظ.

وفيهما نص ظاهر علي أنها من تأليف النسائي، وابن السني مجرد راوية لها، وإن كان أحد المجلدين قد أكلت أكثره الأرضة فالأخر ما يزال أكثره صالحا واضحًا بخط مشرقي جيد يحمل رقم 5637 بالخزانة الملكية بالرباط وعلى ظهر هذه النسخة كتب بخط قديم، قَدُمَهَا: (قال الطبني: أخبرنى أبو إسحاق الحَبَّال سأل سائل أبا عبد الرحمن

(1)

بعض الأمراء عن كتابه السنن أصحيح كله فقال: لا قال: فاكتب لنا الصحيح مجردا فصنع المجتبي "بالباء" من السنن الكبرى ترك كل حديث أورده في السنن مما تكلم في إسناده بالتعليل وأبو إسحاق الحبال الذي ينقل عنه الطبني هو الحافظ الإمام المتفنن محدث مصر إبراهيم بن سعيد بن عبد الله التجيبي كان من المتشددين في السماع والإجازة يكتب السماع على الأصول، ورعا ثبتا خيرا، وكان يتعاطى التجارة في الكتب، وحصل عنده من الأصول والأجزاء ما ليس عند غيره، وما لايوصف كثرة، ولد سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وتوفي سنة 482، وقد أطال الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمته، والثناء عليه، ومثله السيوطي في حسن المحاضرة.

وكذلك نجد أن ابن الأثير الذي جرد الأصول الخمسة، وضم إليها الموطأ جرد المجتبى، وليس السنن الكبرى، وساق إسناده بالمجتبى، وفيه النص الواضح على أن المجتبى من تأليف النسائي ذاته يقول ابن الأثير: إنه قرأه سنة 586 على أبي القاسم يعيش بن صدقة الفراتي إمام مدينة السلام الذي قرأه علي أبي الحسن. علي بن أحمد بن الحسن بن

(1)

هكذا في هذا الموضع سقط منه ما لا يتم الكلام إلا به

ص: 51

محموية اليزيدي سنة 551 الذي قرأه على أبي محمَّد عبد الرحمن بن حمد بن الحسن الصوفي الدوني سنة 500 في شهر صفر، الذي قرأه على أبي نصر أحمد بن الحسين الكسار بخانكاه "دُونَ" سنة 433، الذي قرأه على ابن السني بالدينور سنة 363، الذي قال:

حدثنا الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله تعالى بكتاب السنن جمعيه

وهذا نص واضح قبل الذهبي بما يزيد على قرن ونصف من الزمن، ونص أبي على الغساني أسبق من هذا كذلك. ولو كان المجتبى من صنع ابن السني لاقتضى الأمر من ابن الأثير أن ينص عليه وأن ينسبه إليه، وقد ذكر هو قصة أمير الرَّملة عندما سأل النسائي عن المصنف أصحيح كله؟ قال: لا، قال: فجرد لنا منه الصحيح فصنع المجتبى.

كما أن ابن السني ذاته نص أنه سمع المجتبى من مصنفه بمصر في أكثر من موضع منه، انظر المطبوع ج 7 ص 171 صدر كتاب الصيد والذبائح، وقد وجدت نسخا مخطوطة ينص على سماعها من النسائي بمصر في صدر المجتبى منها نسخة في الخزانة العامة بالرباَط تحت رقم -1877 - ك و -2408 - ك ونجد كذلك الزيلعي، وهو من معاصري الذهبي ينص في غير موضع من كتابه نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، وفي تخريج أحاديث الكشاف أن السنن الصغرى والكبرى للنسائي، بل أصرح من هذا ما قاله رفيقه في الطلب الحافظ الكبير عماد الدين بن كثير الدمشقي المتوفى سنة -774 - في ترجمة النسائي، وقد جمع السنن الكبير وانتخب ما هو أقل حجمًا منه بمرات، وقد وقع لي سماعهما.

وكذلك الحافظ الكبير أبو الفضل العراقي يَرَى صحة إهدائها لأمير الرملة في القصة المتقدمة، قال السيوطي: ورأيت بخط الحافظ

ص: 52

أبي الفضل العراقي أن النسائي لما صنف الكبرى أهداها لأمير الرملة، فقال: كل ما فيها صحيح؟ فقال: لا، قال: مَيِّزْ الصحيح من غيره، فصنف له الصغرى.

إلا أن المجتبى لم ينتشر إلا من طريق ابن السني، وعنه القاضي أبو الحسن بن الكسار، وعنه الدُّوني، أما الكبرى فقد انتشرف عن الأندلسيين؛ لأنهم رووا عن النسائي في أخريات أيامه. اهـ خلاصة ما كتبه محقق عمل اليوم والليلة. هـ 60، 73.

وأما مصحح السنن الكبرى الأستاذ عبد الصمد شرف الدين، فقال في مقدمة تصحيحه في الكلام في الفرق بين الكبرى والصغرى: ما حاصله: وقبل أن نبحث عن الفرق بينهما يحسن بنا التنبيه على ما وقع فيه بعض الأئمة من الغلط في هذين الكتابين:

فقد نقل الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة النسائي عن مجد

الدين ابن الأثير الجزري صاحب جامع الأصول (ت 606) حكايته لما اشتهر عن النسائي بأن بعض الأمراء سأله عن كتابه السنن كله صحيح؛ فقال: لا، قال: فاكتب لنا الصحيح منه مجردا، فصنع المجتبى، فهو المجتبى من السنن، ترك كل حديث أورده في السنن مما تكلم في إسناده بالتعليل. انظر "جامع الأصول 1/ 116".

هكذا ذكر ابن الأثير هذه الواقعة المزعومة بين أمير مجهول وبين إمام حفاظ الحديث النبوي وحامليه في عصره بدون أي إسناد في إثباتها، وبفرض ثبوتها لم نعهد في التاريخ بأمير من أمراء القوم له هذا الشغف العظيم بصحيح الأحاديث من معلولها، كما لم نعهد بحامل من حملة السنة النبوية يأتمر بأمر من جهلاء الحكام في ترتيب ما يصنفه فيها

(1)

.

وأغرب من ذلك رد الذهبي قول ابن الأثير هذا لا لشدة غرابته، بل لما

(1)

في هذا الكلام نظر لا يخفى. فإن كثيرا من الخلفاء والأمراء في ذلك العصر وقبله كان لهم عناية وشغف بالحديث فلا يستبعد ما ذكر للنسائي، فكتب التاريخ مملوءة بمثل ذلك، كتدوين الزهري للحديث بأمر عمر بن عبد العزيز، وكطلب أبي جعفر المنصور من الإمام مالك أن يصنف في الحديث، فصنف الموطأ. بل أولى ما يعترض به على هذه القصة عدم سند صحيح لها. فتأمل

ص: 53

يعتقده من كون المجتبى ليس من صنع مصنفه، بل من تأليف تلميذ له، فقال بعد سرده رواية ابن الأثير: قلت: هذا لم يصح، بل المجتبى اختيار ابن السني.

وللذهبي نوع عذر في هذا الاعتقاد، إذ أنه لم يطلع قط في عمره على كتاب السنن الكبير للنسائي دون مختصره المجتبى، ومن جهل شيئًا تخرّص فيه. فقد اعترف بهذا بآخر ترجمة النسائي المذكور، فقال: والذي وقع لنا من سننه هو الكتاب المجتبى منه انتخاب أبي بكر بن السني اهـ، ثم ذكر إسناد سماعه إلى ابن السني، ولكنه ختم هذا الإسناد بقوله

أنا أبو محمَّد عبد الرحمن بن حمد الدّوني، قال: أنا القاضي أحمد بن الحسين الكسار، نا ابن السني، عنه. وهذه الخاتمة نفسها تدل على أن الكتاب ليس من تأليف ابن السني، بل من تأليف النسائي، فإنه قال: نا ابن السني، عنه. أي عن النسائي.

وأصرح من ذلك إسناد ابن الأثير لسماعه المجتبى سماعا واحدا كالذهبي، ولم يسمع هو الكبرى أيضا مثل الذهبي، فقال في آخر إسناده: عن أبي محمَّد عبد الرحمن بن حمد الدوني (ت 501) عن القاضي أبي نصر أحمد بن الحسين الكسار الدينوري (ت 432) عن الحافظ أبي بكر أحمد بن محمَّد ابن السني انظر جامع الأصول 1/ 121 - 122. وختمه فقال: عن ابن السني قال: حدثنا الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله بكتاب السنن جميعه، فلا شك في أن ابن السني حدث بكتاب السنن، وهو المجتبى عن الإمام أبي عبد الرحمن النسائي، لا من قبل نفسه. فإذن هو تأليف النسائي، لا تأليف ابن السني، وهو الراوي عن النسائي كتابه الصغير. والحاصل أن الحافظ ابن السني هو الراوي عن النسائي لسننه المجتبى عن السنن الكبرى، ومن طريقه تلقاه المحدثون، أما كونه هو الذي تولى اختصاره بنفسه فمما لا يصح.

هذا خلاصة ما كتبه المصحح في هذا البحث، وهو بحث نفيس جدًا.

ص: 54

‌المسألة التاسعة في الموازنة بين الصغرى والكبرى

كتب المحقق والمصحح في هذا البحث كلاما نفيسا، أبان عن شدة اعتنائهما وتحريهما في هذا الموضوع شكر الله سعيهما، وأنا أنقل خلاصة ما حققاه:

قال المحقق شكر الله سعيه:

تمتاز الكبرى عن الصغرى بعدة أمور، وقد تبين لي ذلك من خلال المقابلة التي أجريتها بين المجتبى المطبوع وبين المجلدين الكبيرين من السنن الكبرى الموجودين في الخزانة الملكية بالرباط تحت رقم 5955، وهي:

1 -

أنه يوجد في الكبرى زيادة كتب ليست في المجتبى، منها: كتاب السير، والمناقب، والنعوت، والطب، والفرائض، الوليمة، التعبير، فضائل القرآن، العلم

الخ. ولا تنقص الكبرى عن المجتبى من الكتب سوى الإيمان وشرائعه، والصلح كما تقدم عن نص أبي علي الغساني، وهذا يعطي للكبرى مَيزَة الكبر والاتساع لتلمَّ بجميع الكتب مما يصح أن يطلق معه عليها المصنّف أو الجامع الآتي تفسيرهما.

2 -

أنه يدخل في الكبرى كتب ألِّفَت مستقلة، ثم ضمها إليها مصنفها، ووضعها في المكان المناسب لها، مثل كتاب فضائل القرآن، فقد نص الزركشي (ت 794) في كتابه البرهان في علوم القرآن أنه ألفه مستقلا.

أما كتابه خصائص علي: فهو مشهور جدا أنه ألفه مستقلا، وقد تقدم سبب تأليفه، في ترجمته، ثم ضمه إلى الكبرى مع فضائل الصحابة الذي ألفه بعد ذلك.

ص: 55

ومثله كتاب التفسير، فقد نص الذهبي على أنه مستقل، ويقع في مجلد وقد روى مع الكبرى، وأما عمل اليوم والليلة، فقد روى عن طريق أبي محمَّد الباجي عن ابن الأحمر، وابن سيار مع الكبرى، ومن طريق بقية الرواة مستقلا.

3 -

أن الكبرى تزيد على الصغري بعدد الأبواب، ومن ثم بعدد الأحاديث، ولنأخذ على سبيل المثال كتاب الصوم نجد فيه أبوابا كثيرة ليست في المجتبى منها: صيام يوم الأربعاء، تحريم صيام يوم الفطر ويوم النحر، وصيام يوم عرفة، والفضل في ذلك. إفطار يوم عرفة بعرفة، التأكيد في صوم يوم عاشوراء، صيام ستة أيام من شوال، صيام الحي عن الميت، صيام المحرم، صيام شعبان، اغتسال الصائم، والسواك للصائم، والسعوط للصائم، القبلة في شهر رمضان، ما يجب على من يجامع امرأته

الخ، وهكذا تزيد الكبرى عن الصغرى بأربعة وستين بابا، ويبدوا أن هذا الكتاب أكثر الكتب زيادات على المجتبى.

4 -

أن كثرة الأبواب تستتبع زيادة في تعليل الأحاديث، وذلك حين يوردها مبينا ما فيها من العلل والوقف والإرسال، وغير ذلك، وهذا غير قليل في الكبرى، وقد تفنن في هذا تفننا عجيبا، ومع هذا فقد نجد في المجتبى كلمة موضحة أو لفظة زائدة في الإسناد أو في المتن ولا نجدها في الكبرى، وإن كان هذا قليلًا، مع وجود أحاديث في المجتبى ليست في الكبرى.

5 -

أنه يستعمل في مطلع إسناده لفظ أخبرنا، وأحيانا أخبرني، وهذا مما انفرد به عن بقية الستة، فإنهم يستعملون حدثنا وغيرها أيضا.

قال الجامع: وسيأتي البحث عن هذه المسألة في هذا الجامع إن شاء الله تعالى.

ص: 56

وأما في الكبرى: فيتوسع حتى أنه يستعمل أحيانا البلاغات كقوله: بلغني عن ابن وهب عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت سليمان بن يسار أنه سمع الحكم بن الزرقي يقول: حدثتني أمي "أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فسمعوا راكبا يصرخ يقول: ألا، لا يصومَنَّ أحد، فإنها أيام أكل وشرب". قال أبو عبد الرحمن: ما علمت أحدا تابع مخرمة على هذا الحديث الحكم الزرقي، والصواب مسعود بن الحكم.

6 -

في المجتبَى زيادة تراجم وأبواب واستنباطات لا توجد في الكبرى كما في ترجمته في كتاب الطهارة في الكبرى: "النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند الحاجة، والأمر باستقبال المشرق والمغرب"، وساق تحته حديثين عن أبي أيوب الأنصاري، وجعل هذه الترجمة في المجتبى ثلاث تراجم:"النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة"، "النهي عن استدبار القبلة عند الحاجة"، "الأمر باستقبال المشرق والمغرب عند الحاجة"، وأضاف في المجتبى حديثا ليس في الكبرى، ولهذا نظائر كثيرة مبثوثة في ثنايا المجتبى لاسيما الكتب الأوَلُ من الطهارة، والصلاة، والحج، والصوم

7 -

أما رجاله ومنهجه في الانتقاء فهو واحد تقريبا في الكتابين، وإن كان في الكبرى بعض رجال ليسوا في المجتبى فهذا تبع لسعة الكتاب وزياداته، ولا يخرجون عن الإطار العام الذي ينتقي به النسائي رجاله، اهـ خلاصة ما كتبه المحقق. وهو بحث نفيس. شكر الله سعيه.

وأما مصحح السنن الكبرى فقد كتب في هذا الموضوع بحثا نفيسا أيضا، وهو قريب مما كتبه المحقق، فنتيجتهما سواء، ولكن هذا عمل تدقيقا عجيبا حيث عمل جدولا للمقابلة بين تراجم الكتابين فأتى بأبدع

ص: 57

مقابلة، جعل تراجم الأبواب من كتاب الطهارة فيهما في جدولين متقابلين مع عد أرقامها فيهما، ووضع عدد الأحاديث الموجودة في كل باب، استنتج من ذلك تنقيح المصنف، وتحسينه في المجتبى حيث إن مَنْ يعيد النظر في تأليفه الأول لا بد من ان يتبين له من المناسبة والتحرير ما لم يظهر له في الأول.

قال في المقدمة في هذا الموضوع: قد اشتمل هذا الجزء على 421 حديثا بما فيه من أحاديث الكبرى وأحاديث من المجتبى مما لاوجود لها في الكبرى.

وهذا تفصيل الأحاديث: 285 حديثًا مشتركًا بينهما، و 32 حديثًا تختص بها الكبرى، و 113 حديثًا تختص بها الصغرى، فالمجموع 421 حديثًا.

فقد ظهر من هذا التفصيل أن عدد الأحاديث الموجودة في الكبرى من كتاب الطهارة 308 حديثا فقط، انتخب المصنف منها 285 حديثًا، وترك منها 23 حديثًا، ولكننا نجد بإزاء ذلك أن المصنف قد أضاف 113 حديثًا إلى ما اجتباه من أصل مصنفه حين صنف المجتبى، ونجد كذلك إضافة زائدة على عدد تراجم الأبواب الموجودة في الكبرى، فعددها في الكبرى 184 بابًا، وفي المجتبى 275 بابًا أي بزيادة 91 بابًا.

ونستنبط من هذه الزيادات أن كتاب المجتبى ليس محدودا على انتخاب من السنن الكبرى فحسب، بل فيه شيء كثير زيد عليها عند الانتخاب، فقد زاد فيه على الأصل كما قد نقص منه.

ص: 58

‌المسألة العاشرة في سبب انتخاب النسائي للصغرى من الكبرى

كتب المصحح في هذا الموضوع بحثًا نفيسًا أحببت إيراده لأهميته.

قال جزاه الله خيرا: إذا أردنا أن نعرف السبب الذي لأجله صنف الإمام النسائي كتابه المجتبى بعد تأليفه السنن الكبرى، فعلينا أن نتتبع تأريخ تصنيف كتب الحديث الستة في عصر المصنف فإن هذه الدراسة ستعيننا في تحقيق هذا السبب، وهذه سنُو وَفَيَات الأئمة الستة بترتيبها الزمني:

البخاري 256

مسلم 261

ابن ماجه 273

أبو داود 275

الترمذي 279

النسائي 303

فصنف النسائي سننه الكبرى في جملة من صنف من هؤلاء المحدثين، وهو آخرهم وفاة، ولهذا تيسر له النظر في مصنفات من تقدمه بعد تصنيفه الأول، وهو الكبرى، وهذا على ما يظهر حمله على تصنيفه الثاني، وهو المجتبى مراعيًا فيه كل ما رآه من المحاسن في تصانيف غيره، وبالأخص الجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله.

ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا لما أجمل القرآن من أحكام الشريعة، كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: آية 44]، التزم أفقه المحدثين الإمام البخاريُّ بإصدار تراجم الكتب والأبواب من صحيحه بآيات من القرآن مهما أمكن، ثم يورد الأحاديث المتعلقة بتلك الآيات بمنزلة التفسير والبيان لمعانيها، وهذا من منتهى فهمه وتفقهه. فكأن الإمام النسائي تفطن لهذا السر، وأدركه،

ص: 59

فأراد تطبيقه في تصنيفه هو في السنن، والظاهر أنه فاتته هذه النكتة عند تصنيفه السنن الكبرى، فأراد التزامها حيث عزم على تصنيفه المجتبى، بل لا يبعد أن يكون مثل هذا الالتزام هو مما حمله على هذا الانتقاء ليجوده ويحسنه في ترتيبه وأسلوبه.

ومن أبرز أمثلته أنه لما جمع السنن الكبرى بدأ بكتاب الطهارة فترجم له بقوله:

"وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة"، وأورد فيها حديث غسل اليدين عند الاستيقاظ تنبيها على أن الطهارة تبدأ بغسل اليدين.

فلما صنف المجتبى فيما بعد بدأ بترجمة من آية من القرآن، هي جامعة لبيان الوضوء والغسل والتيمم، وهي آية المائدة، فقال: تأويل قوله عز وجل {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. وهذا كما ذكر العلامة أبو الحسن محمَّد بن عبد الهادي السندي محشي سنن النسائي، فقال في شرح هذه الترجمة: يريد رحمه الله تعالى أن تمام ما يذكر في كتاب الطهارة في هذا الكتاب بمنزلة باب الطهارة، أو كتاب الطهارة في غيره، وتمام الأبواب المذكورة في الطهارة داخلة في هذه الترجمة اهـ. قلت: ولهذا لم يصدر هذا الكتاب بعنوان كتاب الطهارة، اكتفاء بهذه الترجمة الوافية الشاملة.

وللمصنف في صنيعه هذا أسوة حسنة في الإمام البخاري رحمه الله المتقدم عليه، حيث بدأ كتاب الطهارة من صحيحه بقوله: كتاب الوضوء، باب ما جاء في قول الله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية.

ولما فرغ المصنف مما أراد انتقاءه وإضافته وتهذيبه من السنن الكبرى من كتاب الطهارة، وما ذكر من الأبواب والأحاديث كانت كلها بمنزلة البيان

ص: 60

لآية المائدة بدأ بما سماه "كتاب المياه" من المجتبى، وأتبعه بقوله: قال الله عز وجل: "وأنزلنا من السماء ماء طهورا"

الخ.

فوضع هذا الكتاب لبيان أحاديث تتعلق بأحكام المياه، وصدره بآيات من القرآن تنبيها على أن الأحاديث المذكورة في الكتاب بمنزلة البيان لهذه الآيات وأمثالها، وإشارة إلى أن غالب أحاديث الأحكام بيان وشرح لآيات من القرآن، نبه على ذلك أيضا السندي رحمه الله.

ثم أتبع كتاب المياه هذا بكتاب الحيض والاستحاضة، وكتاب الغسل، والتيمم، كلاهما من المجتبى. وهذا مما يطلعنا على بعض تخطيطات المصنف ومقاصده في وضع كتابه الجديد وتسميته بالمجتبى، فإن هذا لاسم يطابق المسمى كل المطابقة، والمجتبى من كل شيء نبه وخلاصته الممتازة، كما قال تعالى في خليله صلى الله عليه وسلم {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121].

‌المسألة الحادية عشرة في الكلام في المحذوف هل كله معلول أم لا؟

كتب المصحح في هذا الموضوع كلامًا حسنًا أيضا، ودونك خلاصة ما كتبه:

قال: بقي الكلام على أبواب وأحاديث في السنن الكبرى حذفها المصنف عن الصغرى، هل كل ذلك لعلة من العلل فيها، أوله أسباب غير ذلك أيضا؟ فجوابه أن نقول: إن وجود العلة فيها، أوفي بعضها هو سبب من الأسباب لحذفها، ولكن ليس ذلك السبب وحده بل هناك أسباب أخرى كما يتبين بعدُ.

وقد تقدم عن ابن الأحمر راوي السنن الكبرى عن النسائي أنه قال:

ص: 61

إن كتاب السنن كله صحيح وبعضه معلول، إلا أنه لم يبين علته، والمنتخب المسمى بالمجتبى صحيح كله. اهـ. فهذا الكلام يدل على أن في الكبرى أحاديث معلولة وهي مما أسقطها. فمن الأحاديث المعلولة التي أسقطها من المجتبى على سبيل المثال من كتاب الطهارة أحاديث المتغوطين، تحت ترجمة "النهي للمتغوطين أن يتحدثا" فقد أورد فيه ثلاثة أحاديث: ونصها:

40 -

أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل، قال: حدثنا

جدي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يَخْرُج اثنان إلى الغائط، فيجلسان كاشفين عن عورتهما، فإن الله يمقُتُ على ذلك".

41 -

أخبرنا أحمد بن حرب، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا سفيان، عن عكرمة، عن يحيى، عن عياض، عن أبي سعيد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المتغوطين أن يتحدثا، فإن الله يمقت ذلك".

42 -

أخبرنا عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، قال: حدثنا عكرمة ابن عمار، عن يحيى، عن هلال بن عياض، قال: حدثني أبو سعيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يخرج الرجلان على الغائط كاشفين عن عورتهما، يتحدثان فإن الله يمقت ذلك".

فترك المصنف لهذا الباب للعلة الواردة في حديثه لأنه من رواية عكرمة ابن عمار العجلي عن يحيى بن أبي كثير، قال البخاري فيه مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير، وقال المصنف: ليس به بأس إلا في حديث يحيى بن أبي كثير، وقال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث: هذا لم يسنده إلا عكرمة بن عمار، وعكرمة في يحيى ليس بذاك، وفي بعض نسخ أبي داود: قال أبو داود: وهو مرسل عندهم، حدثنا أبو سلمة، حدثنا أبان -بن يزيد العطار- عن يحيى بن أبي كثير، عن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 62

نحو حديث عكرمة.

والحاصل أن إسناد هذا الحديث فيه اضطراب، فلذا حذفه المصنف من المجتبى، وقد يحذف المصنف لسبب آخر، فمن أمثلة ذلك: حذفه باب رقم 108 في الكبرى من المجتبى، عنوان هذا الباب هكذا:"ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر المغيرة بن شعبة فيه"، ثم أورد فيه حديث المغيرة من أربعة طرق يوجد في ألفاظها بعض الاختلاف باختلاف الناقلين عن المغيرة، وهم ابنه، عروة بن المغيرة من وجهين، وحمزة بن المغيرة، ووهيب الثقفي ثلاثتهم عن المغيرة.

ذكر المصنف اختلاف ألفاظهم فيه عقيب إيراده لهذا الحديث في باب المسح على الخفين عن قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه المغيرة بن شعبة، مختصرا.

ولما حذف المصنف هذه الأحاديث الأربعة من كتابه المجتبى مع حذف الباب من أصله ذكر عوضا عنها حديث المغيرة المذكور في الكبرى في باب المسح على الخفين، فجعله آخر الأحاديث من المجتبى في مثل هذا الباب رقم 96 ثم أضاف فيه قبل هذا الحديث حديثا آخر: يرويه عن علي ابن خَشْرم بإسناده عن مسروق، عن المغيرة بن شعبة، وخص بهذا الحديث المجتبى دون الكبرى، وصنع شيئًا آخر، وهو إضافة باب جديد في المجتبى بعنوان "باب المسح على الخفين في السفر"، باب رقم 97، وأورد فيه حديث المغيرة الطويل الذي يرويه عنه ابنه حمزة، وقد تقدم هذا الحديث في الكبري في "باب المسح على العمامة مع الناصية"، باب رقم 77 حديث 123.

وبهذا الطريق أصبح المجتبى في غنى عن هذا الباب وأحاديثه، فحذفه

ص: 63

منه. والحاصل أن المصنف يحذف الأحاديث من المجتبى لا لعلة فيها بل لسبب آخر مثل الاستغناء، والاختصار. هذا حاصل ما كتبه المصحح ببعض تغيير وزيادة وحذف.

‌المسألة الثانية عشر في ذكر زيادات الكبرى على الصغرى وعكسه

لقد أجاد مصحح السنن الكبرى في هذا الموضوع حيث فَصَّل ما في المجتبى من الزيادات على الكبرى في كتاب الطهارة، ودون تراجم أبوابهما في جدولين متقابلين للموازنة بينهما، فبان الفرق بين عددها في الكتابين، هكذا:

عدد الأبواب: الكبرى 185، الصغرى 275

عدد الأحاديث: الكبرى 308، الصغرى 451

وقال: ولكن رجحان عددهما في الصغرى عليه في الكبرى ليس إلا في قليل من الكتب، أما الغالب فبالعكس، فقد وجدنا عند مقابلة كتاب الصيام فيهما مثلا في الكبرى 116 بابا، بينما هي في الصغرى 52 بابا فقط، أي أقل من نصف.

ومن أغرب الأمور أننا وجدنا المصنف كأنه جَزَّأ كتاب الصيام من السنن الكبرى كما هو قطعتين نصفين تقريبا، فوضع النصف الأول بتمامه في المجتبى، وترك النصف الآخر كما هو في الكبرى لا حَظَّ فيه للصغرى. كما يقول تعالى:"للذكر مثل حظ الأنثيين".

وقد قابلنا تراجم أبواب الصغرى على تراجمها في الكبرى فوجدناهما متطابقين لفظا لفظا وحرفا حرفا حتى في عناوين ذكر الاختلافات فيهما، وليس لنا نسبة الغفلة إلى المصنف في صنيعه هذا إذ نجده قد زاد بابا

ص: 64

واحدًا فقط في أبواب الصغرى، وهو باب رقم 48. عنوانه "صيام خمسة أيام في الشهر" زاده بعد باب رقم 47 "صوم عشرة أيام في الشهر" وقبل باب رقم 49 "صيام أربعة أيام في الشهر".

وفيما ترك من أبواب الصيام عن الصغرى مباحث مهمة كالنهي عن صيام يوم الجمعة. وصوم يوم الخميس، وصوم يوم عرفة، وبدء صيام عاشوراء، وصيام ستة أيام من شوال، وخلوف فم الصائم، والوصال، وفي الصائم يأكل ناسيا، والترغيب في تعجل الفطر، وما يقول إذا أفطر، وغير ذلك.

وفيما يظهر نهائيا أن يقال: قد وجد المصنف كتاب الصيام من الكبرى كله محررا متقنا حيث لا يحتمل التبديل والتغيير، ولما رأى من تقليل حجمه عند الاجتباء لم يكن له بد من أن يأخذ بعضه ويترك البعض الآخر فترجح عنده أخذ النصف منه وترك النصف الآخر، وحيث إن ترتيب الكتب يقتضي تقديم الأهم فالأهم من مباحثها انتخب النصف الأول الأهم، وترك الثاني الذي هو أقل أهمية.

وبقطع النظر عن الحكمة فيما صنع المصنف بكتاب الصيام نجده قد ترك شيئًا غير قليل من الكبرى لم يدخله في المجتبى أصلًا، حتى إنه ترك ما يبلغ نيفا وعشرين كتابا من كتب الكبرى لم ينتخب منها شيئًا في المجتبى، مثل كتاب التفسير، وكتاب عمل اليوم والليلة، وكتاب الرقائق، وكتاب الطب، وغيرها، ومما ترك عن الصغرى كتاب الاعتكاف بحذافيره، وهو يتلو كتاب الصيام في الكبرى الذي مر آنفا.

وهذا يذكرنا بما قاله في كتابي النسائي الحافظ ابن كثير كما تقدم، وهو قوله في المصنَّف: وقد جمع السنن الكبير، انتخب منه ما هو أقل حجما منه بمرات، اهـ خلاصة ما كتبه المصحح في هذا الموضوع، وهو كلام نفيس جزاه الله خيرًا.

ص: 65

‌المسألة الثالثة عشرة في تسمية كتابه

كتب المحقق في هذا الموضوع بحثًا نفيسًا، أنقل خلاصته هنا فأقول: قال: لم ينقل عن النسائي اسم الكتابه على عادة أغلب المؤلفين في ذلك العصر يقولون: كتاب فلان. وقد اشتهر كتاب النسائي باسم السنن، والسنن في عرف المحدثين هو الكتاب الذي يوضع مرتبا على أبواب الفقه، من الإيمان، والطهارة، والصلاة، والزكاة، وهكذا، وقيل: السنن الكبرى، والصغرى، وقد قيل في الكبرى مصنف الإمام النسائي، والمصنّف: مأخوذ من التصنيف، أي أن الكاتب جعل كتابه أصنافا، وميز بعضها عن بعض، وكلا الإسمين ينطبق على كتاب النسائي الكبير إلا أن السنن الكبرى من ناحية الاصطلاح هي إلى اسم الجامع أقرب، لأن الجامع في اصطلاحهم هي ما يوجد فيه جميع أقسام الحديث.

قال الجامع عفا الله عنه: هي المجموعة في قولي (من الرجز):

الجامعُ الذي حَوَى مَنَاقبًا

وسيَرًاوفتَنًا، وأدَبَا

تفسيرًا الشُّرُوط، والعَقَائدا

والثَّامنُ الأحكامُ خُذْ نلتَ الهُدى

قال المحقق: وهذا الوصف يتحقق في السنن الكبرى، ولا يتحقق في الصغرى، ولم أجد أحدا وصف السنن الكبرى بالجامع لكنهم قالوا: مصنف النسائي.

وقد سُمِّيت الكبرى بديوان النسائي كما جاء في بعض نسخ الكبرى، في آخره ما نصه:

كمل السطر

(1)

الثالث، وبتمامه كمل ديوان النسائي رحمه الله تعالى.

(1)

هكذا النسخة للمحقق، ولعل الصواب السفر بالفاء فليحرر.

ص: 66

والديوان هو مجتمع الصحف المكتوبة، والكتاب يكتب فيه أهل الجيش، وأهل العطية، وقال في المصباح المنير: جريدة الحساب، ثم أطلق على الحساب، ثم أطلق علي موضع الحساب وهو فارسي معرب، وهذه التسمية صحيحة، ودقيقة، فهذا المصنف مجتمع هذه الصحف التي كتبها الإمام النسائي، فهي ديوان.

أما الصغرى: فقد سميت المجتبى بالباء، وبعضهم قال: المجتنى بالنون. والمجتبى معناه: المجموع على جهة الاصطفاء كما قال الله تعالى: {فاجتباه ربه} [القلم: آية 50] واجتباء الله تخصيصه إياه بنعم من غير كسب، وهذه التسمية للسنن الصغرى صحيحة لأنه اصطفاه من كتابه الكبير، وخص به أمير الرملة دون تعب منه ولا جهد.

قال الجامع: هذا على تقدير صحة هذه القصة، وقد عرفت ما فيها.

وأما المجتنى بالنون: فهو مأخوذ من جنى إذا اجتنى الثمرة واقتطفها، وجرها إليه. والمجنى مختص بالثمر والعسل، وأكثر ما يستعمل فيما كان غَضّا، كما قال تعالى:{تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25]،

ويصح إطلاق هذا الاسم على الصغرى لأنه اقتطفها من رياض السنن الكبرى.

قال المحقق: ولم يظهر لي حتى الآن من الذي أطلق هذا الاسم على الصغرى إلا أن التسمية قديمة جدًا بالتأكيد، وهي كذلك دليل على اصطفاء مؤلفها من ديوانه الكبير. اهـ خلاصة ما كتبه المحقق شكر الله سعيه.

ص: 67

‌المسألة الرابعة عشرة في عناية العلماء بالسنن الصغرى

كتب المحقق المذكور في هذا الموضوع كلاما نفيسا، دونك خلاصته قال شكر الله تعالى سعيه:

لم تنل سنن النسائي العناية اللائقة بها قديما وحديثا، فلم تتناول متونها أقلام كثيرة بالشرح، ولم تنل أسانيدها ورجالها عناية الباحثين والمحدثين، إذا ما قيست بالصحيحين، أو بسنن أبي داود والترمذي، وأكثر ما كانت العناية بها ضمن إطار الكتب الستة، فقد اعتنى العلماء بها اعتناء بالغا متونا ورجالا فجردوا متونها، وترجموا رجالها.

فمن الكتب المؤلفة في متونها: التجريد للصحاح والسنن لرزين العبدري السرقطي المتوفي بمكة سنة 535 هـ، فقد جمع هذا الكتابُ متون الأصول الستة، وفيه زيادات لم توجد فيها، وهو الذي فتح الباب أمام لاحقيه الذين اقتفوا أثره معدلين أحيانا في المنهج، أو مستدركين على طريقته، وكتابه غير مطبوع.

ومنها: جامع الأصول في أحاديث الرسول لأبي السعادات ابن الأثير الجزري (ت 606 هـ) وقد رأى كتابَ رزين، فاختار له وضعا آخر، كما يقول، وهذبه، ورتبة، وفصله تفصيلا آخر، وقد اعتمد في جمعه على المجتبى من رواية ابن السني، كما تقدم، وكتابه مطبوع.

ومنها: مختصرات جامع الأصول، وأهمها: تيسير الوصول إلى جامع الأصول من أحاديث الرسول لابن الديبع الشيباني "عبد الرحمن ابن علي ت 944" هـ وذكر ابن الديبع في مقدمته أن الذي سبقه هو شرف الدين البارزي الجهني قاضي حماة (ت 837 هـ) وكتاب ابن الديبع مطبوع.

ص: 68

ومنها: أنوار الصباح في الجمع بين الكتب الستة الصحاح لأبي عبد الله محمَّد بن عتيق بن علي التجيبي الغرناطي (ت في حدود 646 هـ).

ومنها: الجمع بين الكتب الستة للحافظ الزاهد عبد الحق الإشبيلي صاحب الأحكام (ت 582 هـ).

ومنها: الجمع بين الأصول الستة ومسانيد أحمد، والبزار وأبي يعلى، والمعجم للطبراني للحافظ ابن كثير (ت 774) وسماه جامع المسانيد والسُّنن الهادي لأقوم سَنَن، رتبه على حروف المعجم، ويذكر كل صحابي له رواية، ثم يورد في ترجمته جميع ما وقع له في هذه الكتب، وهو كتاب مشهور إلا أنه غير مطبوع.

ومنها: جمع الفوائد من جامع الأصول، ومجمع الزوائد للشيخ محمَّد بن سليمان الروداني (ت 1064 هـ) جمع فيه جامع الأصول المتقدم لابن الأثير، مع كتاب مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي، وكتابه

مطبوع في مجلدين.

ومنها: التاج الجامع للأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ علي ناصف المصري، وكتابه مطبوع.

وأما أسانيدها فقد اعتنى العلماء بها اعتناء بالغا، وينقسم هذا النوع

إلى قسمين: قسم الأطراف، وقسم الرجال، وقسم الأطراف وإن كان يدخل تحت المتون إلا أنه بالإسناد ألصق، وكتب الأطراف هى التي يقتصر فيها على ذكر أول الحديث الدال على بقيته مع الجمع لأسانيده، فمن أهم الكتب فيه:

1 -

الأطراف لأبي الفضل محمَّد بن طاهر بن علي ت 507 قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر جمع أطراف الكتب الستة فرأيته يخطئ

ص: 69

فيها خطأ فاحشًا، وابن طاهر هو أول من ضم ابن ماجه إلى الخمسة، وعده سادسًا.

2 -

كتاب الإشراف على الأطراف للحافظ الكبير الإمام أبي القاسم ابن عساكر ت (571) صاحب تاريخ دمشق، فقد جمع بين أطراف الكتب الأربعة السنن، واعتمد في أطراف النسائي على رواية ابن الأحمر، وهي من الكبرى كما نص على ذلك الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب.

3 -

تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ أبي الحجاج المزي (654 - 742) جمع فيه أطراف الكتب الستة، وما يجرى مجراها من مقدمة صحيح مسلم، وكتاب المراسيل لأبي داود، وكتاب العلل للترمذي الذي في آخر الجامع، وكتاب الشمائل له، وكتاب عمل اليوم والليلة للنسائي، واعتمد في ذلك على كتاب أبي مسعود الدمشقي، وكتاب خلف الواسطي في أحاديث الصحيحين، وعلي كتاب أبي القاسم ابن عساكر في كتب السنن، وما تقدم ذكره معه، ورتبه على ترتيب أبي القاسم، فإنه أحسن الكتب ترتيبا، وكثيرا ما يستدرك على الحافظ أبي القاسم رحمه الله تعالى.

4 -

الكشاف في معرفة الأطراف للحافظ شمس الدين أبي المحاسن محمَّد بن علي بن الحسن بن حمزة الدمشقي (ت 765).

5 -

أطراف الكتب الستة إلا ابن ماجه لأبي العباس أحمد بن ثابت بن محمَّد الطَّرْقي.

6 -

ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث، للعلامة الشيخ عبد الغني النابلسي (ت 1143) هـ وجعل مكان السنن الكبرى حيث قَلَّ وجودها سُنَنَهُ الصغرى.

ص: 70

وقد وضع الحافظ ابن حجر على أطراف المزي حاشية لطيفة سماها النكت الظراف في معرفة الأطراف جمع فيه أوهام المزي، وقد تقدم البحث في الأطراف عند ذكر عناية العلماء بالسنن الكبرى، وإنما أعدته لأجل استيفاء عنايتهم بالصغرى.

وأما قسم الرجال فقد اعتنوا به أيضا أكثر من الأطراف، فمن أهمها:

1 -

الكمال في معرفة الرجال، لعبد الغني بن عبد الواحد بن سُرُور الجماعيلي المقدسي الحافظ الزاهد -541/ 600 - هـ وقد اشتمل كتابه على رجال الصحيحين، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال ابن رجب: يقع في عشر مجلدات.

2 -

المعجم المشتمل على أسماء الشيوخ النبل، لأبي القاسم ابن عساكر المتقدم ذكره.

3 -

التقييد، لمعرفة السنن والمسانيد للحافظ محمَّد بن عبد الغني بن أبي بكر، معين الدين، ابن نقطة الحنبلي ت 629 هـ جمع فيه كل من علمه روى شيئا في الكتب الستة، والموطأ، وصحيح ابن حبان، وكتب السير والتاريخ وغيرها. وقد ذيل عليه محمَّد بن أحمد الحسيني الفاسي المكي المالكي (ت 832 هـ).

4 -

كتاب رجال العشرة للحافظ الثقة أبي إسحاق الصَّريفينيّ تقي الدين إبراهيم بن محمَّد (ت 641 هـ) ذكره السخاوي في الإعلان، بالتوبيخ ص 117. والحافظ في تعجيل المنفعة ص 19، وغيرهما.

5 -

الكمال في أسماء الرجال لابن النجار محمَّد بن محمود البغدادي صاحب تاريخ بغداد (ت 643) وقد جمع فيه رجال الكتب الستة.

6 -

تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ أبي الحجاج المزي،

ص: 71

هذب فيه كتاب المقدسي المتقدم، ورتب تهذيبه علي حروف المعجم، ثم ذكر أسماء النساء، واستدرك عليه، ما فاته الحافظ علاء الدين مغلطاي (ت 762) وسماه إكمال التهذيب. وقد اختصر التهذيب، وأضاف عليه محمَّد بن علي الحسيني.

7 -

تذهيب تهذيب الكمال للحافظ شمس الدين الذهبي اختصر فيه تهذيب الكمال، ثم اختصره في كتاب آخر سماه الكاشف عن رجال الكتب الستة واقتصر فيه على من له رواية، ووضع لهم رموزا.

8 -

رجال السنن الأريعة للهكاري أحمد بن الحسن بن موسى (ت 763).

9 -

التذكرة، برجال العشرة، للحافظ محمَّد بن علي بن حمزة

الحسيني الدمشقي (ت 765) جمع فيه تهذيب الكمال للمزي، وزاد عليه الموطأ، ومسند الشافعي، ومسند أحمد، ومسند أبي حنيفة الذي

خرجه الحسين بن محمَّد بن خسرو، واقتصر على من في الكتب الستة دون من أخرج لهم مصنفوها في مصنفاتهم الأخرى.

10 -

تهذيب التهذيب، للحافظ أبي الفضل، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، لخص فيه تهذيب الكمال للمزي، وزاد عليه فوائد كثيرة من الذين استَدْركُوا، أو اختَصروا قبله خصوصا مغلطاي، وهو من أوسع المراجع في الرجال.

11 -

مختصره تقريب التهذيب وسيأتي الكلام عليه.

12 -

خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، ألفه سنة 923 وهو مختصر لتذهيب الذهبي، وزاد عليه فوائد من غيره. وهو نافع في هذا الموضوع على وجازة فيه.

ص: 72

13 -

رجال الكتب الستة لمحمد بن أحمد بن عيسى بن حجاج اللخمي الإشبيلي (ت 654) قال عنه ابن عبد الملك المراكشي: مُعَرِّفُ أحوالهم وتواريخهم، وما ينبغي أن يذكروا به، فجاء من أعظم ما ألف في بابه جَدْوَى، وأغزره فَوَائدَ، على اختصاره النبيل، يكون في خمسة أسفار متوسطة.

14 -

شيوخُ أبي داود، والترمذي، والنسوي، وغيرهم للإمام محمَّد بن إسماعيل بن خلفون الأونبي (ت 636) قال المراكشي: أربع مجلدات.

15 -

وللإمام الحافظ محدث الأندلس أبي محمَّد عبد الله بن سليمان الأنصاري الحارثي (ت 612) كتابٌ ذُكر فيه شيوخ لكنه لم يكمل وكان كثير الأسفار فضاعت الأصول.

وأما الكناية الخاصة بسنن النسائي فقط: فعلى قسمين:

القسم الأول: العناية بالرجال:

1 -

فأول من اعتني برجال النسائي كما قاله المحقق هو أبو عبد الله بن محمَّد بن أسد الجهني الأندلسي، وقد تلقَّى السنن عن تلاميذ النسائي الأندلسيين، وله تسمية شيوخ النسائي، والظاهر أنه مبني على الكبرى لأنه رواها عن تلاميذ المصنف.

2 -

وتبعه على ذلك أبو علي الحسين بن محمَّد الجياني (427 - 498) الحافظ الإمام المثبت محدث الأندلس فصنع كتاب شيوخ النسائي، ولانعلم كيف بناه.

3 -

رجال النسائي لأبي محمَّد الدَّوْرقي فإنه أفرد لكل من رجال النسائي، والترمذي كتاب منفردا، كما قاله الكتاني في الرسالة المستطرفة ص 218.

ص: 73

4 -

شيوخ النسائي في سفر، لأبي بكر محمَّد بن إسماعيل بن خلفون المتقدم، ذكر له كتابه هذا أبو الحسن الرعيني الإشبيلي (ت 636) في برنامج الشيوخ.

القسم الثاني: الشروح:

1 -

أقدم من شرح سنن النسائي أبو العباس أحمد بن أبي الوليد بن رشد (436 - 563)، وَوُصف شرحه بأنه حَفيل للغاية، ولكنا لانعلم عن وجود هذا الشرح شيئًا.

2 -

وشرحه معاصر له، وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن النعمة

(ت 567). وسماه الإمعان في شرح مصنف النسائي أبي عبد الرحمن، قال ابن الأبَّار: كان عالما حافظا للفقه، والتفسير ومعاني الآثار، مقدما في علم اللسان، فصيحا مفوَّهًا، ورعًا، فاضلا، دمث الأخلاق قال المراكشي: بلغ فيه الغاية من الاحتفال وحشد الأقوال، وما أرى أن أحدا تقدمه في شرح كتاب، حديثي إلى مثله توسعا في فنون العلم وإكثارا من فوائده.

ولا يعلم له وجود، ولا كيف بناه أعلى الصغرى أم على الكبرى؟.

3 -

شرح الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن المُلَقن الشافعي (ت 804) ولكنه شرح زوائده على الصحيحين وأبي داود والترمذي وغالب الظن أنه على المجتبى.

4 -

زهر الربى على المجتبى لجلال الدين السيوطي (911) تعليقة لطيفة حل فيها بعض ألفاظه ولم يتعرض بشيء للأسانيد، وقد طبع مع المجتبى مرارًا، ولهذه التعليقة مختصر باسم: عَرف زهر الربى لعلي بن سليمان الدمناتي الباجمعاوي المغربي (ت 1306) وقد طبع بالقاهرة سنة 1299 هـ.

ص: 74

5 -

حاشية لأبي الحسن محمَّد بن عبد اللهادي السندي (ت 1136) بالمدينة مطبوعة مع زهر الربى، وهي أبسط من تعليق السيوطي في بعض المواضع.

6 -

مختصر لبعضهم التقط فيه رباعيات النسائي.

7 -

تأليف لأبي عبد الرحمن محمَّد بنجابي ومحمد عبد اللطيف، طبع في دلهي مع شرح مجمع من السيوطي والسندي وغيرهما.

8 -

روض الربي عن ترجمة المجتبى تأليف مولاي وحيد الزمان طبع في لاهور مع ترجمة هندوستانية.

9 -

وفي طبقات الحُفَّاظ للسيوطي ص 533 أن الحافظ شمس الدين أبا المحاسن محمَّد بن علي بن الحسن بن حمزة الدمشقي، شَرَعَ في شرح سنن النسائي.

هذا خلاصة ما كتبه المحقق شكر الله تعالى سعيه في هذا الموضوع ببعض تصرف.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 75

‌المسألة الخامسة عشرة في ذكر رسالة الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى

المسماة "بغية الراغب المتمني، في ختم النسائي برواية ابن السني" اعلم أنه بعد كتابتي لمقدمة هذا الشرح بمدة مَنَّ الله تعالى عليَّ برسالة الحافظ شمس الدين محمَّد بن عبد الرحمن السخاوي

(1)

، وقد حققها بعض الأفاضل

(2)

جزاه الله خيرا، فأحببت إيرادها هنا بنصها لما تضمنته من التحقيقات المنيفة، والنكات الظريفة، مما يكمل ما سبق لنا البحث عنه. وهذا نصها:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمَّد وسلم

الحمد لله الذي جعل أصول هذا الدين، وفصول عقول الموحِّدين في الكتاب والسنة، وتفضل بمن شاء في حسن النظر لذلك وتحقيقه، والتفنن بالاستنباط المعتبر، من مفهومه ومنطوقه، فكافأ ذلك أعظم

منَّة، وتكفّل بحراسته من الطغيان، ووقايته من البهتان، من الإنس والجنَّة.

فهو لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: آية 9]، مضبوط مصون بأكمل جُنّة.

(1)

وهو الحافظ شمس الدين محمَّد بن عبد الرحمن بن محمَّد بن أبي بكر بن عثمان بن محمَّد السخاوي الأصل القاهري، ولد في ربيع الأول سنة -831 - وتوفي يوم الأحد 28 شعبان سنة -902 - هـ بالمدينة المنورة.

(2)

وهو الدكتور عبد العزيز بن محمَّد بن إبراهيم العبد اللطيف الأستاذ المساعد بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالمدينة المنورة.

ص: 76

ومن جملة حفظ كتابه هتك من لم يقتف في نقل الآثار طريق أئمة أربابه، بل تعمّد الكذب، أو أفحش بالخطأ الموجب للتهمة والظنِّة. فإنها المبيّنة للكتاب، والمعينة لفهم الخطاب، ودفع كل بلية ومحنة. إذ هو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما نطقه وحيٌ يُوحى، علّمه شديد القوى، فناهيك بما أوضحه وسَنّه؛ ولأجل ذا قام الجهابذة الذين خصَّهم الله بقوة البصر والبصيرة، وأتحفهم بكل نفيسة وذخيرة، ممن أتقن كل منهم الفنون وفنّه. بإبعاد الغَثِّ عن سمينها، والمُزَلزَل عن مَكينها، فارتقوا بذلك لأعلى قصور الجنة.

ولكنهم بعد تلك الكثرة الظاهرة، والخبرة الباهرة، والأنفس الزكية المطمئنة، أخذوا في التناقص من ذلك، بحيث انفرد الوالج في هذه المسالك الدّال لها بالمئنة. وصار وحيدًا غريبًا، حزينا لذلك كئيبا، لا يُبْدي

(1)

سنة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ونعلم أنّ ما قَدَّر يكون، فنرضى ونُسَلِّم من غير صياح ولا رَنَّة، ولكن نرجوا استمرار حفظها، واستقرار الضبط لمعناها ولفظها، تمسكا بالاندراج في حديث الطائفة المظهرة لما أبرزه المسيء وأكنه. سيما مع العلم بأنها بحمد الله تعالى مُدَوَّنَةٌ مصونة في كتب على الأبواب أو المسانيد، أو الأنواع أو حروف الكلمات الميمونة أو غيرها مما قصد كل منهم به الانتفاع، أو ظنه، بحيث انضبطت السنن كلها، وهبطت البدع وأهلها، والحقُّ نقيٌّ لم يَتَسَنّه، غير أنه انقطع المتصدي لمسمياتها مع أسمائها فضلا عن روايتها ونقلها، والمهتدي للكشف من جُلِّها، ولم يطمع المجتري المعتدي في حلها، وفصل مردودها من مقبولها، وإن أجرى على لسانه صحيحه وحَسَنَه.

وإن من التصانيف الجليلة، المشتملة على التصاريف النبيلة، المدرج في كتب الإسلام، ونُخَب الدواوين العظام، الكتاب الحسن الواضح

(1)

هنا كلمة غير واضحة في صورة المخطوطة كما قال محقق الرسالة. فلتحرر.

ص: 77

الجلي، الملقب بـ (السنن) للنسائي.

فإنه لكونه زاحم إمام الصنعة أبا عبد الله البخاري في (تدقيق الاستنباط والتبويب لما يستنبطه) بدون إسقاط بحيث:

* يكرر لذلك المتون، ويُصَوّر كونه القصد الأعظم من الفنون ومنه:

- قصة عائشة رضي الله عنها في اتباعها سرًا النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا خرج من عندها ليلًا إلى البقيع. فإنه ذكرها في:

- (الأمر بالاستغفار للمؤمنين) من الجنائز 1/ 93

(1)

.

- وأعادها في (المغيرة من النكاح) بسندها ومتنها سواء، ولكن:

- بزيادة في نسب شيخه فقط 7/ 73 - 75.

- وباختصار يسير من آخر المتن.

- مع زيادة طريقين للحديث، شيخ ابن جريج في أحدهما غير شيخه في المذكور فيهما.

- وكذا ترجم في:

- الصيد والذبائح لـ (أكل العصافير) 7/ 207.

- وفي آخر الضحايا (مَن قتل عصفورا بغير حقها) 7/ 206 - 207.

وذكر فيهما معا حديث صهيب، عن ابن عمرو بن العاص من وجهين، زاد في ثاني الموضعين حديث الشَّريد في ذلك.

*حتى أنه ربما تتجاوز بغير مَيْن، الترجمة بكل من الحكمين، ولا يكون فارقا بين تكرير الحديث إلا الباب، ولذا لا يأتي به إلا من

(1)

الترقيم للجزء والصفحات بنسخة شرح السيوطي والسندي، فالرقم الأول للجزء والثاني للصفحة.

ص: 78

الطريق السابق، ولو لم يكن إلا في شيخه فقط، قصدا لمزيد الفائدة في الانتخاب، ومن أمثلة ذلك:

- أنه وَالى في الضحايا بين ترجمة لـ (العوراء، ثم للعرجاء، ثم للعَجْفَاء)، وذكر في كل ترجمة طريقا لحديث واحد، فاستُفيدَ مع الأحكام طرق ثلاثة له 7/ 214 - 216.

- وأردفها بالتوالي بين أربع تراجم فيها حديث أورده في كل ترجمة من طريق 7/ 216 - 217.

- وكذا والى بين ثلاثة:

- (حكم الحاكم بعلمه).

- و (السَّعة له في قوله لما لا يفعله: "أفعل كذا" ليَسْتَبين به الحق).

- (ونقضه حكم غيره ممن هو مثله أو أجلَّ منه).

ولم يزد في كل ترجمة على قصة الكبرى والصغرى المتحاكمتين لسليمان بعد تحاكمهما لأبيه داود عليهما السلام في ولد ادَّعته كلٌ منهما، وقضى به للكبرى، فقضى بموته، ثم للصغرى بعد أن أوهمهما أنه يشقُّه بينهما لكونها امتنعت وقالت: هو لها).

ولكنه أوردها في كل ترجمة من طريق سوى الذي ذكره في الأخريين.

*وقد يقع له تكرير الباب مع حديثه سواء مما لم يظهر لي الأمر فيه على الاستواء، وقد يكون بين الترجمتين في الجملة تفاوت يسير، ولا يأتي في حديثهما بزيادة حسبما إليه يشير، كترجمته:

- في المياه بـ (ماء البحر).

ص: 79

- وفي الطهارة بـ (الوضوء بماء البحر)

(1)

.

وحديثهما واحد سندًا، ومتنا.

* وربما يزيد في أحد الموضعين مُكَمِّلا تعيين ما أهمله من رواة السنَّد أوّلا 1/ 54.

* وقد يُوردُ في كل منهما للحديث الواحد طريقا؛ ليزداد الناظر له في المتن تحقيقا، ومنه:

- عقده لـ (الوضوء بالثلج) 1/ 50 ولـ (الوضوء بماء الثلج) 1/ 51 ترجمتين، وذكر في كل منهما طريقا لحديث واحد، ثم إنه في الطهارة عقد ترجمة واحدة لـ (الوضوء بماء الثلج والبرد) 1/ 176 وذكر فيها الحديث من الطريقين معا.

- وكذا ترجم في الطهارة بـ (ترك التوقيت في الماء) 1/ 47، وفي المياه بـ (التوقيت في الماء) 1/ 175 وذكر فيهما معا حديثين لأنس، وأبي هريرة زاد في أولهما طريقين لحديث أنس، وفي ثانيهما

حديثًا لابن عمر.

- وفي الطهارة بـ (الماء الدائم) وفي المياه (النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم) وذكر فيهما حديث أبي هريرة من ثلاثة طرق بثلاثة ألفاظ، فطريقان في أولهما، والثالث في الآخر.

- وترجم فيهما معًا بـ (سؤر الكلب) وساق حديث أبي هريرة من طرق لم يتكرر طريق منها أيضا.

*وقد يكرر الباب خاصة دون متنه، وهذا أسهل مما سبق بين أهل فَنِّه.

(1)

لعل نسخة المجتبى عند السخاوي هكذا، وإلا فالنسخة التي عندنا بالعكس، ففي المياه "باب الوضوء بماء البحر" 1/ 176"، وفي الطهارة "باب ماء البحر 1/ 50". فليتنبه.

ص: 80

*ومن أمثلة ما دَقّق فيه الاستنباط:

- أنه ترجم للطلاق:

- بـ (الإشارة المفهمة) وذكر حديث أنس في جار النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان طيب المَرَقَة، "وأنه ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم هو وعائشة، أومأ إليه أن تعال، وأومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، أي: وهذه؟، فأومأ إليه الآخر بيده: أن لا. مرتين أو ثلاثًا" 6/ 158 زاد غيره "أنه صلى الله عليه وسلم امتنع حتى أذن لها".

- وبـ (الإبانة والإفصاح بالكلمة الملفوظ بها، وأنه إذا قُصدَ بها ما لا يحتمله معناها لم توجب شيئًا ولم تُثبت حكمًا) وذكر حديث أبي هريرة مرفوعًا: "انظروا كيف يصرف الله عني شتم قريش ولَعنَهم، إنهم يشتمون مُذَمَمًا ويلعنون مُذمَمًا، وأنا محمَّد صلى الله عليه وسلم" 6/ 159.

- وبـ (الكلام إذا قُصدَ به ما يحتمل معناه) وذكر حديث "الأعمال بالنية" 6/ 158.

كل هذه التراجم في الطلاق.

- وبـ (الرخصة في الصُّفْرَة عند التزويج) 6/ 128 - 129 وذكر حديث عبد الرحمن ابن عوف. وهو نحوٌ مما ترجم به البخاري، بحيث لم يكن ذلك منافيًا للنهي عن التَّزَعْفُر للرجال.

- وكذا ترجم (ترك الزينة للحادّة المسلمة دون اليهودية والنصرانية) وذكر حديث: "لا يَحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تَحدُّ على مَيِّت .. " 6/ 201 - 202.

وهو نحو استثناء البُلقيني من قولهم: "الكفار مخاطبون بفروع

ص: 81

الشريعة لما أتى بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ونحوها.

- و (لتجنب الحاكم القضاء وهو غضبان) 8/ 337 - 338 ثم عقد لـ (الرخصة فيه للحاكم الأمين) 8/ 238 - 239 وذكر قصة الأنصاري الذي خاصم الزبير في شرَاج الحرّة. ولم يمش على الاختصاص.

- ولـ (الحكم باتفاق أهل العلم) وذكر قول ابن مسعود: "من عَرَض له منكم قضاء، فليقض بما في كتاب الله، ثم بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم بما قضى به الصالحون، ثم ليجتهد رأيه، ولا يقول: فإني أخاف فإن الحلال بيّن، والحرام بيَّن، وبين ذلك أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

وقال عَقبَه: هذا الحديث جَيِّد جَيِّد 8/ 230.

- ولـ (النهي عن حكم النّساء) وذكر فيه "لن يفلح قوم وَلوا أمرهم امرأة" 8/ 227.

وكذا زاحمه -أي البخاري- في:

* التقلل من الإتيان بحاء للفصل بين السندين، بل هي عنده قليلة جدًا.

* ووافقه على جواز الرواية بالمعنى. ومنه:

روايته من جهة ابن عُلية، عن أيوب، وابن عون، وسلمة بن علقمة، وهشام بن حسّان، دخل حديث بعضهم في بعض، كلهم عن محمَّد بن سيرين.

قال سلمة -فقط- في روايته: نُبئتُ عن أبي العجفاء.

وقال الباقون: عنه. بلا واسطة 6/ 117.

ص: 82

* وفيما ذهب إليه من المسمى بأصح الأسانيد، وإن خالفه في نفس التراجم، فقال: إن أصح الأسانيد: ما رواه ابن شهاب، عن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده 3/ 205 - 206.

وأيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين، عن عَبيدَة السَّلماني، عن علي.

وذكر تمام أربع تراجم.

وزاحم مسلمًا في كثير مما اعتنى به معهما.

* كالإشارة لصاحب اللفظ ممن يُورد المتن عنهم، أو عنهما 1/ 44.

وربما يقول: لفظ فلان كذا، ولفظ الآخر كذا. ومنه:

ما رواه من طريق حجاج، ورَوْح كلاهما عن ابن جريج، وساق حديث "من شكّ في صلاته فليسجد سجدتين" قال حجاج:"بعد ما يُسَلّم" وقال رَوْح: "وهو جالس" 3/ 30.

* وكذا في الصيغة. كقوله: "أخبرني الحسن بن إسماعيل، وأيوب بن محمَّد قالا: حدثنا حجاج بن محمَّد"، قال أيوب: حدثنا، وقال حسن: أخبرني شُعبة" 1/ 283.

* وكون ما اقتصر عليه بعضَ متن ما كمّله كأنّه للخروج من عهدة المخالف في المسألة بقوله: "مختصر" 1/ 110، أو نحو ذلك.

وقد يقول -مع ذلك إذا كان عن جماعة-: "وبعضهم يزيد على بعض في الحديث" 3/ 65.

* وبيان ما عند الراويين من (النبي) و (الرسول):

كروايته لحديث عن إبراهيم بن الحسن، وعبد الرحمن بن محمَّد

ص: 83

ابن سَلام

(1)

..

قال فيه أولهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذا في حديث رواه عن قُتَيبة، وهَنّاد بن السَّري.

قال أولهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* وكإرداف العام بالمخصص 5/ 99 - 100، والمجمل بالمبيّن المنصِّص 6/ 110 - 112، والمنسوخ بالناسخ له 1/ 105 - 107، إلى غيرها من النفائس المكمّلة.

* كالفرق بين "حدثنا" و"أخبرنا" حيث جَوّزَ إطلاق "أخبرنا" في العرض دون "حدثنا". وذلك عن النسائي بخصوصه فيما حكاه محمَّد بن الحسن الجوهري عنه

(2)

، دون حكايته ما هو المشهور عنه من منع إطلاقهما معا فيه.

ولي فيهما نظر، فإن أكثر ما روى في سننه عن شيوخه بصيغة "أخبرنا" وروايته فيها بـ"حدثنا" قليلة، بل ربما يروي عن شيخه الواحد كقُتَيبة، وإسحاق بن راهويه، وهَنّاد بالصيغتين، ومعلوم أن أخذه عن شيوخه غير منحصر في أحد التحملين، بل هو دائر بين التحديث والعرض.

وإذا كان كذلك فهو ماش على مذهب المجوّزين إطلاقهما فيهما، وعدم الفرق بين الصيغتين، وهو مذهب البخاري.

(1)

وقع في المخطوطة هنا لفظ مشتبه لا يهتدى لمعرفته، كما أشار إليه محقق الرسالة.

(2)

رواية النسائي عن هؤلاء الشيوخ بصيغة "أخبرنا" كثيرة جدًا، أما روايته عنهم بصيغة "حدثنا" ففي مواضع يسيرة، فقد قال: حدثنا قتيبة في 7/ 271 - 279 - 309 و 8/ 148 - 149 - 190 - 210. وقال: حدثنا إسحاق في 2/ 42 و 6/ 148. وقال: حدثنا هناد في 1/ 203.

ص: 84

وصنف فيه الإمام أبو جعفر الطحاوي، وناقضه الجوهري المذكور وصنّف في الفرق.

ويمكن أن الذي مشى عليه في سننه اختياره، وما عداه تغير اجتهاده فيه، والله أعلم.

على أنه ربما يقول: أخبرنا فلان قراءة عليه 1/ 13.

ووافقهما معا في:

* ما يُكثر مسلم منه من كنايته عن الضعيف إذا قُرنَ في الرواية بثقة؛ كروايته في غير موضع عن محمَّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن أبيه، عن حيوة، وذكر آخر كلاهما عن شُرحبيل بن شَريْك، 6/ 69 فإن المبهم هنا هو ابن لَهيْعَة، كما صرحت به رواية لأحمد في مسنده.

في أمثلة لذلك عن ابن لهيْعَة، وغيره مما يحتمل في بعضه أن يكون من صَنيع مَنْ فوقه، وأن يكون لا لضعف كحديث ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، وذكر آخر قبله، عن عُمارة بن غَزيّة 6/ 29.

ولابن وهب أيضًا: أخبرني مالك، وعمرو بن الحارث، وذكر آخر قبلهما، أن أبا النضر 4/ 199.

وله أيضا: أخبرني عمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وذكر آخر، وقدّمه، أن سليمان بن عبد الرحمن حدثهم 7/ 215.

وله أيضا: أخبرني سعيد بن أبي أيوب وذكر آخرين عن عَيّاش 7/ 212.

ولشُعيب بن أبي حمزة، وابن عُيينة، وذكر آخر عن الزهري

ص: 85

6/ 6 و 7/ 78.

ولأولهما فقط عن محمَّد بن المنكدر، وذكر آخر قبله، كلاهما عن الأعرج 2/ 192.

ولمحمد بن آدم، عن عبد الرحيم، عن عبيد الله بن عمر، وذكر آخر عن أبي الزبير، عن جابر 5/ 274.

ولهُشَيم أخبرنا مُغيرة، وذكر آخر كلاهما عن الشَّعبي 3/ 71.

ولهُشَيم أيضًا: عن سَيَّار، وحُصين ومُغيرة، وداود بن أبي هند، وإسماعيل بن أبي خالد، وذكر آخرين عن الشَّعبي 6/ 208.

والظاهر من حاله في التثبت أنه عرف أن لفظهما، أو معناهما سواء، وفائدة ذلك:

- الإشعار بضعف المبهم.

- وكونه ليس من شرطه.

- وكثرة الطرق ليترجح بها الخبر عند المعارضة.

* ومن ابتدائه بالنازل ثم إردافه بالعالي وعكسه وهو أكثر للمتقدمين وأعلى ما وقع فيه ما بينه وبين الشارع صلى الله عليه وسلم فيه أربع وسائط.

ولذا التقطها القاسم بن علي الأنصاري.

ومنه: قُتيبة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر 1/ 277 و 1/ 289.

وأنزل ما عنده أيضًا مما هو في (الصلاة)، وكذا في (عمل اليوم والليلة) من الكبرى، خاصة ما بينه وبينه فيه عشرةُ وسائط:

ص: 86

- قال هو، وكذا الترمذي: أخبرنا محمَّد بن بَشَّار (بُنْدار) زاد الترمذي: وقُتيبة قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي 2/ 171 - 172.

ورواه النسائي أيضًا: عن أحمد بن سليمان، عن حسين بن علي الجُعفي، كلاهما عن زائدة.

ورواه النسائي أيضًا: عن أبي بكر بن علي، عن عبيد الله بن عمر القَواريري، ويوسف بن مروان، كلاهما عن فُضيل بن عياض، كلاهما عن منصور بن المُعْتَمر، عن هلال بن يساف، عن الربيع ابن خُثيم، عن عمرو بن ميمون.

وقدّمه على الذي قبله في رواية فُضيل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن امرأة من الأنصار، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:({قل هو الله أحد}) تعدل ثلث القرآن).

وقال النسائي عَقبَه من سننه الكبرى خاصة: لا أعرف في الحديث الصحيح إسنادًا أطول من هذا 2/ 172.

- وعند النسائي أيضًا في جمعه حديث مالك: عن زكريا بن يحيى (خَيَّاط السُّنَّة)، عن إبراهيم بن عبد الله الهَرَوي، عن سعيد بن محبوب، عن عَبْثَر بن القاسم، عن سفيان الثوري، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمَّد بن علي، عن أبيهما، عن علي في "نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المُتْعَة".

قلت: وقد ساويت النسائي في مطلق العدد، فكما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذين عشرة، كذلك بيني وبينه في أحاديث سواهما عشرة. فلله الحمد.

ص: 87

وعنده في (العدَد) من المجتبى أيضا حديث تُساعي.

رواه عن محمَّد بن وهب الحَرَّاني، عن محمَّد بن سَلَمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أُنَيْسة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الزهري، أنّه كتب إليه يذكر أن عبيد الله بن عبد الله حدّثه، أن زُفَرَ بن أوس بن الحَدَثَان النَّصْري حدثه أن أبا السنابل بن بعكك قال لسبيعة الأسلمية: لا تحلين حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشرا أقصى الأجلين، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ..

الحديث" 6/ 195 - 196.

ومن ثُمانياته:

عمرو بن منصور، عن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو ابن حزم، عن أبيه، عن جده 8/ 57 - 58.

ومن سُباعياته:

محمَّد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن النَّضر بن أنس، عن بَشير بن نَهيك، عن أبي هريرة 8/ 61.

ومن سُداسياتة:

محمَّد بن مُصعب، عن محمَّد بن المبارك، عن عبد العزيز بن محمَّد، عن صفوان بن سُليم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد 8/ 61.

ومن خُماسياته:

يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر 8/ 76.

ص: 88

* ولذا قال أبو عبد الله بن رُشَيْد: "إنه أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفًا، وأحسنها ترْصيفًا، وهو جامع بين طريقي البخاري ومسلم مع حظ كبير من بيان العلل التي كأنها كهانة من المتكلم".

وهذا الكلام أشبه من تفضيل بعض المغاربة له على كتاب البخاري مُعلَّلًا مقاله بـ (أن مَنْ شَرَطَ الصحة فقد جعل لمن لم يَستكمل في الإدراك سببًا إلى الطعن علي ما لم يُدْخلْ) ولم يُبرهن بما لعله يندفع به الجدال فيما أدخل، بل هو كلام ساقط حكمًا وتعليلا وإن اعتمده المجد البرماوي فيما بلغني عنه.

ولكن قد أشعر بموافقته في الحكم بعض المكيين من شيوخ ابن الأحمر حيث قال: إنه أشرف المصنفات كلها، وما وُضع في الإسلام مثله.

ولا يُعتذر عنه بأن (أشرف) لا يقتضي الترجيح في الأصحية.

لأنّا نقول: قد صرحّ شيخنا تبعًا لشيخه -رحمهما الله تعالى- بأن صيغة "أفعل" و "أجود، وأحسن، وأشرف" سواء، نعم: صحيح وجيد وحسن وشريف متفاوتة.

ويمكن أن يقال: التعبير بـ (أشرف) وإن شارك التعبير بغيره لا يقتضي الأفضلية من كل وجه، ويكون هنا بالنسبة إلى الوضع والإفصاح خاصّة.

وإن رجّح كل من الذهبي والتقي السبكي، كما سيأتي الإمامَ النسائيَّ على الإمام مسلم، فترجيح العالم وإن كان ظاهرًا في ترجيح مُصَنَّفه فذلك في الغالب، وإلا فربّ مرجوح يكون مُصَنَّفُه أرجح.

* وأحسن من هذا كله قول الحافظ أبي عبد الله بن مَنْده، كما سيأتي

ص: 89

أيضًا: الذين خَرّجوا الصحيح، وميّزوا الثابت من المعلول، والخطأ من الصواب أربعة: البخاري، ومسلم، وبعدهما أبو داود والنسائي.

ثم إنه لم ينفرد بتسميته صحيحًا، فقد سماه كذلك الدارقطني، فقال تلميذه أبو بكر البَرْقاني كما سيأتي أيضا: ذكرت له أبا عبيد ابن حَرْبويه، فذكر من جلالته وفضله، وقال: حدّث عنه النسائي في الصحيح. ولعله مات قبله بعشرين سنة.

ولما أورد أبو الفضل ابن طاهر كلا المقالتين قال: قد سمّى الدارقطني كتاب "السنن" صحيحًا مع فضله وتحقيقه في هذا الشأن. انتهى.

وكذا سمّاه صحيحًا جماعة من الحفّاظ كأبوي علي النيسابوري، وابن السكن، فإنه سمى كتابه المشتمل على الصحيحين، والنسائي، وأبي داود بالصحيح، وأبي أحمد ابن عَدي، وأبي بكر الخطيب، وأبي طاهر السلفي، وكذا الذهبي في ترجمته من الكاشف، وأسلفتُ في ختم الترمذي القول في تأويل مقالهم.

* وكذا في إدراج محي السنة البَغَوي له في الحسان بما أغنى الآن عن إعادته.

* ولكنا نقول هنا: قد روى السنن عن مصنفها جماعة من الحفاظ وغيرهم، منهم:

- ابنه أبو موسى عبد الكريم.

- وأبو بكر أحمد بن محمَّد بن إسحاق الدِّيْنَوْري ابن السُّنّي.

- وأبو الحسن أحمد بن محمَّد بن أبي التمام.

ص: 90

- وأبو بكر أحمد بن محمَّد بن المهندس.

- وأبو علي الحسن بن الخضر بن عبد الله الأسيوطي.

- وأبو محمَّد الحسن بن رَشيق العسكري.

- وأبو القاسم حمزة بن محمَّد بن علي بن العباس الكناني.

- وعلي بن أبي جعفر أحمد بن محمَّد بن سلامة الطحاوي.

- وأبو الحسن محمَّد بن عبد الله بن زكريا بن حَيّوية النيسابوري.

- ومحمد بن القاسم بن محمَّد بن سيّار القرطبي.

- وأبو بكر محمَّد بن معاوية القرشي الأندلسي ابن الأحمر.

* واتصل بنا من طريق غير واحد منهم كابن الأحمر، وابن السنُّي.

وفي بعض الأصول التصريح -في بعض كتبه كالإيمان والبيعة- أنه سمعه من لفظه 8/ 93 و 7/ 137.

وفي بعض كتبه أنه قرأه عليه وهو يسمع بمصر 7/ 179.

بل في بعض ما وقع التصريح بأنه لفظًا التصريح بأنه ليس من السنن كقوله: ما في كتاب القصاص من المجتبى مما ليس في السنن 8/ 62.

* وكان سماعه له بمصر في سنة اثنتين وثلاثمائة.

وممن صرح بذلك الحافظ أبو بكر ابن نُقْطة، فقال في ترجمة ابن السُّني من تقييده: إنه حدث بالسنن عن النسائي، وقد كان سمعها منه بمصر في سنة اثنتين وثلاثمائة. انتهى، فالله أعلم.

* وبين رواياتهم اختلاف في: اللفظ، والتقديم، والتأخير، والزيادة، والنقص.

ص: 91

وأكبرها وأتمها رواية ابن الأحمر.

وقد بيّنتُ التفاوت بينها في جزء سميته (القول المعتبر في ختم سنن النسائي رواية ابن الأحمر) حدّثت به قريبًا من سنة ستين، ولكنه غاب الآن عني.

وسأل بعض الأمراء المصنف -كما حكاه المجد أبو السعادات ابن الأثير في مقدمة (جامع الأصول) له- عن كتابه السنن، أكُلُّه صحيح؟ فقال: لا. قال: فاكتب لنا الصحيح منه مجردًا.

فصنع المجتبى من السنن ترك كل حديث أورده في السنن مما تُكُلم في إسناده بالتعليل. انتهى.

وهو أصح مما قاله غيره: إن المجَرِّدَ هو أحد رواته، الحافظ أبو بكر ابن السُّني.

وما حكاه أبو عبد الله محمَّد بن مَنْدَه مما سمعه من محمَّد بن سعد البارودي في: "كون شرط النسائي التخريج لكل من لم يُجْمَعْ على تركه، حتى يخرج للمجهول حالا وعينًا للاختلاف فيهم" هو مذهب متسع إن حُملَ على ظاهره، لاقتضائه التخريج لجُلِّ الضعفاء، وليس الواقع كذلك، بل الحق إرادته إجماعًا خاصًا.

وذلك أن كل طبقة من المتكلمين في الجرح والتعديل لا تخلو من متشدد ومتوسط، فمتى اتفق الفريقان على ترك واحد تَجَنّبه النسائي، بخلاف ما إذا ضعّفه المتشدد ووثّقه الآخر.

ومن ثَمَّ خرَّج لعبد الله بن عثمان بن خُثيم، وقال: إن يحيى بن سعيد القَطَّان، وعبد الرحمن بن مهدي لم يتركاه، وقال علي بن المديني: إنه منكر الحديث، وكأن علي بن المديني خُلق للحديث 5/ 248.

ص: 92

وحينئذ فقول ابن مَنْدَة: وكذلك أبو داود يأخذ مأخذ النسائي. يعني: في عدم التقيُّد بالثقة، والتخريج لمن ضُعِّف في الجملة، وإن اختلف صنيعهما.

وقول المُنْذري في (مختصر السنن لأبي داود) حكايته عن ابن منده: "إن شرط أبي داود والنسائي أخراج حديث قوم لم يُجْمَعْ على تركهم إذا صح الإسناد من غير قطع ولا إرسال". محمول على هذا، وإلا فكم من رجل أخرج له أبو داود، والترمذي، تجنب النسائي إخراج حديثه بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الشيخين، كما ستراه قريبا.

* وقد سمعه أبو الحسن أحمد بن محبوب الرَّمْلي يقول: "لما عزمت على تصنيف (السنن) استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشيء، فوقعت الخيْرةُ على تركهم، ونزلت لذلك في جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم، فوقعت الخيرة على تركهم"

(1)

رواه أبو الفضل ابن طاهر، وسمعه الحاكم أبو عبد الله بمكة من ابن محبوب.

ونحوه قول ابن طاهر: سألت الإمام أبا القاسم سعد بن علي الزِّنْجَاني بمكة عن رجل من الرواة فوثّقه، فقلت له: إن النسائي ضعفّه، فقال:"يا بني إن له في الرجال شرطًا أشد من شرط البخاري ومسلم" انتهى.

* بل قد يَعْتَذرعن تخريجه للضعيف، كقوله:"سعيد بن سلمة شيخ ضعيف، وإنما أخرجناه للزيادة في الحديث" 8/ 258.

قلت: ومع ذلك و:

(1)

هكذا "فوقعت الخيرة على تركهم" مكررة، والظاهر إسقاط الثانية، والله أعلم.

ص: 93

* شدة تحريه:

- كقوله وقد ساق حديثًا من طريق الزهري عن ابن المسيِّب، وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة:(لم أفهم "ابن المسيب" كما أردت) 4/ 70.

- وحديث علقمة: كنت مع ابن مسعود عند عثمان، فقال عثمان: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على -يعني- فتْية- قال النسائي: (فلم أفهم "فتية" كما أردت) وذكر الحديث في (الحث على النكاح) 6/ 56.

- وحديث الذي آتاه الله من أصناف المال وقوله حين سُئل: (ما تركتُ من سبيل تُحبُّ. قال النسائي: ولم أفهم "تُحبُّ" كما أردت) 6/ 24.

- وكذا روى عن قُتيْبَة، عن سفيان، عن عبد الله -يعني ابن أبي بكر-: ولم أُتْقنْهُ- عن عروة بن بُسْرة 1/ 216.

- وروى حديثًا طويلًا في قيام الليل ثم قال: (هكذا وقع في كتابي، ولا أدري ممن الخطأ في موضع وتْره صلى الله عليه وسلم).

* بل ينبه على ما لعله يقع لشيوخه من الاختلاف:

كروايته عن قتيبة، عن الليث حديثا، وقال:(إنه حدّث به مرة أخرى فنقص عن تحديثه الأول منه رجلًا) 1/ 119.

إلى غير ذلك من:

* مزيد تَثَبُّته كقوله -أحيانًا- عقب تعليل، أورَدٍّ، ونحو ذلك مما يجتهد فيه:(والله أعلم) 1/ 45 - 46 و 123.

* فقد ردّوا تجريحه لأبي جعفر أحمد بن صالح المصري، المعروف بـ

ص: 94

(ابن الطبري) فإنه -مع تخريج الشيخين له، بل واحتج به سائر الأئمة- ذكره في كتابه الضعفاء، وقال: إنه ليس بثقة.

زاد في رواية: "ولا مأمون، تركه محمَّد بن يحيى، ورماه ابن معين بالكذب، فقال: كذاب يتفلسف". وفي لفظ: "رأيته كذابًا يَخْطُرُ في جامع مصر".

وقال غير واحد في سبب تجريحه إياه مما حكاه مَسْلَمَة بن القاسم: إن أحمد بن صالح كان لا يُحدِّثُ أحدًا حتى يشهد عنده رجلان من المسلمين أنه من أهل الخير والعدالة، وحينئذ يحدثه ويبذل له علمه، وكان يذهب في ذلك مذهب زائدة بن قُدامة، فلما جاء النسائي ليسمع منه دخل عليه بغير إذن، ولم يأت بمن يشهد له بالعدالة، فأنكر أحمد بن صالح ذلك، وأمر بإخراجه. فضَعَّفَه لهذا، بل كان يطلق لسانه فيه.

قال الخطيب: (وليس الأمر على ما ذكره النسائي، ولكن يقال: كانت آفة أحمد بن صالح الكبرُ وشراسة الخلق، ونال النسائي منه جفاء في مجلسه ففسد الحال بينهما).

ونحوه قول أبي سعيد بن يونس.

قلت: والظاهر من حال النسائي أنه غير موافق له على مذهبه، ويرى ذلك وسيلة لكتم العلم سيما حيث فهم أن التعاظم والكبر موجبه.

ونحوه قول الخطيب -وقد حُكي عن بُندار- أنه قال: "كتبت لأحمد بن صالح بخمسين ألف حديث إجازة، وسألته أن يجيز لي، أو يكتب لي بحديث مَخرَمَة بن بُكير فلم يكن عنده من المروءة ما يكتب بذاك إليّ إنما حمله عليه سوء الخُلق".

ص: 95

قال: ولقد بلغني أنه لم يكن يُحَدِّث أمرد، فلما جاءه أبو داود صاحب السنن بولده، وكان إذ ذاك أمرد. أنكر عليه إحضاره ابنه مجلسه، فقال: إنه وإن كان أمرد أحفظ من أصحاب اللحى فامتحنه بما أردت، ففعل، ثم حدّثه، ولم يُحدِّث أمرد سواه.

نعم: قيل: إن الذي جرحه ابن معين آخر غير هذا، ولكنه التبس على النسائي.

وعلى تقدير كونه هو فتوقَّف فيه بعضهم، وقال: لعل ابن معين لا يدري ما الفلسفة.

وبالجملة مع ما أبديناه في توجيه تجريحه فالنسائي إمام حجة من أهل الاجتهاد والنقد، لا نلتزم عصمته من الخطأ سيما:

وَعَيْنُ الرَّضَا عن كُلِّ عَيْب كَليْلَةٌ

كَمَا أنَّ عَيْن السُّخْط تُبدي المَسَاويَا

(1)

ووراء هذا أنه حصل بكلام النسائي فيه المكافأة له على تحامله بالتكَلم في حَرمَلة صاحب الشافعي كما بينته في محل آخر

(2)

، إذ الجزاء من جنس العمل.

* وقد سئل شيخنا -رحمه الله تعالى- عن ذكر النسائي لبعض الأئمة في ضعفائه، فأجاب بقوله: (النسائي من أئمة الحديث، والذي قاله إنما هو بحسب ما ظهر له وأدّاه إليه اجتهاده، وليس كلّ أحد يؤخذ بجميع قوله سيما وقد وافق النسائي في مطلق القول جماعة.

ولعمري فكتابه بديع لمن تدبره، وتفهم موضوعه وكرره، وكم

(1)

البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (من الطويل).

(2)

انظر فتح المغيث 4/ 367.

ص: 96

جواهر اشتمل عليها، وأزاهر انتعشت الأرواح بالدخول إليها، وذلك:

* أنه يفسر الغريب أحيانًا:

- كقوله في حديث الأعرابي الذي بال: "لا تَزْرمُوه" يعني: لا تقطعوا عليه، ومرة: لا تقطعوه 1/ 47.

- وفي حديث "هذه ركسٌ": الركس طعام الجن 1/ 41.

- وفي حديث اللعان "قَضئ العينين" هو: طويل شعر العين ليس بمفتوح العينين، ولا جاحظهما 6/ 173.

- وفي حديث "كان يكره الشِّكال": الشكال من الخيل: أن تكون ثلاث قوائم مُحَجَّلة، وواحدة مُطلَقةٌ، أو عكسه، ولا يكون إلا في الرِّجل دون اليد 6/ 219.

- وقريب من هذا قوله في قسم الفيء: قوله تعالى في آية {.. أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ..} :

(لله: ابتداء الكلام؛ لأن الأشياء كلها لله تعالى عز وجل، ولعله إنما استفتح الكلام في الفيء والخمُس بذكر نفسه لأنها أشرف الكسب، ولم ينسب الصدقة إلى نفسه عز وجل لأنها أوساخ الناس، والله أعلم.

قال: وقد قيل: بل يُؤخذ من الغنيمة شيء فيُجعل في الكعبة.

وهو السهم الذي لله عز وجل، وسهمُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإمام يشتري منه الكُراع والسلاح، ويعطي منه من رأى ممن فيه غَناء ومنفعة لأهل الإسلام، ومن أهل الحديث والعلم والفقه والقرآن.

وسهمُ ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب، يُقسَم بينهم

ص: 97

الغني منهم والفقير، وقد قيل: للفقير منهم خاصة كاليتامى، وابن السبيل، وهو أشبه القولين بالصواب عندي، والله أعلم. والصغير والكبير، والذكر والأنثى سواء؛ لأن الله تعالى جعل ذلك لهم، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وليس في الحديث أنه فضّل بعضهم على بعض، ولا خلاف نعلمه بين العلماء في رجل أوصى بثلث ماله لبني فلان أنه بينهم، وأن الذكر والأنثى فيه سواء، إذا كانوا يُحْصَون، فهكذا كل شيء صُيّر لبني فلان أنه بينهم بالسَّوية إلا أن يُبيِّن ذلك الآمر به، والله تعالى ولي التوفيق.

وسهمٌ لليتامى من المسلمين، وسهمٌ للمساكين من المسلمين، وسهمٌ لابن السبيل من المسلمين، ولا يُعطى أحدٌ منهم سهمَ مسكين، وسهمَ ابن السبيل، وقيل له: خذ أيهما شئت.

والأربعة الأخماس يقسمها الإمام بين مَنْ حضر القتال من المسلمين البالغين 7/ 134.

- ولما ذكر حديث أبي هريرة في مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم عند فطره بنَبيذ صنعه له في دُبّاء، فوجده يَنشُّ

(1)

، فقال:"اضرب بهذا الحائط، فإنه شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر".

قال: فيه دليل على تحريم المسكر قليله وكثيره، وليس كما يقول المخادعون لأنفسهم بتحريم آخر الشربة، وتحليلهم ما تقدمها الذي يُشرب في الفَرَق قبلها، ولا خلاف بين أهل العلم أن السُّكْر بكليته لا يحدث على الشربة الأخيرة دون الأولى والثانية بعدها 8/ 301.

وسيأتي قول الحاكم: "أما كلامه على فقه الحديث فأكثر من أن

(1)

يغلي.

ص: 98

يُذكر في هذا الموضع، وإنه من نظر في سننه تحيّر في حسن كلامه" والله الموفق.

* ويُعَيِّن المُهْمَل:

- كقوله فيما رواه من جهة بكر: وهو ابن مُضَر 3/ 49.

- وفيما رواه من جهة عبيد الله: وهو ابن القبْطيَّة 3/ 64.

* قد يذكره -أي المُهْمَل- مع الشّكّ:

- كقوله عقب حديث ليونس عن ابن المسيب، عن عائشة في فضل يوم عرفة:(يشبه أن يكون يونس بن يوسف الذي روى عنه مالك) 5/ 252.

- ونحوه قوله تلْوَ حديث لمغيرة عن أبي وائل، عن عبد الله مرفوعًا "الولد للفراش": ولا أحسب هذا عبد الله بن مسعود) 6/ 181.

* ويسمي المُبْهَم في أصل السند:

- كإيراده حديث محمَّد بن عبد الرحمن، عن رجل، عن جابر رفعه "ليس من البر الصيام في السفر" ثم ساقه من طريق محمَّد -أيضا- فقال:(عن محمَّد بن عمرو بن حسن، عن جابر) 4/ 176 - 177.

- ونحوه ما رواه من جهة ابن أبي غَنيَّة: واسمه يحيى بن عبد الملك 3/ 19.

- وكذا في المتن:

- كقوله في حديث ذي اليدين: فقام إليه رجل يقال له: الخرْباق.

بل أورده كذلك في موضع آخر مُسمى في أصل رواية أخرى 3/ 66.

ص: 99

- وكإيراده في العتق حديث الذي دَبَّر عبدًا له بغير تسمية لهما، ثم أورده بتسمية المدبِّر بأبي مذكور، والمدبِّر يعقوب 7/ 304.

* والمكنّي. كقوله فيما رواه:

- من جهة أبي مُعَيد: هو حفص بن غيلان 1/ 118.

- ومن جهة أبي هشام: هو المغيرة بن سلمة 3/ 124.

- ومن جهة أبي رشدين: هو كُريب 2/ 218.

- ومن جهة أبي غَلاب: هو يونس بن جُبير 2/ 242.

- ومن جهة أبي عمار: هو عَريْب بن حُميد 5/ 49.

* ويكني المسمَّى حيث كان مشهورا بكنيته:

- كقوله: أخبرنا زكريا بن يحيى، هو أبو كامل

(1)

وعمرو بن شُرحبيل معنى أبا ميسرة.

وذَكْوان: أبو صالح 6/ 32.

وذَكْوان: أبو عمرو 6/ 85.

* ويشير للمتفق والمفترق، ومنه:

- آخر الأمثلة في الذي قبله.

- وكقوله في حديث عبد الله بن زيد في الاستسقاء، وقد وصفه ابن عيينة بأنه الذي أريَ النداء: "هذا غلط من ابن عيينة، فالذي

(1)

ظاهره أن زكريا هو أبو كامل، وليس كذلك، بل أبو كامل شيخ لزكريا، وهو أبو كامل الجحدري، انظر تحفة الأشراف ج 9 ص 296.

وهو أيضا في السنن هكذا أخبرنا زكريا، قال: حدثنا أبو كامل .. انظر ج 4 ص 204 و 218.

ص: 100

أريَ النداء اسمُ جدِّه عبدُ ربه، وراوي هذا الحديث اسمُ جَدِّه عاصم" 3/ 155 - 156.

- بل قال عقب حديث لإسماعيل بن مسلم، عن محمَّد بن واسع، عن مُطرِّف بن عبد الله قال: قال عمران: "تمتعنا مع رسول

الله صلى الله عليه وسلم": إسماعيل بن مسلم ثلاثة:

هذا أحدهم: "لا بأس به، والآخر: يروي عن أبي الطفيل، لا بأس به أيضًا، والثالث: يروي عن الزهري والحسن، متروك الحديث" 4/ 172.

- وعقب حديث آخر: "أبو معشر صاحب إبراهيم النخعي، واسمه زياد بن كُليب وهو ثقة، وآخر اسمه نَجيح وهو ضعيف، بل اختلط أيضا".

- وعقب حديث لعبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري:

"عبد الرحمن هذا ليس به بأس، وعبد الرحمن بن إسحاق يروي عنه علي بن مُسهر، وأبو معاوية عبد الواحد بن زياد، عن النعمان بن سعد ليس بثقة" 6/ 9.

* ونحوه مما يندفع به تعدد الواحد، "كهارون بن أبي وكيع، وهو هارون بن عنترة" 7/ 237.

* ولما يزول به اللَّبسُ من ذلك فَسَاقَ:

- من طريق ابن المبارك عن أبي جعفر، عن أبي سلمان. وقال:(وليس بأبي جعفر الفَرّاء) 2/ 14.

- ومن طريق سليمان التَّيمي، عن أبي عثمان (وليس بالنَّهْدي) 8/ 333.

ص: 101

* وللإخوة:

- كقوله عقب حديث من طريق عبيد الله بن عبد المجيد أبي علي الحنفي ما معناه: (هم أربعة إخوة: أبو علي، وأبو بكر، وشريك، وآخر) 7/ 168.

* ويبيّن المنقطع:

- كقوله من حديث مَخْرَمَة بن بكير عن أبيه: (مَخْرَمَة لم يسمع من أبيه شيئًا) 1/ 214.

- وفي حديث لأبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود: (إنه لم يسمع من أبيه شيئًا، ولا عبدُ الرحمن بنُ عبد الله، ولا عبدُ الجبار بنُ وائل) 3/ 105.

- ونحوه قوله: (الحسن عن سَمُرة كتاب، ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة) 3/ 94.

- وقوله عقب حديث لأيوب عنه، عن أبي هريرة رفعه "المنتزعات، والمختلعات هن المنافقات" وقول الحسن: "لم أسمعه من غير أبي هريرة: (الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئًا) 6/ 168 - 169.

وحينئذ فمقالة الحسن فيها تدليس، وكأنه أراد لم أسمعه من غير حديث أبي هريرة، وإن استدل شيخنا بهذا الحديث على سماعه منه. إذ لولا تأويله بما قلنا ما أردفه النسائي بجزمه بعدم سماعه منه لشيء مع صحة السند.

- وكذا قوله عقب حديث لهشام بن عروة عن أبيه: (هشام لم يسمع من أبيه هذا الحديث) 1/ 216.

ص: 102

- وعقب حديث لهشام بن عروة، عن أبيه، عن أم سلمة:(عروة لم يسمع من أم سلمة) 5/ 223.

- وحديث للأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في استئذانه أن يختصي. وقوله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا هرّ جَفّ القلم .. " الحديث: (الأوزاعي لم يسمعه من الزهري، ولكنه حديث صحيح لرواية يونس عن الزهري) 6/ 60.

* وربما نبّه ابن السُّني راويه على ما لا يذكره من ذلك:

- كقوله عقب حديث للزهري، عن ابن عمر في صلاة الخوف:(الزهري سمع من ابن عمر حديثين، ولم يسمع منه هذا) 3/ 173.

* والمرسل:

- كقوله في حديث لجرير، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة رفعه:"لا تَقدَّموا الشهر": (أرسله الحجاج بن أرْطأة عن منصور بدون حذيفة) 4/ 136.

- وفي حديث لزائدة وسفيان، كلاهما عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في مجيء أعرابي برؤية هلال رمضان:(رواه أبو داود الطيالسي، وابن المبارك كلاهما عن سفيان مرسلًا بدون ابن عباس) 4/ 132.

- وحديث لمحمد بن بشر، وابن المبارك كلاهما، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن محمَّد بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه رفعه "الشهر هكذا":(رواه يحيى بن سعيد وغيره، عن إسماعيل بدون سعيد مرسلًا) 4/ 138.

ص: 103

- وكذا روى عن سليمان بن يَسَار، أن حمزة بن عمرو قال:"يا رسول الله إني أسْرد الصوم .. " الحديث، وقال:(مرسل).

يعني لكون سليمان لم يدرك سؤال حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه لو حضر ذلك لكان صحابيًا، لكن سليمان رواه عن حمزة كما في رواية أخرى 4/ 185.

* وكثيرا ما يُسمِّي المنقطع مرسلًا:

- كقوله عقب حديث لطلحة بن يزيد الأنصاري، عن حذيفة:(هذا الحديث عندي مرسل، وطلحة لا أعلمه سمع من حذيفة شيئا، وغير العلاء بن المسيب -يعني راويه عن عمرو بن مُرَّة، عن طلحة- قال فيه: عن طلحة، عن رجل، عن حذيفة) ج 3 ص 226.

* وكذا كثيرًا ما يُرجح المرسل على المتصل مع القرينة وغيرها من المرجحات له ج 6 ص 168:

* وربما وقع له حديث بزيادة راو في سنده، ويحذفه في طريق آخر مما يكون الأمر فيه مترددا بين الإرسال الخفي والمزيد في متصل الإسناد، فيميل لثبوتهما معا. كقوله:(يشبه أن يكون الزهري سمع هذا الحديث من عبد الله بن كَعْب، ومن عبد الرحمن بن كَعب عنه) ج 7 ص 22.

* وقد يرجّح الزائد كحديث لمحمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، ثم ساقه بإثبات أخيه عَبَّاد بن أبي سعيد بينه وبين أبي هريرة، وصوّبه، وقال:(إن سعيدا لم يسمعه من أبي هريرة) ج 8 ص 284.

ص: 104

* والضعيف:

- كقوله عقب حديث محمَّد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران مرفوعًا:"لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين": (محمَّد ضعيف، لا يقوم بمثله حُجَّة، وقد اختلفوا عليه فيه) ج 7 ص 28.

- وفي تزوج الزانية عقب حديث لهارون بن رئاب، وعبد الكريم كلاهما عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي امرأة من أحب الناس إليّ، وهي لا تمنع يد لامس. قال: طلقها. قال: لا أصبر عنها. قال: استمتع بها": (إنه ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون ثقة أثبت منه، وقد أرسل الحديث -يعني بدون ابن عباس- وحديثه أولى بالصواب) ج 6 ص 67 - 68.

ثم أعاده في الخُلع بنحوه من جهة هارون فقط بذكر ابن عباس، ومن جهة عُمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس، وقال:(إنه خطأ، والصواب مرسل) 6/ 170.

- وعقب حديث لربيعة بن سيف المعَافري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلّى، عن عبد الله بن عمرو في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها. وقولها له: إنها كانت تعزّي أهل ميت، وقال لها:"لعلك بلغت معهم الكُدَى .. " الحديث: (ربيعة ضعيف) 4/ 28.

- وحديث لمسعود في موقف الإمام إذا كان معه اثنان: (بُريدة بن سفيان بن فَرْوَة الأسلمي -يعني راويه عن مسعود وحفيد مولاه- ليس بقوي في الحديث) انتهى 2/ 85.

ص: 105

وقد عزاه شيخنا في الإصابة لمعجم الصحابة للبغوي، وابن مَنْدَه، ومُطَيَّن، وابن السَّكن وغيرهم، وعجبت من ترك عزوه للمؤلف.

* ولأصح ما في الباب:

- كقوله عقب حديث عبد الله بن عُكيم "كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عَصَب: (أصح ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دُبغت حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة: "ألا دبغتم إهابها فاستمتعتم به؟ ") 7/ 175.

* ولما يُشعر بتحرّز بعض الأئمة في الرواة:

- كقوله: (عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن روى عنه مالك) 5/ 187.

* والمنكر. فإنه حكم بذلك في:

- حديث لحماد بن زيد، قال: قلت لأيوب: هل علمت أن أحدًا قال: "في أمرك بيدك" أنها ثلاث غير الحسن؟ فقال: لا، ثم قال: اللهم غَفْرًا إلا ما حدثني به قتادة، عن كثير مولى ابن سَمُرة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث" فلقيت كثيرًا فسألته، فلم يعرفه، فرجعت إلى قتادة فأخبرته، فقال:(نسي) 6/ 147.

- وكذا في حديث "نهى عن ثمن الكلب والسِّنَّور إلا كلب الصيد" فقال: (هذا منكر) 7/ 309.

ص: 106

* والغريب:

- إما في لفظه في المتن:

- كقوله "إذا ولَغَ الكلب في إناء أحدكم فليرقه": (لا أعلم أحدًا تابع علي بن مسهر على قوله "فليرقه") 1/ 53.

- وكحديث الذي أحرم بعمرة وهو مُتَضَمِّخ بطيب: (لا أعلم أحدا قال: "ثم أحدث إحرامًا" غير نوح بن حبيب، ولا أحسبه محفوظًا) 5/ 131.

- أو بكونه مسندًا:

- كقوله عقب حديث الزهري عن عروة، عن عائشة في ضُباعة "محلي حيث تحبسني":(لا أعلم أحدًا أسنده -يعني عائشة- عن الزهري غير معمر)

(1)

وهو تفرد نسبي.

- أو في المتن كله:

- كقوله عقب حديث لأبي داود الحَفَري، عن حفص، عن حُميد، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مُتَربِّعًا": (لا أعلم أحدًا رواه غير أبي داود وهو ثقة، ولا أحسبه إلا خطأ) 3/ 224.

- وعقب حديث أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة مرفوعًا في ساعة الجمعة:(لا نعلم أحدًا حدّث به غير رباح، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة إلا أيوب بن سُويد فإنه حدّث به عن يونس، عن الزهري، عن سعيد، وأبي سلمة. وأيوب متروك الحديث)

(2)

وهي غَرَابة مُقَيّدة.

(1)

5/ 169.

(2)

3/ 116.

ص: 107

* والموقوف 2/ 60:

* ولما يعلم منه عدم التلازم بين السند والمتن حيث وصف سندًا بالحُسن ومتنه بالنكارة 4/ 142.

* وللمُدْرَج:

- كحديث لعُبادة بن مُسلم الفَزَاري، عن جُبير بن أبي سليمان بن جُبير بن مُطعم، عن ابن عمر:("اللهم إني أعوذ بك وبعظمتك أن أغْتالَ من تحتي" مختصر).

قال جُبير: وهو الخسف. قال عبادة: فلا أدري أهذا قوله صلى الله عليه وسلم أم قول جُبير؟ ثم ساقه من وجه آخر عن عُبادة بلفظ (يعني بذلك الخسف) 8/ 282.

* ولما يُدْرجَ في حديث بعض الرواة مما هو عند غيرهم:

- كحديث ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم ومنصور، كلاهما عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن يزيد، قال: رمى عبد الله الجمرة بسبع حصيات. قال عقبه: (ما أعلم أحدًا قال في هذا الحديث "منصورًا" غير ابن أبي عدي) 5/ 373.

- وحديث مالك، ويونس، وعمرو بن الحارث، ثلاثتهم عن ابن شهاب، عن عبّاد بن زياد، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه:(لم يذكر مالك عروة) 1/ 62.

- وحديث سعيد بن أبي هلال، وبُكير بن الأشج، كلاهما عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سُلَيم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه مرفوعًا:"الغُسْلُ يوم الجمعة واجب على كل مُحْتَلم": ولم يذكر بُكَيرٌ عبدَ الرحمن. وزاد في الطيب: (ولو

ص: 108

من طيب المرأة) 3/ 92.

- وحديث همّام عن سفيان، ومنصور، وزياد، وبكر -هو ابن وائل- كلهم عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أنه "رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وعثمان، يمشون بين يدي الجنازة": (لم يذكر بكرٌ عثمَانَ).

وقال أيضا: (إنه خطأ، والصواب مرسل) 4/ 56.

* ولما يشير به لنوع من التدليس:

- كقوله عقب رواية لابن جريج (حدثني عبد الله بن عثمان بن خُثيم عن أبي الزبير، عن جابر": (ابن خثيم ليس بالقوي في الحديث وإنما أخرجته لئلا يُجعل "ابن جُريج، عن أبي الزبير") 5/ 248.

- وساق لسفيان، عن أبي الزبير، عن جابر رفعه:"ليس على خائن، ولا مُنتهب، ولا على مُختلس قطع" ثم قال: (لم يسمعه سفيان من أبي الزبير).

ثم ساقه من حديثه، قال: قال أبو الزبير، عن جابر. ومرّةً: قال جابر.

ثم قال: (وقد رواه عن ابن جريج عيسى بن يونس، والفضل بن موسى، وابن وهب، ومحمد بن ربيعة، ومخلد بن يزيد، وسلمة بن سعيد -وهو بصري ثقة، بل قال ابن أبي صفوان: إنه كان خير أهل زمانه- فلم يقل أحد منهم: "حدثني أبو الزبير" ولا أحسبه سمعه منه) 8/ 89.

* ولما لَعلَّه يقع تصحيفًا:

ص: 109

- كقوله في حديث لسفيان الثوري عن بَيَان بن بشر: (هذا خطأ ليس من حديث بيان، ولعل سفيان قال: حدثنا اثنان، فسقطت الألف) 4/ 223.

- ونحوه في هذا الحديث بعينه "عن ابن الحَوْتكية قال: قال أبي": (الصواب: عن "أبي ذر" ويشبه أن يكون وقع من الكتاب "ذر" فقيل: "أبي") 4/ 223.

- ومنه قوله: سمعت عبد الصمد البخاري يقول: حفص بن عمر الذي يروي عن ابن مهدي: (لا أعرفه، إلا أن يكون سقطت الواو من أبيه، وهو حينئذ الرَّبالي المشهور بالرواية عن البصريين، وهو ثقة) 8/ 125.

* ويشير لما يثبت العلة أو يدفعها:

- فمن الشِّق الثاني: حديث لسفيان عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، تابعه ابن جريج، وحماد بن زيد، من رواية يحيى. فجعله عن جابر، لا ابن عمر. وتابعه محمَّد بن مسلم الطائفي، عن عمرو، وجمع بينهما ابن عيينة، عن عمرو فكانت هذه الرواية جامعة بينهما 7/ 48.

- ومن الأول: حديث لابن علية، عن أيوب، عن يعلي بن

حكيم، عن سليمان بن يَسار، عن رافع بن خَديج، أعَلَّه برواية لحماد عن أيوب، قال: "كتب إليّ يعلى

(1)

"، وإنه تبيّن بها أن أيوب لم يسمعه من يعلى هذا مع صحة الرواية بالمكاتبة والاتصال بها بشرطه.

* وإذا اختلف الرواة في شيء رجَّح بالأثبتية ونحوها:

(1)

7/ 41 - 42

ص: 110

- كقوله: (والحكم بن عتيبة أثبت من سلمة بن كُهيل) 5/ 49.

- وكذا في حديث اختلف فيه على سفيان الثوري، قاسم بن يزيد، ومحمد بن عبيد، وأبو نعيم:(أبو نعيم أثبت عندنا من محمَّد ابن عُبيد، وقاسم بن يزيد. وأثبت أصحاب سفيان عندنا يحيى ابن سعيد القطان، ثم ابن المبارك، ثم وكيع، ثم ابن مهدي، ثم أبو نعيم، ثم الأسود. في هذا الحديث) 3/ 250.

* وقد يرجح المرجوح:

- كقوله في حديث النهي عن التَّبَتُّل، وقد رواه من جهة أشعث، عن الحسن، عن سعد بن هشام، عن عائشة، وقتادة عن الحسن، عن سمُرة:(قتادة أثبت وأحفظ من أشعث، ولكن حديث أشعث أشبه بالصواب) 6/ 59.

* وربما يشير لإيضاح النسبة:

- كقوله: (أخبرنا عمرو بن سَوَّاد بن الأسود، عن عمرو السَّرحي، من ولد عبد الله بن سعد بن أبي سرح) 2/ 215.

- (وأخبرنا محمَّد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي، من ولد عثمان ابن أبي العاص) 8/ 179.

- (وأخبرنا عيسى بن أحمد العسقلاني -عسقلان بلخ

(1)

- احترازا عن عسقلان غيرها).

* ويسرد نسب شيخه أحيانًا:

- كقوله: أخبرنا علي بن حُجر بن إياس بن مُقاتل بن مُشَمْرج بن خالد السعدي 7/ 187.

(1)

7/ 227

ص: 111

- وحدثنا قُتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف 1/ 190.

* وكذا لقبه:

- كعيسى بن حماد زُغْبة 1/ 305.

- وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم 1/ 81.

وكلاهما من شيوخه.

* وللمحل الذي سمع من شيخه فيه:

- كقوله: أخبرنا علي بن الحسن اللاني بالكوفة 4/ 187.

* ولما يزول به اللبس:

- كقوله: أخبرنا عبد الله بن محمَّد الضعيف -شيخ صالح- والضعيف لقب لكثرة عبادته 4/ 165.

- ونحوه: الضال، لكونه ضل الطريق

(1)

.

* وللثناء على شيخه:

- كقوله: أخبرنا محمَّد بن رافع النيسابوري الثقة المأمون 7/ 67.

* ولما يُعرف به الراوي، وإن كان نقصًا في الجُملة:

- كوصفه شيخه سريع بن عبد الله الواسطي بالخَصيِّ 7/ 83.

* ولما يقع من الراوي مما يَجْرحُ به بعض الأئمة:

- كروايته عن شيخه يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي الحافظ المتقن صاحب المسند، حديث يحيى بن عتيق، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم"

(1)

هذا ليس من رجال الكتب الستة، ولعل السخاوي أراد بذكره هنا التشبيه من جهة خروج اللقب لكلا الرجلين عن الحقيقة العرفية في هذا الفن، فلذا قال: ونحوه. أفاده بعض الأفاضل.

ص: 112

ثم قال: (كان يعقوب لا يُحدث به إلا بدينار)

(1)

ثم أكثر التخريج له في كتابه

(2)

، فدَلَّ على أنه لا يرى ذلك جرحًا، أو يَخَصُّ الجرح بمن لم يُعرف بمزيد الإتقان والتثبت، ولذا احتج بالمشار إليه الشيخان أيضا.

إلى غير ما استخرجناه مما لو أمعنا النظر في كتابه لظهر لنا ما لعله يخفى عن كثيرين.

* وقد انفرد عن باقي الكتب الستة بعَقْد:

- كتاب للتَّطبيق، ذكر فيه:

حديث النهي عن وضع اليدين بين الركبتين 2/ 184.

وكذا الإمساك بالرُّكب في الركوع 2/ 185. ونحو ذلك، وإن كانت الأحاديث مذكورة فيها.

- وكتاب للشروط مما ينتفع به القضاة والموثقون فكتب في الأحباس منه قليلًا 6/ 230، ثم الجملة قُبيل عشرة النساء، ومنه:

صورة ما يكتب في شركة عنان بين ثلاثة، وشركة مفاوضة بين أربعة عند من يجيزها، وتفرقة الشركاء عن شريكهم، والزوجين، وغير ذلك 7/ 55 - 60.

* وبالجملة فكتاب النسائي أقل الكتب الستة بعد الصحيحين حديثًا ضعيفًا.

ولكن إنما أخّروه عن أبي داود والترمذي فيما يظهر لتأخره عنهما وفاة. بل هو آخر أصحاب الكتب الستة وفاة، وأسنّهم، لم يُعمّر

(1)

1/ 49.

(2)

أخرج في 110 موضعا كما في سنن النسائي ص 255.

ص: 113

منهم أحد كتعميره.

* وقد كتب عليه شرحًا الإمام أبو الحسن علي بن عبد الله بن النّعمَة سماه (الإمعان في شرح مصنف النسائي أبي عبد الرحمن) ما وقفت عليه.

* وشَرَحَ زوائده السَّراج أبو حفص بن المُلَقِّن، وسبيله فيه كسبيله في شرح زوائد غيره.

وقد قال الحافظ عبد الغني بن سعيد: سمعت أبا علي الحسن بن خضر السيوطي -يعني أحد رواة السنن- يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وبين يديه كتب كثيرة فيها "كتاب السنن" لأبي عبد الرحمن، فقال لي صلى الله عليه وسلم: إلى متى؟ أو: إلى كم؟ هذا يكفي. وأخذ بيده الجزء الأول من كتاب الطهارة من السنن لأبي عبد الرحمن فوقع في روعي أنه يعني أن "كتاب السنن" لأبي عبد الرحمن أحب إليه.

ومما قاله الحافظ الزين أبو الفضل العراقي من النظم فيه في أثناء قصيدة تلو قوله (من البسيط):

ص: 114

وكُلُّهم من رسول الله مَشْربُهُ

من موْرد طَيّب صافي الوُرُود هَني

منهمْ إمامُ نَسَا أحمدٌ الثِّقَةُ الـ

جَوّالُ في طلَب الآثَار والسُّنن

أعظم به من تَقيٍّ قَانت وَرع

إمَام صدْق عَلَى الأخْبَار مُؤْتَمَن

كتَابَهُ السُّنن المشهورُ إنَّ له

في القلب وقعّا على ما صحَّ من سُنن

وكَمْ لَه من تَصَانيف زَكَتْ وَسَمَتْ

أتَى بها باخْترَاع مُبْدَع حَسَن

منهَا الخَصَائصُ فيمَا خُصَّ سيّدُنَا

به عليًا من الألطَاف والمنن

كذاكَ مُسنَدُهُ أيضًا لَهُ وكَذا

حديثُ مَالك العَاري منَ الوَهَن

وجَمْعُهُ لأحاديث الإمَام أبي

بَكْر مُحَمَّد الزُّهريّ ذي اللَّسَن

كَذا كتابُ الكُنى أيضًا لهُ وكذا

تمييزُهُ فَهْوَ من تَأليفه الحَسَن

وتلميذه الحافظ الجمال أبو حامد بن ظُهَيرة القرشي المكي الشافعي، في قصيدة نونية قال فيها (من الكامل):

وَلَكَمْ لَهُ من مُعجزات جَمَّة

مَا للأنَام بحَصْر تلْك يَدَان

بُشْراكمُو يَا سَامعينَ حَديثَهُ

وكَلامَهُ في حَضْرَة المَنَّان

نلتُمْ بذَا أجرًا وأعظَم نعْمَة

فَعَلَيْكُمُو بالحَمْد والشُّكْرَان

واللهَ أسألُ رحمةً من فضله

للحافظ النَّسَئيِّ ذي الإتقَان

فكتابُهُ فيه فوائدُ جمةٌ

يُرْقَى بها في جَنَّة الرِّضْوَان

وقد انْقَضَى إسمَاعُهُ مُتَوَاليًا

بقراءَة صَحَّتْ مَعَ الإعْلان

في مَسْجد الله الحَرَام بمكَّة

وتُجَاهَ ذَات السِّتْر والأرْكَان

إلى أن قال:

قَابلْ إلَهي السَّامعينَ وَقَارئًا

أجْرًا جَزيلًا مَع ثَوَاب دَاني

ص: 115

وفي لفظ بَدَله:

وَأثبْ إلَهي الشَّيْخَ والقَارئَ لهُ

فلقَدْ أنَالا غايةَ الإحْسَان

يارَبّ واجْعَلْهُ لوَجْهكَ خَالصًا

مُتَقَبَّلًا ما فيه منْ خُسْرَان

وارْحَمْ إلَهي جَمْعَنَا وأنلهُمُو

عَفْوًا وغُفْرَانًا وَخَيْرَ أمَان

واجْعَل صَلاتَك والسَّلام على النبيْ

ـي وآله والصَّحْب والأعْوَان

مَا لاحَ بَرْقٌ أو بَدَى نَجمُ السَّمَا

أو غَرّدَ القُمْريُّ في الأغْصَان

والحمدُ لله العَظيم ختامُهَا

مسكٌ يَفُوحُ مُعَطَّرَ الأرْدَان

* وله من التآليف سوى سننه:

- كتاب عمل اليوم والليلة.

- وخصائص علي رضي الله عنه، وهما بابان من السنن الكبرى.

- وله مسند علي أيضا.

- بل وجمع فضائل الصحابة. كما سيأتي بعد.

- وكتاب الضعفاء والمتروكين رواه عنه الحسن بن رَشيق العسكري.

- وكتاب الكنى، ولا يذكر غالبًا إلا من عرف اسمه ورتَّبه على ترتيب كأنه ابتكره بَيَّنْتُه في (فتح المغيث) رواه عنه ابنه عبد الكريم.

- وكتاب الإخوة والأخوات.

- وأسماء الرواة والتمييز بينهم.

- ومسند حديث مالك، رواه عنه أبو علي الأسيوطي، وحمزة الكناني.

- وجمع -أيضا- حديث الفضيل بن عياض.

ص: 116

- ومسند منصور بن زاذان.

- وغرائب الزهري، رواه عنه محمَّد بن قاسم.

- والإغراب، جمع فيه ما أغرب به شُعبة على سفيان، وعكسه، رواه عنه ابن حَيَّويه واتصل بنا جُلّه.

- ومجلسان من أماليه، رواية أبيض بن محمَّد بن أبيض عنه، وكان إملاؤه لهما في سنة ثلاثمائة.

- ومَنْسَكٌ، وصفه أبو السعادات بن الأثير -وهو الذي ذكره- بأنّه على مذهب الشافعي

(1)

. وقال أيضا: وله كتب كثيرة في الحديث والعلل، وغير ذلك.

* وهو الإمام الهُمام، الحافظ اللافظ، الناقد الزاهد، الجهبذ المجتهد، علم الأعلام، بل شيخ مشايخ الإسلام، الذي إليه في علم الحديث ومعرفة رجاله النقض والإبرام، أوحد الفقهاء والقراء، ومعتمد الأغنياء والأمراء، القاضي الماضي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سفيان بن بحر بن دينار الخراساني.

* النسائي: بفتح النون والسين المهملة، وبعد الألف همزة: نسبة لمدينة بخُراسان يقال لها: نَسَا. وعن بعضهم: إنها من بحور نيسابور، وقيل: من أرض فارس، وينسب إليها: نَسَوي. وقال الرُّشاطي: إنه القياس.

وتشتبه هذه النسبة بـ (النشَائي) بالمعجمة والمدّ ونون مكسورة، وهو محمَّد بن حرب من شيوخ الشيخين.

(1)

قد تقدم تفنيد هذا القول، وأمثاله من أن أئمة الحديث مقلدون لأهل المذاهب بما فيه كفاية، فراجع المسألة الأولى من المقدمة.

ص: 117

* وأبو عبد الرحمن ممن ذكر في تاريخ مكة، ودمشق، وحلب، ومصر، ونيسابور، وطبقات الحفاظ والقراء، والشافعية، وسير النبلاء.

* ومولده فيما جزم به الذهبي في الحفاظ، وتاريخ الإسلام، وتبعه تلميذه التاج السبكي في الكبرى: سنة خمس عشرة ومائتين.

بل هو منقول عن النسائي نفسه لكن بدون جزم. فقال أبو بكر محمدِ بن موسى بن المأمون: سمعت أبا بكر بن الإمام الدِّمْياطي يقول له: "وُلدتُ في سنة كذا، ففي أي سنة وُلدتَ؟ فقال: يشبه أن يكون في سنة خمس عشرة؛ لأن رحلتي الأولى إلى قتيبة كانت في سنة ثلاثين ومائتين، فأقمت عنده سنة شهرين"

انتهى.

ورأيت بنسخة من تجريد شيخنا للوافي بالوفيات للصَّفَدي: أنه وُلدَ سنة خمس وعشرين، وهو غلط جزمًا إما من الناسخ أو غيره.

* وارتحل -رحمه الله تعالى- الرحلة الواسعة الجامعة، وسافر في الطلب والجمع إلى البلاد الشاسعة، وطاف البلاد لعلو الإسناد، فسمع:

- بخراسان من: قتيبة، كما تقدم، ومن علي بن خَشْرم، وعلي بن حُجر.

- وبنيسابور من: إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، والحسين بن منصور السُّلمي، ومحمد بن رافع وأقرانهم.

- وبالبصرة من: عباس بن عبد العظيم العنبري، ومحمد بن المثنى

ص: 118

ومحمد بن بشار (بُندار) وعمرو بن علي الفلاس، وغيرهم.

- وبمصر من: يونس بن عبد الأعلى، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وعيسى بن حماد (زُغْبة)، وأبي طاهر بن السرح، وعبد الرحمن ومحمد ابني عبد الله بن عبد الحكم، وآخرين.

- وبالكوفة من: أبي كُريب محمَّد بن العلاء، وهَنّاد بن السَّري، وعلي بن الحسن اللاني، في طائفة.

- وببغداد من: محمَّد بن إسحاق الصَّغَاني، وعباس بن محمَّد الدُّوري، وأحمد بن منيع، ومجاهد بن موسى الخوارزمي، وجماعة.

- وبالحجاز من: محمَّد بن زُنْبُور بمكة.

- وببيت المقدس من: محمَّد بن عبد الله الخَلَنْجي.

- وبدمشق من: هشام بن عمار، ودُحيم، والعباس بن الوليد بن مزيد، وطائفة.

- وبحلب من: أبي العباس الفضل بن العباس بن إبراهيم الحلبي.

- وبالمصيصة من: قاضيها أحمد بن عبد الله بن علي بن أبي المضاء.

- وبالعراق.

- ومرو.

- والجزيرة، وغيرها.

- ورتب ابن الجوزي في المنتظم رحلته هكذا، فقال: كانت أول رحلته إلى نيسابور، ثم خرج إلى بغداد، وانصرف على طريق مرو، ثم توجه إلى العراق، ثم دخل الشام، ومصر.

* ومن شيوخه أيضًا: أبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان، ومحمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي النيسابوري، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، وأبو داود صاحب السنن، وغيرهم من الحفاظ.

ص: 119

وإبراهيم بن سعيد الجوهري، وحُميد بن مسعدة، والربيع بن سليمان الجيزي، وكذا المرادي، وزياد بن يحيي الحساني، وسُويد بن نصر، وعبد الله بن سعيد الأشج، وعمرو بن زرارة، ومحمد بن معمر القيسي، ومحمد بن النضر المروزي، ومحمود ابن غيلان، ونصر بن علي الجهضمي، وأبو حاتم السجستاني، وأبو مصعب، وأبو يزيد الجرمي، وخلق لا نطيل بهم.

* اشترك مع الشيخين في جماعة منهم كبُندار، وابن المثنى، والفلاس، وأبي كُريب.

* وقد روى في (الفضل والجود في رمضان) من الصيام من سننه قال:

أخبرنا محمَّد بن إسماعيل البخاري، حدثني حفص بن عمر بن الحارث، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا معمر، والنعمان بن راشد كلاهما عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت:"ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لعنة تُذكر، وكان إذا كان قريب عهد بجبريل يُدارسه كان أجود بالخير من الريح المرسلة" وقال عقبة: "إنه خطأ، والصواب حديث يونس بن يزيد، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس .. الحديث" وأدخل هذا -يعني الذي قبله- حديثًا في حديث" انتهى 4/ 125 - 126.

هكذا وقع منسوبًا عند ابن السني، دون حمزة الكناني، وأبي علي الأسيوطي، وابن حَيّويه. فلم يُزَدْ فيها على (محمَّد بن إسماعيل) نعم، هو في أصل الحافظ أبي عبد الله الصُّوري الذي كتبه بخطه عن أبي محمَّد ابن النحاس، عن حمزة، منسوب.

ص: 120

قال الحافظ أبو الحجاج المزي: "ولم نجد للنسائي عن البخاري رواية سواه، إن كان ابن السني حفظه عن النسائي، ولم تكن نسبته له من تلقاء نفسه معتقدًا أنه البخاري، وإلا قد روى النسائي الكثيرَ عن محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم -وهو ابن عُلَيّة- وهو مشارك للبخاري في بعض شيوخه. بل روى في كتابه الكنى عن عبد الله بن أحمد بن عبد السلام الخفّاف، عن البخاري عدّة أحاديث وهي قرينة ظاهرة في أنه لم يلق البخاري، ولم يسمع منه" انتهى.

وكأنه -مع أنه لم يجزم- سَلَفُ الحافظ أبي عبد الله الذهبي في قوله في ترجمة البخاري من الكاشف له: والصحيح أنه ما سمع منه.

وقال في تاريخه: إنه روى عنه، على نزاع فيه، والأصح أنه لم يرو عنه شيئًا.

ونحوه قال شيخنا: أنكر المزي أن يكون النسائي روى عن البخاري. ثم قال: (وقد وقع لي خبر صَرَّحَ فيه النسائي بالرواية عن البخاري. قال أبو عبد الله بن مَنْدَه في كتاب الإيمان له: حدثنا حمزة بن محمَّد الكناني، ومحمد بن سعد الباوردي، قالا: أخبرنا أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا محمَّد ابن إسماعيل البخاري ..) فذكر خبرا، فهذا يدل على أن ابن السني قد حفظ نسب محمَّد بن إسماعيل في الحديث الماضي، وأنه لم ينسبه من عند نفسه. ثم وجدت رواية ابن الأحمر من السنن عن النسائي، عن البخاري عدة أحاديث).

قلت: واستظهار المزي بروايته له بواسطة لا ينهض، فكم من

ص: 121

حديث رواه هو وكذا غيره من الأئمة عن بعض شيوخهم بالواسطة، وطالما ينبّه المزي نفسُه في تراجم تهذيبه على ذلك، ومنه.

- رواية النسائي عن إسماعيل بن عُبيد بن أبي كريمة في اليوم والليلة، وعن زكريا السجزي، عنه في السنن.

- وكذا روى في غير سننه عن سعيد بن ذُؤيب أبي الحسن المروزي النسائي الأصل، وفي السنن، عن رجل عنه.

- وروى أيضًا عن الحافظ أبي جعفر محمَّد بن عبد الله بن المبارك قاضي حُلوان، وعن أحمد بن علي المروزي عنه.

- وروى عن الحافظ أبي موسى محمَّد بن المثنى (الزَّمن) وعن رجل عنه، في أمثلة كثيرة.

ثم إنه ممن يُسمى من شيوخ النسائي محمَّد بن إسماعيل:

- الأحْمسي لكن اسم جده سَمُرة.

- والترمذي الحافظ، واسم جده يوسف.

- والطبراني، ويكنى أبا بكر. والله الموفق.

* وتخرّج بخلق من حفّاظ شيوخه كالذهلي، وأبي حاتم، وأبي زرعة، وابن راهويه، والفلاس، وأبي داود، بل والبخاري الذي ترجّح أخذه عنه.

وروى الفقه عن: يونس بن عبد الأعلى، والربيعين، وغيرهم من أصحاب الشافعي.

والقراءة عن: أحمد بن نصر النيسابوري، وأبي شعيب صالح ابن زياد السُّوسي.

ص: 122

وكما أنه أخذ عن أصحاب الشافعي أخذ عن أصحاب أحمد منهم ولده عبد الله، بل عن خلق من أصحاب مالك.

* قال منصور الفقيه، وأبو جعفر الطحاوي فيما سمعه أبو أحمد بن عدي منهما:(هو إمام من أئمة المسلمين).

ونحوه قول القاسم المُطرِّز فيما سمعه من محمَّد بن سعد الباوردي منه: (هو إمام، أو يستحق أن يكون إماما) أو كما قال، رواه ابن عدي عن الباوردي.

وقال أبو علي النيسابوري الحافظ فيما سمعه منه تلميذه أبو عبد الله الحاكم صاحب المستدرك: (كان من أئمة المسلمين).

وفي رواية: (هو الإمام في الحديث بلا مدافعة) وفي أخرى: (إن أبا علي كان يذكر أربعة من أئمة المسلمين رآهم، ويسميهم فيبدأ به) وفي لفظ: (رأيت من أئمة الحديث في وطني وأسفاري أربعة، فاثنان بنيسابور ويسميهما، والنسائي بمصر، وعَبْدان بالأهواز).

وقال أبو القاسم الحسين بن محمَّد بن داود بن مأمون البصري الحافظ فيما سمعه منه جعفر بن محمَّد بن الحارث: خرجنا معه إلى طَرَسُوس سنة الفداء فاجتمع جماعة من مشايخ الإسلام.

واجتمع من الحفاظ: (عبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد بن إبراهيم مُربَّع، وأبو الآذان -هو عمر بن إبراهيم- وكيْلَجَة -هو محمد بن صالح بن عبد الرحمن- وغيرهم، فتشاوروا فيمن ينتقي لهم على الشيوخ فأجمعوا على النسائي فكتبوا كلهم بانتخابه) رواه الحاكم عن جعفر.

ص: 123

وشرط الانتخاب: أن ينتخب المنتخب من حديث ذلك الشيخ ما لم يسمعه المنتقي ولا رُفْقَتُهُ، أو يكون فيه فائدة فيما هو عندهم من عُلو أو زيادة، أو نحو ذلك.

وقال الحافظ أبو الحسين محمَّد بن المُظفر مما سمعه منه الحاكم: سمعت مشايخنا بمصر يعترفون له بالتقدم والإمامة، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار، ومواظبته على الحج والاجتهاد، وأنه خرج إلى الفداء مع والي مصر، فوُصفَ من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين والمشركين، واحترازه من مجالسة السلطان الذي خرج معه، مع الانبساط -يعني بالمأكول والمشروب- في رَحْله، وأنه لم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد بدمشق من جهة الخوارج.

وقال الدارقطني فيما سمعه الحاكم منه غير مَرّة: (هو مُقَدَّم على كل من يُذكر بهذا العلم من أهل عصره).

ونحوه: (هو أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار، وأعلمهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه ..) إلى آخر كلامه الآتي.

وقال الحاكم: (أما كلامه على فقه الحديث فأكثر من أن يذكر في هذا الموضع) وكأنه أشار بذلك إلى تراجمه ودقَّة استنباطه، حسبما أشرنا لشيء منه، فيما تقدم.

قال: "ومن نظر في كتاب "السنن" له تَحَيَّر في حُسن كلامه" قال: "وليس هو بمسموع عندنا".

وقال أبو عبد الرحمن محمَّد بن الحسين السُّلَمي الصوفي: سألت الدارقطني فقلت له: إذا حدّث ابن خُزيمة، والنسائي بحديث-

ص: 124

يعني وتعارضا- فمن يُقَدَّم منهما؟ قال: النسائي، لأنه أسندُ.

قال: على أني لا أقدِّم عليه أحدًا -يعني مطلقًا- وإن كان ابنُ خُزيمة إمامًا ثبتا معدوم النظير.

وقال أبو طالب أحمد بن نصر الحافظ مما سمعه منه السُّلمي أيضا: (من يصبر على ما يصبر عليه النسائي؟ كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة، فما حدّث بها؛ لأنه لم يكن يرى أن يحدث بحديثه). رواهما ابن عساكر من طريق محمَّد بن علي ابن محمَّد الخشاب، وأبي القاسم الفضل بن أبي حرب الجُرجاني كلاهما عنه.

وقال حمزة بن يوسف السَّهمي: وسئل -يعني الدارقطني- فقيل له: (إذا حدّث النسائي، وابن خزيمة بحديث أيهما يُقَدَّم؟ فقال: النسائي، فإنه لم يكن مثله، ولا أقَدِّم عليه أحدا، ولم يكن في الورع مثله، لم يُحدّث بما وقع له من حديث ابن لهيعة، وكان عنده عاليا عن قتيبة) ورواه ابن عساكر أيضا.

* على أنه قد روى من جهة بعض الضعفاء ممن قُرن مع الثقات بدون كناية، كإيراده من جهة سفيان، عن أيوب السختياني، وأيوب بن إسماعيل، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله بن عمر، كلهم عن نافع.

* بل أعلى من هذا في الورع أنه إذا وقع له حديث من جهته قُرن فيه معه ثقة غيره يقتصر في إيراده على الثقة، ولكنه يشير إليه كما أسلفتُه.

* ومن ورعه وتحريه أيضا ما حكاه الحافظ أبو بكر بن نُقْطَة في تقييده فقال: نقلت من خطّ عبد الرحيم بن أحمد المهتَرّ النهاوندي،

ص: 125

قال: رأيت بخط الدُّوني -يعني راوي السنن- أنه سئل عن نُكتة العدول عن الإتيان بصيغة كـ"حدثنا" و "أخبرنا" فيما يرويه عن الحارث بن مسكين بخصوصه، فأجاب بأنه سمع أن الحارث كان يتولى القضاء بمصر، وكان بينه وبين النسائي خشونه، فلم يكن يُمكِّنه حضورَ مجلسه، فكان يجلس في موضع مستترًا منه بحيث يسمع قراءة القاري، ولا يُرى فلذلك عدل عن الإتيان بذلك، واقتصر على قوله:(الحارث بن مسكين قراءة عليه، وأنا أسمع) يعني: إما ورعا وتحريا وهو الظاهر، فإن الشيخ إنما رَوَّى غيره.

وإما لكونه يرى بامتناعه سيما حيث عَلمَ من المحدث توقي إسماعه، كالذي أمر بدَقّ الهَاوَن بجانب بابه حتى لا يسمع حديثه من جلس عنده.

وقد قيل في سبب ذلك: "إن الحارث كان خائفًا في أمور تتعلق بالسلطان، فدخل عليه النسائي في زيٍّ أنكره، قالوا: كان عليه قَباء طويل، وقلنسوة، فأنكر زيه، وخاف أن يكون من بعض جواسيس السلطان، فمنعه من الدخول إليه، فكان يجيء فيقعد خلف الباب، ويسمع ما يقرؤه الناس عليه من خارج" انتهى.

ويمكن اجتماع السببين، ويحتمل أنه كان ينوب عنه في القضاء لوصف غير واحد من الأئمة له بالقاضي، ويكون الجفاء الذي بينهما لأجل شيء من ذلك.

وإن كنت لم أعلم أيّ مكان كان قاضيًا به، وما وقفت الآن على من عيّنه.

ثم إن ما يقع في بعض الأصول من الإتيان بصيغة "حدثنا" ونحوها في بعض ما يرويه عن الحارث، الظاهر أنه غلط من

ص: 126

النُّساخ.

* وأعلى من هذا أن النسائي رُبما أورد ذاك الحديث الذي سمعه من الحارث عنه، وعن غيره فيبدأ بذاك بالصيغة، ثم يعطف عليه بالحارث:

- كقوله: أخبرنا محمَّد بن سلمة، والحارث بن مسكين قراءة عليه، وأنا أسمع واللفظ له.

- وكقوله: أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح، ويونس بن عبد الأعلى، والحارث بن مسكين قراءة عليه، وأنا أسمع، واللفظ له.

إذ الظاهر من طريقته أنه نوى القطع واستأنف، ولذا أفرد ضميره في قوله:"قراءة عليه" وهو نوع من التدليس حيث يُعلم مذهب فاعله بل ربما يستعمله المدلس فيما لم يسمعه والله الموفق.

وقد روى عن أحمد بن منيع غير حديث، فقال: وفيما قرأ علينا أحمد بن منيع، وذكر ذلك.

* ولمزيد من أوصافه الشريفة قال أبو عبد الرحمن السُّلمي: سمعت الدارقطني يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمَّد النَّسوي العدل بمصر يقول: سمعت أبا بكر الحداد وذكره بالفضل، والدين والاجتهاد ويقول:(أخذت نفسي بما رواه الرَّبيع عن الشافعي أنه كان يختم في شهر رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة. وفي غير رمضان يختم ثلاثين ختمة، فأما في شهر رمضان فلم أقدر على تمام الستين، بل أكثر ما قدرت عليه تسع وخمسون ختمة، وأتيت من غير رمضان بثلاثين ختمة).

ص: 127

قال الدارقطني: وكان ابن الحداد كثير الحديث، ولم يحدث عن أحد غير النسائي، وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله تعالى).

وقال أبو الوليد الباجي: "هو مشهور بالحفظ والتقدم" رواهما ابن عساكر.

وأسند ابن طاهر، ومن طريقه ابن نُقْطة إلى أبي عبد الله بن مَنْدَه قال:(الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول، والخطأ من الصواب أربعة: البخاري، ومسلم، وبعدهما أبو داود، والنسائي).

وإلى أبي بكر البَرْقاني الحافظ قال: ذكرت للدارقطني أبا عبيد بن حَرْبويه فذكر من جلالته وفضله، وقال: حدّث عنه النسائي في الصحيح ولعله مات قبله بعشرين سنة.

وقال أبو سعيد بن يونس في الغرباء من تاريخ المصريين: (قدم مصر قديمًا، وكَتَبَ بها، وكُتبَ عنه، وكان إمامًا في الحديث، ثقة ثبتًا حافظًا، وكان خروجه من مصر في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة) ثم ذكر ما سيأتي.

وقال الوزير ابن حنْزَابة: قال أبو بكر محمَّد بن موسى بن يعقوب ابن المأمون الهاشمي: كنت يومًا في دهليز الدار التي كان النسائي يسكنها في زقاق القناديل -يعني من مصر- ومعي جماعة ننتظره لينزل، ونمضي إلى الجامع ليقرأ علينا حديث الزهري. فقال بعض من حضر: ما أظنه إلا يشرب النبيذ للنضرة التي في وجهه، والدّم الظاهر مع السن.

- وكذا قال الذهبي: "إنه كان مليح الوجه ظاهر الدم مع كبر السن" انتهى.

ص: 128

وقال آخر: وليت شعرنا ما يقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ فقلت: أنا أسأله عن الأمرين وأخبركم، فلما ركب مشيت إلى جانب حماره، وقلت له: تَمَارَى بعض من حضر في مذهبك في النبيذ. فقال: مذهبي في النبيذ أنه حرام، لحديث أبي سلمة عن عائشة:"كل شراب أسكر فهو حرام" فلا يحل لأحد أن يشرب منه قليلا ولا كثيرا".

قلت: وقد أورد في سننه لحديث أبي سلمة المذكور طرقًا من طريق الزهري عنه. بل أورد ما تولّع به المرخّصون مقرونًا بتعليله وردّه، وترجم عليها "الأخبار التي اعتَلَّ بها من أباح شرب المسكر" وأسلفت في أثناء هذا الجزء شيئًا من كلامه في الردّ فجزاه الله خيرًا.

ولنرجع لتتمة كلام ابن المأمون، قال: قلت له: فما الصحيح من الحديث في إتيان النساء في أدبارهن، فقال: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في إباحته ولا تحريمه شيء، ولكنَّ محمَّد بن كعب القرظي حدّث عن جدك ابن عباس "اسق حرثك من حيث شئت" فلا ينبغي لأحد أن يتجاوز قوله" انتهى.

وحاشا لله أن يقول النسائي ذلك، والسند في ذلك غير صحيح.

وعجبت ممن يحكيه من الحفاظ من غير بيان، نعم في كلام الذهبي ما لعله يُشعر بذلك، فإنه قال عقبه:"قد ثبت نهي المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أدبار النساء، ولي فيه مصنف".

قلت: وكذا لشيخنا، رحمهم الله تعالى.

ثم قال أبو بكر بن المأمون الهاشمي: وكان النسائي يؤثر لباس البُرود النُّوبيَّة الخُضْر، ويقول: هذا عوض من النظر إلى الخضرة

ص: 129

من النبات فيما يُراد لقوة البصر.

وقد عقد في سننه بابا لـ (لبس الأخضر من الثياب)، وذكر فيه حديث أبي رمْثَة:"خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أخضران" 8/ 204.

وبابا لـ (لبس البرود) وذكر فيه حديث خبَّاب "أنه صلى الله عليه وسلم توسد بُرْدَة في ظل الكعبة"، وحديث سهل بن سعد:"جاءت امرأة ببُرْدَة -وهي الشملة منسوج في حاشيتها- أهدتها له صلى الله عليه وسلم" الحديث 8/ 204.

وكان يكثر الجماع، مع صوم يوم وإفطار يوم، وله أربع زوجات يقسم لهن، ولا يخلو مع ذلك من جارية واثنتين، يشتري الواحدة بمائة ونحوها، ويقسم لها كما يَقْسم للحرائر.

وكان قُوتُه في كل يوم رطل خبز جيد، يؤخذ له من سُويقة العرافين، لا يأكل غيره صائما كان أو مفطرا.

وكان يكثر أكل الديوك الكبار تشترى له وتسمّن. زاد الذهبي: وتخصى ثم تذبح فيأكلها.

ويرى الرخصة في خصائها كما هو مذهبنا، ويذكر أنه تنفعه في باب الجماع.

وسمعت قوما ينكرون عليه تصنيفه كتاب "الخصائص" لعلي رضي الله عنه، وتركه لتصنيف فضائل الشيخين وعثمان رضي الله عنهم، ولم يكن في ذلك الوقت صَنَّفها، فحكيت له ما سمعت فقال: دخلنا إلى دمشق، والمنحرف عن علي رضي الله عنه بها كثير، فصَنَّفته رجاء أن يهديهم الله تعالى.

ص: 130

ثم إنه صَنَّف بعد ذلك في "فضائل الصحابة" رضي الله عنهم، وقرأها على الناس. وقيل له -وأنا حاضر-: ألا تخرج فضائل معاوية رضي الله عنه؟ فقال: أي شيء أخرج؟ اللهم لا تشبع بطنه، وسكت، وسكت السائل" رواه ابن عساكر.

ثم نقل عن بعض أهل العلم أنه قال: وهذه أفضل فضيلة لمعاوية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فمن لعنته أو سببته فاجعل ذلك زكاة له ورحمة"

(1)

، (وتبعه الذهبي ولكنه قال: لعل هذه منقبة ولفظه في تاريخ الإسلام فضيلة لمعاوية .. إلى آخره. انتهى).

وقد روى النسائي في سننه من حديث المنهال بن عمرو عن سعيد ابن جُبير قال: "كنت مع ابن عباس رضي الله عنهما بعرفات، فقال: مالي لا أسمع الناس يلبون؟ قلت: يخافون من معاوية. فخرج ابن عباس من فُسطاطه، فقال: لبيك اللهم لبيك، فإنهم قد تركوا السنة من بغض علي" رضي الله عنه 5/ 253.

وقال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوّام السَّعدي: حدثنا النسائي، حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمَّد بن أعين، قال: قلت لابن المبارك: إن فلانا يقول: من زعم أن قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: آية 14] مخلوق، فهو كافر، فقال ابن المبارك: صدق. قال النسائي: وبهذا أقول.

* وقال أبو الحسن القابسي الفقيه المالكي، سمعت أبا الحسن محمَّد ابن هاشم المصري- وكان من علماء الناس وخيارهم وممن امتنع

(1)

صحيح مسلم 4/ 2007.

ص: 131

من الانتصاب للحديث- يقول: "سئل النسائي عن اللحن يوجد في الحديث فقال: فإن كان شيئًا تقوله العرب، (ولو لم يكن في لغة قريش) فلا يُغَيَّر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكلم الناس بلسانهم، وإن كان مما لا يوجد في لغة العرب فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَلحَن" انتهى.

وهو فيما يتحول به المعنى باتفاق. واختلفوا هل يُصْلَح بالأصل، أو يشار إليه ويُنَبَّه على صوابه بالهامش، كلما بُسط في محله.

* والثناء على النسائي سوى ما مضى كثير.

- قال ابن الجوزي -في المنتظم-: (كان إماما في الحديث، ثقة ثبتا حافظا فقيها".

- وقال ابن الأثير -في مختصر الأنساب تبعًا لأصله-: (كان إمام عصره، سكن مصر وانتشرت بها تصانيفه".

- وفي جامع الأصول لأبي السعادات ابن الأثير: "إنه أحد الأئمة الحفاظ العلماء، لقي المشايخ الكبار، وكان ينتحل مذهب الشافعي، وصنف المناسك على مذهبه" انتهى

(1)

.

واعتمد في كونه شافعيًا الجمال الإسنوي، والتاج ابن السبكي، ثم التقى ابن قاضي شهبة وغيرهم، ولم يذكره العماد ابن كثير ولا المذَيِّل عليه، فالله أعلم.

- وقال ابن خَلِّكان -في تاريخه-: الحافظ إمام عصره في الحديث.

- وقال المزي -في تهذيبه-: "القاضي الحافظ صاحب كتاب السنن وغيره من المصنفات المشهورة، وأحد الأئمة المُبَرِّزين، والحفاظ المتقين، والأعلام المشهورين".

(1)

تقدم الرد على هذا القول في أوائل المقدمة، فلا تغفل.

ص: 132

- وقال الذهبي -في الحفاظ-: "الحافظ الإمام شيخ الإسلام، برع في هذا الشأن وتفرد بالمعرفة والإتقان، وعلو الإسناد، واستوطن مصر".

- وفي تاريخ الإسلام: "القاضي، مصنف السنن وغيرها من التصانيف، وبقية الأعلام".

- وفي الكاشف: "الحافظ الحجة، صاحب الصحيح، سمع من قتيبة، وطبقة من أصحاب مالك، وحماد بن زيد، انتهى إليه علم الحديث".

- وفي العبر: "الإمام أحد الأعلام، صاحب المصنفات، كان رئيسًا نبيلا، حسن البزَّة، كبير القدر، له أربع زوجات يَقسم لهن، ولا يخلو من سُرِّيَّة لنهمته في التمتع، ومع ذلك كان يصوم صوم داود ويتهجد" ونقل بعضا مما تقدم.

- وفي الدول: "حافظ زمانه أحد الأعلام، ومصنف السنن، كان يقوم الليل، ويصوم يوما ويفطر يوما".

ولم يتيسر لي الآن رؤية تاريخ نيسابور للحاكم، ولا سير النبلاء، وأما طبقات القراء فلم يذكره فيها.

- نعم ذكره فيهم ابن الجزري، ووصفه بـ (الحافظ الكبير) وما أتى الأمير أبو نصر بن ماكولا فيه بكبير.

كما أن العزّ ابن الأثير لم يَزدْ في كامله على قوله: "صاحب السنن".

- وقال ابن نُقطة -في التقييد-: "كان إماما من أئمة هذا الشأن".

ولم أره في تاريخ بغداد للخطيب، والظن عدم خُلو بعض ذيوله

ص: 133

سيما ابن النجار منه.

- وقال التاج السبكي

- في الكبرى: الإمام الجليل، أحد أئمة الدنيا في الحديث، والمشهور فيه اسمه وكتابه.

- زاد في الوسطى: "وكان من أئمة المسلمين الجامعين بين الفقه والحديث.

- وفيهما معا: "سألت شيخنا الذهبي أيهما أحفظ مسلم أو النسائي؟ فقال: النسائي، ثم ذكرت ذلك لوالدي فوافق عليه".

- وقال الأسنوي في طبقاته: ومن خطه نقلتُ: "المشهور في الحديث اسمه وكتابه الجامع بين الحديث والفقه، سكن مصر، وكان أفقه مشايخها في عصره، وأعلمهم بالحديث، رئيسا كبيرا حسن البزة كثير التهجد والعبادة، ويصوم يوما ويفطر يوما" ولخص بعضا مما تقدم.

- وتبعه ابن قاضي شهبة في جُلِّ ذلك، بل وقد ذكره في الطبقة الثالثة أنه من نظراء أهل التي قبلها، ولكن تأخرت وفاته. وقال:"الإمام الجليل الحافظ، مصنف السنن، وغيرها من التصانيف، وأحد الأعلام".

- وقال المتقي القاضي في تاريخ مكة: "أحد الأئمة الأعلام".

واستيفاء نحو هذا مما حصل الغرض بدونه يطول.

* وقال الحاكم: "حدثني الدارقطني أنه خرج حاجا فامتُحن بدمشق وأدرك الشهادة. قال: احملوني إلى مكة، فحُمل وتوفي بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة. وكانت وفاته في شعبان" وتبعه

ص: 134

في حكايته ابن الجوزي.

قال الحاكم: وسمعت الدارقطني يقول -يعني عقب ما أسلفته عنه-: إن أهل مصر حسدوه، فخرج إلى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية، فأمسك عنه. فضربوه في الجامع. فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه إليها وهو عليل فتوفي بها مقتولا شهيدا".

وقال علي بن محمَّد المادراي، وحدثني أهل بيت المقدس قالوا:"قرأ علينا النسائي كتاب "الخصائص" فقلنا له: فأين فضائل معاوية؟ فقال: وما يرضى معاوية أن يُسكتَ عنه.

قالوا: فرجمناه وضغطناه وجعلنا نضرب جنبيه فمات بعد ثلاث".

ثم قال الحاكم: ومع ما جمعه من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره. فحدثني محمَّد بن إسحاق الأصبهاني -وهو ابن منده- قال: سمعت مشايخنا بمصر يذكرون أنه فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل بها عن معاوية، وما رُوي من فضائله، فقال: ألا يرضى معاوية رأسا برأس حتى يُفضّل؟.

قال: وكان يتشيَّع، فما زالوا يدافعون في حضنيه -يعني جنبيه، وفي لفظ "في حضنه" أو قال:"خصييه" حتى أخرج من المسجد ثم حُمل إلى الرملة، ومات بها سنة ثلاث وثلاثمائة، وهو مدفون بالرملة.

ورواه الحافظ أبو نعيم، ومن طريقه ابن عساكر من جهة حمزة العقبي المصري وغيره: "أنه خرج من مصر في آخر عمره إلى دمشق فسئل بها عن معاوية. وذكر نحوه وفيه إنهم داسوه، وإنه

ص: 135

حُمل إلى الرملة فمات بها".

قال الحافظ أبو نعيم: لما داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدوس وهو مقتول.

قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: "وهذه الحكاية لا تدل على سوء اعتقاد النسائي في معاوية، وإنما تدل على الكف عن ذكره بكل حال".

ثم روى بإسناده عن أبي الحسن علي بن محمَّد القابسي، سمعت أبا علي الحسن بن هلال يقول:"سئل النسائي عن معاوية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام كمن نَقَرَ الباب، إنما يريد دخول الدار، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة رضي الله عنهم" انتهى.

وكذا يُجاب عمن أطلق فيه أنه كان يتشيع كما تقدم، بل نقله اليافعي في تاريخه، عن أصحاب التاريخ، بأن الحامل لإطلاق ذلك تصنيفه في الخصائص وأهل البيت، مع تصريحه هو بالاعتذار بما ينفي عنه التشيع المذموم. فحاشا وكلا، وقد كانت دمشق إذا ذاك مشحونة بالأمراء أهل الشوكة ذي التحامل على علي رضي الله عنه.

وأما ما وُجد بخط السلفي مما حكاه ابن العديم في تاريخ حلب بسنده إلى أبي منصور تكين الأمير قال: "قرأ عليَّ النسائي كتاب الخصائص، فقلت له: حدثني بفضائل معاوية، فجاءني بعد جمعة بورقة فيها حديثان، فقلت: أهذه فقط؟ فقال: مع أنها ليست صحيحة، هذه غَرمَ معاوية عليها الدراهم. فقلت له:

ص: 136

أنت شيخ سوء لا تجاورني. فقال: ولا لي في جوارك حظ. وخرج" انتهى. فهو شيء لا يصح.

* وكان خروجه من مصر ليحج، فامتحن بدمشق وأدرك الشهادة، وذلك كما قاله ابن يونس مما تقدم في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة.

قال: فتوفي -يعني- بعد أشهر بفلسطين يوم الاثنين لثلاث ليلة خلت من صفر سنة ثلاث.

وكذا قال ابن نقطة: نقلتُ من خط أبي عامر محمَّد بن سعدون العبدري الحافظ: إنه مات بالرملة مدينة فلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة من صفر، زاد: ودفن ببيت المقدس. وقال أبو علي الغسال: ليلة الاثنين.

وعن أبي جعفر الطحاوي: في صفر بفلسطين.

وعن الشيخ ابن حيان تعيين السنة خاصة قال: وبلغني أنه مات بالرملة، ودُفن ببيت المقدس.

ونقل الذهبي عن الدارقطني حكايته القول بأنه مات بمكة وفي شعبان وقول ابن يونس الماضي، قال: وهو -أي قول ابن يونس- هو الصحيح.

وكذا جزم ابن الجزري بأنه مات بالرملة، ولم يحك سواه.

ونحوه قول ابن قاضي شهبة: توفي بفلسطين.

بل قال الذهبي في الحفاظ عقب القول بأنه حمل إلى مكة فتوفي بها: كذا في هذه الرواية، وصوابه بالرملة. ثم حكى عن الدارقطني ما تقدم ابتداء بحكاية غير واحد كابن الأثير في مختصر

ص: 137

الأنساب تبعا لأصله، وابن خلكان، ثم قال: وقيل: بالرملة، وكذا حكاه اليافعي.

وبكونها بمكة جزم ابن الأثير في "جامع الأصول" وأنه مدفون بها وأخوه العزُّ أبو الحسن في "كامله" وأنه دُفن بين الصفا والمروة.

وقال ابن السبكي في الكبرى: اختلفوا في مكان موته، فالصحيح أنه أخرج من دمشق لما ذكر فضائل عليّ، ثم حمل إلى الرملة فتوفي بها وقيل: حُمل إلى مكة، فدفن بها بين الصفا والمروة.

قال الذهبي في تهذيبه وغيره من تصانيفه: وعاش ثمانيا وثمانين سنة.

قال شيخنا: "وكأنه بناه على ما تقدم من مولده فهو تقريب هذا، مع كون الذهبي جزم به كلما أسلفته".

* وكما اختُلف في محل موته ودفنه، كذلك اختُلف في شهر موته: فقيل: صفر وهو أكثر، وقيل: شعبان.

ومن ثمَّ حذف غير واحد كابن خلكان تعيين الشهر. والله أعلم.

* وقد رَوَى عنه خلق أثبتُ من وقفت عليه الآن منهم على حروف المعجم، وكل من عليه (س) فهو ممن روى عنه السنن، وإن كنتُ سردتهم فيما مضى:

- أبو إسحاق، إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب بن يوسف الإسكندراني.

- وأبو إسحاق، إبراهيم بن محمَّد بن صالح بن سنان القرشي الدمشقي.

ص: 138

- وأبو العباس، أبيض بن محمَّد بن الحارث بن أبيض القرشي الفهري المصري.

- وأحمد بن إبراهيم بن محمَّد بن أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري.

- وأحمد بن الحسن بن إسحاق بن عتبة الرازي.

- وأبو الحسن، أحمد بن سليمان بن أيوب بن حذلم الأسدي الدمشقي.

- وأحمد بن عبد الله بن الحسن العدوي. ويعرف بـ (أبي هريرة بن أبي العصام).

- وأبو الحسن، أحمد بن عمير بن يوسف بن جُوصاء الدمشقي الحافظ.

- وأحمد بن عيسى القمي، نزيل بيروت.

- وأحمد بن القاسم بن عبد الرحمن الحَرَسي، والحَرَس: محلة بمصر، أو قرية.

- وأبو الحسن، أحمد بن محبوب الرملي.

س:- وأبو بكر أحمد بن محمَّد بن إسحاق الدينوري الحافظ، ويعرف بـ (ابن السُّنّيّ).

- وأبو جعفر أحمد بن محمَّد بن إسماعيل بن يونس النحوي، ويعرف بـ (ابن النحاس).

- وأبو سعيد، أحمد بن محمَّد بن زياد الأعرابي.

- وأبو جعفر، أحمد بن محمَّد بن سلامة الطحاوي، وأكثر عنه في تصانيفه.

ص: 139

س:- وأبو الحسن، أحمد بن محمَّد بن أبي التمام.

س:- وأبو بكر أحمد بن محمَّد بن المهندس.

- وأبو يعقوب، إسحاق بن إبراهيم بن هاشم بن زامل الأذرعي.

- وإسحاق بن عبد الكريم الصواف.

- والأمير أبو منصور تكين.

- وجعفر بن محمَّد بن الحارث الخُزاعي.

س:- وأبو علي، الحسن بن الخضر بن عبد الله السيوطي.

س:- وأبو محمَّد، الحسن بن رشيق العسكري. بل روى عنه القراءة أيضا.

- وأبو علي الحسين بن هارون المُطَّوعي.

- وأبو علي، الحسين بن أبي هلال.

- وأبو علي، الحسين بن علي النيسابوري، الحافظ.

س:- وأبو القاسم، حمزة بن محمَّد بن علي بن محمَّد العباس الكناني الحافظ.

- وأبو القاسم، سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني الحافظ، وأورد عنه في معجمه الأوسط شيئا كثيرا.

- وأبو أحمد، عبد الله بن عدي الجرجاني الحافظ.

- وأبو القاسم، عبد الله بن محمَّد بن أبي العَوَّام السعدي، قاضي مصر.

- وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى

ص: 140

الصدفي صاحب تاريخ المصريين -وأبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني العروضي الخشاب المصري.

- وأبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي الدمشقي.

س:- وابنه: أبو موسى، عبد الكريم بن النسائي.

- وأبو الفتح، عبيد الله بن جعفر بن أحمد بن عاصم الدمشقي ويعرف بـ (ابن الرواس).

س:- وعلي بن أبي جعفر أحمد الطحاوي، الماضي أبوه.

- وعلي بن محمَّد بن أحمد بن إسماعيل الطبري.

- وأبو القاسم، علي بن يعقوب بن إبراهيم بن أبي العقب الهمداني الدمشقي.

- وأبو طالب، عمر بن الربيع بن سليمان المصري.

- وأبو بشر، محمَّد بن أحمد بن حماد الدولابي، وهو من أقرانه.

- وأبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن خالد بن يزيد الأعدالي المصري.

- ومحمد بن أحمد بن قطن الطحاوي، أخذ عنه القراءة.

- وأبو بكر، محمَّد بن أحمد الحداد المصري، الفقيه.

- وأبو الحسن، محمَّد بن أحمد الرافقي.

- ومحمد بن جعفر بن هشام بن ملاس النميري.

- وأبو بكر، محمَّد بن داود بن سليمان الزاهد.

-[ومحمد بن سعد السعدي الباوردي].

ص: 141

س:- وأبو الحسن، محمَّد بن عبد الله بن زكريا بن حيويه النيسابوري.

- وأبو بكر، محمَّد بن علي بن الحسن بن أحمد التنيسي النقاش.

- وأبو جعفر، محمَّد بن عمرو بن موسى بن محمَّد بن حماد العُقيلي المكي الحافظ.

- وأبو الطيب، محمَّد بن الفضل بن العباس.

س:- ومحمد بن القاسم بن محمَّد بن سيار القرطبي الأندلسي.

- وأبو بكر محمَّد بن القاسم بن أحمد المصري الزاهد الصوفي ويعرف بوليد.

- وأبو بكر، محمَّد بن محمَّد بن أحمد بن إبراهيم القرقساني.

- وأبو بكر محمَّد بن معاوية الأندلسي ابن الأحمر.

- وأبو بكر، محمَّد بن موسى بن يعقوب بن المأمون الهاشمي.

- ومحمد بن نصر المروزي.

- وأبو علي، محمَّد بن هارون بن شعيب الأنصاري الدمشقي.

- وأبو الحسن، محمَّد بن هاشم المصري، أحد الخيار من العلماء، وممن امتنع من الانتصاب للتحديث.

- وأبو عبد الله، محمَّد بن يعقوب بن يوسف الشيباني الحافظ، ولعرف بـ (ابن الأخرم).

- ومنصور بن إسماعيل الفقيه المصري.

- وأبو بكر، الوليد وهو محمَّد بن القاسم الماضي.

- وأبو عوانة، يعقوب بن إسحاق الإسفراييني في صحيحه.

ص: 142

- ويعقوب بن المبارك المصري.

- وأبو القاسم، يوسف بن يعقوب السُّوسي.

* وبالسند الماضي إلى أبي عبد الرحمن النسائي

(1)

قال:

أخبرنا واصل بن عبد الأعلى، عن ابن فُضيل، وأخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا مُحاضر، كلاهما -واللفظ للأول- عن عاصم بن سليمان -هو الأحول- عن عبد الله بن الحارث، قال: كان إذا قيل لزيد بن أرقم رضي الله عنه: (حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لا أحدثكم إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا به، ويأمر أن نقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والبُخل والجُبْن، والهَرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير مَنْ زكّاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، ومن علم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها).

أخبرنا محمَّد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن -هو ابن مهدي- قال: حدثنا سفيان -هو الثوري- عن منصور، عن الشعبي، عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال:"بسم الله، رب أعوذ بك من أن أزلّ أو أضلَّ، أو أظلمَ أو أُظْلَمَ أو أجهَل أو يُجْهَلَ عَلَيَّ".

نقلته من خط العلامة عبد العزيز بن عمر بن محمَّد بن فهد الهاشمي وفي آخره بخطه: "وانتهى في حادي عشري شوال سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة بمكة المشرفة، مع احتياجي فيه لتتمات،

(1)

لم يسق السخاوي سنده إلى النسائي هنا، بل أحال إلى ما ساقه في أول الكتاب، ولم أجده، فليطلب.

ص: 143

وإن كان فيه لجمهور الناس أوفر كفاية.

وصلى الله على سيدنا محمَّد وسلم تسليمًا كثيرا آمين".

انتهت رسالة الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى بلفظها.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 144

‌المسألة السادسة عشرة في الكلام على كتاب تقريب التهذيب

اعلم أنه لما كان المرجع الأساسي لتراجم الرجال في هذا الشرح هو تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر لاختصاره، واحتفاله، ولا أعدل عنه غالبا إلا في أول الترجمة للتوسع في معرفة الراوي إذ تدعو الحاجة إليه: فأكتبه من تهذيب التهذيب كان بيان مصطلحاته من اللوازم المتعينة، لئلا يكون مَن يطالع هذا الشرح في حَيْرَة من الرموز الموجودة فيه، والطبقات، فدونك: ما كتبه في خطبة كتابه.

قال رحمه الله تعالى:

أما بعد: فإني لما فرغت من تهذيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الذي جمعت فيه مقصود التهذيب لحافظ عصره أبي الحجاج المزي من تمييز أحوال الرواة المذكورين فيه، وضممت إليه مقصود إكماله للعلامة علاء الدين مغلطاي، مقتصرا منه على ما اعتبرته عليه، وصححت من مظانه، من بيان أحوالهم أيضا، وزدت عليهما في كثير من التراجم ما يتعجب من كثرته لديهما، ويستغرب خفاؤه عليهما: وقع الكتاب المذكور من طلبة الفن موقعا حسنًا عند المميز البصير، إلا أنه طال إلى أن جاوز ثلث الأصل، "والثلث كثير"، فالتمس مني بعض الإخوان أن أجَرّد له الأسماء خاصة، فلم أوثر ذلك لقلة جدواه، على طالبي هذا الفن، ثم رأيت أن أجيبه إلى مسألته، وأسعفَهُ بطَلبَته، على وجه يُحصِّل مقصودَه بالإفادة، ويتضمن الحسنى التي أشار إليها وزيادة، وهي أنني أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصح ما قيل فيه، وأعدلَ ما وُصف به، بألخص عبارة، وأخلص إشارة، بحيث لا تزيد كل ترجمة علي سطر واحد غالبا، ويجمع اسم الرجل، واسم أبيه

ص: 145

وجدّه، ومنُتهى أشهر نسبته ونسبه، وكنيته ولقبه، مع ضبط ما يشكل من ذلك بالحروف، ثم صفته التي يختص بها من جرح أو تعديل، ثم التعريف بعصر كل راوٍ منهم، بحث يكون قائمًا مقام ما حذفته من ذكر شيوخه والرواة عنه، إلا من لا يؤمن لبسه.

وباعتبار ما ذكرت انحصر لي الكلام على أحوالهم في اثني عشر مرتبة، وحَصْرُ طبقاتهم في اثنتي عشرة طبقة.

فأما المراتب:

فأولها: الصحابة، فأصرح بذلك لشرفهم.

الثانية: من أكد مدحه إما بأفعل، كأوثق الناس، أو بتكرير الصفة لفظًا، كثقة ثقة، أو معنى كثقة حافظ.

الثالثة: من أفرد بصفة كثقة، أو متقن، أو ثبت، أو عدل.

الرابعة: من قصر عن الثالثة قليلًا، وإليه الإشارة بصدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس.

الخامسة: من قصر عن الرابعة قليلًا، وإليه الإشارة بصدوقٍ سيء الحفظ، أو صدوق يهمِ، أو له أوهام، أو يخطئ، أو تغير بأخرة. ويلتحق بذلك من رُمِيَ بنوعٍ من البدعة كالتشيع، والقدر، والنصب، والإرجاء، والتَّجَهُّم

(1)

مع بيان الداعية من غيره.

السادسة: من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يوجد فيه ما يترك

(1)

التشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدمه على أبي بكر، وعمر، فهو غال في تشيعه، ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فغال في الرفض، وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو. (والقدرية) من يزعم أن الشَّر فعل العبد وحده. (والجهمية) من ينفي صفات الله التي أثبتها الكتاب والسنة ويقول: إن القرآن مخلوق. (والنصب) بغض علي وتقديم غيره عليه. (والإرجاء) بمعنى التأخير وهو عندهم على قسمين منهم من أراد به تأخير القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتين التين تقاتلتا بعد عثمان ومنهم من أراد تأخير القول في الحكم على من أتى الكبائر، وترك الفرائض بالنار؛ لأن الإيمان عندهم الإقرار والاعتقاد، ولا يضر العمل مع ذلك. (والخوارج) هم الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرأوا منه، ومن عثمان وذريته، وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة منهم. قاله في هدى السارى ص 483. ونقلته بتصرف

ص: 146

حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ مقبول حيث يُتَابَع، وإلا فَلَين الحديث.

السابعة: من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق، وإليه الإشارة بلفظ مستور، أو مجهول الحال.

الثامنة: من لم يوجد فيه توثيق لمعتبر، ووجد فيه إطلاق الضعف، ولو لم يفسر، وإليه الإشارة بلفظ ضعيف.

التاسعة: من لم يرو عنه غير واحد ولم يوثق وإليه الإشارة بلفظ مجهول.

العاشرة: من لم يوثق البتة، وضعف مع ذلك بقادح، وإليه الإشارة بمتروك، أو متروك الحديث، أو واهي الحديث، أو ساقط.

الحادية عشرة: من اتهم بالكذب. الثانية عشرة: من أطلق عليه اسم الكذب والوضع.

وأما الطبقات:

فالأولى: الصحابة علي اختلاف مراتبهم، وتمييزُ من ليس له منهم الا مجرد الرؤية من غيره.

الثانية: طبقة كبار التابعين. كابن المسيب، فإن كان مخضرما صرحت بذلك.

الثالثة: الطبقة الوسطى من التابعين، كالحسن وابن سيرين.

الرابعة: طبقة تليها، جُلُّ روايتهم عن كبار التابعين، كالزهري، وقتادة.

الخامسة: الطبقة الصغرى منهم الذين رأوا الواحد والاثنين، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة، كالأعمش.

ص: 147

السادسة: طبقة عاصروا الخامسة لكن لم يثبت لهم لقاءُ أحد من الصحابة، كابن جريج.

السابعة: طبقة كبار أتباع التابعين كمالك والثوري.

الثامنة: الطبقة الوسطى منهم كابن عيينة، وابن علية.

التاسعة: الطبقة الصغري من أتباع التابعين كيزيد بن هارون والشافعي، وأبي داود الطيالسي، وعبد الرزاق.

العاشرة: كبار الآخذين عن تبع الأتباع ممن لم يلق التابعين، كأحمد ابن حنبل.

الحادية عشرة: الطبقة الوسطى من ذلك، كالذهلي، والبخاري.

الثانية عشرة: صغار الآخذين عن تبع الأتباع، كالترمذي.

وألحقت بها باقي شيوخ الستة الذين تأخرت وفاتهم قليلا، كبعض شيوخ النسائي، وذكرت وفاة من عَرَفتُ وفاته منهم، فإن كان من الأولى والثانية فهم قبل المائة، وإن كان من الثالثة إلى آخر الثامنة فهم بعد المائة، وان كان من التاسعة إلى آخر الطبقات فهم بعد المائتين، ومن نَدَرَ عن ذلك بينته، وقد اكتفيت بالرقم على أول اسم كل راو، إشارة إلى من أخرج حديثه من الأئمة:

فللبخاري في صحيحه (خ) فإن كان حديثه عنده معلقا (خت) وللبخاري في الأدب المفرد (بخ)، وفي خلق أفعال العباد (عخ)، وفي جزء القراءة (ز) وفي رفع اليدين (ي) ولمسلم:(م) وفي مقدمة صحيحه (مق)، ولأبي داود (د)، وفي المراسل له:(مد)، وفي فضائل الأنصار (صد)، وفي الناسخ (خد)، وفي القدر (قد)، وفي التفود (ف)، وفي المسائل (ل)، وفي مسند مالك (كد)، وللترمذي:(ت)، وفي

ص: 148

الشمائل له (تم)، وللنسائي (س)، وفي مسند علي له (عس)، وفي مسند مالك (كن) وفي كتاب عمل اليوم والليلة (سي) وفي خصائص علي (ص) ولابن ماجه:(ق) وفي التفسير له: (فق)، فإن كان حديث الرجل في أحد الأصول الستة أكتفي برقمه، ولو أخرج له في غيرها، وإذا اجتمعت فالرقم (ع) وأما علامة (4) فهي لهم سوى الشيخين، ومن ليست له عندهم رواية مرقوم عليه (تمييز) إشارة إلى أنه ذكر ليتميَّز عن غيره، ومن ليست عليه علامة نبه عليه: وترجم قبل، أو بعد. اهـ ما كتبه الحافظ في خطبة التقريب.

قال الجامع عفا الله عنه: من عادة الحافظ في ذكر الوفيات أنه يحذف المائة ويذكر ما دونها كما أشار إليه قَبْلُ فمثلا يقول: فلان من السادسة مات سنة ثلاثين، أي سنة مائة وثلاثين، أو من السابعة مات سنة خمس وأربعين، أي ومائة، أو فلان من العاشرة مات سنة ثلاثين، أي سنة مائتين وثلاثين، وهكذا، فينبغي التنبه لذلك.

هذا من حيث توضيح اصطلاحه، وأما أنا فلا أقتصر بذكر التفاصيل أذكره مع المائة، أو المائتين، زيادة في الإيضاح. والله ولي التوفيق.

"إن اريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".

ص: 149

‌الخاتمة في بيان منهج هذا الشرح ومصطلحاته

اعلم أن منهج هذا الشرح كما يلي:

1 -

كتابة ترجمة المصنف بابا أو كتابا أو غيرهما، ثم شرح تلك الترجمة.

2 -

كتابة الحديث سندًا ومتنًا.

3 -

الكلام على تراجم رجال ذلك الإسناد.

4 -

ذكر لطائف ذلك الإسناد.

5 -

شرح ذلك المتن، وأكتب له عنونا:"شرح الحديث".

6 -

مسائل تتعلق بذلك الحديث.

وتتنوع تلك المسائل بحسب متعلقات الحديث:

1 -

الأولى: في درجة ذلك الحديث.

2 -

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، في الكتابين الصغرى، والكبرى، وهذه المسألة ربما أضمها مع التي بعدها اختصارًا.

3 -

بيان من أخرجه من أصحاب الأصول، وقد أذكر غيرهم أحيانا.

4 -

بيان فوائد ذلك الحديث.

5 -

ذكر مذاهب العلماء إن كان هناك اختلاف في حكم ذلك الحديث، ثم ترجيح الراجح منها بما يقترن معها من الدليل القوي.

ثم إذا بقي هناك أمور لها تعلق بذلك الحديث فأذكرها بمسألة سادسة، فسابعة، فثامنة، وهَلُّمَّ جرَّا، وربما يغير هذا الأسلوب بزيادة أو نقص لسبب ما.

ص: 150

وأما مصطلحات هذا الشرح فكما يلي:

(ق) إشارة إلى القاموس المحيط في اللغة لمجد الدين محمَّد بن يعقوب

الفيروز أبادي اللغوي (ت 817) هـ (تاج) إشارة إلى تاج العروس شرح القاموس للعلامة السيد محمَّد مرتضى الزبيدي المتوفى سنة 1305، (المصباح) هو المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للعلامة اللغوي أحمد بن محمَّد بن علي المقري (ت 770).

(لسان) هو لسان العرب للعلامة اللغوي أبي الفضل جمال الدين محمَّد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري (ت 711).

(ت) إشارة إلى تقريب التهذيب المتقدم ذكره

(تت) إشارة إلى تهذيب التهذيب.

(صه) إشارة إلى خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي المتقدم.

(فتح) هو فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ.

(عمدة) هو عمدة القارئ للعلامة العيني المتقدم.

(اهـ) إشارة إلى انتهاء الكلام المنقول من شخص، أو كتاب، وهي مختصرة من انتهى.

وإذا قلت: قال فلان، أو انتهى كلام فلان، فهو مما نقل باللفظ غالبا.

وإذا قلت: أفاده فلان. فهو مما نقل بالمعنى كذلك.

وتوجد أرقام عند ذكر من أخرج الحديث، أو عند إحالة الكلام إلى باب آخر تقدم للمصنف، أو يأتي هكذا 1/ 1 مثلا، فالأرقام التي قبل الخط الفاصل جهة اليمين للباب، والأرقام التي بعده جهة اليسار

للحديث، وقد أترك رقم الباب. وربما يوجد بعض اصطلاحات تحتاج إلى التوضيح، وسأوضحها في هامش الشرح إن شاء الله تعالى.

ص: 151

تنبيه: ومما التزمته غالبا في هذا الشرح أن ما كان مرتبا على حروف المعجم كأسماء الرجال مثل التقريب، وأصله، والخلاصة، وككتب اللغة، مثل المصباح و (ق) واللسان لا أذكر رقم صفحاته اكتفاء بكونه مرتبا على الحروف، فلا يصعب مراجعته، وبالتالي توفيرا للوقت، وأما ما كان غير مرتب كسائر شروح الأحاديث، وكتب الفقه، وغيرها فلا أترك ذلك، إما في أول الكلام، وهو قليل، وإما في آخره، وهو الكثير، إلا نسيانا. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌فصل في ذكر أسانيدي إلى الإمام النسائي رحمه الله تعالى في هذا الكتب

اعلم: أنه جرت عادة المحدثين قديما وحديثا أن يسوقوا أسانيدهم إلى أصحاب الكتب في أول شروعهم فيها قراءة، أو شرحًا أو غير ذلك.

قال إمام هذه الصناعة في المتأخرين، وحذام المحدثين لدى المحققين الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني [773 - 852 هـ] رحمه الله تعالى في أول شرحه العديم النظير "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" ما نصه: وقد رأيت أن أبدأ الشرح بأسانيدي إلى الأصل بالسماع، أو بالإجازة، وأن أسوقها على نمط مخترع، فإني سمعت بعض الفضلاء يقول: الأسانيد أنساب الكتب، فأحببت أن أسوق هذه الأسانيد مساق الأنساب، فساق رحمه الله تعالى أسانيده إلى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في جامعه الصحيح.

قال الجامع: فأقول اقتداء بأئمة هذا الشأن: أخبرني بسنن الإمام الحافظ الجهبذ الناقد أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر

ص: 152

النسائي رحمه الله من طريق الحافظ أبي بكر بن السني مشايخ كثيرون، بعضهم قراءة مني عليه لبعضها وإجازة لباقيها، وبعضهم سماعا لبعضها بقراءة غيري عليه، وإجازة لباقيها، وبعضهم إجازة لكلها:

فمنهم والدي العلامة الفقيه الأصولي علي بن آدم بن موسي الإثيوبي المتوفى يوم الخميس ثاني عشر رمضان سنة 1411 هـ، عن نيف وثمانين سنة رحمه الله تعالى، أخبرني بها إجازة (ح) والعلامة المقرئ حياة ابن الشيخ علي الدَّرِّي، كلاهما، عن العلامة المقرئ كبير أحمد الدَّوَّويّ، عن العلامة عبد الجليل بن يحيى بن بشير الدُّلتي، عن أبيه يحيى، عن أبيه بشير، عن المفتي داود بن أبي بكر الدُّوَّوي، عن السيد سليمان بن يحيى مقبول الأهدل، عن السيد أحمد بن محمَّد بن مقبول الأهدل، عن خاله عماد الدين يحيى بن عمر مقبول الأهدل، عن أبي بكر بن علي البطاح الأهدل، عن عمه يوسف بن محمَّد البطاح الأهدل، عن السيد طاهر بن حسين الأهدل، عن الحافظ عبد الرحمن بن علي الديبع الشيباني، عن الحافظ شمس الدين محمَّد بن عبد الرحمن السخاوي، عن الحافظ ابن حجر العسقلاني، عن البرهان إبراهيم بن أحمد التنوخي، عن أحمد بن أبي طالب الحجار، عن عبد اللطيف بن محمَّد بن علي القُبيطي، عن أبي زرعة طاهر بن محمَّد المقدسي، عن أبي محمَّد عبد الرحمن بن أحمد الدُّوني، عن القاضي أبي نصر أحمد بن الحسين الكسار، عن الحافظ أبي بكر أحمد بن محمَّد بن إسحاق المعروف بابن السني الدينوري، عن المؤلف الحافظ أبي عبد الرحمن النسائي رحمهم الله تعالى.

(ح) وأخبرنا بها سماعا لبعضها بقراءة غيري، وإجازة لباقيها شيخي العلامة محمَّد بن رافع بن بُصَيْري الإثيوبي، عن شيخه محمَّد بن محمَّد ابن أمين خير الباكستاني نزيل مكة، عن محمَّد بن يحيى الكاندهلوي،

ص: 153

عن رشيد أحمد الكنكوهي، عن عبد الغني المجددي، عن الشاه محمَّد ابن إسحاق الدهلوي المكي، عن عبد العزيز الدهلوي، عن والد الشاه ولي الدين أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، عن أبي طاهر محمَّد بن إبراهيم الكردي المدني، عن أبيه إبراهيم بن حسن الكردي المدني، عن أحمد بن محمَّد القُشاشي، عن أحمد بن عبد القدوس الشناوي، عن شمس الدين محمَّد بن أحمد الرملي، عن القاضي زكريا الأنصاري، عن عز الدين عبد الرحيم بن محمَّد المعروف بابن الفرات، عن أبي حفص عمر بن الحسن المراغي، عن أبي الحسن فخر الدين علي بن أحمد المعروف بابن البخاري، عن أبي المكارم أحمد بن محمَّد اللبَّان، عن أبي علي حسن بن أحمد الحَدَّاد، عن أحمد الكسار، بسنده المذكور. رحمهم الله تعالى.

(ح) وأخبرني بها قراءة لأول حديث منها، واجازة للباقي المسند الكبير الشيخ محمَّد بن يس بن محمَّد بن عيسى الفاداني، عن عمر بن حمدان المحرسي، عن السيد محمَّد علي بن ظاهر الوتري، عن عبد الغني الدهلوي، بسنده المذكور.

(ح) وأخبرنا بها إجازة شيخي العلامة محمَّد زين بن الشيخ محمَّد يس الإتيوبي الدَّاني، عن العلامة المفتي محمَّد سراج بن محمَّد سعيد الأنِّي، عن الشيخ محمَّد الحلبي، والشيخ محمَّد السَّمَلُّوطي كلاهما عن البرهان إبراهيم السقا الأزهري، عن ولي الله ثعيلب، عن الشهاب أحمد النخلي، عن شمس الدين محمَّد بن علاء الدين البابلي، عن سالم بن محمَّد السنهوري، عن نجم الدين محمَّد بن أحمد الغَيْطيّ، عن البرهان إبراهيم التنوخي بسنده المذكور في سند والدي رحمهم الله تعالى.

ص: 154

(ح) وأخبرنا بها قراءة لبعضها، وإجازة لباقيها الشيخ إسماعيل عثمان زين اليمني، عن السيد محمَّد بن يحيى دوم الأهدل، عن السيد محمَّد بن عبد الرحمن الأهدل، عن العلامة محمَّد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل، عن عمه الحسين بن عبد الباري الأهدل، عن وجيه الدين عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن والده سليمان بن يحيى، عن صفي الإسلام أحمد شريف مقبول الأهدل، عن خاله عماد الدين يحيى بن عمر مقبول الأهدل، عن العلامة عبد الله بن سالم البصري، عن العلامة محمَّد بن علاء الدين البابلي، عن الشيخين: أحمد بن خليل السبكي، وأبي النجا سالم بن محمَّد السنهوري، كلاهما عن النجم الغيطي بسنده المذكور. رحمهم الله تعالى.

قال الجامع عفا الله عنه: ولي أسانيد متنوعة تتصل بالإمام النسائي رحمه الله تعالى غير هذه، تركت ذكرها اختصارا.

وبالأسانيد المذكورة إلى الإمام النسائي قال رحمه الله تعالى:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

افتتح رحمه الله تعالى كتابه بالبسملة اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يصَدِّر بها كُتُبَه إلى الملوك، وغيرهم، وكتبه في القضايا، كما ثبت ذلك في قصة هرقل، وقصة صلح الحديبية، وغيرهما مما أخرجه الشيخان، وغيرهما. وموافقة للكتاب العزيز حيث إن الصحابة رضوان الله عليهم افتتحوا كتابة الإمام الكبير بها، وتبعهم على ذلك جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول به.

وقال إمام المفسرين أبو جعفر محمَّد بن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره جـ 1 ص 5: ما نصه:

ص: 155

إن الله تعالى ذكرُه، وتقدست أسماؤه، أدَّبَ نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدَّبه به من ذلك، وعلمَه إياه منه لجميع خلقه سنة يَسْتَنُّون بها، وسبيلا يتبعونه عليها في افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم، وكتبهم، وحاجاتهم. اهـ.

‌مسائل تتعلق بالبسملة

المسألة الأولى: إنما عدلت عن الاحتجاج بما اشتهر الاحتجاج به -ولا سيما عند المتأخرين من المصنفين- على استحباب البسملة، وهو حديث:"كل أمر ذي بال، لا يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أبتر" وفي رواية "لا يبدأ بالحمد لله" وفي رواية "بالحمد، فهو أقطع" وفي رواية "أجذم" وفي رواية "لا يبدأ فيه بذكر الله". روى كلها الحافظ عبد القادر الرهاوي رحمه الله في شرح الأربعين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -كما قال النووي رحمه الله في شرح مسلم جـ 1 ص 43 - إلى ما ذكرته، لكون الحديث ضعيفًا جدًا.

قال الحافظ الزيلعي رحمه الله تعالى في تخريج أحاديث الكشاف جـ 1 ص 22 - 24:

روي من حديث أبي هريرة، ومن حديث كعب بن مالك.

أما حديث أبي هريرة: فأخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الأدب والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في النكاح من حديث قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر" انتهى

(1)

.

(1)

فيما قاله الزيلعي نظر، فإن لفظ البسملة ليس عند أبي داود، ولا النسائي، ولا ابن ماجه، فعندهم بلفظ الحمد، وأما البسملة فعند الخطيب البغدادي، فتنبه.

ص: 156

ورواه ابن حبان في صحيحه في موضعين منه في النوع الثاني والتسعين من القسم الأول، وأعاده في النوع السادس والستين من القسم الثالث بالإسناد المذكور، ولفظه:"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع".

ورواه الإمام أحمد في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه، في كتاب الأدب، وفي مسنده، وكذلك رواه البزار في مسنده، وقال: لا نعلمه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. انتهى.

ورواه الدارقطني في سننه، في أوائل كتاب الصلاة، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، في الباب الثالث والثلاثين، عن الحاكم بسنده إلى قرة بن عبد الرحمن به سواء، ولفظه:"كل أمر لا يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع". ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده كذلك، ولفظه:"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع"، وهي رواية الدارقطني، وأحمد، والنسائي.

والحديث فيه روايات: فروي "كل أمر"، وروي "كل كلام" وهي رواية عند أحمد والنسائي، وروي "لم يبدأ" وقد تقدم، وروي "لم يفتتح" وهي عن أحمد أيضا، وروي "بحمد الله"، وقد تقدم، وروي "بذكر الله" وقد تقدم، وروي "فهو أقطع" وقد تقدم، وروي "فهو أبتر" وقد تقدم، وروي "فهو أجذم" وروي "فهو أكتع" بالكاف، رواه الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده: حدثنا بقية بن الوليد، ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله، أكتع" قال بقية: والأكتع: الذي ذهبت أصابعه، وبقي كفه. انتهى بحروفه، وهذا معضل.

وفي رواية أخرى، رواه الإمام أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه

ص: 157

"الجامع لآداب الراوي والسامع": من حديث مبشر بن إسماعيل، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع". انتهى.

وهذا الحديث أعلّ من وجهين:

الأول: أنه قد روي مرسلًا، أخرجه كذلك أبو داود والنسائي، عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيه أبو هريرة، قال النسائي: والمرسل أولى بالصواب. انتهى.

الثاني: في إسناده قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل المعافري، وفيه مقال. قال الحاكم في مستدركه في أواخر الصلاة: وقد استشهد مسلم رحمه الله بقُرة بن عبد الرحمن في موضعين من صحيحه. انتهى.

أما حديث كعب بن مالك فرواه الطبراني في معجمه: حدثنا أحمد ابن المعلى الدمشقي، حدثنا عبد الله بن يزيد الدمشقي، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن محمَّد بن الوليد الزُّبيْدي، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع". انتهى. انظر تخريج أحاديث الكشاف للحافظ الزيلعي رحمه الله تعالى جـ 1 ص 22 - 24.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى في الفتح جـ 9 ص 85، في تفسير قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: آية 64]، في الكلام على حديث هرقل عند قوله:"فهذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم" قال النووي: فيه استحباب تصدير الكتب ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن كان المبعوث إليه كافرًا، ويحمل قوله في حديث أبي هريرة:"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع" أي بذكر الله، كما جاء في رواية أخرى فإنه روي على أوجه "بذكر الله"،

ص: 158

"ببسم الله الرحمن الرحيم"، "بحمد الله"، وهذا الكتاب كان ذا بال من المهمات العظام، ولم يبدأ فيه بلفظ الحمد، بل بالبسملة. انتهى.

قال الحافظ: والحديث الذي أشار إليه أخرجه أبو عوانة في صحيحه وصححه ابن حبان أيضا، وفي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته فالرواية المشهورة فيه بلفظ "حمد الله" وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية. اهـ.

وقد حقق الكلام على هذا الحديث المحدث الكبير الشيخ الألباني -جزاه الله خيرًا- في أول إروائه فأجاد، وأفاد، فقال:

1 -

حديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر" رواه الخطيب، وعبد القادر الرهاوي ص 5 ضعيف جدا. وقد رواه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 1/ 6 من طريق الحافظ الرهاوي بسنده، عن أحمد بن محمَّد بن عمران: حدثنا محمد بن صالح البصري -بها- حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك، حدثنا يعقوب ابن كعب الأنطاكي، حدثنا مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا به، إلا أنه قال:"فهو أقطع" وهذا سند ضعيف جدا، آفته ابن عمران هذا، ويعرف بابن الجندي، ترجمه الخطيب في تاريخه 5/ 77، وقال: كان يضعف في روايته، ويطعن عليه في مذهبه -يعني التشيع- قال الأزهري: ليس بشيء، وقال الحافظ في اللسان: وأورد ابن الجوزي في الموضوعات في فضل علي حديثا بسند رجاله ثقات إلا الجندي، فقال: هذا موضوع ولا يتعدى الجندي.

ثم رواه السبكي من طريق خارجة بن مصعب، عن الأوزاعي به إلا أنه قال:"بحمد الله" بدل "بسم الله الرحمن الرحيم"، وخارجة هذا قال الحافظ: متروك وكان يدلس عن الكذابين، ويقال: إن ابن معين كذبه.

ص: 159

وقد خالفه والذي قبله محمَّد بن كثير المصيصي، فقال في إسناده: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة به، باللفظ الثاني:"بحمد الله" رواه السبكي ص 7، من طريق أبي بكر الشيرازي في كتاب الألقاب، والمصيصي هذا ضعيف؛ لأنه كثير الغلط، كما قال الحافظ. والصحيح عن الزهري مرسلًا، كما قال الدارقطني، وغيره. وقد روي موصولا من طريق قُرة عنه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة باللفظ الثاني.

ومما سبق يتبين أن هذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف جدًا، فلا تغتر بمن حسنه مع الذي بعده فإنه خطأ بيِّن ولئن كان اللفظ الآتي يحتمل التحسين فهذا ليس كذلك، لما سبق في سنده من الضعف الشديد كما رأيت.

وقال: 2 - حديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع"، وفي رواية "بحمد الله"، وفي رواية "بالحمد"، وفي رواية "فهو أجذم". رواها الحافظ الرهاوي في الأربعين له ص 5 ضعيف.

رواه ابن ماجه، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ "بالحمد أقطع" ورواه ابن حبان في صحيحه من هذا الوجه بالرواية الثانية "بحمد الله" كما في طبقات السبكي 1/ 4، ورواه الدارقطني في سننه ص 85 بلفظ "بذكر الله أقطع" ورواه أبو داود في سننه 4843، بلفظ "بالحمد فهو أجذم"، وقال: رواه يونس، وعقيل، وشعيب، وسعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. يشير إلى أن الصحيح فيه مرسل. وهو الذي جزم به الدارقطني كما نقله السبكي، وهو الصواب؛ لأن هؤلاء الذين أرسلوه أكثر، وأوثق من قرة، وهو ابن عبد الرحمن المعافري المصري، بل إن هذا فيه ضعف من قبل حفظه، ولذلك لم يحتج به مسلم، وإنما أخرج له في

ص: 160

الشواهد. وقال ابن معين: ضعيف الحديث. وقال أبو زرعة: الأحاديث التي يرويها مناكير. وقال أبو حاتم، والنسائي: ليس بقوي. وقول السبكي فيه: هو عندي في الزهري ثقة ثبت، فقد قال الأوزاعي: ما أحد أعلم بالزهري منه. وقال يزيد بن السمط: أعلم الناس بالزهري قرة بن عبد الرحمن. فهو بعيد عن الصواب؛ لأنه مخالف لأقوال الأئمة المذكورين فيه، واعتماده في ذلك على ما نقله عن الأوزاعي مما لا يجدي؛ لأن المراد من قول الأوزاعي المذكور أنه أعلم بحال الزهري من غيره، لا فيما يرجع إلى ضبط الحديث، كما قال الحافظ ابن حجر في التهذيب، قال: وهذا هو اللائق.

ومما يدلك على ضعفه -زيادة على ما تقدم- اضطرابه في متن الحديث، فهو تارة يقول:"أقطع" وتارة "أبتر" وتارة "أجذم" وتارة "يذكر الحمد لله"، وأخرى يقول "بذكر الله".

ولقد أضاع السبكي جهدا كبيرا في محاولته التوفيق بين هذه الروايات، وإزالة الاضطراب عنها، فإن الرجل ضعيف كما رأيت، فلا يستحق حديثه مثل هذا الجهد، وكذلك لم يحسن صنعا حين ادعى أن

الأوزاعي تابعه، وأن الحديث يَقْوَى بذلك؛ لأن السند إلى الأوزاعيّ ضعيف جدا كما تقدم في الحديث الذي قبله، فمثله لا يستشهد به، كما هو مقرر في مصطلح الحديث.

وقد رواه أحد الضعفاء الآخرين، عن الزهري بسند آخر، أخرجه الطبراني من طريق عبد الله بن يزيد: حدثنا صدقة بن عبد الله، عن محمَّد بن الوليد الزُّبيدي، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه مرفوعا. وهذا سند ضعيف، صدقة هذا ضعيف، كما قال الحافظ في التقريب، وقد خالف قرة إسناده كما ترى، فلا يصح أن

ص: 161

تجعل هذه المخالفة سندا في تقوية الحديث كما فعل السبكي، بينما هي تدل على ضعفه لاضطراب هذين الضعيفين فيه على الزهري كما رواه الآخرون من الضعفاء عن الزهري بإسناد آخر، ذكرته في الحديث الذي قبله.

وجملة القول أن الحديث ضعيف، لاضطراب الرواة فيه على الزهري، وكل من رواه عنه موصولا ضعيف، أو السند إليه ضعيف، والصحيح عنه مرسلا كما تقدم عن الدارقطني وغيره، والله أعلم. اهـ انظر إرواء الغليل جـ 1 ص 29 - 32.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن الأكثرين على تضعيف الحديث، فقد قال الدارقطني رحمه الله: تفرد به قرة عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وأرسله غيره، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرة ليس بقوي في الحديث. ورواه صدقة عن محمَّد بن سعيد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح الحديث، وصدقة، ومحمد بن سعيد ضعيفان، والمرسل هو الصواب، انظر سنن الدراقطني جـ 1 هـ 299.

وقد تقدم تضعيف الأئمة لقرة هذا، فقد قال أحمد: منكر الحديث، وقال ابن معين: ضعيف الحديث، وعنه: كان يتساهل في السماع، وفي الحديث، وليس بكذاب، وقال أبو زرعة: الأحاديث التي يرويها

مناكير، وقال أبو حاتم، والنسائي: ليس بقوي، وقال أبو داود: في حديثه نكارة.

وأما ما قاله يزيد بن السمط: كان الأوزاعي يقول: ما أحد أعلم بالزهري من قرة بن عبد الرحمن. فقد تعقبه ابن حبان في الثقات -كما في تهذيب التهذيب جـ 8 ص 373 - بقوله: هذا الذي قاله يزيد ليس بشيء يحكم به على الإطلاق، وكيف يكون قرة أعلم الناس بالزهري،

ص: 162

وكل شيء روى عنه ستون حديثًا، بل أعلم الناس بالزهري مالك، ومعمر، ويونس، والزُّبيدي، وعقيل، وابن عيينة، هؤلاء أهل الحفظ، والإتقان والضبط اهـ.

وأورد ابن عدي كلام الأوزاعي من رواية رجاء بن سهل، عن أبي مسهر، ولفظه: ثنا يزيد بن السمط، قال: ثنا قرة، قال: لم يكن للزهري إلا كتاب فيه نَسَبُ قومه، وكان الأوزاعي يقول: ما أحد أعلم بالزهري من ابن حيوئيل، فيظهر من هذه القصة أن مراد الأوزاعي أنه أعلم بحال الزهري من غيره، لا فيما يرجع إلى ضبط الحديث، وهذا هو اللائق، والله أعلم. انظر تهذيب التهذيب جـ 1 ص 373 - 374.

والحاصل أن قرة ضعفه الجمهور، ولم يوجد له توثيق صريح، إلا أن ابن عدي قال: لم أر له حديثًا منكرا جدا، وأرجوا أنه لا بأس به.

وذكره ابن حبان في الثقات، مع التعقب المذكور. فتفرده بوصل هذا الحديث، واضطرابه ومخالفته للثقات: يونسَ، وعقيلَ بن خالد، وشعيبَ بن أبي حمزة، وسعيدَ بن عبد العزيز، فكلهم رووه عن الزهري مرسلا، يدل على وَهمه، فروايته منكرة، وقد عرفت بطلان دعوى متابعة الأوزاعي، وغيره له، فيما تقدم. فالصحيح أن الحديث ضعيف جدا، فتصحيح التاج السبكي، وتحسين غيره له مما لا يلتفت إليه، فتفطن، وهذا كله بلفظ "الحمد لله" وأما بلفظ البسملة فواه بمرة، لأن في سنده أحمد بن محمَّد بن عمران وهو متهم، مع المخالفة للثقات، بل حكم بعضهم

(1)

فيه بالوضع، وإن كان فيه نظر. والله أعلم. "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

وهو العلامة السيد أحمد بن محمَّد بن الصديق الغمارى ت 1380 هـ، رحمه الله، فقد ألف رسالة سماها "الاستعاذة، والحسبلة ممن صحح حديث البسملة" وهي مطبوعة، حكم فيها بكون حديث البسملة موضوعا، لكن الحكم بالوضع محل نظر لمن أنصف، والله أعلم.

ص: 163

المسألة الثانية: إن قال قائل: لمَ لَمْ يفتتح النسائي رحمه الله سننه بخطبة تنبئ عن مقصوده، مشتملة على الحمد والشهادة؟.

فالجواب عنه: أنه ترك ذلك اتباعا للسنة حيث كانت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآفاق مفتتحة بالبسملة دون غيرها -كما تقدم شرح ذلك في المسألة السابقة-.

وأيضًا: أن ذلك عرف طارئ التزمه المتأخرون، فقد استحسنوا ابتداء مؤلفاتهم بالبسملة، والحمدلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومدح الفن، وذكر الباعث، وتسمية الكتاب، وبيان كيفية العمل فيه من التبويب، والتفصيل، وغير ذلك، وأما المتقدمون فلا يوجد ذلك في مؤلفاتهم إلا بعضه عند بعضهم، كما فعل مسلم رحمه الله في صحيحه فجرى المصنف رحمه الله على عمل المتقدمين هنا، وفي الكبرى لموافقته السنة، فلم يذكر إلا البسملة.

وقد ذكر الحافظ في الفتح جوابًا عن البخاري رحمه الله تعالى فقال:

وقد اعتُرض على المصنف -يعني البخاري- لكونه لم يفتتح بخطبة تنبئ عن مقصوده مفتتحة بالحمد والشهادة امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع" وقوله: "كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء" أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والجواب عن الأول: أن الخطبة لا يتحتم فيها سياق واحد يمتنع

العدول عنه، بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود، وقد صدر الكتاب بترجمة بدء الوحي، وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية، فكأنه يقول: قصدت جمع وحي السنة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي "وإنما

ص: 164

لكل امرئ ما نوى" فاكتفى بالتلويح عن التصريح، وقد سلك هذه الطريقة في معظم تراجم هذا الكتاب على ما سيظهر بالاستقراء.

والجواب عن الثاني: أن الحديثين ليسا على شرطه، بل في كل منهما مقال، سلمنا صلاحيتهما للحجية، لكن ليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معا، فلعله حمد وتشهد نطقا عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصارًا على البسملة؛ لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله، وقد حصل بها، ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [الفلق: آية 1]، فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة، والاقتصار عليها، لا سيما وحكاية ذلك من جملة ما تضمنه هذا الباب، بل المقصود بالذات من أحاديثه.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: (فلعله حمد وتشهد نطقا .. إلخ) فيه تكلف لا يخفى، بل الجواب الصحيح هو ما أشار إليه بقوله: ويؤيده .. إلخ، فالأولى أن يقال: إنما ترك ذلك تأسيا، ويؤيد ذلك -كما قال- وقوع كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون الحمدلة، وغيرها، كما في حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وكما في حديث البراء في قصة سهيل بن عمرو في صلح الحديبية، وغير ذلك من الأحاديث، وهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق، فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم لينتفعوا بما فيه تعلما وتعليما.

وقد أجاب من شرح هذا الكتاب -يعني صحيح البخاري- بأجوبة أخرى فيها نظر:

ص: 165

منها: أنه تعارض عند الابتداء بالتسمية والحمدلة، فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة، أو بالتسمية لم يعدّ مبتدئا بالحمدلة، فاكتفى بالتسمية. وتعقب بأنه لو جمع بينهما لكان مبتدئا بالحمدلة بالنسبة إلى ما بعد التسمية، وهذه هي النكتة في حذف العاطف، فيكون أولى لموافقته الكتاب العزيز، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسمية والحمدلة وتلوها، وتبعهم على ذلك جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول ذلك.

ومنها: أنه راعى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: آية1] فلم يقدم على كلام الله ورسوله شيئا، واكتفى بها عن كلام نفسه. وتعقب بأنه كان يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى، وأيضا فقد قدم الترجمة وهي من كلامه على الآية، وكذا ساق السند قبل لفظ الحديث، والجواب عن ذلك بأن الترجمة والسند، وإن كانا متقدمين لفظا لكنهما متأخران تقديرا فيه نظر.

وأبعد من هذا كله قول من ادعى أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة، فحذفها بعض من حمل عنه الكتاب، وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري، وشيوخ شيوخه، وأهل عصره كما في الموطأ وعبد الرزاق في المصنف، وأحمد في المسند، وأبي داود في السنن، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة، ولم يزد على التسمية، وهم الأكثر، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة، أفيقال في كل من هؤلاء: إن الرواة عنه حذفوا ذلك؟! كلا، بل يحمل ذلك من صنيعهم، على أنهم حمدوا لفظا، ويؤيده ما رواه الخطيب في الجامع عن أحمد أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب الحديث، ولا يكتبها، والحامل له على ذلك إسراع أو غيره، أو يحمل على أنهم رأوا

ص: 166

ذلك مختصا بالخطب دون الكتب، كما تقدم، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد، وتَشَهَّد، كما صنع مسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. اهـ فتح جـ 1 ص 13 - 14.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاعتراض، والجواب عنه عجيب -ولا سيما من مثل الحافظ رحمه الله لأنه مبني على ما جرى عليه عرف المتأخرين -كما قدمنا- وعمل المتقدمين هو الجاري على ما ثبت في السنة، حيث كانت كتبه صلى الله عليه وسلم مبتدأة بالبسملة فقط، فهل مَن كان عمله

على وفق السنة يعترض عليه، ويتكلف في الجواب، والاعتذار عنه؟! إن هذا لشيء عجيب!!.

وبالجملة فهؤلاء الأئمة ممن ذكرهم الحافظ وغيرهم، هم القدوة في هذا الشأن، فلا ينبغي الاعتراض عليهم بما عمله المتأخرون، وأما حديث:"كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء" فهو صريح في الخطبة، كخطبة الجمعة، والعيدين، والكسوف، ونحوها، وليست كتب العلم مرادة به، بدليل ما تقدم أن كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وكتبه في القضايا خالية عن ذلك، فتبصر. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

المسألة الثالثة: قال الحافظ رحمه الله تعالى: وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة، وكذا معظم كتب الرسائل، واختلف القدماء فيما إذا كان كله شعرا، فجاء عن الشعبي منع ذلك، وعن الزهري، قال: مضت السنة أن لا يكتب في الشعر "بسم الله الرحمن الرحيم"، وعن سعيد بن جبير جواز ذلك، وتابعه على ذلك الجمهور، وقال الخطيب: هو المختار. اهـ فتح جـ 1 ص 14.

وقال الملا علي القاري رحمه الله تعالى في شرح المشكاة جـ 1

ص: 167

ص 37: والأحسن التفصيل، بل هو الصحيح، فإن الشعر حسنه حسن، وقبيحه قبيح، فيصان إيراد البسملة في الهجويات، والهذيان، ومدائح الظلمة، ونحوها. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التفصيل الذي ذكره القاري رحمه الله تعالى هو الأولى عندي، ولعل ما روي عن الشعبي والزهري رحمهما الله تعالى محمول على هذا، فمرادهما الشعر القبيح، والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ويوجد في النسخة المصرية بعد البسملة ما نصه:

(وصلى اللهُ عَلى سَيِّدنَا مُحَمَّد، وآله، وسَلَّمَ)

وليس موجودًا في النسخة الهندية، ولعله ملحق ممن بعد المصنف ولكني أشرحه احتياطًا، فأقول قوله:(وصلى الله) جملة خبرية لفظًا، إنشائية معنى.

قال النووي رحمه الله تعالى في شرح المهذب: أصل الصلاة في اللغة الدعاء، هذا قول جمهور العلماء من أهل اللغة وغيرهم، وقال الزجاج: أصلها اللزوم، قال الأزهري، وآخرون: الصلاة من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدمي تضرع ودعاء. اهـ المجموع جـ 1 ص 75.

وقال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه جـ 9 ص 610 بنسخة الفتح: قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند ملائكته، وصلاة الملائكة الدعاء.

وقال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في جامعه جـ 2 ص 610 - بشرح تحفة الأحوذي-: وروي عن سفيان الثوري، وغير واحد من

ص: 168

أهل العلم، قالوا: صلاة الرب: الرحمة، وصلاة الملائكة: الاستغفار اهـ، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره جـ 3 ص 503: وقد يقال: لا منافاة بين القولين والله أعلم.

وقد رد العلامة ابن القيم رحمه الله على من فسر الصلاة بالرحمة، وبالغ في ذلك في كتابه "جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" فراجعه ص 83 - 91.

(على سيدنا) متعلق بصَلَّى، قال الفيومي رحمه الله: وسيد القوم رئيسهم، وكرمهم، والسيد المالك، وأصله سَويد، وزان كَريم، فاستثقلت الكسرة على الواو، فحذفت، فاجتمعت الواو وهي ساكنة، والياء، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وقيل: أصله فَيْعل -بسكون الياء، وكسر العين- وهو مذهب البصريين، والأصل سَيْود، وقيل: بفتح العين، وهو مذهب الكوفيين، لأنه لا يوجد فَيْعل بكسر العين في الصحيح، إلا صَيقل اسم امرأة، والعَليل محمول على الصحيح، فتعين الفتح قياسا على عَيطَل، وكذلك ما أشبهه

(1)

.

وقال النووي رحمه الله تعالى: اعلم أن السيد يطلق على الذي يفوق قومه، ويرتفع قدره عليهم، ويطلق على الزعيم والفاضل، ويطلق على الحليم الذي لا يستفزُّه غضبه، ويطلق على الكريم، وعلى المالك، وعلى الزوج، وقد جاءت أحاديث كثيرة بإطلاق السيد على أهل الفضل.

فمن ذلك ما رويناه في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد بالحسن بن علي رضي الله عنهما المنبر، فقال:"إن ابني هذا سيد، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين من المسلمين"

(1)

المصباحُ في مادة "جود" و"سود".

ص: 169

وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار لما أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه: "قوموا إلى سيدكم" وروينا في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلًا أيقتله؟ .. الحديث. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انظروا إلى ما يقول سيدكم".

وأما ما في سنن أبي داود بالإسناد الصحيح عن بريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيدا، فقد أسخطتم ربكم عز وجل" فيجمع بينه وبين هذه الأحاديث أنه لا بأس بإطلاق فلان سيد، ويا سيدي وشبه ذلك إذا كان المسوَّد فاضلا خيِّرًا، إما بعلم، وإما بصلاح، وإما بغير ذلك، وإن كانا فاسقًا أو متهما في دينه، أو نحو ذلك كره أن يقال له: سيد. اهـ كلام النووى في أذكاره بتغيير يسير ص 321 - 322.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد:

اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا سيدنا، قال:"السيد الله تبارك وتعالى". وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:"قوموا إلى سيدكم"، وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحَدُ ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي سيد كندة، ولا يقال: المَلَكُ سيد البشر، قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وهذا فيه نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى، والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق. انتهى. انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص 738 - 739.

ص: 170

قال الجامع عفا الله عنه: والصواب أن لفظ "السيد" يجوز إطلاقه على الله تعالى، لحديث أبي داود المذكور، وهو حديث صحيح، ويجوز إطلاقه على المخلوق إذا لم يكن فاسقا، للأحاديث المتقدمة في

كلام النووي.

وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن قولهم "يا سيدنا" فهو من باب التحذير عن الغُلُوّ في المدح، فالحديث صريح في ذلك، فقد أخرج أبو داود بسند جيد، وصححه غير واحد -كما قال في الفتح جـ 5 ص 179 - عن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدنا، فقال:"السيد الله تبارك وتعالى" قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال:"قولوا بقولكم" أو "بعض قولكم، ولا يَستَجْريَنَّكم الشيطان"

(1)

.

(محمَّد) هو علم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف أسمائه، منقول من اسم مفعول حُمِّدَ، وهو يتضمن الثناء على المحمود، وإجلاله وتعظيمه ومحبته، وهو عَلَم وصفة اجتمع فيه الأمران في حقه صلى الله عليه وسلم، وإن كان علما محضا في حق غيره. وهذا شأن أسماء الله تعالى، وأسماء كتبه، وأسماء نبيه صلى الله عليه وسلم هي أعلام دالة على معان هي أوصاف، فلا تضاد فيها العلميةُ الوصفيةَ، فهو صلى الله عليه وسلم محمود عند الله، وعند ملائكته، وعند إخوانه من المرسلين، وعند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم عنادا، وقد اختص من مسمى الحمد بما لم يجتمع لغيره، فإنه محمَّد، وأحمد، وأمته الحامدون، وصلاته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، وبيده لواء الحمد يوم القيامة، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون. وقد أجاد في

(1)

أي لا يستتبعنكم، فيتخذكم جريَّهُ، أي وكيله، وسمي الوكيل جريًا، لأنه يجري مَجْرَى موكله. أفاده في السان.

ص: 171

هذا الباب العلامة ابن القيم رحمه الله فأفاد. انظر جلاء الأفهام ص 92 - 108.

(وآله) اختلف في أصله، فقيل: أهل، قلبت الهاء همزة ثم سهلت، ولهذا إذا صغر رد إلى الأصل، فقالوا: أهيل، وقيل: أصله أوَل، من آل يؤول: إذا رجع، سمي بذلك من يؤول إلى الشخص، ويضاف إليه، ولا يضاف إلا إلى معظم، فلا يقال: آل الحجام، ولا آل الإسكاف، بخلاف أهل، ولا يضاف أيضا إلى غير العاقل، ولا إلى الضمير عند أكثر، وجوزه بعضهم بقلة.

واختلف في المراد بالآل هنا، فقيل: من حرمت عليه الصدقة، وهو نص الشافعي رحمه الله، واختاره الجمهور، ورجحه السخاوي، قال: ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا آل محمَّد لا تحل لنا الصدقة" وقوله: "إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمَّد"، وقال أحمد رحمه الله: المراد في حديث التشهد أهل بيته.

وقيل: المراد أزواجه وذريته، وقيل: ذرية فاطمة، وقيل: جميع قريش، وقيل: جميع أمة الإجابة. قال ابن العربي رحمه الله: مال إلى ذلك مالك، واختاره الأزهري، وحكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الشافعية، ورجحه النووي في شرح مسلم، وقيده القاضي حسين والراغب بالأتقياء منهم، وعليه يحمل كلام من أطلق، ويؤيده قوله تعالى:{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: آية 34]، أفاده الحافظ السخاوي رحمه الله في القول البديع ص 88 - 89.

(وسلم) أي عليه. فمتعلقه محذوف بدليل ما قبله، قال الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى: واختلف في معنى السلام، فقيل: السلام الذي هو اسم من أسماء الله تعالى عليك، وتأويله لا خلوت من

ص: 172

الخيرات، والبركلات، وسلمت من المكاره، والآفات، إذ كان اسم الله إنما يذكر توقعا لاجتماع معاني الخير والبركة فيها، وانتفاء عوارض الخلل والفساد عنها، ويحتمل أن يكون بمعنى السلام، أي ليكن قضاء الله عليك السلام، وهو السلامة كالَمقَام والمَقَامة، والمَلام والمَلامة، أي يسلمك الله من الملام والنقائص. فهذا قلت: اللهم سلم على محمَّد، فإنما تريد به: اللهم اكتب لمحمد في دعوته، وأمته، وذكره السلامة من كل نقص، فتزداد دعوته على ممر الأيام علوّا، وأمته، تكاثرا، وذكره ارتفاعا. قاله البيهقي. انتهى، القول البديع في الصلاة والسلام على الحبيب الشفيع ص 75.

وسيأتي مزيد بسط، وتحقيق لمعنى الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.

(قَالَ الشَّيْخُ العَالمُ الرَّبَّانِّي الرُّحْلَةُ الحَافظُ الحُجَّةُ الصَّمَدانيُّ، أبو عَبْد الرَّحمَن أحْمَدُ بْنُ شُعَيْب بْن عَلىِّ بْن بَحْر النَّسائيُّ رَحمَهُ اللهُ تَعَالى)

الظاهر أن هذه العبارة ليست للمصنف، وإنما هي ممن روى الكتاب عنه، أو ممن بعدهم.

(الشيخ) ومثله الشّيخُونُ: من استبانت فيه السنن، أو من خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره، أو إلى الثمانين. جمعه: شُيُوخ -بالضم- وشِيُوخ -بالكسر- وأشياخ، وشِيَخَةٌ -كعنبة-، وشِيْخةٌ، بكسر فسكون، وشيخان -بالكسر- ومَشْيخَة -بالفتح- ومِشيخة -بالكسر- ومَشيُخاء، ومشيُخاء، ومشايخ. وتصغيره: شُييخ -بالضم- وشييخ -بالكسر- وشُويخ قليلة. اهـ "ق".

قال بعضهم: الشيخ في الأصل ضد الشاب، ثم استعير للأستاذ، أو للمرشد، لعلاقة التشبيه في العظمة. اهـ.

ص: 173

(الإمام) قال الفيومي رحمه الله: الإمام: العالم المقتدى به، ومن يؤتم به في الصلاة، ويطلق على الذكر والأنثى، قال بعضهم: وربما أنت إمام الصلاة بالهاء، فقيل: امرأة إمامة، وقال بعضهم: الهاء فيها خطأ، والصواب حذفها؛ لأن الإمام اسم لا صفة، اهـ المصباح جـ 1 ص 23.

وفي "ق" وشرحه: الإمام بالكسر: كل ما ائتمَّ به قوم، من رئيس أو غيره، جمعه: إمام بلفظ الواحد، وأيمة بقلب الهمزة ياء لثقلها، وأئمة بهمزتين شاذ. اهـ.

والمراد به هنا: العالم الذي يُقتَدَى به في العلم.

(العالم) أي المتصف بالعلم، وهو كما في المصباح: اليقين، يقال: علم يعلَم: إذا تيقَّن.

(الرباني) قال في "ق" وشرحه: الرباني: العالم المُعَلّم الذي يَغذُو الناس بصغار العلوم قبل كبارها. وقال محمَّد ابن الحنفية لما مات عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: مات اليوم رباني هذه الأمة. وروي عن علي رضي الله أنه قال: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهَمَجٌ

(1)

رعاع

(2)

أتباع كل ناعق

(3)

، والرباني: العالم الراسخ في العلم والدين، أو العالم العامل المعلم، أو العالي الدرجة في العلم. وقيل: الرباني: المُتَألِّه العارف بالله تعالى، منسوب إلى الربَّان، وفعلان يُبنَى من فعل مكسور العين كثيرًا، كعطشان، وسكران،

(1)

الهمج: ذباب صغير كالبعوض يقع على وجوه الدواب، الواحدة همجة، مثل قصب وقصبة، وقيل: هو دود يتفقأ عن ذباب وبعوض. ويقال للرَّعاع: همج على التشبيه. اهـ المصباح.

(2)

الرعاع بالفتح: السِّفْلَة من الناس، ويقال: هم أخلاط الناس. اهـ المصباح.

(3)

اسم فاعل من نَعَقَ يَنعق، من باب ضرب: إذا صاح.

ص: 174

ومن فَعَلَ مفتوح العين قليلًا، كَنعْسان، أو منسوب إلى الرب، أي الله سبحانه وتعالى، بزيادة الألف والنون للمبالغة. وقال سيبويه: زادوا ألفا، ونونا في الرباني، إذا أرادوا تخصيصا بعلم الرب، دون غيره، كأن معناه صاحب علم الرب دون غيره من العلوم، ونونه كلحْياني، وشَعْراني، ورَقَبَاني: إذا خُصَّ بطول اللحية، وكثرة الشَّعَر، وغلظ الرَّقبة، فهذا نسبوا إلى الشعر قالوا: شَعَري، وإلى الرقبة قالوا: رقبي، وإلى اللحية، قالوا: لحْييّ. والرباني: الموصوف بعلم الرب، وفي التنزيل:{كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79]. اهـ ببعض اختصار جـ 1 ص260.

وقال البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه تعليقا: وقال ابن عباس رضي الله عنه: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} حلماء فقهاء.

(الرُّحْلة) -بالضم- أي العالم الكبير الذي يُرحل إليه لجاهه، أو علمه، قاله في "تاج". وفي المصباح: وقال أبو زيد: الرِّحلة -بالكسر- اسم من الارتحال، والرُّحلة -بالضم-: الشيء الذي يرحل إليه، يقال: قَرُبت رحْلَتنا -بالكسر- أنت رُحلتنا -بالضم- أي المقصد الذي يقصد. اهـ ج 1 ص 222.

والمراد به هنا: العالم الذي ترحل إليه طلبة العلم من أقطار الأرض لأخذ العلوم منه.

(الحافظ) اسم فاعل من حَفظَ، من باب عَلمَ، يقال: حفظت المال، وغيره، حفظا: إذا منعته من الضياع، والتلف، وحفظته: صنته عن الابتذال. قاله في المصباح جـ 1 ص 142.

والحافظ من الألقاب التي يطلقها المحدثون على العلماء بالحديث، وقد بينه الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله، لما سئل عن الحد الذي إذا

ص: 175

انتهى إليه جاز أن يطلق عليه لفظ الحافظ، فقال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم، ويعرف تراجمهم، وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم، ليكون الحكم للغالب اهـ.

ودونه المُحَدث، ودون المحدث المُسندُ -بكسر النون- وفوق الكل أمير المؤمنين، إذ هو لقب لم يَظفَر به إلا الأفذاذ النوادر الذين هم أئمة هذا الشأن، كشعبة، والثوري، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، والدارقطني، ومن المتأخرين كالحافظ ابن حجر، وأضرابهم، إلى هذا أشار الحافظ السيوطي رحمه الله في ألفية المصطلح، حيث قال:

وذَا الحَديث وَصَفُوا فاختَصَّا

بحَافظ كَذا الخطيبُ نَصَّا

وهو الذي إليه في التَّصحيحِ

يُرجعُ والتَّعْديل والتَّجْريحِ

أنْ يحفَظَ السُّنةَ ما صحَّ وَمَا

يَدري الأسَانيدَ ومَا قَد وَهمَا

فيه الرواةُ زائدًا أو مُدرَجَا

ومَا به الإعلالُ فيها نُهِجَا

يَدري اصطلاح القَوم والتَّمَيُّزَا

بينَ مَراتب الرِّجال مَيَّزَا

في ثقة والضُّعْف والطِّبَاق

كَذَا الخطيب حَدَّ للإطلاقِ

وصرَّحَ المزيُّ أنْ يكونَ مَا

يَفُوتُه أقلَّ ممَّا عَلِمَا

ودونَهُ مُحدِّثٌ أنْ تُبْصرَه

من ذاكَ يَحْوي جُمَلا مُسْتَكْثَرَه

ومَن على سَمَاعه المجرَّد

مُقتصرٌ لا علمَ سمْ بالمُسْندِ

وبأمير المؤمنين لقَّبُوا

أئمةَ الحَديث قدما نَسَبُوا

(الحُجة) -بالضم- هو في الأصل: الدليل، والبرهان، والجمع حُجَج، مثل غُرفة، وغُرَف، أي العالم الذي يجعل حجة وبرهانا في الحديث لطلاب الحديث.

ص: 176

(الصمداني) أي المنسوب إلى الصَّمَد، وهو الله تعالى، انتساب الطالب إلى المطلوب؛ لأن الصمد من معانيه الذي يُصمد إليه في الحوائج، أي يقصد، وقيل: السيد المطاع الذي لا يُقضَى دونه أمر. وقيل: الذي لا يَطعَم، وقيل: السيد الذي قد انتهى سؤدده. اهـ "ق" و "تاج" جـ 2 ص 401.

(أبو عبد الرحمن) بالرفع بدل من الشيخ، أو خبر لمبتدإ محذوف، تقديره: هو (أحمد) بالرفع بدل عن مما قبله، أو خبر لمحذوف، ويحتمل النصب مفعولا لفعل محذوف، أي أعني (بن شعيب بن علي ابن بحر)"بن" صفة لأحمد، أو بدل، أو عطف بيان، ويحتمل قطعه، كسابقه (النسائي) يحتمل الرفع، والنصب كسابقه رحمه الله تعال) جملة دعائية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ومقول "قال" قوله:"تأويل قول الله عز وجل" إلخ.

ص: 177

‌1 - تأويل قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}

[المائدة: الآية 6]

تأويل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6].

أي هذا باب تذكر فيه الأحاديث المفسرة لهذه الآية الكريمة، فإن الأحاديث المذكورة في باب الطهارة مفسرة لآية الوضوء لأن الله تعالى قال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو غيرهما تبيين لها ولبعضهم (من الكامل):

فَهوَ المفسِّرُ للكتاب وَإنَّمَا

نَطَقَ النبيُّ لنَا به عَنْ ربِّهِ

والتأويل: مصدر أوَّلَ الكلامَ: يقال: أول الكلام تأويلا، وتأوله: دبَّره وقدَّره، وفسَّره. اهـ ق وقال في التاج 7/ 215: وظاهر كلام المصنف أن التأويل والتفسير واحد، وفي العباب: التأويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء، وقال غيره: التفسير: شرح ما جاء مجملا من القصص في الكتاب الكريم، وتقريب ما تدل عليه ألفاظه الغريبة، وتبيين الأمور التي أنزلت بسببها الآية، وأما التأويل: فهو تبيين معنى المتشابه، والمتشابهُ: هو ما لم يقطع بفحواه من غير تردد فيه وهو النص. وقال الراغب: التأويل: ردُّ الشيء إلى الغاية المرادة منه، قولا أو فعلا، وفي جمع الجوامع: هو حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حُمل لدليل فصحيح، أو لما يُظَنّ دليلًا ففاسد، أو لا بشيء فلعب، لا تأويل، قال ابن الكمال: التأويل: صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى تحتمله، إذا كان المحتمل الذي تُصرَف إليه موافقا للكتاب والسنة،

ص: 179

كقوله: "يخرج الحي من الميت" إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تأويلا

(1)

أو إخراج للمؤمن من الكافر، والعالم من الجاهل كان تأويلا، وقال ابن الجوزي: التفسير: إخراج الشيء من معلوم الخفاء إلى مقام التجلي، والتأويل: نقل الكلام عن موضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. وقال بعضهم: التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتأويل: رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر. اهـ تاج

ولشيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة الحَمَويّة كلام نفيس في هذا الموضوع، وحاصل ما قاله رحمه الله تعالى: أن لفظ التأويل يستعمل في ثلاث معان:

أحدها: -وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله- صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به.

الثاني: أن التأويل هو التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير: واختلف علماءُ التأويل.

الثالثه: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال الله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: آية 52] فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد: هو ما أخبر الله به فيه مما يكون من القيامة والحساب والجزاء، والجنة والنار، كما قال الله تعالى في قصة يوسف لما سجد له أبواه وإخوته قال:{يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: آية 100]، فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا، اهـ كلام شيخ الإسلام باختصار. الحموية ص 37.

(1)

لعل الصواب: كان تفسيرا. فتأمل.

ص: 180

قال الجامع عفا الله عنه: والمناسب هنا في كلام النسائي من هذه المعاني: هو التفسير، يعني أن كل ما يأتي من الأحاديث في الوضوء تفسير للآية الكريمة، فهي مفسَّرة وموضَّحَة بالأحاديث. والله أعلم.

‌شرح الآية الكريمة

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ} أي إذا أردتم القيام تعبيرا بالمسبب عن السبب كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: آية 98].

{إلى الصلاة} يتناول سائر الصلوات من المفروضات والنوافل لأن الصلاة اسم للجنس، فاقتضى أن يكون من شرط الصلاة الطهارة أيّ صلاة كانت، فالآية موافقة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" وسيأتي

البحث عنه 104/ 139، إن شاء الله تعالى.

{فاغسلوا} : أمر للجمع المذكر الحاضرين، وتدخل فيه النساء لأنهن شقائق الرجال، والغسل بالفتح والضم مصدرا غَسَلَ يغسل، من باب ضَرَبَ يضرب، وقيل الغسل بالفتح مصدر، وبالضم اسم للاغتسال، وهو في الشرع إمرار الماء علي الموضع إذا لم يكن فيه نجاسة، وإلا فغسلها إزالتها. أفاده العيني. وقال الشوكاني: وقد اختلف أهل العلم هل يعتبر في الغسل الدلك باليد أم يكفي إمرار الماء، والخلاف في ذلك معروف، والمرجع اللغة العربية فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل كان معتبرا وإلا فلا، قال في شمس العلوم: غسل الشيء غَسْلا إذا أجرى عليه الماء، ودلكه انتهى. اهـ فتح القدير 2/ 17.

{وجوهكم} : جمع وَجْه، مأخوذ من المواجهة وهي المقابلة، وحدُّ طولا من مبتدأ سَطح الجبهة إلى منتهى اللحْيين، وهما عظما

ص: 181

الحَنَك، ويسميان الفَكَّين، وعليهما منابت الأسنان السفلى، وعرضا من الأذن إلى الأذن. أفاده العلامة العيني في عمدته. جـ 2 ص 227.

{وأيديكم} جمع يَد، وأصلها يَدْي على وزن فَعْل بسكون العين لأن جمعها أيد ويُديّ، مثل فلس وأفلُس، وفُلُوس، ولا يجمع فَعْل على أفعل إلا أحرف يسيرة معدودة، مثل زمن وأزمن، وجبل وأجبل، وعصًا وأعص، وقد جمعت الأيدي في الشعر على أياد. وهو جمع الجمع مثل أكرعُ وكارع.

واليد اسم يقع على هذا العضو من طرف الأصابع الي المنكب، والدليل على ذلك أن عمارا رضي الله عنه تيمم إلى المنكب، وقال تيممنا إلى المناكب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعموم قوله تعالى:"فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" ولم ينكر عليه من جهة اللغة، بل هو من أهل اللغة، فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب، فثبت بذلك أن الاسم يتناول إلى المنكب، فإذا كان الإطلاق يقتضي ذلك، ثم ذُكر التحديدُ فجُعلَ المرافق غايةً كان ذكرها لإسقاط ما وراءها. أفاده العيني عمدته 2/ 227.

{إلى المرافق} جمع مرفق بكسر الميم وفتح الفاء، وعلى العكس، وهو: مجتمع طرف الساعد والعضد. قال العلامة العيني: الأول هو اسم الآلة، كالمحْلَب، والثاني اسم المكان، ويجوز فيه فتح الميم والفاء على أن يكون مصدرا أو اسم مكان على الأصل، وذكر ابن سيده في المخصص: أن أبا عبيدة قال: المرْفَق، والمَرْفق من الإنسان والدابة الذراع، وأسفل العضد، والمرفق: المُتَّكَأ. قال الأصمعي: المَرفق من

الإنسان والدابة بكسر الفاء، والمرفق: الأمر الرقيق بفتحها، وفي الجامع للقزاز: قال قوم المرفق من اليد والمتكأ والأمر بكسر الميم، ولذلك قرأ الأعمش والحسن وأبو عمرو وحمزة والكسائي {ويهيء لكم

ص: 182

من أمركم مرفقا} [الكهف: آية 16] بكسر الميم، وقرأها أهل المدينة وعاصم

(1)

بالفتح، وبهذا يُرَدُّ على الجوهري حيث زعم أن الفتح لم يقرأ به أحد، وفي الغريبين: الفتح أقيس، والكسر أكثر في مرفق اليد.

اهـ عمدة 2/ 227 - 228.

‌مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

‌المسألة الأولى: في بيان سبب نزولها:

ذكر العلامة القرطبي في تفسيره جامع الأحكام: ما نصه: ذكر القشيري، وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة عائشة حيث فقدت العقد في غزوة المريسيع، وهي آية الوضوء. قال ابن عطية: لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم. اهـ جامع الأحكام جـ 6 ص 80.

وأما آية النساء فتسمى آية التيمم، وهي نزلت في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح، فرخص له في أن يتيمم. وقد قيل: إن آية المائدة آية التيمم، قال أبو عمر بن عبد البر: فأنزل الله تعالى آية التيمم وهي آية الوضوء المذكورة في سورة المائدة، أو الآية التي في سورة النساء، ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين، وهما مدنيتان. أفاده القرطبي أيضا في تفسير سورة النساء جـ 5 ص 214 - 216.

"المسألة الثانية": اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} .

قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله تعالى: ظاهر الآية يقتضي

(1)

فيه نظر فإن عاصما مع الأولين، والصواب أن الذي قرأ بالفتح مع أهل المدينة هو ابن عامر الشامي كما في النشر لابن الجزري جـ 2 ص 310.

ص: 183

وجوب الطهارة بعد القيام الي الصلاة لأنه جعل القيام إليها شرطا لفعل الطهارة وحكم الجزاء أن يتأخر عن الشرط ألا ترى أن من قال لأمرأته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما يقع الطلاق بعد الدخول، وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة أنه مقتضى اللفظ وحقيقته، وإلى هذا ذهب أهل الظاهر فقالوا: الوضوء سببه القيام إلى الصلاة فكل من قام إليها فعليه أن يتوضأ. والجواب عن هذا أن معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من مضاجعكم فاغسلوا الخ، أو إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا، والدليل على ذلك من السنة:

ما رواه مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر رضي الله عنه: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، فقال:"عمدا صنعته يا عمر". ورواه النسائي والترمذي والطحاوي. فدل هذا الحديث على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للطهارة إذ لم يجدد النبي صلى الله عليه وسلم الطهارة لكل صلاة فثبت بذلك أن في الآية مقدرا يتعلق به إيجاب الوضوء، وهو إذا قمتم إلى الصلاة من مضاجعكم. وروى الطحاوي في معاني الآثار، وأبو بكر الرازي في الأحكام، والطبراني في الكبير من طريق جابر عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفَغْواء، عن أبيه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أجنب أو أُهراق الماء إنما نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى نزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} ، فدل هذا الحديث على أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة، وأن التقدير في الآية إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، ولكن في سند هذا الحديث جابر الجعفي ضعيف رافضي.

(1)

(1)

وعبارة العيني: وفيه كلام مشهور.

ص: 184

وروى أيضا عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم: فرَوَى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عندكم صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث".

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن سعد، قال: إذا توضأت فصل بوضوئك ذلك ما لم تحدث.

وروى الطحاوي بسنده عن عكرمة أن سعدا كان يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يحدث. ورجاله ثقات.

وروى عبد الرزاق في مصنفه بسنده عن عطاء بن عبد الله الرقاشي

قال: "كنا مع أبي موسى الأشعري في جيش على ساحل دجلة، إذ حضرت الصلاة فنادى مناديه للظهر فقام الناس إلى الوَضُوء، فتوضأ ثم صلى بهم، ثم جلسوا حلقا، فلما حضرت العصر نادى منادي العصر، فهبَّ الناس للوضوء أيضا فأمر مناديه ألا لا وضوء إلا على من أحدث، قال: أوشك العلم أن يذهب، ويظهر الجهل حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل".

وروى أيضا ذلك عن جماعة من التابعين:

فروى الطحاوي بسند صحيح أن شُرَيْحا كان يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد.

وروى ابن أبي شيبة بسنده عن الحسن قال: يصلي الرجل الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يحدث، وكذلك التيمم.

وأخرج الطحاوي نحوا منه. وقال أيضا: حدثنا حفص، عن ليث، عن عطاء، وطاوس، ومجاهد أنهم كانوا يصلون الصلوات كلها بوضوء واحد.

ص: 185

وروى عبد الرزاق في مصنفه قال: حدثنا يحيى بن العلاء، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير قال: كان الأسود بن يزيد يتوضأ بقدح قَدْرَ ريِّ الرجل

(1)

ثم يصلي بذلك الوضود الصلوات كلها ما لم يحدث. اهـ عمدة جـ 2 ص 230 - 231. باختصار وتغيير يسير.

وقال القرطبي في تفسيره: واختلف العلماء في المعني المراد بقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة} على أقوال:

فقالت طائفة: هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا، فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وكان علي يفعله، ويتلو هذه الآية، ذكره أبو محمَّد الدارمي في مسنده.

وروى مثله عنه عكرمة. وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة. قال القرطبي: فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها.

وقالت طائفة: الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر الغسيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث. وقال علقمة بن الفغواء، عن أبيه، وهو من الصحابة، وكان دليلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء، ولا يكلّم أحدا ولا يردّ سلاما إلى غير ذلك، فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو للقيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال.

وقالت طائفة: المراد بالأية الوضوء لكل صلاة طلبا للفضل، وحملوا الأمر على الندب، وكان كثير من الصحابة: منهم ابن عمر يتوضئون لكل صلاة طلبا للفضل، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أنْ جَمَعَ يومَ الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد إرادةَ

(1)

ري: بكسر الراء وتشديد الياء أي مقدار ما يروى الرجل من العطش.

ص: 186

البيان لأمته صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبي: وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحبا لا إيجابا، وليس كذلك، فإن الأمر إذا ورد مقتضاه الوجوب، لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم على ما هو معروف من سيرتهم.

وقال آخرون: إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة.

وهذا غلط لحديث أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة" وأن أمته كانت على خلاف ذلك. وسيأتي.

ولحديث سويد بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو بالصَّهبَاء العصرَ والمغربَ بوضوء واحد، وذلك في غزوة خيبر، وهي سنة ست، وقيل: سنة سبع، وفتح مكة كان في سنة ثمان، وهو حديث صحيح رواه مالك في موطئه. وأخرجه البخاري ومسلم.

فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة.

فإن قيل: فقد روى مسلم عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر رضي الله عنه: لقد صنعت اليوم شيئًا لم تكن تصنعه، فقال:"عمدا صنعته يا عمر" فلم سأله عمر واستفهمه؟ قيل: إنما سأله لمخالفته عادته منذ صلاته بخيبر.

قال الجامع: والذي قاله غيره: إن عمر إنما سأله عما يعلمه من حاله، فإنه لم يكن يعرف قبل هذا منه إلا الوضوء لكل صلاة. والله أعلم.

ص: 187

وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر، قال حميد قلت لأنس: وكيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: كنا نتوضأ وضوءا واحدا. وقال: حديث صحيح.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوضوء على الوضوء نور"

(1)

فكان عليه السلام يتوضأ مجددا لكل صلاة، وقد سَلَّمَ عليه رجل وهو يبول فلم يرد عليه حتى تيمم، ثم رد عليه، وقال:"إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وقال السدي وزيد بن أسلم: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة يريد من المضاجع يعني النوم، والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا؟، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير، التقدير: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء يعني الملامسة الصغرى فاغسلوا، فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر، ثم قال: وإن كنتم جنبا فاطهروا فهذا حكم نوع آخر، ثم قال للنوعين جميعًا:{وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} وقال بهذا التأويل محمَّد بن سلمة من أصحاب مالك رحمه الله وغيره.

وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير، بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله: فاطهروا، ودخلت الملامسة الصغرى في قوله: محدثين، ثم ذكر بعد قوله: وإن كنتم جنبا فاطهروا، حكم عادم الماء من النوعين جميعًا وكانت الملامسة هي الجماع، ولا بد أن يذكر الجنب

(1)

حديث ضعيف.

ص: 188

العادم الماء كما ذكر الواجد، وهذا تأويل الشافعي وغيره، وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم.

قال القرطبي: وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية.

ومعنى إذا قمتم: إذا أردتم. كما قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ ..} أي إذا أردت؛ لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن. اهـ كلام القرطبي رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في هذه المسألة في الباب 101 "الوضوء لكل صلاة" إن شاء الله تعالى.

‌المسألة الثالثة: قال الحافظ رحمه الله: واختلف العلماء

أيضا في موجب الوضوء فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا، وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معا، ورجحه جماعة من الشافعية، وقيل: بالقيام إلى الصلاة حسبُ، ويدل له مارواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة." اهـ فتح جـ 1 ص 280.

‌المسأله الرابعة: قال الحافظ أيضا: واستنبط بعض العلماء

من قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} إيجاب النية في الوضوء؛ لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضوؤا لأجلها، ومثله قولهم: إذا رأيت

الأمير فقم، أي لأجله. اهـ فتح جـ 1 ص 281.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث على النية في الباب 60 "باب النية في الوضوء" إن شاء الله تعالى.

"المسألة الخامسة": قال الحافظ رحمه الله تعالى أيضا: وتمسك

ص: 189

بهذه الآية من قال: إن الوضوء أوّل ما فُرض بالمدينة، فأما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة كما فرضت الصلاة وأنه لم يصل قط إلا بوضوء.

قال: وهذا مما لا يجهله عالم.

وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس "دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال:"ائتوني بوَضوء، فتوضا" .. الحديث.

قال الحافظ: قلت: وهذا يصلح ردًا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورُدَّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة عنه" أن جبريل علّم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي"، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عُقَيل، عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند. وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت هذا لكان علي شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. اهـ فتح جـ 1 ص 281.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عباس المذكور صححه الحاكم، ووافقه عليه الذهبي وقد علمت ما في سنده، ولو صح لكان دليلا واضحا على مشروعية الوضوء قبل الهجرة. والله أعلم.

ص: 190

"المسألة السادسة": احتج بعضهم بهذه الآية

على أن الوضوء لا يجزئ إلا بعد دخول الوقت، والجمهور على جوازه وهو الراجح، وقد رد أبو محمد بن حزم في المحلى على هذا القول وعلى من قال بعدم إجزاء التيمم قبل الوقت بأبلغ رد. وحاصل ما قاله باختصار: واحتج من رأى أنه لا يجزئ إلا بعد دخول الوقت بقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ..} الآية، قال ولا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأن الله تعالى لم يقل: إذا قمتم إلى صلاة فرض، ولا إذا دخل وقت فرض فقمتم إليها، بل قال: إذا قمتم إلى الصلاة، فعم ولم يخص، والصلاة تكون فرضا وتكون تطوعا بلا خلاف، وقد أجمع أهل الأرض قاطبة من المسلمين على أن صلاة التطوع لا تجزئ إلا بطهارة من وضوء أو تيمم أو غسلى ولا بد، فوجب بنص الآية ضرورة أن المرء إذا أراد صلاة فرض أو تطوع وقام إليها أن يتوضأ أو يغتسل إن كان جنبا أو يتيمم إن كان من أهل التيمم ثم يصلي فإن ذلك نص الآية بيقين، فإذا أتم المرء غسله أو وضوءه أو تيممه فقد طهر بلا شك، وإذ قد صحت طهارته فجائز له أن يجعل بين طهارته وبين الصلاة التي قام إليها مهلة من مشي أو حديث أو عمل؛ لأن الآية لم توجب اتصال الصلاة بالطهارة لا بنصها ولا بدليل فيها، وإذ جاز أن يكون بين طهارته وبين صلاته مهلة فجائز أن تمتد المهلة ما لم يمنع من تماديها قرآن أو سنة، وذلك يمتد إلى آخر أوقات الفرض، وأما في التطوع فما شاء فصح بنص الآية جواز التطهر بالغسل والوضوء والتيمم قبل دخول الوقت، وإنما وجب بنص الآية أن لا يكون شيء من ذلك: إلا بنية التطهر للصلاة فقط ولا مزيد.

ص: 191

ودليل آخر وهو أن الصلاة جائزة بلا خلاف في أول وقتها، فهذا كان كذلك فلا يكون ذلك البتة إلا وقد صحت الطهارة لها قبل ذلك، وهذا ينتج جواز التطهر قبل الوقت.

ثم ذكر أبو محمَّد بسنده دليلًا آخر وهو ما أخرجه النسائي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة وراح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".

فهذا نص جلي على جواز الوضوء للصلاة والتيمم لها قبل دخول وقتها؛ لأن الإمام يوم الجمعة لا بد ضرورة من أن يخرج قبل الوقت أو بعد دخول الوقت، وأي الأمرين كان فتطهر هذا الرائح من أول النهار كان قبل دخول وقت الجمعة بلا شك، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في الرائحين إلى الجمعة المتيمم في السفر والمتوضيء. اهـ خلاصة ما قاله ابن حزم في المحلى جـ 1 ص 75، 76.

قال الجامع عفا الله عنه: وما قاله رحمه الله تعالى حسن جدًا، والله أعلم.

ص: 192

1 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي وَضُوئِهِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

"قتيبة بن سعيد"(ع) بن جميل بفتح الجيم بن طريف الثقفي أبو رجاء البغلاني بفتح الموحدة، وسكون المعجمة، يقال: اسمه يحيى، وقيل: علي، ثقة ثبت، من العاشرة مات سنة 240 عن تسعين سنة. اهـ/ ت. وفي (صه) أحد أئمة الحديث عن مالك، والليث، وإسماعيل ابن جعفر. وعنه (خ م ت س)، ومن أقرانه أحمد، والحميدي، وثقه ابن معين، وأبو حاتم. اهـ.

2 -

"سفيان"(ع) بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي مولاهم أبو محمَّد الكوفي ثم المكي، ثقة، حافظ، فقيه، إمام، حجة، إلا أنه تغير حفظه بأخرة

(1)

. وكان ربما دلس، لكن عن الثقات، من رؤوس الطبقة الثامنة، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار. اهـ ت.

وفي (صة) أبو محمَّد الأعور أحد أئمة الإسلام، عن عمرو بن دينار، والزهري، وزيد بن أسلم وصفوان بن سليم، وخلق كثير.

(1)

قوله: أخَرَة: بوزن دَرَجَة، ويجوز فيه آخره بوزن فاعل مضافا إلى الضمير وعلى كل فهو بمعنى آخر عمره. وفي (ق) وجاء أخرة وبأخرة محركتين، وقد يضم أولهما وأخيرا وأخرا بضمتين وأخريا بالكسر والضم وأخريا بكسرتين وآخريا، أي آخر كل شيء اهـ.

ص: 193

وعنه شعبة ومسعر من شيوخه، وابن المبارك من أقرانه، وأحمد وإسحاق، وابن معين، وابن المديني، وأمم.

قال العجلي: هو أثبتهم في الزهري، كان حديثه نحو سبعة آلاف.

وقال ابن عيينة: سمعت من عمرو بن دينار ما لبث نوح في قومه.

وقال ابن وهب: ما رأيت أعلم بكتاب الله من ابن عيينة.

وقال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز.

مات سنة 198 عن 91 سنة، ومولده سنة 107.

3 -

"الزهري"(ع) هو الإمام الحجة أبو بكر الفقيه الحافظ المتفق على جلالته وإتقانه، محمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، القرشي الزهري المدني، من رؤوس الطبقة الرابعة. اهـ ت.

وفي (صة) أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام، عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس ومحمود بن الربيع وابن المسيب، وخلق.

وعنه أبان بن صالح، وأيوب، وإبراهيم بن أبي عبلة، وجعفر بن بُرْقان، وابن عيينة، وابن جريج، والليث، ومالك، وأمم.

قال ابن المديني: له نحو ألفي حديث. قال ابن شهاب. وقال أيوب: ما رأيت أعلم من الزهري. وقال مالك: كان ابن شهاب من أسخى الناس، وتَقيًا، ما له في الناس نظير. مات سنة 125. وقيل: قبل ذلك بسنة، أو بسنتين. اهـ.

4 -

"أبو سلمة"(ع) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة مكثر، من الثالثة.

وفي (صة) هو الإمام الحافظ الحجة أحد الأعلام. قال عمرو بن

ص: 194

علي: ليس له اسم، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل. وقال مالك بن أنس: كان عندنا رجال من أهل العلم اسم أحدهم كنيته منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن.

عن أبيه وأسامة بن زيد وأبي أيوب. وخلق. وعنه ابنه عمر، وعروة، والأعرج، والشعبي، والزهري، وخلق. قال ابن سعد: كان ثقة فقيها كثير الحديث. ونقل الحاكم أبو عبد الله: أنه أحد الفقهاء السبعة عند أكثر أهل الأخبار. مات سنة 94. وقال الفلاس: سنة 104 ومولده سنة بضع وعشرين.

5 -

"أبو هريرة"(ع) الصحابي الجليل أحفظُ الصحابة، اختلف في اسمه واسم أبيه، قيل: عبد الرحمن بن صخر، وقيل: ابن غَنْم، وقيل: عبد الله بن عائذ، وقيل: ابن عامر وقيل: ابن عمرو، وقيل: سُكَين بن رزْمَة، وقيل: ابن هانئ، وقيل: ثُرْمُل، وقيل: ابن صخر، وقيل: عامر بن عبد شمس، وقيل: ابن عمير، وقيل يزيد بن عَشْرَقَة، وقيل: عبد نَهم، وقيل: عبد شمس، وقيل: عثم، وقيل: عبيد بن غنم، وقيل: عمرو بن غَنْم، وقيل: ابن عامر، وقيل: سعيد ابن الحارث.

قال الحافظ: هذا الذي وقفنا عليه من الاختلاف في ذلك، ويقطع بأن عبد شمس وعبد نهم غُيِّرَا بعد أن أسلم. واختلف في أيها أرجح: فذهب الأكثرون إلى الأول، وذهب جمع من النسابين إلى عمرو بن

عامر. مات سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.

وفي (صة) الحافظ الدوسي، له خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا، اتفقا على ثلاثمائة وخمسة وعشرين، وانفرد (خ) بتسعة وسبعين، و (م) بثلاثة وتسعين، روى عنه ثمانمائة نفس ثقات،

ص: 195

وكان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء.

ومنها: أنهم ممن اتفق أصحاب الأصول في إخراج أحاديثهم.

ومنها: أنهم ما بين بغلاني بفتح فسكون نسبة إلى بَغلان، وهي كما في اللباب ج 1 ص 164: بلدة بنواحي بَلخ وهو شيخه، ومكي، وهو سفيان فإنه كوفي الأصل نزيل مكة، ومدنيين: وهم الباقون.

ومنها: أن شيخه أحد من أكثر الرواية عنه، بل هو أول شيخ بدأ به الرحلة لطلب الحديث كما تقدم في المقدمة.

ومنها: أنه لا يوجد في الكتب الستة من يسمى بقتيبة غيره.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي: الزهري عن أبي سلمة.

ومنها: أن أبا سلمة ممن كان اسمه بصيغة الكنية لا اسم له غيرها. على الصحيح.

ومنها: أنه أحد الفقهاء السبعة الذين اشتهروا بهذا اللقب في تابعي أهل المدينة، وإن كان الفقهاء فيهم كثيرين، وكان الإمام مالك يعتد بإجماعهم كإجماع سائر الناس.

قال الحافظ العراقي في ألفية الحديث:

وفي الكبَارالفقهاءُ السَّبْعَةُ

خَارجَةُ القاسمُ ثمَّ عُروةُ

ثمَّ سُليمانُ عُبيدُ اللهِ

سعيدُ والسَّابعُ ذُو اشْتبَاهِ

إمَّا أبو سَلَمَة أو سَالمُ

أوْ فَأبو بكر خلافٌ قائمٌ

ص: 196

1 -

فخارجة بن زيد بن ثابت أبو زيد الأنصاري ثقة فقيه من الثالثة (ت 100) وقيل: 99.

2 -

القاسم بن محمَّد بن أبي بكر أبو محمَّد ثقة فقيه من كبار الثالثة (ت 106).

3 -

عروة بن الزبير بن العوام أبو عبد الله ثقة فقيه مشهور من الثالثة (39 - 94) وقيل غيره.

4 -

سليمان بن يسار مولى ميمونة رضي الله عنه ثقة فاضل من كبار الثالثة (34 - 107) وفي التقريب مات قبل المائة، وقيل بعدها.

5 -

عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أبو عبد الله الأعمى، ثقة ثبت فقيه من الثالثة (ت 94) وقيل غير ذلك.

6 -

سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب الأعور أبو محمَّد المدني ثقة فقيه مشهور من كبار الثالثة (ت 94) وقيل غير ذلك.

7 -

سالم بن عبد الله بن عمر العدوي ثقة عابد فاضل من كبار الثالثة (ت 106).

8 -

أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي من الثالثة ثقة فاضل (ت 94).

ولبعضهم في الفقهاء السبعة (من الطويل):

إذَا قيلَ مَنْ في العلْم سَبْعَةُ أبْحُر

مَقَالتُهُم ليْسَت عن الحَقِّ خَارجَه

فقُل هُم عُبيد الله عُروة قاسمٌ

سَعيد أبو بكر سُليمانُ خَارجَه

ومنها: أن أبا هريرة ممن اختلف في اسمه واسم أبيه كما تقدم آنفا، والذي صححه الترمذي تبعا للبخاري أنه عبد الله بن عمرو.

ص: 197

واختلف أيضًا في صرفه ومنعه، قال القاري في المرقات: جَرُّ هريرة بالكسر هو الأصل، وصوبه جماعة لأنه جزء علم، واختار آخرون منع صرفه كما هو الشائع على ألسنة العلماء من المحدثين وغيرهم؛ لأن الكل صار كالكلمة الواحدة. اهـ. قال المباركفوري: الراجح منعه من الصرف، ويؤيده منع صرف ابن داية علمًا للغراب، قال قيس بن الملوِّح مجنون ليلى (من الطويل):

أقولُ وقد صَاحَ ابنُ دَايَةَ غُدْوَةً

ببُعْد النَّوى لا أخْطَأتْكَ الشَّبَائكُ

قال القاضي البيضاوي في تفسيره: في قوله تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"[البقرة: آية 185] ما نصه: رمضان مصدر رمض إذا احترق فأضيف إليه شهر، وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون كما منع داية في ابن داية علمًا للغراب للعلمية والتأنيث. انتهى. اهـ تحفة الأحوذي باختصار. جـ 1 ص 32.

ومثها: أنه أحد المكثرين السبعة، بل هو رئيسهم، روى (5374)، والمكثرون هم الذين رووا أكثر من ألف حديث، وهم الذين جمعتهم بقولي (من الرجز):

المكثرُونَ في روَايَة الخَبَر

أبو هُريرة يَليه ابْنُ عُمر

فأنسٌ فزوجَةُ النَّبيِّ

فالبَحْرُ جابرٌ مَعَ الخُدْريِّ

ومنها: أن أبا هريرة لقب بصورة كنية، قيل سبب تلقيبه به ما رواه ابن عبد البر: أنه قال: كنت أحمل يوما هرة في كمي فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه؟ فقلت هرة، فقال: يا أبا هريرة. وذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ: أنه قال: كناني أبي بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنما فوجدت أولاد هرة وحشية، فلما أبصرهن وسمع أصواتهن أخبرته فقال أنت أبو هريرة، وكان اسمي عبد شمس. اهـ.

ص: 198

وروى الترمذي في مناقب أبي هريرة من جامعه بسنده عن عبد الله ابن أبي رافع قال: قلت لأبي هريرة: لم كنيت أبا هريرة؟ قال: أما تَفْرَقُ مني؟ قلت: بلى والله إني لأهابك، قال: كنت أرعى غنم أهلي وكانت لي هريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبت بها فكنوني أبا هريرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. اهـ تحفة الأحوذي بتغيير يسير جـ 1/ ص 31.

تنبيه مهم:

قال العلامة المباركفوري رحمه الله تعالى: قد تَفَوَّهَ بعض الفقهاء الحنفية بأن أبا هريرة لم يكن فقيها، وقوله هذا باطل مردود عليهم، وقد صرح أجلة العلماء الحنفية بأنه رضي الله عنه كان فقيها. قال صاحب السعاية شرح الوقاية وهو من العلماء الحنفية رَدًا على من قال منهم: إن أبا هريرة غير فقيه، ما لفظه: كون أبي هريرة غير فقيه غير صحيح، بل الصحيح أنه من الفقهاء الذين كانوا يفتون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به ابن الهمام في تحرير الأصول، وابن حجر في الإصابة. اهـ.

وفي بعض حواشي نور الأنوار أن أبا هريرة كان فقيها، صرح به ابن الهمام في التحرير، كيف وهو لا يعمل بفتوى غيره؟ وكان يفتي في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وكان يعارض أجلة الصحابة كابن عباس فإنه قال: إن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين، فرده أبو هريرة، وأفتى بأن عدتها وضع الحمل، كذا قيل. اهـ.

وقال الذهبي في التذكرة: أبو هريرة الدوسي اليماني الفقيه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أوعية العلم ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة والعبادة والتواضع. انتهى.

وقال الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين: ثم قام بالفتوى بعد

ص: 199

رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرْكُ الإسلام

(1)

وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكانوا بين مكثر منها، ومُقلٌّ، ومتوسط، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس؛ وعبد الله بن عمر. والمتوسطون منهم فيما روى عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة

إلخ، فلا شك في أن أبا هريرة رضي الله عنه كان فقيها من فقهاء الصحابة، ومن كبار أئمة الفتوى.

فإن قيل: قال إبراهيم النخعي أيضا: إن أبا هريرة لم يكن فقيها، والنخعي من فقهاء التابعين.

قلت: قد نقم على إبراهيم النخعي لقوله: إن أبا هريرة لم يكن فقيها، قال الحافظ الذهبي في الميزان في ترجمته: وكان لا يحكم العربية ربما لحن، ونقموا عليه قوله: لم يكن أبو هريرة فقيها. انتهى.

(عبرة): قال القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي في بحث حديث المُصْرَّاة المروي عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما: قال بعضهم: هذا الحديث لا يقبل لأنه يرويه أبو هريرة، وابن عمر، ولم يكونا فقيهين، وإنما كانا صالحين فروايتهما إنما تقبل في المواعظ لا في الأحكام، وهذه جرأة على الله واستهزاء في الدين عند ذهاب حملته، وفقد نصرته، ومن أفقه من أبي هريرة وابن عمر؟ ومن أحفظ منهما؟ خصوصا من أبي هريرة، وقد بسط رداءه وجمعه النبي صلى الله عليه وسلم وضمه إلى صدره، فما نسي شيئًا أبدا، ونسأل الله المعافاة من مذهب لا يثبت إلا بالطعن علي الصحابة رضي الله عنهم. ولقد كنت في جامع المنصور

(1)

برك الجمل بفتح فسكون صدره والمراد هنا صدر الإسلام أي متقدموا الإسلام ورؤساؤه.

ص: 200

من مدينة السلام في مجلس علي بن محمَّد الدامغاني قاضي القضاة، فأخبرني به بعض أصحابنا، وقد جرى ذكر هذه المسألة أنه تكلم فيها بعضهم يوما، وذكر هذا الطعن في أبي هريرة فسقط من السقف حية عظيمة في وسط المسجد فأخذت في سمت المتكلم بالطعن، ونفر الناس وارتفعوا، وأخذت الحية تحت السواري، فلم يدر أين ذهبت، فارْعَوَى من بعد ذلك من الترسل في هذا القدح. انتهى. اهـ تحفة الأحوذي جـ 1/ ص 32، 33.

شرح الحديث

"عن أبي هريرة": عبد الله بن عمرو على الأصح، أو عبد الرحمن ابن صخر على المشهور، رضي الله تعالى عنه.

"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استيقظ": أي انتبه وليست السين والتاء للطلب بل هو بمعنى التيقظ لازم.

"أحدكم من نومه": قال الفيومي رحمه الله: النوم غَشْية ثقيلة تهجُمُ على القلب، فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، ولهذا قيل: هو آفة، لأن النوم أخو الموت، وقيل: النوم مُزيل للقوة، والعقل، وأما السنة ففي الرأس، والنعاسُ في العين، وقيل: السنة ريح النوم تبدو في الوجه ثم تنبعث إلى القلب فينعس الإنسان فينام. اهـ المصباح جـ 2/ ص 631.

وإذا شرطية جوابها جملة قوله: "فلا

(1)

يغمس": بالتخفيف من باب ضرب أي لا يُدخل، ويحتمل أن يكون بالتشديد من باب التفعيل، قاله السندي. قلت: الظاهر هو الأول. وقال السندي في قوله: إذا

استيقظ: الخ: الظاهر أن المقصود إذا شك أحدكم في يديه مطلقا سواء

(1)

رواية الغمس أبين في المراد من رواية الإدخال؛ لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه كراهة كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن يلامس يده الماء، قاله في الفتح جـ 1/ ص 317.

ص: 201

كان لأجل الاستيقاظ من النوم أو لأمر آخر، إلا أنه فرض الكلام في جزئي واقع بينهم على كثرة ليكون بيان الحكم فيه بيانا في الكلي بدلالة العقل، ففيه إحالة للأحكام إلى الاستنباط، ونَوْطُهُ بالعلل، فقالوا في بيان سبب الحديث إن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة وبلادهم حارّة فهذا نام أحدهم عَرقَ فلا يأمن حالة النوم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس فنهاهم عن إدخال يده في الماء. اهـ كلام السندي رحمه الله جـ 1/ ص 7.

قال الجامع عفا الله عنه: وسيجيء تحقيق الكلام في هذا في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

"يده" اليد: مؤنثة، وهي من المنكب إلى أطراف الأصابع، ولامها محذوفة، وهي ياء، والأصل يدي، قيل: بفتح الدال، وقيل بسكنوها، قاله في المصباح، وقد تقدم زيادة البحث عن هذا في شرح الآية، فارجع إليه تزدد علمًا. "في وضوئه" بفتح الواو أي الإناء الذي أعد للوضوء، قاله الحافظ. وقال السيوطي: والأحسن أن يفسر بالماء لأن الوضوء بفتح الواو اسم للماء، وبالضم اسم للفعل. اهـ زهر جـ 1/ ص 7.

قال الجامع: بل الأحسن: ما فسر به الحافظ؛ لأنه يشهد له رواية في الإناء، فتنبه.

قال الحافظ: وفي رواية الكُشْمَيْهَني في الإناء، وهي رواية مسلم من طريق أخرى، ولابن خزيمة في إنائه، أو وضوئه على الشك. اهـ فتح جـ 1/ ص 317.

فتفسير الوضوء بالإناء هو الواضح، غايته أنه من إطلاق الحالّ على المَحَلّ.

ص: 202

وقال الحافظ أيضا: والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء، ويلحق به إناء الغسل لأنه وضوء وزيادة، وكذا باقي الآنية قياسا، لكن في الاستحباب من غير كراهة لعدم ورود النهي فيها، وخرج بذكر الإناء البركُ والحياضُ التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها فلا يتناولها النهي. والله أعلم. اهـ فتح جـ 1 / ص 317 - 318.

قال الجامع عفا الله عنه: وسيجيء تحقيق الخلاف بين العلماء في هذا النهي، هل هو للتحريم أم للتأديب؟ في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

"حتى يغسلها" أي يده "ثلاثًا" أي ثلاث مرات من الغسل، قال الشافعي رحمه الله: في البوطي: فإن لم يغسلها إلا مرة أو مرتين أو لم يغسلها أصلا حين أدخلها في وضوئه فقد أساء. "فإن أحدكم" الفاء للتعليل "لا يدري" أي لا يعلم" "أين باتت يده" كلمة أين سؤال عن مكان الشيء، أي في أيّ محل من جسده، أفي محل نجس، أم في محل طاهر؟

قال البيضاوي: فيه أي في قوله: "فإن أحدكم" إيماء إلى أن الباعث على النهي عن ذلك اجتمال النجاسة لأن الشارع إذا ذكر حكما وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات "فإنه يبعث ملبيا" بعد نهيهم عن تطييبه فنبه على علة النهي، وهي كونه محرما. اهـ عمدة، 2/ 18.

قال البدر العيني: وقال النووي: قال الشافعي: معني لا يدري أين باتت يده أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة وبلادهم حارة فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة أو قملة أو قذر، وغير ذلك.

وقال الباجي: ما قال يستلزم بغسل ثوب النائم لجواز ذلك عليه،

ص: 203

وأجيب عنه بأنه محمول على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل. قال العيني: فيه نظر لأن اليد إذا عرقت فالمحل بطريق الأولى على مالا يخفى فلا وجه حينئذ لاختصاص اليد به. اهـ عمدة جـ 2/ ص 18.

قال الجامع: وأحسن من هذا ما ذكره الحافظ بعد ذكر الجواب المذكور، ونصه: أو أن المستيقظ لا يريد غمس ثوبه في الماء حتى يؤمر بغسله، بخلاف اليد فإنه محتاج إلى غمسها وهذا أقوى الجوابين.

والدليل على أنه لا اختصاص لذلك بمحل الاستجمار ما رواه ابن خزيمة وغيره من طريق محمَّد بن الوليد عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة في هذا الحديث قال في آخره "أين باتت يده منه" وأصله في مسلم دون قوله "منه" قال الدارقطني: تفرد بها شعبة، وقال البيهقي: تفرد بها محمَّد بن الوليد.

قال الحافظ: إن أراد عن محمَّد بن جعفر فمسلم، وإن أراد مطلقا فلا، فقد قال الدارقطني: تابعه عبد الصمد عن شعبة. وأخرجه ابن منده من طريقه. اهـ فتح جـ 1 / ص 318.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: هذا الحديث متفق عليه.

"المسألة الثانية" في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه المصنف هنا في المجتبى والكبرى 1/ 1 عن قتيبة عن سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي المجتبى 72/ 90 عن محمَّد بن زنبور، عن ابن أبي خازم، عن يزيد بن عبد الله، عن محمَّد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة، وفي 116/ 161 عن إسماعيل بن مسعود وحميد بن مسعدة، كلاهما عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 204

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجه من أصحاب الأصول، وغيرهم: أخرجه مسلم بهذا السياق في الطهارة 26/ 3 عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، ثلاثتهم عن سفيان، عن الزهري الخ. أفاده المزي، تحفة، جـ 11/ ص 27 وقال الحافظ العراقي رحمه الله في طرح التثريب: حديث أبي هريرة أخرجه الستة، الشيخان من رواية الأعرج، ومسلم من رواية همام، وعبد الله بن شقيق، وأبي رزين، وأبي صالح، وأبي سلمة، وسعيد بن المسيب، وجابر بن عبد الله، ومحمد بن سيرين، وعبد الرحمن بن يعقوب، وثابت مولى عبد الرحمن بن زيد، وأبو داود من رواية أبي رزين، وأبي صالح، وأبي مريم. والترمذي، وابن ماجه: من رواية ابن المسيب، وأبي سلمة. والنسائي: من رواية أبي سلمة، كلهم عن أبي هريرة، وهم اثنا عشر رجلًا. اهـ طرح جـ 2/ ص 42. وأخرجه أحمد، ومالك، والحميدي، والطيالسي، وابن خزيمة، وابن الجارود، وأبو عوانة، والطحاوي، والبيهقي، والشافعي

(1)

"المسألة الرابعة" في بيان اختلاف ألفاظه:

قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: ما حاصله: وقع في رواية أبي داود إذا قام أحدكم من الليل، وكذا قال ابن ماجه:"إذا استيقظ أحدكم من الليل"، ولمسلم، وأصحاب السنن "في الإناء" موضع قوله:"في وضوئه"، وفي رواية مسلم "في إنائه"، وفي رواية له "حتي يغسلها ثلاثًا"، وفي رواية له "ثلاث مرات"، وكذا قال أبو داود، والنسائي، قال مسلم: ولم يقل واحد منهم ثلاثا إلا ما قدمناه من رواية جابر، وابن المسيب، وأبي سلمة، وعبد الله بن شقيق، وأبي صالح، وأبي

(1)

أخرجه أحمد في المسند 2/ 50، 241، ومالك في الموطأ 1/ 21، والحميدى في المسند 2/ 422 - 423، والطيالسي رقم 170 منحة، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 52 وابن الجارود في المنتقى ص 24 وأبو عوانة في صحيحه والدارقطني 1/ 49، والبيهقي في سننه 1/ 46، 1/ 244 - 245، والشافعي في مسنده.

ص: 205

رزين، قلت: وكذا قال أبو مريم عند أبي داود، وقال أبو داود في رواية له، والترمذي، وابن. ماجه:"مرتين، أو ثلاثًا"، ولمسلم في رواية له، وابن ماجه "فيم باتت يده" وفي رواية لأبي داود:"أين باتت، أو أين تطوف يده"، وفي رواية للبيهقي:"أين باتت يده منه"، وقال تفرد بقوله "منه" محمَّد بن الوليد السَّريّ، وهو ثقة.

قال الجامع: قد عرفت فيما سبق اعتراض الحافظ على هذا الكلام، فتنبه.

ولابن ماجه من حديث جابر: "أين باتت يده ولا على ما وضعها"، وللدارقطني من حديث ابن عمر:"أين باتت يده أو أين طافت يده"، وقال: إسناده حسن. اهـ كلام العراقي. طرح، جـ 1 / ص 42.

"المسألة الخامسة" أنه احتج الجمهور بعموم قوله: "من نومه" على أنه لا فرق في ذلك بين الليل والنهار، وخالف في ذلك أحمد، وداود، فخصصا هذا الحكم بنوم الليل، لقوله في آخر الحديث "أين باتت يده"، ولرواية أبي داود وابن ماجه المتقدمتين "إذا قام أو استيقظ أحدكم بالليل" وهكذا يقول الحسن في الرواية المشهورة عنه أنه كان لا يجعل نوم النهار مثل نوم الليل، ورُوي عن الحسن أيضا موافقة الجمهور، وقال أحمد فيما رواه الأثرم عنه فالمبيت إنما يكون بالليل. قال ابن عبد البر: أما المبيت فيشبه أن يكون ما قال أحمد صحيحا فيه لأن الخليل قال في كتاب العين: البيتوتة دخولك في الليل. وكونك فيه بنوم وغير نوم، قال: ومن قال بتُّ بمعنى نمتُ، وفسره على النوم، فقد أخطأ، قال: ألا تري أنك تقدم: بتّ أراعي النجم، قال فلو كان نوما كيف كان ينام وينظر.

قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا قال بقول الحسن وأحمد في هذه المسألة غيرهما انتهى.

ص: 206

وقد خالف أحمد في ذلك صاحبه إسحاق بن راهويه فقال: لا ينبغي لأحد استيقظ ليلًا أو نهارا إلا أن يغسل يده قبل أن يدخلها الوضوء، قال: والقياس في نوم الليل أنه مثل نوم النهار

(1)

وما قاله إسحاق هو الذي عليه عامة العلماء، وأجابوا عن الحديث بأن ذلك خرج مخرج الغالب، ويدل لذلك رواية أبي داود:"أو كانت تطوف يده"، ورواية الدارقطني:"أو طافت يده"، ولا يلزم من صيغة "أو" في الروايتين أن يكون ذلك شكا، بل يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأمرين معا يريد أين باتت يده في المبيت. أو أين كانت تطوف يده في نومه مساء كان أو نهارا. اهـ طرح جـ 2/ ص 43.

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: ويؤيد ما ذهب إليه أحمد وداود ما في رواية الترمذي، وابن ماجه، وأخرجه أبو داود، وساق مسلم إسنادها "إذا استيقظ أحدكم من الليل" وما في رواية لأبي عوانة ساق مسلم إسنادها أيضا "إذا قام أحدكم للوضوء حين يصبح"، لكن التعليل بقوله "فإنه لا يدري أين باتت يده" يقتضي إلحاقَ نوم النهار بنوم الليل، إنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة.

وقال النووي رحمه الله: وحكي عن أحمد في رواية أنه إن قام من الليل كره له كراهة تحريم، وإن قام من النهار كره له كراهة تنزيه. قال: ومذهبنا ومذهب المحققين أن هذا الحكم ليس مخصوصا بالقيام من النوم، بل المعتبر الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها، سواء كان قام من نوم الليل، أو النهار، أو شك، انتهي. نيل بتغيير يسير، جـ 1 / ص 208.

قال الجامع عفا الله عنه: والراجح عندي ما ذهب إليه الجمهور لوضوح دليله، والله أعلم.

(1)

لعل العبارة مقلوبة فتنبه.

ص: 207

"المسألة السادسة" قال الحافظ العراقي رحمه الله: مفهوم الشرط حجة عند أكثر الأصوليين، فمفهومه أنه لم يؤمر بذلك غيرُ المستيقظ ممن ليس في معناه كالشاك على ما سيأتي، وهو قول الأكثرين، وخالف في ذلك الشعبي، فقال: فيما رواه محمَّد بن نصر المروزي عنه: النائم والمستيقظ سواء إذا وجب عليه الوضوء لم يُدخل يده في الإناء حتى يغسلها، وروى ابن نصر أيضا عن ابن عمر، والحسن، وطاوس إطلاق غسل اليد قبل إدخالها الإناء من غير تقييد باستيقاظ من نوم، ولعل من أطلق ذلك أراد الاغتراف للاستعمال احترازا عن الوضوء في الأواني الصغار، وقد يقول الشعبي ومن وافقه: لعل النهي عن إدخال يد المستيقظ من النوم في الإناء خرج على جواب سؤال عنه، فلا يكون له مفهوم، وذكر بعض أفراد العموم لا يخصص، وقد يجيب الجمهور بأنه لم ينقل في طرق الحديث خروج ذلك على جواب سؤال، فلا يثبت ذلك بالاحتمال، فيفرق حينئذ بين المستيقظ من النوم وغيره ممن ليس في معناه. اهـ طرح جـ 2/ ص 43.

"المسألة السابعة" اختلف العلماء في قوله: "فلا يغمس يده في وضوئه هل هو للتحريم أو التنزيه، وكذا في الرواية التي فيها "فليغسل يده" هل هو على الندب أو الوجوب، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن ذلك للتنزيه والندب لا للتحريم والوجوب، وهو قول مالك، والشافعي، وأهل الكوفة، وغيرهم، وذهب الحسن البصري وأهل الظاهر إلى أن ذلك على الوجوب والتحريم لظاهر الأمر والنهي، وقالوا: يهراق الماء. وحكى الخطابي عن داود ومحمد بن جرير وجوب ذلك، وأنهم رأيا أن الماء ينجس به إذا لم تكن اليد مغسولة، وحكى الرافعي عن أحمد أنه يوجب غسلهما عند الاستيقاظ من نوم الليل دون النهار على ما تقدم عنه من التفرقة، ثم اختلف أصحاب داود الظاهري عنه، فقال أكثرهم إنه

ص: 208

إن فعله كان عاصيًا ولا يفسد الماء بذلك، وقال بعض أصحابه عنه: لا يجوز الوضوء به. وقال ابن زرقون من المالكية: المستيقظ على ثلاثة أحوال: طاهر، ونجس، وجنب، فالطاهر لا يفسد الماء، وحكى ابن حارث عن ابن غافق التونسي من أصحابنا أنه يفسد، وأما الموقن بالنجاسة فيجري على اختلافهم في النجاسة تَحُلُّ في قليل الماء، وأما الجنب والمحتلم الذي لا يدري ما أصاب يده، فقال ابن حبيب إنه يفسد الماء، وهو معنى الحديث، ولمالك في المجموعة نحوه. انتهى.

والصواب ما ذهب إليه الجمهور، وقال أبو الوليد الباجي: لأنه قد اقترن بالأمر ما دل على الندب؛ لأنه علل بالشك، ولو شك هل مست يده نجاسة لما وجب عليه غسل يده. اهـ طرح بتغيير يسير جـ2/ ص 44.

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى بعد ذكر تعليل الجمهور: ما نصه: وقد دفع بأن التشكيك في العلة لا يستلزم التشكليك في الحكم، وفيه أن قوله. "لا يدري أين باتت يده" ليس تشكيكا في العلة بل تعليل بالشك، وأنه يستلزم ما ذكر، ومن جملة ما اعتذر به الجمهور عن الوجوب حديث (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من الشن المعلق بعد قيامه من النوم، ولم يُرَوْ أنه غسل يده كما ثبت في حديث ابن عباس، وتعقب بأن قوله:"أحدكم" يقتضي اختصاص الأمر بالغسل بغيره، فلا يعارضه ما ذكر، ورد بأنه صلى الله عليه وسلم غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء حال اليقظة فاستحبابه بعد النوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز، ومن الاعتذار للجمهور أن التقييد بالثلاث في غير النجاسة العينية يدل على الندبية، وهذه الأمور، إذا ضمت إليها البراءة الأصلية لم يبق الحديث منتهضا للوجوب ولا لتحريم الترك. اهـ نيل جـ 1 / ص 28.

قال الجامع عفا الله عنه: وما قاله العلامة، الشوكاني رحمه الله تعالى حسن جدًا، والله أعلم.

ص: 209

"المسألة الثامنة" أنه تقدم في رواية مسلم بدل قوله: "في وَضوئه في إنائه" وفي رواية "في الإناء"، وهو يدل على أن النهي مخصوص بالأواني دون البرك والحياض التي لا يخاف فساد مائها بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها، ولذلك قال قيس الأشجعي لأبي هريرة حين حدث بهذا فكيف إذا جئنا مهراسكم

(1)

هذا؟ فكيف نصنع به؟، فقال أبو هريرة أعوذ بالله من شَرِّكَ، رواه البيهقي، فكره أبو هريرة ضرب الأمثال للحديث، وكذلك ما رواه الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر في هذا الحديث فقال له رجل: أرأيت إن كان حوضا فحصبه ابن عمر، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أرأيت إن كان حوضا فكره ابن عمر ضرب الأمثال بحديثه صلى الله عليه وسلم وكان شديد الاتباع للأثر، قال العراقي: ولهذا قال أصحابنا يعني الشافعية أنه إذا كان الإناء كبيرا لا يمكنه تحريكه ولم يجد إناء يغترف به أخذ الماء منه بفمه" أو بطرف ثوبه النظيف، وغسل به يده، أو يستعين بمن يصب عليه، وهذا كله عند الشك في النجاسة. اهـ طرح، جـ 2/ ص 44، 45.

"المسألة التاسعة" أنه اختلف العلماء في الأمر بذلك هل هو تعبد، أو معقول المعنى؟ فقال بعضهم: هو تعبد حتى إن من تحقق طهارة يده في نومه بأن لَفّ عليها ثوبا أو خرقة طاهرة واستيقظ وهو كذلك كان مأمورا بغسلها لعموم أمر المستيقظ بذلك، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو مشهور مذهب مالك أنه يستحب وإن تيقن طهارة يده، وأظهر الوجهين عند أصحاب الشافعي كما قال الرافعي. أنه لا يكره غمس اليد للمستيقظ مع تيقن طهارة يده لأنه إنما أمر بذلك لاحتمال النجاسة بدليل قوله في آخر الحديث:"فإنه لا يدري أين باتت يده" فعلل الأمر باحتمال طرو نجاسة على يده.

(1)

المهراس: بكسر الميم حجر مستطيل ينقر ويدق فيه ويتوضأ منه. اهـ مصباح.

ص: 210

وإذا قلنا: إنه معقول المعنى وأن الشارع أشار إلى العلة بقوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده" فقد اختلف في سبب ذلك فقال الشافعي رضي الله عنه: معناه أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارَّة فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة، أو قملة، أو قذر، أو غير ذلك.

وقال أبو الوليد الباجي: اختلف في سبب غسل اليد للمستيقظ، فقال ابن حبيب: إمّا لعله قد مسّ من نجاسة خرجت منه، ولم يعلم بها، أو غير نجاسة مما يقذر، وقيل: لأن أكثرهم كانوا يستجمرون، وقد يمس بيده أثر النَّجْو قال: وليس ذلك ببين؛ لأن النجاسات لا تخرج في الغالب إلا بعلم منه، وما لم يعلم به فلا حكم له، ومع الاستجمار لا تناله يد النائم إلا مع القصد لذلك، ولو كان غسل اليدين لتجويز ذلك لأمر بغسل الثياب لجواز ذلك عليها، قال: والأظهر ما ذهب إليه العراقيون من المالكية وغيرهم: أن النائم لا يكاد تسلم يده من حك مغابنه أو بثرة في بدنه وموضع عرقه وغير ذلك فاستحب له غسل يده مطلقا. انتهي. حاصل كلامه.

قال العراقي رحمه الله تعالى: وقوله إن موضع الاستجمار لا تناله يد النائم إلا مع القصد لذلك ليس كذلك، واعتراضه بالثياب ليس بجيد لمعنيين:(أحدهما): أنه ربما كان العرق في يده دون محل الاستنجاء فتتأثر اليد دون الثوب. (الثاني): أنه لا يريد غمس ثوبه في الماء حتي يؤمر بغسل ثوبه، وأما اليد فأمر بذلك لأن أثر الاستنجاء لا يعفي عنه في الماء بدليل أنه لو نزل مستجمر في ماء قليل تنجس، وان كان قد عفي عن أثر الاستنجاء فهو بالنسبة إلى المحل المعفو عنه، وما رجحه من أن العلة حك بثرة أو ما يقذر فهو في كلام الشافعي رضي الله عنه مذكور. اهـ طرح جـ 2/ ص 46.

ص: 211

والذي جنح إليه العلامة الصنعاني في حاشيته المسماة بالعُدَّة كونه تعبدًا حيث قال بعد ذكر هذه الاعتراضات التي تقدمت والأجوبة عليها: ما نصه: وضعف هذه الأقوال يشعرك بأن الأمر تعبدي. اهـ جـ 1/ ص 114.

قال الجامع: الذي يترجح عندي القول بكونه معقول المعنى لصراحة تعليل الشارع الحكم بعلة معقولة، وهي الشك المذكور. والله أعلم.

"المسألة العاشرة" أن رواية المصنف فيها التثليث، وكذا في رواية مسلم وأبي داود وغيرهما، ففيها استحباب التثليث في غسل اليدين، قال الحافظ العراقي رحمه الله: وهو كذلك عند أصحابنا، ولكن التثليث المأمور به هل هو لاحتمال النجاسة، أو هو التثليث المشروع في الوضوء محل نظر. اهـ طرح جـ 2/ ص 36.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: لا يصح الاحتجاج بهذا الحديث على غسل اليدين قبل الوضوء، فإن هذا ورد في غسل النجاسة، وذاك سنة أخرى، ويدل على هذا ما ذكره الشافعي وغيره من العلماء، ثم ذكر ما تقدم عن الشافعي في سبب الحديث، ثم قال: فإن قلت: هذا قصر علي السبب، وهو مذهب مرجوح، قلت: سلمنا عدم القصر علي السبب، فليس في الحديث إلا نهي المتسيقظ عن نوم الليل أو مطلق النوم، فهو أخص من الدعوي، أعني مشروعية غسل اليدين قبل الوضوء مطلقا، فلا يصح الاستدلال به على ذلك، ونحن لا ننكر أن غسل اليدين قبل الوضوء من السنن الثابتة بالأحاديث الصحيحة كما في حديث عثمان الآتي وغيره، ولا منازعة في سنيته إنما النزاع في دعوى الوجوب والاستدلال عليه بحديث الاستيقاظ. اهـ نيل جـ 1/ ص 209.

ص: 212

قلت: كلام الشوكاني هذا حسن جدًا، والله أعلم.

"المسألة الحادية عشرة" أنه اختلف العلماء: هل تزول الكراهة بغسل اليد مرة قبل غسلهما، أو يتوقف زوالها على غسلها ثلاثًا على ما ثبت في الروايات التي فيها التثليث؟ قال الشافعي في مختصر البويطي: فإن لم يغسلهما إلا مرة أو مرتين، أو لم يغسلهما أصلًا حيث أدخلهما في وضوئه فقد أساء. وقال النووي: إن ما نص عليه الشافعي وأصحابه من توقف زوال الكراهة على الثلاث يشكل عليه ما تقدم تصحيحه من أنه لا يكره غمس اليد إذا تحقق طهارتها، ومعلوم أن المرة الواحدة مطهرة لليد إن لم يكن ثَمَّ نجاسة عينية لم يزل حكمها فكيف يقال: ببقاء الكراهة مع تحقق الطهارة، لا جرم كان جمهور أهل العلم على أن تيقن طهارة اليد للمستيقظ من النوم لا يرفع الأمر بالغسل بل هو مأمور به بإجماع جمهور العلماء، أمر نَدْب، وعند بعضهم أمر إيجاب كما حكاه ابن عبد البر في التمهيد، بل حكاه الماوردي في الحاوي عن جمهور أصحاب الشافعي، وصححه، وهو أنه يستحب الغسل عند تيقن الطهارة. وذكر إمام الحرمين في النهاية نحوه، وهو المشهور أيضًا عن مالك أنه يكره غمس يده مع تحقق الطهارة، كما حكاه ابن عبد البر. اهـ طرح التثريب في شرح التقريب، جـ 2/ ص 46، 47.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم أن الراجح هو عدم الوجوب، فتنبه. والله أعلم.

"المسألة الثانية عشرة" في قوله: "فلا يغمس يده" بالإفراد دليل على أنه إذا غسل واحدة من يديه أدخلها الإناء، وهو كذلك، لكن حكى أبو الوليد الباجي خلافًا في صفة غسل اليدين قبل إدخالهما في

الوضوء، فحكى عن أشهب عن مالك أنه يستحب أن يفرغ على يده

ص: 213

اليمنى فيغسلها ثم يدخلها في إناءه، ثم يصب على اليسرى، وهو موافق للحديث، قال: وروى عيسى عن ابن القاسم أحبُّ إليَّ أن يفرغ على يديه فيغسلهما، قال: ووجه رواية أشهب قوله في الحديث: "فغسلهما مرتين مرتين"، وهذا يقتضي إفراد كل واحدة منهما، ووجه قول ابن القاسم: ان القصد التنظيف وغسل بعضها ببعض أنظف لهما. أفاده العراقي جـ 2/ ص 47.

"المسألة الثالثة عشرة" قال العراقي رحمه الله: ليست كراهة غمس المتوضيء يده في الإناء قبل غسلها خاصة بحال الإستيقاظ من النوم لأنه قد تقدم أن المعنى فيه احتمال النجاسة كما نبه عليه في آخر الحديث، وعلى هذا فمن شك في نجاسة يده كُره له ذلك، وان لم يكن قد نام، وهو كذلك كما جزم به الرافعي وغيره. اهـ طرح جـ 2/ ص 47.

"المسألة الرابعة عشرة" قيل: في هذا الحديث حجة للشافعي ومن تابعه على الفرق بين ورود الماء علي النجاسة، وَوُرُود النجاسة عليه، لأنه نهاه عن إيراده يده على الماء وأمره بإيراد الماء علي يده كل ذلك

لاحتمال طروء نجاسة على يده فلو استوى الأمران كما يقول مالك وأصحابه لما فرق بينهما.

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في التمهيد: لو لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الماء غير هذا الحديث لساغ في الماء غير هذا التأويل، ولكن قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الماء أنه "لا ينجسه شيء" يريد إلا ما غلب عليه بدليل الإجماع على ذلك، ثم أجاب عن حديث الباب بأنه محمول على الندب والأدب، ثم نقل عن أصحاب الشافعي أنهم نقضوا أقوالهم في ورود الماء على النجاسة لأنهم يقولون: إذا ورد الماء على النجاسة في إناء أو موضع وكان الماء دون القلتين أن النجاسة تفسده، وأنه غير مطهر

ص: 214

لها، فلم يفرقوا ها هنا بين ورود الماء على النجاسة وبين ورودها عليه، وشرطهم أن يكون ورود الماء صبًا مهراقا تحكم لا دليل عليه.

قال العراقي: وما حكاه عن أصحاب الشافعي ليس كما حكاه عنهم، ولا فرق عندهم في ورود الماء على النجاسة بين أن يكون صبا وبين أن يكون في إناء بحيث يغمر الماء النجاسة ويزليها، نعم إن كانت النجاسة عينية ووضعت في إناء وصب الماء عليها واجتمع الماء القليل وعين النجاسة في إناء تنجس الماء ولم يطهر، الثوب وكذلك لو لم يسكب في إناء وصب الماء صبا على نجاسة عينية وانفصل عنها ولم يُزل العين فإن الماء يتنجس والثوب لا يطهر فليس حكمهم هنا بعدم الطهارة يكون الماء واردًا في إناء، بل لكون الماء لم يُزل عينَ النجاسة. اهـ طرح ج 2/ ص 48.

"المسألة الخامسة عشرة" في الحديث استحباب التثليث في غسل النجاسات مطلقًا غير المغلظة التي أمرنا بالسبع فيها، فإن في استحباب التثليث فيها خلافا عند الشافعية وإذا أمر بالتثليث في موضع احتمال النجاسة فالإتيان به مع تحققها من باب أولى. اهـ طرح ج 2/ ص 46.

"المسأله السادسة عشرة" قال العراقي رحمه الله تعالى: فيه حجة على أحمد رحمه الله في قوله في إحدي الروايتين عنه: إنه يجب غسل سائر النجاسات سبعا حملا للجميع على ولوغ الكلاب، وخالفه الجمهور فلم يوجبوا في غير نجاسة الكلب وما في معناها إلا الغسل مرة، وقد روى أبو داود من حديث ابن عمر، قال:"كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل البول من الثوب سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتي جعلت الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة." وفي إسناده ضعف. اهـ طرح جـ 2/ ص 48.

ص: 215

"المسألة السابعة عشرة" هل المراد بأمر المستيقظ من النوم بغسل اليد قبل إدخالها الإناء غسل الكفين الذي هو سنة في أول الوضوء، أو هذا أمر آخر بحيث إنه إذا غسل يده للقيام من النوم ثلاثا، وأراد الوضوء، غَسَلَ كفيه له ثلاثًا؟: الذي صرح به أصحاب الشافعي كما قال العراقي: الأول ونسبه أيضا العيني في العمدة، جـ 2/ ص 314، إلى الحنفية. قال العراقي: وعليه يدل قوله: "في وضوئه" فهو ظاهر في أن المراد غسلهما عند الوضوء، وهو مصرح به عند ابن ماجه من حديث جابر "إذا قام أحدكم من النوم فأراد أن يتوضأ فلا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها" الحديث، وكذا ذكره عبد الرزاق في المصنف من رواية ثابت مولى عبد الرحمن، عن أبي هريرة "إذا كان أحدكم نائما ثم استيقظ، فأراد الوضوء فلا يضع يده في الإناء". الحديث، وهو عند مسلم من طريق عبد الرزاق، ولكنه لم يسق لفظه.

وذهب أشهب من المالكية إلى أن الغسل إنما هو لخشية النجاسة، فإن تحقق طهارة يده لم يستحب له غسل كفيه في الوضوء، واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي:"توضأ كما أمرك الله"، وليس في الآية غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء اهـ طرح جـ 2/ ص 51، 52.

(1)

.

"المسألة الثامنة عشرة" قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله تعالى: فإن قلت: ينبغي أن لا تبقى السنيةُ لأنهم كانوا يتوضؤون من الأتْوَار فلذلك أمرهم عليه الصلاة والسلام بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وأما في هذا الزمان فقد تغير ذلك، قلت: السنة لما وقعت سنة في الابتداء بقيت ودامت، وإن لم يبق ذلك المعنى؛ لأن الأحكام إنما يحتاج إلى أسبابها حقيقة في ابتداء وجودها لا في بقائها لأن الأسباب تبقى حكمًا وان لم تبق حقيقة لأن للشارع ولايةَ الإيجاد والإعدام،

(1)

قال الجامع: قد تقدم في المسألة العاشرة ما قاله الشوكاني في هذه المسألة فارجع إليه، فإنه تقرير حسن جدًا، والله أعلم.

ص: 216

فجعلت الأسباب الشرعية بمنزلة الجواهر في بقائها حُكمًا وهذا كالرَّمَل في الحج ونحوه. اهـ عمدة، جـ 2/ ص 314.

"المسألة التاسعة عشرة" من فوائد الحديث غير ما تقدم:

أن فيه الأخذ بالوثيقة، والعمل بالاحتياط في باب العبادات أولى كما قال الخطابي، قال النووي: ما لم يخرج عن حد الاحتياط إلى حد الوسوسة.

ومنها أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه، وأن ما عداه غير مقيس عليه. قاله الخطابي.

قال العراقي: ويدل عليه رواية البيهقي "أين باتت يده منه"، أي من مظانّ النجاسة من جسده. اهـ طرح جـ 2/ ص 48.

ومنها أن النجاسة. المتوهمة لا يكفي فيها الرش لحصول الاحتياط، بل إنما يحصل الاحتياط بغسلها، لأمره بغسل اليد، وأما ما ورد من نضح الثوب بعد الاستنجاء فليس ذلك للتطهير، وإنما هو لدفع الوسواس حتى إذا وجد بللًا أحاله على الرش لتذهب عنه الوسوسة. طرح 2/ 48.

ومنها أن النسائي استدل به على وجوب الوضوء من النوم كما سيأتي 116/ 161 وكذا قال ابن عبد البر فيه إيجاب الوضوء من النوم قال: وهو أمر مجمع عليه في النائم المضطجع الذي قد استثقل نومًا، وقال زيد بن أسلم والسدي في قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: آية 6] أي من النوم. اهـ طرح جـ 2/ ص 48.

ومنها استحباب الكناية فيما يتحاشى التصريحُ به حيث قال صلى الله عليه وسلم "لا يدري أين باتت يده"، ولم يقل فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والسنة، كقوله تعالى: {الرَّفَثُ إِلَى

ص: 217

نِسَائِكُمْ} [البقرة: آية 187] وقوله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]، وقوله:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، وهذا كله إذا علم أن السامع يفهم المقصود فَهْمًا جليًا، وإلا فلابد من التصريح نفيا للبس والوقوع في خلاف المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحًا به، والله أعلم. أفاده النووي. مجموع جـ 1/ ص 351.

ومنها تقوية من يقول: بالوضوء من مس الذكر حكاه أبو عوانة في صحيحه عن ابن عيينة قاله الحافظ. فتح جـ 1/ ص 318.

قال الجامع: وهذا الاستنباط بعيد جدا. والله أعلم.

ومنها أن الماء القليل لا يصير مستعملا بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء قاله الخَفَّاف صاحب الخصال من الشافعية. اهـ فتح جـ 1/ ص 318.

ومنها ما قاله السندي رحمه الله: واستُدل به على أن الماء القليل يتنجس بوقبرع النجاسة، وإن لم يتغير أحد أوصافه، قال: وفيه أنه يجوز أن يكون النهي لاحتمال الكراهة لا لاحتمال النجاسة، ويجوز أن يقال: الوضوء بما وقع فيه النجاسة مكروه فجاء النهي عند الشك في النجاسة تحرزا عن الوقوع في هذه الكراهة علي تقدير النجاسة، وأيضًا يمكن أن يكون النهي بناء على احتمال أن يتغير الماء بما على اليد من النجاسة فيتنجس، فمن أين علم أنه يتنجس الماء بوقوع النجاسة مطلقا.

والله أعلم. اهـ كلام السندي جـ 1/ ص 8.

قال الجامع عفا الله عنه: في بعض هذه الاستنباطات بُعْدٌ لا يخفى كما قال الحافظ في الفتح، جـ 1/ ص 318.

ص: 218

"المسألة العشرون" وهي آخر المسائل: أنه ينبغي لسامع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقاها بالقبول، ودفع الخواطر الرَّادَّة لها، وأنه لا يُضرب بها الأمثالُ، يُحكى أن شخصا سمع هذا الحديث فقال: وأين تبيت يده منه

(1)

فاستيقظ من النوم ويده في داخل دبره، فلم تخرج حتى تاب من ذلك، وأقلع، والأدبُ مع أقواله بعدَه كالأدب معه في حياته صلى الله عليه وسلم لو سمعه يتكلم، فنسأل الله أن يحفظ قلوبنا من الخواطر الرديئة، ويرزقنا الأدب مع الشريعة المطهرة باطنا وظاهرًا. قاله العراقي. طرح جـ 2/ ص 51.

قال الجامع: والله أعلم بصحة الحكاية إلا أني كتبتها للاعتبار على تقدير صحتها.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

كأنه يتسهزئ بالحديث، وفي هامش العدة للصنعاني ما نصه: قد ورد أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنني أعلم أين باتت يدي، فأصبح وهي في دبره، وهو ضعيف، اهـ جـ 1/ ص 114.

ص: 219

‌2 - باب السواك إذا قام من الليل

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية السواك وقت قيام الشخص من نومه في الليل.

فباب يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة: الرفع والنصب والجر، فالرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي هذا باب الخ، أو مبتدأ حذف خبره أي باب السواك هذا محله، أو فاعل لفعل محذوف تقديره تبع بابُ السواك ما تقدم من الباب، أو نائب فاعل لفعل محذوف، أي يقرأ باب السواك، والنصب على أنه مفعول لفعل محذوف، أي خُذْ بابَ السواك الخ، والجر، وهو ضعيف علي أنه مجرور بحرف جر محذوف مع بقاء عمله كما في قول الشاعر (من الطويل):

إذَا قيلَ أيُّ النَّاس شَرُّ قَبيلة

أشَارَت كُليب بالأكُفِّ الأصَابعُ

أي أشارت الأصابع، بأكفها إلى كليب، وحذف الجار وإبقاء عمله شاذ، كما بُين ذلك في محله من كتب النحو.

وأوجه الإعراب المذكورة هنا تأتي في جميع التراجم، من الكتب والأبواب، والفصول، فاحفظها.

والسواك: بالكسر كما قال النووي رحمه الله تعالى: يطلق على الفعل، وهو الاستياك، وعلى الآلة التي يستاك بها، ويقال في الآلة أيضا مسْوَاك بكسر الميم، يقال: ساكَ فاه يَسُوكه سَوْكا، فإن قلت: استاك لم تذكر الفم. والسواك مذكر، نقله الأزهري عن العرب، قال: وغلط الليثُ بنُ المظفر في قوله: إنه مؤنث، وذكر صاحب المحكم أنه يؤنث ويذكر لغتان، قالوا: وجمعه سُوُكٌ بضم السين والواو، ككتاب وكتب، ويخفف بإسكان الواو، قال صاحب المحكم: قال أبو حنيفة يعني الدينوري الإمام في اللغة ربما همز، فقيل: سُوْك،

ص: 220

قال: والسواك مشتق من ساك الشيء إذا دلكه، وأشار غيره إلى أنه مشتق من التساوك يعني التمايل يقال: جاءت الإبل تتساوك، أي تتمايل في مشيتها، والصحيح أنه من ساك إذا دلك. هذا مختصر كلام

أهل اللغة فيه، وهو في اصطلاح الفقهاء: استعمال عود، أو نحوه في الأسنان، لإذهاب التغير ونحوه. اهـ كلام النووي. المجموع جـ 1/ ص 270.

قال الجامع عفا الله عنه: إذا قلنا: إن السواك هو الفعل لا يحتاج إلى تقدير، وإذا قلنا إنه للآلة فهو على حذف مضاف، أي باب استعمال السواك.

وإنما قدم المصنف هذا الباب لتأكد السواك في الليل لشدة تغير الفم فيه. والله أعلم.

2 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) بن مخلد الحنظلي أبو محمَّد بن راهويه المروزي، ثقة، حافظ مجتهد، قرين أحمد بن حنبل، ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير من العاشرة مات سنة 238، وله 72 (خ م د ت س) اهـ ت وفي (صة) ولد سنة 161 روى عن معتمر بن سليمان، والدراوردي، وابن عيينة، وبقية، وابن علية، وخلق بالحجاز والشام

ص: 221

والعراق وخراسان. وعنه (خ م د ت س) وقال: ثقة مأمون أحد الأئمة، قال أحمد لا أعلم لإسحاق نظيرا، إسحاق عندنا من أئمة المسلمين، وإذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتمسك به، وقال الخفاف أملى علينا إسحاق أحد عشر ألف حديث من حفظه، ثم قرآها يعني من كتابه فما زاد ولا نقص، وقال إبراهيم بن أبي طالب أملى إسحاق المسند كله من حفظه، قال البخاري: توفي سنة (238) اهـ.

2 -

(قتيبة بن سعيد) بن جَميل بن طَريف الثقفي أبو رجاء البغلاني ثقة حجة من العاشرة تقدمت ترجمته في 1/ 1 وتأتي بأبسط منه إن شاء الله تعالى.

3 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة الضبي الكوفي، نزيل الرَّيّ وقاضيها، ثقة، صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يَهم من حفظه (8) مات سنة 188 وله 71 سنة. اهـ ت. (ع).

وفي (صة) جـ 1/ ص 163: أبو عبد الله القاضي، روى عن عبد الملك ابن عمير، ومنصور، وعبد العزيز بن رفيع، ورَقَبَة، وخلق، وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، ويحيى بن أكثم، وخلق، وقال ابن

عمار: حجة، وقال ابن المديني: كان صاحب ليل، قال يوسف بن موسى القطان: مات سنة 188، اهـ.

4 -

"منصور" بن المعتمر بن عبد الله السلمي، أبو عَتَّاب

(1)

بمثناة ثم موحدة، الكوفي، ثقة ثبت، وكان لا يدلس، من طبقة الأعمش، مات سنة 132 (ع) اهـ ت.

(1)

وقع في بعض نسخ التقريب أبو عثاب بمثلثة، وهو غلط، والصواب كما في نسخة أخرى أبو عتاب بمثناة، فانتبه.

ص: 222

وفي (صة) ج 3 ص 58: أحد الأعلام عن إبراهيم، وأبي وائل، وذَرّ بن عبد الله، وخلق. وعنه أيوب، وشبعة، وزائدة، وخلق.

قال أبو حاتم: متقن لا يَخْلطُ ولا يدلس، وقال العجلي: ثقة ثبت له نحو ألفي حديث، قال زائدة: صام منصور أربعين سنة، وقام ليلها. اهـ.

5 -

(أبو وائل)(ع) شقيق بن سلمة الأسدي، الكوفي، ثقة مخضرم -2 - مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة. اهـ ت.

وفي (صة) ج 2 ع 452: أحد سادة التابعين مخضرم، عن أبي بكر وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وطائفة. وعنه الشعبي، وعمرو بن مرة، ومغيرة بن مقسم، ومنصور، وزُبيد، تعلم القرآن في ستين، قال عاصم بن بهدلة: ما سمعته سب إنسانا قط، وقال ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله، قال خليفة: مات بعد الجماجم. اهـ.

6 -

(حذيفة)(ع) بن اليمان، واسم اليمان حُسيل مصغرًا، ويقال: حسل بكسر ثم سكون العبسي بالموحدة حليف الأنصار، صحابي جليل، من السابقين، صح في مسلم عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابي أيضا استشهد بأحد

ومات حذيفة في أول خلافة علي سنة 36. اهـ ت. أخرج له الجماعة.

وفي (صة)، جـ 1/ ص 201: حليف بني عبد الأشهل صحابي جليل من السابقين أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة من الفتن والحوادث، له مائة حديث، وأحاديث

(1)

، اتفقا على اثنى عشر، وانفرد (خ) بثمانية، و (م) بسبعة عشر، افتتح الدِّينَوَر، وماسَبَذان، وهَمَذَان، والريّ، روى عنه أبو الطفيل، والأسود بن يزيد، وزيد بن وهب، وربعي بن حراش. مات سنة 36 وقال عمرو بن علي: بعد قتل عثمان بأربعين ليلة. اهـ.

(1)

هكذا عبارة صة، ولو قال: له أكثر من مائة حديث لكان أولى.

ص: 223

لطائف هذا الإسناد

"منها" أنه من خماسيات المصنف.

"ومنها" أن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم كلهم كوفيون، إلا قتيبة فبغلاني كما تقدم في 1/ 1.

"ومنها" أنهم ممن اتفق الستة في إخراج أحاديثهم، إلا إسحاق فما أخرج له ابن ماجه، وأما قتيبة فأخرج له بواسطة.

"ومنها" أن فيه القاعدة المعروفة عند المحدثين، وهي أنه إذا كان في السند حدثنا فلان وفلان، عن فلان كقوله هنا أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، وقتيبة بن سعيد، عن جرير يقدر بعد المتعاطفين لفظ كلاهما فيقال: أخبرنا إسحاق وقتيبة كلاهما عن جرير، الخ.

قال الحافظ في الفتح عند قول البخاري: حدثنا محمَّد بن بشار، قال حدثنا ابن أبي عدي، ويحيى بن سعيد، عن شعبة، الخ: ما نصه: وينبغي أن يُثبَتَ في القراءة قبل قوله: عن شعبة لفظُ كلاهما؛ لأن كُلًا من ابن أبي عدي، ويحيى رواه لمحمد بن بشار، عن شعبة، وحذف كلاهما من الخط اصطلاح. اهـ فتح جـ 1/ ص 449.

وإذا كان في السند عن فلان قال: كذا، يقدر لفظ أنه بعد عن فلان، فيقال مثلا هنا: عن حذيفة أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم".

"ومنها" أن منصورا لا يدلس، ولا يروي إلا عن ثقة، فهو ممن لا يروي إلا عن الثقات وهم أحد عشر، جمعتهم بقولي (من الرجز):

مَنْ كان لا ينقُلُ عنْ غير ثقه

في غالب الحال لدَى مَنْ حقَّقَه

أحمدُ يحيى مالكٌ والشَّعْبي

بَقي حَريزٌ مَعَهُ ابنُ حَرْبِ

يحيىَ وشُعْبَةُ على المشْهُور

ونجلُ مَهديٍّ مع المنصُور

ص: 224

"ومنها" أن فيه من صيغ الأداء الأخبار في أوله، والقول في آخره، والعنعنة في باقيه وكلها من صيغ الاتصال من غير المدلس على الراجح.

شرح الحديث

"عن حذيفة" رضي الله عنه أنه "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل" أي للتهجد لما في رواية عند البخاري في الصلاة بلفظ "إذا قام للتهجد"، ونحوه لمسلم. كما في الفتح جـ 1 / ص 424.

وقال في المنهل جـ 1/ ص 199: ظاهره يقتضي تعليق الحكم بمجرد القيام، فيكون عاما في كل حالة سواء أكان القيام للصلاة أم غيرها؟ ويؤيده أن الغرض من السواك النظافة، وهي مطلوبة في كل حال، ولا ينافيه ما في بعض الروايات "إذا قام يتهجد" لأنه من باب الحكم على بعض أفراد العام، وهو لا يخصصه، أو يقال: إن التقييد بما ذكر جرى على الغالب من أحواله صلى الله عليه وسلم من أنه كان إذا قام من الليل يتهجد، ومثل القيام من الليل القيامُ من النوم نهارا، لما في حديث أبي داود عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ"، لكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر هو التقييد بالتهجد لوضوح رواية البخاري فيه، وأما كون السواك مطلوبا في كل حال ولاسيما في حالة القيام من النوم فله أدلة أخرى. "يشوص" أي يدلك، أو يغسل أو ينقي، والأول أقرب كما قال ابن دقيق العيد.

وقال الفيومي: شُصتُ الشيءَ شَوْصا من باب قال: غسلته، وشصته شوصا نصبته بيدي، ويقال حركته، وشُصتُ الفَمَ بالسواك من الأول لما فيه من التنظيف، أو من الثاني. اهـ المصباح، 1/ 327.

وقال الحافظ: والشوصُ بالفتح: الغسل، والتنظيف، كذا في

ص: 225

الصحاح، وفي المحكم الغسل عن كراع، والتنقية عن أبي عبيد، والدلك عن ابن الأنباري، وقيل: الإمْرَارُ علبم الأسنان من أسفل إلى فوق، واستدل قائله بأنه مأخوذ من الشوصة، وهي ريح ترفع القلب عن موضعه، وعكس الخطابي، فقال: هو دَلْكُ الأسنان بالسواك أو الأصابع عرضا. اهـ فتح جـ 1/ ص 424.

وقال البدر العيني: قال ابن سيده: شاص الشيء شَوْصا: غسله، وشاص فاه بالسواك شوصا غسله، وقيل: أمره على أسنانه من سُفل إلى عُلو، وقيل: أن يطعن به فيها، وقد شاصه شَوْصًا وشَوَصَانًا، وشاص الشيء شوصا: دلكه، وشاص الشيء زعزعه، وفي الجامع كل شيء غسلته فقد شصته، وقال أبو عبيد: شصته، نقيته، وفي الغريبين: كل شيء غلته فقد شصته ومصته. وقال ابن عبد البر: هو الحك. وقال الخطابي: الشوص: دلك الأسنان عرضا. وقيل: الشوص غسل الشيء في لين ورفق. اهـ عمدة ج 3/ ص 69.

"فاه" بالنصب مفعول يشوص، وعلامة نصبه الألف لأنه من الأسماء الستة التي ترفع بالواو وتنصب بالألف، وتجر بالياء، وشرط هذا الإعراب أن يخلو من الميم، وأن يضاف إلى غير ياء المتكلم وأن يكون مفردا، وأن يكون مكبَّرًا. قال ابن مالك في الخلاصة مشيرا إلى بعض شروط الأسماء الستة:

وشرطُ ذَا الإعرَاب أنْ يُضَفْنَ لا

لليَاكَجَا أخُو أبيكَ ذَا عْتلا

وحاصل المعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان من عادته إذا قام من الليل يدلك أسنانه "بالسواك" بالكسر: الآلةُ، أي العود أو نحوه، إزالةً لتغير فمه من النوم.

قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: فيه دليل على

ص: 226

استحباب السواك في حالة القيام من النوم، وعلته: أن النوم مقتض لتغير الفم، والسواك هو آلة التنظيف للفم، فيسن عند مقتضي التغير. اهـ عمدة الأحكام جـ 1/ ص 284.

وكتب العلامة الصنعاني في حاشيته: ما نصه: قوله: عند مقتضي التغير، أقول: هذا أعم مما أفاده الحديث، فهو أخذ للعموم من المعنى الذي دلت عليه العلة، ويراد بالتغير التغيرُ الذي يُزَال بالسواك، فلا يشرع لتغيره بأكل الكُرَّاث ونحوه، فإنه لا يزيله. ثم إذا كانت العلة إزالة التغير فهل يسن بغير السواك الذي رائحته طيبة من القرنفل، ونحوه أولًا يسن إزالته إلا بالسواك؟. اهـ عدة جـ 1/ ص 284.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن السواك متعين إذا وجد لأنه صلى الله عليه وسلم ما استعمل غيره مع وجوده، بل لازم السواك، ورغب فيه. والله أعلم.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته: هذا الحديث متفق عليه.

"المسألة الثانية": في بيان مواضعه عند المصنف:

أخرج هذا الحديث المصنف هنا عن إسحاق بن إبراهيم، وقتيبة، كلاهما عن جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة رضي الله عنه. وفي الصلاة (رقم 1621) عن عمرو بن علي، ومحمد بن المثني، كلاهما عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن منصور والأعمش، وحصين، ثلاثتهم عن أبي وائل، الخ. و (1622) عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن حصين، به، و (رقم 1623) عن عبيد الله بن سعيد، عن إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان و (رقم 1624) عن أحمد بن سليمان، عن عبيد الله بن

ص: 227

موسى، عن إسرائيل، كلاهما عن أبي حصين، عن شقيق، لكن الأول يقول: عن حذيفة، قال "كنا نؤمر بالسواك إذا قمنا من الليل"، والثاني يقول: عن شقيق، قال:"كنا نؤمر إذا قمنا من الليل أن نشوص أفواهنا بالسواك"، ولم يقل عن حذيفة.

"المسألة الثالثة": فيمن أخرجه مع المصنف من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه (خ م د ق) فأخرجه (خ) في الطهارة (77/ 3) عن عثمان، عن جرير، عن منصور وفي الجمعة (325/ 3) عن محمَّد بن كثير، عن سفيان، عن منصور وحُصَين وفي صلاة الليل (486/ 2) عن حفص بن عمر، عن خالد هو ابن عبد الله، عن حُصين. وأخرجه (م) في الطهارة (15/ 4) عن أبي بكر، عن هشيم، عن حصين وفي (15/ 5) عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير. عن منصور و (15/ 5) عن ابن نمير، عن أبيه، وأبي معاوية، كلاهما عن الأعمش و (15/ 6) عن أبي موسى محمد بن المثني، وبندار، كلاهما عن ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، وحصين، والأعمش ثلاثتهم عن أبي وائل به.

وأخرجه (د) في الطهارة (30/ 1) عن محمَّد بن كثير، عن سفيان الخ.

أفاده المزي. تحفة ج 3 رقم 934. بزيادة من النكت.

وأخرجه أحمد في مسنده (ج 5 رقم 382، 390، 402، 407) وابن أبي شيبة في مصنفه 1/ 68، وابن خزيمة 1/ 670، والدارمي في سننه 1/ 175، والبيهقي وأبو عوانة كلهم من طريق أبي وائل. وكذا الطيالسي 1/ 48، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 10/ 430 من طريق معمر عن رجل عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أمرت بالسواك حتي خشيت أن يحفيني، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من الليل استن

ص: 228

قبل الوضوء." لكن في إسناده جهالة وإرسال فلا يصح. والله أعلم.

"المسألة الرابعة" في بعض فوائد الحديث:

يستفاد من هذا الحديث استحباب السواك عند القيام من النوم.

قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله: ومما يستنبط من هذا الحديث: ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه استحباب السواك عند القيام من النوم لأن النوم مقتض لتغير الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك آلة تنظيفه، فيستحب عند مقتضاه، وقال: ظاهر قوله: "من الليل" عام في كل حالة. ويحتمل أن يخص بما إذا قام إلى الصلاة انتهى. ويدل على هذا الاحتمال رواية البخاري في الصلاة بلفظ "إذا قام للتهجد"، ولمسلم نحوه، وحديث ابن عباس يعني حديث "بت عند خالتي ميمونة رضي الله عنها، الحديث.

"المسألة الخامسة" قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: واعلم أن السواك سنة في جميع الأحوال إلا للصائم بعد الزوال.

قال الجامع: وفي هذا الاستثناء نظر سيأتي تحقيقه في الباب -7 ج 7 - إن شاء الله تعالى.

قال: ويتأكد استحبابه في خمسة أحوال:

أحدهما: عند القيام إلى الصلاة، سواء صلاة الفرض والنفل، وسواء صلى بطهارة ماء أو تيمم، أو بغير طهارة، كمن لم يجد ماء ولا ترابا، وصلى على حسب حاله.

الثاني: عند اصفرار الأسنان، ودليلُه حديث "السواك مَطهَرة للفم" وسيأتي.

الثالث: عند الوضوء ودليله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن

ص: 229

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" وفي رواية "لفرضت عليهم السواك مع الوضوء"، وهو حديث صحيح رواه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما، وصححاه، وأسانيده جيدة، وذكره البخاري في صحيحه في كتاب الصيام تعليقا بصيغة الجزم، وفيه حديث آخر في الصحيح ذكرته في جامع السنة تركته هنا لطوله.

الشراب: عند قراءة القرآن.

الخامس: عند تغير الفم، وتغيره قد يكون بالنوم، وقد يكون بأكل ما له رائحة كريهة، وقد يكون بترك أكل والشرب، وبطول السكوت، قال صاحب الحاوي: ويكون أيضا بكثرة الكلام. وفي صحيح مسلم عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك"

(1)

اهـ المجموع باختصار جـ 1/ ص 272، 273.

قال الجامع عفا الله عنه: وبما في صحيح مسلم تصير ستة، وزاد بعضهم سابعا وهو عند القيام من النوم، وقد تقدم فيه حديث عائشة عند أبي داود، وهو ضعيف، وزاد بعضهم عند النوم، ولا أعرف له دليلا. فالمجموع على هذا ثمانية. والله اعلم.

"المسألة السادسة" ذكر النووي رحمه الله أيضا: أنه أورد الترمذي في أول كتاب النكاح من جامعه بسنده عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من سنن المرسلين الحياء والتعطر، والسواك، والنكاح" قال الترمذي: حديث حسن، هذا كلامه، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وأبو الشمال، والحجاج ضعيف عند الجمهور، وأبو الشمال مجهول، فلعله اعتضد بطريق آخر فصار حسنًا.

(1)

سيأتي هذا الحديث عند المصنف في باب 8/ ح 8 إن شاء الله تعالى.

ص: 230

وقوله: الحياء هو بالياء لا بالنون، وإنما ضبطته لأني رأيت من صحفه في عصرنا، وقد سبق بتصحيفه، وقد ذكر الإمام الحافظ أبو موسى الأصبهاني هذا الحديث في كتابه الإستغناء في استعمال الحناء، وأوضحه، وقال: هو مختلف في إسناده ومتنه، يُروَى عن عائشة، وابن عباس، وأنس، وجَدّ مَليح، كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: واتفقوا على لفظ الحياء، قال: وكذا أورده الطبراني، والدارقطني، وأبو الشيخ، وابن منده، وأبو نعيم، وغيرهم من الحفاظ، والأئمة، قال: وكذا هو في مسند الإمام أحمد وغيره من الكتب، ومرادي بذكر هذا بيان أن السواك كان في الشرائع السابقة، والله أعلم. اهـ كلام النووي، المجموع جـ 1/ ص 274، 275.

قال الجامع عفا الله عنه: وكونها في الشرائع السابقة ثابت بغير هذا الحديث كما سيأتي في حديث الفطرة، إن شاء الله تعالى.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 231

‌3 - باب كيف يستاك

أي هذا باب يذكر فيه الحديث الدال على كيفية الإستياك. وتقدم إعراب الباب في الباب السابق، فباب بالتنوين، ويحتمل الاضافة إلى الجملة بعده.

وكيف هنا استفهامية، وهي حال من فاعل يستاك، أي على أي حالة يستاك الشخص، ويحتمل أن تكون مفعولا مطلقا ليستاك أيْ أيَّ استياك يستاك، وهل هي ظرف أو غير ظرف خلاف بين النحاة، حققه العلامة ابن هشام الأنصاري في مغني اللبيب جـ 1/ ص 173، 174 بحاشية الأمير.

واستاك: استَعْمَل السواك، قال في (ق) ساك الشيءَ: دلكه، وفمه بالعود، وسوكه تسويكا، واستاك وتسوك، ولا يذكر العود ولا الفم معهما. والعود: مسواك وسواك بكسرهما، ويذكر، جمعه ككتب. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: فأفاد أنه لا يقال: استاك فمه بالعود، ولا تسوك فمه بالعود. وقد تقدم البحث عنه بأطول من هذا في الباب السابق. فأرجع إليه تزدد علمًا.

3 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَسْتَنُّ، وَطَرَفُ السِّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ:"عَأْعَأْ".

ص: 232

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(أحمد بن عبدة) بن موسى الضبي أبو عبد الله البصري، ثقة، رمي بالنصب من العاشرة، مات سنة 245. ت.

وفي (صة) جـ 1/ ص 23: أحمد بن عبدة، بسكون الباء بن موسى الضبي أبو عبد الله البصري، عن حماد بن زيد، وأبي عوانة، وعبد الواحد بن زياد، وعبد الوارث، وفضيل بن عياض، وخلق. وعنه "م4" وثقه أبو حاتم والنسائي. اهـ.

2 -

(حماد بن زيد)(ع) بن درهم الأزدي الجهضمي أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه، قيل: إنه كان ضريرا، ولعله طرأ عليه لأنه صح أنه كان يكتب، من كبار الثامنة، مات سنة 179، وله 81 سنة.

وفي (صة) حماد بن زيد بن درهم الأزدي أبو إسماعيل الأزرق البصري الحافظ مَوْلَى جرير بن حازم، وأحد الأعلام، عن أنس بن سيرين، وثابت، وعاصم بن بَهْدَلة، وابن واسع، وأيوب، وخلق كثير. وعنه إبراهيم بن أبي عَبْلة، والثوري، وابن مهدي وأبو الربيع الزهراني وابن المديني، وخلائق. قال ابن مهدي: ما رأيت أحفظ منه، ولا أعلم بالسنة، ولا أفقه بالبصرة منه. وقال أحمد: من أئمة المسلمين. اهـ.

وقال في "تت": قال أحمد: حماد من أئمة المسلمين، من أهل الدين والإسلام، وهو أحب إلى من حماد بن سلمة، قال ابن سعد: كان عثمانيا، وكان ثقة ثبتا حجة، كثير الحديث. وقال ابن معين: ليس أحد أثبت في أيوب منه، من خالفه من الناس فالقول قوله في أيوب. اهـ

وقال البدر العيني: وأنشد ابن المبارك فيه (من الرمل):

ص: 233

أيُّها الطالبُ عِلْمَا

ايتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدِ

فَخُذِ العلْمَ بحلْمِ

ثُمَّ قَيّدْهُ بقَيْدِ

وَدَعِ البِدْعَةَ منْ

آثَار عَمْرِو بْن عُبَيْدِ

اهـ عمدة جـ 1/ سنن 210.

3 -

(غيلان بن جرير) المعْوَلي الأزدي البصري، ثقة، من الخامسة، مات سنة 132. (ع).

وفي الخلاصة: المعولي بكسر الميم وسكون المهملة، البصري. عن أنس، وأبي بردة وعنه أيوب، وشعبة، وجرير بن حازم. وثقه أحمد.

4 -

(أبو بُرْدَةَ)(ع) بن أبي موسي الأشعري، قيل اسمه عامر، وقيل الحارث، ثقة، من الثالثة، مات سنة 104، وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين.

وفي (صة): الفقيه قاضي الكوفة، اسمه الحارث، أو عامر، عن علي، والزبير، وحذيفة، وطائفة. وعنه بنوه عبد الله، ويوسف، وسعيد، وبلال، وخلق. وثقه غير واحد. اهـ ورجح ابن حبان في الثقات أن اسمه عامر، وقال النسائي في الكنى: أنا" أحمد بن علي بن سعيد، سمعت يحيى بن معين يقول: اسم أبي بردة: عامر، وقال المدائني: إنه ولد لأبي موسى في خلافة عثمان، أو في خلافة عمر لما كان أميرا على البصرة. أفاده في "تت" ج 12/ ص 19 - 20.

5 -

(أبو موسى)(ع) عبد الله بن قيس بن سليم بن

(1)

حَضَّار، بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة الأشعري، صحابي مشهور، أمَّره عمر، ثم عثمان، وهو أحد الحكَمَين بصفين، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها.

(1)

وفي صة بن سليمان، وسليم هو الذي في الإصابة، وأسد الغابة.

ص: 234

وفي (صة): هاجر إلى الحبشة، وعمل على زَبيد، وعدن، وولي الكوفة لعمر، والبصرة، وفتح على يده تستر، وعدة أمصار، له ثلاثمائة وستون حديثا، اتفقا على خمسين، وانفرد (خ) بأربعة، و (م) بخمسة وعشرين، وعنه ابن المسيب، وأبو وائل، وأبو عثمان النهدي، وخلق، قال الهيثم: توفي سنة 42. اهـ.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم ممن اتفق الأئمة بالإخراج لهم إلا شيخه، فلم يخرج له البخاري، وكلهم بصريون إلا أبا بردة فكوفي، وأما أبو موسي فهو كوفي بصري كما تقدم آنفا.

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه: أبو بردة عن أبي موسى.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي: غيلان عن أبي بردة.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنةَ.

شرح الحديث

"عن أبي موسى" الأشعري رضي الله عنه أنه "قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يستن" جملة حالية من المجرور، أي دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة كونه مستنا، والاستنان كما قال في النهاية: استعمال السواك وهو افتعال من الإسنان، أي يمر على أسنانه.

وقال البدر العيني رحمه الله تعالى: الاستنان هو الاستياك، وهو دلك الأسنان وحكها بما يجلوها، مأخوذ من السنَّ، وهو إمرار الشيء الذي فيه خشونة على شيء آخر، ومنه المسَنّ الذي يُشحَذ به الحديد ونحوه، وقال ابن الأثير: الاستنان: استعمال السواك افتعال من

ص: 235

الإسنان، وهو الإمرار على شيء. اهـ عمدة جـ 2/ ص 184.

وقال الحافظ: "يستن": بفتح أوله وسكون المهملة وفتح المثناة وتشديد النون من السنن بالكسر أو بالفتح إما لأن السواك يُمَرُّ على الأسنان، أو لأنه يسنها أي يحددها. اهـ فتح جـ 1/ ص 424. "وطرف السواك" بفتح الراء "على لسانه" جملة حالية من فاعل يستن، أي حال كون طرف السواك على لسانه صلى الله عليه وسلم، لكونه يستاك طولا، لما في رواية أحمد؟ وطرف السواك على لسانه يستن إلى فوق". قال الراوي: كأنه يستن طولا. وبهذا يظهر وجه مطابقة الحديث للترجمة. أفاده في المنهل جـ 1/ ص 178.

"وهو يقول" جملة حالية أيضا متداخلة أو مترادفة، وأفاد في الفتح أن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو السواك مجازا. جـ 1/ ص 424.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني بعيد. والله أعلم.

"عأعأ" في محل نصب على أنه مقول القول، كما قال البدر في العمدة جـ 2/ ص 185. وهو بتقديم العين على الهمزة الساكنة، وفي رواية البخاري "أعْ أعْ" بتقديم الهمزة المضمومة على العين الساكنة، ولأبي داود: أهْـ، وللجوزقي: "إخْ". اهـ زهر جـ 1/ ص 9.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى: أع أع بضم الهمزة كذا في رواية أبي ذر، وأشار ابن التين إلى أن غيره رواه بفتح الهمزة، ورواه النسائي وابن خزيمة عن أحمد بن عبدة، عن حماد: بتقديم العين على الهمزة،

وكذا أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل القاضي، عن عارم، ولأبي داود بهمزة مكسورة

(1)

ثم هاء، وللجوزقي: بخاء معجمة بدل الهاء،

(1)

وفي المنهل: بهمزة مكسورة، أو مفتوحة أو مضمومة وهاء ساكنة جـ 1/ ص 178.

ص: 236

والرواية الأولى أشهر، إنما اختلفت الروايات لتقارب مخارج هذه الأحرف، وكلها ترجع إلى حكايته صوته، إذ جعل السواك على طرف لسانه، والمراد طرفه الداخل، كما عند أحمد

(1)

: يستن إلى فوق، ولهذا قال هنا يعني في رواية البخاري كأنه يتهوع، والتهوع: التقيوء، أي له صوت كصوت المتقيء على سبيل المبالغة. ويستفاد منه مشروعية السواك على اللسان طولا، أما الأسنان فالأحب فيها أن تكون عرضا، وفيه حديث مرسل عند أبي داود، وله شاهد

(2)

موصول عند العقيلي في الضعفاء، وفيه تأكيد السواك وأنه لا يختص بالأسنان، وأنه من باب التنظيف والتطيب لا من باب إزالة القاذورات، لكونه صلى الله عليه وسلم لم يختف به، وبَوَّبُوا عليه "استياك الإمام بحضرة رعيته". اهـ فتح جـ 1/ ص 424.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث أبي موسى متفق عليه.

"المسألة الثانية" في بيان موضعه عند المصنف:

لم يخرج المصنف هذا الحديث إلا في هذا الموضع في الطهارة هنا وفي الكبرى عن أحمد بن عبدة، عن حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه.

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجه مع المصنف من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه (خ م د) فأخرجه (خ) في الطهارة (77/ 1) عن أبي النعمان، عن حماد عن غيلان، عن أبي بردة، عن أبيه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

وقال العيني: وفي مسند أحمد: واضع طرف السواك على لسانه، يستن إلى فوق، فوصفه حماد كان يرفع لسانه، ووصفه غيلان كان يستن طولا، وكلها عبارة عن إبلاغ السواك إلى أقصى الحلق اهـ 2/ 184.

(2)

سيأتي أن هذا الموصول ضعيف جدًا لا يصلح للاستشهاد به في المسألة الخامسة.

ص: 237

فوجدته يستن بسواك بيده يقول أع أع، والسواك في فيه، كأنه يتهوع".

وأخرجه (م) في الطهارة (15/ 4) عن يحيى بن حبيب بن عربي عن حماد الخ بلفظ "دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وطرف السواك على لسانه".

وأخرجه (د) في الطهارة أيضا (26) عن مسدد، وسليمان بن داود العتكي قالا: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه. قال مسدد: قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله، فرأيته يستاك على لسانه. وقال سليمان: قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يستاك، وقد وضع السواك على طرف لسانه، وهو يقول: أه أه" يعني يتهوع قال أبو داود: قال مسدد: وكان حديثا طويلًا ولكني اختصرته. اهـ.

قال في المنهل: أي فكان حديث أبي بردة عن أبيه حديثا طويلًا فاختصره مسدد بحذف ما في رواية سليمان من قوله: وقد وضع السواك الخ. اهـ جـ 1/ ص 178. وقد اعترض في المنهل على أبو داود في سوقه قصة السواك مع الاستحمال بما نصه بعد روايات البخاري ومسلم والنسائي: ومنه تعلم أن هؤلاء الأئمة اقتصروا في رواياتهم على قصة السواك، أما قصة الاستحمال: فقد رووها منفردة في أحاديث أخَر.

فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في وهط من الأشعريين نستحمله فقال: "والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم، ثم لبثنا ما شاء الله، فأتي بإبل فأمر لنا بثلاث ذود، فلما انطلقنا قال بعضنا لبعض: لا يبارك الله لنا، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله، فحلف أن لا يحملنا، قال أبو موسى: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: "ما أنا حملتكم بل الله حملكم، إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يمينى، وأتيت

ص: 238

الذي هو خير". وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى قال: "أقبلت على النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فقال:"ما تقول يا أبا موسى، فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قَلَصَتْ".

فهذه القصة فيها ذكر السواك، وطلب العمل، لا الاستحمال، فذكره مع السواك في حديث واحد كما فعل المصنف غير محفوظ، ولم نجده فيما تتبعناه من كتب الحديث. اهـ المنهل جـ 1/ ص 179 - 180.

قال الجامع عفا الله عنه: لكن أبو داود إمام حجة لا يعترض عليه بمثل هذا. فتأمل. والله تعالى أعلم.

وأخرج الحديث ابن خزيمة في صحيحه جـ 1/ ص 73 من طريق حماد به، وأخرجه أيضا البيهقي في سننه، والبغوي في شرح السنة جـ 1/ ص 396 من طريق عارم أبي النعمان شيخ البخاري، نا حماد بن زيد، به. وكذا أبو عوانة جـ 1/ ص 192، وعنده

وهو يقول: عق عق. أفاده في بذل الإحسان جـ 1/ ص 49، 50.

"المسألة الرابعة" في فوائد هذا الحديث:

من فوائد هذا الحديث: مشروعية الاستياك طولا على اللسان، وكذا يستحب عرضا لحديث "يشوص فاه" لأن من معاني الشَّوْص التنظيف والغسل فيشمل طولا وعرضًا، وكذا الأسنان يستحب فيها أن يكون طولا وعرضا، وأما حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا، ولا يستاك طولا"، رواه أبو نعيم، ففي إسناده عبد الله بن حكيم متروك، وفي مراسيل أبي داود من طريق عطاء: "إذا

ص: 239

شربتم فاشربوا مصا، وإذا استكتم فاستاكوا عرضا". وفيه محمَّد بن خالد القرشي، قال ابن القطان: لا يعرف، وقال الحافظ: وثقه ابن معين، وابن حبان، ورواه البغوي، والعقيلي، والطبراني، وغيرهم من حديث سعيد بن المسيب، عن بهز بن حكيم: بلفظ "كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك عرضًا" وفي إسناده ثبيت بن كثير، وهو ضعيف، واليمان بن عدي، وهو أضعف منه. وذكر أبو نعيم في الصحابة ما يدل على أن هذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن بهز بن حكيم بن معاوية القشيري، وعلي هذا فهو منقطع، وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر.

وحكى ابن منده مما يؤيد ذلك أن مخيس بن تميم رواه عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. ورواه البيهقي، والعقيلي أيضا من حديث ربيعة بن أكثم، وإسناده ضعيف جدًا، وقد اختلف فيه على يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب فرواه ثبيت بن كثير عنه فقال بهز ورواه علي بن ربيعة القرشي عنه فقال: ربيعة بن أكثم. قال ابن عبد البر: ربيعة قتل بخيبر فلم يدركه سعيد، وقال في التمهيد: لا يصحان من جهة الإسناد. قاله الحافظ في التلخيص جـ 1/ ص 372، 373. من هامش المجموع.

وقال الأذرعي: ينبغي أن يحتج في المسألة يعني مسألة الاستياك عرضا بحديث يشوص فاه بالسواك وهو في الصحيحين فإن الصحيح

(1)

في معناه أنه الاستياك عرضا. اهـ من هامش المجموع جـ 1/ ص 280.

قال الجامع: بل الأولى أن يحتج بحديث الشوص على الإستياك طولا وعرضا لأن معناه الغسل والتنظيف فيشمل الطول والعرض فتنبه.

"ومنها" أنه لا يختص السواك بالأسنان فقط.

(1)

قال الجامع: المشهور في كتب اللغة تفسيره بالغسل والتنظيف، وأما تفسيره بالاستياك عرضا فذكره في اللسان بقيل، وذكر أيضا أنه الإمرار على أسنانه من سفل إلى علو، انظر اللسان، و"ق" والمصباح في مادة شاص، فلا ينبغي حمل معنى الحديث إلا على ما هو مشهور عند أهل اللغة، فمعنى يشوص فاه بالسواك: ينظفه أو يغسله، والله أعلم.

ص: 240

"ومنها" أن السواك من باب التنظيف والتطيب، لا من باب إزال القاذورات، لكونه صلى الله عليه وسلم لم يختف به.

"ومنها" جواز الإسيتاك بحضرة غيره، وسيأتي في الباب التالي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

"المسألة الخامسة": أنه ذكر العلماء في كيفية الاستياك، والسواك أحوالا ألخصها فيما يلي:

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: يستحب أن يبدأ في الاستياك بجانب فمه الأيمن للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يحب التيامن في تطهره، وترجله، وشأنه كله"، وقياسا على الوضوء وقال القاضي حسين: وينوي به الإتيان بالسنة، ولا بأس بالاستياك بسواك غيره بإذنه للحديث الصحيح فيه، قالوا: ويستحب أن يُعَوَّدُ الصبيُّ السواك ليألفه كسائر العبادات، قال الصيمري: ويستحب إذا أراد أن يستاك ثانيا أن يغسل مسواكه، وهذا يحتج له بحديث عائشة رضي الله عنها، قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك فيعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله، فأدفعه إليه". حديث حسن رواه أبو داود بإسناد جيد، وهذا محمول على ما إذا حصل عليه شيء من وسخ، أو رائحة، ونحوهما.

قال الجامع عفا الله منه: لكن حديث عائشة رضي الله عنها مطلق، بل الظاهر منه عدم حصول شيء عليه، فتقييده بحصول شيء عليه لا دليل عليه. والله أعلم.

وقال الصيمري: ويكره أن يدخل مسواكه في ماء وُضوئه، قال النووي: وهذا فيه نظر، وينبغي أن لا يكره. اهـ المجموع جـ 1/ ص 282 - 283.

وقال الحافظ العراقي: بعد ذكر حديثي الإستياك عرضا اللذين

ص: 241

قدمناهما، وتكلم عليهما ما نصه: قال أصحابنا: والمراد بقوله: عرضا عرض الأسنان في طول الفم واختلفوا هل يحصل سنة السواك بالاستياك طولا أم لا؟ فحكى الرافعي عن إمام الحرمين أنه يمرُّ السواكَ على طول الأسنان وعرضها، فإن اقتصر على إحدى الجهتين فالعرض أولى، لحديث "استاكوا عرضا"، قال: وهكذا أورده المصنف في الوسيط، قال: وذكر آخرون منهم صاحب التتمة أنه يستاك في عرض الأسنان لا في طولها، قال فعلى الأول قوله: عرضا ليس لأنه متعين في إقامة هذه السنة بل خصه بالذكر لأنه أولى، وعلى الثاني: هو متعين، ورووا في الخبر أنه قال:"استاكوا عرضا لا طولا"، وروى النووي في شرح المهذب أن ما قاله الإمام، والغزالي شاذ مردود مخالف للنقل والدليل إلى أن قال: بل الصواب الاقتصار على العرض، بل نص جماعة من أصحابنا على كراهة الطول. اهـ طرح جـ 2/ ص 70.

وقال العلامة ابن قدامة رحمه الله تعالى: ويستاك على أسنانه ولسانه، قال أبو موسى:"أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يستاك على لسانه". متفق عليه. وقال عليه السلام: إني لأستاك حتى لقد خشيت أن أحْفيَ مَقَادمَ فمي". ويستاك عرضا لقوله عليه السلام: "استاكوا عرضا، وادهنوا غبّا، واكتحلوا وترا". ولأن السواك طولا من أطراف الأسنان إلى عمودها ربما أدمى اللثة، وأفسد العمود. اهـ المغني جـ 1/ ص 96.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بكراهة الاستياك طولا لا دليل عليه لما عرفت فيما مر من الكلام في الحديث الذي استدلوا به عليه.

ولقد أجاد العلامة ناصر الدين الألباني في البحث عن حديث الاستياك عرضا في سلسلة الأحاديث الضعيفة حيث قال: رقم 940 "إذا شربتم فاشربوا مصا، وإذا استكتم فاستاكلوا عرضا". ضعيف رواه

ص: 242

البيهقي (1/ 40) من طريق أبي داود في مراسيله عن هشيم، عن محمَّد ابن خالد القرشي عن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: وهذا سند ضعيف لإرساله، وعنعنة هشيم، فإنه مدلس، وجهالة القرشي هذا، ومن ثم رمزله السيوطي بالضعف، فأصاب، وتعقبه المناوي بقوله فما أصاب: رمز لضعفه اغترارا بقول ابن القطان: فيه محمَّد بن خالد لا يعرف، وفاته أن الحافظ ابن حجر رده على ابن القطان بأن محمدا هذا وثقه ابن معين، وابن حبان. وهذا تعقبٌ واه جاءه من التقليد والاستسلام لرد الحافظ ابن حجر دون تبصر، وهو في كتابه التلخيص (ص 23) كما نقله المناوي، وفاته أن الجواد قد يكبو، فإن توثيق ابن معين المذكور مما لم يذكره أحد حتى ولا الحافظ نفسه في التهذيب، فأخشى أن يكون وهما منه، ويؤيده أنه صرح في تقريب التهذيب أن القرشي هذا مجهول، فوافق في ذلك قول ابن القطان: لا يعرف، وكذلك قال الذهبي في الميزان، فمع اتفاق هؤلاء على تجهيله هل يعقل أن يكون توثيق ابن معين له ثابتا عنه؟ ثم لو سلمنا جدلا ثبوت ذلك عنه، فهل يسلم السند من العلتين الأوليين: التدليس والإرسال؟ وبذلك يتبين أن لا وجه لذلك التعقب على السيوطي، بل هو من تعصب المناوي عليه، عفا الله عنا وعنهم.

وروي في الاستياك عرضا حديث آخر، وهو بلفظ:

941 "كان يستاك عرضا، ويشرب مصا، ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ"، ضعيف رواه ابن حبان في المجروحين (1/ 199) والطبراني في المعجم الكبير (1/ 123/ 1، 2) وابن شاهين في الخامس من الأفراد (31/ 32) والبيهقي في سننه (1/ 40) وابن عساكر (4/ 63/ 2) عن اليمان بن عدي، ثنا ثبيت ابن كثير الضبي، عن يحيى بن سعيد

ص: 243

الأنصاري عن سعيد بن المسيب، عن بهز مرفوعا. وقال ابن شاهين: حديث غريب الإسناد، حسن المتن، وبهز لا أعرف له نسبا ولا أعرف له غير هذا الحديث. قلت: وعلته ثبيت هذا وهو ضعيف، كما قال الهيثمي (1/ 100) بعد ما عزاه للطبراني وحده. وتناقض فيه ابن حبان، فذكره في الثقات، وذكره في الضعفاء أيضا. وقال: منكر الحديث على قلته، لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن عدي: غير معروف. وقال الحافظ في التلخيص (ص 23): وهو ضعيف، واليمان بن عدي أضعف منه.

قلت: وقد تابعه ضعيف مثله إلا أنه خالفه في إسناده وهو علي بن ربيعة القرشي المدني فقال: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن ربيعة بن أكثم به. فجعل ربيعة هذا بدل بهز. أخرجه أبو بكر الشافعي في الفوائد (10/ 110)، والعقيلي في الضعفاء (295) والبيهقي وقال العقيلي: ولا يصح، علي بن ربيعة القرشي مجهول بالنقل، حديثه غير محفوظ، ولا يتابعه إلا من هو دونه. قلت: يشير إلى ثبيت بن كثير، والقرشي هذا قال ابن أبي حاتم 3/ 1/ 185 عن أبيه: هو مثل يزيد بن عياض في الضعف. ويزيد هذا ضعيف الحديث، منكر الحديث عند أبي حاتم، وغيرُه يكذبه، قال الحافظ في التلخيص (ص 23) بعد ما عزاه للعقيلي والبيهقي: إسناده ضعيف جدًا ثم ذكر الاختلاف الذي ذكرته، ثم قال عن ابن عبد البر: ربيعة قتل بخيبر فلم يدركه سعيد، وقال في التمهيد: لا يصحان من جهة الإسناد. ولم يحرر المناوي القول في هذين الطريقين فظن أن أحدهما يقوي الآخر، فصرح أن الحديث صار بذلك حسنا، وفي الباب حديث آخر، وهو:"كان يستاك عرضا ولا يستاك طولا" ضعيف جدا. رواه أبو نعيم في كتاب السواك من حديث عائشة مرفوعا، قال الحافظ (23): وفي

ص: 244

إسناده عبد الله بن حكيم وهو متروك. وقال ابن حبان (2/ 27): كان يضع الحديث على الثقات، ويروي عن مالك، والثوري، ومسعر، ما ليس من أحاديثهم. اهـ كلام الشيخ الألباني جـ 2/ ص 345 - 346.

قال الجامع عفا الله عنه: فظهر بهذا أن حديث الاستياك عرضا ضعيف، لا يصح الاحتجاج به فالاستياك كيفما أمكن جائز، ولا سيما والمطلوب منه تنظيف الفم وهو يشمل جميع نواحيه، فكيفما كان حصلت السنة. والله أعلم.

"المسألة السادسة" قال الإمام النووي رحمه الله: قال أصحابنا: يستحب أن يكون السواك بعود، وأن يكون بعود أراك، قال الشيخ أبو نصر المقدسي: الأراك أولى من غيره، ثم بعده النخل أولى من غيره، قال المتولي: يستحب أن يكون عودا له رائحة طيبة كالأراك، واستدلوا للأراك بحديث أبي خَيْرَة الصُّبَاحيّ رضي الله عنه: قال: "كنت في الوفد، يعني وفْد عبد القيس الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر لنا بأراك، فقال: استاكوا بهذا"، وأبو خيرة بفتح الخاء المعجمة وإسكان المثناة تحت، والصُباحي بضم الصاد المهملة، وبعدها باء موحدة مخففة، وبالحاء المهملة، هكذا ضبطه ابن ماكولا وغيره، قال: ولم يرد من هذه القبيلة سواه. اهـ المجموع جـ 1/ ص 282.

قال الجامع عفا الله عنه: قال العلماء: يحصل أصل السنة بكل خَشَن يصلح لإزالة القَلَح

(1)

كالخرقة والخشبة، وكذا بأصبعه، أو أصبع غيره الخشنة، لما روى البيهقي في سننه من حديث أنس "أن رجلًا من الأنصار من بني عمرو بن عوف قال: يا رسول الله إنك رغبتنا في السواك فهل دون ذلك من شيء، قال أصبعاك سواك عند وضوئك، تمرُّها على أسنانك

" الحديث، ورجاله ثقات إلا أن الراوي له عن

(1)

القلح بفتحتين: تغير الفم بصفرة، أو خضرة، أفاده في المصباح.

ص: 245

أنس بعض أهله غير مسمى، وقد ورد في بعض طرقه بأنه النضر بن أنس، وهو ثقة، ولفظه "يجزئ من السواك الأصابع" وفيه عيسى بن شعيب البصري، قال فيه عمرو بن علي الفلاس: إنه صدوق، وقال ابن حبان: كان ممن يخطئ حتى فحش خطؤه فاستحق الترك. أفاده الحافظ العراقي. طرح جـ 2/ ص 68.

قال الجامع عفا الله عنه: وسيأتي تمام البحث في هذا الحديث إن شاء الله تعالى.

وقال العراقى رحمه الله تعالى: قال ابن عبد البر في التمهيد: وتأول بعضهم في الحديث المروي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشوص فاه بالسواك" أنه كان يدلك أسنانه بأصبعه، ويستجزيء بذلك من السواك، وقد أطلق أصحاب الشافعي على استحباب الأراك، وذكر بعض العلماء أنه لم يصح في الاستياك به حديث، وهو عجيب، وقد تتبعت ذلك، فوجدت الطبراني قد روى حديث أبي خيرة الصُّبَاحي، وله صحبة، فذكر حديثا قال فيه:"ثم أمر لنا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأراك فقال: استاكوا بهذا"، وروى الحاكم في المستدرك من حديث عائشة في دخول أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه سواك من أراك فأخذته عائشة فطيبته، ثم أعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستن به. والحديث في الصحيح، وليس فيه ذكر الأراك، وفي بعض طرقه عند البخاري، ومعه سواك من جريد النخل. وروى أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود "أنه كان يَجْني سواكا من الأراك فكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مما تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد". فهذا قد ورد أنه استاك به، وأمر به.

ص: 246

وقال ابن عبد البر في التمهيد: والسواك المندوب إليه هو المعروف عند العرب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الأراك والبَشَام

(1)

قال الشاعر (من الطويل):

إذا هي لم تَسْتَكْ بعُود أراك

وقال جرير (من الطويل):

أتَذْكُرُ يَوْمَ تَصْقُلُ عَارضَيْهَا

بفَرعْ بَشَامَة سُقيَ البَشَامُ

(2)

قال ابن عبد البر: وكل ما يجلو الأسنان إذا لم يكن فيه صبغ ولون فهو مثل ذلك، ما خلا الريحان، والقصب، فإنهما يكرهان، قال: وقد كره جماعة من أهل العلم السواك الذي يغير الفم ويصبغه، لما فيه من التشبه بزينة النساء، وقال في موضع آخر: كل ما جلا الأسنان ولم يؤذها، ولا كان من زينة النساء فجائز الاستنان به، انتهى، اهـ كلام العراقي طرح جـ 2/ ص 69.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

في "ق" البَشَام كسحاب شجر عطر الرائحة ورقه يسود الشعر، ويستاك بقضيبه اهـ، واحدته بشامة، اهـ تاج.

(2)

يعني أنها أشارت بسواكها فكان ذلك وداعها ولم تتكلم خيفة الرقباء، اهـ تاج.

ص: 247

‌4 - باب هل يستاك الإمام بحضرة رعيته

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواب سؤال من سأل هل يستاك الإمام بحضرة رعيته.

وقال العلامة السندي رحمه الله تعالى في حاشيته: كأنه أشار بخصوص الترجمة بالإمام إلى أن الاستياك بحضرة الغير ينبغي أن يكون مخصوصا بمن لا يكون ذاك مستقذرا منه، لكونه إماما ونحوه. اهـ

جـ 1/ ص 9 - 10.

4 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي، وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِي، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ، فَكِلَاهُمَا سَأَلَ الْعَمَلَ، قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا أَطْلَعَانِي عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ شَفَتِهِ قَلَصَتْ، فَقَالَ:"إِنَّا لَا -أَوْ لَنْ- نَسْتَعِينَ عَلَى الْعَمَلِ مَنْ أَرَادَهُ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ". فَبَعَثَهُ عَلَى الْيَمَنِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَل، رضي الله عنهما.

ص: 248

رجال الإسناد: ستة

1 -

"عمرو بن علي"(ع) بن بحر

(1)

بن كُنَيْز

(2)

بنون، وزاي أبو حفص الفلاس الصيرفي الباهلي، البصري، ثقة حافظ، من العاشرة، مات سنة (249).

وفي (صه) الحافظ أحد الأعلام، عن المعتمر بن سليمان، وابن عيينة، ويحيى القطان، وخلق. وعنه (ع) قال عباس العنبري: ما تعلمت الحديث إلا من عمرو بن علي. وقال النسائي: ثقة حافظ. مات بالعسكر سنة 249.اهـ.

(3)

.

2 -

"يحيى بن سعيد"(ع) بن فَرُّوخ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو، ثم معجمة التميمي، أبو سعيد القطان، البصري، ثقة متقن حافظ إمام قدوة من كبار التاسعة، مات سنة

(198)

، وله (78) سنة.

وفي "صه" الحافظ الحجة أحد أئمة الجرح والتعديل عن إسماعيل ابن أبي خالد، وهشام بن عروة، وبهز بن حكيم، وخلق. وعنه شعبة، وابن مهدي، وأحمد، واسحاق، وابن المديني، وابن بشار، وخلق، قال أحمد: ما رأت عيناى مثله، وقال ابن معين يحيى أثبت من ابن مهدي. وقال محمَّد بن بشار: حدثنا يحيى بن سعيد إمام أهل زمانه اهـ.

3 -

"قرة بن خالد"(ع) السدوسي البصري، ثقة ضابط، من السادسة، مات سنة 155. وفي (صة) أبو خالد البصري. عن الحسن، وابن سيرين، وعمرو بن دينار. وعنه شعبة، والقطان، وأبو عاصم له نحو مائة حديث. وثقه أحمد، وابن معين، قيل: مات سنة 154، اهـ

(1)

قوله: بحر، هكذا مكبرا في تهذيب التهذيب، والتقريب، وفي الخلاصة مصغرا.

(2)

قوله: كنيز، بضم الكاف، وفتح النون مصغرا.

(3)

وتكلم فيه ابن المديني في روايته عن يزيد بن زريع؛ لأنه استصغره فيه. قاله الحافظ.

ص: 249

4 -

"حميد بن هلال"(ع) العدوي، أبو نصر البصري، ثقة عالم، توقف فيه ابن سيرين لدخوله في عمل السلطان. من الثالثة.

وفي (صة): عن أنس، وعبد الله بن مغفل. وعنه أيوب وابن عون، وجرير بن حازم، وثقه ابن معين. قال ابن المديني: لم يلق عندي أبا رفاعة. قال الذهبي: روايته عنه في مسلم، والنسائي. قال ابن سعد: توفي في ولاية خالد بن عبد الله على العراق. اهـ.

5 -

"أبو بردة" بن أبي موسى الأشعري ثقة -3 - تقدم في الباب السابق.

6 -

"أبو موسى" الأشعري رضي الله عنه تقدم في الباب السابق أيضًا.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم بصريون ما عدا أبا بردة، وأنهم ممن اتفق أصحاب الأصول في الإخراج لهم.

ومنها: أن شيخه أحد المشايخ الذين رَوَى الستةُ عنهم بدون واسطة وهم الذين جمعتهم بقولي:

اشْتَركَ الأئمَّةُ الهُداةُ

ذَوو الأصُول السِّتَّة الوُعَاةُ

في الأخْذ عن تسْع شُيُوخ مَهَره

الحافظين النَّاقدين البَرَرَهْ

أولئكَ الأشَجُّ وابنُ مَعْمَر

نَصرٌ ويَعْقوبُ وعَمْرٌو السَّري

وابنُ العَلاء وابْنُ بَشَّار كَذَا

ابنُ المثنَّى وزيَادٌ يُحْتَذَى

(1)

(1)

الأشج هو عبد الله بن سعيد، أبو سعيد الكندى الكوفي، وابن معمر: محمَّد بن معمر الغيسي البصري، ونصر هو ابن علي الجهضمي البصري، ويعقوب هو ابن إبراهيم الدورقي البغدادى، وعمرو هو الفلاس، وابن العلاء هو محمَّد أبو كريب الكوفي، وابن بشار محمَّد أبو بكر بندار؛ وابن المثنى: محمَّد أبو موسى العنزى البصري، وزياد هو ابن يحيى العدني.

ص: 250

ومنها: أن في قوله: وهو ابن سعيد لطيفة إسنادية، وهي أنه إذا قال المحدث: حدثني فلان، ولم ينسبه، أو لم يصفه، وأراد الراوي عنه لذلك توضيحا لمن يحدثهم فالذي ينبغي له أن يميز ذلك عما قاله الشيخ، لئلا يكون زائدا على ما قال له شيخه فيقول: حدثني فلان، قال حدثنا فلان هو ابن فلان، أو يعني ابن فلان، أو أن فلان ابن فلان حدثه، وهذا إذا لم يكن الشيخ ذكر ذلك في أول الكتاب مثلا، وأما إذا ذكره في أوله، بأن حدثه بكتاب أو جزء مثلا، وذكر نسبه ووصفه كاملا في أوله فإنه يجوز له إذا روى بعض ما سمع أن يكمل ذلك عند الجمهور؛ لأنه سمعه من شيخه كذلك، لكن الأولى في هذه الصورة أن يفصله بما تقدم، وإلى هذه القاعدة أشار الحافظ السيوطي في ألفيته بقوله:

ولا تَزدْ في نَسَب أو وَصف مَنْ

فَوقَ شُيُوخ عَنْهُمُ مَا لمْ يُبَنْ

بنَحْو يَعْني أو بأنَّ أو بهُو

أمَّا إذا أتَمَّهُ أوَّلَهُ

أجِزْه في البَاقي لَدَى الجُمْهُورِ

والفَصْلُ أوْلَى قَاصرَ المذْكُورِ

وهذه القاعدة نافعة في كتب الحديث لكثرة استعمالهم لها فينبغي التنبه لها، وسأنبه عليها إن شاء الله تعالى حيثما يمر بنا شيء من ذلك.

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه، وقد مر في الباب السابق.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي حميد، عن أبي بردة.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء: الإخبار بلفظ الجمع في أوله،

والتحديث بلفظ الجمع في موضعين، وبلفظ الإفراد في موضع، وذلك للقاعدة المشهورة عند المحدثين، وهي أنهم يستحسنون لفظ حدثني إذا سمع من لفظ الشيخ وحده، وحدثنا إذا سمع مع غيره، وأخبرني إذا قرأ الكتاب بنفسه، وأخبرنا إذا سمع قراءة الكتاب على الشيخ من غيره، وإن شك في ذلك أو شك فيما قال الشيخ هل هو بالإفراد أم بالجمع يستحسن الإفراد وإلى هذا كله أشار السيوطي في ألفيته أيضا بقوله:

ص: 251

واستحسنُوا لمُفْرَد حَدَّثَني

وقَارىء بنَفْسه أخْبَرَني

وإنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةَ حدَّثَنَا

وإن سَمعتَ قارئًا أخْبَرَنا

وحيثُ شَكَّ في سَمَاع أو عَدَدْ

أو مَا يَقُولُ الشَّيْخُ وَحِّدْ في الأسَدّ

وهذا كله على سبيل الاستحباب لا على الوجوب، وفيه العنعنة في موضع.

شرح الحديث

"عن أبي موسى" الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله عنه، أنه "قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" أي توجهت إليه من المحل الذي كنت فيه، وسبب إقباله ما بينته رواية المصنف الآتية برقم (5376) إن شاء الله تعالى قال: "أتاني ناس من الأشعريين، فقالوا: اذهب معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لنا حاجة .. " الحديث.

"ومعي رجلان من الأشعرين" جملة حالية من فاعل أقبلت. أي والحال أنه قد صاحبني رجلان من قبيلة تنسب إلى أشعر، قال في اللباب: الأشعريون: بفتح الهمزة وسكون الشين، وفتح العين نسبة إلى أشعر قبيلة من اليمن.، والأشعر: هو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب. وإنما قيل له: الأشعر؛ لأن أمه ولدته والشعر على بدنه. اهـ بتصرف جـ 1/ ص 64.

قال الحافظ رحمه الله: هما من قومه، ولم أقف على اسمهما، وقد وقع في الأوسط للطبراني من طريق عبد الملك بن عمير، عن أبي بردة. في هذا الحديث أن أحدهما ابن عم أبي موسى. وعند مسلم من طريق يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة: رجلان من بني عمي. اهـ فتح جـ 12/ ص 285.

"أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري" جملة حالية من الرجلين، أي حال كونهما مكتنفين لي من جهة يمينى، ومن جهة يساري "ورسول

ص: 252

الله صلى الله عليه وسلم يستاك" جملة حالية أيضًا. أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم يدلك فاه بالسواك، وتقدم معني يستاك في أول الباب. "فكلاهما" مبتدأ مرفوع بالألف لأنه ملحق بالمثني كما قال ابن مالك:

بالألف ارفَع المُثَنَّى وكلا

إذَا بمُضْمَر مُضَافًا وُصلا

كلْتَا كَذَاكَ اثْنَان واثْنَتَانِ

كابْنَين وَابنَتَيْن يَجْريَانِ

وخبره جملة قوله: "سأل العمل

(1)

" أي طلب كل من الرجلين الأشعريين من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله واليا على بعض الأعمال، كما فسرته روايات أخرى ففي رواية عند البخاري من طريق بريد بن عبد الله "فقال أحدهما: أمِّرْنا يا رسول الله فقال الآخر مثله"، ولمسلم من هذا الوجه: "أمِّرْنا على بعض ما وَلاك الله". ولأحمد والمصنف من وجه آخر عن أبي بردة: "فتشهد أحدهما، فقال: جئناك لتستعين بنا على عملك، فقال الآخر مثله" وعندهما من طريق سعيد بن أبي بردة، عن أبيه: "أتاني ناس من الأشعريين، فقالوا: انطلق معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لنا حاجة، فقمت معهم، فقالوا: أتستعين بنا في عملك؟ " قال الحافظ: ويجمع بأنه كان معهما من يتبعهما، أو أطلق صيغة الجمع على الاثنين. أفاده في الفتح جـ 12/ ص 286.

"قلت:" أي اعتذارا عن دخولهما معه مع كونهما جاءا لطلب العمل.

قاله السندي: جـ 1/ ص 10، ومقول القول جملة قوله:"والذي بعثك" أي أرسلك والواو للقسم والموصول مجرور بواو القسم وفعل القسم محذوف أي وأقسم بالذي أرسلك "بالحق" أي بالدين والشرع الثابت الذي لا يدخله نسخ ولا تبديل. "نبيا" حال مؤكد لبعثك، كما

(1)

وإنما أفرد الضمير في سأل لأن الأكثر في كلا وكلتا إفراد الضمير مراعاة للفظهما، قال تعالى:{{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] ويجوز مراعاة المعنى بقلة، فيقال: كلاهما قاما

ص: 253

في قوله تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] قال ابن مالك في الخلاصة:

وعَاملُ الحَال بهَا قَدْ أكِّدَا

في نَحْو لا تَعْثَ في الأرْض مُفْسدَا

وجواب القسم جملة قوله "ما" نافية "أطلعاني" كأعلماني وزنا ومعنى "على ما" أضمرا "في أنفسهما" من طلب العمل، وفي رواية أبي العميس:"فاعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا، وقلت: لم أدر ما حاجتهم فصدقني وعذرني، وفي لفظ: فقال: "لم أعلم لماذا جاءا". قاله الحافظ.

"وما" نافية أيضا "شعرت" أي ما فطنت، ويقال: شَعَر بالشىء بالفتح يَشْعُر بالضم شعْرًا بالكسر: فَطن له قاله في المختار. وفي المصباح: وشعَرت بالشيء شعورًا من باب قَعَد، وشعْرا، وشعْرَة بكسرهما علمت. اهـ أي ما علمت "أنهما يطلبان العمل" أي الولاية. فأنْ ومعمولاها مفعول شعر، ففي الجملة الأولى نفي كونهما أخبراه قصدهما، وفي الثانية نفي علمه به، وأنه لم يتوصل إليه بأي وسيلة من القرائن، ومقصوده الاعتذار إليه صلى الله عليه وسلم حيث شاركهما في الدخول مع كونهما يطلبان العمل الذي ساءه صلى الله عليه وسلم طلبهما له؛ لأن طلبهما له يدل على حرصهما له. فيحملهما الحرص على عدم القيام بواجبه. لأن من سأل الإمارة فأعطيها وكلت إليه، ومن ولي من غير مسألة أعين عليها، كما بينه حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وسيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى. قال أبو موسى "فكأني انظر إلى سواكه" صلى الله عليه وسلم "تحت شفته" أي حال كونه ثابتا تحت شفته صلى الله عليه وسلم.

قال الفيومي: الشفة: مخفف، ولامها محذوفة، الهاء عوض عنها، وللعرب فيها لغات: منهم من يجعلها هاء، ويبني عليها تصاريف الكلمة، ويقول: الأصل شَفْهَة وتجمع على شفاه، مثل كَلبة

ص: 254

وكلاب، وعلى شَفَهَات، مثل سَجْدة وسَجَدات، وتصغر على شفيهة، وكلمته مُشافهة، والحروف الشفهية. ومنهم من يجعلها واوا ويبني عليها تصاريف الكلمة، ويقول: الأصل شَفْوَة، وتجمع على شَفَوَات، مثل شهوة وشهوات، وتصغر على شفية، وكلمته مشافاة، والحروف الشفوية، ونقل ابن فارس القولين عن الخليل. وقال الأزهري أيضا: قال الليث: تجمع الشفة على شفهات، وشفوات. والهاء أقيس، والواو أعم؛ لأنهم شبهوها بسنوات، ونقصانها حذف هائها، وناقَضَ الجوهري، فأنكر أن يقال: أصلها الواو، وقال: وتجمع في شفوات. ويقال: ما سمعت منه بنت شَفَة أي كلمةً.

ولا تكون الشفة إلا من الإنسان، ويقال في الفرق: الشفة من الإنسان، والمشْفَر من ذي الخُفّ، والجَحْفَلَة من ذي الحافر، والمقَمَّةُ من ذي الظِّلْف، والخَطْم والخُرطُوم من السباع، والمَنسَر بفتح الميم وكسرها والسين مفتوحة فيهما من ذي الجناح الصائد، والمنقَار من غير الصائد، والفنْطيسَةُ من الخنزير. اهـ المصباح.

"قلصت" أي انزوت، أو ارتفعت، يقال: قلصت شفته من باب ضرب: انزوت أي انجمعت وتقلصت مثله، وقلص الظل: ارتفع. أفاده في المصباح. والجملة حال من شفته، أي حال كونها منزوية، أو مرتفعة بسبب وضع السواك تحتها. "فقال" صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى حرصهما علي العمل "لا، أو" قال "لن" شك من الراوي، وفي رواية يزيد، عند مسلم:"إنا والله". الحديث "نستعين على العمل من أراده" أي من طلبه، وفي رواية عند البخاري:"من سألنا" وفي أخرى له: "أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه"، وفي أخرى فقال:"إن أخونكم عندنا من يطلبه، فلم يستعن بهما في شيء حتى مات." أخرجه أحمد.

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد من رواية إسماعيل بن خالد عن أخيه، عن أبي بردة، وأدخل أبو داود بينه وبين أبي بردة رجلًا، اهـ فتح 12/ 286.

ص: 255

قاله الحافظ في الفتح جـ12/ ص 286.

قال الجامع عفا الله عنه: فتبين من هذه الروايات أن سبب منعه لهما من العمل خوف الخيانة منهما؛ لأن الحرص عليه يحملهما على الجور والظلم والله أعلم. ثم بعد منعهما لما ذكر قال صلى الله عليه وسلم للذي لم يطلب العمل، وهو أبو موسى رضي الله عنه "ولكن اذهب أنت" لتعمل لي "فبعثه" أي أرسله صلى الله عليه وسلم واليا "على اليمن" بفتحتين: الإقليم المعروف، سمي به لأنه عن يمين الشمس عند طلوعها، وقيل: لأنه عن يمين الكعبة، والنسبة إليها يمني على القياس ويمان بالألف على غير قياس، وعلى هذا ففي الياء مذهبان: أحدهما وهو الأشهر تخفيفها، واقتصر عليه كثيرون، وبعضهم ينكر التثقيل؛ لأن الألف عوض عنه، فلا يجمع بينهما، والثاني: التثقيل. أفاده في المصباح.

"ثم أردفه" أي أتبع صلى الله عليه وسلم أبا موسى "معاذ بن جبل" بن عمرو بن أوس ابن عائذ بمعجمة آخره بن عدي بن كعب بن عمرو بن آدي بن سعد بن علي بن أسد بن سارذة بن تَريد

(1)

بن جُشَم بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن المدني أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وشهد بدرا والمشاهد، له مائة وسبعة وخمسون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد (خ) بثلاثة، و (م) بحديث، وروى عنه ابن عباس، وابن عمر، ومن التابعين عمرو بن ميمون، وأبو مسلم الخولاني، ومسروق، وخلق. وكان ممن جمع القرآن. قال صلى الله عليه وسلم: يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء"، وقال ابن مسعود كنا نشبهه بإبراهيم عليه السلام، وكان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. توفي في طاعون عمواس

(2)

سنة 18 في خلافة عمر رضي الله عنه، وقُبرَ ببيسان في شرقيه، قال ابن المسيب: عن ثلاث وثلاثين سنة، وبها رفع عيسى عليه

(1)

بتاء فراء وفي الإصابة يزيد بياء فزاي، وفي الجمهرة تزيد بتاء فزاي اهـ من هامش الخلاصة.

(2)

بفتحتين وبسكون الميم أيضا قرية من قرى الشام نسب إليها الطاعون لأنه أول ما بدأ فيها.

ص: 256

السلام. روى أحاديثه الجماعة. اهـ خلاصة.

فمعاذ بالنصب مفعول ثان لأردف، ثم إن ظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجه، ووقع عند البخاري: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن فقال يسرا ولا تعسرا

الحديث. قال الحافظ رحمه الله تعالى: فيحمل على أنه أضاف معاذا إليه بعد سبق ولايته، لكن قبل توجهه فوصاهما عند التوجه بذلك، ويمكن أن يكون المراد أنه أوصى كلا منهما واحدا بعد آخر اهـ فتح جـ 12/ ص 286.

"رضي الله عنهما" أي قَبلَ عملهما وجازاهما عليه، وصفة الرضى ثابتة لله تعالى كما أثبتها الله تعالى في كتابه حيث قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ

} [الفتح: 18]، وقال:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]، وهي كسائر صفاته تعالى مثل الكلام والسمع والبصر، وكذا صفة الغضب، والمحبة، وغيرهما من دون فرق بينها، فمن أثبت سبع صفات يلزمه إثبات غيرها مثلها بالدليل الذي أثبت به تلك، من غير فرق. فافهم هذا، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك حيث تمر بنا أحاديث الصفات إن شاء الله تعالى.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى في درجته: حديث أبي موسى متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:

أخرجه المصنف: هنا في المجتبى 4/ 4 وفي الكبرى 8/ 8 عن عمرو ابن علي عن يحيى القطان، عن قرة بن خالد، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه. وأخرجه أيضًا في باب ترك استعمال من يحرص على القضاء من كتاب آداب القضاء برقم 5382 من المجتبى عن عمرو بن منصور، عن سليمان بن حرب، عن عمر بن

ص: 257

علي، عن أبي عميس، عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، عن أبي موسى.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه (خ م د) فأخرجه (خ) مختصرا ومطولا في الإجارة وفي الأحكام، وفي استتابة المرتدين عن مسدد، عن يحيي بن سعيد، عن قرة بن خالد الخ وفي الأحكام أيضا عن عبد الله بن الصباح، عن محبوب ابن الحسن، عن خالد الحذاء، عن حميد بن هلال الخ هكذا قال المزي، وتعقبه الحافظ في قوله: وفي الأحكام أيضا الخ قائلا ورواية عبد الله بن الصباح بقصة اليهودي فقط مختصرة، ورواية مسدد قرنها في الأحكام برواية عبد الله بن الصباح، وساقها في استتابة المرتدين مطولة، واقتصر في الإجارة على قصة طلب العمل. اهـ النكت الظراف جـ 6/ ص 449.

وأخرجه (م) في المغازي عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد، ومحمد بن حاتم كلاهما عن يحيى بن سعيد الخ. وأخرجه (د) في الحدود عن أحمد بن حنبل ومسدد بتمامه كلاهما عن يحيى الخ. وفي القضايا عن أحمد بن حنبل بعضه.

وأخرجه أحمد في مسنده، 4/ 393، 409، و 417، والبغوي في شرح السنة 10/ 58 أفاده بعض المحققين.

المسألة الرابعة: في فوائده:

من فوائد هذا الحديث: ما ترجم له المصنف، وهو جواز استياك الإمام بحضرة رعيته.

ومنها: مشروعية السواك.

ومنها: جواز الحلف من غير استحلاف.

ص: 258

ومنها: كراهية سؤال الإمارة والحرص عليها.

ومنها: منع الحريص عليها منها لأن فيه تهمة، ويُوكَل إليها، ولا يعان عليها، فينجر إلى تضييع الحقوق لعجزه.

وقد وردت أحاديث في ذلك:

ففي الصحيح عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإن أعطيتها عن مسألة وُكلتَ إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنتَ عليها".

وفيه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة"

وأخرج الطبراني والبزار بسند صحيح عن عوف بن مالك رضي الله عنه بلفظ "أولها مَلامَة، وثانيها نَدَامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، الا من عدل".

وفي الطبراني الأوسط من رواية شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال شريك: لا أدري رفعه أم لا؟ قال: "الإمارة أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة" وله شاهد من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ "أولها ملامة، وثانيها ندامة" أخرجه الطبراني.

وعند الطبراني من حديث زيد بن ثابت رفعه: "نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها، تكون عليه حَسْرَة يوم القيامة" أفاد هذا كله الحافظ في الفتح

جـ 13/ ص 134.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 259

‌5 - باب الترغيب في السواك

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الترغيب في السواك. وتقدم إعراب باب. والسواك: يحتمل أن يكون بمعنى العود فيكون المعنى على حذف مضاف أي باب الترغيب في استعمال السواك، ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر فلا يحتاج إلى تقدير مضاف.

5 -

أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(حميد بن مسعدة)(م 4) بن المبارك السامي بالمهملة أو الباهلي، بصري صدوق، من العاشرة مات سنة 244. وفي (صة) عن حماد بن زيد وعبد الوارث، وبشر بن المفضل. وعنه (م 4) قال أبو حاتم: صدوق. اهـ.

ووثقه المصنف، في أسماء شيوخه، وذكره ابن حبان في الثقات. أفاده في تت.

2 -

(محمَّد بن عبد الأعلى)(م قد ت س ق) الصنعاني البصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة 245. وفي (صة) عن يزيد بن زريع،

ص: 260

وعثام بن علي وثقه أبو زرعة، وأبو حاتم. اهـ.

3 -

(يزيد بن زريع)(ع) بتقديم الزاي مصغرا البصري، أبو معاوية، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة 182. وفي (صة) التميمي العيشي بتحتانية، أبو معاوية، البصري، الحافظ أحد الأعلام. عن أيوب، وحميد، وسليمان التيمي، وابن عون، وخلق. وعنه ابن المديني، ومحمد بن المنهال، وقتيبة، وخلق. قال ابن معين: ثقة مأمون، وقال أبو حاتم: ثقة إمام. قال أحمد: ما أتقنه، ما أحفظه؟ قال عمرو بن علي: ولد سنة إحدى ومائة ومات سنة 182. اهـ.

4 -

(عبد الرحمن بن أبي عتيق) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عتيق محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أبو عتيق مقبول، من السابعة. (بخ س). وفي (صة) أبو عتيق، المدني، عن أبيه، وعطاء، وعنه ابن إسحاق، وسليمان بن بلال، وثقه ابن حبان.

قال الجامع عفا الله عنه: نسبه في السند إلى جده، وهكذا اشتهر بالنسبة إليه كما أشار إليه الحافظ في التقريب، فافهم.

5 -

(أبوه) عبد الله (خ م د س) بن محمَّد بن أبي بكر الصديق التيمي المدني أخو القاسم، ثقة، من الثالثة، قتل بالحرة سنة ثلاث وستين. وفي (صة) عن عائشة، وابن عمر، وعنه ابناه محمَّد وعبد الرحمن، وثقه العجلي.

6 -

(عائشة)(ع) بنت أبي بكر الصديق، أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقا وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إلا خديجة، ففيها خلاف مشهور، ماتت سنة 57 علي الصحيح. وفي (صة) التيمية أم عبد الله، الفقيهة أم المؤمنين الربانية حبيبة النبي صلى الله عليه وسلم، لها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث اتفقا على 174 وانفرد (خ) 54 و (م) 68، وعنها مسروق، والأسود،

ص: 261

وابن المسيب، وعروة، والقاسم، وخلق. قال عليه السلام:"فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقال عروة: ما رأيت أعلم بالشعر من عائشة، وقال القاسم: كانت تصوم الدهر. وقال هشام بن عروة: توفيت سنة سبع وخمسين، ودفنت بالبقيع.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته ثقات إلا ابن عتيق فوثقه ابن حبان، وأنهم ما بين بصريين، وهم الثلاثة الأولون. ومدنيين وهم الباقون، وأن حميدا ممن أخرج له الجماعة، إلا البخاري، ومحمد بن عبد الأعلى ممن أخرج له مسلم وأبو داود في القدر، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وعائشة ويزيد ممن اتفقوا عليهم، وعبد الرحمن ممن أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والنسائي، وأبوه ممن أخرج له الشيخان وأبو داود، والنسائي.

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.

ومنها: أن عائشة من السبعة المكثرين روت 2210 حديثا، وقد تقدم هذا في 1/ 1.

ومنها: أن فيه ما تقدم قريبا من القاعدة المشهورة، وهي قوله: وهو ابن زريع حيث لم ينسبه له شيخه. انظر تحقيقها في 4/ 4.

ومنها: أن فيه الإخبار في موضع، والعنعنة في موضعين، والتحديث في موضعين أيضا، والسماع في موضع.

شرح الحديث

"عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه "قال: السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب"

ص: 262

قال النووي رحمه الله تعالى: مطهرة بفتح الميم وكسرها لغتان ذكرهما ابن السكيت وآخرون، والكسر أشهر، وهو كل آلة يتطهر بها، شَبَّهَ السواك بها لأنه ينظف الفم، والطهارة: النظافة اهـ المجموع جـ 1/ ص 268.

وقال السندي بعد نقل كلام النووي هذا: ما نصه: لا حاجة إلى اعتبار التشبيه؛ لأن السواك بكسر السين اسم للعود الذي يدلك به الأسنان، ولا شك في كونه آلة لطهارة الفم بمعنى نظافته. اهـ جـ 1 / ص 10.

وقال السيوطي رحمه الله: وقال زين العرب في شرح المصابيح: مطهرة ومرضاة: بالفتح كل منهما مصدر بمعنى الطهارة والرضا، والمصدر يجيء بمعنى الفاعل، أي مُطَهِّر للفم، ومُرض للرب، أو هما باقيان على مصدريتهما، أي سبب للطهارة، والرضا، ومرضاة جاز كونها بمعنى المفعول، أي مرضي للرب، وقال الكرماني: مطهرة ومرضاة: إما مصدرا ميمي بمعنى اسم الفاعل، وإما بمعنى الآلة، فإن قلت: كيف يكون سببا لرضا الله تعالى؟ قلت: من حيث إن الإتيان بالمندوب موجب للثواب، ومن جهة أنه مقدمة للصلاة، وهي مناجاة للرب، ولا شك أن طيب الرائحة يحبه صاحب المناجاة، وقيل: يجوز أن يكون المرضاة بمعني المفعول، أي مرضي للرب. وقال الطيبي: يمكن أن يقال: إنها مثل "الولدُ مَبْخَلَة مَجْبَنَة"، أي السواك مظنة للطهارة والرضا، إذ يحملُ السواكُ الرجلَ على الطهارة، ورضا الرب، وعطف مرضاة يحتمل الترتيب بأن يكون الطهارة علة للرضا، وأن يكونا مستقلين في العلية اهـ زهر جـ 1/ ص 11.

قال الجامع عفا الله عنه: كلام الطيبي هذا بعيد عن مقصود الحديث

ص: 263

فلا ينبغي أن يلتف إليه، بل المعني: أن السواك مطهر للفم، ومرض للرب لا مظنة لهما، فتأمل. والله أعلم.

وقال العلامة السندي رحمه الله تعالى: بعد ذكر كون مطهرة ومرضاة بمعنى اسم الفاعل: ما نصه: والمناسب بهذا المعنى أن يراد بالسواك استعمال العود، لا نفس العود، إما على ما قيل: إن اسم السواك قد يستعمل بمعنى استعمال العود أيضا، أو على تقدير المضاف، ثم لا يخفى أن المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل يكون بمعنى اسم الفاعل من ذلك المصدر لا من غيره، فينبغي أن يكون ها هنا مطهرة ومرضاة بمعنى طاهر وراض، لا بمعنى مطهر ومرض، ولا معنى لذلك، فليتأمل. اهـ

كلام السندي جـ 1/ ص 11.

والرب هو الله عز وجل، ويطلق الرب في اللغة: على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم، ولا يطلق غير مضاف إلا على الله عز وجل، وإذا أطلق على غيره أضيف، فقيل: رب كذا، وقد جاء في الشعر مطلقا على غير الله تعالى وليس بالكثير، ولم يذكر في غير الشعر. قاله ابن منظور في اللسان جـ 1/ ص 399 - 400.

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في الأذكار: قال العلماء لا يطلق الرب بالألف واللام إلا على الله تعالى خاصة، فأما مع الإضافة فيقال: رب المال، ورب الدار، وغير ذلك. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في ضالة الإبل:"دعها حتى يلقاها ربها". والحديث الصحيح: "حتى يُهمَّ ربَّ المال من يقبل صدقته"، وقول عمر رضي الله عنه في الصحيح:"رب الصُّرَيمَة والغُنَيْمَة". ونظائره في الحديث كثيرة مشهورة. وأما استعمال حملة الشرع ذلك فأمر مشهور معروف. قال العلماء: وإنما كره للمملوك أن يقول لمالكه: ربي يعني في حديث

ص: 264

أبي هريرة رضي الله عنه عند الشيخين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَقُلْ أحدكم: أطعم ربك، وضيء ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي". ولمسلم: "ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ومولاي، وله أيضا: لا يقولن أحدكم: عبدي، فكلكم عبيد، ولا يقل العبد ربي، وليقل: سيدي" وفي رواية له "لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، كلكم عبيد لله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي، وجاريتي، وفتاي، وفتاتي".

قالوا: لأن في لفظه مشاركة لله تعالى في الربوبية، وأما حديث:"حتى يلقاها ربها""ورب الصُّرَيمة"، وما في معناها: فإنما استعمل لأنها غير مكلفة، فهي كالدار والمال، ولا شك أنه لا كراهة في قول: رب الدار، ورب المال. وأما قول يوسف صلى الله عليه وسلم:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] فعنه جوابان:

أحدهما: أنه خاطبه بما يعرفه، وجاز هذا الاستعمال للضرورة، كما قال موسى صلى الله عليه وسلم للسامري:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} [طه: 97] أي الذي اتخذته إلها.

والجواب الثاني: أن هذا شرع من قبلنا لا يكون شرعا لنا إذا ورد شرعنا بخلافه، وهذا لا خلاف فيه، وإنما اختلف أصحاب الأصول في شرع من قبلنا إذا لم يرد شرعنا بموافقته ولا مخالفته، هل يكون شرعا لنا أم لا؟ اهـ كلام النووي في أذكاره ص 312 وقال في المجموع جـ 1 / ص 268 بعد ذكر نحو ما تقدم: وقد أنكر بعضهم: إضافة رب إلى الحيوان، وهذا الحديث يرد قوله. يعني حديث ضالة الإبل "دعها حتي يلقاها ربها".

وقد تقدم لغات الفم في 2/ 2 فارجع إليه تستفد علمًا.

ص: 265

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها حديث صحيح.

"المسألة الثانية" في بيان مواضعه عند المصنف:

لم يذكر المصنف هذا الحديث إلا في هذا الموضع في الطهارة 5/ 5 المجتبى، 4/ 4 الكبرى عن حميد بن مسعدة، ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن يزيد بن زريع، عن عبد الرحمن بن أبي عَتيق، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه من أصحاب الأصول "خت".

قال الحافظ في التلخيص: هذا الحديث علقه البخاري بلا إسناد، ووصله النسائي، وأحمد، وابن حبان من حديث عبد الرحمن بن أبي عتيق، سمعت عائشة بهذا، قال ابن حبان أبو عتيق هذا هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال الحافظ: هو كما قال، لكن الحديث إنما هو من رواية ابنه عبد الله، فإن صاحب الحديث هو عبد الرحمن بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الرحمن نسب في السياق إلى جده وكلام ابن حبان يوهم أنه من رواية أبي عتيق نفسه، وليس كذلك، وقد أوضحه المعمري في اليوم والليلة، ويؤيده، رواية أحمد بن حنبل عن عبدة بن سليمان، عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن محمَّد، سمعت عائشة به. ورواه الشافعي، عن ابن عيينة، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي عتيق، عن عائشة. ورواه الحميدي عن ابن عيينة، ثنا محمَّد بن إسحاق. وقيل: إنه رواه عن ابن إسحاق بواسطة مسعر، حكاه البيهقي عن رواية ابن أبي عمر، عن سفيان، لكن الذي في مسند بن أبي عمر ليس فيه

ص: 266

مسعر، فيحتمل أن يكون عنده علي الوجهين، وروي من طريق ابن أبي عتيق، عن القاسم، عن عائشة.

وقال الدارقطني في العلل: الصحيح أن ابن أبي عتيق سمعه من عائشة. ورواه ابن خزيمة من طريق عبيد بن عمير، عن عائشة. وجزم الشيخ تقي الدين في الإلمام: أن الحاكم أورده في المستدرك، ومراده بالطريق الأولى لا بهذه الطريق، وإن كان سياقه قد يوهم خلاف ذلك. ورواه أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن أبي بكر الصديق. وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، والدارقطني: هو خطأ، والصواب عن عائشة.

وفي الباب: عن أبي هريرة رواه ابن حبان بلفظ: "عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم، مرضاة للرب"، أخرجه من طريق حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عنه، والمحفوظ عن حماد بغير هذا الإسناد من حديث أبي بكر كما تقدم، والمحفوظ عن عبيد الله ابن عمر بهذا الإسناد بلفظ "لولا أن أشق" رواه النسائي، وابن حبان، وعن ابن عمر رواه أحمد، وفي سنده ابن لهيعة، وعن أنس رواه أبو نعيم. وفيه يزيد الرَّقَاشي، وهو ضعيف جدًا، وعن أبي أمامة رواه ابن ماجه، وفيه عثمان ابن أبي العاتكة، وهو متروك. وأخرجه الطبراني من وجهين آخرين ضعيفين أيضا عن أبي أمامة، ورواه أيضا من طرق ضعيفة عن ابن عباس أيضا بزيادة "مجلاة للبصر". اهـ كلام الحافظ في التلخيص جـ 1 / ص 60.

وقال العلامة الألباني: صحيح أخرجه أحمد في المسند 6/ 47، 62، 124، 238. وكذا الشافعي في الأم 1/ 20 وفي المسند ص 4، والبيهقي 1/ 34 من طريقين عن عبد الله بن محمَّد بن

ص: 267

عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: سمعت عائشة به مرفوعًا.

قلت: وإسناده صحيح، وعلقه البخاري في صحيحه 2/ 274 مجزوما به، قال المنذري 1/ 101: وتعليقاته المجزومة صحيحة، وكذا قال النووي في المجموع 1/ 268، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وله طرق أخرى أخرجه الدارمي 1/ 174، وأحمد 6/ 146، والبيهقي من طريقين عن القاسم بن محمَّد عنها، وهو عند ابن خزيمة برقم 135، وابن حبان 143 قلت: وهذا سند صحيح. اهـ إرواء الغليل جـ 1/ ص 105. باختصار.

"المسألة الرابعة" في فوائد هذا الحديث:

منها: أن السواك يطهر الفم، فيصلح الإنسان لمناجات الله تعالى، وتلاوة كلامه، ودنو الملائكة منه لكونهم يحبون النظافة، فإنهم يتأذون مما يتاذي منه بنو آدم كما صح ذلك في الحديث، فينبغي الحرص على هذه الغنيمة الجليلة.

ومنها: أنه سبب لرضا الله تعالى، فعلى العبد أن يلازم ما فيه رضي ربه عز وجل، فإن رضاه هو الغاية القُصوى.

ومنها: أنه يستفاد منه استحباب أخذ السواك باليد اليمنى؛ لأنه من باب الطهارة، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم اليمنى لطَهوره، وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى"

(1)

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء كما ذكره الحافظ العراقي في طرح التثريب جـ 2/ ص 71 ونصه فيها:

السواك المأمور به هل الأولى أن يباشره المستاك بيمينه، أو بشماله، ذكر بعض متأخري الحنابلة ممن رأيته أنه يستاك بيمينه لأنه ورد في بعض

(1)

رواه أبو داود بإسناده صحيح.

ص: 268

طرق حديث عائشة المشهور "كان يعجبه التيمن في ترجله، وتنعله، وتطهره، وسواكه". وسمعت بعض مشايخنا الشافعية يبني ذلك على أن السواك هل هو من باب التطهير والتطييب، أو من باب إزالة القاذورات، فإن جعلناه من باب التطييب استحب أن يكون بيمينه، وإن جعلناه من باب إزالة القاذورات استحب أن يليه بشماله، لحديث عائشة رضي الله عنها، فذكر الحديث الذي ذكرناه عن أبي داود، قال: وله

(1)

من حديث حفصة: "كان يجعل يمينه لطعامه، وشرابه، وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك".

وما استدل به على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة على ما ذهب إليه، فإن المراد منه البداءة بالشق الأيمن في الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى في التطهر، والبداءة بالجانب الأيمن من الفم في الاستياك كما تقدم، وأما كونه يفعل ذلك بيمينه فيحتاج إلى نقل، والظاهر أنه من باب إزالة الأذى كالامتخاط ونحوه، فيكون باليسري، وقد صرح بذلك أبو العباس القرطبي من المالكية، فقال في المفهم حكايته عن مالك أنه لا يتسوك في المسجد لأنه من باب إزالة القذر. اهـ كلام العراقي.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي أنه من باب التطهير والتطييب لأن حديث الباب صريح فيه، فهذا كان كذلك فاستعماله باليمين أولى لحديثي عائشة، وحفصة المتقدمين، فقول العراقي في اعتراضه: فيحتاج إلى نقل غير سديد؛ لأن هذا الحديث نقل واضح فأي نقل أصرح من هذا. وما قاله القرطبي مخالف للنصوص الدالة على جواز الاستياك في المسجد، كحديث "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" المتفق عليه، وسيأتي للمصنف 7/ 7، فإنه

(1)

أي لأبي داود.

ص: 269

ظاهر في المسجد لأن الصلاة غالبا تكون فيه، وقد ثبت "أن زيد بن خالد الجهني كان يشهد الصلوات في المساجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب لا يقوم إلى الصلاة إلا استن، ثم رده إلى موضعه"، أخرجه أبو داود والترمذي، وسيأتي، وغير ذلك من النصوص الواضحة فيه.

والحاصل أن السواك من باب التطييب والتطهير فالمستحب أخذه باليمين، فتفطن ولا تكن أسير التقليد، فإنه مُسْتَنَد البليد. والله أعلم.

وروى البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليك بالسواك فإنه مطهرة للفم، مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، يزيد في الحسنات، وهو من السنة يجلو البصر، ويذهب الخضرة، ويشد اللِّثَهَ، ويذهب البلغم، ويطيب الفم" وزاد البيهقي في رواية أخرى: "ويُصحُّ المعدة" وفي بعض طرقه عند غير البيهقي: "ويزيد في الفصاحة." قال البيهقي: تفرد به الخليل بن مرة، وليس بالقوي، انتهي. وقد قال فيه أبو زرعة شيخ صالح، وقال ابن عدي: يكتب حديثه، وضعفه الجمهور. قاله الحافظ العراقي طرح جـ2/ ص 67. والله ولي التوفيق.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 270

‌6 - باب الإكثار من السواك

أي هذا باب ذكر إكثاره صلى الله عليه وسلم في طلب السواك من أمته.

والسواك يحتمل أن يكون المراد منه الآلة فيكون على حذف، مضاف أي استعماله، وأن يكون بمعنى الفعل فلا يحتاج إلى تقدير، كما تقدم غير مرة.

6 -

أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، وَعِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِى السِّوَاكِ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(حميد بن مَسْعدة) الباهلي البصري صدوق من العاشرة تقدم في 5/ 5.

2 -

(عمران بن موسى)(ت س ق) الفزاري

(1)

أبو عمرو البصري، صدوق، من العاشرة مات بعد الأربعين ومائتين. وفي (تت) روى عن حماد بن زيد وعبد الوارث ويزيد بن زريع، وعبد الواحد بن زياد، ومحمد بن سواء السدوسي، وعنه عمرو بن رباح العبدي، وقاسم المطرز، وآخرون. قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة، وقال

(1)

قوله الفزاري هكذا نسخة التقريب، والذي في (تت) و (خ) القزاز بالقاف وزايين، فيحرر.

ص: 271

في موضع آخر: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات. ووثقه مسلمة بن قاسم، والدارقطني. اهـ.

3 -

(عبد الوارث)(ع) بن سعيد بن ذكوان، العنبري، مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوري بفتح المثناة، وتشديد النون، البصري، ثقة ثبت، رمي بالقدر، ولم يثبت عنه، من الثامنة مات سنة 108. وفي (صة) عن عبد العزيز بن صهيب، وأبي التياح، وأيوب، وسليمان التيمي، وخلق، وعنه ابنه عبد الصمد، والقطان، وعفان بن مسلم، وخلائق، قال النسائي: ثقة ثبت، وقال الحافظ الذهبي: أجمع المسلمون على الاحتجاج به.

4 -

(شعيب بن الحبحاب)(خ م د ت س) الأزدي مولاهم، أبو صالح البصري، ثقة، من الرابعة، مات سنة إحدي وثلاثين ومائة، أو قبلها.

وفي (صة) عن أنس وأبي العالية. وعنه يونس بن عبيد، والحمادان قال ابن المديني: له نحو ثلاثين حديثًا. قال أحمد: ثقة.

5 -

(أنس بن مالك)(ع) بن النضر الأنصاري الخررجي، خادم

رسول الله صلى الله عليه وسلم خَدَمه عشر سنين، صحابي مشهور، مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة. وفي (صة) أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري النجاري، خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وذكر ابن سعد أنه شهد بدرا له ألف ومائتا حديث وستة وثمانون حديثا، اتفقا على مائة وثمانية وستين، وانفرد (خ) بثلاثة وثمانين، و (م) بأحد وسبعين، وروى عن طائفة من الصحابة، وعنه بنوه موسى والنضر، وأبو بكر، والحسن البصري، وثابت البناني، وسليمان التيمي، وخلق لا يحصون.

ص: 272

قال العجلي: كان به وَضَحٌ، مات سنة تسعين، أو بعدها، وقد جاوز المائة، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف، وقد تقدم في المقدمة أنها أعلى ما وقع له من الأسانيد. وهو أول رباعياته في هذا الكتاب.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء، بصريون، وهذا قلما يتفق في الأسانيد. أعنى كونه مسلسلا بالثقات من بلد واحد.

ومنها: أن أنسا آخر من مات من الصحابة بالبصرة كما مر آنفا، وأنه أحد الصحابة المكثرين السبعة [المتقدم ذكرهم] في 1/ 1، روى

(1)

2286 حديثًا، علي ما في مسند بقي بن مخلد كما حرره ابن الجوزي، انظر تعليق العلامة أحمد محمَّد شاكر على ألفية السيوطي في الحديث ص 220.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبارَ في أوله والتحديثَ في موضعين، والعنعنة في موضع، والقول في موضع.

شرح الحديث

"عن أنس بن مالك" الأنصاري رضي الله عنه أنه "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أكثرت عليكم" أي بالغت معكم "في السواك" أي استعمال السواك هذا إذا كان المراد من السواك الآلة، وإذا كان المراد منه الفعل فلا حاجة إلى التقدير. فافهم. قاله العيني في عمدته. جـ 5/ ص 265.

وقال الحافظ: قوله: "قد أكثرت عليكم"، أي بالغت في تكرير طلبه منكم، أو في إيراد الأخبار في الترغيب وقال ابن التين: معناه:

(1)

قوله: روى 2286 لا ينافي هذا ما تقدم في عبارة (صة) لأن ذلك بالنسبة لما في الكتب الستة، وهذا بالنسبة لما في مسند بقي بن مخلد.

ص: 273

أكثرت عليكم، وحقيق أن أفعل، وحقيق أن تطيعوا، وحكى الكرماني: أنه روى بضم أوله، أي بولغت من عند الله بطلبه منكم ولم أقف على هذه الرواية إلى الآن صريحة. اهـ فتح جـ 5/ ص 32.

وقال السندي: وفي هذا الإخبار ترغيب فيه وهذا بمنزلة التأكيد لما سبق من التكرير لمن علم به سابقا، وبمنزلة التكرير والتأكيد جميعًا لمن لم يعلم به، وفي بعض النسخ:"قد أكثرتم علي في السواك"، وهذا يقتضي أنهم طلبوا منه إيجابه، أو تخفيفه بأن يرفع تأكيد ندبه عنهم، أو أنهم عدوا ما قاله في شأنه، كثيرا، فقال لهم ذلك إنكارا عليهم ذلك اهـ كلام السندي جـ 1 / ص 12.

قال الجامع عفا الله عنه: وأشار في النسخة الهندية إلى أن في بعض النسخ: قد أُكثِرَت علي، وهذه النسخة إن صحت الرواية بها تكون بالبناء للمفعول، أي أكثرت على الترغيبات من الله تعالى. وهذه

النسخة التي ذكرها السندي تحتاج إلى التأكد في ثبوتها. والله أعلم.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث أنس أخرجه البخاري في الصحيح.

"المسألة الثانية" في بيان مواضعه عند المصنف:

أخرجه المصنف هنا 6/ 6 في المجتبى، و5/ 5 في الكبرى، عن حميد بن مسعدة وعمران بن موسى، كلاهما عن عبد الوارث، عن شعيب بن الحبحاب، عن أنس رضي الله عنه.

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه (خ) في الجمعة 325/ 2 عن أبي معمر هو عبد الله بن

ص: 274

عمرو، عن عبد الوارث، الخ. وأخرجه الدارمي في سننه 1/ 174 وأحمد في مسنده، 3/ 143، و 249، والبيهقي في سننه، 1/ 35.

"المسألة الرابعة" في فوائده:

يستفاد من هذا الحديث تكرار طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أمته المداومة علي السواك، فيكون من الأمور المتأكدة، فينبغي المحافظة عليه، وفيه شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم في نيل أمته رضا الله تعالى، كما قال تعالى:{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128] فهو صلى الله عليه وسلم ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، وحث إليه، ولا شرا إلا حذرها منه، وستأتي بقية الفوائد في الباب الآتي إن شاء الله تعالى.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 275

‌7 - الرُّخْصَةِ فِي السِّوَاكِ بِالْعَشِيِّ لِلصَّائِمِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية السواك بالعشي للصائم. وأراد المصنف بهذا الرد على من كره السواك للصائم بعد الزوال، ووجه استدلاله أنه لا مانع من إيجاب السواك عند كل صلاة إلا خوف لزوم المشقة، ويلزم منه كون الصوم غير مانع منه، وهذا استنباط دقيق، وتيقظ عجيب فلله دَرُّه ما أدق وأحد فهمه؛ رحمه الله أفاده السندي. وهذه الترجمة ترد قول من قال: إن النسائي شافعي المذهب، وقد تقدم تحقيق ذلك في المقدمة.

والمناسبة بين هذه الترجمة والتي قبلها ظاهر من حيث إن تلك تدل على إكثار الشارع والطلب للسواك من غير تحديد بوقت دون وقت، فيدخل فيه السواك وقت العشي.

قال الفيومي رحمه الله تعالى: رخُصَ الشيء رُخْصًا فهو رخيص من باب قَرُب، وهو ضد الغلاء، ويتعدى بالهمزة فيقال: أرخص الله السعر، وتعديته بالتضعيف فيقالَ: رخَّصه الله غير

(1)

معروف، والرُّخْص وزانَ قُفْل اسم منه، والرُّخصة وزان غرفة، وتضم الخاء للإتباع، ومثله ظلمة وظلُمة، وهدْنة وهدُنة، وقرْبة وقرُبة، وجمْعة وجمُعة، وخُلبة وخُلُبة، لليف، وجبْنة وجبنة لما يؤكل، وهدْبة وهدُبة الثوب. والجمع رُخَص، ورُخُصات مثل غُرَف وغُرُفات.

والرخصة: التسهيل في الأمر، والتيسير، يقال: رخَّص الشرع في

(1)

قوله غير معروف فيه نظر لما يأتي له من قوله: رخص الشرع ترخيصا وهو ما يقتضيه ظاهر عبارة (ق) فتنبه.

ص: 276

كذا ترخيصا وأرخص إرخاصا: إذا يسره وسهله. اهـ. المصباح.

قال الجامع عفا الله عنه: والمراد في قول المصنف الترخيص مطلق التسهيل لا أنه كان منهيا عنه ثم رخص فيه. فليست الرخصة هنا الرخصة عند الأصوليين، وهي الحكم المتغير من حيث تعلقه بالمكلف من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب الحكم الأصلي، كما إذا تغير من حرمة الفعل أو الترك إلى الحل. قاله في نشر البنود شرح مراقي السعود جـ 1/ ص 50.

والحاصل أن المراد هنا الرخصة اللغوية، وهي التسهيل والتوسيع المطلق، فتنبه.

7 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة حجة. تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك)(ع) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو، الأصبحي، أبو عبد الله، المدني، الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك، عن نافع، عن ابن عمر، من السابعة، مات سنة 179 وكان مولده سنة 93، وقال الواقدي: بلغ 90 سنة.

ص: 277

وفي (صة) أحد أعلام الإسلام وإمام دار الهجرة. عن نافع، والمقبري، ونعيم بن عبد الله، وابن المنكدر، ومحمد بن يحيى بن حَبَّان، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وأيوب، وزيد بن أسلم، وخلق. وعنه من شيوخه: الزهري، ويحيى الأنصاري، وممن مات قبله ابن جريج، وشعبة، والثوري، وخلق، وابن عيينة والقطان، وابن وهب وخلائق، آخرهم موتا أبو حذافة السهمي، قال الشافعي: مالك حجة الله تعالى على خلقه، قال ابن مهدي: ما رأيت أحدا أتم عقلا ولا أشد تقوى من مالك. وقال ابن المديني: له نحو ألفي حديث.

3 -

(أبو الزناد)(ع) عبد الله بن ذكوان القرشي أبو عبد الرحمن المدني، ثقة فقيه، من الخامسة، مات سنة 130 وقيل: بعدها.

وفي (صة) كان أحد الأئمة. عن أنس، وابن عمر، وعمر بن أبي سلمة مرسلًا، وعن الأعرج فأكثر، وابن المسيب، وطائفة. وعنه موسى بن عقبة، وعبيد الله بن عمر، ومالك والليث، والسفيانان، وخلق. قال أحمد: ثقة أمير المؤمنين، وقال أبو حاتم: ثقة فقيه صاحب سنة، وقال البخاري: أصح الأسانيد أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وقال الليث: رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة طالب. قال الواقدي: مات فجأة سنة ثلاثين ومائة. قال عمرو بن علي، وابن معين سنة احدي قال الحافظ شمس الدين الذهبي: ولي بعض أمور بني أمية فَتُكلم فيه لأجل ذلك، وهو ثقة حجة لا يعلق به جرح أخرج له الجماعة.

4 -

(الأعرج)(ع) عبد الرحمن بن هرمز أبو داود المدني، مولى ربيعة بن الحارث ثقة ثبت عالم، من الثالثة، مات سنة 117. وفي (صة) عبد الرحمن بن هرمز الهاشمي مولاهم، أبو داود المدني القارئ. عن أبي هريرة، ومعاوية، وأبي سعيد. وعنه الزهري، وأبو الزبير،

ص: 278

وأبو الزناد، وخلق، وثقه جماعة. قال أبو عبيد: توفي سنة 117 بالأسكندرية.

5 -

(أبو هريرة) اليماني الدوسي نقيب أهل الصفة، وأحفظ الصحابة، اسمه: عبد الله بن عمرو، أو عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه. تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، أجلاء وكلهم مدنيون إلا قتيبة، فبغلاني، وأنهم ممن اتفق الجماعة بالإخراج لهم.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي أبو الزناد، عن الأعرج.

ومنها: أنه من أصح الأسانيد في رواية عن البخاري كما تقدم قريبًا.

ومنها: أن أبا هريرة أحد المكثرين السبعة كما تقدم في 1/ 1 روى 5374.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبارَ والعنعنةَ، والقول.

شرح الحديث

"عن أبي هريرة، رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي" أي لولا أن أثقل عليهم، من المشقة، وهي الشدة. يقال: شق عليَّ الأمرُ يُشقّ شَقّا، ومَشَقّة، أي ثقل علي. قاله الأزهري. أفاده ابن منظور. في لسانه. وقال السندي: أي لولا خوف أن أشق، فلا يرد أن لولا لانتفاء الشيء لوجود غيره ولا مشقة هنا اهـ. جـ 1 / ص 12. وفي الكبري "على المؤمنين"، وفي "البخاري" "لولا أن أشق على أمتي، أو على الناس".

ص: 279

وقال البدر العيني رحمه الله: لولا كلمة ربط امتناع الثانية لوجود الأولى، نحو لولا زيد لأكرمتك، أي لولا زيد موجود، والمعنى ها هنا: لولا مخافة أن أشق لأمرتهم أمر إيجاب، وإلا لانعكس معناها، إذ

الممتنع المشقة، والموجود الأمر.

وقال البيضاوي: لولا كلمة تدل على انتفاء الشيء لثبوت غيره، والحق أنها مركبة من لو الدالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ولا النافية، فدل الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقة لأن انتفاء النفي

ثبوت، فيكون الأمر منفيا لثبوت المشقة. اهـ عمدة، 5/ 262.

وقوله: "أن أشق"، "أن" مصدرية وهي ومدخولها في محل رفع مبتدأ محذوف الخبر وجوبًا أي لولا المشقة، أي مخافتها، موجودة. "لأمرتهم" أي أمر إيجاب "بالسواك" أي باستعماله؛ لأن السواك هو الآلة، وقيل: يطلق على الفعل أيضا وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف. أفاده الحافظ.: "عند كل صلاة" أي عند إرادة كل صلاة فرضا أو نفلا، ورواية البخاري "مع كل صلاة"، وفي رواية مالك والشافعي والبيهقي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد، وذكره البخاري تعليقا في كتاب الصوم عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" والتوفيق بين الروايتين أن السواك الواقع عند الوضوء واقع للصلاة لأن الوضوء شُرع لها. هكذا قيل.

قال الجامع: في هذا التوفيق نظر لأنه يؤدي إلى أن السواك للوضوء يكفي للصلاة فلا يطلب لها، وهذا غير سديد، بل المعول عليه أنه يطلب السواك عند الوضوء وعند الصلاة عملا بالروايتين، كما أنه يطلب عند كل شيء يغير الفم لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم" أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 280

قال: السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب".

وقال الحافظ رحمه الله: واستدل بقوله: "عند كل صلاة" على استحبابه للفرائض والنوافل، ويحتمل أن يكون المراد الصلوات المكتوبة، وما ضاهاها من النوافل التي ليست تبعا لغيرها كصلاة العيد، وهذا اختاره أبو شامة، ويتأيد بقوله في حديث أم حبيبة عند أحمد بلفظ "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضئون"، وله من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك" فسوى بينهما، وكما أن الوضوء لا يندب للراتبة التي بعد الفريضة إلا أن طال الفصل مثلا، فكذلك السواك.

ويمكن أن يفرق بينهما بأن الوضوء أشق من السواك، ويتأيد بما رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين ثم ينصرف فيستاك" وإسناده صحيح، لكنه مختصر من حديث طويل أورده أبو داود، وبين فيه أنه تخلل بين الانصراف والسواك نوم. وأصل الحديث في مسلم مبينًا أيضا. اهـ فتح جـ 2/ ص 437.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي تعميم الاستحباب للفرائض والنوافل لظهور قوله: "عند كل صلاة" في ذلك.، وأما قوله: في حديث أم حبيبة "كما يتوضئون" فهو تشبيه في كونه مؤكدا كتأكد الوضوء للصلاة، لا التسوية في كل شيء بدليل أن السواك يطلب في حالة لا يطلب فيها الوضوء كدخول بيته، كما يأتي في حديث عائشة رضي الله عنها. والله أعلم.

وقال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله: الحكمة في استحباب السواك عند القيام إلى الصلاة كونها حالًا تقرب إلى الله، فاقتضى أن تكون حال

ص: 281

كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة، وقد قيل: إن ذلك لأمر يتعلق بالملك، وهو أنه يضع فاه على في القارئ، ويتأذى بالرائحة الكريهة، فسن السواك لأجل ذلك. اهـ كلام ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام جـ 1/ ص 277. بتصرف.

قال الجامع عفا الله عنه: أما وضع الملك فاه على فم القارئ ففيه حديث علي رضي الله عنه، أخرجه البزار بسند رجاله ثقات

(1)

كما قال الهيثمي مرفوعًا: "إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي قام الملك خلفه فيسمع لقراءته، فيدنو منه أو كلمة نحوها حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء إلا صار في جوف الملك، فطهروا أفواهكم للقرآن".

وأما كونه يتأذى بالرائحة الكريهة: فيدل له ما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "من أكل من هذه البقلة، الثوم" وقال مرة: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذي مما يتأذى منه بنو آدم". وسيأتي مزيد تحقيق لهذا البحث في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث أبي هريرة حديث متفق عليه.

"المسألة الثانية" في بيان مواضعه عند المصنف:

أخرجه المصنف في هذا الموضع 7/ 7 في المجتبى، و 6/ 6 في الكبرى، عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن

(1)

قوله: رجال ثقات، وقال العراقي: رجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه فضيل بن سليمان النمري وهو إن أخرج له البخاري ووثقه ابن حبان فقد ضعفه الجمهور.

ص: 282

أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أيضا برقم 534 من المجتبى.

(1)

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: أخرجه الأئمة الستة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من رواية الأعرج، والترمذي من رواية أبي سلمة، وابن ماجه من رواية سعيد المقبري كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال: واختلفت الرواة عن مالك في لفظه، فقال أبو مصعب وجماعة "ولأمرتهم بالسواك" يعني أنه لم يزد "مع كل صلاة أو نحوه" وكذا قال عبد الله بن يوسف، وزاد "مع كل صلاة" رواه البخاري من طريقه، وقال يحيى بن يحيى، وآخرون:"علي أمتي" فقط، ولم يقولوا "أو على الناس" وقال القعنبي، وأيوب بن صالح:"على المؤمنين، أو على الناس" وكذا قال معن بن عيسى، وزاد في روايته أيضا:"عند كل صلاة" وزاد أيضا قتيبة عن مالك في روايته: "عند كل صلاة" كما رواه النسائي، وكذا قال ابن عيينة عن أبي الزناد، كما رواه مسلم وغيره، وقد رواه جماعة عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد، عن أبي هريرة مرفوعا فزادوا فيه "مع كل وضوء" كذا رواه عن مالك الشافعي في رواية حرملة، وروح بن عبادة، وبشر بن عمر الزهراني، وإسماعيل بن أبي أويس، ورواه النسائي من رواية بشر بن عمر، والبيهقي من رواية روح، وإسماعيل، وقد ذكرها البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما، فقال: وقال أبو هريرة، ووصلها ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وصححها، وهي في الموطأ موقوفة على أبي هريرة، وليس في بعض الروايات ذكر الوضوء، وفي بعضها ذكره على الشك

(1)

ففي رقم 534، عن محمَّد بن منصور، عن سفيان عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة".

ص: 283

بينه وبين الصلاة. اهـ كلام العراقي رحمه الله تعالى طرح جـ 2/ ص 62.

وقال الحافظ رحمه الله في التلخيص: قال ابن منده: وإسناده يعني إسناد حديث "لولا أن أشق" الخ مُجْمَع على صحته، وقال النووي: غلط بعض الأئمة الكبار، فزعم أن البخاري لم يخرجه، وهو خطأ منه، وليس في الموطأ من هذا الوجه، بل فيه عن ابن شهاب، عن حميد، عن أبي هريرة، قال:"لولا أن يشق علي أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء". ولم يصرح برفعه. قال ابن عبد البر: وحكمه الرفع، وقد رواه الشافعي عن مالك مرفوعًا.

وفي الباب عن زيد بن خالد رواه الترمذي، وأبو داود، وعن علي رواه أحمد، وعن أم حبيبة رواه أحمد أيضا، وعن عبد الله بن عمرو، وسهل بن سعد، وجابر، وأنس، رواها أبو نعيم في كتاب السواك، وإسناد بعضها حسن، وعن ابن الزبير رواه الطبراني، وعن ابن عمر، وجعفر بن أبي طالب رواهما الطبراني أيضا. اهـ كلام الحافظ في التلخيص جـ 1/ ص 368 من هامش المجموع.

وزاد العلامة الألباني: جماعة آخرين: العباس بن عبد المطلب، عند الحاكم، وأحمد، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد بسند صحيح، وزينب بنت جحش عند أحمد، وعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وله رؤية رواه أبو داود والحاكم وغيرهما بسند حسن. أفاده في الإرواء جـ 1/ ص 110، 111.

"المسألة الرابعة" في اختلاف العلماء في حكم السواك:

قال الحافظ رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في السواك هل هو واجب أم سنة؛ فذهب أكثر أهل العلم إلى عدم وجوبه، بل ادعى

ص: 284

بعضهم فيه الإجماع، وحكى الشيخ أبو حامد، والماوردي عن إسحاق ابن راهويه أنه قال: هو واجب لكل صلاة فمن تركه عامدا بطلت صلاته، وعن داود أنه واجب، ولكنه ليس بشرط، واحتج من قال: بوجوبه بورود الأمر به، فعند ابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعا "تَسَوَّكُوا" ولأحمد نحوه من حديث العباس، وفي الموطأ في أثناء حديث "عليكم بالسواك" ولا يثبت شيء منها، وعلى تقدير الصحة فالمنفي في مفهوم حديث الباب الأمر به مقيدا بكل صلاة لا مطلق الأمر، ولا يلزم من نفي المقيد نفي المطلق، ولامن ثبوت المطلق التكرار. اهـ فتح جـ 5/ ص 31.

وقال النووي رحمه الله: وقد أنكر أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد وغيره نقل الوجوب عن داود، وقالوا: مذهبه أنه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه عن داود لم يضر مخالفته في انعقاد الإجماع

على المختار الذي عليه المحققون والأكثرون. قال: وأما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه انتهى كلام النووي في شرح مسلم جـ 3/ ص 142.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الكلام لا يليق بجلالة النووي فإن الإمام داود بن علي الظاهري رحمه الله تعالى جبل من جبال العلم، فكيف لا تعد مخالفته ضارة في انعقاد الإجماع، فانظر ترجمته في كتب الرجال تَرَ حاله ودرجته بين العلماء الأعلام، ففي طبقات الحفاظ للسيوطي: داود بن علي بن خلف الحافظ الفقيه المجتهد إلى أن قال: وصنف التصانيف

(1)

، وكان بصيرا بالحديث صحيحه وسقيمه، إمامًا

(1)

من تصانيفه كتاب الإيضاح، وكتاب الإفصاح، كتاب الأصول، كتاب الدعاوى، كتاب كبير في الفقه، كتاب الذب عن السنة والأخبار أربع مجلدات، كتاب الرد على أهل الإفك، صفة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب الإجماع، كتاب إبطال القياس، كتاب خبر الواحد، وبعضه موجب للعلم، كتاب الإيضاح خمسة عشر مجلدا، كتاب المتعة، كتاب إبطال التقليد، وغيرها، كتاب المعرفة، كتاب العموم والخصوص، وغيرها، اهـ سير أعلام النبلاء جـ 13/ ص 104.

ص: 285

ورعًا ناسكًا زاهدًا كان في مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان. اهـ.

وفي سير أعلام النبلاء: الإمام البحر الحافظ العلامة عالم الوقت أبو سليمان البغدادي المعروف بالأصفهاني مولى أمير المؤمنين المهدي رئيس أهل الظاهر. اهـ جـ 13/ ص 97.

قال الجامع: فإذا كان مثل داود مع جلالته لا يعتد في الإجماع وعدمه خلافه، فَمَن الذي يعتد به في ذلك؟ هيهات هيهات.

وبالجملة فهذا الكلام هفوة طغَى بها القلم من غير استشعار بما فيها من الألم. وقد سبق النوويَّ جماعة في هذا الكلام، ذكرهم الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء.

ولقد أجاد العلامة الشوكاني في الرد علي هذا القول حيث قال:

وعدم الاعتداد بخلاف داود مع علمه وورعه وأخذ جماعة من الأئمة بمذهبه من التعصبات التي لا مستند لها إلا مجرد الهوى والعصبية، وقد كثر هذا الجنس في أهل المذاهب وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة علماء المسلمين، فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة فهي بالنسبة الي مقالات غيره المؤسسة على محض الرأي المضادَّة لصريح الرواية في حيِّز القلة المتبالغة، فإن التعويل على الرأي وعدم الاعتناء بعلم الأدلة قد أفضى بقوم إلى التمذهب بمذاهب لا يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر، وأما داود فما في مذهبه من البدع التي أوقعه فيها تمسكه الظاهر وجموده عليه هي في غاية الندرة، ولكن:

لهَوَى النُّفُوس سَريرَةٌ لا تُعلَمُ

اهـ كلام الشوكاني في نيله جـ 1/ ص 159.

وقال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء في هذا البحث كلامًا

ص: 286

نفيسًا، وهاك نصه: قال رحمه الله تعالى: للعلماء قولان في الاعتداد بخلاف داود وأتباعه: فمن اعتد بخلافهم قال: ما اعتدادُنا بخلافهم لأن مفرداتهم حجة بل لتُحْكَى في الجملة، وبعضها سائغ، وبعضها قوي، وبعضها ساقط، ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني، وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي.

ومن أهدرهم، ولم يعتدَّ بهم، لم يعدهم في مسائلهم المفردة خارجين بها من الدين ولا كَفَّرَهم بها، بل يقول: هؤلاء في حيز العوام، أوهم كالشيعة في الفروع، ولا نلتفت إلى أقوالهم، ولا ننصب معهم الخلاف، ولا يُعْتَنَى بتحصيل كتبهم، ولا ندل مستفتيا من العامة عليهم، وإذا تظاهروا بمسألة معلومة البطلان، كمسح الرجلين، أدبناهم، وعزرْناهم، وألزمناهم بالغسل جزمًا.

قال الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: قال الجمهور: إنهم يعني نفاة القياس لا يبلغون رتبة الاجتهاد، ولا يجوز تقليدهم القضاء. ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي عن أبي علي بن أبي هريرة، وطائفة من الشافعية، أنه لا اعتبار بخلاف داود، وسائر نفاة القياس في الفروع دون الأصول. وقال إمام الحرمين أبو المعالي: الذي ذهب إليه أهل التحقيق: أن منكري القياس لا يعدون من علماء الأمة، ولا من حملة الشريعة لأنهم معاندون مباهتون فيما ثبت استفاضة وتواترا؛ لأن معظم الشريعة صادر عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها

(1)

وهؤلاء ملتحقون بالعوام.

قال الذهبي: هذا القول من أبي المعالي أداه إليه اجتهاده وهم أداهم

(1)

قلت: كلام أبي المعالي هذا اعتداء على الشرع، كيف لا تفي النصرص بعشر معشارها يا للعجب هذا كلام من لم يتتبع النصوص، فإنها كافلة حافلة لأكثر الأحكام لا لعشر معشارها، وما احتاج الأئمة إلى القياس إلا في بعض المسائل فالأمر بالعكس، فتنبه.

ص: 287

اجتهادهم إلى نفي القول بالقياس، فكيف يرد الإجتهاد بمثله، وندري بالضرورة أن داود كان يقرىء مذهبه، ويناظر عليه، ويفتي به في مثل بغداد، وكثرة الأئمة بها وبغيرها، فلم نرهم قاموا عليه، ولا أنكروا فتاويه ولا تدريسه، ولا سعوا في منعه من بثه، وبالحضرة مثل إسماعيل القاضي شيخ المالكية، وعثمان بن بشار الأنماطي شيخ الشافعية، والمروذي شيخ الحنبلية، وابني الأمام أحمد، وأبي العباس أحمد بن محمَّد البرْتي

(1)

، شيخ الحنفية، وأحمد بن أبي عمران القاضي، ومثل عالم بغداد إبراهيم الحربي. بل سكتوا له، حتى لقد قال قاسم بن أصبغ: ذاكرت الطبري يعني ابن جرير وابن سريج، فقلت لهما: كتاب ابن قتيبة في الفقه أين هو عندكما؟ قالا: ليس بشيء، ولا كتاب أبي عبيد، فإذا أردت الفقه فكتب الشافعي، وداود ونظرائهما.

ثم كان بعده ابنه أبو بكر، وابن المغلس، وعدة من تلامذة داود، وعلى أكتافهم مثل ابن سريج شيخ الشافعية، وأبي بكر الخلال شيخ الحنبلية، وأبي الحسن الكرخي شيخ الحنفية، وكان أبو جعفر الطحاوي بمصر، بل كانوا يتجالسون ويتناظرون، ويبرُزُ كل منهم بحججه، ولا يسعون بالداودية إلى السلطان، بل أبلغ من ذلك، ينصبون معهم الخلاف في تصانيفهم قديما وحديثا، وبكل حال فلهم أشياء أحسنوا فيها، ولهم مسائل مستهجنة يشغب عليهم بها، وإلى ذلك يشير الإمام أبو عمرو بن الصلاح حيث يقول: الذي اختاره الأستاذ أبو منصور، وذكر أنه الصحيح من المذهب أنه يعتبر خلاف داود، ثم قال ابن الصلاح: وهذا الذي استقر عليه الأمر آخرا، كما هو الأغلب الأعرف من صفوة الأئمة المتأخرين الذين أوردوا مذهب داود في مصنفاتهم المشهورة، كالشيخ أبي حامد الاسفراييني، والماوردي، والقاضي أبي

(1)

بكسر فسكون قرية بنواحي بغداد اهـ لباب.

ص: 288

الطيب، فلولا اعتدادهم به لما ذكروا مذهبه في مصنفاتهم المشهورة.

قال يعني ابن الصلاح: وأرى أن يعتبر قوله إلا فيما خالف فيه القياس الجلي، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه، أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها، فاتفاق من سواه إجماع منعقد، كقوله في التغوط في الماء الراكد، وتلك من المسائل الشنيعة، وقوله: لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها، فخلافه في هذا أو نحوه غير معتد به، لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه.

قال الذهبي: لا ريب أن كل مسألة انفرد بها، وقطع ببطلان قوله فيها، فإنها هدر وإنما نحكيها للتعجب، وكل مسألة لها عاضد نص، وسبقه إليها صاحب أو تابع فهي من مسائل الخلاف، فلا تهدر.

وفي الجملة: فداود بن علي بصير بالفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، رأس في معرفة الخلاف، من أوعية العلم، له ذكاء خارق، وفيه دين متين، وكذلك في فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر، وذكاء قوي، فالكمال عزيز، والله الموفق.

ونحن نحكي قول ابن عباس في المتعة، وفي الصرف، وفي إنكار العول، وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج، وأشباه ذلك، ولا نجوز لأحد تقليدهم في ذلك.

قال ابن كامل: مات داود في شهر رمضان سنة 270.اهـ سير أعلام النبلاء جـ 13/ ص 104، 108.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الكلام الذي قرره الحافظ الذهبي رحمه الله كلام نفيس جدا عض عليه بناجذيك، ولا تلتفت إلى كلام الآخرين فلا خير فيه أصلا. والله تعالى أعلم.

ولنعد إلى الكلام في أقاويل العلماء في حكم السواك:

ص: 289

قال الحافظ العراقى: فإن قال قائل: إن في حديث الباب يعني حديث لولا أن أشق أنه لم يأمرهم، وقد ورد في أحاديث أخر أنه أمرهم بذلك، فروى ابن ماجه من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"استاكوا، فإن السواك مطهرة للفم" .. الحديث، وروى البزار في مسنده من حديث العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تدخلون علي قُلْحا

(1)

استاكوا"، ورواه أحمد في مسنده من حديث تمام بن العباس بلفظ: "مالي أراكم تأتوني قلحا؟ استاكلوا"، ورواه البيهقي في سننه من حديث ابن عباس بلفظ "تدخلون علي قلحا استاكوا"، وروى البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس مرفوعًا "عليك بالسواك فإنه مطهرة للفم"

الحديث:

والجواب عنه من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الأحاديث التي ورد فيها الأمر لا يصح منها شيء، أما حديث أبي أمامة ففيه علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف جدا، وأما حديث العباس، وحديث تمام، وحديث ابن عباس الأول أيضا ففيها أبو علي الصيقلي وهو مجهول، قاله ابن السكن، وغيره، وأما حديث ابن عباس الأخير فتفرد به الخليل بن مرة، وهو منكر الحديث كما قال البخاري.

والوجه الثاني: أن حديث الباب ليس المنفى فيه مطلق الأمر بل الأمر الذي هو للوجوب بدليل رواية البيهقي في بعض طرق حديث أبي هريرة "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الوضوء" الحديث، وأيضا فحديث أبي أمامة الذي فيه الأمر قال في تتمة الحديث: "ولولا أني أخاف أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك كما فرضت

(1)

بضم فسكون جمع أقلح من القَلَح، وهو تغير الأسنان بصفرة، أو خضرة، كما في المصباح.

ص: 290

عليهم الوضوء" وكذا قال البيهقي في السنن في حديث ابن عباس: "مالي أراكم تأتوني قلحا، لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك" .. الحديث، فدل ذلك علي تقدير ثبوتها على أن المنفي أمر الإيجاب، لا الأمر الذي محمله الندب.

والوجه الثالث: أن بعض الروايات، وإن دلت على أن المنفي الأمر بمطلق السواك فقد دلت رواية الشيخين، والنسائي، وغيرهم على تقييد ذلك بكونه مع كل صلاة، والمنفي مع القيد غير المنفي مطلقا، وليس في قوله: "لولا أن أشق لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، أو عند كل وضوء، أنه لم يأمرهم به، ولو في اليوم مرة، أو في الشهر، أو في السنة أو في العمر، فلا تعارض حينئذ. والله أعلم.

"المسألة الخامسة" قال الحافظ العراقي رحمه الله: استدل به أيضا على أن المندوب ليس مأمورا به، وفيه خلاف بين الأصوليين، قال صاحب المفهم: والصحيح أنه مأمور به؛ لأنه قد اتفق على أنه مطلوب، ومقتضاه كما حكاه أبو المعالي

(1)

، قال النووي: ويقال: في هذا الاستدلال ما قدمناه في الاستدلال على الوجوب. اهـ طرح جـ 2/ ص 64.

"المسألة السادسة" قال الحافظ رحمه الله تعالى: استدل به على أن الأمر يقتضي التكرار لأن الحديث دل على كون المشقة هي المانعة من الأمر بالسواك، ولا مشقة في وجوبه مرة، وإنما المشقة في وجوب

التكرار، وفي هذا البحث نظر؛ لأن التكرار لم يؤخذ هنا من مجرد الأمر، وإنما أخذ من تقييده بكل صلاة. اهـ فتح جـ 5/ ص 32.

"المسألة السابعة" قال المهلب رحمه الله تعالى: في هذا الحديث أن

(1)

قوله: ومقتضاه كلما حكاه أبو المعالي. هكذا نسخة الطرح، وهو كلام فيه سقط فليحرر. والله أعلم.

ص: 291

المندوبات ترتفع إذا خشي منها الحرج. نقله في الفتح جـ 5/ ص 32.

"المسألة الثامنة" أنه استدل بهذا الحديث من قال بجواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، قال النووي: وهو مذهب أكثر الفقهاء أصحاب الأصول، وهو الصحيح المختار.

ووجه الاستدلال كما قال ابن دقيق العيد: أنه جعل المشقة سببا لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقفا على النص لكان سبب الوجوب عدم ورود النص، لا وجود المشقة. قال: وفيه بحث. قال الحافظ وهو كما قال، ووجهه أي وجه البحث أنه يجوز أن يكون إخبارًا منه صلى الله عليه وسلم بأن سبب عدم ورود النص وجود المشقة، فيكون معني قوله:"لأمرتهم"، أي عن الله بأنه واجب. قاله في الفتح جـ 5/ ص 32.

وكتب العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى في حاشيته العدة على كلام ابن دقيق العيد هذا: ما نصه: أقول: في صحة الاستدلال به على ما ذكر من الإجتهاد بأن يقال: لا نسلم أن العلة في عدم الأمر هي وجود المشقة، لم لا تكون هي عدم أمر الله به؟ والحكمة في عدم أمره تعالى بإيجاب السواك هي المشقة فعلل صلى الله عليه وسلم بعلة العلة مع عدم كمال الإثابة عليه كإثابة الصلاة والجهاد، فلا يقال هذا ينافي ما سلف من أنه وقع التكليف بما فيه مشقة، وحينئذ فيكون المراد لولا عدم أمر الله بإيجاب السواك لأعلمتكم بوجوبه، لكنه تعالى لم يوجبه إبقاء عليكم

(1)

من المشقة، وتكون فائدة هذا الإخبار منه صلى الله عليه وسلم الحث على السواك، وأنه لو أمر بإبلاغ الأمة إيجابه لأبلغهم، ولما سأل التخفيف عنهم في شأنه، والإعلام بأنه تعالى رؤف بعباده مخفف عنهم التكاليف لطفا بهم ورفقا، وإلا فأسباب الإيجاب متعددة، وعلى هذا فلا دلالة في الحديث على ما ذكره. اهـ العدة جـ 1/ ص 280.

(1)

أي رفقًا بكم.

ص: 292

"المسألة التاسعة" أنه استدل المصنف: والبخاري، وغيرهما رحمهم الله تعالى بعموم رواية الصحيحين والمصنف "عند كل صلاة" ورواية المصنف، وابن خزيمة والحاكم "عند كل وضوء" على استحباب السواك للصائم بعد الزوال، عند صلاة الظهر وصلاة العصر، وعند الوضوء في ذلك الزمن. وهو قول الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والمزني، وأكثر العلماء، وقال النووي في شرح المهذب: إنه المختار، وقد روى أبو داود، والترمذي، وحسنه من حديث عامر بن ربيعة قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسوك ما لا أحصي وهو صائم"، وقال الشافعي رحمه الله: يكره بعد الزوال للصائم، قال ابن دقيق العيد: ويحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به ذلك العموم، وهو حديث الخلوف، وفيه بحث. انتهى نقله العراقي في طرحه جـ 2/ ص 65.

قال الجامع: ويأتي تمام البحث في هذه المسألة في المسألة التالية إن شاء الله.

"المسألة العاشر" في مذاهب العلماء في السواك للصائم بعد الزوال:

قال النووي رحمه الله تعالى: مشهور مذهبنا أنه يكره له بعد الزوال، وحكاه ابن المنذر عن عطاء، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكاه

(1)

ابن الصباغ أيضا عن ابن عمر، والأوزاعي، ومحمد بن الحسن، قال ابن المنذر: ورخص فيه في جميع النهار النخعي، وابن سيرين، وعروة بن الزبير، ومالك، وأصحاب الرأي، قال: ورُوي ذلك عن عمر، وابن عباس، وعائشة، رضي الله عنهم.

واحتج القائلون بأنه لا يكره في جميع النهار: بالأحاديث الصحيحة

(1)

قوله: وحكاه ابن الصباغ عن ابن عمر الثابت عنه خلافه، كما قال البخاري في باب اغتسال الصائم، وقال ابن عمر: يستاك أول النهار وآخره، نعم حكلاه الموفق في المغني عن عمر ثم حكى عن عمر رواية أخرى أنه لا يكره، قاله الأذرعي، اهـ هامش المجموع.

ص: 293

في فضله، ولم ينه عنه، واحتجوا بما رواه أبو إسحاق إبراهيم بن بيطار الخوارزمي، قال: قلت لعاصم الأحول: أيستاك الصائم أول النهار وآخره؟ قال: نعم، قلت: عمن؟ قال: عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ولأنه طهارة للفم فلم يكره في جميع النهار كالمضمضة.

قال: واحتج أصحابنا يعني الشافعية بحديث أبي هريرة في الخلوف، وهو صحيح وبحديث عن خَبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي، فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانتا نورًا بين عينيه يوم القيامة" رواه البيهقي، ولكنه ضعيف، وبين ضعفه.

واحتجوا بأنه أثر عبادة مشهود له بالطيب، فكره إزالته، كدم الشهيد، وأجابوا عن أحاديث فضل السواك بأنها عامة مخصوصة، والمراد بها غير الصائم آخر النهار، وعن حديث الخوارزمي بأنه ضعيف باتفاقهم، وعن المضمضة بأنها لا تزيل الخلوف بخلاف السواك. اهـ المجموع جـ 1 / ص 279. بتغيير يسير.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله: في شرح حديث عامر بن ربيعة المتقدم: ما نصه: والحديث يدل على استحباب السواك للصائم من غير تقييد بوقت دون وقت، وهو يرد على الشافعي قوله بالكراهة بعد الزوال للصائم مستدلا بحديث الخلوف.

وقد نقل الترمذي أن الشافعي قال: لا بأس بالسواك للصائم أول النهار وآخره، واختاره جماعة من أصحابه: منهم أبو شامة، وابن عبد السلام، والنووي، والمزني، قال ابن عبد السلام في قواعده الكبرى: وقد فضل الشافعي تحمل الصائم مشقة رائحة الخلوف على إزالته بالسواك مستدلا بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولا يوافَقُ

ص: 294

الشافعي على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية، ألا ترى أن الوتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر مع قوله عليه الصلاة والسلام:"ركعتا الفجر خير من الدنيا، وما فيها"، وكم من عبادة قد أثنى الشارع عليها، وذكر فضيلتها، وغيرها أفضل منها، وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما فإن السواك نوع من التطهر المشروع لأجل الرب سبحانه؛ لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه، ولأجله شرع السواك، وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، فكيف يقال: إن فضيلة الخلوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه، إلى أن قال: والذي ذكره الشافعي رحمه الله تخصيص للعام بمجرد الاستدلال المذكور المُعَارَض بما ذكرناه.

وقال الحافظ في التلخيص: استدلال أصحابنا بحديث خلوف الصائم علي كراهة الاستياك بعد الزوال لمن يكون صائما فيه نظر، لكن في رواية للدارقطني عن أبي هريرة قال: لك السواك إلى العصر، فإذا صليت فألقه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لخلوف فم الصائم" الحديث، قال: وقد عارضه حديث عامر بن ربيعة يعني الحديث المتقدم.

وقال: وفي الباب حديث على "إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي، فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانتا له نورًا بين عينيه يوم القيامة"، أخرجه البيهقي، قال الحافظ: وإسناده ضعيف. انتهى، وقول أبي هريرة مع كونه لا يدل على المطلوب لا حجة فيه على أن فيه عمر بن قيس وهو متروك، وكذلك حديث علي مع ضعفه لم يصرح فيه بالرفع، فالحق أنه يستحب السواك للصائم أول النهار وآخره، وهو مذهب الجمهور. اهـ نيل الأوطار جـ 1/ ص 165.

ص: 295

"المسألة الحادية عشرة" قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:

فرع يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "لخلوف

(1)

فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك": وكان وقع نزاع بين الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، والشيخ أبي محمَّد بن عبد السلام رضي الله عنهما في أن هذا الطيب في الدنيا والآخرة، أم في الآخرة خاصة؟ فقال أبو محمَّد في الآخرة خاصة، لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم "والذي نفس محمَّد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة" وقال أبو عمرو: هو عام في الدنيا والآخرة، واستدل بأشياء كثيرة منها ما جاء في المسند الصحيح لأبي حاتم بن حبان بكسر الحاء البستي، قال: باب في كون ذلك يوم القيامة، وباب في كونه في الدنيا، وروى في هذا الباب بإسناده الثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لخلوف فم الصائم حين يخلف أطيب عند الله من ريح المسك" وروى الإمام الحسن بن سفيان في مسنده عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا" قال: "وأما الثانية فإنهم يمسون، وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك" وروى هذا الحديث الإمامُ الحافظ أبو بكر السماعاني في أماليه، وقال: هو حديث حسن، فكل واحد من الحديثين مصرح بأنه في وقت وجود الخلوف في الدنيا يتحقق وصفه بكونه أطيب عند الله من ريح المسك، قال: وقد قال العلماء شرقا وغربا معنى ما ذكرته في تفسيره، قال الخطابي طيبه عند الله رضاه به، وثناؤه عليه، وقال ابن عبد البر: معناه: أزكى عند الله تعالى وأقرب إليه، وأرفع عنده من ريح المسك، وقال البغوي في شرح السنة: معناه الثناء على الصائم، والرضا بفعله، وكذا قاله الإمام القدوري إمام الحنفية في كتابه في الخلاف: معناه أفضل

(1)

قوله: لخلوف: بضم الخاء واللام هو تغير رائحة الفم، ولا يجوز فتح الخاء، يقال: خَلَفَ فم الصائم بفتح الخاء واللام يخلف بضم اللام، وأخلف يُخلف إذا تغير. اهـ المجموع.

ص: 296

عند الله من الرائحة الطيبة، ومثله قال البوني من قدماء المالكية، وكذا قال الإمام أبو عثمان الصابوني، وأبو بكر السمعاني، وأبو حفص ابن الصفار الشافعيون في أماليهم، وأبو بكر بن العربي المالكي، وغيرهم، فهؤلاء أئمة المسلمين شرقا وغربا لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر أحد منهم وجها بتخصيصه بالآخرة مع أن كتبهم جامعة للوجوه المشهورة والغريبة، ومع أن الرواية التي فيها ذكر يوم القيامة مشهورة في الصحيح بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا، والقبول، ونحوهما هو ثابت في الدنيا والآخرة، وأما ذكر يوم القيامة في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان علي المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبا لرضا الله تعالى، حيث يؤمر باجتنابها، واجتلاب الرائحة الطيبة، كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات، فخص يوم القيامة بالذكر في رواية لذلك كما خص في قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] وأطلق في باقي الروايات نظرا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين، كما سبق تقريره، هذا مختصر ما ذكر الشيخ أبو عمرو رحمه الله. اهـ المجموع. جـ 1 / ص 279.

"المسأله الثانية عشرة" قال الحافظ العراقي رحمه الله: استدَلَّ بقوله: "مع كل وضوء" من ذهب إلى أن السواك من سنن الوضوء، وهو أحد الوجهين لأصحابنا قال الرافعي: وهو الوجه، ولم يعده

كثيرون من سننه، وإن كان مندوبًا في ابتدائه. اهـ طرح جـ 2/ ص 65.

وقال العلامة شمس الحق رحمه الله في غاية المقصود: ما لفظه: وأحاديث الباب مع ما أخرجه مالك، وأحمد، والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وذكره البخاري تعليقا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء"، تدل على مشروعية السواك عند كل وضوء، وعند كل صلاة، فلا حاجة إلى

ص: 297

تقدير العبارة بأن يقال: أي عند كل وضوء لصلاة كما قدرها بعض الحنفية، بل في هذا رد للسنة الصحيحة الصريحة، وهي السواك عند الصلاة، وعلل بأنه لا ينبغي عمله في المساجد لأنه من باب إزالة المستقذرات وهذا التعليل مردود؛ لأن الأحاديث دلت علي استحبابه عند كل صلاة، وهذا لا يقتضي أن لا يعمل إلا في المساجد حتى يتمشى هذا التحليل بل يجوز أن يستاك ثم يدخل المسجد للصلاة، كما روى الطبراني في معجمه عن صالح بن أبي صالح، عن زيد بن خالد الجهني، قال:"ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك" انتهى، وإن كان في المسجد فأراد أن يصلي جاز أن يخرج

(1)

من المسجد ثم يستاك ثم يدخل، ويصلي، ولو سلم فلا نسلم أنه من باب إزالة المستقذرات كيف وقد تقدم أن زيد بن خالد الجهني "كان يشهد الصلوات في المساجد، وسواكه علي أذنه موضع القلم من أذن الكاتب لا يقوم إلى الصلاة إلا استن، ثم رده إلى موضعه، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سُوكُهم خلف آذانهم يستنون بها لكل صلاة، وأن عبادة بن الصامت، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يروحون والسواك على آذانهم، انتهى. اهـ تحفة الأحوذي جـ 1 / ص 104.

"المسألة الثالثة عشرة" قال الحافظ العراقي رحمه الله: في رواية الصحيحين استحباب السواك عند كل صلاة وهو كذلك، وحكى ابنُ عبد البر في التمهيد عن الأوزاعي، عمن أدركه من أهل العلم تأكده عند صلاتي الصبح والظهر، وقد روى أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك من حديث عائشة مرفوعًا "صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك"، قال الحاكم صحيح على شرط مسلم، وتعقبه ابن الصلاح

(1)

قوله: جاز أن يخرج من المسجد الخ، هذا قول باطل، لا دليل عليه، بل الدليل بعكسه، فلا يتشاغل بمثل هذا القول، وقد تقدم البحث عنه في المسألة الرابعة من شرح الحديث الخامس.

ص: 298

في مشكل الوسيط، والنووي في شرح المهذب بأنه من رواية ابن إسحاق بالعنعنة، وهو مدلس فلا يصح، زاد النووي والمدلس إذا لم يذكر سماعه لم يحتج به بلا خلاف، قال العراقي: وقوله: بلا خلاف ليس بجيد، بل فيه الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وأولى بالصحة لاحتمال عدم سقوط أحد، وممن صرح بجريان الخلاف فيه ابن الصلاح، وغيره، والله أعلم وضعف يحيى بن معين أيضا، الحديث المذكور. اهـ طرح جـ 1 / ص 65.

وقال الحافظ في تعداد أحاديث السواك، ومنها حديث عائشة "فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفا" رواه أحمد، وابن خزيمة، والحاكم، والدارقطني، وابن عدي، والبيهقي في الشعب، وأبو نعيم، ومداره عندهم على ابن إسحاق، ومعاوية بن يحيى الصدفي كلاهما عن الزهري، عن عروة، لكن رواه أبو نعيم من طريق ابن عيينة، عن منصور، عن الزهري، ولكن إسناده إلى ابن عيينة فيه نظر فإنه قال: ثنا أبو بكر الطلحي، ثنا سهل بن المرزبان، عن محمَّد التميمي الفارسي، عن الحميدي، عن ابن عيينة، فينظر في إسناده، ورواه الخطيب في المتفق والمفترق من حديث سعيد بن عفير، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من وجه آخر، عن أبي الأسود إلا أن فيه الواقدي، وله طريق أخرى رواها أبو نعيم من طريق فرج بن فضالة، عن عروة بن رويم، عن عائشة، وفرج ضعيف، ورواه ابن حبان في الضعفاء من طريق مسلمة بن علي عن الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، ومسلمة: ضعيف. قال: وإنما يُروى هذا عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية مرسلًا، قال الحافظ: قلت: بل معضلا، وقال يحيى ابن معين: هذا الحديث لا يصح له إسناد، وهو باطل، قال الحافظ:

ص: 299

قلت: رواه أبو نعيم من حديث ابن عمر، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث جابر، وأسانيدها معلولة اهـ تلخيص جـ 1/ ص 378 هامش المجموع.

"المسألة الرابعة عشرة" ذهب بعضهم إلى أن السواك كان واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرًا أو غير طاهر، فلما شق عليه أمر بالسواك لكل صلاة". وفي إسناده محمَّد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة، وهو مدلس، وحجة من لم يجعله واجبا عليه ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي أمامة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما جاءني جبريل إلا وصاني بالسواك حتى لقد خشيت أن يفرض علي، وعلى أمتي". الحديث، وإسناده ضعيف، وروى أحمد في مسنده من حديث واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرتُ بالسواك حتى لقد خشيت أن يكتب علي". وإسناده حسن، والخصائصُ لا تثبت إلا بدليل صحيح. اهـ طرح التثريب في شرح التقريب جـ 2/ ص 70.

"المسألة الخامسة عشرة" في هذا الحديث بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الشفقة علي أمته، قاله الحافظ. وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: فيه دليل على فضل التيسير في أمور الديانة، وأن ما يشق منها مكروه، قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما. أفاده في الطرح جـ 2/ ص 70.

"المسألة السادسة عشرة" قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: إن قيل: قد روى أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح في هذا الحديث:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة"، وفي رواية للبيهقي:"ولأخرت العشاء إلى نصف الليل. وفي رواية له "إلى ثلث الليل، أو نصفه"، فلم ذهبتم إلى تأكد السواك عند الصلاة

ص: 300

لو لم تذهبوا إلى استحباب تأخير العشاء، بل قلتم: تقديمها أفضل على الأظهر، كما قاله الرافعي، والنووي، مع أن كلا منهما عُلِّلَ فيه ترك الأمر بالمشقة؟.

والجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على السواك فأجمعوا لذلك على استحبابه، ولم يواظب على تأخير العشاء، بل كان الغالب عليه تقديمها، وأخرها مرة قبل أن يفشوا الإسلام، وكان يؤخرها أحيانا دون ذلك، فكان الأفضل تقديمها لغلبة ذلك من فعله.

والوجه الثاني: أن الأمر الذي تركه لخشية المشقة ليس مستويا في الصورتين، بل الأمر الذي يتعلق بالسواك أمر إيجاب وفرض، كما نص عليه في قوله:"لفرضت عليكم السواك" كما تقدم، فإنما ترك الأمر الدال على الفرض، وأتى به، وأمر به إن ثبت الأمر به على سبيل الندب، وأما الأمر الذي يتعلق بتأخير العشاء فإنه أمر ندب قطعا لما ثبت، وأجمعوا عليه من جواز فعلها من أول دخول وقتها، فلو أمرهم بتأخيرها إنما كان يأمرهم على سبيل الندب، ولم يأمره بذلك الأمر الذي لو وقع لكان ندبا ولم يواظب عليه، بل كان الغالب من فعله تقديمها فكان تقديمها أفضل اهـ كلام العراقي رحمه الله تعالى. طرح جـ 2/ ص 71.

"المسألة السابعة عشرة" قد تقدم ما قاله العلامة ابن دقيق العيد في حكمة استحباب السواك عند القيام إلى الصلاة، وقال العراقي بعد نقل كلام ابن دقيق العيد: ما نصه: ويحتمل أن يقال: حكمته عند إرادة الصلاة ما ورد

(1)

أنه يقطع البلغم: ويزيد في الفصاحة، وتقطيع البلغم مناسب للقراءة لئلا يطرأ عليه فيمنعه القراءة، وكذلك الفصاحة. اهـ طرح جـ 1/ ص 66. والله ولي التوفيق.

(1)

قوله: ما ورد الخ، الوارد فيه حديث ضعيف كما تقدم في المسألة الرابعة من شرح الحديث الخامس.

ص: 301

‌8 - السواك في كل حين

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب السواك في كل وقت؛ وذكر هذا الباب بَعْدَ الباب المتقدم من باب ذكر العام بعد الخاص إذ الباب. المتقدم فيه السواك بالعشي للصائم، وهذا فيه السواك كل حين. وقد تقدم البحث عن السواك بإطلاقَيه غير مرة فلا تغفل.

8 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ- عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ -وَهُوَ ابْنُ شُرَيْحٍ- عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

"علي بن خشرم"(م ت س) بمعجمتين وزان جعفر، المروزي، ثقة، من صغار العاشرة، مات سنة 257 أو بعدها، وقد قارب المائة.

وفي (صة) علي بن خشرم بمعجمتين الثانية ساكنة ابن عبد الرحمن ابن عطاء بن هلال المروزي الحافظ. عن الفضل بن موسى، وابن عيينة، وهشيم. وعنه (م ت س) ووثقه الفربري في الجامع.

2 -

"عيسى بن يونس"(ع) بن أبي إسحاق السبيعي بفتح المهملة وكسر الموحدة أخو إسرائيل كوفي نزل الشام مرابطا، ثقة، مأمون، من الثامنة، مات سنة 187. وقيل: سنة 191.

ص: 302

وفي (صة) أبو عمرو الكوفي أحد الأعلام. عن أبيه وأخيه إسرائيل، وإسماعيل بن أبي خالد، وخلق. وعنه حماد بن سلمة، وابن وهب، ومسدد، وابن المديني، وعلي بن حجر، وثقه أبو حاتم، وقال ابن المديني: بخ، بخ، ثقة مأمون، جاء يوما إلى ابن عيينة فقال: مرحبا بالفقيه ابن الفقيه ابن الفقيه.

3 -

"مسعر"(ع) بن كدام بكسر أوله وتخفيف ثانيه بن ظهير، الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، من السابعة، مات سنة 3، أو 155.

وفي (صة) مسعر بكسر الميم، وسكون السين، وفتح المهملة بن كدام بكسر الكاف ابن ظهير بن عبيدة بن الحارث بن هلال بن عامر بن صعصعة، الهلالي، الرَّوَّاسي بفتح المهملة، والواو الثقيلة، أبو سلمة الكوفي أحد الأعلام، عن عطاء، وسعيد بن أبي بردة، والحكم، وخلق. وعنه سليمان التيمي، وابن إسحاق، وشعبة، والثوري، وخلق. قال محمَّد بن بشر: كان عنده ألف حديث، وقال القطان: ما رأيت مثله، كان من أثبت الناس. وقال شعبة كان يسمى المصحف لإتقانه، وقال وكيع: شكه كيقين غيره. وقال ابن سعد: كان مرجئا، قال الفلاس: مات سنة 153.

4 -

"المقدام بن شريح"(بخ م 4) بن هانئ بن يزيد، الحارثي الكوفي، ثقة، من السادسة. وفي (صة): روى عن أبيه، وقمير امرأة مسروق. وعنه ابنه يزيد، والأعمش، والثوري، وشعبة، وغيرهم، ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه أحمد بن حنبل، والنسائي، وأبو حاتم، وقال: صالح الحديث.

والمقدام بكسر الميم، وشريح: بصيغة التصغير.

ص: 303

5 -

"أبوه" شريح بن هانئ (بخ م 4) بن يزيد الحارثي المَذْحجي، أبو المقدام الكوفي، مخضرم، ثقة، قتل مع ابن أبي بكرة بسجستان.

وفي (صة) من أهل اليمن، نزيل الكوفة، من كبار أصحاب علي، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، روي عن أبي هريرة، وعمر، وعلي، وسعد ابن أبي وقاص، وعائشة، وكثيرين. وعنه ابناه محمَّد والمقدام، والشعبي، والحكم بن عتيبة، وغيرهم. وثقه ابن معين، وأحمد، والنسائي، وقال ابن خراش: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات قتل بسجستان مع عبيد الله بن أبي بكرة سنة 78 وعاش 120 سنة. اهـ بزيادة

6 -

"عائشة" أم المؤمنين رضي الله عنها. تقدمت في 5/ 5.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وأنهم كوفيون إلا شيخه فمروزي، وعائشة فمدنية، وأن شيخه ممن أخرج له مسلم والترمذي، وأن المقدام وأباه ممن أخرج لهم البخاري في الأدب المفرد، والأربعة، والباقون ممن اتفقوا عليهم.

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.

ومنها: أن عائشة من المكثرين السبعة، روت 2210 حديثا.

ومنها: قوله: وهو ابن يونس، وهو ابن شريح، وذلك أن شيخه لم ينسبهما إلى أبويهما فاحتاط لذلك كي لا يكون زائدا على ما قال له شيخه وهذا من احتياطات المحدثين وورعهم، فلله درهم ما أكثر ورعهم رحمهم الله تعالى. وقد تقدمت القاعدة، وتأتي أيضاً إن شاء الله تعالى.

ص: 304

شرح الحديث

"عن المقدام" بكسر الميم "وهو ابن شريح" بصيغة التصغير "عن أبيه" شريح بن هانئ الحارثي الكوفي أنه "قال: قلت لعائشة" أم المؤمنين رضي الله عنها "بأي شيء" أي بأي عمل من الأعمال. فأي هنا

استفهامية.

وأي في استعمال العرب لها: تكون شرطا، واستفهاما، وموصولة، وهي بعض ما تضاف إليه، وذلك البعض مبهم مجهول، فإذا استفهمت بها، وقلت: أيُّ رجل جاء؟ وأيُّ امرأة قامت، فقد طلبت تعيين ذلك البعض المجهول، ولا يجوز الجواب بذلك البعض إلا معينا، وإذا قلت: في الشرط: أيُّهم تضرب أضرب فالمعنى إنْ تضربْ رجلا أضربْه، ولا يقتضي العموم، فهذا قلت: أيُّ رجل جاء فأكرمه تعين الأول دون ما عداه، وقد يقتضيه لقرينه نحو أيُّ صلاة وقعت بغير طهارة وجب قضاؤها، وأيُّ امرأة خرجت فهي طالق.

وتزاد ما عليها نحو "أيما إهاب دبغ فقد طهر"، والإضافة لازمة لها لفظا، أو معنى، وهي بحسب ما تضاف إليه: مفعول إن أضيفت إليه، وظرف زمان إن أضيفت إليه، وظرف مكان إن أضيفت إليه، والأفصح استعمالها في الشرط والاستفهام بلفظ واحد للمذكر والمؤنث؛ لأنها اسم، والاسم لا تلحقه هاء التأنيث الفارقة بين المذكر والمؤنث، نحو أي رجل جاء، وأي امرإة جاءت، وعليه قوله تعالى:{فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 81] وقال تعالى: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] وقال عمرو بن أم كلثوم (من الوافر):

بأيِّ مَشيئَة عَمرُو بْنُ هنْد

وقد تطابق في التذكير والتأنيث نحو أي رجل، وأية امرأة، وقُرئَ

ص: 305

في الشاذ: "بأية أرض تموت"، وقال الشاعر:

أيَّةُ جَارَاتكَ تلْكَ المُوصيَةُ

وإذا كانت موصولة: فالأحسن استعمالها بلفظ واحد، وبعضهم يقول: هو الأفصح وتجوز المطابقة، نحو مررت بأيهم قام، وبأيتهن قامت، وتقع صفة متابعة لموصوف، وتطابق في التذكير والتأنيث تشبيها لها بالصفات المشتقات، نحو برجل أيِّ رجل. وبامرأة أية امرأة، وحكى الجوهري التذكير فيها أيضا، فيقال: مررت بجارية أيِّ جارية. أفاده العلامة الفيومي رحمه الله تعالى في المصباح جـ 1 / ص 34.

"كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته" أي في أي وقت كان ليلًا أو نهارًا "قالت" عائشة رضي الله عنها مجيبة عن سؤاله "بالسواك" متعلق بمحذوف دل عليه السؤال، أي يبدأ بالسواك، أي الاستياك، أو باستعمال السواك، على ما تقدم من إطلاقه علي المعنيين، قال السندي رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن دخوله البيت لا يختص بوقت دون وقت، فكذا السواك. ولعله إذا انقطع عن الناس للوحي، وقيل: كان ذلك لاشتغاله بالصلاة النافلة في البيت، وقيل: غير ذلك. اهـ. وقال السيوطي نقلا عن القرطبي: يحتمل أن يكون ذلك لأنه كان يبدأ بصلاة النافلة، فقلما كان يتنفل في المسجد، فيكون السواك لأجلها، وقال غيره: الحكمة في ذلك أنه ربما تغير رائحة الفم عند محادثة الناس فإذا دخل البيت كان من حسن معاشرة الأهل إزالة ذلك اهـ. وقال في المنهل والحكمة في ذلك المبالغة في النظافة، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بصلاة النافلة عند دخول البيت وقَلَّما كان يتنفل في المسجد، وتعليما للأمة، ولحسن معاشرة الأهل؛ لأنه ربما تغيرت رائحة الفم عند محادثة الناس، أو طول السكوت، فيتأكد على من دخل بيته أن يبدأ بالسواك لذلك اهـ جـ 1 / ص 206 بتغيير يسير.

ص: 306

قال الجامع عفا الله عنه: أما ما ذكر من صلاة النافلة عند دخوله البيت فغير صحيح؛ لأنه ما ورد أنه كان يصلي كلما دخل بيته، كما دل لحديث على أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم بدأ بالسواك كلما دخل بيته، فالأحسن التعليل بحسن معاشرة الأهل، ونحوه، فتأمل.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه مسلم في صحيحه.

"المسألة الثانية" في بيان مواضعه عند المصنف:

أخرجه المصنف في هذا المحل 8/ 8 المجتبى و 7/ 7 في السنن الكبرى: عن علي بن خشرم، عن عيسى بن يونس، عن مسعر، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه (م د ق) فأخرجه (م) في الطهارة 15/ 2 عن أبي كريب، عن محمَّد بن بشر، عن مسعر، وعن أبي بكر بن نافع العبدي، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن المقدام بن شريح الخ. وأخرجه (د) في الطهارة 27/ 2 عن إبراهيم بن موسى الرازي، عن عيسى بن يونس، عن مسعر الخ. وأخرجه (ق) في الطهارة: 7/ 5 عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شريك بن عبد الله النخعي القاضي، عن المقدام بن شريح الخ. أفاده المزي، تحفة جـ 11/ ص 421.

وأخرجه أبو عوانة في صحيحه 1/ 192، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 70، والبيهقي في سننه 1/ 34، وأحمد في مسنده 6/ 110، 182، 237، و 188، 192.

ص: 307

"المسألة الرابعة" في فوائده:

في هذا الحديث دلالة على استحباب السواك عند دخول البيت، وقد صرح به أبو شامة، والنووي، قال ابن دقيق العيد: ولا يكاد يوجد في كتب الفقهاء ذلك. اهـ زَهْرُ الرُّبَى 1/ 14، وفيه حسن معاشرة الأهل لأنه يزيد في الوُدّ، ودوام الصحبة. وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم من كمال النظافة في جميع أحواله، وفيه ما كان عليه السلف من تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال عنها للإقتداء به فيها.

"المسألة الخامسة" قد ذكر الحافظ العراقي رحمه الله تعالى ما يتأكد السواك فيه حيث قال: وإنما يتأكد السواك في أحوال:

منها: عند الوضوء وإرادة الصلاة.

ومنها: عند القيام من النوم لما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك". قلت: قد تقدم للمصنف 2/ 2.

ومنها: إرادة النوم كما ذكره الشيخ أبو حامد في الرونق. وورد فيه ما رواه ابن عدي في الكامل عن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه"، وفيه حرام بن عثمان: متروك.

قال الجامع: لا تعد هذه من السنن. لعدم صحة الدليل.

ومنها: الانصراف من صلاة الليل، لما رَوَى ابنُ ماجه من حديث ابن عباس بإسناد صحيح قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك".

ومنها: عند قراءة القرآن، وقد تقدم حديث علي في ذلك. قلت: وقد علمت الكلام فيه.

ص: 308

ومنها: تغير الفم سواء فيه تغير الرائحة، أو تغير اللون كصفرة الأسنان.

ومنها: دخول المنزل لحديث الباب اهـ كلام العراقي في طرحه بتصرف جـ 2/ ص 66

"المسألة السادسة" في ذكر أحاديث السواك التي أوردها الحافظ في تلخيص الحبير، وتكلم عليها، أذكرها هنا وإن كان بعضها تقدم تلخيصا لها في محل واحد؛ لأن ذلك أسهل لفهمها، وحفظها، قال رحمه الله تعالى عند قول الرافعي والأخبار في ذلك كثيرة: ما نصه:

فمنها: حديث أبي أيوب "أربع من سنن المرسلين: الختان، والسواك، والتعطر، والنكاح"، رواه أحمد، والترمذي، ورواه ابن أبي خيثمة، وغيره من حديث مليح بن عبد الله، عن أبيه، عن جده نحوه، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس.

ومنها: حديث عائشة: "عشر من الفطرة" فذكر فيها "السواك"، رواه مسلم، ورواه أبو داود من حديث عمار.

ومنها: حديث أبي هريرة: "الطهارات أربع: قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والسواك" رواه البزار، ورواه الطبراني، من حديث أبي الدرداء.

ومنها: حديث أم سلمة مرفوعًا: "ما زال جبريل يوصيني بالسواك

حتى خشيت أن يُدَرْدرَني"، رواه الطبراني، والبيهقي، ورواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة، ورواه الطبراني من حديث سهل بن سعد، ورواه أبو نعيم من حديث جبير بن مطعم، وأبي الطفيل، وأنس، والمطلب بن عبد الله، ورواه أحمد من حديث ابن عباس، ورواه ابن السكن من حديث عائشة.

ص: 309

ومنها: حديث عائشة: "كان إذا سافر حمل السواك، والمشط، والمكحلة، والقارورة، والمرآة"، رواه العقيلي، وأبو نعيم، وأعله ابن الجوزي من طرق. وعن عائشة:"كنت أضع له ثلاثة آنية مخمرة: إناء لطهوره، وإناء لسواكه، وإناء لشرابه"، رواه ابن ماجه، وإسناده ضعيف. ورواه ابن طاهر في صفة التصوف عن أبي سعيد نحو حديث عائشة الأول.

ومنها: حديث عائشة: "فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفا"، رواه أحمد. قلت: تقدم الكلام عليه.

ومنها: حديث جابر: "إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليستك، فإنه إذا قام يصلي أتاه ملك فيضع فاه على فيه فلا يخرج شيء من فيه إلا وقع في في الملك". رواه أبو نعيم، ورواته ثقات، قال ابن دقيق العيد، وفي الباب عن علي، رواه البزار، قلت: تقدم الكلام عليه مستوفى.

ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها: "هن لكم سنة وعليَّ فريضة: السواك، والوتر، وقيام الليل" رواه البيهقي، وفي إسناده موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، وهو متروك. قال البيهقي: لم يثبت في هذا شيء. وروى ابن خزيمة وابن حبان، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي من حديث عبد الله بن حنظلة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووُضعَ عنه الوضوء، إلا من حدث". وروى أحمد، والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع:"أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي". وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف.

ومنها: حديث رافع بن خَديج، وغيره: "السواك واجب

"

ص: 310

الحديث، رواه أبو نعيم، وإسناده واه. وروى ابن ماجه من طريق أبي أمامة:"لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك"، وإسناده ضعيف، وقد تقدم من طرق صحيحة.

ومنها: حديث عامر بن ربيعة: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لا أحصي يتسوك وهو صائم" رواه أصحاب السنن، وابن خزيمة، وعلَّقَه البخاري، وفيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف، فقال ابن خزيمة: أنا أبرأ من عهدته، لكن حسن الحديث غيره كما تقدم.

ومنها: حديث عائشة: "من خير خصال الصائم السواك" رواه ابن ماجه، وهو ضعيف، ورواه أبو نعيم من طريقين آخرين عنها، وروى النسائي في الكنى، والعقيلي، وابن حبان في الضعفاء والبيهقي من طريق عاصم، عن أنس:"يستاك الصائم أول النهار وآخره برطب السواك ويابسه"، ورفعه إبراهيم بن البيطار الخوارزمي. قال البيهقي: انفرد به إبراهيم بن بيطار، ويقال: إبراهيم بن عبد الرحمن قاضي خوارزم، وهو منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يصح، ولا أصل له من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من حديث أنس، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، قال الحافظ: له شاهد من حديث معاذ رواه الطبراني في الكبير، وقال أحمد بن منيع في مسنده: حدثنا الهيثم بن خارجة، ثنا يحيي بن حمزة، عن النعمان بن المنذر، عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم: تسوك وهو صائم"، وروى البيهقي عن عطاء عن أبي هريرة: قال: لك السواك إلى العصر فإذا صليت العصر فألقه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك"، وقد تقدم، وفي إسناده عمر ابن قيس سَنْدَل، وهو متروك، وروى ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق من حديث قتادة، عن أبي هريرة نحوه، وفيه انقطاع، ومنها حديث محرز:

ص: 311

"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نام ليلة حتى استن"، رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة، وروى في السواك من حديث أبي عتيق عن جابر أنه كان يستاك إذا أخذ مضجعه، وإذا قام من الليل وإذا خرج إلى الصلاة، فقلت له قد شققت على نفسك؟ فقال: إن أسامة أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يستاك هذا السواك"، وفيه حرام بن عثمان، وهو متروك.

ومنها: حديث عبد الله بن عمرو "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يستاكوا بالأسحار"، رواه أبو نعيم، وفي إسناده ابن لهيعة.

ومنها: حديث العباس: "كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تدخلون علي قُلْحًا استاكوا"

الحديث، رواه البزار، والبغوي، والطبراني، وابن أبي خيثمة، قال أبو علي ابن السكن: فيه اضطراب، ورواه أحمد من حديث تمام بن العباس، ورواه الطبراني من حديث جعفر بن تميم، أو تمام، عن أبيه، وقيل: عن تمام بن قثم، أو قثم بن تمام في مسند أحمد، وروى الطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس قال "أتي رجلان النبي صلى الله عليه وسلم حاجتهما واحدة، فتكلم أحدهما فوجد من فيه أخلافا فقال: أما تستاك؟ قال بلى .. الحديث

(1)

.

ومنها: حديث أبي موسى في السواك على طرف اللسان، متفق عليه.

ومنها: حديث عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فيعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به، فأستاك، ثم أغسله، فأدفعه إليه". رواه أبو داود، وفي الصحيحين عنها في قصة سواك عبد الرحمن بن أبي بكر قالت: فأخذته، فقضمته، ثم أعطيته له.

(1)

لفظ البيهقي أتى رجلان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتهما واحدة فتكلم أحدهما فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيه أخلافا، فقال له: أما تستاك؟ قال: بلى، ولكني لم أطعم من ثلاث، فأمر رجلًا من أصحابه فآواه وقضى حاجته.

ص: 312

ومنها: حديث ابن عمر رفعه: "أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر". متفق عليه، وروى أبو داود بسند حسن عن عائشة نحوه.

ومنها: حديث أبي سعيد: "الغسل يوم الجمعة واجب، وأن يستن، وأن يمس طيبا إن قدر عليه". متفق عليه، وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عباس.

ومنها: حديث علي: "إن أفواهكم طرق للقرآن، فطهروها بالسواك" رواه أبو نعيم، ووقفه ابن ماجه، ورواه أبو مسلم الكجي في السنن" وأبو نعيم من حديث الوَضين، وفي إسناده مَندل، وهو ضعيف

ومنها: حديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته يبدأ بالسواك"، رواه ابن حبان في صحيحه، وأصله في مسلم.

قال الجامع: وهو حديث الباب عند المصنف.

ومنها: حديث أنس: "أكثرت عليكم في السواك" رواه البخاري، وذكره ابن حاتم في العلل من حديث أبي أيوب بلفظ:"عليكم بالسواك" وأعله أبو زرعة بالإرسال، ورواه مالك في الموطأ من حديث عبيد بن السَّبَّاق مرسلا.

ومنها: حديث أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستاك بفضل وَضوئه" رواه الدارقطني، وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي، وهو متروك، ورواه من طريق أخرى عن الأعمش، عن أنس، وهو منقطع، وفي البخاري تعليقا:"ان جريرا أمر أهله بذلك"، ووصله ابن أبي شيبة.

ومنها: حديث "يجزئ من السواك الأصابع". رواه ابن عدي، والدارقطني، والبيهقي من حديث عبد الله بن المثنى، عن النضر بن أنس، وفي إسناده نظر، وقال الضياء المقدسي: لا أرى بسنده بأسا،

ص: 313

وقال البيهقي: المحفوظ عن ابن المثنى عن بعض أهل بيته، عن أنس نحوه، ورواه أيضا من طريق ابن المثنى، عن ثمامة، عن أنس، ورواه أبو نعيم، والطبراني، وابن عدي، من حديث عائشة، وفيه المثني بن الصباح، ورواه أبو نعيم من حديث كثير بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده، وكثير ضعفوه، وأصح من ذلك ما رواه أحمد في مسنده من حديث علي بن أبي طالب أنه "دعا بكُوز من ماء فغسل وجهه وكفيه ثلاثًا، وتمضمض، فأدخل بعض أصابعه في فيه"

الحديث، وفي آخره هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى أبو عبيد في كتاب الطهور عن عثمان أنه كان إذا توضأ يسوك فاه بأصبعه، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة:"قلت يا رسول الله الرجل يذهب فوه أيستاك؟ قال: نعم، قلت كيف يصنع؛ قال: يدخل أصبعه في فيه". رواه من طريق الوليد بن مسلم: حدثنا عيسى بن عبد الله الأنصاري، عن عطاء، عنها، وقال: لا يروى إلا بهذا الإسناد قال الحافظ: عيسى ضعفه ابن حبان، وذكر له ابن عدي هذا الحديث من مناكيره.

ومنها: حديث جابر: "كان السواك من أذن النبي صلى الله عليه وسلم موضع القلم من أذن الكاتب". رواه الطبراني من حديث يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن محمَّد بن إسحاق عن أبي جعفر، عنه. وقال: تفرد به يحيي بن اليمان، وسئل أبوزرعة عنه في العلل؟ فقال: وهم فيه يحيى ابن يمان، وإنما هو عن ابن إسحاق عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد من فعله، قال الحافظ: كذا أخرجه أبو داود، والترمذي، ورواه الخطيب في كتاب الرواة عن مالك في ترجمة يحيى بن ثابت عنه، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة قال:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سُوكُهم خلف آذانهم يستنون بها لكل صلاة".

ومنها: حديث ابن عباس مرفوعا "السواك يُذهبُ البلغم، ويفرح

ص: 314

الملائكة، ويوافق السنة". رواه أبو نعيم.

قال الحافظ: "فائدة":

ذكر القشيري بلا إسناد عن أبي الدرداء قال: "عليكم بالسواك فلا تغفلوه، فإن في السواك أربعا وعشرين خصلة أفضلها أن يرضي الرحمن، ويصيب السنة، ويضاعف صلاته سبعا وسبعين ضعفا، ويورثه السعة، والغني، ويطيب النكهة، ويشد اللِّثَة، ويسكن الصداع، ويذهب وجع الضرس، وتصافحه الملائكة لنور وجهه وبرق أسنانه"، وذكر بقيتها، ولا أصل له لا من طريق صحيح، ولا ضعيف اهـ ما ذكره الحافظ في تلخيص الحبير من هامش المجموع جـ 1 / ص 374 - 384. والله ولي التوفيق.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 315

‌9 - ذكر الفطرة

أي هذا باب ذكر حديث الفطرة.

والمناسبة بينه بين الباب السابق من حيث إن السواك خصلة من خصال الفطرة كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم وأصحاب السنن، وأحمد مرفوعًا: "عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك

" الحديث، ويأتي للمصنف برقم 5040، 5041، 5042. كتاب الزينة جـ 8.

والفطرة: بكسر، فسكون، بمعنى الخلقة، اسم من الفَطْر بفتح فسكون، وهو الخلق والابتداع، والاختراع، يقال فطر الله الخلق فطرا من باب نصر: خلقهم، والمراد به هنا السنة التي اختارها الله تعالى لعباده، وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون. وسيأتي اختلاف العلماء في تفسيرها إن شاء الله تعالى. ثم إن المصنف ذكر أحاديث الفطرة بأسانيد وألفاظ مختلفة، وجعل لكل خصلة منها عنوانا فقال:

‌الاختتان

9 -

أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الاِخْتِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ".

ص: 316

رجال الإسناد: ستة

1 -

"الحارث بن مسكين"(د س) بن محمَّد بن يوسف مولى بني أمية، أبو عمرو

(1)

المصري قاضيها، ثقة فقيه، من العاشرة، مات سنة 250، وله 96 سنة.

وفي (صه) الأموي أبو عمر قاضي مصر، عن ابن عيينة، وابن القاسم. وعنه أبو داود والنسائي وقال: ثقة مأمون، قال الخطيب: كان فقيها على مذهب مالك، سجنه المأمون؛ لأنه لم يملْ إلى القول بخلق القرآن، فلما تولى المتوكل أطلقه.

2 -

"ابن وهب"(ع) هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمَّد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد من التاسعة، مات سنة 197، وله 72 سنة

(2)

وفي (صة) أحد الأئمة. عن يونس بن يزيد، وحيوة بن شريح، وأسامة الليثي، ومالك والثوري، وخلق. وعنه الليث شيخه وابن مهدي، وسعيد بن أبي مريم، وسعيد بن منصور، وخلائق. قال أحمد: ما أصح حديثه!. وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن حبان: حفظ على أهل مصر والحجاز حديثهم، وقال أحمد بن صالح: حدث بمائة ألف حديث.

3 -

"يونس"(ع) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيلي بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام، أبو يزيد مولى آل أبي سفيان، ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة 159 على الصحيح، وقيل: سنة 160. وفي (صة) روى عن عكرمة، والقاسم، ونافع، وطائفة. وعنه الأوزاعي، وعمرو بن

(1)

وفي الخلاصة وتهذيب التهذيب: أبو عمر بضم العين، فليحرر.

(2)

وفي (صة) مات سنة 199، عن 74 سنة.

ص: 317

الحارث، والليث، وخلق، قال ابن مهدي كتابه صحيح، وقال أحمد ابن صالح: نحن لا نقدم أحدا على يونس في الزهري، ووثقه النسائي وغيره، وقال: ابن سعد ليس بحجة، ربما جاء بالشيء المنكر، قال

البخاري: توفي سنة 159.

4 -

"ابن شهاب" محمَّد بن مسلم الزهري ثقة حافظ حجة من كبار -4 - تقدم في 1/ 1.

5 -

"ابن المسيب"(ع) بن حَزْن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار من كبار الثانية، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل، وقال ابن المديني لا أعلم في التابعين، أوسع علمًا منه، مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين. وفي (صة) أبو محمَّد المدني الأعور رأس التابعين، وفردهم، وفاضلهم، وفقيههم، ولد سنة خمس عشرة، عن عمر في السنن الأربعة، وأبَيّ، وأبي ذر، وأبي بكرة في ابن ماجه وعلي وعثمان، وسعد في البخاري، ومسلم، وطائفة. وعنه الزهري، وعمرو بن دينار، وقتادة، وبكير بن الأشج، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وخلق، قال ابن عمر: هو والله أحد المفتين. قال: قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه، وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح، سمع من عمر، وقال مالك: لم يسمع منه ولكنه أكب على المسألة في شأنه وأمره حتي كأنه رآه، وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين في أبي هريرة، قال: أبو نعيم مات سنة 93، وقال الواقدي سنة أربع.

6 -

"أبو هريرة" الدوسي رضي الله عنه. تقدم في 1/ 1.

ص: 318

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم ما بين مصريين: وهما الحارث وابن وهب، وأيلي بفتح الهمزة وسكون الياء، نسبة إلى بلدة على ساحل بحر القلزم، مما يلي ديار مصر، قاله في اللباب وهو يونس، ومدنيينَ: وهم الباقون.

ومنها: أن المصنف التزم فيما ينقله عن الحارث بن مسكين هذه العبارة أخبرنا الحارث بن مسكين قراءة عليه، وأنا أسمع، بل تارة يقتصر على قوله الحارث بن مسكين قراءة وأنا أسمع، فيحذف الصيغة ومثله أبو

داود حيث يقول: قُرىء على الحارث بن مسكين، وأنا شاهد، وسبب ذلك أن الحارث كان يتولي قضاء مصر، وكان بينه وبين النسائي خشونة فلم يمكنه حضور مجلسه، فكان يستتر في موضع، ويسمع حيث لا يراه، فلذا تورع وتحرى في الأداء فعدل عن العبارة المألوفة.

قال الجامع عفا الله عنه: ولعله كان بينه وبين أبي داود مثل ذلك، ولكن لم أر من صرح به. والله أعلم.

ولأجل هذا قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى:

حدثنا وأخبرنا أرفع من سمعت من جهة أنه ليس في سمعت دلالة على أن الشيخ رواه إياه، وخاطبه به بخلافهما. وقد سأل الخطيب شيخه الحافظ أبا بكر البَرْقَاني عن السر في كونه يقول لهم فيما رواه عن أبي القاسم الأنْبَدُونيّ: سمعت، ولا يقول: حدثنا ولا أخبرنا فذكر له أن أبا القاسم كان مع ثقتة وصلاحه عَسرا في الرواية فكان البَرقَاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره، فيسمع منه ما يحدث به

الشخص الداخل، فلذلك يقول: سمعت، ولا يقول: حدثنا ولا

ص: 319

أخبرنا لأن قصده كان الرواية للداخل إليه وحده. أفاده الحافظ السخاوي رحمه الله في فتح المغيث، والسيوطي في التدريب. وقال السخاوي أيضا بعد ذكر قصة النسائي: وهذا ظاهر فيمن قصد إفراد شخص بعينه، أو جماعة معينين، كما وقع للذي أمر بدَقِّ الهَاوُن

(1)

حتى لا يسمع حديثه مَن قَعَدَ على باب داره، ولذا نقل عن المعتمر بن سليمان أنه قال: سمعتُ أسهل علي من حدثنا وأخبرنا، وحدثني وأخبرني؛ لأن الرجل قد يسمَعُ، ولا يُحَدَّث، وقد قال أيوب حدثني بن أبي مليكة، حدثني عقبة بن الحارث، ثم قال: لم يحدثني، ولكن سمعته يقول: تزوجت ابنة لأبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما .. الحديث.

وقال أبو نعيم الفضل بن دُكَين: قلت لموسى بن عُلَيّ بمكة: حدثك أبوك؟ قال: حدث القوم، وأنا فيهم، فأنا أقول: سمعت، وكل هذا يوافق صنيع البَرْقَاني، وكذا حكى أبو جعفر محمَّد بن علي بن عبد الله ابن جعفر بن نجيح بن المديني: أنه بينما هو مع أبيه عند الإمام أحمد في عيادته، وكان مريضا، وعنده يحيي بن معين وغيره من المحدثين، إذ دخل أبو عبيد القاسم بن سَلام، فالتمس منه يحيى أن يقرأ عليهم كتاب الغريب له، وأحضر الكتاب، وأخذ يقرأ الأسانيد، ويدع التفسير، فقال له: يا أبا عبيد دعنا من الأسانيد، نحن أحذق بها منك، ففعل، فقال يحيى لعلي دعه يقرؤه على وجهه، فقال أبو عبيد: ما قرأته إلا على المأمون، فإن أحببتم قراءته فاقرؤوه، فقال له علي: إن قرأته علينا، وإلا فلا حاجة لنا فيه، ولم يكن أبو عبيد يعرف عليا، فسأل يحيى عنه؟ فقال هذا علي بن المديني، قال: فالتزمه، وقرأ حينئذ، قال: فمن

(1)

الهاون بفتح الواو الذي يدق فيه أفاده في المصباح، وفي "ق" الهاون يعني بفتح الواو، والهاون -يعني بضمها-، والهاوون بواو مضمومة بعدها واو الذي يدق فيه.

ص: 320

حضر ذلك المجلس، فلا يقول: حدثنا، أو نحوها، يعني لكون علي هو المخصوص بالتحديث، وكان أبي، يعني عليا يقول: حدثنا. اهـ فتح المغيث جـ 2/ ص 21.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: ابن شهاب، عن ابن المسيب.

ومنها: أن ابن المسيب هو أحد الفقهاء السبعة المتقدم ذكرهم.

ومنها: أن أبا هريرة أحد المكثرين السبعة، روى 5374 حديثا كما تقدم في 1/ 1.

شرح الحديث

"عن أبي هريرة" الدَّوسي عبد الله بن عمرو على الأصح، أو عبد الرحمن بن صخر على المشهور رضي الله عنه. "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أنه "قال: الفطرة" بكسر الفاء، مبتدأ، قال السندي: بمعنى الخلقة، والمراد بها هنا السنة القديمة التي اختارها الله تعالى للأنبياء فكأنها أمر جبلّي فُطرُوا عليها.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي ذكر اختلاف العلماء في معنى الفطرة في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى. "خمس" خبر المبتدإ، وليس المراد الحصر، فقد صح عشر من الفطرة، فالحديث من أدلة من يقول: إن مفهوم العدد غير معتبر، أفاده السندي. "الاختتان" افتعال من الختن، وهو قطع القُلفَة التي تغطي الحَشَفَة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التي في أعلى فرج المرأة، ويسمى ختانُ الرجل إعْذارا، بالعين المهملة، والذال المعجمة، والراء، وختانُ المرأة خَفْضا بالخاء المعجمة، والفاء، والضاد المعجمة. اهـ طرح جـ 2/ ص 75.

ص: 321

وقال الحافظ رحمه الله: الختان بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف المثناة

مصدر خَتَنَ، أي قطع، والخَتْن بفتح فسكون قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص، والختان اسم لفعل الخاتن ولموضع الختن أيضا، كما

في حديث عائشة "إذا التقى الختانان".

وقال أيضا: قال أبو عبيد: عذرت الجارية والغلام، وأعذرتهما: ختنتهما وأختنتهما وزنا ومعني، قال الجوهري: وأكثرون: خفضت الجارية، قال: وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر فسخت قُلْفَتُهُ،

أي اتسعت، فصاركالمختون اهـ: فتح بتصرف جـ 22/ ص 106.

وسيأتي تمام البحث في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

"والاستحداد" استفعال من استعمال الحديد في حلق العانة. اهـ طرح، وقال في النيل: هو حلق العانة، سمي استحدادا لاستعمال الحديدة، وهي المُوسَي. اهـ. "وقص الشارب" أي قطع الشعر الثابت على الشفة العليا، يقال: قَصَصت الشعر قَصًا من باب قتل: قطعته، والشارب: هو الشعر الثابت على الشفة العليا. اهـ المنهل جـ 1/ ص 185. وقال في (ق) وشرحه: والشوارب ما سال على الفم من الشعر، قال اللحياني: وقالوا: إنه لَعَظيمُ الشوارب قال: وهو من الواحد فُرِّقَ، فجعل كل جزء منه شاربا، ثم جمع على هذا، وقد طَرَّ شارب الغلام، وهُمَا شاربان. انتهى، وقيل: إنما هو الشارب، والتثنية خطأ، وقال أبو علي الفارسي: لا يكاد الشارب يثنى، ومثله قول أبي حاتم، قال أبو عبيدة: قال الكلابيون: شاربان باعتبار الطرفين، والجمع شوارب. اهـ (ق وتاج). "وتقليم الأظفار" أي تقطيع ما طال منها، وهو مبالغة القَلْم، يقال: قلمته قَلْما من باب ضرب: قطعته، وقلمت الظفر: أخذت ما طال منه، وقَلَّمت بالتشديد مبالغة، وتكثير. أفاده في المصباح.

ص: 322

والأظفار: جمع ظفر، قال الفيومي: والظفر للإنسان

(1)

مذكر، وفيه لغات: أفصحها بضمتين، وبها قرأ السبعة في قوله تعالى:{حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] الثانية: الإسكان للتخفيف، وقرأ بها الحسن البصري، والجمع أظفار، وربما جمع على أظفُر، مثل ركن وأركُن، والثالثة: بكسر الظاء وزان حمْل، والرابعة: بكسرتين للإتباع، وقرىء بهما في الشواذ، والخامسةَ: أظفُور، والجمع أظافير، مثل أسبوع وأسابيع. اهـ المصباح. "ونتف الإبط" أي نزع شعرها، يقال: نتفت الشعر نتفا من باب ضرب: نزعته. اهـ المصباح. والإبط ما تحت الجَنَاح، يذكر ويؤنث، فيقال: هو الإبط، وهي الإبط، والجمع آباط، مثل حمل، وأحْمَال، ويزعم بعض المتأخرين: أن كسر الباء

لغة، وهو غير ثابت. اهـ المصباح.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: هذا الحديث متفق عليه.

"المسألة الثانية" في بيان موضعه عند المصنف:

أخرجه المصنف هنا 9/ 9 المجتبى، و 9/ 10 الكبرى عن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وسيأتي برقم 10، 11، 5043، 5044، 5235 المجتبى.

"تنبيه" ذكر المصنف أحاديث الفطرة وهي أربعة في السنن الكبري في محل واحد تحت عنوان 9 "ذكر عدد الفطرة" فجعل الحديث الأول 9 طريق محمَّد بن عبد الله بن يزيد الذي جعله هنا تحت ترجمة 11 "نتف الإبط"، وجعل الثاني 10 طريق الحارث بن مسكين الذي ذكره هنا

(1)

ولم يخص في (ق) الظفر بالإنسان.

ص: 323

في هذه الترجمة 9 "الاختتان"، وجعل الثالث 11 طريق محمَّد بن عبد الأعلى الذي ذكره هنا تحت ترجمة 10 "تقليم الأظفار"، وجعل الرابع وهو 12 طريق الحارث بن مسكين الذي ذكره هنا تحت ترجمة 12 "حلق العانة" والله أعلم.

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه من طريق يونس (م) في الطهارة 16/ 2 عن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري الخ، أفاده المزي. وقال بعض المحققين: والحديث يعني حديث الفطرة لا بخصوص طريق يونس رواه البخاري في صحيحه 10/ 276، 11/ 74 ومسلم 3/ 146 نووي بنحو طريق المصنف هنا، ومن طريق آخر عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة مرفوعا، فذكره، وفيه:"الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة"، وأبو داود 11/ 252 عون من طريق سفيان، عن الزهري به، والترمذي 8/ 33 تحفة من طريق معمر، عن الزهري، وقال حسن صحيح. ورواه ابن ماجه 1/ 125 سندي عن سفيان عن الزهري، ومالك في الموطأ 3/ 107 تنوير من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة به.

وأبو عوانة في صحيحه 1/ 190 والبخاري في الأدب المفرد ص 365 من طريق محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، غير أنه جعل مكان الاختتان السواك. وأحمد في مسنده 2/ 229، 2/ 283، و 410، و 489 عن معمر عن الزهري، وكذا رواه 2/ 239 عن سفيان عن الزهري. اهـ ما أفاده بعض المحققين.

"المسألة الرابعة" في بيان اختلاف العلماء في معنى الفطرة:

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في معنى

ص: 324

الفطرة المذكورة في هذا الحديث: فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الخلاف، والماوردي في الحاوي وغيرهما من أصحابنا: هي الدين، وقال الإمام أبو سليمان الخطابي: فسرها أكثر العلماء في هذا الحديث بالسنة، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هذا فيه إشكال لبعد معنى السنة عن معني الفطرة في اللغة، قال: فلعل وجهه أن أصله سنة الفطرة أو أدب الفطرة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

قال النووي: تفسير الفطرة هنا بالسنة هو الصواب ففي صحيح البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من السنة قص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار" وأصح ما فسر به غريب الحديث تفسيره بما جاء في رواية أخرى، لا سيما في صحيح البخاري. اهـ كلام النووي المجموع جـ 1/ ص 284.

وقال الحافظ السيوطي رحمه الله: وقال أبو شامة: أصل الفطرة: الخلقة المبتدأة، والمراد بها هنا أن هذه الأشياء إذا فُعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها، وحثهم عليها، واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة، وقال الحافظ في الفتح: وقد رد البيضاوي الفطرة في هذا الحديث إلى مجموع ما ورد في معناها، وهو الاختراع، والجبلَّةُ، والسن، والسنة، فقال: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليها اهـ زهر الربى، 1/ 14، 16.

وقال الحافظ العراقي رحمه الله: اختلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث: فقيل المراد بها السنة، حكاه الخطابي عن أكثر أهل العلم، ويدل عليه رواية أبي عوانة في المستخرج في حديث عائشة:"عشر من السنة"، وعلى هذا فالمراد بالسنة الطريقة، أي أن ذلك من سنن الأنبياء،

ص: 325

وطريقتهم؛ لأن بعضها واجب كما سيأتي على الخلاف، ومن لا يرى وجوب شيء منها يحملها على السنة التي تقابل الواجب، قيل: المراد بالفطرة هنا الدين.

وأما أصل الفطرة: فابتداء الخلق واختراعه من قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1] وعن ابن عباس: قال: "ما كنت أدري معنى هذه الآية حتى احتكم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأت حفرها. ومنه بعير فاطر إذا ابتدأ خروج نابه، وقيل: المراد به الجبلَّة التي جبل عليها ابن آدم، ومنه قول علي في خطبته: "وجبار القلوب على فطرتها"، أي على خلقتها، وجبلتها، وهو أحد الأقوال في قوله: "كل مولود يولد على الفطرة" وقيل: الفطرة الإسلام، ومنه قول حذيفة: "لو مت على هذا مت على غير فطرة محمَّد صلى الله عليه وسلم "، وهو أحد الأقوال أيضا في قوله: "كل مولود يولد على الفطرة"، وعليه حمل قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ اللبن ليلة الإسراء: "أصبت الفطرة". اهـ طرح جـ 2/ ص 73.

وقد ذكر العلامة أبو عبد الله محمَّد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره النفيس المسمى بالجامع لأحكام القرآن في اختلاف العلماء في معنى الفطرة كلامًا مستوعبا حسنا جدا أسوقه هنا، وإن كان بعضه تقدم لكونه أوضح وأشمل وأغزر، قال رحمه الله تعالى: ما نصه:

واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة منها:

الإسلام، قاله أبو هريرة، وابن شهاب، وغيرهما، قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل، واحتجوا بالآية يعني آية {فطرة الله} [الروم: 30] وحديث أبي هريرة يعني حديث "ما من

ص: 326

مولود إلا يولد على الفطرة" الحديث، وعضدوا ذلك بحديث

(1)

عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما:"ألا أحدثكم بما حدثني الله في كتابه إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه، فجعلوا مما أعطاهم الله حلالًا وحراما" .. الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"خمس من الفطرة"، فذكر منها قص الشارب، وهو من سنن الإسلام، وعلى هذا التأويل فيكون معني الحديث: أن الطفل خلق سليما من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا في الجنة أولاد المسلمين كانوا أو أولاد كفار.

وقال آخرون: الفطرة: هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها، أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ، قالوا: والفطرة في كلام العرب: البدأة، والفاطر المبتدىء، واحتجوا بما روى ابن عباس أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتي أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها، قال المروزي: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه، قال أبو عمر في كتاب التمهيد له: ما رسمه مالك في موطئه، وذكر في باب القدر فيه من الآثار يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم.

ومما احتجوا به ما روي عن كعب القُرَظي في قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة، وإن عمل بأعمال الهُدَى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ الله

(1)

أخرجه أحمد في المسند 4/ 162 عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار رحمه الله تعالى.

ص: 327

خلق إبليس على الضلالة، وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] قال القرطبي: وجاء معنى قول كعب هذا مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم"، أخرجه ابن ماجه في السنن، وأخرج أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال:"خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال أتدرون ما هذان الكتابان؛ فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال: للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجْملَ على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا"

وذكر الحديث وقال فيه حديث حسن.

وقالت فرقة: ليس المراد بقوله تعالى {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، ولا قوله عليه السلام:"كل مولود يولد على الفطرة"

العموم، وإنما المراد بالناس: المؤمنون إذا لو فَطَر الجميع على الإسلام لما كفر أحد، وقد ثبت أنه خلق أقواما للنار كما قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179]، وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء، وقال في الغلام الذي قتله الخضر:"طبع يوم طبع كافرًا"، وروى أبو سعيد الخدري قال "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار، وفيه وكان فيما حفظنا أن قال: "ألا إن بني آدم خلقوا طبقات

ص: 328

شتى، فمنهم من يولد كافرا ويَحيَا كافرًا، ويموت كافرا، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا، ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرًا ويموت مؤمنًا، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب"، وذكره حماد بن سلمة في مسند الطيالسي قال: حدثنا علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قالوا: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] ولم تدمر السموات والأرض، وقوله: "فتحنا عليهم أبواب كل شىء"، ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة، وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي: تم الكلام عند قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30] ثم قال: {فطرت الله} [الروم: 30]، أي فطر الله الخلق فطرة، ولهذا قال:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].

قال شيخنا أبو العباس: من قال: هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن لأن الله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] وأما في الحديث: فلا لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير.

وقال طائف: من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد خلقة مخالفة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته، واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق بقول الله عز وجل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 1]، يعني خالقهن، وبقوله:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، يعني خلقني، وبقوله:{الذي فطرهن} [الأنبياء: 56] يعني خلقهن قالوا: فالفطرة: الخلقة، والفاطر الخالق، وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار، قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر، ولا إنكار، ولا

ص: 329

معرفة، ثم يعتادون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا، واحتجوا بقوله في الحديث:"كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء" يعني سالمة "هل تحسون فيها من جدعاء" يعني مقطوعة الأذن، فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعدُ، وأنوفها، فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب، يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم، قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبدا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون، قالوا ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا؛ لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئًا، قال الله تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، فمن لا يعلم شيئًا استحال منه كفر، أو إيمان، أو معرفة، أو إنكار.

قال أبو عمر بن عبد البر: هذا أصح ما قيل: في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها ومن الحجة أيضا في هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]، و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء، وقال:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ولما أجمعوا على دفع القود، والقصاص، والحدود، والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك، ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلام كما قال ابن شهاب لأن الإسلام والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل لا يجهل ذلك ذو عقل، وأما قول الأوزاعي سألت الزهري عن رجل عليه رقبة أيجزي عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ قال: نعم لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام فإنما أجزأ عتقه عند من أجازه لأن حكمه حكمُ أبويه.

ص: 330

وخالفهم آخرون، فقالوا: لا يجزىء في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى، وليس في قوله تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]، ولا في أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدَّره عليه دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا، أو كافرا، لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا، والحديث الذي جاء فيه أن الناس خُلقُوا على طبقات .. ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها؛ لأنه انفرد به علي بن زيد بن جُدعان، وقد كان شعبة يتكلم فيه، على أنه يحتمل قوله:"يولد مؤمِنا"، أي يولد ليكون مؤمنا، ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث: "خلقت هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار أكثر من مراعات ما يختم به لهم، لا أنهم في حيث طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارًا، أو يعقل كفرًا أو إيمانًا.

قال القرطبي: قلت: وإلى ما اختاره أبو عمر، واحتج له ذهب غير واحد من المحققين: منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس، قال ابن عطية: والذي يُعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهَيْئَة التي في نفس الطفل التي هي مُعَدَّة ومهيَّأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه، ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه"

فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة.

وقال شيخنا في عباراته: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مُؤَهَّلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام، وهو الدين الحق، وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: "كما

ص: 331

تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلق سليما من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملا بريئا من العيوب، لكن يُتَصرَّف فيه فيُجدَع أذنه، ويُوسَم وجهه، فتطرأ عليه الآفات والنقائص، فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح.

قال القرطبي: وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة من خلق السموات، والأرض، والشمس، والقمر، والبر، والبحر، واختلاف الليل والنهار، فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية، فذهبت بأهوائهم يمينا وشمالا، وأنهم إن ماتوا صغارا فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172]، ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقرُّوا له بالربوبية وأنه الله لا إله غيره، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على الكتاب الأول فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل، وهو يَجمعُ بين الأحاديث، ويكون معني قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أولاد المشركين فقال:"الله أعلم بما كانوا عاملين" يعني لو بلغوا.

ص: 332

ودل على هذا التأويل أيضا حديث البخاري عن سَمُرة بن جُنْدَب، عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل حديث الرؤيا، وفيه قوله عليه السلام:"وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة، قال: فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين" وهذا نص يرفع الخلاف وهو أصح شيء روي في هذا الباب، وغيره من الأحاديث فيها علل، وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء، قاله أبو عمر ابن عبد البر، وقد روي من حديث أنس: قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين؟ فقال: "لم تكن لهم حسنات فيجزوا بها، فيكونوا من ملوك الجنة، ولم تكن لهم سيآت فيعاقبوا عليها، فيكونوا من أهل النار، فهم خَدَم أهل الجنة ذكره يحيى بن سلام في التفسير له. اهـ كلام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن جـ 14/ ص 30.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس الذي فيه أن أولاد المشركين خدم أهل الجنة قال الحافظ في الفتح: حديث ضعيف أخرجه أبو داود الطيالسي، وأبو يعلى، قال وللطبراني والبزار من حديث سمرة

مرفوعًا: "أولاد المشركين خدم أهل الجنة" وإسناده ضعيف. اهـ جـ 3/ ص 290.

وهذا الذي صححه الحافظ ابن عبد البر هو المذهب الصحيح المختار الذي عليه المحققون كما قاله النووي رحمه الله انظر الفتح جـ 3/ ص 291. وذكر الحافظ رحمه الله تعالى في هذه المسألة عشرة أقوال انظر الصفحة السابقة، وليس هذا محل ذكرها بالاستيفاء وإنما ذكرت هذا القدر بسبب تفسير الفطرة الواردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وستكون لي عودة في شرح الباب 60 من كتاب الجنائز رقم الحديث 1949، و 1950، و 1951، و 1952. إن شاء الله تعالى.

ص: 333

"المسألة الخامسة" في مناسبة تسمية هذه الخصال فطرة، قال صاحب المفهم: في هذه الخصال مما فطره

(1)

على حسن الهيئة والنظافة، وكلاهما يحصل به البقاء على أصل كمال الخلقة التي خلق الإنسان عليها، وبقاء هذه الأمور وترك إزالتها يشوه الإنسان، ويقبحه بحيث يُستقذر، ويجتنب، فيخرج عما تقتضيه الفطرة الأولى، فسميت هذه الخصال فطرة لهذا المعنى. قاله الحافظ العراقي. طرح جـ 2/ ص 73.

"المسألة السادسة": قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: ذكر صاحب المفهم عن ابن عباس أن هذه الخصال هي التي ابتلى الله بها إبراهيم، فأتمهن فجعله الله إماما. اهـ طرح جـ 2/ ص 73.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى: أخرج عبد الرازق في تفسيره،

والطبري من طريقه بسند صحيح عن طاوس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: آية 124]

قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد .. الحديث اهـ فتح جـ 22/ ص 377.

وفي مختصر تفسير ابن كثير للعلامة أحمد محمَّد شاكر رحمه الله: ما حاصله باختصار: وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام: فروي عن ابن عباس في ذلك روايات: فروى عنه: ابتلاه الله بالمناسك. وروي عنه: ابتلاه بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، ونتف الابط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء. قال ابن شاكر: رواه الطبري 1910، والحاكم في

(1)

العبارة: ليست واضحة، ولعل العبارة الصحيحة هكذا: في هذه الخصال مناسبة فطره على حسن الهيئة والنظافة. الخ، فتأمل.

ص: 334

المستدرك جـ 2/ ص 266، وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقول: في تفسير هذه الآية، قال: عشر، ست في الإنسان، وأربع في المشاعر، فأما التي في الإنسان: فحلق العانة، ونتف الإبط، والختان، وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والسواك وغسل يوم الجمعة، والأربعة التي في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. قال ابن شاكر: إسناد ابن أبي حاتم في هذا لابن عباس إسناد صحيح. إلى آخر ما ذكره من الأقوال هناك. انظر مختصر ابن كثير للعلامة ابن شاكر رحمه الله تعالى جـ 1/ ص 231 - 232.

"المسألة السابعة" قوله: "الفطرة خمس". هكذا في رواية المصنف ومسلم من طريق يونس، عن الزهري بدون شك، ووقع في رواية البخاري، ومسلم، وأبي داود من طريق سفيان:"الفطرة خمس" أو "خمس من الفطرة" بالشك، وهو من سفيان، ووقع في رواية أحمد "خمس من الفطرة"، ولم يشك، وكذا في رواية معمر، عن الزهرى عند الترمذي، والرواية الأولى محمولة على هذه، قال ابن دقيق العيد: دلالة "منْ" على التبعيض فيه أظهر من دلالة هذه الرواية يعني رواية الفطرة خمس على الحصر، وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك فدل على أن الحصر فيها غير مراد، واختلف في النكتة في الإتيان بهذه الصيغة فقيل: ليعلم أن مفهوم العدد ليس بحجة، وقيل: بل كان أعلم أولا بالخمس، ثم أعلم بالزيادة، وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام فذكر في كل موضع اللائق بالمخاطبين، وقيل: أريد بالحصر المبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة كما حمل عليه "الدين النصيحة"،

ص: 335

و"الحج عرفة"، ونحو ذلك، ويدل على التأكيد ما أخرجه الترمذي والنسائي من حديث زيد بن أرقم مرفوعا:"من لم يأخذ شاربه فليس منا"، وسنده قوي، وأخرج أحمد من طريق يزيد بن عمرو المعافري

نحوه، وزاد فيه حلق العانة، وتقليم الأظفار.

وذكر ابن العربي: أن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة، قال الحافظ رحمه الله: فإن أراد خصوص ما ورد بلفظ الفطرة فليس كذلك، وإن أراد أعم من ذلك فلا ينحصر في الثلاثين، بل تزيد كثيرا، وأقل ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر: من الفطرة: "حلق العانة، وتقليم الأظفار، وقص الشارب،" رواه البخاري.

وأخرج الإسماعيلي في رواية له بلفظ "ثلاث من الفطرة"

، وأخرجه في رواية أخرى بلفظ من الفطرة، فذكر الثلاث، وزاد الختان، ولمسلم من حديث عائشة:"عشر من الفطرة"

فذكر الخمسة التي في حديث أبي هريرة: إلا الختان، وزاد إعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل البراجم، والاستنجاء. أخرجه من رواية مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عنها، لكن قال في آخره: إن الراوي نسي العاشرة إلا أن تكون المضمضة. وقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه بلفظ: "عشرة من السنة"، وذكر الاستنثار بدل الاستنشاق، وأخرج النسائي من طريق سليمان التيمي قال: سمعت طلق بن حبيب يذكر: "عشرة من الفطرة" فذكر مثله، إلا أنه قال: وشككت في المضمضمة وأخرجه أيضا من طريق أبي بشر عن طلق قال: من السنة عشر، فذكر مثله إلا أنه ذكر الختان بدل غسل البراجم، ورجح النسائي الرواية المقطوعة على الموصولة المرفوعة.

ص: 336

قال الحافظ: والذي يظهر لي أنها ليست بعلة قادحة فإن راويها مصعب بن شيبة وثقه ابن معين، والعجلي، وغيرهما، ولينه أحمد، وأبو حاتم، وغيرهما، فحديثه حسن، وله شواهد في حديث أبي هريرة، وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ، وقول سليمان التيمي: سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرا من الفطرة: يحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها من قبل نفسه على ظاهر ما فهمه النسائي، ويحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها، وسندها، فحذف سليمان السند، وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث عمار بن ياسر مرفوعًا نحو حديث عائشة قال:"من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وغسل البراجم، والانتضاح"، وذكر الخمس التي في حديث أبي هريرة، ساقه ابن ماجه، وأما أبو داود: فأحال به على حديث عائشة، ثم قال: وروي نحوه عن ابن عباس، وقال:"خمس في الرأس"، وذكر منها الفَرْق، ولم يذكر إعفاء اللحية، قال الحافظ: كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره، والطبري من طريقه بسند صحيح عن طاوس، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في

الجسد، قال الحافظ: فذكر مثل حديث عائشة، كما في الرواية التي قدمتها عن أبي عوانة سواء، ولم يشك في المضمضة وذكر أيضًا الفرق بدل إعفاء اللحية، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس فذكر غسل الجمعة بدل الاستنجاء، فصار مجموع الخصال التي وردت في هذه

الأحاديث خمس عشرة خصلة، اقتصر أبو شامة في كتاب السواك وما أشبه ذلك منها على اثنى عشر، وزاد النووي واحدة في شرح مسلم.

ثم ذكر الحافظ شرح العشر الزائدة على الخمس المتفق عليها، وأنا ألخص ما ذكره هنا تتميما للفائدة، فأقول:

ص: 337

فأما الوضوء، والاستنشاق، والاستنثار، والاستنجاء، وغسل الجمعة، فسيأتي شرحها في أبوابها، وأما إعفاء اللحية فسيأتي في 15/ 15 وأما السواك فقد مضى في 2/ 2.

وأما الفرق: فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، وكان أهل الكتاب يُسْدلُون أشعارهم، وكان المشركون يفرُقُون رؤوسهم، فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فَرَقَ بعدُ.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: الفَرْق بفتح الفاء، وسكون الراء بعدها قاف: قسمة شعر الرأس في المفرق، وهو وسط الرأس، يقال: فَرَقَ شعره فَرْقا بالسكون، وأصله من الفرق بين الشيئين، والمفرق مكان انقسام الشعر من الجبين إلى دارة وسط الرأس، وهو بفتح الميم وبكسرها، وكذلك الراء تكسر، وتفتح.

وقوله: كان المشركون يَفْرُقون: قال الحافظ: هو بسكون الفاء وضم الراء وقد شددها بعضهم، حكاه عياض، قال: والتخفيف أشهر وكذا في قوله: ثم فرق الأشهر فيه التخفيف. قال عياض: سَدْل الشعر إرساله، يقال: سَدَل شعره، وأسدله إذا أرسله ولم يضم جوانبه وكذا الثوب. والفرق تفريق الشعر بعضه من بعض وكشفه عن الجبين، قال: والفرق سنة لأنه الذي استقر عليه الحال، والذي يظهر أن ذلك وقع بوحي لقول الراوى في أول الحديث أنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشىء، فالظاهر أنه فرق بأمر من الله حتى ادعى بعضهم فيه النسخ، ومَنَعَ السدلَ، واتخاذَ الناصية، وحكي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وتعقبه القرطبي بأن الظاهر أن الذي كان صلى الله عليه وسلم يفعله إنما هو لأجل استئلافهم فلما لم ينجع فيهم أحب مخالفتهم، فكانت مستحبة،

ص: 338

لا واجبة، وقول الراوي: فيما لم يؤمر فيه بشيء، أي لم يطلب منه، والطلب يشمل الوجوب والندب، وأما توهم النسخ في هذا فليس بشيء لإمكان الجمع بل يحتمل أن لا يكون الموافقة والمخالفة حكمًا شرعيا إلا من جهة المصلحة، قال: ولو كان السدل منسوخا لصار إليه الصحابة، أو أكثرهم، والمنقول عنهم أن منهم من كان يفرُق، ومنهم من كان يسدل، ولم يعب بعضهم على بعض، وقد صح أنه كانت له صلى الله عليه وسلم لمَّه فإن انفرقت فرقها، وإلا تركها، فالصحيح أن الفرق مستحب، لا واجب، وهو قول مالك.

قال الحافظ: وقد جزم الحازمي بأن السدل نسخ بالفرق، واستدل برواية معمر التي أشرت إليها قبلُ، وهو ظاهر، يعني قوله: وكان إذا شك في أمر لم يؤمر فيه بشيء صنع ما يصنع أهل الكتاب، وقال النووي: الصحيح جواز السدل والفرق، قال: واختلفوا في قوله: يحب موافقة أهل الكتاب فقيل: للاستئلاف كما تقدم، وقيل: المراد إنه كان مأمورا باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه بشيء، وما علم أنهم لم يبدلوه، واستدل به بعضهم على أن شرع من قبلنا شرع لنا حتى يَردَ في شرعنا ما يخالفه، وعكس بعضهم فاستدل على أنه ليس بشرع لنا لأنه لو كان كذلك لم يقل يحب بل كان يتحتم الاتباع، والحق أن لا دليل في هذا على المسألة لأن القائل به يقصره على ما ورد في شرعنا أنه شرع لهم لا ما يؤخذ عنهم هم، إذ لا وثوق بنقلهم، والذي جزم به القرطبي أنه كان يوافقهم لمصلحة التأليف محتمل، ويحتمل أيضا، وهو أقرب أن الحالة التي تدور بين الأمرين لا ثالث لهما إذا لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم شيء كان يعمل فيه بموافقة أهل الكتاب لأنهم أصحاب شرع بخلاف عَبَدَة الأوثان، فإنهم ليسوا على شريعة، فلما أسلم المشركون انحصرت المخالفة في أهل الكتاب فأمرهم بمخالفتهم.

ص: 339

قال الحافظ: وقد جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها بمخالفة أهل الكتاب فزادت على الثلاثين حكما، وقد أودعتها كتابي الذي سميته "القول المثبت في الصوم يوم السبت"، ويؤخذ من قول ابن عباس في الحديث كان يحب موافقة أهل الكتاب، وقوله: ثم فرق بعدُ نسخ حكم تلك الموافقة كما قررته، ولله الحمد. ويؤخذ منه أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. اهـ فتح جـ 22/ ص 132.

قال الجامع: والراجح أن شرع من قبلنا شرع لنا على الوجه المتقدم. والله أعلم.

وأما غسل البراجم: فهو بالموحدة والجيم جمع بُرْجُمَة بضمتين، وهي عقد الأصابع التي في ظهر الكف، قال الخطابي هي المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ، ولا سيما ممن لا يكون طريّ البدن. وقال الغزالي كانت العرب لا تغسل اليد عَقب الطعام فيجتمع في تلك الغضون وسخ فأمر بغسلها، قال النووي: وهي سنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء، يعني أنها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف، وقد ألحقَ بها في إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ، فإن في بقائها إضرارا بالسمع، وقد أخرج ابن عدي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء" لأن الوسخ إليها سريع، وللترمذي الحكيم من حديث عبد الله بن بشْر رفعه:"قُصُّوا أظفاركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم" وفي سنده راو مجهول، ولأحمد من حديث ابن عباس: "أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ولم لا يُبطىءُ عني وأنتم لا تستنُّون؟ أي لا تستاكون، ولا تقصون شواربكم، ولا تنقون رواجبكم؟ والرواجب جمع راجبة بجيم وموحدة، قال أبو عبيد: البراجم، والرواجب مفاصل الأصابع كلها، وقال ابن سيده: البرجمة المفصل الباطن عند بعضهم،

ص: 340

والرواجب بواطن مفاصل أصول الأصابع، وقيل: قصب الأصابع، وقيل: ظهور السلاميات، وقيل: ما بين البراجم من السلاميات، وقال ابن الأعرابي: الراجبة: البقعة الملساء التي بين البراجم، والبراجم المسبحات من مفاصل الأصابع، وفي كل أصبع ثلاث برجمات، إلا الإبهام فلها برجمتان، وقال الجوهري: الرواجب مفاصل الأصابع اللاتي تلي الأنامل، ثم البراجم، ثم الأشاجع اللاتي على الكف وقال أيضا: الرواجب رؤوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت، والأشاجع: أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف واحدها أشجع، وقيل: هي عروق ظاهر الكف.

وأما الانتضاح: فقال أبو عبيد الهروي: هو أن يأخذ قليلا من الماء، فينضح به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس.

قال الجامع: سيأتي تمام البحث فيه في 102/ 134، و 135. إن شاء تعالى.

قال الحافظ رحمه الله: وأما الخصال الواردة في المعنى لكن لم يرد التصريح فيها بلفظ الفطرة فكثيرة:

منها: ما أخرجه الترمذي من حديث أبي أيوب رفعه: "أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح".

واختلف في ضبط الحياء، فقيل بفتح المهملة والتحتانية الخفيفة، وقد ثبت في الصحيحين أن الحياء من الإيمان، وقيل: هي الحنّاء بكسر المهملة وتشديد النون فعلى الأول خصلة معنوية تتعلق بتحسين الخُلق، وعلى الثاني هي خصلة حسية تتعلق بتحسين البدن. وأخرج البزار، والبغوي في معجم الصحابة، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق فليح بن عبد الله الخطمي، عن أبيه، عن جده، رفعه "خمس من

ص: 341

سنن المرسلين" فذكر الأربعة المذكورة إلا النكاح، وزاد "والحلم" والحلم بالمهملة، وسكون اللام، وهو مما يقوي الضبط الأول في حديث أبي أيوب، وإذا تتبع ذلك من الأحاديث أكثر العدد كما أشرت إليه. والله أعلم.

"تتمة"

قال الحافظ رحمه الله تعالى: ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية، ودنيوية، تدرك بالتتبع:

منها: تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا. والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس، واليهود، والنصاري، وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3]. لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل: قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب؛ لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه فيُقبل قوله، ويُحمد رأيه والعكس بالعكس. اهـ كلام الحافظ فتح جـ 22/ ص 104.

قال الجامع عفا الله عنه: وقد نظمت الخصال المذكورة في الأحاديث المتقدمة فقلت:

يا أيُّها الطالبُ حُسْنَ السِّيرَةِ

عليكَ دَوْما بخصَالِ الفطْرَةِ

فإنَّهَا تَصُونُ حُسْنَ الصُّورةِ

وتَحْفَظُ الوُدَّ مَعَ العَشيرَةِ

فاخْتَتنَنْ واسْتَكْ وقَلِّمْ وافْرُقِ

واغْسلْ بَراجِمَكَ ثُمَّ اسْتَنْشقِ

ص: 342

ومَضْمِضَنْ واستنثرِنْ وانتضحَا

وقُصَّ شَاربكَ واتْركِ اللِّحَا

واسْتَنْجِ وَاحْلِقْ عَانَةً واغْتَسِلِ

لجُمْعَةٍ بنَتْفِ إبْط أكْملِ

فَتلكَ عَشْرٌ معَ خَمْسٍ وَرَدَتْ

في قَوْل خَيْر الخَلق نِعْمَ مَا احتوَتْ

وإِنَّ بعضَهَا بهَا اللهُ ابتلَى

خَلِيلَهُ فَفَازَ نِعْمَ المُبْتَلَى

ونَحنُ مَأمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ

يَا فَوْزَ مَنْ سلكَ نَهْجَ شَرْعِهِ

"المسألة الثامنة" في الحديث أن مفهوم العدد ليس بحجة لأنه اقتصر في حديث أبي هريرة: على خمس، وفي حديث ابن عمر على ثلاث، وفي حديث عائشة على عشر، مع ورود غيرها فأفادنا ذلك أن ذكر العدد لا يقتضي نفي الريادة عليه، وهو قول أكثر أهل الأصول، ولمن قال بحجيته أن يجيب بما تقدم من أن الله أعلمه بالزيادة في خصال الفطرة بعد أن لم يكن علمه لما حَدَّث ببعضها، قاله الحافظ العراقي. اهـ طرح جـ 2/ ص 75.

"المسألة التاسعة" في اختلاف العلماء في حكم الختان:

قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: واختلف العلماء هل هو واجب؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه سنة، وليس بواجب، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي، وذهب الشافعي إلى وجوبه، وهو مقتضى قول سحنون من المالكية، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه واجب في حق الرجال، سنة في حق النساء، واحتج من قال: إنه سنة بحديث أبي الملَيح بن أسامة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء". رواه أحمد في مسنده، والبيهقي، ورواه البيهقي من رواية أبي أيوب، وابن عباس، قال ابن عبد البر: إنه يدور على الحجاج بن أرطاة، وليس ممن يحتج به، قال

ص: 343

العراقي: قلت: قد رواه الطبراني في مسند الشاميين من غير طريق الحجاج من رواية سعيد بن بشر بن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، وأجاب من أوجبه بأنه ليس المراد بالسنة خلاف الواجب، بل المراد به الطريقة، واحتجوا على وجوبه بقوله تعالى:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: آية 123]، وثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيمُ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم"، وبما روى أبو داود من قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أسلم: "ألق عنك شعرَ الكُفْر، واختتن، واستدل ابن سريج على وجوبه بالإجماع على تحريم النظر إلى العورة فلولا أن الختان فرض لما أبيح النظر إليها من المختون، ونقضه ابن عبد البر بجواز نظر الطبيب، وليس الطب واجبا إجماعا، واحتج القفال لوجوبه بأن بقاء القُلْفَة تحبس النجاسة، وتمنع صحة الصلاة فتجب إزالتها، وشبهه بالنجاسة في باطن الفم، وقاسه بعض الشافعية على وجوب القطع في السرقة، فقال: هو قطع جزء من البدن لا يستخلف تعبدا فوجب كالقطع، واحترز بعدم الاستخلاف عن الشعر والظفر، وبالتعبد عن القطع للآكله، فإنه لا يجب. اهـ كلام العراقي في طرح التثريب جـ 2/ ص 75.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى: وقد ذهب إلى وجوب الختان دون باقي الخصال الخمس المذكورة في الباب: الشافعيّ وجمهورُ أصحابه، وقال به من القدماء عطاء حتى قال: لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختتن، وعن أحمد وبعض المالكية: يجب، وعن أبي حنيفة واجب، وليس بفرض، وعنه سنة يأثم بتركه، وفي وجه للشافعية لا يجب في حق النساء، وهو الذي أورده صاحب المغني عن أحمد، وذهب أكثر العلماء، وبعضى الشافعية إلى أنه ليس بواجب، ومن حجتهم حديث

ص: 344

شداد

(1)

بن أوس رفعه: "الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء"، وهذا لا حجة فيه لما تقرر أن لفظ السنة إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب، لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك دل على أن المراد افتراق الحكم، وتعقب بأنه لم ينحصر في الوجوب فقد يكون في حق النساء للإباحة على أن الحديث لا يثبت لأنه من رواية حجاج بن أرطاة، ولا يحتج به، أخرجه أحمد، والبيهقي، لكن له شاهد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من طريق سعيد بن بشر، عن قتادة، عن

جابر بن زيد عن ابن عباس، وسعيد مختلف فيه، وأخرجه أبو الشيخ، والبيهقي من وجه آخر عن ابن عباس، وأخرجه البيهقي أيضا من حديث أبي أيوب.

واحتجوا أيضا بأن الخصال المنتظمة مع الختان ليست بواجبة إلا عند بعض من شَذَّ فلا يكون الختان واجبًا، وأجيب بأنه لا مانع أن يراد بالفطرة، وبالسنة في الحديث القدر المشترك الذي يجمع الوجوب والندب، والطلب المؤكد فلا يدل ذلك على عدم الوجوب، ولا ثبوته، فيطلب الدليل من غيره، وأيضا فلا مانع من جمع مختلفي الحكم بلفظ أمر واحد كما في قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فإيتاء الحق واجب، والأكل مباح هكذا تمسك به جماعة وتعقبه الفكهاني في شرح العمدة، فقال: الفرق بين الآية، والحديث أن الحديث تضمن لفظة واحدة استعملت في الجميع فتعين أن يحمل على أحد الأمرين: الوجوب أو الندب بخلاف الآية، فإن صيغة الأمر تكررت فيها، والظاهر الوجوب فصرف في أحد الأمرين بدليل، وفي الآخر على الأصل، وهذا التعقب إنما يتم على طريقة من يمنع استعمال اللفظ الواحد في معنيين، وأما من يجيزه كالشافعية فلا يرد عليهم.

(1)

هكذا في الفتح: شداد بن أوس والذي تقدم عن العراقي أنه من رواية أبي المليح عن أبيه وهو الذي في مسند أحمد 5/ 75. فتنبه.

ص: 345

واستدل من أوجب الاختتان بأدلة:

الأول: أن القُلْفَةَ تحبس النجاسة فتمنع صحة الصلاة كمن أمسك نجاسة في فمه، وتعقب بأن الفم في حكم الظاهر بدليل أن وضع المأكول فيه لا يفطر به الصائم بخلاف داخل القلفة فإنه في حكم الباطن، وقد صرح أبو الطيب الطبري بأن هذا القدر عندنا مغتفر.

الثاني: ما أخرجه أبو داود من حديث كليب جد عثيم بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ألق عنك شعر الكفر، واختتن"، مع ما تقرر أن خطابه للواحد يشمل غيره حتى يقوم دليل الخصوصية، وتعقب بأن سند الحديث ضعيف، وقد قال ابن المنذر: لا يثبت فيه شيء.

الثالث: جواز كشف العورة من المختون، وسيأتي أنه إنما شرع لمن بلغ أو شارف البلوغ وجوازُ النظر للخاتن إليها، وكلاهما حرام، فلو لم يجب لما أبيح ذلك، وأقدَمُ مَن نُقل عنه الاحتجاجُ بهذا أبو العباس بن سريج نقله عنه الخطابي وغيره، وذكر النووي أنه رآه في كتاب الودائع المنسوب لابن سريج قال: ولا أظنه يثبت عنه، قال أبو شامة: وقد عبر عنه جماعة من المصنفين بعده بعبارات مختلفة، كالشيخ أبي حامد، والقاضي الحسين، وأبي الفرج السرخسي، والشيخ في المهذب، وتعقبه عياض بأن كشف العورة مباح لمصلحة الجسم والنظر إليها يباح للمداواة، وليس ذلك واجبا إجماعا، وإذا جاز في المصلحة الدنيوية كان في المصلحة الدينية أولى، وقد استشعر القاضي حسين هذا، فقال: فإن قيل: قد يترك الواجب لغير الواجب كترك الإنصات للخطبة بالتشاغل بركعتي التحية، وكترك القيام في الصلاة لسجود التلاوة، وكشف العورة للمداواة مثلا، وأجاب عن الأولين، ولم يجب عن الثالث، وأجاب النووي بأن كشف العورة لا يجوز لكل مداواة فلا يتم المراد،

ص: 346

وقَوَّى أبو شامة الإيراد بأنهم جوزوا لغاسل الميت أن يحلق عانة الميت، ولا يتأتى ذلك للغاسل إلا بالنظر واللمس، وهما حرامان، وقد أجيزا لأمر مستحب.

الرابع: احتج أبو حامد وأتباعه كالماوردي بأنه قطع عضو لا يستخلف من الجسد تعبدا فيكون واجبا كقطع اليد في السرقة، وتعقب بأن قطع اليد إنما أبيح في مقابلة جُرْم عظيم، فلم يتم القياس.

الخامس: قال الماوردي في الختان إدخال ألم عظيم على النفس، وهو لا يشرع إلا في إحدى ثلاث خصال: لمصلحة أو عقوبة أو وجوب، وقد انتفى الأولان، فثبت الثالث، وتعقبه أبو شامة بأن في الختان عدة مصالح، كمزيد الطهارة والنظافة فإن القلفة من المستقذرات عند العرب، وقد أكثر، ذم الأقلف في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصة به، وأقر الإسلام ذلك.

السادس: قال الخطابي محتجا بأن الختان واجب بأنه من شعار الدين، وبه يعرف المسلم من الكافر حتى لو وجد مختونا بين جماعة قتلى غير مختونين صُلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين، وتعقبه أبو شامة بأن شعائر الدين ليست كلها واجبة، وما ادعاه في المقتول مردود؛ لأن اليهود، وكثير من النصاري يختتنون فليقيد ما ذكر بالقرينة.

قال الحافظ: قد بطل دليله. قال البيهقي: أحسن الحجج أن يحتج بحديث أبي هريرة الذي في الصحيحين مرفوعا: "اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم" وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]، وصح عن ابن عباس: أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هى خصال الفطرة، ومنهن الختان والابتلاء غالبا إنما يقع بما يكون واجبًا، وتعقب بأنه لا يلزم ما ذكر إلا إذا كان

ص: 347

إبراهيم عليه السلام فعله على سبيل الوجوب فإنه من الجائز أن يكون فعله على سبيل الندب فيحصل امتثال الأمر باتباعه على وفق ما فعل، وقد قال الله تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: آية 158] وقد تقرر في الأصل أن أفعاله بمجردها لا تدل على الوجوب، وأيضًا فباقي الكلمات العشر ليست واجبة، وقال الماوردي إن إبراهيم عليه السلام لا يفعل ذلك في مثل سنه إلا عن أمر من الله. اهـ. وما قاله بحثا قد جاء منقولا، فأخرج أبو الشيخ في العقيقة من طريق موسى بن عُلَيّ بن رَبَاح، عن أبيه:"أن إبراهيم عليه السلام أمر أن يختتن وهو حينئذ ابن ثمانين سنة، فعجل، واختتن بالقدوم فاشتد عليه الوجع، فدعا ربه، فأوحى الله إليه أنك عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك".

تنبيه: قال الماوردي: القدوم مخففا ومشددا وهو الفاس الذي اختتن به، وذهب غيره إلى أن المراد به مكان يسمى القدوم، قال أبو عبيد الهروي في الغريبين: يقال: هو كان مَقيله، وقيل: اسم قرية بالشام، وقال أبو شامة: هو موضع بالقرب من القرية التي فيها قبره، وقيل: بقرب جبل حلب، وجزم غير واحد أن الآلة بالتخفيف، وصرح ابن السكيت بأن لا يشدد، وأثبت بعضهم الوجهين في كل منهما، ووقع عند أبي الشيخ من طريق أخرى "أن إبراهيم لما اختتن كان ابن مائة وعشرين سنة، وأنه عاش بعد ذلك إلى أن أكمل مائتي سنة، والأول أشهر، وهو أنه اختتن وهو ابن ثمانين، وعاش بعدها أربعين.

والفرض أن الاستدلال بذلك متوقف على أنه كان في حق إبراهيم عليه السلام واجبًا، فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به، وإلا فالنظر باق، اهـ كلام الحافظ فتح جـ 2/ ص 109 بتغيير يسير.

ص: 348

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: والحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب، والمتيقنُ السنيةُ كما في حديث "خمس من الفطرة" ونحوه، والواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه.، اهـ جـ 1/ ص 173.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حققه الشوكاني من عدم الوجوب هو الذي لا يتجه عندي غيره، ولا يتضح لي سواه. والله أعلم.

"المسألة العاشرة" في كيفية الختان:

قال الحافظ رحمه الله: قال الماوردي: ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، والمستحب أن تُستَوعَبَ من أصلها عند أول الحشفة، وأقل ما يجزئ أن لا يبقى منها ما يُغشَى به شيء من الحشفة، وقال إمام الحرمين: المستحق في الرجال قطع القلفة وهي الجلدة التي تغطي الحشفة حتى لا يبقى من الجلدة شيء مُتَدَلٍّ، وقال ابن الصباغ: حتى تنكشف جميع الحشفة، وقال ابن كج فيما نقله الرافعي: يتأدى الواجب بقطع شيء مما فوق الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها، قال النووي: وهو شاذ، والأول هو المعتمد، قال الإمام: والمستحق من ختان المرأة ما يطلق عليه الاسم، قال الماوردي: ختانها قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة، أو كعُرْف الديك والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله.

وقد أخرج أبو داود من حديث أم عطية: "أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة" وقال: إنه ليس بقوي، قال الحافظ: وله شاهد من حديث أنس، ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة، وآخر عن الضحاك بن قيس

ص: 349

عند البيهقي.

وقال أيضا: وقد استحب العلماء من الشافعية فيمن ولد مختونا أن يمر المُوسَى على موضع الختان من غير قطع، قال أبو شامة: وغالب من يولد كذلك لا يكون ختانه تاما بل يظهر طرف الحشفة، فإن كان كذلك وجب تكميله.

وأفاد الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل أنه اختلف في النساء هل يخفضن عموما، أو يفرق بين نساء المشرق فيخفضن، ونساء المغرب فلا يخفضن لعدم الفضلة المشروع قطعها منهن بخلاف نساء المشرق، قال: فمن قال: إن من ولد مختونا استحب إمرار المُوسَى على الموضع امتثالا للأمر قال في حق النساء كذلك، ومن لا فلا. اهـ فتح جـ 22/ ص 106.

"المسألة الحادية عشرة" في اختلاف العلماء في وقت الختان:

قال الحافظ رحمه الله تعالى: اختلف في الوقت الذي يشرع فيه الختان، قال الماوردي: له وقتان وقت وجوب، ووقت استحباب، فوقت الوجوب البلوغ، ووقت الاستحباب قبله، والاختيار في اليوم السابع من بعد الولادة، وقيل من يوم الولادة، وإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر ففي السنة السابعة، فإن بلغ وكان نضوا

(1)

نحيفا يعلم من حاله أنه إذا اختتن تلف سقط الوجوب، ويستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب إلا لعذر، وذكر القاضي أنه لا يجوز أن يختن الصبي حتى يصير ابن عشر سنين لأنه حينئذ يوم ضربه على ترك الصلاة وألم الختان فوق ألم الضرب فيكون أولى بالتأخير، وزيفه النووي في شرح المهذب، وقال إمام الحرمين: لا يجب قبل البلوغ لأن الصبي ليس من أهل العبادة

(1)

النضو: كالحِمْل: المهزول، أفاده في المصباح.

ص: 350

المتعلقة بالبدن فكيف مع الألم، قال: ولا يرد وجوب العدة على الصبية لأنه لا يتعلق به تعب بل هو مضي زمان محض، وقال أبو الفرج السرخسي في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة أن الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك.

ونقل ابن المنذر عن الحسن، ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه فعل اليهود، وقال مالك: يحسن إذا أثْغَرَ، أي ألقى ثَغْرَه، وهو مقدم أسنانه، وذلك يكون في السبع سنين وما حولها، وعن الليث يستحب

ما بين سبع سنين إلى عشر سنين، وعن أحمد لم أسمع فيه شيئا.

وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس: قال: "سبع من السنة في الصبي: يسمى في السابع، ويختن"

الحديث، وهو ضعيف، وأخرج أبو الشيخ من طريق الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمَّد، عن ابن المنكدر، أو غيره، عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن حسنا وحسينا لسبعة أياما" قال الوليد فسألت مالكا عنه؟ فقال: لا أدري، ولكن الختان طهرة فكلما قدمها كان أحب إليّ وأخرج البيهقي حديث جابر، وأخرج أيضا من طريق موسى بن عُلَيّ، عن أبيه أن إبراهيم عليه السلام ختن إسحاق، وهو ابن سبعة أيام.

قال الحافظ: وقد ذكرت في أبواب الوليمة من كتاب النكاح مشروعية الدعوة في الختان، وما أخرجه أحمد من طريق الحسن، عن عثمان بن أبي العاص أنه دعي إلى ختان، فقال: ما كنا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نُدعَى له، وأخرجه أبو الشيخ من رواية فبَيَّنَ أنه كان ختان جارية. وقد نقل الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل أن السنة إظهار ختان الرجل وإخفاء ختان الأنثي. اهـ كلام الحافظ. فتح جـ 22/ 109.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 351

‌10 - تقليم الأظفار

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية تقليم الأظفار.

والتقليم: مصدر قَلَّمَ مضعفا مبالغة قَلَّمَ مخففا، يقال: قلمتُ الظفرَ إذا أخذت ما طال منه، وقد تقدم تحقيقه في الباب السابق، فأرجع إليه تزدد علما، والأظفار: جمع ظفر تقدمت لغته أيضا.

10 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ مَعْمَرًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَالْخِتَانُ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

"محمَّد بن عبد الأعلي" الصنعاني ثم البصري، من العاشرة، تقدم في 5/ 5.

2 -

"المعتمر"(ع) بن سليمان التيمي أبو محمَّد البصري، يلقب بالطفيل ثقة، من كبار التاسعة، مات سنة -187 - وقد جاوز الثمانين.

وفي (صة) أحد الأعلام، نزل في تيم. عن أبيه، ومنصور، وحميد وخلق. وعنه ابن المبارك، وابن مهدي، وعفان، وخلق.

ص: 352

وثقه أبو حاتم، وقال ابن خراش: إذا حدث من كتابه فهو ثقة. قال الخطيب: حدث عنه الثوري، والحسن بن عرفة، وبين وفاتيهما 96 سنة. قال محمَّد بن محبوب: مات سنة 187.

3 -

"معمر"(ع) بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري نزيل اليمن ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئا، وكذا فيما حدث به بالبصرة، من كبار السابعة، مات سنة 154 وهو ابن 58 سنة. وفي (صة) معمر بن راشد الأزدى مولى مولاهم عبد السلام بن عبد القدوس، أبو عروة البصري ثم اليماني، أحد الأعلام. عن الزهري، وهمام بن منبه، وقتادة، وخلق. وعنه أيوب من شيوخه، والثوري من أقرانه، وابن المبارك، وخلق. قال العجلي: ثقة صالح. وقال النسائي: ثقة مأمون. وضعفه ابن معين في ثابت. توفى سنة 153.

4 -

"الزهري" محمَّد بن مسلم الحجة ثقة حافظ رأس الطبقة الرابعة ت 125 تقدم في 1/ 1.

5 -

"سعيد بن المسيب" بن حزن القرشي المخزومي المدني من كبار الثانية، تقدم في 9/ 9.

6 -

"أبو هريرة" الدوسي الصحابي الجليل تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، نصفهم الأول بصريون، والباقون مدنيون، وأن شيخه ممن أخرج له (م مد ت س ق)، والباقون ممن اتفقوا على تخريج أحاديثهم. وباقي اللطائف تقدم في 9/ 9.

ص: 353

شرح الحديث

"عن أبي هريرة" رضي الله تعالى عنه، أنه "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس" مبتدأ سوغه كونه صفة لمحذوف، أي خصال خمس، أو موصوفًا بمحذوف، أي خمس من الخصال "من الفطرة" خبر المبتدإ، قال العلامة ابن دقيق العيد: رحمه الله: قال أبو عبد الله محمَّد بن جعفر التميمي المعروف بالقزاز في كتاب تفسير غريب صحيح البخاري: الفطرة: تتصرف في كلام العرب على وجوه أذكرها لنَرُدَّ هذا إلى أولاها به: فأحدها فطرة الخلق، فَطَرَه: أنشاه، والله فاطر السموات والأرض، أي خالقهما، والفطرة: الجبلة التي خلق الله الناس عليها، وجبلهم على فعلها، وفي الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة" قال قوم من أهل اللغة: فطرة الله التي فطر الناس عليها، أي خَلْقه لهم، وقيل معنى قوله: "على الفطرة" أي على الإقرار بالله الذي كان أقر به لما أخرجه من ظهر آدم، والفطرة: زكاة الفطر

(1)

وأولى الوجوه بما ذكرنا أن تكون الفطرة ما جبل الله الخلق عليه، وجبل طباعهم على فعله، وهي كراهة ما في جسده مما هو ليس من زينته وقد قال غير القزاز: الفطرة هي السنة. اهـ كلام ابن دقيق العيد في إحكامه جـ 1/ ص 337 - 339.

قال الجامع: تقدم تحقيق معناها في الباب السابق، فأرجع إليه تزدد علما.

ثم فصل الخصال بقوله: "قص الشارب" أي قطع الشعر الثابت على الشفة العليا، وتقدم تفسير القص، والشارب في الباب السابق، ويأتي أيضا. "ونتف الإبط" أي نزع الشعر الثابت تحت الجَنَاح. وتقدم في

(1)

قوله زكاة الفطر: اعترض الصنعاني على هذا بأنه معنى شرعي لا لغوي فلا يحسن عدُّه من معاني الفطرة اللغوية، انظر العدة 1/ 339.

ص: 354

9/ 9 ضبط هذين اللفظين وتفسيرهما، ويأتي أيضا في 11/ 11.

"وتقليم الأظفار" أي قطع ما طال منها، وهو تفعيل من القلم وهو القطع. قال الحافظ: وفي حديث عائشة، وأنس: قص الأظفار. والتقليم أعم، والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الأصبع من الظفر، لأن الوسخ يجتمع فيه، فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة، وقد حكى أصحاب الشافعي فيه وجهين، فقطع المتولي بأن الوضوء حينئذ لا يصح، وقطع الغزالي في الإحياء. بأنه يعفى عن مثل ذلك، واحتج بأن غالب الأعراب لا يتعاهدون ذلك، ومع ذلك لم يرد في شيء من الآثار أمرهم بإعادة الصلاة، وهو ظاهر، لكن قد يعلق بالظفر إذا طال النجو لمن استنجى بإلماء ولم يمعن غسله، فيكون إذا صلى حاملا للنجاسة. وقد أخرج البيهقي في الشعب من طريق قيس بن أبي حازم: قال "صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاةً فأوْهَم فيها، فسُئل؟ فقال: مالي لا أوهمُ، ورُفْغُ أحدكم بين ظفره وأنملته". ورجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجه آخر، والرفع بضم الراء وفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة، يجمع على أرفاغ، وهي مغابن الجسد كالإبط، وما بين الأنثيين، والفخذين، وكل موضع يجتمع فيه الوسخ فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير وسخ رفغ أحدكم، والمعنى أنكم لا تقلمون أظفاركم ثم تحكون بها أرفاغكم فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة. قال أبو عبيد: أنكر عليهم طول الأظفار، وترك قصها.

قال الحافظ رحمه الله: وفيه إشارة إلى الندب إلى تنظيف المغابن كلها، ويستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حد لا يدخل منه ضرر على الأصبع، واستحب أحمد للمسافر أن يبقي شيئا لحاجته إلى الاستعانة

بذلك غالبا. اهـ فتح جـ 22/ ص 112.

ص: 355

"والاستحداد" بالحاء المهملة، استفعال من الحديد، والمراد به استعمال المُوسَى في حلق الشعر من مكان مخصوص من الجسد، قيل: وفي التعبير بهذه اللفظة مشروعية الكناية عما يستحيى منه إذا حصل الإفهام بها، وأغنى عن التصريح، قال الحافظ: والذي يظهر أن ذلك من تصرفات الرواة، فقد وقع في رواية النسائي في حديث أبي هريرة هذا: التعبير بحلق العانة، وكذا في حديث عائشة، وأنس عند مسلم.

قال الجامع: وسيأتي تمام البحث عنه حيث يفرده المصنف بباب بعد الباب الآتي إن شاء الله تعالى.

"والختان" بكسر الخاء المعجمة وتخفيف المثناة: اسم من الخَتْن، يقال: خَتَنَ الخاتن الصبيَّ خَتْنًا من باب ضرب، وقد يؤنث الختان بالهاء، فيقال: ختانة فالغلام مختون، والجارية مختونة، وغلام وجارية ختين أيضا، كما يقال: فيهما قتيل وجريح. اهـ المصباح.

وقال الحافظ: والختن يفتح ثم سكون: قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص، والختان اسم لفعل الخاتن، ولموضع الختان أيضا كما في حديث عائشة:"إذا التقى الختانان" والأول هو المراد هنا. اهـ فتح جـ 22/ ص 105.

قال الجامع: قد تقدم تمام البحث فيه في 9/ 9 فأرجع إليه تزدد علمًا.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

قال الجامع عفا الله منه: أما درجته، وبيان مواضعه من هذا الكتاب، وذكر من أخرجه من أصحاب الأصول وغيرهم، فقد تقدم في الباب السابق 9/ 9 فلا حاجة إلى إعادته. فلنذكر بقية المسائل:

"المسألة الأولى" أنه يستفاد من هذا الحديث العناية بإزالة ما طال من

ص: 356

الظفر لئلا يمنع من تكميل الطهارة وتحسينا للهيئة؛ لأنه إذا طال ظفره يكون مشوه الخلق مشابها للحيوانات. وقد خلق الله الإنسان في أحسن صورة، وأجمل تركيب كما قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: آية 4]، فينبغي المحافظة على هذه الصورة التي أحسن الله خلقها بإزالة ما أمر الشارع بإزالته، وإبقاء ما أمر بإبقائه، ولقد استحوذ الشيطان على بعض الناس فزين لهم مخالفة أمر الله تعالى فيُطَوِّلُونَ أظفارهم، ويحلقون لحاهم، ويوفرون شواربهم، وهذا خروج عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاعةٌ للشيطان، ومشابهة لأعداء الإسلام، نسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم، ويأخذ بأيدي إخواننا فيردهم إليه بمنه وكرمه. آمين.

"المسألة الثانية" في كيفية قص الأصابع:

قال الحافظ رحمه الله: لم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث لكن جزم النووي في شرح مسلم بأنه يستحب البداءة بمسبحة اليمنى، ثم الوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر، ثم الإبهام. وفي اليسرى البداءة بخنصرها إلى الإبهام، ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى بإبهامها إلى الخنصر، ولم يذكر للاستحباب مُستَنَدًا، وقال في شرح المهذب بعد أن نقل عن الغزالي: وأن المازَري اشتد إنكاره عليه فيه: لا بأس بما قاله الغزالي إلا في تأخير إبهام اليد اليمنى، فالأوْلى أن تقدم اليمنى بكمالها على اليسرى، قال: وأما الحديث الذي ذكره الغزالي فلا أصل له.

وقال ابن دقيق العيد: يحتاج من ادعى استحباب تقديم اليد على الرجل في القص إلى دليل، فإن الإطلاق يأبى ذلك. قال الحافظ: يمكن أن يؤخذ بالقياس على الوضوء، والجامع التنظيف، وتوجيه

ص: 357

البداءة باليمنى لحديث عائشة: "كان يعجبه التيمن في طهوره وترجله، وفي شأنه كله" والبداءة بالمسبحة منها لكونها أشرف الأصابع لأنها آلة التشهد، وأما إتباعها بالوسطى فلأن غالب من يقلم أظفاره يقلمها من قبل ظهر الكف فتكون الوسطى جهة يمينه فيستمر إلى أن يختم بالخنصر، ثم يكمل اليد بقص الإبهام، وأما في اليسرى فهذا بدأ بالخنصر لزم أن يستمر على جهة اليمين إلى الإبهام إلى آخر ما قاله الحافظ في الفتح جـ 22/ ص 113.

قال: وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة التي ذكرها الغزالي ومن تبعه، وقال كل ذلك لا أصل له، وإحداث استحباب لا دليل عليه، وهو قبيح عندي بالعالم، ولو تخيل متخيل أن البداءة بمسبحة اليمنى من أجل شرفها، فبقية الهيئة لا يتخيل فيه ذلك، نعم البداءة بيمنى اليدين ويكنى الرجلين له أصل، وهو:"كان يعجبه التيامن".

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله هو التحقيق الذي لا يقتضي الدليل سواه؛ لأن الشارع أطلق في ذلك فتقييد إطلاقه بما لا يقتضيه نص آخر مما لا ينبغي؛ لأن للشارع في إطلاق الأمر أحيانا حكمة كما له في تقييدها في بعض الأحيان حكمة، فالإنسان هنا مخير في فعل ما يسهل عليه، إلا أن اليمين له شرف كما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها وغيره، فبداءته بيمنى اليدين والرجلين مستحب. وما عدا ذلك من الكيفيات التي ذكرها الغزالي، والنووي، والعراقي، وأيدها الحافظ فمما لا ينبغي الالتفات إليه. حيث لا مستند لهم في ذلك من النصوص. والله أعلم.

وكذلك ما ذكره الدمياطي أنه تَلَقَّى عن بعض المشايخ أن من قص أظفاره مخالفا لم يصبه رَمَد، وأنه جرب ذلك مدة طويلة، وأن أحمد

ص: 358

نص على استحباب قصها مخالفا كما نقل هذا كله في الفتح لا ينبغي الالتفات إليه؛ لأنه لا أثارة من علم عليه، فالتجربة لا تكون مستندًا لتشريع الأحكام، بل العمدة في ذلك هو النقل عمن لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. نسأل الله تعالى أن يسلك بنا سبيل الهداية والاتباع ويجنبنا الزيغ بالابتداع. إنه ولي ذلك. آمين

"المسألة الثالثة" قال الحافظ رحمه الله: ولم يثبت أيضا في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وقد أخرجه المستغفري بسند مجهول، ورويناه في مسلسلات التيمي من طريقه، وأقرب ما وقفت عليه في ذلك ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة" وله شاهد موصول عن أبي هريرة لكن سنده ضعيف أخرجه البيهقي أيضا في الشعب، وسئل أحمد عنه؟ فقال: يسن في يوم الجمعة قبل الزوال، وعنه يوم الخميس، وعنه يتخير، وهذا هو المعتمد، إنه يستحب كيف ما احتاج إليه. اهـ فتح، جـ 22/ ص 113.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي اعتمده الحافظ رحمه الله هو التحقيق الذي لا يحتاج إلى التعليق. والله أعلم.

"المسألة الرابعة" في حكم دفن شعره وأظفاره:

قال الحافظ رحمه الله تعالى: وفي سؤلات مُهَنَّا عن أحمد، قلت له يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه، قلت: بلغك فيه شيء قال: كان ابن عمر يدفنه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشعر والأظفار، وقال:"لا يتلعب به سحرة بني آدم". قال الحافظ: وهذا الحديث أخرجه البيهقي، من حديث وائل بن حجر نحوه، وقد استحب أصحابنا دفنها لكونها أجزاء من الآدمي.

ص: 359

قال الجامع: ما بين الحافظ درجة الحديث فيحتاج إلى إثبات صحته، فلينظر.

"المسألة الخامسة" قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: يخير الذي يقلم أظفاره بين أن يباشر ذلك بنفسه، وبين أن يقص له غيره، كقص الشارب سواء إذ لا هتك حرمة في ذلك، ولا ترك مروءة، قاله النووي وغيره، ولا سيما من لا يحسن قص أظفار يده اليمنى فإن كثيرا من الناس لا يتمكن من قصها لعسر استعمال اليسار، فإن الأولى في حقه أن يتولى ذلك غيره لئلا يجرح يده أو يؤذيها. اهـ طرح جـ 2/ ص 79.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 360

‌11 - نتف الإبط

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية نتف الإبط.

والنَّتْفُ: هو النَّزْع، وبابه ضَرَب، والإبط: إبْطُ الرجل والدواب، قال ابن سيده: الإبط باطن المنكب، وقال غيره: باطن الجناح. يذكر ويؤنث، والتذكير أعلى، وقال اللحياني: هو مذكر، وقد أنثه بعض العرب، والجمع آباط. وحكى الفراء عن بعض الأعراب: فرفع السوط حتي بَرَقَت إبطه. أفاده في اللسان جـ 7/ ص 253.

وفي المصباح: أنه مثل حمل وأحْمَال وإن بعض المتأخرين يزعم أن كسر بائه لغة وهو غير ثابت، وتأبط الشيء جعله تحت إبطه اهـ بتغيير يسير جـ 1/ ص 1.

11 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَأَخْذُ الشَّارِبِ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

"محمد بن عبد الله بن يزيد"(س ق) المقريء المكي، ثقة، من العاشرة، مات سنة 256. وفي (صة) العدوي مولاهم أبو يحيى بن أبي عبد الرحمن المقرئ، عن ابن عيينة. ومروان بن معاوية، وعنه (س)

ص: 361

ووثقه، (ق). قال الدولابي: مات سنة 250.

2 -

"سفيان" بن عيينة أبو محمَّد الأعور المكي الحجة من كبار الثامنة تقدم. في 1/ 1.

3 -

"الزهري" محمَّد بن مسلم المدني الإمام العلم الحجة الثبت الحافظ رأس الطبقة الرابعة تقدم في 1/ 1.

4 -

"سعيد بن المسيب" أحد الفقهاء السبعة الحجة من كبار الثانية تقدم في 9/ 9.

5 -

"أبو هريرة" الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته فهو أعلى من سند 9/ 9 و 10/ 10.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء، اتفق الأئمة على تخريج أحاديثهم إلا شيخه فإنه ممن انفرد به هو وابن ماجه، وأنهم ما بين مكيين، وهما شيخه وسفيان، ومدنيين، وهم الباقون.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، الزهري عن سعيد.

ومنها: أن سعيدا أحد الفقهاء السبعة كما تقدم.

ومنها: أن أبا هريرة أحد المكثرين السبعة كما تقدم.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبار والتحديث والعنعنة.

شرح الحديث

"عن أبي هريرة" رضي الله عنه "عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه "قال: خمس من الفطرة" تقدم إعرابه في الباب السابق، أي خمس خصال من السنة القديمة التي اختارها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واتفقت عليها

ص: 362

الشرائع، فكأنها أمر جبلي فُطرُوا عليها، وتقدم أن مفهوم العدد هنا غير معتبر؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم وغيره عشر من الفطرة فتنبه.

"الخثان" بالكسر: قطع القُلْفَة التي تغطي الحشفة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التي في أعلى فرج المرأة، وقد تقدم البحث عنه في 9/ 9.

"وحلق العانة" أي الشعر الثابت فوق ذكر الرجل، وقبل المرأة، وسيأتي تمام البحث فيه في 12/ 12."ونتف الإبط" أي نزع الشعر الثابت تحت المنكب، وهذا هو الذي عناه المصنف بالترجمة، ونستوفي الكلام عليه هنا بعون الله تعالى. "وتقليم الأظفار" أي قطع ما طال منها، وقد استوفينا الكلام عليه في 10/ 10. "وأخذ الشارب" أي قطع الشعر النابت على الشفة العليا، وسيأتي تمام البحث عنه في 13/ 13. إن شاء الله تعالى.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

قال الجامع عفا الله عنه: أما درجة الحديث، وبيان مواضع ذكره عند المصنف، وذكر من أخرجه من الأئمة فقد مضي في 9/ 9 مُستوفى فلا نطيل الكلام بتكراره، بل نذكر ما بقي من المسائل فنقول:

"المسألة الأولى" في حكم نتف الإبط:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن نتف الإبط سنة، وادعى بعضهم الإتفاق عليه، لكن يرد عليه خلاف أبي بكر بن العربي فإنه أوجب الخصال الخمسة، كما نقله الصنعاني في العدة جـ 1 ص 351 حيث قال وقد ذهب إلى وجوب الخمس كلها القاضي أبو بكر بن العربي فقال: والذي عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف من جملة المسلمين؟ كذا قال في شرح الموطأ، واستغربه الحافظ ابن حجر، اهـ كلام الصنعاني.

ص: 363

قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: ويتأدَّى أصل السنة بإزالته بأي وجه كان من الحلق والقص والنورة. قال الحافظ: ولا سيما من يؤلمه النتف، وقد أخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي، عن يونس بن عبد الأعلى، قال: دخلت على الشافعي، ورجل يحلق إبطه، فقال: إني علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع، قال الغزالي: هو في الابتداء موجع ولكن يسهل على من اعتاده، قال: والحلق كاف لأن المقصود النظافة، وتعقب بأن الحكمة في نتفه أنه محل للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ يجتمع بالعرق فيه فيتلبد، ويهيج، فشرع فيه النتف الذي يضعفه فتخف الرائحة به بخلاف الحلق، فإنه يقوي الشعر ويهيجه فتكثر الرائحة لذلك.

وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل لكن بُيِّنَ أن النتف مقصود من جهة المعنى فذكر نحو ما تقدم قال وهو معنى ظاهر لا يهمل، فإن مورد النص إذا احتمل معنى مناسبا يحتمل أن يكون مقصودا في الحكم لا يترك، والذي يقوم مقام النتف في ذلك النورة لكنه يرق الجلد فقد يتأذى صاحبه به، ولا سيما إن كان جلده رقيقا. اهـ فتح جـ 1/ ص 111.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر ما قاله العلامة ابن دقيق العيد من مراعات معنى مورد النص، فلا ينبغي استعمال غير النتف إلا لضرورة والله أعلم.

"المسألة الثانية" قال العلامة الشوكانى رحمه الله: يستحب الإبتداء بالإبط الأيمن لحديث: "كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله"، وكذلك يستحب أن يبدأ في قص الشارب بالجانب الأيمن لهذا الحديث. اهـ نيل جـ 1/ ص 168.

ص: 364

"المسألة الثالثة" قال الحافظ العراقي: ذكر بعض الشافعية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له شعر تحت إبطه، لحديث أنس المتفق عليه:"أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه"، وفي الصحيحين أيضا من حديث عبد الله ابن بحينة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صَلَّى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه" وقال الشيخ جمال الدين الإسنوي في المهمات إن بياض الإبط كان من خواصه، فورد التعبير بذلك في حقه، فأطلق على غيره ذهولا، قال: وأما إبط غيره فأسود، لما فيه من الشعر. انتهى.

وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك في شيء من الكتب المعتمدة، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإن الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقي فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث عبد الله بن أقرم الخزاعي أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاع من نمرة، فقال:"كنت انظر إلى عفرة إبطيه إذا سجد". أخرجه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، فذكر الهروي في الغريبين وابن الأثير في النهاية أن العفرة بياض ليس بالناصع، ولكن كلون عفر الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر، وإطلاق بياض الإبطين في حق غيره صلى الله عليه وسلم موجود في كلام جمع كثير من الفقهاء، ولا إنكار فيه؛ لأن الإبط لا تناله الشمس في السفر والحر فيغير لونه كسائر الجسد الذي لا يبدو للشمس، نعم الذي نعتقد فيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة: بل كان نظيفا طيب الرائحة كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس: "ما شممت عنبرا قط ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم"

ص: 365

وفي الصحيحين أيضا أن أم أنس "كانت تجمع عرقه صلى الله عليه وسلم في قارورة فتجعله في طيبها، قالت: وهو من أطيب الطيب". وأبلغ من ذلك ما كان يوجد من الرائحة الطيبة عند قضائه صلى الله عليه وسلم حاجته، كما حكاه القاضي عياض عن بعض المعتنين بأخباره أنه إذا أراد أن يتغوط انشقت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيبة، ويدل على ذلك ما رواه ابن سعد في الطبقات بإسناده إلى عائشة أنها قالت: للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تأتي الخلاء فلا نرى منك شيئا من الأذى فقال: يا عائشة، أو ما علمت أن الأرض تبلع ما يخرج من الأنبياء، وقد قال بعض العلماء بطهارة الحدثين منه صلى الله عليه وسلم. اهـ طرح جـ 2/ ص 81.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره القاضي عياض وابن سعد يحتاج إلى النظر في سنده. والله أعلم، وبالله التوفيق.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 366

‌12 - حلق العانة

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية حلق العانة.

والحلق: بفتح فسكون: مصدر حَلَق شعره من باب ضرب، وحلاقا بالكسر، وحلّق بالتشديد مبالغة وتكثير. اهـ المصباح جـ 1/ ص 146.

والعانة: قال الفيومي في تقديره: فعلة بفتح العين، وفيها اختلاف أقوال، فقال الأزهري وجماعة: هي منبت الشعر فوق قُبُل المرأة، وذكر الرجل، والشعر الثابت عليه يقال له: الإسْب والشِّعْرَة، وقال ابن فارس في موضع: هي الإسْبُ، وقال الجوهري: هي شَعْر الرَّكَب، وقال ابن السكيت وابن الأعرابي: استعان واستَحَدّ: حلق عانته، وعلى هذا: فالعانة: الشعر الثابت، وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة بني قريظة:"من كان له عانة فاقتلوه". ظاهره دليل لهذا القول، وصاحب القول الأول يقول: الأصل من كان له شعر عانة فحذف للعلم به. اهـ المصباح جـ 2/ ص 439.

وقال في مادة "أسب": الإسْب وزان حمْل شعر الإسْت. وقال في مادة "شعر": الشِّعْرة وزان سدْرة شَعَر الركب للنساء خاصة، قاله في العباب، وقال الأزهرى: الشِّعْرة الشعر الثابت على عانة الرجل،

وركب المرأة، وعلى ما وراءهما. اهـ.

وقال في مادة "ركب": الرَّكَب بفتحتين قال ابن السكيت: هو منبت العانة، وعن الخليل: هو للرجل خاصة، وقال الفراء للرجل والمرأة، وقال الأزهري: الرَّكَب من أسماء الفرج، وهو مذكر، ويقال

للمرأة والرجل أيضا، اهـ كلام الفيومي في المصباح.

ص: 367

12 -

أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْفِطْرَةُ قَصُّ الأَظْفَارِ، وَأَخْذُ الشَّارِبِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

"الحارث بن مسكين" الأموي مولاهم أبو عمر قاضي مصر الفقيه الثقة تقدم في 9/ 9.

2 -

"ابن وهب" عبد الله الفَهْمي القرشي مولاهم أبو محمَّد المصري ثقة تقدم في 9/ 9.

3 -

"حنظلة بن أبي سفيان"(ع) بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية الجمحي المكي، ثقة حجة، من السادسة، مات سنة 151. وفي (صة) عن طاوس وسالم والقاسم، وعنه الثوري، ويحيى القطان، ووكيع. قال ابن معين: ثقة حجة. ووثقه أحمد، وأبو زرعة، وأبو داود والنسائي اهـ بزيادة.

4 -

"نافع"(ع) أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور، من الثالثة مات سنة 117 أو بعد ذلك. وفي (صة) العدوي مولاهم أبو عبد الله المدني أحد الأعلام عن مولاه ابن عمر، وأبي لبابة وأبي هريرة، وعائشة، وخلق. وعنه ابناه أبو بكر، وعمر، وأيوب، وابن جريج، ومالك، وخلائق. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك،

ص: 368

عن نافع، عن ابن عمر. قال حماد بن زيد. مات سنة 120.

قال الجامع عفا الله عنه: ذكر الحافظ العراقي في طرح التثريب جـ 1/ ص 117 ما نصه: قيل: اسم أبيه هرمز. اهـ ولم أره في غير هذا الكتاب.

5 -

"ابن عمر"(ع) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، واستصغر يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة، والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعا للأثر، مات سنة 73 في آخرها، أو أول التي تليها. وفي (صة): هاجر مع أبيه، وشهد الخندق وبيعة الرضوان له ألف وستمائة حديث وثلاثون حديثا، اتفقا على مائة وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. وعنه بنوه سالم، وحمزة، وعبيد الله، وابن المسيب، ومولاه نافع، وخلق، وفي الصحيح "عبد الله رجل صالح"، قال شمس الدين الذهبي: كان إماما متينا واسع العلم كثير الاتباع وافر النسك كبير القَدْر متين الديانة عظيم الحرمة ذكر للخلافة يوم التحكيم، وخوطب في ذلك، فقال على أن لا يُجْرَى فيها دم، قال أبو نعيم: مات سنة 74.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

منها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء وأنهم ما بين مصريين، وهما شيخه وابن وهب، ومكي وهو حنظلة، ومدنيين، وهم الباقون

(1)

.

ومنها: أن ابن عمر أحد العبادلة الأربعة الذين أشار إليهم السيوطي

(1)

وقع في نسخة (صة) أن ابن عمر مكي، وهذا باعتبار كونه مهاجرًا، وأنه مات فيها، وكونه مدنيا هو الأولى، إذ المهاجر لا ينسب إلى بلده الذي هاجر منه. فتنبه.

ص: 369

في الألفية بقوله:

والبَحْرُ وابْنَا عُمَر وعَمْرو

وابْنُ الزُّبَيْر في اشْتهَار يَجْري

دُونَ ابن مَسْعُود لهُم عَبَادلَهْ

وغَلَّطُوا مَنْ غَيْر هَذا مَالَ لهْ

وأنه أحد المكثرين السبعة المتقدمين في شرح 1/ 1 روى 2286 حديثا، وتقدم آنفا في عبارة (صة) أنه روى 1630 ولا تنافي بينهما لأن هذا ما وجد له في مسند بقي بن مخلد، كما حققه ابن الجوزي رحمه الله تعالى، انظر تعليق العلامة أحمد محمَّد شاكر على ألفية السيوطي ص 218، والذي في (صة) هو ما في الأصول الستة، فتنبه.

ومنها: أن فيه قوله أخبرنا الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، وقد استوفيت نكتته في 9/ 9 فارجع إليه تزدد علما.

ومنها: أن فيه الإخبار، والعنعنة من صيغ الأداء.

شرح الحديث

"عن ابن عمر" رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الفطرة" أي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، واختار ابن دقيق العيد أن تكون الفطرة هنا ما جبل الله الخلق عليه، وجعل طباعهم على فعله، وهي كراهة ما في جسده مما هو ليس من زينته. "قص الأظفار" أي قطع ما طال منه "وأخذ الشارب" أي قصه، وسيأتي تمام البحث عنه في الباب التالي إن شاء الله تعالى. "وحلق العانة" أي إزالة الشعر الثابت فوق ذكر الرجل، وقبل المرأة، وهذا هو موضع الترجمة هنا، وقد تقدم الكلام على معنى العانة في أول الباب. ويأتي تمام البحث عنه في المسائل إن شاء الله تعالى.

ص: 370

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنه، أخرجه البخاري.

"المسألة الثانية" في بيان موضعه عند المصنف:

أخرجه المصنف هنا 12/ 12 المجتبى، عن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن حنظلة بن أبي سفيان عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه في 9/ 12 الكبرى قرئ على الحارث بن مسكين، وأنا أسمع، عن ابن وهب، عن حنظلة بن أبي سفيان عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الفطرة: قص الأظفار وحلق العانة، وأخذ الشارب".

"المسألة الثالثة": في بيان من أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه (خ) في اللباس 63/ 1، عن المكي بن إبراهيم، عن حنظلة، عن نافع، قال أصحابنا: عن المكي، عن ابن عمر .. فذكره، وفي 64/ 1 عن أحمد، عن ابن أبي رجاء، عن إسحاق بن سليمان، عن حنظلة .. بأتم منه.

وأخرجه ابن حبان في صحيحه 1482، من طريق الوليد بن مسلم، وهو مدلس إلا أنه صرح بالتحديث عن حنظلة بن أبي سفيان

وأخرجه أحمد في مسنده 2/ 118، من طريق إسحاق بن سليمان، قال: سمعت حنظلة يذكر عن نافع .. فذكره، ولفظه:"الفطرة حلق العانة، وتقليم الأظافر، وقص الشارب".

ص: 371

"المسألة الرابعة" في بيان معنى العانة:

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: المراد بالعانة: الشعر الذي فوق ذكر الرجل، وحواليه، وكذا الشعر الذي حوالي فرج المرأة، ونقل عن أبي العباس بن سريج أنه الشعر الثابت حول حَلَقِ الدبر، فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما، قال: وذكر الحلق لكونه هو الأغلب، وإلا فيجوز الإزالة بالنورة، والنتف، وغيرهما، وقال أبو شامة: العانة: الشعر الثابت على الرَّكَب بفتح الراء والكاف وهو ما انحدر من البطن، فكان تحت الثنية، وفوق الفرج، وقيل: لكل فخذ ركب، وقيل: ظاهر الفرج، وقيل: الفرج بنفسه سواء كان من رجل أو امرأة قال: ويستحب إماطة الشعر عن القبل والدبر، بل من الدبر أولى خوفا من أن يعلق شيء من الغائط، فلا يزيله المستنجي إلا بالماء، ولا يتمكن من إزالته بالاستجمار، قال: ويقوم التنور مكان الحلق، وكذا النتف، والقص، وقد سئل أحمد عن أخذ العانة بالمقراض؟ فقال: أرجو أن يجزئ، قيل: فالنتف؟ قال: وهل يقوى على هذا أحد؟، وقال ابن دقيق العيد: قال أهل اللغة: العانة الشعر النابت على الفرج، وقيل: هو منبت الشعر قال: وهو المراد في الخبر.

وقال أبو بكر بن العربي: شعر العانة أولى الشعور بالإزالة لأنه يتكثف ويتلبد فيه الوسخ بخلاف شعر الإبط، قال: وأما حلق ما حول الدبر فلا يشرع، وكذا قال الفاكهي في شرح العمدة: أنه لا يجوز، كذا قال، ولم يذكر للمنع مستندا، والذي استند إليه أبو شامة قوي بل ربما تصور الوجوب في حق من تعين ذلك في حقه، كمن لم يجد من الماء إلا القليل وأمكنه أن لو حلق الشعر أن لا يعلق به شيء من الغائط يحتاج معه إلى غسله، وليس معه ماء زائد على قدر الاستنجاء، وقال ابن دقيق العيد: كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الذكر ذكره بطريق القياس. اهـ فتح، جـ 22/ ص 110.

ص: 372

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: بعد نقل كلام النووي المتقدم: ما نصه: وأقول: الاستحداد إن كان في اللغة حلق العانة كما ذكره النووي فلا دليل على سنية حلق الشعر الثابت حول الدبر، وإن كان الاحتلاق بالحديد كما في القاموس فلا شك أنه أعم من حلق العانة، ولكنه وقع في مسلم وغيره بدل الاستحداد في حديث "عشر من الفطرة": حلق العانة، فيكون مبينا لإطلاق الاستحداد في حديث:"خمس من الفطرة"، فلا يتم دعوى سنية حلق شعر الدبر أو استحبابه إلا بدليل، ولم نقف على حلق شعر الدبر من فعله صلى الله عليه وسلم ولا من فعل أحد من أصحابه. اهـ، كلام الشوكاني: نيل جـ 1/ ص 167 - 168.

"المسألة الخامسة" في كيفية الإزالة:

قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: الأولي في إزالة الشعر هنا الحلق اتباعا، ويجوز النتف بخلاف الإبط، فإنه بالعكس؛ لأنه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف العانة، والشعر من الإبط بالنتف يضعف وبالحلق

يقوى، فجاء الحكم في كل من الموضعين بالمناسب، وقال النووي وغيره: السنة في إزالة شعر العانة الحلق بالموسى في حق الرجل والمرأة معا، وقد ثبت الحديث الصحيح عن جابر في النهي عن طرق النساء ليلًا حتى تمتشط الشعثة، وتَسْتَحدَّ المُغيبةُ، لكن يتأدى أصل السنة بالإزالة بكل مزيل.

وقال أيضا: والأولى في حق الرجل الحلق، وفي حق المرأة النتف، واستشكل بأن فيه ضررا على المرأة بالألم، وعلى الزوج باسترخاء المحل، فإن النتف يرخي المحل باتفاق الأطباء، ومن ثم قال ابن دقيق العيد: إن بعضهم مال إلى ترجيح الحلق في حق المرأة لأن النتف يرخي المحل، لكن قال ابن العربي: إن كانت شابة فالنتف في حقها أولى لأنه

ص: 373

يربوا مكان النتف، وإن كانت كهلة فالأولى في حقها الحلق لأن النتف يرخي المحل، ولو قيل: الأولى في حقها التنور مطلقا لما كان بعيدا، وحكي النووي في وجوب الإزالة عليها إذا طلب ذلك الزوج منها وجهين: أصحهما الوجوب.

قال الجامع عفا الله عنه: قول النووي الأخير في التفريق بين الرجل والمرأة، وكذا ما قاله ابن العربي في الشابة والكهلة كل ذلك لا دليل عليه، بل الراجح أن الرجل والمرأة مطلقا في ذلك سواء، فالسنة في حق الكل الحلق كما دلت الأحاديث الصحيحة علي ذلك، كما تقدم. لا سيما وقد قيل إن النتف ضرر للمرأة ومرخ للمحل، فتنبه والله أعلم.

"المسألة السادسة" قال الحافظ رحمه الله: يفترق الحكم في نتف الإبط، وحلق العانة، بأن نتف الإبط وحلقه يجوز أن يتعاطاه الأجنبي بخلاف حلق العانة فيحرم إلا في حق من يباح له المس والنظر، كالزوج والزوجة.

ونقل العراقي عن النووي أنه سَوَّى بين الإبط والعانة في أنه يتولى ذلك بنفسه ولا يخير بين ذلك وبين مباشرة غيره لما فيه من هتك المروءة والحرمة

(1)

بخلاف قص الشارب.

"المسألة السابعة" قال الحافظ: وأما التنور: فسئل عنه أحمد فأجازه، وذكر أنه يفعله، وفيه حديث عن أم سلمة أخرجه ابن ماجه والبيهقي، ورجاله ثقات، ولكنه أعله بالإرسال، وأنكر أحمد صحته، ولفظه "أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلي ولي عانته بيده"، مقابله حديث أنس "أن

(1)

قال العراقي: وهو مسلم فيما إذا أتى بالأفضل من النتف في الإبط، أما إذا أتى بالحلق فلا بأس بمباشرة غيره له لعسر تمكنه كما نقل عن الشافعي، أن المزين حلق له اهـ. قلت: المنع لا دليل عليه، وما ذكره من هتك المروءة غير صحيح، يرده ما نقل عن الشافعي رحمه الله.

ص: 374

النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور، وكان إذا أكثر شعره حلقه" ولكن سنده ضعيف جدًا. اهـ فتح جـ 22/ ص 111.

"المسألة الثامنة" قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: الحكمة في اختصاص الإبط بالنتف والعانة بالحلق على وجه الأفضلية، أن الإبط محل الرائحة الكريهة، والنتف يضعف الشعر فتخف الرائحة الكريهة،

والحلق يكثف الشعر فتكثر فيه الرائحة الكريهة. والله أعلم اهـ طرح جـ 2/ ص 80.

"المسألة التاسعة" قال الحافظ العراقي رحمه الله أيضا: فإن قيل: قد قدمتم الاتفاق على أن حلق العانة وتقليم الأظفار سنة وليست بواجبة

(1)

فما وجه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد في مسنده من حديث رجل من بني غفار: "من لم يحلق عانته، ويقلم أظفاره، ويَجُزَّ شاربه فليس منا" وهذا يدل على وجوب هذه الأشياء، والجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أن هذا لا يثبت لأن في إسناده ابن لهيعة، والكلام فيه معروف، إنما يثبت منه الأخذ من الشارب فقط كما رواه الترمذي وصححه، والنسائي من حديث زيد بن أرقم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا".

والثاني: أن المراد على تقدير ثبوته: ليس على سنتنا وطريقتنا، كقوله:"ليس منا من لم يتغن بالقرآن"، فهذا هو المراد قطعا. والله أعلم. اهـ طرح جـ 2/ ص 81 - 82.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

فيه ما تقدم من خلاف ابن العربي حيث أوجب الفطر الخمس. فتنبه.

ص: 375

‌13 - قص الشارب

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية قص الشارب.

والقص: بالفتح مصدر قصصته من باب قتل قطعته، وقصيته بالتثقيل مبالغة، والأصل قصصته فاجتمع ثلاثة أمثال فأبدل من إحداهما ياء للتخفيف، أفاده في المصباح،

وقال ابن منظور: قَصَّ الشعر، والصوف، والظفر يقصُّه قصًا، وقصصه، وقصاه على التحويل قطعه،. اهـ لسان جـ 7/ ص 73.

وأما الشارب: فهو الشعر الذي يسيل على الفم، وقال أبو حاتم: ولا يكاد يثنى، وقال أبو عبيدة: قال الكلابيون: شاربان باعتبار الطرفين، والجمع شوارب. قاله في المصباح وقد تقدم بأتم من هذا في 9/ 9 فارجع إليه تزداد علما.

13 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَارِبَهُ فَلَيْسَ مِنَّا".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(علي بن حُجْر)(خ م ت س)

(1)

بضم المهملة وسكون الجيم بن

(1)

رمز له في التقريب لأبي داود، بدل الترمذي، وأظنه خطأ؛ لأنه ما روى عنه كما يظهر من تهذيب التهذيب والخلاصة.

ص: 376

إياس السعدي المروزي، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة حافظ، من صغار التاسعة، مات سنة 242 وقد قارب المائة، أو جاوزها، وفي (صة) أبو الحسن المروزي الحافظ، عن شريك وإسماعيل بن جعفر، وهقل بن زياد، وهشيم، وخلائق، وعنه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. ووثقه.

2 -

(عَبيدة بن حُمَيد)

(1)

(خ 4) الكوفي أبو عبد الرحمن المعروف بالحذاء التميمي، أو الليثي، أو الضبي، صدوق، نحوي، ربما أخطأ، من الثامنة، مات سنة 190 وقد جاوز الثمانين. وفي (صة) عبيدة بن حميد بن صهيب، عن الأسود بن قيس، وعبد الملك بن عمير، وعمارة ابن غزية، وعنه أحمد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن حجر، وخلق. قال ابن سعد: ثقة صاحب نحو وعربية.

3 -

(يوسف بن صهيب)(د ت س) الكندي الكوفي ثقة من السادسة، وفي (تت) روى عن ابن بريدة، والشعبي، وحبيب بن يسار، وغيرهم. وعنه جرير بن عبد الحميد، ومعتمر بن سليمان، وعبيدة بن حميد وعبد الله بن نمير، ويحي القطان، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحافظ: وروى ابن شاهين في الثقات عن عثمان بن أبي شيبة، قال: يوسف بن صهيب ثقة، وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا يوسف بن صهيب، وهو ثقة. اهـ تت.

4 -

(حبيب بن يسار)(ت س) الكندي الكوفي، ثقة من الثالثة.

وفي (تت) روى عن زيد بن أرقم، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن

(1)

عَبيدة بفتح العين وكسر الباء مكبرا، وحُميد بضم الحاء مصغرا.

ص: 377

أبي أوفى، وسويد بن غفلة، وزاذان الكندي. وعنه زكريا بن يحيى الحميري وأبو الجارود زياد بن المنذر، ويوسف بن صهيب، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. أخرجا له يعني الترمذي والنسائي حديثا واحدا في أخذ الشارب، وصححه الترمذي. قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، وأخرج ابن عدي هذا الحديث في ترجمة مصعب بن سلام عنه عن الزبرقان السراج، عن أبي رزين، عن زيد بن أرقم. وقال: أظن أبا رزين هو حبيب ابن يسار. اهـ تت.

5 -

(زيد بن أرقم)(ع) بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين، مات سنة 6 أو 68 وفي (صة) زيد بن أرقم بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة ابن عمرو، الخزرجي، شهد الخندق، وغزا سبع عشرة غزوة، ونزل الكوفة. له تسعون حديثا، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة، وعنه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وطاوس، ومحمد بن كعب والنضر بن أنس وخلق، رمد فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من خواص أصحاب علي، قال خليفة: مات سنة 66، وقال الهيثم: سنة 68.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وأنهم كوفيون إلا شيخه فمروزي، وأن شيخة ممن أخرج له الشيخان، والترمذي، وعَبيدة ممن أخرج له (خ 4) ويوسف بن صهيب ممن أخرج له (د ت س)، وحبيب بن يسار ممن أخرج له (ت س)، وأن زيدا ممن اتفقوا عليه.

ص: 378

ومنها: أن فيه الإخبار، والعنعنة، والقول.

شرح الحديث

(عن زيد بن أرقم) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يأخذ شاربه)

(1)

أي شعره الثابت على الشفة العليا، قال الحافظ رحمه الله تعالى: واختلف في جانبيه وهما السِّبَالان: فقيل: هما من الشارب، ويشرع قصهما معه، وقيل: هما من جملة شعر اللحية. اهـ فتح، 22/ 114.

قال الجامع عفا الله عنه:

وسبب اختلافهم اختلاف أهل اللغة في معنى السِّبَال، قال في (ق) السَّبَلَة محركة: الدائرة في وسط الشفة العليا، أو ما على الشارب من الشعر أو طرفه، أو مجتمع الشاربين، أو ما على الذقن إلى طرف اللحية كلها، أو مقدمها خاصة جمعه سبَال. اهـ. ص 1308. وزاد في اللسان: أنها اللحية كلها، حكاه عن ثعلب، والحاصل أن من فسر السبلة باللحية أو بجزئها لم يشرع عنده الأخذ منها، ومن فسرها بشعر الشارب أو نحوه شرع عنده الأخذ منها. والله أعلم. و"مَنْ" شرطية وجوابها جملة قوله:(فليس منا) أي ليس على طريقتنا، أو ليس من العاملين بسنتنا المهتدين بهدينا ولم يرد خروجه من الإسلام، نعم سوق الكلام على هذا الوجه يفيد التغليظ فلا ينبغي الإهمال. قاله السندى. جـ 1/ ص 15 - 16.

قال الجامع عفا الله عنه: قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم جـ 2/ ص 108 في شرح حديث: "من حمل علينا السلاح فليس

(1)

الرواية عند المصنف هنا، وفي كتاب الزينة "من لم يأخذ شاربه" وفي الكبرى 11/ 14 وقع بلفظ "من لم يأخذ من شاربه" بزيادة من، وهو الذي عند الترمذي في كتاب الاستئذان.

ص: 379

منا" ما معناه: مذهب أهل السنة والفقهاء أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل ولم يستحله فهو عاص ولا يكفر بذلك، فإن استحله كفر، فقيل هذا الحديث محمول على المستحل بغير تأويل فيكفر، ويخرج من الملة، وقيل: معناه ليس على سيرتنا الكاملة، وهدينا.

وكان سفيان بن عيينة رحمه الله يكره من يفسره بليس على هدينا،

ويقول: بئس هذا القول. يعني بل يمسَك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر. والله أعلم. اهـ كلام النووي.

والحاصل أن مثل هذه النصوص واردة مورد الزجر والتحذير فهي في حق من استحلها. واستخف بأوامر الشارع ونواهيه على ظاهرها. وفي حق من ترك العمل بها تهاونا وتكاسلا تكون للتغليظ في الزَّجر، ففي هذا الحديث من لم يأخذ من شاربه بُغْضًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وتقليدا لأعداء الإسلام من المجوس والمشركين فلا شك في كفره وخروجه عن الإسلام ومن ترك ذلك تهاونا وتكاسلا مع اعترافه بعصيانه معتذرا بأعذار لا قيمة لها في نظر الشرع فهو زائغ عن الصراط المستقيم، حائد عن الهدي النبوي غير خارج به عن الإسلام، إلا أنه على خطر عظيم، قال الله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] فلا ينبغي لمن كان حريصًا على دينه أن يتهاون في مثل هذا الأمر، نسأل الله تعالى أن يجنبنا المخالفة، ويهدينا وإخواننا الصراط المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وقد استدل بهذا الحديث، وبحديث "احفوا الشوارب" ونحوهما على وجوب قص الشارب ابن حزم رحمه الله كما في الفتح، وزاد في المنهل بعض الحنفية، والجمهور على استحبابه.

قال الجامع: الظاهر القول الأول. والله أعلم.

ص: 380

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث زيد بن أرقم حديث صحيح.

"المسألة الثانية" في بيان موضعه عند المصنف.

أخرجه المصنف هنا 13/ 13 المجتبى. بالسند المذكور وفي 11/ 14 الكبرى عن عبد الله بن محمَّد بن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن يوسف بن صهيب، عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من لم يأخذ من شاربه فليس منا". وفي الزينة من المجتبى، 8/ 129، 130 رقم 5047 عن محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر، عن يوسف بن صهيب

الخ.

"المسألة الثالثة" في بيان من أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه (ت س) فأخرجه الترمذي في الإستئذان 50/ 2 عن أحمد بن منيع، عن عَبيدة بن حُميد وفي 50/ 3 عن محمَّد بن بشار، عن يحيى بن سعيد كلاهما عن يوسف بن صهيب

الخ. وقال حسن صحيح. وأخرجه أحمد في المسند جـ 2/ ص 366 - 368 عن يحيى، عن يوسف. وأخرجه الضياء في المختارة،

"المسألة الرابعة" في اختلاف العلماء في الشارب هل يحلق أو يقص؟

قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في ذلك: فذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه لظاهر قوله: "احفوا وأنهكوا"، وهو قول الكوفيين، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال، وإليه ذهب مالك، وكان يرى تأديب من حلقه، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: إحفاء الشارب مثلة.

ص: 381

قال النووي: المختار أنه يقص حتى يبد وطوف الشفة. ولا يُحفيه من أصله، قال: وأما رواية:" أحفوا الشوارب" فمعناه: أحفوا ما طال عن الشفتين، وكذلك قال مالك في الموطأ: يؤخذ من الشارب حتى

يبدو أطراف الشفة.

قال العلامة ابن القيم: وأما أبو حنيفة، وزفر، وأبو يوسف، ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشوارب أن الإحفاء أفضل من التقصير، وذكر بعض المالكية عن الشافعي أن مذهبه كمذهب أبي حنيفة في حلق الشارب، قال الطحاوي: ولم أجد عن الشافعي شيئا منصوصا في هذا، وأصحابه الذين رأيناهم المزني، والربيع كانا يُحفيان شواربهما، ويدل ذلك أنهما أخذاه عن الشافعي. وروى الأثرم عن الإمام أحمد: أنه كان يُحفي شاربه إحفاء شديدا وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يُحفي. وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ترى الرجل يأخذ شاربه ويحفيه، أم كيف يأخذه؟ قال: إن أحفاه فلا بأس، وإن أخذه. قصا فلا بأس. وقال أبو محمَّد في المغني هو مخير بين أن يحفيه وبين أن يقصه.

وقد روى النووي: في شرح مسلم عن بعض العلماء أنه ذهب إلى التخيير بين الأمرين الإحفاء وعدمه. وروى الطحاوي الإحفاء عن جماعة من الصحابة: أبي سعيد، وأبي أسيد. ورافع بن خديج، وسهل بن سعد، وعبد الله بن عمر، وجابر، وأبي هريرة.

قال ابن القيم: واحتج من لم يرى إحفاء الشارب بحديث عائشة، وأبي هريرة المرفوعين:"عشر من الفطرة" فذكر منها قص الشارب، وفي حديث أبي هريرة:"إن الفطرة خمس"

وذكر منها قص الشارب.

ص: 382

واحتج المحفون:

بأحاديث الأمر بالاحفاء وهي صحيحة، وبحديث ابن عباس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحفي شاربه". انتهى.

والإحفاء ليس كما ذكره النووي من أن معناه أحفوا ما طال عن الشفتين، بل الإحفاء الإستئصال كما في الصحاح، والقاموس، والكشاف، وسائر كتب اللغة، ورواية القص لا تنافيه، لأن القص قد يكون على جهة الإحفاء، وقد لا يكون، ورواية الإحفاء معينة للمراد، وكذلك حديث الباب الذي فيه:"من لم يأخذ شاربه فليس منا" لا يعارض رواية الإحفاء لأن فيها زيادة يتعين المصير إليها، ولو فرض التعارض من كل وجه لكانت رواية الإحفاء أرجح لأنها في الصحيحين، وروى الطحاوي:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من شارب المغيرة على سواكه" قال: وهذا لا يكون معه إحفاء. ويجاب عنه بأنه محتمل، ودعوى أنه لا يكون معه إحفاء ممنوعة، وهو وإن صح كما ذكر لا يعارض، تلك أقوال منه صلى الله عليه وسلم. أهـ كلام الشوكاني. نيل، 1/ 177.

قال الجامع عفا الله عنه: ومذهب من خير عندي أرجح لأنه الجامع بين الأحاديث كما يأتي قريبا.

ونقل الحافظ رحمه الله تعالى في الفتح بالتخيير عن الطبري، وأنه قال: دلت السنة على الأمرين، ولا تعارض فإن القص يدل على أخذ البعض، والإحفاء على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتخير فيما شاء، وأن ابن عبد البر قال: الإحفاء محتمل لأخذ الكل. والقص مفسر المراد، والمفسر مقدم على المجمل.

(1)

قال الحافظ: ويرجح قول الطبري ثبوت الأمرين معا في الأحاديث

(1)

اعترض عليه الصنعاني بأن هذا ترجيح لمذهب مالك، وأن قوله إن الإحفاء محتمل لأخذ الكل عبارة غير جيدة، إذ هو ظاهر في أخذ الكل، انظر العدة جـ 1/ ص 346.

ص: 383

المرفوعة، فأما الإقتصار على القص ففي حديث المغيرة بن شعبة: ضفْتُ النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفي فقصه على سواك. أخرجه أبو داود، واختلف في المراد بقوله: على سواك، فالراجح أنه وضع سواكا عند الشفة تحت الشعر وأخذ الشعر بالمقص، وقيل المعنى قصه على أثر سواك، أي بعد ما تسوك، ويؤيد الأول ما أخرجه البيهقي في هذا الحديث قال فيه "فوضع السواك تحت الشارب، وقص عليه" وأخرج البزار من حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلًا وشاربه طويل، فقال "ائتوني بمقص وسواك" فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوزه. وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه، وأخرج البيهقي والطبراني من طريق شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم: أبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معدي كرب الكندي، وعقبة بن عوف السلمي، والحجاج بن عامر الثمالي، وعبد الله بن بسر.

وأما الإحفاء ففي رواية ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفون سبالهم، ويحلقون لحاهم فخالفوهم" قال: فكان ابن عمر يستقرض سَبَلَته فيجزها كما يجز الشاة أو البعير. أخرجه الطبري والبيهقي، وأخرجا من طريق عبد الله ابن أبي رافع قال: رأيت أبا سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، ورافع بن خديج، وأبا أسيد الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق، لفظ الطبري، وفي رواية البيهقي: يقصون شواربهم مع طرف الشفة، وأخرج الطبري من طرق عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم، قال الحافظ: وقد تقدم في أول الباب أثر ابن عمر أنه كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد، لكن كل ذلك محتمل لأن يراد استئصال جميع الشعر

ص: 384

الثابت على الشفة العليا، ومحنمل لأن يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها، ولا يستوعب بقيتها نظرا إلى المعني في مشروعية ذلك، وهو مخالفة المجوس، والأمن من التشويش على الآكل، وبقاء زهومة المأكول فيه، وكل ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع مفترق الأخبار الواردة في ذلك، وبذلك جزم الداودي في شرح أثر ابن عمر المذكور، وهو مُقتضى تصرف البخاري؛ لأنه أورد أثر ابن عمر، وأورد بعده حديثه، وحديث أبي هريرة في قص الشارب فكأنه أشار إلى أن ذلك هو المراد من الحديث، وعن الشعبي أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العليا، وما قاربه من أعلاه، ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم، ولا يزيد على ذلك، وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار.

وقد أبدى ابن العربي لتخفيف شعر الشارب معنى لطيفا فقال: إن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فيه من اللزوجة، ويعسر تنقيته عند غسله، وهو بإزاء حاسة شريفة، وهي الشم فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة. قال الحافظ: وذلك يحصل بتخفيفه ولا يستلزم إحفائه وإن كان أبلغ، وقد رجح الطحاوي الحلق على القص بتفضيله صلى الله عليه وسلم الحلق على التقصير في النسك، وَوَهَّى ابن التين الحلق بقوله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من حلق" وكلاهما احتجاج بالخبر في غير ماورد فيه، ولا سيما الثاني، ويؤخذ مما أشار إليه ابن العربي مشروعية تنظيف داخل الأنف وأخذ شعره إذا طال. اهـ فتح جـ 22/ ص 116.

قال الجامع عفا الله عنه: فتحصل من مجموع ما تقدم أن العلماء اختلفوا في حلق الشارب منهم من كرهه، ومنهم من رجحه على القص، ومنهم من رجح القص عليه، ومنهم من خَيَّرَ. وسبب ذلك

اختلاف الأحاديث: فإنها وردت بلفظ: "أحفوا الشوارب" وبلفظ:

ص: 385

"جزوا الشوارب" بلفظ: "أنهكوا الشوارب" وكلها في مسلم، وبلفظ الحلق، وهي رواية المصنف في الكبري في 9/ 9 عن محمَّد بن عبد الله ابن يزيد، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الفطرة خمس: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط وتقليم الأظفار، وحلق الشارب".

قال الحافظ: ورواه جمهور أصحاب ابن عيينة بلفط القص. وكذا سائر الرواة عن شيخه الزهري، ووقع عند النسائي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ:"تقصير الشارب" نعم وقع الأمر بما يشعر بأن رواية الحلق محفوظة: كحديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ:"جزوا الشوارب"، وحديث ابن عمر المذكور في الباب الذي يليه بلفظ:"أحفوا الشوارب" وفي الباب الذي يليه بلفظ: "أنهكوا الشوارب" فكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة لأن الجز، وهو بالجيم والزاى الثقيلة، قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد، والإحفاء بالمهملة والفاء الاستئصال، ومنه حتى "أحفوه بالمسألة" قال أبو عبيد الهروي: معناه ألزقُوا الجَزَّ بالبشرة، وقال الخطابي: هو بمعنى الاستقصاء. والنهك بالنون والكاف: المبالغة في الإزالة، ومنه ما تقدم في الكلام على الختان قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة:"أشمي ولا تُنْهكي". أي لا تبالغي في ختان المرأة، وجرى على ذلك أهل اللغة. اهـ كلام الحافظ، فتح جـ 22/ ص 114.

وقد تقدم ما نقله الشوكاني عن الصحاح، والقاموس، وغيرهما من كتب اللغة في معنى الإحفاء أنه الإستئصال، وردّ ما قاله النووي من أن معناه أحفوا ما طال عن الشفتين، والحاصل أن هذه الأحاديث الصحاح تدل على الخلق.

ص: 386

وأما القص فهو كما قال الحافظ: ما في أكثر الأحاديث، كما في حديث أبي هريرة عند البخاري، والمصنف، وحديث عائشة عند مسلم، وحديث أنس عنده، أيضا، وحديث ابن عمر عند البخاري.

قال الجامع عفا الله عنه:

فلما صحت الأحاديث في الأمرين علمنا أن المكلف مخير فيهما.

قال صاحب المنهل، 1/ 185 والحاصل أن السنة دلت على الأمرين ولا تعارض، فيختار المكلف أيهما شاء فينبغي لمن يريد المحافظة على السنن أن يستعمل هذا مرة، وهذا مرة، فيكون قد عمل بكل ما ورد. اهـ كلام صاحب المنهل. وهذا أحسن ما يحصل به العمل بالأحاديث المقتضية للأمرين من غير إهمال لبعضها والله أعلم.

"المسألة الخامسة" في فوائد تتعلق بهذا الحديث ذكرها الحافظ رحمه الله:

الأولى: قال النووي: يستحب أن يبدأ في قص الشارب باليمين.

الثانية: يتخير بين أن يقص ذلك بنفسه، أو يولي ذلك غيره، لحصول المقصود من غير هتك مروءة بخلاف الإبط، ولا ارتكاب حرمة بخلاف حلق العانة. قال الحافظ: محل ذلك حيث لا ضرورة، وأما من لا يحسن فقد يباح له إن لم تكن له زوجة تحسن الحلق أن يستعين بغيره بقدر الحاجة، لكن محل هذا إذا لم يجد ما يتنور به، فإنه يغني عن الحلق ويحصل المقصود به. وكذا من لا يَقْوَى على النتف، ولا يتمكن من الحلق إذا استعان بغيره في الحلق لم تهتك المروءة من أجل الضرورة كما تقدم عن الشافعي، وهذا لمن لم يقو على التنور من أجل أن النورة تؤذي الجلد الرقيق كجلد الإبط. وقد يقال: مثل ذلك في حلق العانة من جهة المغابن التي بين الفخذين والأنثيين، وأما الاخذ من الشارب فينبغي

ص: 387

فيه التفصيل بين من يحسن أخذه بنفسه بحيث لا يتشوه، وبين من لا يحسن، فيستعين بغيره، ويلتحق به من لا يجد مرآة ينظر وجهه فيها عند أخذه.

الثالثة: قال النووي: يتأدى أصل السنة بأخذ الشارب بالمقص وبغيره، وتوقف ابن دقيق العيد في قَرْضه بالسن، ثم قال: من نظر إلى اللفظ منع، ومن نظر إلى المعنى أجاز.

الرابعة: قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحدا قال بوجوب قص الشارب من حيث هو هو. واحترز بذلك من وجوبه بعارض حيث يتعين كما تقدمت الإشارة إليه من كلام ابن العربي، وكأنه لم يقف على كلام ابن حزم في ذلك فإنه قد صرح بالوجوب في ذلك، وفي إعفاء اللحية. اهـ فتح جـ 22/ ص 116. وبالله التوفيق.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 388

‌14 - التوقيت في ذلك

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على التوقيت في استعمال خصال الفطرة، واسم الإشارة راجع إلى مجموع ما تقدم من الخصال لا إلى الجميع لأن الاختتان ليس داخلا فيه، إذ التوقيت فيه لم يذكر في الحديث، وقد قدمنا اختلاف العلماء في وقته. والتوقيت مصدر وَقَّتَ مضعفا بمعني حدد، يقال: وقت الله الصلاة توقيتا، ووقتها يقتها من باب وَعَدَ: حدَّد لها وقتًا، والوقت: مقدار من الزمن مفروض لأمر ما. أفاده في المصباح.

14 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ -هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ- عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ وَقَّتَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَنَتْفِ الإِبْطِ، أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.

رجال الإسناد: أربعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة ثبت من العاشرة، تقدم في 1/ 1.

2 -

(جعفر بن سليمان) الضُّبَعي بضم الضاد المعجمة، وفتح

ص: 389

الموحدة، أبو سليمان البصري، صدوق زاهد، لكنه كان يتشيع من الثامنة، مات سنة 178. وفي (صة): روى عن ثابت، والجعد بن عثمان، وعنه سفيان، وابن المبارك، ويحيى بن يحيى، وطائفة، وثقه

أحمد وابن معين. أخرج له (بخ م 4).

والضبعي: نسبة إلى ضبيعة، بضم الضاد وفتح الباء الموحدة، وفي آخره عين مهملة، نسبة إلى المحلة التي سكنها بنو ضُبَيْعَة بالبصرة، نسب إليها لنزوله إياها. أفاده في اللباب.

3 -

(أبو عمران الجوني)(ع) عبد الملك بن حبيب الأزدي، أو الكندي، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار الرابعة، مات سنة 128، وقيل بعدها.

وفي (صة) البصري أحد العلماء، روى عن جندب، وأنس، وعنه سليمان التيمي، والحمادان، وخلق، وثقه ابن معين.

والجوني: بفتح الجيم وسكون الواو نسبة إلى الجَون بن عوف، بطن من الأزد، أفاده في اللباب.

4 -

(أنس بن مالك) الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم. في 6/ 6.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف وهي أعلي ما وقع له من العلو، وهو ثانى رباعياته في هذا الكتاب.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وأنهم بصريون إلا شيخه فبغلاني.

ومنها: أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى -2286 - كما تقدم غير مرة.

ص: 390

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الأخبار في أوله بصيغة الجمع، والتحديث كذلك في الثاني، والعنعنة في باقيه.

شرح الحديث

(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه أنه (قال: وقَّتَ لنا) أي حدد لنا قال الفيومي رحمه الله: كل شيء قَدَّرت له حينا فقد وَقَّتَّه توقيتًا. وكذلك ما قدرت له غاية، اهـ المصباح باختصار.

وتقدم في أول الباب بأتم من هذا (رسول الله صلى الله عليه وسلم) فاعل وقت، هكذا في رواية المصنف، وأبي داود والترمذي بذكر الفاعل، وفي رواية مسلم، وابن ماجه: وقت لنا بالبناء للمفعول، وسيأتي الكلام عليه في المسائل إن شاء الله تعالى (في قص الشارب، وتقليم الأظفار، وحلق

العانة، ونف الإبط) متعلق بوقت، (أن) مصدرية (لا نترك أكثر من أربعين يوما) والمصدر المؤل من أن وصلتها مفعول وقَّتَ.

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: معناه: لا نترك تركا نتجاوز به أربعين، لا أنه وقت لهم الترك أربعين، قال والمختار أن يضبط بالحاجة والطول، فإذا طال حلق، اهـ شرح مسلم جـ 2/ ص 149. وقال في شرح المهذب: ينبغي أن يختلف بإختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة في كلها. اهـ بتغيير يسير.

وقال الحافظ: لكن لا يمنع من التفقد يوم الجمعة فإن المبالغة في التنظيف فيه مشروع اهـ فتح جـ 22/ ص 111. وقال الشوكاني بعد نقل كلام النووي الأول متعقبا عليه: قلت: بل المختار أنه يضبط بالأربعين التي ضبط بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز تجاوزها، ولا يعد مخالفا من ترك القص ونحوه بعد الطول إلى انتهاء تلك الغاية اهـ نيل جـ 1/ ص 169.

قال الجامع عفا الله عنه: قلت: لا معنى للتعقب المذكور فإن مآل

ص: 391

كلامه وكلام النووي واحد لأن حاصل كلامه أن التحديد جاء لعدم الترك، لا للترك، فإن الحديث يمنع الترك بعد الأربعين، ولا يأمر بالترك إلى الأربعين، فلو احتاج الإنسان قبل الأربعين له ذلك، وأما إذا لم يحتج فله أن يؤخر، لكن لا يتجاوز الأربعين. والله أعلم.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث أنس حديث صحيح. وقد اختلفوا فيه كما سيأتي تحقيقه قريبا.

"المسألة الثانية" في بيان موضعه عند المصنف رحمه الله تعالى:

أخرجه في هذا الباب 14/ 14 المجتبى، وفي 12/ 16 الكبري بهذا السند المذكور.

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه (م د ت ق) فأخرجه مسلم في الطهارة 16/ 3 عن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني الخ. وأخرجه أبو داود في الترجل 16/ 3 عن مسلم بن إبراهيم. عن صدقة الدقيقي، عن أبي عمران الخ. وأخرجه الترمذي في الاستئذان 49/ 1 عن إسحاق بن منصور عن عبد الصمد، عن صدقة الخ. وفي 49/ 2 عن قتيبة بإسناده، نحوه، وقال: هذا أصح من الأول. وأخرجه ابن ماجه في الطهارة 8/ 5 عن بشر بن هلال، عن جعفر مثله. أفاده المزي رحمه الله. وأخرجه أحمد في مسنده 3/ 122، و 203، و (255) عن صدقة، عن أبي عمران الخ.

"المسألة الرابعة" أنه قد تكلم المحدثون في هذا الحديث، وإليك أقوالهم:

قال العلامة الشوكاني في الرواية الأولى يعني رواية مسلم وابن

ص: 392

ماجه: "وقت لنا" على البناء للمجهول، وقد وقع خلاف في علم الأصول والإصطلاح هل هي صيغة رفع أولا؟ والأكثرون أنها صيغة رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا قالها الصحابي مثل قوله: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، وقد صرح في الرواية الثانية يعني رواية أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبي داود بأن الموقت هو النبي صلى الله عليه وسلم فارتفع الاحتمال لكن في إسنادها صدقة بن موسى أبو المغيرة

(1)

، ويقال أبو محمَّد السلمي البصري الدقيقي، قال يحيي بن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ضعيف، وقال النسائي: ضعيف، وقال الترمذي: ليس بالحافظ، وقال أبو حاتم الرازي: لين الحديث يكتب حديثه، ولا يحتج به، ليس بالقوي، وقال أبو حاتم بن حبان: كان شيخا صالحا إلا أن الحديث لم يكن من صناعته، فكان إذا روى قلب الأخبار حتى خرج عن حد الاحتجاج به. اهـ نيل جـ 1/ ص 169.

وقال الحافظ في الفتح: وأما ما أخرج مسلم من حديث أنس: "وُقِّتَ لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة أن لا يترك أكثر من أربعين يوما" كذا وقت فيه على البناء للمجهول، وأخرجه أصحاب السنن بلفظ:"وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأشار العقيلي إلى أن جعفر بن سليمان الضبعي تفرد به، وفي حفظه شيء وصرح ابن عبد البر بذلك، فقال: لم يروه غيره، وليس بحجة، وتعقب بأن أبا داود، والترمذي أخرجاه من رواية صدقة بن موسى، عن ثابت

(2)

، وصدقة بن موسى وإن كان فيه مقال لكن تبين أن جعفرا لم ينفرد به، وقد أخرج ابن ماجه نحوه، من طريق علي بن زيد بن جُدْعان، عن أنس

(1)

قوله في إسنادها صدقة بن موسى فيه نظر، لأن رواية النسائي ليس فيها صدقة فتأمل، والله أعلم.

(2)

قوله: صدقة بن موسى عن ثابت فيه نظر لأن رواية صدقة عند أبي داود، والترمذي ليس عن ثابت، وإنما هي عن أبي عمران الجوني، كما سيأتي في كلام العراقي فتأمل.

ص: 393

وفي علي أيضًا ضعف، وأخرجه ابن عدي من وجه ثالث من جهة عبد الله بن عمران شيخ مصري، عن ثابت، عن أنس، لكن أتى فيه بألفاظ مستغربة، قال:"أن يحلق الرجل عانته كل أربعين يوما، وأن ينتف إبطه كلما طلع، ولايدع شاربيه يطولان وأن يقلم أظافره من الجمعة إلى الجمعة". وعبد الله والراوي عنه مجهولان. اهـ فتح جـ 22/ ص 113.

وقال الحافظ العراقي رحمه الله: بعد ذكر حديث مسلم: وهكذا أخرجه ابن ماجه بلفظ "وُقِّتَ لنا"، على البناء للمفعول، وحكمه الرفع على الصحيح عند أهل الحديث والأصول، وقال أبو داود، والنسائي، والترمذي في هذا الحديث:"وَقَّتَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فصرح بالفاعل، وقد تكلم العقيلي، وابن عبد البر في حديث أنس هذا فقال العقيلي في الضعفاء في ترجمة جعفر بن سليمان: وليس بحجة لسوء حفظه، وكثرة غلطه، قلت: تابعه عليه صدقة بن موسى الدقيقي فرواه عن أبي عمران الجوني، عن أنس. أخرجه كذلك أبو داود، والترمذي، ولكن صدقة ضعيف، وروي أيضا من رواية عبد الله بن عمران شيخ مصري عن أبي عمران كما سيأتي، وله طريق آخر رواه أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطان في زياداته على سنن ابن ماجه من رواية علي بن زيد بن جُدعان عن أنس، وابن جُدعان أيضا ضعفه الجمهور، والله أعلم.

قال العراقي: وقد ورد حديث أنس هذا من وجه لا يثبت، وفرق

بين هذه الخصال في التوقيت، وهو ما رواه أبو أحمد بن عدي في الكامل في ترجمة أبي خالد إبراهيم بن سالم النيسابوري، قال: حدثنا عبد الله بن عمران مصري، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، قال: "وقت رسول الله أن يحلق الرجل عانته كل أربعين يوما، وأن ينتف إبطه كلما طلع، ولا يدع شاربيه يطولان، وأن يقلم أظفاره من الجمعة

ص: 394

إلى الجمعة، وأن يتعهد البراجم إذا توضأ"

الحديث. قال صاحب الميزان: وهو حديث منكر، وأصح طرقه طريق مسلم على ما فيها من الكلام، وليس فيها تأقيت لما هو أولى بل ذكر أنه لا يزيد على أربعين. اهـ طرح جـ 2/ ص 38.

قال الجامع عفا الله عنه: فتحصل من مجموع ما قالوا أن حديث

الباب صحيح، أما المرفوع: فلأن جعفر بن سليمان لم يتفرد به بل وافقه عليه صدقة بن موسى الدقيقي، وهو وإن كان ضعيفًا إلا أنه يصلح للاعتباركما يفيده كلام الأئمة فيما تقدم.

وأما الموقوف: فهو رواية مسلم، وحكمه أنه مرفوع، فإن قوله:"وقت لنا" كقول الصحابي: "أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا" وهو مرفوع، كقوله قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المذهب الصحيح الذي عليه الجمهور من أهل الحديث والفقه والأصول، كما أفاده النووي في

المجموع جـ 1/ ص 287. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 395

‌15 - إحفاءُ الشارب، وإعفاء اللِّحَى

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على إحفاء الشارب، وإعفاء اللحى.

والإحفاء: الاستئصال. قال في المصباح: أحْفي الرجلُ شاربه بالغ في قصه. اهـ.

وقال في (ق): وَحَفَا شاربه حَفْوًا بالغ في أخذه. اهـ.

وأما الإعفاء فهو التوفير، قال في المصباح: عفا الشيء: أكثر وفي التنزيل: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] أي كثروا، وعفوته: كثرته، يتعدى، ولا يتعدى، ويعدى أيضا بالهمزة، فيقال: أعفيته، وقال: السرقطسي: عَفَوت الشعر أعفُوه عَفْوا وعَفَيته أعفيه عَفْيا: تركته حتى يكثر ويطول، ومنه:"أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى"، يجوز استعماله ثلاثيًا ورباعيًا. اهـ.

وتقدم تفسير الشارب في 9/ 9، ويأتي تفسير اللِّحى في شرح الحديث.

15 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ- عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى".

ص: 396

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(عبيد الله بن سعيد)(خ م س) بن يحيى اليَشْكري، أبو قُدَامَة السرخسي نزيل نيسابور، ثقة مأمون سني، من العاشرة، مات سنة 241، وفي (صة) روى عن ابن عيينة، وحفص بن غياث، وأبي

معاوية، وخلق، وعنه (خ م س) وقال: ثقة مأمون، قال ابن حبان هو الذي أظهر السنة بسرخس، ودعا إليها. اهـ.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان البصري الحجة من كبار [9] تقدم في 4/ 4.

3 -

(عببدالله)(ع) بن عمر بن حفص عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني، أبو عثمان ثقة ثبت، قدمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهري عن

عروة عنها، من الخامسة، مات سنة بضع وأربعين ومائة.

4 -

(نافع)(ع) أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور، من الثالثة، مات سنة 117، أو بعد ذلك، أخرج له الجماعة. وفي (صة): أحد الأعلام. روى عن ابن عمر، وأبي لبابة، وأبي هريرة، وعائشة وخلق. وعنه ابناه أبو بكر، وعمر، وأيوب، وابن جريج، ومالك، وخلائق. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر. قال حماد بن زيد: مات سنة 120 اهـ. أخرج له الجماعة.

5 -

(ابن عمر)(ع) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، واستصغر يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة، والعبادلة، وكان من

أشد الناس إتباعا للأثر، مات سنة 73 في آخرها أو أول التي تليها. روى له الجماعة.

ص: 397

وفي (صة) هاجر مع أبيه، وشهد الخندق وبيعة الرضوان. له ألف وستمائة حديث وثلاثون حديثًا، اتفقا على مائة وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. وعنه بنوه: سالم، وحمزة، وعبيد الله، وابن المسيب، ومولاه، نافع، وخلق.

وفي الصحيح: "عبد الله رجل صالح" قال شمس الدين الذهبي: كان إماما متينا واسع العلم كثير الإتباع وافر النسك كبير القدر متين الديانة عظيم الحُرْمَة، ذكر للخلافة يوم التحكيم وخوطب في ذلك، فقال: على أن لا يجرى فيها دم. قال أبو نعيم: مات سنة 74.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم ما بين نيسابوري، وهو شيخه، وبصري، وهو يحيى، ومدنيين، وهم الباقون. وأنهم ممن اتفقوا عليهم إلا شيخه فإنه ممن أخرج له (خ م س).

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: عبيد الله، عن نافع.

ومنها: أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قول السيوطي في ألفيته:

والبَحرُ وابْنَا عُمَر وعَمْرو

وابنُ الزُّبيْر في اشْتهَار يَجْري

دُونَ ابْن مَسْعُود لَهُم عَبَادله

وغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ

وجمعهم بعضهم بقوله (من الكامل):

أبناءُ عبَّاس وعَمْرو وعُمر .... وابْنُ الزُّبير هُمُ العَبَادلةُ الغُرَرْ

وأنه أحد المكثرين السبعة روى 2630، ولا ينافي هذا ما تقدم عن (صة) لأنه أراد ما ثبت له في الكتب الستة، وهذا ما ثبت له في مسند

ص: 398

بقي بن مخلد، وهو أجمع ما ألف في مسانيد الصحابة كما بينه العلامة أحمد محمَّد شاكر في تعليقته على ألفية السيوطي انظر ص 218.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبار في موضعين. والتحديث في موضع، والعنعنة في الباقي.

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله عنهما (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: أحفوا الشوارب) وفي نسخة الشارب بالإفراد، وأحفوا بقطع الهمزة من الإحفاء قال النووي: وقال ابن دريد: يقال أيضا: حفا الرجل شاربه يحفوه حفوا إذا أستأصل أخذ شعره، فعلى هذا تكون همزته همزة وصل. اهـ لكن الأول هو أكثر.

وقال الحافظ: الإحفاء بالحاء المهملة والفاء: الإستقصاء، ومنه "حتى أحفوه بالمسألة"، وقد ورد بلفظ:"انهكوا الشوارب"، وبلفظ "جزوا الشوارب"، وكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة؛ لأن الجز قص الشعر، والصوف إلى أن يبلغ الجلد، والنهك المبالغة في الإزالة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة:"أشمي ولا تَنهكي" أي لا تبالغي في ختان المرأة. اهـ. وقد تقدم تمام البحث في 13/ 13.

(وأعفوا اللحى) أي وفِّرُوهَا، قال ابن الأثير في النهاية: إعفاء اللحية: أن يوفر شعرها ولا يقص كالشوارب، من عفى الشيء: إذا كثر، وزاد، يقال: أعفيته

(1)

، وعفيته. اهـ، 3/ 266 واللحى: بكسر اللام وحكي ضمها، وبالقصر والمد جمع لحية بالكسر فقط، وهي اسم لما نبت على الخدين والذقن. اهـ فتح جـ 22/ ص 118.

وفي اللسان: اللحية اسم يجمع من الشعر ما نبت على الخدين

(1)

ونقل في الفتح عن ابن التين أن كونه بهمزة قطع أكثر، اهـ جـ 22/ ص 189.

ص: 399

والذقن، والجمع لحىّ يعني بالكسر، ولحُىَ، بالضم، مثل ذروة وذُرَى اهـ جـ 1/ ص 243. ومثله في (ق). وفي المصباح: اللحية الشعر النازل على الذقن، والجمع لحىَ مثل سدْرة وسدَر، وتضم اللام أيضا مثل حلية وحُلَى اهـ جـ 2/ ص 551.

وقال الحافظ: قال ابن دقيق العيد: تفسير الإعفاء بالتكثير من إقامة السبب مقام المسبب؛ لأن حقيقة الإعفاء: الترك، وترك التعرض للحية يستلزم تكثيرها، وأغرب ابن السيد فقال: حمل بعضهم قوله: "أعفوا اللحى" على الأخذ منها بإصلاح ما شذ منها طولا وعرضا، واستشهد بقول زهير (من الوافر):

علَى آثَار مَنْ ذَهَبَ العَفَاءُ

وذهب الأكثر إلى أنه بمعنى وفّروا، أو أكثروا، وهو الصواب، قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحدا فهم من الأمر في قوله: "وأعفوا اللحى تجويز معالجتها بما يُغَرِّزها كما يفعله بعض الناس، قال: وكان الصارف عن ذلك قرينة السياق في قوله في بقية الخبر: "وأحفوا الشوارب" اهـ.

قال الحافظ: ويمكن أن يؤخذ من بقية طرق ألفاظ الحديث الدالة على مجرد الترك اهـ فتح جـ 22/ ص 120.

قال الجامع عفا الله عنه: فظهر مما تقدم من تفسير صاحبي اللسان و (ق) وكذا الحافظ في الفتح للحية بأنه اسم لما نبت على الخدين والذقن أنه لا يجوز التعرض لشيء من ذلك بحلق ولا تقصير خلاف ما يفعله بعض الناس من حلق ما نبت على الخدين بادعاء أنه لا يسمى باسم اللحية أو هذا خطاء فبم فهم معني اللحية. فتنبه.

وقال الحافظ: في قوله "أعفوا" و"أحفوا" ثلاثة أنواع من البديع: الجناس والمطابقة والموازنة. اهـ جـ 1/ ص 120.

ص: 400

مسائل تتعلق بحديث الباب

"المسألة الأولى" في درجته: حديث ابن عمر متفق عليه.

"المسألة الثانية" في بيان مواضعه عند المصنف

ذكر المصنف هذا الحديث في المجتبى في موضعين: هنا 15/ 15 وفي الزينة 5/ 5226 وفي الكبرى 10/ 13 عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرج هذا الحديث (خ م ت) فأخرجه (خ) 10/ 288 ومسلم 3/ 147 نووي من طريق عمر بن محمَّد، حدثنا نافع به. وأخرجه (ت) 8/ 46 تحفة، وقال: هذا حديث صحيح، وروى أيضا من طريق مالك، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر فذكره، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو بكر بن نافع هو مولى ابن عمر ثقة، ومثله عمر بن نافع، وعبد الله بن نافع مولى ابن عمر يضعف.

وأخرجه أحمد 2/ 16، وأبو عوانة 1/ 189، والبيهقي 1/ 150 عن نافع عن ابن عمر وكذلك مالك 3/ 123 تنوير، وفي الباب عن أبي هريرة، رواه مسلم 1473 نووي، وأحمد 2/ 356 وأيضا 2/ 365، 366، وأبو عوانة 1/ 188، والبيهقي 1/ 150 وجاء بلفظ الأمر رواه أبو داود 11/ 253 عون، وأحمد 2/ 52 ومالك في الموطأ 3/ 123 تنوير واللفظ لأبي داود عن نافع عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى" قاله صاحب بذل الإحسان جـ 1/ ص 114.

ص: 401

"المسألة الرابعة" في أقوال أهل العلم في إعفاء اللحية:

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: بعد ذكر اختلاف الروايات في "أعفوا اللحى": ما نصه: فحصل خمس روايات: "أعفوا وأوفوا"، و"أرخوا"، و"أرجوا"، و"وفروا"، ومعناها كلها تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء، وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: يكره حلقها وقصها، وتحذيفها

(1)

، وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، وتكره الشهرة في تعظيمها كما تكره فبم قَصِّها وجَزِّها، قال: وقد اختلف السلف هل لذلك حد؟ فمنهم من لم يحدد شيئا في ذلك إلا أنه لا يتركها لحد الشهرة، ويأخذ منها، وكَرهَ مالك طولها جدّا، ومنهم من حدد بما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة. اهـ كلام النووي في شرح مسلم جـ 3/ ص 151.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله عياض رحمه الله من الأخذ من طولها وعرضها وكراهة الشهرة بها فمما لا مستند له، بل هو مخالف للنصوص المذكورة، فلا ينبغي الإلتفات إليه، وأما ما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه كما سيأتي قريبا فلا يعارض به المرفوع لأنه لا قول مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابي إذا خالف فعلُهُ مرويَّه فالعبرة بما روى لا بما رأى. والله أعلم.

وأخرج البخاري في صحيحه: حدثنا محمَّد بن منهال، حدثنا يزيد ابن زريع، حدثنا عمر بن محمَّد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خالفوا المشركين، ووفّروا اللحى، وأحفوا الشوارب"

(1)

يقال: حذف من شعره ومن ذَنَب الدابة إذا قصر منه وحَذّف بالتثقيل مبالغة، وكل شيء أخذت من نواحيه حتى سويته فقد حَذَّفته تحذيفا، أفاده في المصباح.

ص: 402

وكان ابن عمر: إذا حج، أو أعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه.

قال الحافظ: هو موصول بالسند المذكور إلى نافع، وقد أخرجه مالك في الموطأ عن نافع بلفظ:"كان ابن عمر إذا حلق راسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه". وفي حديث الباب مقدار المأخوذ، وقوله: فضل بفتح الفاء والضاد المعجمة، ويجوزكسر الضاد كعلم، والأشهر الفتح، قاله ابن التين. وقال الكرماني: لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى {محلقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح: 27]، وخص ذلك من عموم قوله:"وفروا اللحى" فحمله على حالة غير حالة النسك.

قال الحافظ: الذي يظهر لي أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية، أو عرضه، فقد قال الطبرى: ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها ومن عرضها، وقال قوم: إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد، ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أنه فعل ذلك، وإلى عمر أنه فعل ذلك برجل، ومن طريق أبي هريرة أنه فعله. وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال:"كنا نُعَفِّي السِّبَال إلا في حج أو عمرة"، وقوله: نعفي بضم أوله وتشديد الفاء: أي نتركه وافرا، وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر، فإن السبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سَبَلة بفتحتين: وهي ما طال من شعر اللحية، فأشار جابر إلى أنهم يقصرون منها في النسك.

ص: 403

ثم حكى الطبري اختلافا فيما يؤخذ من اللحية: هل له حدّ أم لا؟ فاسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف، وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش، وعن عطاء نحوه. قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها. قال: وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة، وأسنده عن جماعة، واختار قول عطاء، وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به، واستدل بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها، وهذا أخرجه الترمذي، ونقل عن البخاري أنه قال في رواية عمر بن هارون: لا أعلم له حديثا منكرا إلا هذا. اهـ. وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا جماعة.

ثم نقل الحافظ ما تقدم عن القاضي عياض. من الأخذ من طولها وعرضها وكراهة الشهرة في تعظيمها، ثم قال: وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها. قال: والمختار تركها على حالها، وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره. قال الحافظ: وكان مراده بذلك في غير النسك لأن الشافعي نص على استحبابه فيه. اهـ فتح جـ 22/ ص 119.

قال الجامع عفا الله عنه: قول الحافظ: وكأن مراده الخ فيه نظر، لأن نص الشافعي لا يعارض به المرفوع، فتبصر. والله أعلم.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى، ما حاصله:

واستدل بفعل ابن عمر بعض أهل العلم، والروايات المرفوعة ترده، ثم ذكر حديث عمرو بن شعيب، وضعفه، ثم قال: فعلى هذا لا تقوم بالحديث حجة، أي لضعفه. نيل جـ 1/ ص 177.

ص: 404

وقال النووي في المجموع: ما نصه: فرع:

سبق في الحديث أن إعفاء اللحية من الفطرة فالإعفاء بالمد قال الخطابي وغيره: هو توفيرها وتركها بلا قص، كره لنا قصها كفعل الأعاجم، قال: وكان من زيّ كسرى قص اللحى، وتوفير الشوارب، قال الغزالي في الإحياء: اختلف السلف فيما طال من اللحية؟ فقيل: لا بأس أن يقبض عليها ويقص ما تحت القبضة فعله ابن عمر، ثم جماعة من التابعين، واستحسنه الشعبي، وابن سيرين، وكرهه الحسن، وقتادة، وقالوا: يتركها عافية، لقوله صلى الله عليه وسلم "وأعفوا اللحى" قال الغزالي: والأمر في هذا قريب إذا لم ينته إلى تقصيصها، لأن الطول المفرط قد يشوه الخلقة. هذا كلام الغزالي. قال النووي: والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقا، بل يتركها على حالها، كيف كانت، للحديث الصحيح "وأعفوا اللحى"، وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته في عرضها وطولها. فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي صححه النووي رحمه الله مخالفا للغزالي هو عين التحقيق، من هذا المحقق الوثيق. والله أعلم.

قال النووي: أما المرأة إذا نبت لها لحية فيستحب حلقها صرح به القاضي حسين وغيره. وكذا الشارب والعَنْفَقَة

(1)

لها، هذا مذهبنا، وقال محمَّد بن جرير: لا يجوز لها حلق شيء من ذلك ولا تغيير شيء من خلقتها بزيادة ولا نقص.

قال الجامع: ما رأيت لمدعي الاستحباب، ولا لمدعي عدم الجواز

(1)

العنفقة: بفتح العين وسكون النون وفتح الفاء والقاف: شُعَيرات بين الشفة السفلى والذقن، أفاده في "ق" ص 1178 طبعة مؤسسة الرسالة.

ص: 405

دليلا صر يحا، فالأولى أن يقال بالإباحة حتى يوجد نص صريح لأحدهما. والله أعلم.

قال النووى: وأما الأخذ من الحاجبين إذا طال فلم أر فيه شيئا

لأصحابنا، وينبغي أن يكره لأنه تغيير لخلق الله لم يثبت فيه شيء فكره، وذكر بعض أصحاب أحمد أنه لابأس به. قال: وكان أحمد يفعله،

وحكي أيضا عن الحسن البصري.

قال الجامع: وما ذهب إليه أحمد ونقل عن الحسن هو الأولى لعدم النص أمرا أو نهيا فكان على أصل الإباحة. والله أعلم.

قال النووى: قال الغزالي: تكره الزيادة في اللحية والنقص منها، وهو أن يزيد في شعر العذارين من شعر الصدغين إذا حلق رأسه، أو ينزل فيحلق بعض العذارين، قال: وكذلك نتف جانبي العنفقة، وغير ذلك فلا يغير شيئا، وقال أحمد بن حنبل لا بأس بحلق ما تحت حلقه من لحيته، ولا بقص ما زاد منها على قبضة اليد، وروي نحوه عن ابن عمر، وأبي هريرة، وطاوس.

قال النووي: وما ذكرناه أوّلا هو الصحيح.

ثم نقل عن الغزالي وهو تابع في ذلك لأبي طالب المكي: أن في اللحية عشر خصال مكروهة:

أحدها: خضابها بالسواد إلا لغرض الجهاد إرعابا للعدو بإظهار الشباب والقوة فلا بأس إذا كان بهذه النية لا لهوى وشهوة.

الثانية: تبيضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة وإظهارا للعلو في السن لطلب الرياسة والتعظيم والمهابة والتكريم، ولقبول حديثه، وإيهاما للقاء المشايخ ونحوه.

ص: 406

الثالثة: خضابها بحمرة، أو صفرة تشبيها بالصالحين، ومتبعي السنة، لا بنية اتباع السنة.

الرابعة: نتفها في أول طلوعها وتخفيفها بالموسى إيثارا للمرودة، واستصحابا للصبا، وحسن الوجه، وهذه الخصلة من أقبحها.

الخامسة: نتف الشيب.

السادسة: تصفيفها وتعبيتها طاقة فوق طاقة، للتزين والتصنع ليستحسنه النساء وغيرهن.

السابعة: الزيادة فيها والنقص منها كما سبق.

الثامنة: تركها شَعثَةً مُنْتَفشَةً إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه.

التاسعة: تسريحها تصنعا.

العاشرة: النظر إليها إعجابا وخيلاء غرَّة بالشباب، وفخرا بالمشيب، وتطاولا على الشباب، وهاتان الخصلتان في التحقيق لا تعود الكراهة فيهما إلى معنى في اللحية بخلاف الخصال السابقة. اهـ المجموع جـ 1/ ص 291 - 292.

وزاد في شرح مسلم على المذكور:

11 -

عَقْدَها وضَفْرها.

12 -

حلقها، إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها. اهـ جـ 3/ ص 149.

قال الجامع: قد تقدم ما في حلق المرأة للحيتها. فتنبه.

وذكر في المجموع: حديثا أخرجه أبو داود في الطهارة، والمصنف في الزينة عن رويفع رضي الله عنه بإسناد جيد قال: قال لي رسول الله

ص: 407

- صلى الله عليه وسلم: "يا رويفع لعل الحياة ستطول بك فأخْبر الناسَ أنه من عَقَد لحيته، أو تَقلَّد وَتَرًا، أو استنجى برجيع دابة، أو عظم فإن محمدا منه بريء"

قال الخطابي: في عقدها تفسيران: أحدهما: أنهم كانوا يعقدون لحاهم في الحرب وذلك من زي العجم، والثاني: معالجة الشعر ليتعقد، ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث، والتواضع. اهـ جـ 1/ ص 292.

(تنبيه) قال في الفتح: أنكر ابن التين ظاهر ما نقل عن ابن عمر فقال: ليس المراد أنه كان يقتصر على قدر القبضة من لحيته بل كان يمسك عليها فيزيل ما شك منها فيمسك من أسفل ذقنه بأصابعه الأربعة ملتصقة فيأخذ ما سفل عن ذلك ليساوي طول لحيته.

قال الجامع: هكذا نقل الحافظ عن ابن التين، ولم يتعقبه بشيء، وأنا أستغرب ذلك منه، لأن نص البخاري لا يفيد ما ذكره، وعلى أي حال ففعل ابن عمر لا يتمشى مع ظاهر النص سواء فسر بما فسر به ابن التين، أم لا؟ لأن النص يقتضي عدم التعرض لها بشيء كما رجحه النووي. فيما تقدم.

وقال أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها. اهـ فتح جـ 22/ ص 119.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ولما أنهى الكلام على خصال الفطرة والتوقيت فيها أتبعه بذكر أدب الخلاء؛ لأنه يتقدم الاستنجاء الذي هو مقدمة الوضوء، والاستنجاء من خصال الفطرة كما تقدم فناسب ذكره عقبها، وقدمه على الوضوء لتقدمه عليه.

قال رحمه الله:

ص: 408

‌16 - الإبعاد عند إرادة الحاجة

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب الإبعاد عند إرادة قضاء الحاجة، والإبعاد مصدر بمعنى تباعد، يقال: أبعدت في المذهب إبعادا بمعنى تباعدت، قال ابن قتيبة: ويكون أبعد لازما ومتعديا فاللازم أبعد زيد عن المنزل بمعنى تباعد، والمتعدى أبعدته قاله في المصباح، والمناسب هنا الأول.

والحاجة كناية عن البول والغائط، وهي في الأصل قيل تطلق على نفس الافتقار، وعلى الشيء الذي يُفتَقَر إليه قاله في التاج.

16 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْخَطْمِيُّ -عُمَيْرُ بْنُ يَزِيدَ- قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ فُضَيْلٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي قُرَادٍ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَلَاءِ وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ. رجال الإسناد: ستة

1 -

عمرو بن علي الفلاس البصري ثقة حافظ [10] تقدم في 4/ 4.

2 -

يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة حجة من كبار [9] تقدم في 4/ 4.

ص: 409

3 -

أبو جعفر الخطمي عمير بن يزيد بن حبيب الأنصاري الخطمي بفتح المعجمة وسكون الطاء المدني نزيل البصرة من السادسة، صدوق، روى له الأربعة.

4 -

الحارث بن فضيل الأنصاري الخطمي، أبو عبد الله المدني، ثقة من السادسة، روى له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

5 -

عُمَارة بضم العين وتخفيف الميم بن خُزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي، أبو عبد الله أو أبو محمَّد المدني ثقة من الثالثة مات سنة خمس ومائة، وهو ابن خمس وسبعين، روى له الأربعة.

6 -

عبد الرحمن بن أبي قُرَاد بضم القاف وتخفيف الراء الأنصاري، صحابي له حديث واحد، ويقال له ابن الفاكه، روى له النسائي، وابن ماجه. وقوله: له حديث واحد، أي بالنسبة لما عند النسائي، وابن ماجه، وإلا فقد ذكر له في الإصابة حديثين آخرين.

ودونك عبارته بتمامها عبد الرحمن بن أبي قراد بضم القاف وتخفيف الراء الأنصاري، ويقال السلمي، وجزم بالثاني أبو نعيم وابن عبد البر، وقالا هما وابن منده: عداده في أهل الحجاز، قال ابن منده: ويقال له ابن الفاكه بالفاء وكسر الكاف بعدها هاء، قال ابن سعد، وأبو حاتم، وابن السكن: له صحبة، وقال مسلم، والأزدي: تفرد عمارة ابن خزيمة بالرواية عنه، وهو متعقب بأن البخاري ذكر في تاريخه رواية الحارث بن فضيل عنه أيضًا، وحديثه عند النسائي من طريق أبي جعفر الخطمي عنهما جميعا عنه وضم ابن عبد البر إليهما في الرواية عنه أبا جعفر الخطمي فوهم وإنما روايته عنهما عنه ولفظه "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلي الخلاء، وكان إذا أراد الحاجة أبعد" وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه أيضا، وذكر ابن منده أن علي بن المديني أخرج له من هذا

ص: 410

الوجه حديثا آخر قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فأدخل يده في الإناء" الحديث وأورد له ابن منده حديثا آخر من رواية الحارث بن فضيل عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ يوما فجعل الناس يتمسحون بعرقوبه" وأخرجه أبو نعيم في فوائد ميمونة وزاد فقال "ما يحملكم على ذلك قالوا حب الله ورسوله فقال: من سره أن يحبه الله ورسوله، فليصدق في حديثه وليؤد أمانته، وليحسن جوار من جاوره" وفي إسناده الحارث بن أبي الحارث ابن أبي جعفر وهو ضعيف، وقد خالفه فيه ضعيف آخر كما سأذكره في الكنى في ترجمة أبى قراد السلمى اهـ عبارة الإصابة جـ 2/ ص 411.

لطائف الإسناد

فيه الأخبار في أوله بلفظ الجمع والتحديث في ثلاثة مواضع، الأولان بلفظ الجمع، والثالث بلفظ الإفراد، والعنعنة في آخره.

وفيه أن رواته ما بين بصريين، وهم الثلاثة الأولون ومدنيين، وهما الحارث وعمارة، وحجازي، وهو الصحابي، لكن إن كان هو من أهل المدينة كان النصف الثاني كلهم مدنيين.

وفيه أنه من سداسيات المصنف.

شرح الحديث

(خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي مصاحبا له (إلى الخلاء) مثل الفضاء وزنا ومعنى، والخلاء أيضا المُتَوَضَّأ أفاده في المصباح، وفسره بالثاني في "ق" وعبارته: والخلاء المتوضأ قال الشارح: سمى بذلك لخلوه، وهو بالمد، ومثله في الصحاح. قال شيخنا: وفيه نظر، فإن الخلاء في الأصل مصدر، ثم استعمل في المكان الخالي المتخذ لقضاء الحاجة لا للوضوء فقط كما يوهمه قوله المتوضا أي محل الوضوء، وقال الحَطَّابُ في شرح المختصر: يقال لموضع قضاء الحاجة الخلاء بالمد، وأصله المكان

ص: 411

الخالي، ثم نقل إلى موضع قضاء الحاجة، قال شيخنا: قوله وأصله المكان الخالي كأنه أراد الأصل الثاني، وإلا فأصله الأول هو مصدر خلا المكان خلاء إذا فرغ ولم يكن فيه أحد ثم نقل الحطاب عن الحكيم الترمذي أنه سمي بذلك باسم شيطان يقال له خلاء وأورد فيه حديثًا، وقيل لأنه يتخلى فيه أي يتبرز، والجمع أخلية. قال شيخنا: وهذا الذي ذكره الحكيم الترمذي يحتاج إلى ثبت، ولعل العرب الذين وضعوه لا يعرفون ذلك لأنه قديم الوضع فتأمل اهـ تاج العروس في مادة خلا.

(وكان) من عادته صلى الله عليه وسلم (إذا أراد الحاجة) أي قضاء الحاجة من بول أو غائط (أبعد) أي تباعد لأن أبعد يأتي لازما ومتعديا كما قدمنا، والمناسب هنا الأول، فقول السندي قوله: أبعد، أي تلك أو نفسه عن أعين الناس لا داعي إليه.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه صحيح.

"المسألة الثانية" فيمن أخرجه معه: أخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وابن بشار كلاهما، عن يحيى بن سعيد بإسناد المصنف.

وأخرجه ابن خزيمة أخبرنا أبو طاهر، ثنا أبو بكر بندار، ثنا يحيي بن سعيد بإسناد المصنف وفيه قال بندار قلت ليحيي: ما اسم أبى جعفر الخطمي؟ فقال عمير بن يزيد.

"المسألة الثالثة": من فوائد الحديث طلب التباعد عن الناس عند قضاء

الحاجة بولا كان أو غائطا إكراما لهم وإراحة لنفسة، لأنه مع قربه من الناس ربما يمنعه الحياء من إخراج الريح ونحوه.

وكونه صلى الله عليه وسلم مجبولا على مكارم الأخلاق.

ص: 412

17 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا ذَهَبَ الْمَذْهَبَ أَبْعَدَ، قَالَ: فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ:"ائْتِنِي بِوَضُوءٍ". فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

قَالَ الشَّيْخُ إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْقَارِئُ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(علي بن حجر) بضم فسكون بن إياس السعدي المروزي ثقة حافظ من صغار [9] تقدم في 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الزُّرَقي مولاهم أبو إسحاق المدني القارئ

(1)

أحد الكبار عن عبد الله بن دينار، والعلاء بن عبد الرحمن، وربيعة، وحميد. وعنه قتيبة وعلي بن حجر ويحيى بن يحيى. له نحو خمسمائة حديث، وثقه أحمد بن حنبل، توفي سنة ثمانين ومائة. أخرج له الجماعة من الثامنة.

3 -

(محمد بن عَمْرو) بن علقمة الليثي المدني مشهورمن شيوخ مالك، صدوق أحد أئمة الحديث تُكُلِّمَ فيه من قبل حفظه، وثقه النسائي، وقال الجوزجاني: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا

(1)

قارئ أهل المدينة اهـ. تهذيب.

ص: 413

بأس به، وعن ابن معين أنه ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، روى عن أبيه، وعبد الرحمن بن يعقوب، وطائفة. وعنه موسى بن عقبة، وشعبة، والسيفانان، وغيرهم، روى له البخاري مقرونا حديثا واحدا، ومسلم متابعة، توفى سنة أربع أو خمس وأربعين ومائة. من السادسة.

4 -

(أبو سلمة) هو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري قيل: اسمه كنيته، وهو الأصح، وقيل: عبد الله أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. من [3] وتقدم. في 1/ 1.

5 -

(المغيرة بن شعبة) بن أبي عامر الثقفي أبو محمَّد شهد الحديبية، وأسلم زمن الخندق، له مائة وستة وثلاثون حديثا، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، وعنه ابناه حمزة، وعروة،

والشعبي، وخلق، شهد اليمامة، واليرموك، والقادسية، وكان عاقلا أديبا فطنا لبيبا داهيا قيل، أحصن ألف امرأة، قال الهيثم: توفي سنة خمسين بالكوفة، وله 70 سنة، قاله ابن حبان.

لطائف الإسناد

منها: الإخبار في أوله وثانيه، والعنعنة في الباقي.

ومنها: أن رواته ما بين مروزي، وهو الأول، ومدنيين وهم الثلاثة بعده، وكوفي، وهو الصحابي فإنه مات بها، وهو وال عليها وأنه من خماسياته.

شرح الحديث

(كان إذا ذهب المذهب) قال الحافظ ولي الدين العراقي بفتح الميم، وإسكان الذال، مَفْعَل من الذهاب، ويطلق على معنيين: أحدهما المكان الذي يذهب إليه، والثاني المصدر، يقال: ذهب ذهابًا،

ص: 414

ومذهبًا. فيحتمل أن يراد المكان فيكون التقدير إذا ذهب في المذهب أي موضع التغوط، ويحتمل أن يراد المصدر أي ذهب ذهابا والاحتمال الأول هو المنقول عن أهل العربية، وقال به أبو عبيدة وغيره، وجزم به فيه النهاية، ويوافق الاحتمال الثاني قوله في رواية الترمذي "أتي حاجته فأبعد في المذهب" فإنه يتعين فيها أن يراد بالمذهب المصدر انتهى.

وقال ابن منظور في اللسان والمذهب المتوضأ لأنه يذهب إليه، وقال الكسائي: يقال لموضع الغائط: الخلاء، والمذهب، والمرفق، والمرحاض. اهـ لسان.

(أبعد) أي تباعد عن أعين الناس وتقدم في الحديث السابق أنه لازم والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد قضاء حاجته ذهب ذهابا بعيد أو إلى مكان بعيد حتي يَتَوَارى عن أعين الناس.

(قال) المغيرة رضي الله عنه (فدهب) أي أراد النبي صلى الله عليه وسلم الذهاب (لحاجته) يريد البول والغائط (وهو في بعض أسفاره) جملة حالية أي والحال أنه كان في بعض أسفاره، وهو في غزوة تبوك كما في رواية للمصنف تأتي إن شاء الله وأبي داود (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (ائتنى بوضوء) بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به (فأتيته بوضوء) بالفتح أيضا (فتوضأ) النبي صلى الله عليه وسلم أي غسل وجهه ويديه ومسح برأسه لا أنه أكمل الوضوء بغسل الرجلين بدليل ما بعده (ومسح) بعد الغسل المذكور (على الخفين).

(قال الشيخ) أي المصنف الظاهر أنه من بعض التلاميذ، أي قال المصنف مبينا لما أهمل في السند (إسماعيل) الراوي عن محمَّد بن عَمْرو (هو ابن جعفر بن أبي كثيرالقارىء) قارئ أهل المدينة.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"الأولى": في درجته حديث المغيرة رضي الله عنه صحيح.

ص: 415

"الثانية": فيمن أخرجه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه أبو داود في أول الطهارة، عن القعنبي، عن الدراوردي، عن محمَّد ابن عمرو، بسند المصنف إلا أنه مختصر، والترمذي في الباب السادس عشر من الطهارة عن ابن بشار، عن الثقفي عن محمَّد بن عمرو به، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن إسماعيل ابن علية، عن محمَّد بن عمرو به، أفاده الحافظ المزي.

وأخرجه الدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وأخرجه أحمد في مسنده.

"الثالثة": قال الترمذي وفي هذا الباب عن عبد الرحمن بن أبي قراد، وأبي قتادة، وجابر، ويحيى بن عبيد، عن أبيه، وأبي موسى، وابن عباس، وبلال بن الحارث.

"الرابعة": يستفاد من الحديث مشروعية البعد عن أعين الناس عند قضاء الحاجة بولا أو غائطا احتراما لهم وإبعادا للأذى عنهم، وراحة لقاضي الحاجة؛ لأنه مع قربه منهم يمنعه الحياء من إخراج ريح ونحوه.

وكونه صلى الله عليه وسلم مجبولا على مكارم الأخلاق وجواز الاستعانة في إحضار ماء الوضوء بغيره، وخدمة الأكابر، ومشروعية المسح على الخفين. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 416

‌17 - الرخصة في ترك ذلك

أي هذا باب يذكر فيه الرُّخصة في ترك الإبعاد عند قضاء الحاجة، والرخصة وزان غرفة وتضم الخاء للإتباع جمعه رُخَص ورُخُصَات، مثل غُرف، وغرفات: التسهيل في الأمر، والتيسير، يقال: رخص الشرع لنا في كذا ترخيصا وأرخص إرخاصا: إذا يسره وسهله قاله في المصباح. ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة في قوله: "فكنت عند عقبيه".

18 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَثَّنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا، فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَدَعَانِي، وَكُنْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) هو إسحاق بن راهويه تقدم في 2/ 2.

2 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي أخو إسرائيل، ثقة، من الثامنة، تقدم في 8/ 8.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي مولاهم أبو محمَّد الكوفي، أحد الأعلام الحفاظ والقراء رأى أنسًا يبول، وروى عن عبد الله

ص: 417

ابن أبى أوفى، وعكرمة، قال أبو حاتم: لم يسمع منهما، وزيد بن وهب، وأبي وائل، وإبراهيم التيمي، والشعبي، وخلق. وعنه أبو إسحاق، والحكم، وزبيد من شيوخه، وسليمان التيمي من طبقته، وشعبة، وسفيان، وزائدة، ووكيع، وخلائق. قال ابن المديني: له نحو ألف وثلثمائة حديث، وقال ابن عيينة: كان أقرأهم وأحفظهم وأعلمهم. وقال عمرو بن علي: كان يسمى المصحف لصدقه. وقال العجلى: ثقة ثبت، يقال: ظهر له أربعة آلاف حديث، ولم يكن له كتاب، وكان فصيحا، وقال النسائي: ثقة، وعده في المدلسين، قال أبو نعيم: مات سنة في 148 عن 84 سنة.

4 -

(شقيق) بن سلمة الأسدي هو أبو وائل ثقة، من الثانية، تقدم في 2/ 2.

5 -

(حذيفة بن اليمان) الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 2/ 2.

شرح الحديث

(قال) أي حذيفة رضي الله عنه (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في المدينة، لما روى الطبراني من حديث عصمة بن مالك، قال "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض سكك المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فقال: يا حذيفة استرنى" الحديث، قاله في الفتح. (فانتهى) أي وصل، قال في اللسان: الإنهاء: الإبلاغ، وأنهيت إليه الخبر، فانتهى، وتناهى، أي بلغ، وتقول: أنهيت إليه السهم أي أوصلته إليه اهـ جـ 15/ 345 (إلى سباطة قوم) بضم السين المهملة وتخفيف الموحدة، قال في النهاية: هي الموضع الذى يُرمى فيه التراب والأوساخ، وما يكنس من المنازل، وقيل هي الكُنَاسة نفسها وإضافتها إلى القوم إضافة

ص: 418

تخصيص، لا ملك لأنها كانت مواتا مباحة اهـ زهر 191. قال في العمدة: وكانت يعني السباطة بالمدينة، ذكره محمَّد بن طلحة بن مصرف عن الأعمش اهـ جـ 3/ ص 9 (فبال) النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السباطة (قائما) حال من فاعل بال، قاله العيني. قال حذيفة رضي الله عنه (فتنحيت عنه) أي تباعدت تأدبا معه على ظن أنه يكره القرب منه في تلك الحالة كما عليه العادة أفاده السندي (فدعاني) أي فقال صلى الله عليه وسلم يا حذيفة استرني" كما في رواية الطبراني من حديث عصمة بن مالك المتقدم آنفا، (وكنت عند عقبيه) الظاهر أنه عطف على محذوف أي فأتيته، وكنت الخ ورواية أبي داود، والترمذي "حتى كنت عند عقبيه" وإنما دنى منه ليستره كما تقدم عند الطبراني (حتى فرغ) النبي صلى الله عليه وسلم من حاجته (ثم توضأ) بعد الفراغ من البول وفي رواية البخاري "ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ (ومسح على خفيه) أي بعد غسل سائر الأعضاء ومسح الرأس.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"الأولى": في درجته، حديث حذيفة رضي الله عنه متفق عليه.

"الثانية": فيمن أخرجه مع المصنف:

قال الحافظ أبو الحجاج المزي في التحفة حديث "أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما" الحديث ومنهم من ذكر فيه المسح على الخفين عن الأعمش وحده، فأخرجه (ع) فأخرجه (خ) في المظالم عن سليمان بن حرب مختصرا كما هنا، وفي الطهارة عن محمَّد بن عرعرة كلاهما عن شعبة، وعن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، كلاهما عن منصور، وعن آدم عن شعبة، عن الأعمش، كلاهما عنه به، وأول حديث محمَّد بن عرعرة، وكان أبو موسى يشدد في البول، ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه و (م) في الطهارة عن يحيى

ص: 419

ابن يحيى، عن جرير نحو حديث محمَّد بن عرعرة (د) فيه أي في الطهارة عن حفص بن عُمَر، ومسلم بن إبراهيم كلاهما عن شعبة وعن مسدد عن أبي عوانة.

(ت) فيه أي الطهارة عن هناد، عن وكيع ثلاثتهم عن الأعمش به، وفيها ذكر المسح، قال الترمذي: وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعا يحدث بهذا الحديث عن الأعمش، ثم قال وكيع هذا أصح حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح.

(س) في الطهارة عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، وعن المؤمل بن هشام، عن ابن علية، عن شعبة كلاهما عن الأعمش به، وعن ابن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن منصور به، وعن

سليمان بن عبيد الله الغيلاني، عن بهز، عن شعبة، عن الأعمش، ومنصور به وليس فيها ذكر المسح إلا في حديث عيسى بن يونس، وفي حديث بهز.

(ق) فيه أي الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شريك، وهشيم، ووكيع، ثلاثتهم عن الأعمش به من غير ذكر المسح، وعن إسحاق بن منصور، عن أبي داود، عن شعبة، عن منصور مثله، وعن محمَّد بن عبد الله بن نمير، وعلي بن محمَّد، كلاهما عن وكيع، وعن الوليد بن شجاع، عن أبيه، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن أبي زائدة، أربعتهم عن الأعمش بقصة المسح فحسب. اهـ كلام المزي جـ 3/ ص 35.

وكتب الحافظ على قوله وليس فيها يعني رواية النسائي ذكر المسح الخ ما نصه قلت ليس في حديث بهز عن شعبة عن منصور ذكر المسح وإنما هو في حديثه عن شعبة عن الأعمش وقد بين ذلك النسائي اهـ نكت.

وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه بألفاظ متقاربة وأخرجه

ص: 420

البيهقي من عدة طرق اهـ المنهل، جـ 1/ ص 94.

"المسألة الثالثة": قوله عن الأعمش عن شقيق، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة، عن الأعمش: أنه سمع أبا وائل، ولأحمد عن يحيى القطان، عن الأعمش، حدثني أبو وائل. قاله في الفتح.

قال الجامع: فانتفى تهمة التدليس عن الأعمش.

"الرابعة": قوله سباطة إضافة السباطة إلى القوم إضافة اختصاص، لا ملك لأنها كانت بفناء دورهم للناس كلهم فأضيفت إليهم لقربها منهم ولهذا بال صلى الله عليه وسلم عليها وبهذا يندفع إشكال من قال: إن البول يوهن الجدار وفيه ضرر فكيف هذا من النبي صلى الله عليه وسلم وقد يقال: إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار، وقد صرح به في رواية أبي عوانة في صحيحه، وقيل يحتمل أن يكون علم إذنهم في الجدار بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه صلى الله عليه وسلم بإيثارهم إياه، بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا وإن كان صحيح المعنى لكن لم يُعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم اهـ فتح جـ 2/ ص 120.

وقال البدر العيني قلت هذا كله على تقدير أن تكون السباطة ملكا لأحد أو لجماعة معينين وقال الكرماني وأظهر الوجوه أنهم كانوا يؤثرون ذلك ولا يكرهونه بل يفرحون به ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه والأكل من طعامه، قال العيني: هذا أيضا على تقدير أن تكون السباطة ملكا لقوم.

فإن قلت كان من عادته صلى الله عليه وسلم التباعد في المذهب وقد روى المصنف

ص: 421

وأبو داود عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد.

والمذهب بالفتح الموضع الذي يتغوط فيه وأخرجه بقية الأربعة أيضا قلت يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولا في ذلك الوقت بأمور المسلمين والنظر في مصالحهم فلعله طال عليه الأمر فأتى السباطة حين لم يمكنه التباعد وإنه لو بعد لكان تضرر.

فإن قلت روى أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال" الحديث، فهذا يخالف ما ذكرت فيما مضى عن قريب، قلت: يجوز أن يكون الجدار ها هنا عاد يا غير مملوك لأحد أو يكون قعوده متراخيا عن جرمه فلا يصيبه البول ا. هـ عمدة القارئ جـ 3/ ص 10 بزيادة من الفتح.

"المسألة الخامسة": قوله "فبال قائما" فيه جواز البول قائما.

وقد اختلف العلماء في هذا، فأباحه قوم، وقال ابن المنذر: ثبت أن عمر وابنه وزيد بن ثابت وسهل بن سعد أنهم بالوا قياما، وأباحه سعيد ابن المسيب وعروة ومحمد بن سيرين وزيد بن الأصم وعَبيدة السَّلْماني والنخعي والحكم والشعبي وأحمد وآخرون، وقال مالك: إن كان في مكان لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس به وإلا فمكروه، وقال عامة العلماء البول قائما مكروه إلا لعذر وهي كراهة تنزيه لا تحريم، وكذلك روي البول قائمًا عن أنس وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهم، وكرهه ابن مسعود وإبراهيم بن سعد وكان إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائما، وقال ابن المنذر: البول جالسا أحب إلي وقائما مباح، وكل ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم

(تنبيه) فإن قيل: رويت أحاديث ظاهرها يعارض حديث الباب:

ص: 422

منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا" أخرجه أصحاب السنن إلا أبا داود، وأبو عوانة في صحيحه، والحاكم، والبيهقي وأحمد.

ومنها: حديث بريدة مرفوعًا: "ثلاث من الجفاء" فذكر منها: "وأن يبول الرجل قائما" رواه البزار، والطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: ورجال البزار رجال الصحيح.

ومنها: حديث عمر رضي الله عنه وأخرجه البيهقي من حديث ابن جريج، أخبرنا عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر، قال: قال عمر رضي الله عنه "رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبول قائما فقال يا عمر لا تبل قائما قال فما بلت قائما بعدُ".

ومنها: حديث جابر رضي الله عنه أخرجه البيهقي أيضا من حديث عدي بن الفضل، عن علي بن الحكم، عن أبي نضرة، عن جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما".

أجيب عنها بما يلي: أما حديث عائشة فإنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فقد لا تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة رضي الله عنه، وأما حديث بريدة فإنه كما قال الترمذي غير محفوظ، وأما حديث عمر ففي سنده عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف، والصحيح ما روى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال:"ما بلت قائما منذ أسلمت".

وأما حديث جابر ففي سنده عدي بن الفضل وهو متروك.

وقد بين الشيخ الألباني علته في إروائه، فراجعه جـ 1 ص 96 - 99.

وبالجملة فقد قال الحافظ رحمه الله: ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في

ص: 423

النهي عن البول قائما شيء اهـ انظر فتح الباري جـ 1/ ص 395.

"المسأله السادسة" تكلم العلماء في سبب بوله صلى الله عليه وسلم قائما فقال الشافعي -لما سأله حفص الفرد عن الفائدة في بوله قائمًا- العرب تستشفى لوجع الصلب بالبول قائما فنرى أنه كان به إذ ذاك اهـ عيني، ونسبه الحافظ في الفتح إلى أحمد أيضا قال وروى الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة قال "إنما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما لجرح كان في مأبضه" والمأبض بهمزة ساكنة بعدها موحدة ثم معجمة باطن الركبة فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن غيره لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي اهـ فتح جـ 2/ ص 123 بتغيير يسير.

وقال القاضي عياض: إنما فعله لشغله بأمور المسلمين فلعله طال عليه المجلس حتي حصره البول ولم يمكنه التباعد كعادته وأراد السباطة لدمثها وأقام حذيفة يستره عن الناس.

وقال المازري: فَعَلَ ذلك لأنها حالة يؤمن فيها من خروج الحدث من السبيل الآخر بخلاف القعود، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه البول قائما أحصن للدبر رواه عبد الرزاق كما في الفتح.

وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجد مكانا للقعود فاضطر إلى القيام لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان مرتفعا قاله ابن حبان كما قال الحافظ.

وقال المنذري: لعله كانت في السباطة نجاسات رطبة وهي رخوة فخشي أن يتطاير عليه، قيل فيه نظر لأن القائم أجدر بهذه الخشية من القاعد، وقال الطحاوي لكون ذلك سهلا ينحدر فيه البول فلا يرتد على البائل اهـ عمدة جـ 3/ ص 11 بزيادة يسيرة.

وقال الحافظ: والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز وكان أكثر أحواله البول عن قعود اهـ فتح ج 2 ص 123.

ص: 424

وقال العلامة الشوكاني نقلا عن ابن القيم في الهدي: والصحيح إنما فعل ذلك تنزها وبعدا من إصابة البول فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم وهو مُلقَى الكناسة، وتسمى المزبلة، وهي تكون مرتفعة فلو بال فيها الرجل قاعدا لارتد عليه بوله وهو صلى الله عليه وسلم استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط فلم يكن بد من بوله قائما ولا يخفى ما في هذا الكلام من التكلف.

والحاصل أنه قد ثبت عنه البول قائما وقاعدا والكل سنة، فقد روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يأتي تلك السباطة فيبول قائما، هذا إذا لم يصح في الباب إلا مجرد الأفعال، إما إذا صح النهي عن البول حال القيام كما في حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل قائما وجب المصير إليه والعمل بموجبه ولكنه يكون الفعل الذي صح عنه صارفا للنهي إلى الكراهة على فرض جهل التاريخ لو تأخر الفعل لأن لفظ الرجل يشمله صلى الله عليه وسلم بطريق ظهور فيكون فعله صالحا للصرف، لكونه وقع بمحضر من الناس، فالظاهر أنه أراد التشريع، ويعضده نهيه صلى الله عليه وسلم لعمر وإن كان فيه ما سلف اهـ المراد من كلام الشوكاني.

قال الجامع: حديث جابر المذكور في سنده عدي بن الفضل متروك وحديث نهى عمر غير صحيح. وقد تقدم عن الحافظ أنه لم يثبت في النهي شيء، فلا داعي إلى التكلف بالجمع. فتبصر. والله أعلم.

"المسألة السابعة": فيما بقي من الأحكام المستفادة من الحديث:

منها: جواز البول بالقرب من الدار.

ومنها: أن فيه دليلًا على أن مدافعة البول ومصابرته مكروهة لما فيه من الضرر.

ومنها: جواز طلب البائل من صاحبه الماء للوضوء.

ص: 425

ومنها: خدمة المفضول للفاضل ذكر هذه الفوائد في العمدة جـ 3/ ص 11. ومنها جواز المسح في الحضر قاله في الفتح.

ومنها: دفع أشد المفسدتين بأخفهما والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معا، وبيانه أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلما حضره البول وهو في بعض تلك الحالات لم يؤخره حتى يبعد كعادته لما يترتب على تأخيره من الضرر، فراعَى أهم الأمرين، وقدم المصلحة في تقريب حذيفة منه ليستره من المارَّة على مصلحة تأخيره عنه إذ لم يمكن جمعهما اهـ فتح جـ 2/ ص 122.

وليس فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول لأن رواية البخاري "فأشار إليَّ" تدل أنه بالإشارة لا بالكلام أفاده الحافظ، وتعقبه البدر العيني بأنه ترده رواية الطبراني التي قدمناها من رواية عصمة بن مالك وفيها فقال "ياحذيفة استرني" فإنها صريحة بالتلفظ. قال: ويمكن أن يجمع بين الروايتين بأن يكون عليه السلام أشار أولا بيده أو برأسه، ثم قال:"استرني" وقال أيضا ما معناه: إنه لا يدل على جواز الكلام وعدمه، إذ إشارته صلى الله عليه وسلم أو قوله "استرني" لم يكن إلا قبل شروعه في البول اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره العيني من الجمع أخيرًا هو الذي يكون أولى بالاعتماد عليه، والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ولما ذكر ما يدل على مندوبية الإبعاد عند قضاء الحاجة، ثم أتبعه بما يدل على الرخصة في. ترك ذلك شَرعَ يبين ما يُقَالُ عند إرادة الخلاء، فقال رحمه الله تعالى:

ص: 426

‌18 - القول عند دخول الخلاء

أي هذا باب ذكر الحديث المبين لما يقال عند إرادة دخول الخلاء، فالقول بمعنى المقول، والمراد بالدخول إرادته لما يأتي.

والخلاء بفتح الخاء والمد موضع قضاء الحاجة سمى بذلك لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، وهو الكنيف والحُشُّ والمرْفَق والمرْحاض أيضا، وأصله المكان الخالي، ثم كثر استعماله حتى تُجُوِّزَ به عن ذلك، وأما الخلا بالقصر فهو الحشيش الرطب والكلأ الخشن أيضا، وقد يكون الخلا مستعملا في باب الاستنجاء فإن كسرت الخاء مع المد فهو عيب في الإبل كالحران في الخيل، وقال الجوهري: الخلاء ممدودا المتوضأ، والخلاء أيضا المكان الذي لا شيء به قال البدر العيني يصلح كل منها أن يكون مرادا ها هنا. اهـ.

19 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ".

رجال الإسناد: أربعه

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) بن مخلد بن إبراهيم بن مطر الحنظلي أبو محمَّد ابن راهويه المروزي ثقة حجة، 10 تقدم في 2/ 2.

ص: 427

2 -

(إسماعيل). بن إبراهيم بن مقْسَم الأسدي القرشي مولاهم أبو بشر البصري ابن علية وهي أمه مولاة لبني أسد بن خزيمة أيضا الحافظ أحد الأئمة الأعلام عن أيوب، وعبد العزيز بن رفيع، وروح بن القاسم، ويحيى بن سعيد التيمي، وخلق. وعنه إبراهيم بن طهمان، وأحمد، وابن راهويه، وعلي بن حجر، وخلق كثير، قال شعبة: ابن علية ريحانة الفقهاء. وقال أحمد: إليه المنتهى في التثبت. وقال ابن معين: كان ثقة، مأمونا، ورعا، تقيا. قال عمرو بن زرارة: صحبت ابن علية أربع عشرة سنة، فما رأيته ضحك فيها. قال الفلاس: ولد سنة عشر ومائة، ومات سنة ثلاث وتسعين ومائة. اهـ صه جـ 1/ ص 83، من الثامنة.

3 -

(عبد العزيز بن صهيب) البناني (نسبة إلى بُنَانة بن سعد بن لؤي ابن غالب) مولاهم البصري عن أنس، وشهر، وعنه شعبة والحمادان وثقه أحمد، قال ابن قانع مات سنة ثلاثين ومائة اهـ صة جـ 2/ ص 166، من الرابعة.

4 -

(أنس بن مالك) الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المكثرين السبعة تقدم. في 6/ 6.

لطائف الإسناد

فيه الإخبار في موضعين، والعنعنة في موضعين.

ورواته كلهم بصريون إلا شيخه فمروزي، فهو مسلسل بالبصريين وهو الثالث من رباعيات المصنف، وهي أعلى ما وقع له، كما تقدم في المقدمة.

ص: 428

شرح الحديث

(عن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء) أي أراد دخول الخلاء.

لأن اسم الله لا يذكر بعد الدخول، وهذا التقدير جاء مصرحًا به في رواية أخرجها البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: حدثني أنس ابن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال .. فذكر مثل حديث الباب. قال الحافظ: وأفادت هذه الرواية تبيين المراد من قوله إذا دخل الخلاء، أي كان يقول هذا الذكر عن إرادة الدخول، لا بعده، وهذا في الأمكنة المعدة لذلك بقرينة الدخول، ولهذا قال ابن بطال: رواية "إذا أتى" أعم لشمولها انتهى.

والخلاء بالمد موضع قضاء الحاجة قال (اللهم) أي يا ألله (أعوذ بك) أي ألوذ وألتجىء إليك من العوذ وهو عُودٌ يلجأ إليه الحشيش في مَهبِّ الريح، وقال ابن الأثير: يقال: عذت به عوذا وعياذا ومعاذا، أي لجأت إليه، والمعاذ المصدر والمكان والزمان، أي لقد لجأت إلى ملجأ ولذت بملاذ. اهـ عينى جـ 2/ ص 252 (من الخبث) بضمتين قال في الفتح كذا في الرواية اهـ. وجاءت بإسكان الموحدة جمع خبيث، والمراد به ذكور الشياطين اهـ. المنهل. (والخبائث) جمع خبيثة، والمراد إناث الشياطين.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه متفق عليه.

الثانية: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأمهات الست وغيرهم وفي اختلاف ألفاظه قال الحافظ المزي في ترجمة إسماعيل بن علية ما نصه

ص: 429

حديث: وكان إذا دخل الخلاء، قال:"اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"(م) في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب (س) فيه، أي الطهارة، وفي النعوت، يعني في الكبرى، عن إسحاق ابن إبراهيم (ق) في الطهارة، عن عمرو بن رافع، أربعتهم عنه، أي عن إسماعيل بهذا السند. اهـ.

وقال المزي أيضا عند ذكر شعبة عن عبد العزيز عن أنس (خ) في الطهارة عن آدم بن أبي إياس، وفي الدعوات عن محمَّد بن عرعرة (د) في الطهارة عن الحسين بن عمر، عن وكيع، ثلاثتهم عنه، أي شعبة به، أي بهذا السند (ت) في الطهارة، عن قتيبة، وهناد، كلاهما عن وكيع به. اهـ 1/ 274.

وقال في المنتقى: رواه الجماعة ولسعيد بن منصور في سننه: كان يقول: "بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" اهـ.

المسألة الثالثة: قوله إذا دخل الخلاء أي أراد الدخول كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: آية 98] أي إذا أردت قراءة القرآن وذلك لأن الله تعالى إنما يذكر في الخلاء بالقلب لا باللسان إذ هو معمروه لحديث ابن عمر وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل وهو يبول فلم يرد عليه، حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: "إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر" أو قال: "على طهارة". وروى نحوه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، كما في النيل.

وقال القشيري: المراد به ابتداء الدخول، قال العيني: لا يحتاج إلى هذا التأويل فإن المكان الذي تقضى فيه الحاجة لا يخلو إما أن يكون معدا لذلك كالكنيف، أو لا كالصحراء، فإن لم يكن معدا فإنه يجوز ذكر الله تعالى في ذلك المكان، وإن كان معدا، ففيه خلاف للمالكية فمن كرهه

ص: 430

أوَّلَ الدخولَ بمعنى الإرادة، لأن لفظة دخل أقوى في الدلالة على الكنف المبنية منها على المكان البراح

(1)

أو لأنه بُيِّنَ في حديث آخر كما في راوية البخاري في الأدب المفرد السابقة وكما في قوله صلى الله عليه وسلم "إن هذه الحشوش محتضرة" أي للجان والشياطين "فإذا أراد أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث" ومن أجازه استغنى عن هذا التأويل، ويحملُ دخل على حقيقتها، وهذا الحديث أخرجه أبو داود عن عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه "فإذا أتى أحدكم الخلاء". وأخرجه النسائي وابن ماجه أيضا، وقال الترمذي: حديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب وأشار إلى اختلاف الرواية فيه، وسأل الترمذي البخاري عنه، فقال: لعل قتادة سمعه من القاسم بن عوف الشيباني، والنضر بن أنس، عن أنس، ولم يقض فيه بشيء، ولهذا أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال البزار: اختلفوا في إسناده، وقال الحاكم: مختلف فيه على قتادة، وقد احتج مسلم بحديث لقتادة، عن النضر، عن زيد، ورواه سعيد عن القاسم، وكلا الإسنادين على شرط الصحيح اهـ عمدة جـ 2/ ص 253.

وقال العلامة المباركفوري في شرح الترمذي: قول البخاري المذكور في كلام العيني: لعل قتادة سمعه من القاسم بن عوف الشيباني، والنضر ابن أنس، عن أنس، مخالف لقوله المذكور في كلام البيهقي بلفظ لعل قتادة سمع منهما جميعا عن زيد بن أرقم، والظاهر عندي أن لفظ: عن أنس المذكور، في كلام العيني؛ سهو من الناسخ، فتأمل. اهـ تحفة جـ 1/ ص 46.

"المسألة الرابعة" قوله: "الخبث"، قال الخطابي: بضم الخاء والباء

(1)

مثل سلام المكان الذي لا سترة فيه اهـ، مصباح.

ص: 431

جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم.

وعامة أصحاب الحديث يقولون: الخبث مسكنة الباء، وهو غلط، والصواب مضمومة الباء، قال: وقال ذلك لأن الشياطين يحضرون الأخْلية، وهي مواضعُ يُهجَر فيها ذكر الله تعالى، فقدم لها الاستعاذة احترازا منهم، انتهى. وفيه نظر؛ لأن أبا عبيد القاسم بن سلام حكى تسكين الباء، وكذا الفارابي في ديوان الأدب، والفارسي في مجمع الغرائب، ولأن فُعُلا بضمتين قد يسكن عينه قياسا ككتب وكتب، فلعل من سكنها سلك هذا المسلك، وقال التوربشتي: هذا مستفيض لا يسع أحدا مخالفته إلا أن يزعم أن ترك التخفيف فيه أولى لئلا يشتبه، بالخُبْث الذي هو المصدر.

وفي شرح السنة الخبث بضم الباء وبعضهم يَروي بالسكون، وقال الخبث الكفر، والخبائث الشياطين، وقال ابن بطال الخبث بالضم يعم الشر، والخبائث الشياطين، وبالسكون مصدر خبث الشيء يخبث خبثا، وقد يجعل اسما. وزعم ابن الأعرابي أن أصل الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وان كان من الشراب فهو الضار. وقال ابن الأنباري وصاحب المنتهى: الخبث الكفر، ويقال: الشيطان، والخبائث المعاصي جمع خبيثة، ويقال: الخبث خلاف طيب الفعل، من فجور وغيره، والخبائث الأفعال المذمومة، والخصال الرديئة. اهـ عمدة جـ 2/ ص 252.

"المسألة الخامسة" من الأحكام المستنبطة من حديث الباب:

أن فيه مشروعية الاستعاذة عند إرادة الدخول في الخلاء، وقد أجمع أهل العلم على استحبابها، وسواء في ذلك البنيان والصحراء، لأن

ص: 432

الشياطين تحضر تلك الأمكنة، وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله تعالى، فيقدم لها الاستعاذة، تحصنا منهم، لأن لهم تسلطا على ابن آدم لم يكن في غيرها، لبعد الحفظة عنه، والصحراء تصير مأوى لهم بخروج الخارج، فلو نسي التعوذ، فدخل، فذهب ابن عباس وغيره إلى كراهة التعوذ، وأجازه جماعة، منهم ابن عمر رضي الله عنهما أفاده العيني.

قال الجامع: والراجح عندي القول الأول لما قدمنا من كراهة الذكر في محل النجاسات.

"المسألة السادسة" اختلف العلماء في جواز ذكر الله تعالى على الخلاء، فروي عن ابن عباس أنه كره أن يذكر الله تعالى عند الخلاء، وهو قول عطاء، ومجاهد، والشعبي. وقال عكرمة: لا يذكر الله فيه بلسانه بل بقلبه. ذكره العيني في عمدته جـ 2/ ص 254.

قال الجامع: هذا القول عندي هو الراجح، لما روى أبو داود بسند صحيح عن المهاجر بن قُنْفُذ، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه، حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال:"إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر" أو قال: "على طهارة".

وأجاز ذلك جماعة روى ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يذكر الله تعالى في المرحاض، وقال العزرمي: قلت للشعبي: أعطس وأنا في الخلاء أحمد الله؟ قال: لا حتى تخرج، فأتيت النخعي فسألته عن ذلك، فقال لي: احمد الله، فأخبرته بقول الشعبي، فقال النخعي: الحمد يصعد ولا يهبط، وهو قول ابن سيرين، ومالك، وقال ابن بطال: وهذا الحديث

(1)

حجة لمن أجاز ذلك.

(1)

يعني: حديث كان إذا دخل الخلاء .. الحديث.

ص: 433

قال الجامع عفا الله عنه: في قول ابن بطال هذا نظر لما قدمنا من رواية البخاري في الأدب المفرد من قوله "إذا أراد أحدكم" فإنها تفسر المراد، فلا يتم الاحتجاج به.

وقال البدر العيني: وذكر البخاري في كتابه خلق أفعال العباد عن عطاء رحمه الله الخاتم فيه ذكر الله لا بأس أن يدخل به الإنسان الكنيف أو يُلمّ بأهله، وهو في يده لا بأس به، وهو قول الحسن، وذكر وكيع عن سعيد بن المسيب مثله، قال البخاري وقال طاوس في المنطقة يكون على الرجل فيها الدراهم يقضي حاجته لا بأس بذلك، وقال إبراهيم لا بد للناس من نفقاتهم، وأحَبَّ بعض الناس أن لا يدخل الخلاء بالخاتم فيه ذكر الله تعالى، قال البخاري: وهذا من غير تحريم يصح، وأما حديث بئر جمل

(1)

فهو على الاختيار والأخذ بالاحتياط والفضل، لأنه ليس من شرط رد السلام أن يكون على وضوء قاله الطحاوي، وقال الطبري: إن ذلك منه كان على وجه التأديب للمسلم عليه أن لا يسلم بعضهم على بعض على الحدث، وذلك نظير نهيه وهو كذلك أن يحدث بعضهم بعضا بقول "لا يحدث المتغوطان على طوفهما

(2)

يعني حاجتهما فإن الله يمقت على ذلك" وروى أبو عبيدة الباجي عن الحسن عن البراء رضي الله عنه "أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه شيئًا حتى فرغ" اهـ عمدة جـ 2/ ص 254.

"المسألة السابعة" لفظ الاستعاذة أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك" وقد اختلف فيه ألفاظ الرواة ففي رواية شعبة "أعوذ بالله" وفي رواية وهب "فليتعوذ بالله" وهو يشمل كل ما يأتي به من أنواع الاستعاذة من

(1)

وهو أنه صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى تيمم الجدار

(2)

الطوق بالفتح: الغائط، اهـ المصباح.

ص: 434

قوله: أعوذ بك أستعيذ بك أعوذ بالله، أستعيذ بالله اللهم اني أعوذ بك ونحو ذلك قاله العيني.

"المسألة الثامنة" قال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما من الشيطان حتى من الموكل به بشرط استعاذ ته منه ومع ذلك فقد كان اللعين يعرض له، عرض له ليلة الإسراء فدفعه بالاستعاذة، وعرض له في الصلاة، فشد وثاقه، ثم أطلقه، وكان يخص الاستعاذة في هذا الموضع بوجهين:

أحدهما: أنه خلاء وللشيطان بعادة الله قدرة تسلط في الخلاء ليس له في الملاء قال صلى الله عليه وسلم "الركب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب"

الثاني: أنه موضع قذر ينزه ذكر الله عن الجريان فيه على اللسان فيغتنم الشيطان عدم ذكر الله فإنَّ ذكره يطرده فلجأ إلى الاستعاذة قبل ذلك ليعقدها عصمة بينه وبين الشيطان حتى يخرج وليعلّم أمته انتهى كلام ابن العربى.

وقال الحافظ: كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ إظهارا للعبودية ويجهر بها للتعليم اهـ

"المسألة التاسعة" قال الحافظ: هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك لكونها تحضرها الشياطين، كما ورد في حديث زيد بن أرقم في السنن، أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلا في جانب البيت الأصح الثاني ما لم يشرع في قضاء الحاجة.

وقال أيضا: متى يقول ذلك فمن يكره ذكر الله في تلك الحالة يُفصِّل، أما في الأمكنة المعدة لذلك فيقول قبيل دخولها، وأما في غيرها فيقول في أول الشروع، كتشمير ثيابه مثلا، وهذا مذهب الجمهور، وقالو فيمن نسي يستعيذ بقلبه لا بلسانه ومن يجيز مطلقا كما نقل عن مالك لا يحتاج إلى تفصيل اهـ فتح جـ 2/ ص 18.

ص: 435

"المسألة العاشرة" تسن التسمية قبل التعوذ لما أخرج سعيد بن منصور في سننه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "باسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" اهـ المنهل جـ 1/ ص 31.

وقال الحافظ: وقد رَوَى المعمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال: إذا دخلتم الخلاء فقولوا بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث" وإسناده على شرط مسلم، قال: ولم أرها يعني زيادة التسمية في غير هذه الرواية. اهـ، قال الشوكاني وهذه الرواية تشهد لما رواه سعيد بن منصور. اهـ نيل.

"المسألة الحادية عشرة" فيما يقال عند الخروج، لم يُخرِّج المصنف ذلك، فروت عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء، قال:"غفرانك" رواه أصحاب السنن إلا المصنف، وأحمد وصححه الحاكم، وأبو حاتم. قاله الشوكاني.

وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني".

قال الحافظ البوصيري: هذا حديث ضعيف، ولا يصح بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. اهـ، مصباح الزجاجة جـ 1/ ص 129.

وأخرج النسائي مثله في عمل اليوم والليلة.

وأخرج الدارقطني عن ابن عباس مرفوعا "الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني وأمسك عليَّ ما ينفعني".

وذكره ابن الجوزي في العلل عن سهل بن أبي حثمة نحوه.

وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا "الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى علي قوته وأذهب عني أذاه" وكلها ضعاف ما عدا حديث عائشة كما أفاده العلامة العيني.

ص: 436

واستغفاره صلى الله عليه وسلم:

قيل: لتركه الذكر في تلك الحالة لما ثبت أنه كان يذكر الله على كل أحواله إلا في حال قضاء الحاجة فجعل ترك الذكر في هذه الحالة تقصيرًا وذنبا يستغفر منه.

وقيل: استغفر لتقصيره في شكر نعمة الله عليه بإقداره على إخراج ذلك الخارج.

وأما حمده: فإشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنة جزيلة، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك، فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها وحقَّ على من أكل ما يشتهيه من طيبات الأطعمة فسد به جوعه، وحفظ به صحته، وقوته، ثم لما قضى منه وطره، ولم يبق فيه نفع، واستحال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة، خرج بسهولة من مخرج مُعَدّ لذلك أن يستكثر من محامد الله جل جلاله، اللهم أوزعنا شكر نعمائك أفاده الشوكاني في نيله جـ 1/ ص 118.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ولما ذكر ما يقال عند الدخول في الخلاء ناسب أن يذكر الحالة التي يكون عليها المتخلي بعد الدخول عند قضاء الحاجة وهي عدم كونه مستقبلا للقبلة، أو مستدبرا لها بل يشرّق أو يغربّ، فلذا ذكرها

بالترتيب فقال:

ص: 437

‌19 - النهي عن استقبال القبلة عنه الحاجة

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة.

والمراد بالحاجة: الغائط والبول.

يقال: استقبل الشيء واجهته فهو مستقبل بالفتح اسم مفعول، "ولو استقبلت من أمري ما استدبرت" أي لو ظهر لي أولا ما ظهر لي آخرا، وفي النوادر استقبلت الماشية الوادي تُعدّيه إلى مفعولين، وأقبلتها إياه بالألف تعديه إلى مفعولين أيضا: إذا أقبلت بها نحوه. قاله في المصباح.

والقبلة: في الأصل الجهة.

قال في اللسان: القبلة ناحية الصلاة، وقال اللحياني القبلة وجهة المسجد، وليس لفلان قبلة أي جهة، ويقال: أين قبلتك؛ أي من أين جهتك؟ والقبلة التي يصلَّى إليها اهـ. وسميت الكعبة قبلة لأن المصلي

يقابلها، وكل شيء جعلته تلقاء وجهك فقد استقبلته. اهـ المصباح بزيادة يسيرة.

والحاجة: كناية عن البول والغائط وهي في الأصل قيل: تطلق على نفس الافتقار وعلى الشيء الذي يفتقر إليه. قاله في تاج العروس.

قال رحمه الله تعالى:

20 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي

ص: 438

مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ، وَهُوَ بِمِصْرَ يَقُولُ: وَاللهِ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذِهِ الْكَرَايِيسِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ أَوِ الْبَوْلِ، فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(محمَّد بن سلمة) بن عبد الله بن أبي فاطمة المُرادي الجَمَلي بفتح الجيم والميم مولاهم أبوالحارث المصري الفقيه، عن ابن وهب وابن القاسم وجماعة، وعنه (م د س) وقال: ثقة ثقة وقال ابن يونس كان ثبتا توفي سنة ثمان وأربعين ومائتين اهـ صة جـ 2/ ص 408، من الطبقة الحادية عشرة.

2 -

(الحارث بن مسكين) الأموي مولاهم أبو عمر قاضي مصر ثقة فقيه [10] تقدم في 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن بن القاسم العُتَقيّ (بضم المهملة وفتح المثناة بعدها قاف) أبو عبد الله المصري الفقيه، عن مالك وبكر بن مضر، ونافع القارئ، وعنه أصبغ بن الفرج، ومحمد بن سلمة المرادي. قال أبو زرعة: عنده ثلثمائة جلد عن مالك مسائل. قال النسائي: ثقة مأمون. وقال فيه مالك: مثله مثل جواب مملوء مسكًا قال يونس بن عبد الأعلى: مات سنة 191 صة جـ 2/ ص 149، من الطبقة العاشرة.

ص: 439

4 -

(مالك بن أنس) مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبو عبد الله المدني أحد أعلام الإسلام وإمام دار الهجرة، عن نافع، والمقبري، ونعيم بن عبد الله، وابن المنكدر، ومحمد بن يحيى ابن حبان، وإسحاق. بن عبد الله بن أبي طلحة، وأيوب وزيد بن أسلم، وخلق. وعنه من شيوخه: الزهري، ويحيى الأنصاري. وممن مات قبله: ابن جريج، وشعبة، والثوري، وخلق، وابن عيينة، والقطان، وابن وهب، وخلائق، آخرهم موتا أبو حذافة السهمي.

قال الشافعي: مالك حجة الله تعالى على خلقه، قال ابن مهدي: ما رأيت أحدا أتم عقلا ولا أشد تقوى من مالك، وقال ابن المديني: له نحو ألف حديث، وقال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، ولد مالك سنة 93 وحمل به ثلاث سنين وتوفي سنة 179 ودفن بالبقيع صة جـ 3/ ص 3 من الطبقة السابعة.

5 -

(اسحاق بن عبد الله بن أبى طلحه) زيد بن سهل الأنصاري، أبو يحيي المدني، عن أبيه، وأنس، والطفيل بن أبي بن كعب. وعنه حماد بن سلمة، وابن عيينة، ومالك. قال ابن معين: ثقة حجة. قال

ابن سعد: توفي سنة 132. وقال الفلاس: سنة أربع، من الطبقة الرابعة.

6 -

(رافع بن إسحاق) المدني مولى الشِّفَاء

(1)

عن أبي أيوب، وعنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. وثقه النسائي. اهـ صة، من الطبقة الثالثة.

7 -

(أبو أيوب الأنصاري) خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة الأنصاري النجاري المدني شهد بدرا والعقبة، وعليه نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين

(1)

بكسر الشين، وفتح الفاء الخفيفة. اهـ.

ص: 440

دخل المدينة له مائة ونجمسون حديثا اتفقا على سبعة، وانفرد (خ) بحديث. و (م) بخمسة، روى عنه البراء وأفلح مولاه وعروة وعطاء الليثي، له فضائل، ومن كلامه من أراد أن يكثر علمه، ويعظم حلمه، فليجالس غير عشيرته، مات بأرض الروم غازيا سنة 52 ودفن إلى أصل حصن القسطنطينية. اهـ صة جـ 1/ ص 278.

لطائف الإسناد

منها: أن فيه الإخبار، والعنعنة، والتحديث، والسماع، والقول.

ومنها: أن رواته ما بين مصريين ومدنيين فمن قبل مالك كلهم مصريون ومنه إلى آخره كلهم مدنيون.

ومنها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: قوله والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع وذلك لأنه كان بينه وبين الحارث شيء فكان النسائي يسمع قراءة غيره من حيث لا يراه الحارث، وقد تقدم البحث عنه.

ومنها: قوله واللفظ أي لفظ الحديث الآتي للحارث يعني وأما ابن سلمة فلفظه غير هذا وإنما يوافقه في المعنى وفيه إشارة إلى قاعدة اصطلح عليها المحدثون، وهي أنه إذا كان الحديث عند رجل عن شيخين أو أكثر، واتفقا في المعنى دون اللفظ فله جمعهما في الإسناد، ثم يسوق على لفظ أحدهما، فيقول: أخبرنا فلان وفلان، واللفظ لفلان، أو وهذا لفظ فلان، أو قالا: أخبرنا فلان، ونحوه من العبارات.

قال النووي رحمه الله في التقريب: ولمسلم في صحيحه عبارة حسنة كقوله حدثنا أبو بكر، وأبو سعيد كلاهما عن أبي خالد، قال أبو بكر: حدثنا أبو خالد، عن الأعمش، فظاهره أن اللفظ لأبي بكر. قال

ص: 441

العراقي: ويحتمل أنه أعاده لبيان التصريح بالتحديث، وأن أبا سعيد لم يصرح.

فإن لم يخص فقال: أخبرنا فلان وفلان وتقاربا في اللفظ، أو والمعنى واحد قالا: حدثنا فلان جاز على جواز الرواية بالمعنى، فإن لم يقل تقاربا فلا بأس به على جواز الرواية بالمعنى، وإن كان قد عيب به

البخاري، وغيره.

قال ابن الصلاح: وقول أبي داود حدثنا مسدد، وأبو توبة المعنى قالا: حدثنا أبو الأحوص يحتمل أن يكون من قبيل الأول، فيكون اللفظ لمسدد، ويوافقه أبو توبة في المعنى، ويحتمل أن يكون من قبيل الثاني فلا يكون أورد لفظ أحدهما خاصة بل رواه عنهما بالمعنى، قال وهذا الاحتمال يقرب في قول مسلم المعنى واحد. اهـ تقريب بزيادة من شرحه التدريب جـ 2/ ص 112.

وإلى ذلك أشار السيوطي بقوله في الألفية:

وَمَنْ رَوَى متنًا عن أشْيَاخ وَقَدْ

تَوَافَقَا مَعْنىً ولفظٌ مَا اتَّحَدْ

مُقْتصرًا بلَفْظ وَاحد وَلَمْ

يُبَيِّن اخْتصَاصَهُ فَلَمْ يُلَمْ

أوْ قَال قَدْ تَقَارَبا في اللَّفْظ أوْ

واتَّحَدَ المعْنَى عَلى خُلْف حَكَوا

وإنْ يكُنْ للفْظه يُبيّنُ

مَعْ قَالَ أوْ قَالا فَذَاكَ أحسَنُ

الشرح

(عن رافع بن إسحاق أنه سمع) يقال: سمعت الشيء سمعا وسماعا وسماعة، واختلف النحاة في سمعت هل يتعدى إلى مفعولين، على قولين: أحدهما نعم، وهو مذهب الفارسي، قال لكن لا بد أن يكون الثاني مما يسمع كقولك: سمعت زيدًا يقول كذا، ولو قلت: سمعت

ص: 442

زيدا أخاك لم يجز، والصحيح أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، والفعل الواقع بعد المفعول في موضع الحال، أي سمعته حال قوله كذا قاله العيني جـ 1/ ص 25.

ويقال: سمع سواء كان بقصد أو بدونه، وإذا قيل: استمع لا بد أن يكون بقصد، لأنه لا يكون إلا بالإصغاء، ويقال: سمعت كلامه إذا فهمت معنى لفظه، وإن لم تفهم لبعد أو لغط فهو سماع صوت، لا

سماع كلام؛ لأن الكلام ما دل على معنى تتم به الفائدة، وهو لم يسمع ذلك. أفاده في المصباح.

(أبا أيوب) مفعول سمع (الأنصاري) بفتح الهمزة وسكون النون نسبة إلى الأنصار لكونه مشابها للمفرد حيث صار علمًا للقبيلة. قال ابن مالك في ألفيته.

والوَاحدَ أذكُرْ نَاسبًا للجَمْع .... إنْ لَمْ يُشَابة وَاحدًا بالوَضْع

قال في اللباب: وهم جماعة من أهل المدينة من الصحابة من أولاد الأوس والخزرج قيل لهم: الأنصار، لنصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، اهـ (وهو بمصر) جملة حالية من أبي أيوب، وفي رواية الصحيحين "فقدمنا الشام فوجدنا مراحض قد بنيت قبل القبلة فكنا ننحرف عنها" قال الشيخ ولي الدين العراقي في شرح أبي داود: لا تنافي بين الروايتين فيمكن أنه وقع له هذا في البلدين معا، قدمَ كلا منهما، فرأى مراحيضهما إلى القبلة. اهـ زهر (يقول) جملة حالية من المفعول أيضا (والله ما أدري ما أصنع) ما استفهامية، وفي نسخة السيوطي كيف أصنع أي أيَّ شيء أصنع (بهده الكراييس) بياءين مثناتين من تحت، قال في النهاية: يعني الكنف واحدها كرياس، وهو الذي يكون مشرفا على سطح بقناة من الأرض فهذا كان أسفل فليس بكرياس، سمي به لما تعلق به من الأقذار

ص: 443

ويتكرس كتكرُّس الدِّمَن. وقال الزمخشري في كتاب العين: الكرْناس بالنون. اهـ الزهر.

وقال السندي: يعني بيوت الخلاء، قيل: ويفهم من كلام بعض أهل اللغة أنه بالنون ثم الياء. وكانت تلك الكراييس بنيت إلى جهة القبلة، فثقل عليه ذلك، ورأى أنه خلاف ما يفيده الحديث بناء على أنه فهم الإطلاق، لكن يمكن أن يكون محمل الحديث الصحراء وإطلاق اللفظ جاء على ما كان عليه العادة يومئذ إذ لم يكن لهم كنف في البيوت في أول الأمر، ويؤيده الجمع بين أحاديث هذا الباب منها ما ذكره المصنف، ومنها ما لم يذكره، ولذلك مال إليه الطحاوي من علمائنا، يعني الحنفية، والمسألة مختلف فيها بين العلماء والاحتراز عن الاستقبال والاستدبار في البيوت أحوط وأولى. اهـ.

(وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال من الكرابيس أي حال كون رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا في شأنها موضحا حكمها (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط) أي محل قضاء الحاجة أو الحاجة نفسها لأن الغائط يطلق عليها مجازا، قال في اللسان الغوط عمق الأرض الأبعد، ومنه قيل للمُطمَئنِّ

(1)

من الأرض غائط، ولموضع قضاء الحاجة غائط، لأن العادة أن يقضى في المنخفض من الأرض حيث هو أستر له، ثم اتسع فيه حتى صار يطلق على النجو نفسه. قال أبو حنيفة: من بواطن الأرض المُنْبتَة الغيطان، الواحد منها غائط، وكل ما انحدر في الأرض فقد غاط، قال: وقد زعموا أن الغائط ربما كان فرسخا، وكانت به الرياض، ويقال: أتى فلان الغائط، والغائط المطمئن من الأرض الواسعة، وفي الحديث "تنزل أمتي بغائط يسمونه البصرة" أي بطن مطمئن من الأرض، والتغويط كناية عن الحدث.

(1)

المطمنن من الأرض: المنخفض اهـ المصباح.

ص: 444

والغائط: اسم العذرة نفسها لأنهم كانوا يلقونها بالغيطان، وقيل: لأنهم كانوا إذا أرادوا ذلك أتوا الغائط وقضوا الحاجة، فقيل لكل من قضى حاجته: قد أتى الغائط يُكنى به عن العذرة، وفي التنزيل العزيز {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: آية 6] وكان الرجل إذا أراد التبرز ارتاد غائطا من الأرض يغيب فيه عن أعين الناس، ثم قيل للبراز نفسه، وهو الحدث غائط كناية عنه إذ كان سببا له، وتَغَوَّطَ الرجل كناية عن الخرَاءة إذا أحدث فهو متغوط.

قال ابن جني: ومن الشاذ قراءة من قرأ "أو جاء أحد منكم من

الغَيْط" يجوز أن يكون أصله غَيِّطا

(1)

وأصله غَيْوط فخفف، قال أبو الحسن ويجوز أن يكون الياء واوا، للمعاقبة، ويقال: ضرب فلان الغائط إذا تبرز، وفي الحديث لا يذهب الرجلان يضربان الغائط يتحدثان" أي يقضيان الحاجة وهما يتحدثان، وقد تكرر ذكر الغائط في الحديث بمعنى الحدث، والمكان، اهـ لسان جـ 7/ ص 365.

(أو البول) هو في الأصل مصدر بال من باب قال، ثم استعمل في الخارج المعروف من القبل اهـ المنهل جـ 1/ ص 38 (فلا يستقبل) أي لا يواجه، يقال: استقبلت الشيء واجهته، فهو مستقبل بالفتح اسم مفعول. اهـ المصباح، أي بفرجه لما في رواية "لا تستقبلوا القبلة بفروجكم" اهـ منهل جـ 1/ ص 38 (القبلة) أي الكعبة، فأل للعهد كما فسرها حديث أبي أيوب في قول، "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف ونستغفر الله" متفق عليه، وروى أبو داود، والترمذي نحوه (ولا يستدبرها) أي لا يجعلها وراء ظهره، وللبخاري "ولا يولها ظهره" وزاد مسلم "ببول أو غائط".

(1)

أي بتشديد الياء.

ص: 445

قال الحافظ: والغائط الثاني غير الأول أطلق على الخارج من الدبر مجازا من إطلاق اسم المحل على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تام والظاهر من قوله ببول اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابر "إذا هَرَقْنا الماء" وقيل مثار النهي كشف العورة وعلى هذا فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلا، وقد نقله ابن شاش المالكي قولًا في مذهبهم، وكأن قائله تمسك برواية في الموطأ "لا تستقبلوا القبلة بفروجكم" ولكنها محمولة على المعنى الأول أي حال قضاء الحاجة جمعا بين الروايتين اهـ فتح جـ 2/ ص 20.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"الأولى": في درجته: حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه صحيح.

"الثانية": هذا الحديث بهذا السياق من أفراد المصنف.

"الثالثة": في هذا الحديث النهي عن استقبال القبلة حال قضاء الحاجة وقد اختلف العلماء في علة النهي عن ذلك:

فمنهم: من قال إنه لإظهار احترام وتعظيم القبلة وهوالظاهر لما روى من حديث سراقة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم الغائط فليكرم قبلة الله عز وجل ولا يستقبلها" أخرجه الدارمي وغيره بسند ضعيف مرسلا.

ومنهم: من علله بأنه لا يخلو من أن يراه مصلّ، فعن عيسى الحناط عن نافع عن ابن عمر قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كنيفه مستقبل القبلة" قال عيسى: فقلت للشعبي عجبت لقول ابن عمر هذا، وقول أبي هريرة

ص: 446

رضي الله عنهما "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها" فقال الشعبي أما قول أبي هريرة ففي الصحراء لأن لله خلقا من عباده يصلون في الصحراء فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم، وأما في بيوتكم هذه التي تتخذونها للنتن فإنه لا قبلة لها، وذكر الدارقطني أن عيسى الحناط ضعيف.

وينبني على الخلاف في التعليل: خلافهم فيما إذا كان في الصحراء فاستتر بشيء هل يجوز الاستقبال والاستدبار فالتعليل باحترام القبلة يقتضي المنع، والتعليل برؤية المصلين يقتضي الجواز.

وقد اختلفوا أيضا في محل العلة فمنهم من قال: المنع للخارج المستقذر، ومنهم من قال المنع لكشف العورة.

وينبني على هذا الخلاف: خلافهم في جواز الوطء مستقبل القبلة مع كشف العورة فمن علل بالخارج أباحه إذ لا خارج ومن علل بالعورة منعه أفاده ابن دقيق العيد اهـ المنهل جـ 1/ ص 39.

"الرابعة": قال ابن دقيق العيد: الغائط في اللغة المكان المطمئن من الأرض كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ثم استعمل في الخارج وغلب هذا الاستعمال في الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية والحديث يقتضى أن اسم الغائط لا ينطلق على البول لتفرقته بينهما، وقد تكلموا في أن قوله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] هل يتناول الريح مثلا أو البول، أم لا؟ بناء على أنه يخصص لفظ الغائط لما كانت العادة أن يقصد لأجله، وهو الخارج من الدبر ولم يكلونوا يقصدون الغائط للريح مثلا، أو يقال: إنه مستعمل فيما كان يقع عند قصدهم الغائط من الخارج من القبل أو الدبر كيف كان. اهـ إحكام الإحكام جـ 1/ ص 54.

وبقية الفوائد تأتي إن شاء الله في الحديث الآتي.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".

ص: 447

‌20 - النهي عن استدبار القبلة عند الحاجة

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن استدبار القبلة عند قضاء الحاجة البول أو الغائط، وتقدم تفسير الحاجة غير مرة.

وهذا الحديث هو الحديث الماضي لكن كرره للاختلاف في سنده ومتنه، ولأنه استدل به فيما مضى على النهي عن الاستقبال وهنا عن الاستدبار.

21 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمَّد بن منصور) بن ثابت بن خالد الخُزَاعي الجَوَّازُ، المكي ثقة 10 ت سنة 252 (س).

2 -

(سفيان) بن عيينة بن أبي عمران الهلالي مولاهم أبو محمَّد الأعور الكوفي ثم المكي أحد أئمة الإسلام، عن عمرو بن دينار، والزهري، وزيد بن أسلم، وصفوان بن سليم، وخلق كثير، وعنه شعبة

ومسعر، من شيوخه، وابن المبارك، من أقرانه، وأحمد، وإسحاق، وابن معين، وابن المديني، وأمم. قال العجلي: هو أثبتهم في الزهري

ص: 448

كان حديثه نحو سبعة آلاف. وقال ابن عيينة: سمعت من عمرو بن دينار ما لبث نوح في قومه. وقال ابن وهب: ما رأيت أعلم بكتاب الله من ابن عيينة. وقال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، ومولده سنة سبع ومائة.

وقال الحافظ: ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخره وكان ربما دلس لكن عن الثقات. رأس الطبقة الثامنة. اهـ تقريب.

3 -

(الزهري) أبو بكر محمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني ثقة حافظ حجة رأس 4 تقدم، في 1/ 1.

4 -

(عطاء بن يزيد الليثي) الجندعي بضم الجيم أبو محمَّد المدني

نزيل الشام، عن تميم الداري، وأبي أيوب، وأبي هريرة: وعنه أبو صالح السمان، وسهيل بن أبي صالح، والزهري. وثقه النسائي. قال

عمرو بن علي: مات سنة خمس ومائة. وقال ابن سعد: سنة تسع، من الطبقة الثالثة.

5 -

(أبو أيوب هو الأنصاري) المتقدم في السند السابق واسمه خالد ابن زيد.

لطائف هذا الإسناد

منها: أن فيه الإخبار والتحديث والعنعنة.

ومنها: أن رواته ما بين مكيين وهما محمَّد بن منصور، وسفيان، ومدنيين، وهم الزهري، وعطاء، وأبو أيوب.

ومنها: أنه من خماسيات المصنف.

ص: 449

شرح الحديث

"عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا" ناهية (تستقبلوا) أي تواجهوا بفروجكم "القبلة" أي الكعبة لما تقدم من رواية أبي أيوب عند الشيخين من قوله "نحو الكعبة""ولا تستدبروها" أي لا تجعلوها خلفكم، والاستدبار خلاف الاستقبال. اهـ لسان "لغائط أو بول" هكذا باللام، وفي نسخة بالباء، وقال العراقي ضبطناه في سنن أبي داود بالباء الموحدة وفي مسلم باللام اهـ ومثله للنووي في شرح مسلم وزاد ورُوي للغائط باللام والباء وهما بمعنى اهـ المنهل، 1/ 38.

وقال بعض من كتب على النسائي ههنها: واللام وقتيبة كما في قوله تعالى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: آية 1] اهـ أي وقت غائط أو بول وتقدم تفسير الغائط والبول.

وتقدم عن الحافظ ما يفيد أن قوله بغائط أو بول يفيد اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة ويؤيده قوله في حديث جابر "إذا هرقنا الماء". اهـ.

وقال المباركفوري في شرح الترمذي: الباء متعلقة بمحذوف وهو حال من ضمير لا تستقبلوا أي لا تستقبلوا القبلة حال كونكم مقترنين بغائط أو بول قال السيوطي: قال أهل اللغة: أصل الغائط المكان المطمئن كانوا يأتونه للحاجة فكنو به عن نفس الحدث كراهة لاسمه، قال: وقد اجتمع الأمران في الحديث فالمراد بالغائط في أوله المكان وفي آخره الخارج، قال ابن العربي: غلب هذا الاسم على الحاجة حتى صار فيها أعرف منه في مكانها، وهو أحد قسمي المجاز. انتهى كلام السيوطي. اهـ تحفة الأحوذي جـ 1/ ص 53.

"ولكن شرقوا أو غربوا" أي توجهوا إلى جهة المشرق أو المغرب،

ص: 450

هذا خطاب لأهل المدينة ومن قبلته على ذلك السمت ممن هو في جهة الشمال أو الجنوب فأما من قبلته المغرب أو المشرق فإنه ينحرف إلى الجنوب، أو الشمال كذا في المجمع وشرح السنة اهـ تحفة جـ 1/ ص 53 وقال السندي: والمقصود الإرشاد إلى جهة أخرى لا يكون فيها استقبال القبلة ولا استدبارها، وهذا مختلف بحسب البلاد فلكل أن يأخذ بهذا الحديث بالنظر إلى المعنى لا بالنظر إلى اللفظ اهـ.

مسائل تتعلق بهذا الإسناد

"الأولى" فى درجته: حديث أبى أيوب رضي الله عنه متفق عليه.

"الثانية": فيمن أخرجه: أخرجه البخاري في الطهارة عن آدم، عن ابن أبي ذئب وفي الصلاة عن علي، عن سفيان كلاهما عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب.

ومسلم في الطهارة عن يحيى، وزهير بن حرب، وابن نمير، وأبو داود فيه أيضا عن مسدد، والترمذي، فيه عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي خمستهم عن سفيان به.

وأخرجه المصنف هنا عن محمَّد بن منصور، عن سفيان به وفي الباب الآتي عن يعقوب بن إبراهيم، عن غندر، عن معمر، عن الزهري بمعناه، وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، نحوه. أفاده في تحفة الأشراف ج 3/ ص 97.

"الثالثة": قال السيوطي رحمه الله: أخذ بظاهر هذا الحديث أبو حنيفة وطائفة فحرموا ذلك في الصحراء والبنيان وخصه آخرون بالصحراء وعليه الأئمة الثلاثة لحديث ابن عمر الذي يليه.

ص: 451

قال القاضي أبو بكر ابن العربي: والمختار الأول لأننا إذا نظرنا إلى المعاني فالحرمة للقبلة فلا يختلف في البنيان ولا في الصحراء وإن نظرنا إلى الآثار فحديث أبي أيوب عام، وحديث ابن عمر لا يعارضه لأربعة أوجه:

أحدها: أنه قول وهذا فعل ولا معارضة بين القول والفعل.

قال الجامع: في هذا القول نظر، بل الصحيح أن الفعل كالقول يتعارض معه فيرجح أحدهما كما يتعارض القولان فيرجح أحدهما بطريقة من طرق الترجيح، والله أعلم.

الثاني: أن الفعل لا صيغة له، وإنما هو حكايته حال وحكايات الأحوال معرضة للأعذار والأسباب، والأقوال لا تحتمل ذلك.

الثالث: أن هذا القول شرع مبتدأ وفعله عادة، والشرع مقدم على العادة.

الرابع: أن هذا الفعل لو كان شرعا لما تستر به انتهى.

قال الحافظ السيوطي رحمه الله: وفي الآخرين نظر لأن فعله شرع كقوله والتستر عند قضاء الحاجة مطلوب بالإجماع.

قال الجامع: ما قاله السيوطي هو الحق عندي، فالراجح ما قاله الأئمة الثلاثة من الجواز في البنيان، والله أعلم.

"المسألة الرابعة" أنه قد اختلف العلماء في علة هذا النهي على قولين:

أحدهما: أن في الصحراء خلقا من الملائكة والجن فيستقبلهم بفرجه.

وثانيهما: أن العلة إكرام القبلة واحترامها لأنها جهة معظمة قال ابن العربي وهذا التعليل أولى ورجحه النووي أيضا في شرح المهذب. اهـ زهر.

ص: 452

"المسألة الخامسة" أنه وقع في رواية أبي أيوب عند الشيخين وغيرهما قال أبو أيوب "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله تعالى".

قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أن للعموم صيغة عند العرب وأهل الشرع على خلاف ما ذهب إليه بعض الأصوليين، وهذا أعني استعمال صيغة العموم فرد من الأفراد له نظائر لا تحصى، وإنما نبهنا عليه على سبيل ضرب المثل، فمن أراد أن يقطع بذلك فليتتبع نظائرها يجدها.

قال: أولع بعضُ أهل العصر وما يقرب منه بأن قالوا: إن صيغة العموم إذا وردت على الذوات مثلا أو على الأفعال كانت عامة في ذلك مطلقة في الزمان والمكان والأحوال والمتعلقات، ثم يقولون يكفي في العمل به صورة واحدة، فلا يكون حجة فيما عداها، وأكثروا من هذا السؤال فيما لا يحصى من ألفاظ الكتاب والسنة، وصار ذلك ديدنا لهم في الجدال، وهذا عندنا باطل، بل الواجب أن ما دل على العموم في الذوات مثلا يكون دالا على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ، ولا تخرج عنها ذات إلا بدليل يخصه، فمن أخرج شيئًا من تلك الذوات فقد خالف مقتضى العموم، نعم المطلق يكفي في العمل به مرة كما قالوا، ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإطلاق، وإنما قلنا من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات، فإن كان المطلق مما لا يقتضي العمل به مرة واحدة مخالفة لمقتضى صيغة العموم؛ اكتفينا في العمل به بمرة واحدة، وإن كان العمل به مرة واحدة مما يخالف مقتضى صيغة العموم، قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغته، لا من حيث إن المطلق يعم.

مثال ذلك: إذا قال من دخل داري فأعطه درهما فمقتضى الصيغة

ص: 453

العموم في كل ذات صدق عليها أنها داخلة، فإذا قال قائل هو مطلق في الأزمان فأعمل به في الذوات الداخلة الدار في أول النهار مثلا ولا أعمل به في غير ذلك الوقت لأنه مطلق في الزمان وقد عملت به مرة فلا يلزم أن أعمل به مرة أخرى لعدم عموم المطلق، قلنا له: لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات دخلت الدار ومن جملتها الذوات الداخلة في آخر النهار فهذا أخرجت تلك الذوات فقد أخرجت ما دلت الصيغة على دخوله وهي كل ذات، وهذا الحديث أحد ما يستدل به على ما قلناه، فإن أبا أيوب من أهل اللسان والشرع، وقد استعمل قوله "لا تستقبلوا ولا تستدبروا" عاما في الأماكن، وهو مطلق فيها وعلى ما قال هؤلاء المتأخرون لا يلزم منه العموم، وعلى ما قلناه يعم لأنه إذا خرج عنه بعض الأماكن خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال والاستدبار. اهـ إحكام الأحكام جـ 1/ ص 240 - 246 بنسخة العدة.

"المسألة السادسة": قول أبي أيوب في الحديث المذكور: "ونستغفر الله عز وجل".

قال ابن دقيق العيد: قيل يراد به ونستغفر الله لباني الكنيف على هذه الصورة الممنوعة عنده، وإنما حملهم على هذا التأويل أنه إذا انحرف عنها لم يفعل ممنوعا، فلا يحتاج إلى الاستغفار، والأقرب أنه استغفار لنفسه، ولعل ذلك لأنه استقبل واستدبر بسبب موافقته لمقتضى النهي غلطا أو سهوا، فيتذكر، فينحرف، ويستغفر الله.

فإن قلت: فالغالط والساهي لم يفعلا إثما فلا حاجة به إلى الاستغفار قلت: أهل الورع والمناصب العلية في التقوى قد يفعلون مثل هذ بناء على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في عدم التحفظ ابتداء والله أعلم. اهـ إحكام الأحكام جـ 1/ 55 - 56.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 454

‌21 - الأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ

22 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا عْمَرٌ، قَالَ: أخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ، فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَلَكِنْ لِيُشَرِّقْ، أَوْ لِيُغَرِّبْ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) بن كثير بن أفلح العبدي مولاهم، أبو يوسف الدورقي البغدادي، ثقة -10 - (ع).

وثقه النسائي، وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الخطيب: كان ثقة متقنًا، صنف المسند. وقال مسلمة: كان كثير الحديث ثقة. ولد سنة 166 ومات سنة 252. روى عنه الجماعة بدون واسطة، وروى النسائي أيضا عن أبي بكر بن علي المروزي، وزكريا السجزي عنه.

2 -

(غندر) محمَّد بن جعفر الهذلي مولاهم أبو عبد الله البصري ثقة صحيح الكتاب، إلا أن فيه غفلة -9 - لزم شعبة عشرين سنة، ولم يكتب عن غيره شيئا، وكان يعرض عليه ما كتبه. وقال ابن معين: كان من أصح الناس كتابًا، وأراد بعضهم أن يخطئه فلم يقدر. وكان يصوم

ص: 455

منذ خمسين سنة يوما ويوما لا. قال ابن المديني: هو أحب إلى من عبد الرحمن في شعبة. وقال ابن مهدي: كنا نستفيد من كتب غندر في حياة شعبة. وكان وكيع يسميه الصحيح الكتاب. وقال أبو حاتم: كان صدوقا، وكان مؤدبا، وفي حديث شعبة ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من خيار عباد الله، ومن أصحهم كتابًا على غفلة فيه. وقال العيشي: إنما سماه غندر ابن جريج، كان يكثر التشغيب عليه، وأهل الحجاز يسمون المشغب غندرًا. وقال العجلي: بصري ثقة، وكان من أثبت الناس في حديث شعبة. وقال ابن مهدي: غندر أثبت في شعبة مني. وقال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غندر حكم بينهم. وقال ابن مهدي: سمع غندر من ابن أبي عروبة بعد الاختلاط. وقال ابن المديني: كنت إذا ذكرت غندر ليحيى ابن سعيد عوج فمه كأنه يضعفه. وعن ابن معين قال: اشترى غندر سمكا، وقال لأهله: أصلحوه، ونام، فأكلوا السمك، ولطخوا يده، فلما انتبه قال: هاتوا السمك، فقالوا: قد أكلت، قال: لا، قالوا: فشم يدك، ففعل، فقال: صدقتم، ولكني ما شبعت. وحكى الذهبي في الميزان عنه أنه أنكر هذه الحكاية، وقال: أما كان يدلني بطني. مات في ذي القعدة سنة 193، وقيل: 194، وقيل: 192، أخرج له الجماعة.

3 -

(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، من كبار -7 - ت 154 (ع) تقدم في 10/ 10.

والباقون تقدموا في الباب الماضي، وكذا شرح الحديث، وما يتعلق به من المسائل، فارجع إليه تزدد علما، وبالله التوفيق.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 456

‌22 - الرخصة في ذلك في البيوت

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الرخصة في ذلك أي في استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة في البيوت.

والرخصة: وزان غرفة وتضم الخاء للاتباع جمعه رخص ورخصات مثل غرف وغرفات: التسهيل في الأمر والتيسير يقال رخص الشرع لنا في كذا ترخيصا وأرخص إرخاصا إذا يسره وسهله أفاده الفيومي.

23 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

"قتيبة بن سعيد" بن جميل بن طريف البغلاني ثقة ثبت [10] ت 240 تقدم في 1/ 1.

2 -

"مالك" بن أنس إمام دار الهجرة ثقة حجة [7] تقدم في 7/ 7.

3 -

"يحي بن سعيد" بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري البخاري قاضي المدينة، عن أنس، وابن المسيب، والقاسم، وعراك بن

ص: 457

مالك، وخلق. وعنه الز هري، والأوزاعي، ومالك، والسفيانان، والحمادان، والجريران، وأمم. قال ابن المديني: له نحو ثلثمائة حديث، وقال ابن سعد: ثقة، حجة، كثير، الحديث، وقال أبو حاتم: يوازي الزهري في الكثرة، وقال أحمد: يحيى بن سعيد أثبت الناس، قال القطان: مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، من الطبقة الخامسة.

4 -

"محمَّد بن يحيى بن حبان" -بفتح أوله والموحدة- بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني أبو عبد الله المدني الفقيه كانت له حلقة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، عن عمه واسع. وعنه الزهري، وابن إسحاق، وطائفة. وثقه أبو حاتم وابن معين، توفي سنة إحدى وعشرين ومائة، من الطبقة الرابعة.

5 -

"واسع بن حبان" -بفتح الحاء المهملة ثم موحدة ثقيلة- بن منقذ ابن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي بن صحابي، وقيل: بل ثقة

(1)

وأبوه حبان، وجده منقذ، صحابيان كما في الفتح.

6 -

"عبد الله بن عمر" بن الخطاب رضي الله عنهما تقدم في 15/ 15.

لطائف الإسناد

فيه: الإخبار، والعنعنة.

وفيه: أن رواته كلهم مدنيون إلا شيخ المؤلف فإنه بغلاني، وكلهم أنصاريون، وتابعيون، إلا شيخ المؤلف، وشيخه مالكا، ولكن قيل: إن لواسع رؤية، فذكر لذلك في الصحابة، وعلى هذا ففيه رواية صاحبي عن صحابي.

(1)

أي غير صحابي بل تابعي ثقة.

ص: 458

شرح الحديث

"عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما أنه "قال لقد" اللام جواب قسم محذوف أي والله لقد "ارتقيت" أي علوت "على ظهر بيتنا" وفي رواية البخاري "بيت لنا" وفي رواية له أيضا "على ظهر بيت حفصة" أي أخته كما صرح به مسلم ولابن خزيمة "دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت" قال الحافظ: وطريق الجمع أن يقال إضافته البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته فله منه سبب، وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنه البيت الذي أسكنها النبي صلى الله عليه وسلم فيه، واستمر في يدها إلى أن ماتت، فورث عنها، وحيث أضافه إلى نفسه كان باعتبار ما آل إليه الحال، لأنه ورث حفصة دون إخوته، لكونها شقيقته، ولم تترك من يحجبه. عن الاستيعاب اهـ

"فرأيت" عطف على ارتقيت وهو بمعنى أبصرت فلا يقتضي إلا مفعولا واحدا وهو قوله "رسول الله صلى الله عليه وسلم، على لبنتين" في محل النصب حال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله "مستقبل بيت المقدس" حال منه فيجوز أن يكونا حالين مترادفين أو متداخلين "لحاجته" اللام للتعليل أي لأجل أن يقضي حاجته أو للتوقيت أي وقت قضاء حاجته.

وحاصل المعني: أن ابن عمر رضي الله عنهما صعد على بيت حفصة رضي الله عنها لبعض حاجته فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته على لبنتين، تثنية لبنة بكسر الباء ما يعمل من الطين ويبنى به، ويجوز إسكان الباء تخفيفا مع فتح اللام وكسرها مستقبل بيت المقدس أي متوجها إليه.

والمقدس: فيه لغتان أحدهما: فتح الميم وسكون القاف وكسر الدال مخففة، وهو إما مصدر أو مكان، والثانية: ضم الميم وفتح القاف والدال المهملة المشددة من التقديس وهو التطهير وتطهيره إبعاده عن الأصنام

ص: 459

وإخلاؤه عنها، قال في النهاية ومنه الأرض المقدسة، قيل هى الشام وفلسطين، وسميت بيت المقدس لأنه الموضع الذي يتقدس فيه من الذنوب، يقال: بيت المقدس، والبيت المقدس وبيت المقدس. اهـ المنهل جـ 1/ ص 55.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

الأولى: في درجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما متفق عليه

الثانية: فيمن أخرجه مع المصنف: أخرجه البخاري في الطهارة عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، وعن يعقوب بن إبراهيم، عن يزيد بن هارون كلاهما عن يحيى بن سعيد، وفي الخمس عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن عياض، عن عبيد الله بن عمر، كلاهما عن محمَّد بن يحيى ابن حَبَّان، عن عمه واسع حبان به.

وأخرجه مسلم في الطهارة عن القعنبي، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمَّد بن بشر، عن عبيد الله به، وأخرجه أبو داود في الطهارة عن القعنبي، عن مالك به.

وأخرجه الترمذي في الطهارة عن هناد عن عَبْدَة بن سليمان عن عبيد الله به، وقال حسن صحيح.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن خلاد، ومحمد بن يحيى كلاهما عن يزيد بن هارون به، وعن هشام بن عمار، عن عبد الحميد بن حبيب، عن الأوزاعي، عن يحيى به، يزيد بعضهم على بعض قاله الحافظ المزي في التحفة جـ 6/ ص 256.

وأخرجه أحمد، والبيهقي، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم والترمذي بسند صحيح. قاله في الفتح.

ص: 460

الثالثة: قال في الفتح: قوله "على لبنتين" ولابن خزيمة "فأشرفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على خلائه"، وفي رواية له "فرأيته يقضي حاجته محجوبا عليه بلبن"، وللحكيم الترمذي بسند صحيح "فرأيته في كنيف"، وهو بفتح الكاف وكسر النون بعدها ياء تحتانية ثم فاء، وانتفى بهذا إيراد من قال ممن يرى الجواز مطلقا يحتمل أن يكون رآه في الفضاء، وكونه على لبنتين لا يدل على البناء لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض، ويرد هذا الاحتمال أيضا أن ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال في الفضاء إلا بساتر، كما رواه أبو داود، والحاكم بسند لا بأس به، ولم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وإنما صعد السطح لضرورة له كما في الرواية الأخرى، فحانت منه التفاتة كما في رواية للبيهقي، من طريق نافع، عن ابن عمر، نعم لما اتفقت له رؤية في تلك الحالة عن غير قصد؛ أحب أن لا يخلي ذلك من فائدة، فحفظ هذا الحكم الشرعي، وكأنه إنما رآه من جهة ظهره؛ حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة من غير محذور، ودل ذلك على شدة حرصه على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعها وكذا كان رضي الله عنه. اهـ فتح جـ 2/ ص 22.

الرابعة: من الفوائد المستنبطة من الحديث أنه ينبغي الوقوف على هدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى فيما يطلب إخفاؤه، وشدة حرص ابن عمر رضي الله عنها على ذلك وجواز الإخبار عن مثل ذلك للاقتداء والعمل به، واستعمال الكناية بالحاجة عن البول والغائط، وأن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كلها أحكام شرعية.

الخامسة: في اختلاف العلماء في استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة:

ص: 461

اعلم أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة على مذاهب وهاك تفصيلها مع أدلتها:

المذهب الأول:

أنه لا يجوز ذلك مطلقا لا في الصحاري ولا في البنيان وهو قول أبي أيوب الأنصاري الصحابي، ومجاهد وإبراهيم النخعي، والثوري، وأبي ثور، وأحمد في رواية، وهو مذهب الحنفية، ورواه ابن حزم، عن أبي هريرة، وابن مسعود، وسراقة بن مالك، وعطاء، والأوزاعي، وعن السلف من الصحابة والتابعين، ورجحه ابن العربي.

واحتج هؤلاء: بالأحاديث الصحيحة الواردة في النهي مطلقا:

* كحديث أبي أيوب الأنصاري المتقدم، وحديث أبي هريرة عند مسلم، وأحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها".

* وفي رواية الخمسة إلا الترمذي قال "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتي أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروثة والرمَّة".

* ومنها حديث عبد الله بن الحارث بن جَزْء "أنا أول من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يبولن أحدكم مستقبل القبلة وأنا أول من حدث الناس بذلك" قال ابن يونس في تاريخه: حديث معلول، لكن أخرجه ابن حبان في صحيحه، فلا يلتفت إلى قول ابن يونس. أفاده العيني.

* ومنها حديث معقل بن أبي معقل "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط" أخرجه ابن ماجه وأبو داود وأراد بالقبلتين الكعبة وبيت المقدس، ويحتمل أن يكون على معنى الاحترام لبيت المقدس إذ كان مرة قبلة لنا، ويحتمل أن يكون من أجل استدبار الكعبة.

ص: 462

* ومنها حديث سلمان رضي الله عنه "لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول" الحديث أخرجه مسلم والأربعة، قال: إن النهي في هذه النصوص عام ولأن المنع ليس إلا لتعظيم القبلة، وهو موجود في الصحراء والبنيان ولو جاز في البنيان لوجود الحائل لجاز في الصحراء النائية عن الكعبة لوجود الحائل أيضا لأن بينها وبين الكعبة جبالا وأودية وأبنية ولا سيما عند من يقول بكُرَوية الأرض، فإنه لا موازاة إذ ذاك بالكلية، وما ورد عن الشعبي من أنه على الجواز في البنيان بأن لله خلقا من عباده يصلون في الصحراء، فلا تستقبلوهم، ولا تستدبروهم، وأما بيوتكلم هذه التي تتخذونها للنتن، فإنه لا قبلة لها فهو تعليل في مقابلة النص.

المذهب الثاني:

الجواز مطلقا أي في البنيان والصحراء وهو مذهب عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك، وداود الظاهري.

واحتجوا: بحديث ابن عمر المذكور في الباب.

* وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناسا يكرهوا أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال: أو قد فعلوها، حَوِّلُوا مقعدي قبل القبلة، ورُدَّ بأنه من طريق خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا يدرى من هو؟ قاله ابن حزم. وقال الذهبي في ترجمته: إن حديث "حولوا مقعدي" منكر. اهـ نيل.

وقال ابن القيم: في تهذيب السنن: إن هذا حديث لا يصح، وإنما هو موقوف على عائشة رضي الله عنها، حكاه الترمذي في كتاب العلل عن البخاري. ومن هذا يعلم ما في قول النووي في شرح مسلم إسناده حسن. اهـ المنهل جـ 1/ ص 40.

ص: 463

المذهب الثالث:

يحرم في الصحاري لا البنيان وإليه ذهب مالك، والشافعي، وهو مروي عن العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عمر، والشعبي وإسحاق ابن راهويه، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه صرح بذلك النووي في شرح مسلم ونسبه في الفتح إلى الجمهور.

واحتج هؤلاء: بحديث ابن عمر الذي في الباب.

* وحديث عائشة المذكور آنفا لأن ذلك في البنيان قالوا: وبهذا حصل الجمع بين الأحاديث والجمع بينها مهما أمكن هو الواجب قال الحافظ: وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة اهـ قال الشوكاني ويرده حديث جابر حيث قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها" رواه الخمسة إلا النسائي فإنه لم يقيد الاستقبال فيه بالبنيان، وقد يجاب بأنها حكاية فعل لا عموم لها. اهـ ويؤيد هذا المذهب أيضا ما روي عن ابن عمر أنه قال: إنما نهى عن ذلك في الفضاء. رواه أبو داود، وسكت عنه هو والمنذري، وكذا الحافظ في التلخيص. قاله الشوكاني.

المذهب الرابع:

لا يجوز الاستقبال لا في الصحاري ولا البنيان، ويجوز الاستدبار فيها، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد.

واحتجوا: بحديث سلمان الذي في صحيح مسلم، وليس فيه إلا النهي عن الاستقبال فقط، وهو باطل، لأن النهي عن الاستدبار في الأحاديث الصحيحة، وهو زيادة يتعين الأخذ بها. قاله في النيل.

المذهب الخامس:

أن النهي للتنزيه فيكون مكروها، وإليه ذهب القاسم بن إبراهيم

ص: 464

ونسب إلى الهادي، والمؤيد بالله، وأبي طالب، والناصر والنخعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وأحمد، وأبي ثور، وأبي أيوب الأنصاري. واحتجوا بحديث عائشة، وجابر، وابن عمر، قالوا: إنها صارفة للنهي عن معناه الحقيقي، وهو التحريم إلى الكراهة، وهو لا يتم في حديث ابن عمر وجابر لأنه ليس فيها إلا مجرد الفعل وهو لا يعارض القول الخاص بنا كما تقرر في الأصول، ولا شك أن قوله "لا تستقبلوا القبلة" خطاب للأمة نعم إن صح حديث عائشة صلح لذلك.

قال الجامع: هذا. القول فيه نظر، وقد تقدم الرد عليه.

المذهب السادس:

جواز الاستدبار في البنيان فقط وهو قول أبي يوسف ذكره في الفتح واحتج بحديث ابن عمر لأن فيه أنه رآه مستدبر القبلة مستقبل الشام وفيه ما سلف.

المذهب السابع:

التحريم مطلقا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس وهو محكي عن إبراهيم، وابن سيرين ذكره في الفتح أيضا واحتجوا بما رواه أبو داود وابن ماجه قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط" قال الحافظ في الفتح: وهو حديث ضعيف لأن فيه راويا مجهول الحال، وعلى تقدير صحته، فالمراد بذلك أهل المدينة ومن على سمتها لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس، وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله القبلة وفيه نظر لما ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين انتهى.

وقد نسب إلى عطاء والزهري.

ص: 465

الثامن:

أن التحريم مختص بأهل المدنية، ومن كان على سمتها، فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا، قاله أبو عوانة صاحب المزني قاله في الفتح، واحتجوا بعموم قوله "شرقوا أو غربوا" وهو استدلال في غاية الركة والضعف.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه:

المذهب الراجح عندي مذهب من قال بالتفريق بين البنيان والصحراء، لأن به تجتمع الأدلة المختلفة في الباب، وأما دعوى بعضهم أن أدلة الإباحة فعل، فلا تُعارض القول، فغير صحيح، لأن الفعل كالقول، إلا إذا كان خصوصية، ولا دليل للخصوصية هنا، فتبصر، والله أعلم.

"المسألة السادسة": قال الشوكاني: قال المنصور بالله، والغزالي، والصيمري: إنه يكره استقبال القمرين والنيرات قالوا لشرفها بالقسم بها فأشبهت الكعبة كذا في البحر، وقد استقوى عدم الكراهة، وقد قيل في الاستدلال في الكراهة بأنه رَوَى الحكيم الترمذي عن الحسن، قال حدثني سبعة رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أبو هريرة، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وعمران بن حصين، ومعقل بن يسار، وعبد الله ابن عمر، وأنس بن مالك، يزيد بعضهم على بعض في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُبَال في المغتسل، ونهى عن البول في الماء الراكد، ونهى عن البول في الشارع، ونهى أن يبول الرجل وفرجه باد إلى الشمس والقمر .. فذكر حديثا طويلا في نحو خمسة أوراق على هذا الأسلوب. قال الحافظ: حديث باطل لا أصل له بل هو من اختلاق عباد بن كثير، ومداره عليه، اهـ نيل باختصار جـ 1/ ص 132. وكذا قال النووي في شرح المهذب، وقال ابن الصلاح لا يعرف.

ص: 466

‌23 - النهي عن مس الذكر باليمين عند الحاجة

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن مس الشخص ذكره بيده اليمين عند قضاء الحاجة من بول أو غائط.

وقيد النهي بالحاجة إشارة إلى أن ما عداها مباح، وقال بعض العلماء يكون ممنوعا أيضا من باب أولى لأنه نهي عن ذلك مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، وتعقبه أبو محمد بن أبي جمرة بأن مظنة الحاجة لا تختص بحالة الاستنجاء، وإنما خص بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يعطى حكمه فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسما للمادة، ثم استدل على الإباحة بقوله صلى الله عليه وسلم "لطلق بن علي حين سأله عن مس ذكره إنما هو بضعة منك" فدل على الجواز في كل حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وبقي ما عداها على الإباحة انتهى، والحديث الذي أشار إليه صحيح أو حسن.

وقد يقال: حمل المطلق على المقيد غير متفق عليه بين العلماء، ومن قال به يشترط فيه شروطا، لكن نبه ابن دقيق العيد على أن محل الاختلاف إنما هو حيث تتغاير مخارج الحديث بحيث يعد حديثين مختلفين فأما إذا اتحد المخرج وكان الاختلاف فيه من بعض الرواة فينبغي حمل المطلق على المقيد بلا خلاف، لأن التقييد حيئنذ يكون زيادة من عدل فتقبل. اهـ فتح جـ 2/ ص 30.

24 -

أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ -وَهُوَ الْقَنَّادُ- قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ

ص: 467

بْنَ أَبِي قَتَادَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ".

رجال السند: خمسة

1 -

"يحيى بن درست": بضم المهملتين الأوليين وسكون المهملة بن زياد الهاشمي أبو زكريا البصري، عن حماد بن زيد، وأبي إسماعيل القَنَّاد، وعنه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم، ثقة من العاشرة.

2 -

"أبو إسماعيل": هو إبراهيم بن عبد الملك البصري القَنَّاد بقاف مفتوحة وتشديد النون نسبة إلى بيع القند وهو السكر، عن قتادة، ويحيى بن أبي كثير، وعنه لُوين، وإسحاق بن أبي إسرائيل، قال العقيلي: يهم. وقال النسائي: لا بأس به. اهـ صة. وفي (ت) صدوق في حفظه شيء، من السابعة.

3 -

"يحيى بن أبي كثير" الطائي مولاهم أبو النضر اليمامي، أحد الأعلام، عن أنس، وجابر، وأبي أمامة مرسلا، وعن عبد الله بن أبي قتادة، وعكرمة، وعنه أيوب، وحسين المعلم، والأوزاعي، وخلق، قال شعبة: يحيى بن أبي كثير أحسن حديثا من الزهري، قال أبو حاتم: إمام لا يحدث إلا عن ثقة. وقال البخاري: لم يسمع من عروة. قال الفلاس: توفي سنة تسع وعشرين ومائة. اهـ صة بتصرف. وفي (ت) ثقة ثبت، لكنه يدلس، ويرسل، من الخامسة.

4 -

"عبد الله بن أبي قتادة" الأنصاري المدني أبو إبراهيم، عن أبيه، وعنه عبد العزيز بن رفيع، وثقه النسائي. قال ابن حبان: مات سنة خمس وتسعين. اهـ صة بزيادة. وفي (ت) ثقة من الثانية.

ص: 468

5 -

"أبو قتادة" الأنصاري السلمي بفتح السين واللام فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه الحارث بن ربْعي شهد أحدا والمشاهد، له مائة وسبعون حديثا اتفقا على أحد عشر وانفرد (خ) بحديثين و (م) بثمانية، وعنه ابنه عبد الله، وابن المسيب، ومولاه نافع، وخلق. مات 54 بالمدينة على الأصح. اهـ صة.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.

ومنها: أن فيه الإخبار والتحديث والعنعنة.

ومنها: أن رواته ما بين بصريين وهما الأولان ويمامي، وهو الثالث، وهو نزيل البصرة أيضا، ومدنيين وهما عبد الله، وأبوه ومنها أن فيه رواية الابن عن أبيه.

ومنها: أن فيه فائدة حسنة تقدم التنبيه عليها، وهي أنه إذا كان الراوي يريد أن يبين من فوق شيخه بنسب، أو صفة، أو نحوهما من غير أن يبينه شيخه فعليه أن يفصله بنحو يعني، أو هو، أو أنّ، ففي هذا السند أتى المصنف لما أراد أن يبين صفة أبي إسماعيل بأنه القنّاد بكلمة هو فصلا بين كلام شيخه يحيى، وبين ما زاده هو، وإلى هذا أشار السيوطي في ألفيته فقال:

ولا تَزدْ في نَسَب أوْ وَصف مَنْ

فَوْقَ شُيُوخ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ

بنَحْو يَعْني أوْ بأنَّ أو بهُو. الخ

شرح الحديث

"أن عبد الله بن أبي قتادة حدثه" أي حدث يحيى بن أبي كثير "عن أبيه" أبي قتادة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا بال أحدكم فلا يأخذ" يحتمل

ص: 469

الجزم على أن لا ناهية، ويحتمل الرفع على أنها نافية، والنفي بمعنى النهي، وهو أبلغ "ذكره" أي البائل أضافه إليه، لأن ذكر غيره ممن يُشتهى يحرم مسه إلا للضرورة، ومثل الذكر الفرج للمرأة والدبر. قال المناوي: والنهي فيه للتنزيه عند الشافعية، وللتحريم عند الحنابلة، والظاهرية "بيمينه" هى الجارحة المعروفة، ويقال: فيها اليُمنى، وهي مؤنثة وجمعها أيمن، وأيمان، وضدها اليسار. قال ابن قتيبة: اليمين واليسار مفتوحان والعامة تكسرهما. وقال ابن الأنباري في كتاب المقصور والممدود: اليسار الجارحة مؤنثة وفتح الياء أجود، فاقتضى أن الكسر رديء، وقال ابن فارس أيضا: اليسار أخت اليمين وقد تكسر، والأجود الفتح. قاله الفيومي.

وإنما نهى عن مس الذكر باليمين حال البول أو بعده لاستبراء أو استنجاء تكريما وتنزيها لها عن مباشرة العضو الذي يكون منه النجاسات، ولأنها معدة لتناول نحو الطعام فهذا مس بها فرجه ربما تذكر عند التناول فتعافه نفسه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يجعل يمينه لطعامه وشرابه ولباسه ونحوها من الأمور الشريفة، ويسراه لما سوى ذلك. قاله في المنهل جـ 1/ ص 120.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

الأولى: في درجته: حديث أبي قتادة رضي الله عنه متفق عليه.

الثاثية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه المصنف هنا عن يحيى بن دُرست، عن أبي إسماعيل القناد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبي قتادة.

وأخرجه في الآتي عن هناد بن السري، عن وكيع عن هشام به، وعن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن هشام به، وعن

ص: 470

عبد الله بن محمَّد بن عبد الرحمن الزهري، عن عبد الوهاب الثقفي به وأخرجه في الكبرى في الوليمة عن قتيبة، عن ابن أبي عدي، عن حجاج، عن يحيى بن أبي كثير بقصة التنفس حسبُ.

الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه البخاري في الطهارة، عن معاذ بن فضالة، عن هشام، عن محمَّد بن يوسف، عن الأوزاعي، وفي الأشربة، عن أبي نعيم، عن شيبان ثلاثتهم، عن يحيى بن أبي كثير به.

وأخرجه مسلم: في الطهارة عن يحيى بن يحيى عن عبد الرحمن بن مهدي عن همام بن يحيى، عن يحيي بن أبي كثير به، وعن يحيى بن يحيى، عن وكيع، عن هشام به، وفي الطهارة، والأشربة أيضا عن ابن أبي عمر، عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير به.

وأخرجه أبو داود: في الطهارة عن مسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، كلاهما عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير به.

وأخرجه الترمذي: في الطهارة عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير به، وقال: حسن صحيح.

وأخرجه ابن ماجه: في الطهارة عن هشام بن عمار، عن عبد الحميد ابن حبيب بن أبي العشرين، وعن دحيم نحوه عن الوليد بن مسلم كلاهما عن الأوزاعي، ولم يذكر التنفس في الإناء وفي كتاب خلف وأبي مسعود عبد الرحمن بن مهدي عن هشام

(1)

وفي صحيح مسلم عن همام وفي بعض الأصول الصحيحة منه عن همام بن يحيى. اهـ تحفة

(1)

يعني أنه وقع في كتاب أبي محمَّد خلف الواسطي، وأبي مسعود عن هشام، بدل عن همام اهـ الجامع.

ص: 471

الأشراف جـ 9/ ص 251، 252 وأخرجه أيضا أحمد، وأبو داود الطيالسي، وابن حبان، والبيهقي.

الرابعة: في اختلاف ألفاظه:

قال الحافظ المزي: حديث "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء لماذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ولا يتمسح بيمينه" وفي حديث أيوب "نهى أن يتنفس في الإناء وأن يمس ذكره بيمينه وأن يستطيب بيمينه" وفي حديث أبان "إذا شرب فلا يشرب نفسا واحدا" وحديث وكيع مختصر "إذا دخل أحدكم الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه" وكذلك حديث معمر "نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه" وكذلك حديث القَنَّاد "إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه". اهـ تحفة جـ 9/ ص 251.

وبقية مباحثه تأتي في الحديث الآتي إن شاء الله تعالى.

25 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى -هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

"هناد بن السري" بكسر الراء الخفيفة بن مصعب التميمي أبو السري الكوفي ثقة من العاشرة مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين وله إحدى وتسعون سنة. اهـ ت.

ص: 472

2 -

"وكيع" بن الجراح بن مليح الرؤاسي

(1)

أبو سفيان الكوفي الحافظ أحد الأئمة الأعلام، عن هشام بن عروة، وجعفر بن بُرْقان، وابن عون، وشعبة، وخلائق، وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وأحمد بن منيع، والحسن بن عرفة، وأمم. قال أحمد: ما رأيت أوعى منه ولا أحفظ، وكان أحفظ من ابن مهدي كثيرا كثيرا، ما رأيت مثله في العلم والحفظ والإتقان مع خشوع وورع، ما رأت عيناي مثله قط، يحفظ الحديث، ويذاكر بالفقه، مع ورع واجتهاد، وكان إمام المسلمين في وقته. قال خليفة: مات سنة يست وتسعين ومائة 196، اهـ صة. وفي (ت) ثقة حافظ عابد، من كبار التاسعة.

3 -

"هشام" هو ابن أبي عبد الله سنبر بوزن جعفر الدستوائي بفتح الدال المثناة بينهما مهملة ساكنة أبو بكر البصري "ودستواء من كور

(2)

الأهواز" عن قتادة، ويحيى بن أبي كثير، وطائفة. وعنه ابنه معاذ، وأبو داود الطيالسي، وقال: كان أمير المؤمنين في الحديث، وأبو نعيم ومسلم بن إبراهيم، وخلق. قال العجلي: ثقة ثبت. قال ابن سعد: حجة لكنه يرى القدر. قال الفلاس: مات سنة 154، وفي (ت) من كبار السابعة.

وأفاد في اللباب أن التاء مضمومة وأنه نسب إليها هشام هذا، لأنه كان يبيع الثياب المجلوبة منها اهـ.

تنبيه: وقع في صحيح مسلم كما تقدمت الإشارة إليه في كلام المزي في التحفة همام عن يحيى بدل هشام هذا فقال الإمام النووي رحمه الله: هكذا هو في الأصول التي رأيناها في الأول يعني السند الأول همام

(1)

بضم الراء، ثم همزة، ثم مهملة اهـ تقريب.

(2)

الكورة مثل غرفة، جمعها غرف: الصقع، ويطلق على المدينة قاله في المصباح، والصقع: الناحية من البلاد والجهة.

ص: 473

بالميم عن يحيى بن أبي كثير وفي الثاني هشام بالشين وأظن الأول تصحيفا من بعض الناقلين عن مسلم فإن البخاري، والنسائي وغيرهما من الأئمة رووه عن هشام الدستوائي كما رواه مسلم في الطريق الثاني، وقد أوضح ما قلته الإمام الحافظ أبو محمَّد خلف الواسطي فقال رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن وكيع، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، فصرح الإمام خلف بأن مسلما رواه في الطريقين عن هشام الدستوائي، فدل هذا على أن همام بالميم تصحيف وقع في نسختنا ممن بعد مسلم اهـ جـ 2/ ص 278. والباقون تقدموا في السند الماضي.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وقد تقدم في السند السابق عاليا خماسيا.

ومنها: أن رواته ما بين كوفيين، وهما الأول والثاني، وبصري وهو الثالث، ويمامي هو الرابع، ومدنيين وهما الآخران.

ومنها: أن فيه الإخبار، والعنعنة، والقول.

ومنها: ما تقدم في سند الحديث السابق.

شرح الحديث

"عن عبد الله بن أبى قتادة عن أبيه" أبي قتادة الحارث بن ربعي "أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم الخلاء" أي محل قضاء الحاجة فبال أو تغوط "فلا يمس ذكره بيمينه" أي فلا يُفْض بباطن كفه اليمنى إلى ذكره لظاهر الرواية المتقدمة "إذا بال أحدكم فلا يأخذ" فقوله يمس مجزوم بلا الناهية، ويجوز رفعه على أنها نافية.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

أما درجته، ومن أخرجه فقد تقدم ذكرهما في الحديث السابق فلنذكر هنا بقية المسائل.

ص: 474

المسألة الأولى: قال ابن دقيق العيد: الحديث يقتضي النهي عن مس الذكر باليمين في حالة البول، ووردت رواية أخرى في النهي عن مسه باليمين مطلقا من غير تقييد بحالة البول، فمنهم من أخذ بهذا العام المطلق، وقد يسبق إلى الفهم أن المطلق يحمل على المقيد فيختص النهي بهذه الحالة، وفيه بحث لأن هذا الذي يقال يتجه في باب الأمر والإثبات، فإنا لو جعلنا الحكم للمطلق أو العام في صورة الإطلاق أو العموم مثلا كان فيه إخلال باللفظ الدال على المقيد، وقد تناوله لفظ الأمر وهو غير جائز، وأما في باب النص فإنا إذا جعلنا الحكم للمقيد أخللنا بمقتضى اللفظ المطلق مع تناول النهي له، وذلك غير شائع، هذا كله بعد مراعاة أمر من صناعة الحديث وهو أن ينظر في الروايتين أعني رواية الإطلاق والتقييد هل هما حديثان أو حديث واحد مخرجه واحد، فإن كانا حديثين فالحكم ما ذكرناه في حكم الإطلاق والتقييد، وإن كانا حديثا واحدا مخرجه واحد اختلف عليه الرواة فينبغي حمل المطلق على المقيد لأنها تكون زيادة من عدل في حديث واحد فتقبل.

قال: وذلك أيضا يكون بعد النظر في دلالة المفهوم وما يعمل به منه وما لا يعمل به وبعد أن ينظر في تقدم المفهوم على ظاهر العموم اهـ الأحكام جـ 1/ ص 60.

المسألة الثانية: أنه حمل الجمهور النهي على التنزيه لأن النهي فيه لمعنيين: أحدهما لرفع قدر اليمنى والآخر أنه لو باشر النجاسة بها يتذكر عند تناوله الطعام ما باشرت يمينه من النجاسة فينفر طبعه من ذلك، وحمله أهل الظاهر على التحريم، حتى قال بعضهم: لو استنجي بيمينه لا يجزيه، وهو وجه عند الحنابلة وطائفة من الشافعية. قاله البدر العيني في عمدته جـ 3/ ص 283 وقال الشوكاني: وهو الحق لأن النهي للتحريم ولا صارف له.

المسألة الثالثة: قال في الفتح: واستنبط منه بعضهم منع الاستنجاء باليد التي فيها الخاتم المنقوش فيه اسم الله تعالى لكون النهي عن ذلك

ص: 475

لتشريف اليمين فيكون من باب أولى وما وقع في العتبية عن مالك من عدم الكراهة قد أنكره حذاق أصحابه اهـ جـ 2/ ص 31.

المسألة الرابعة: قال في الفتح أيضا: وقد أثار الخطابي هنا بحثا وبالغ في التبجح به، وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه ناظر رجلا من الفقهاء الخراسانيين فسأله عن هذه المسألة فأعياه جوابها ثم أجاب الخطابي عنه بجواب فيه نظر، ومحصل الإيراد أن المستجمر متى استجمر بيساره استلزم مس ذكره بيمينه ومتى أمسكه بيساره استلزم استجماره بيمينه وكلاهما قد شمله النهي.

ومحصل الجواب: أنه يقصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره فإن لم يجد فليلصق مقعدته بالأرض ويمسك ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه ويستجمر بيساره فلا يكون متصرفا في شيء من ذلك بيمينه انتهي وهذه هيئة منكرة بل يتعذر فعلها في غالب الأوقات وقد تعقبه الطيبي بأن النهي عن الاستجمار باليمين مختص بالدبر والنهي عن المس مختص بالذكر فبطل الإيراد من أصله كذا قال.

وما ادعاه من تخصيص الاستنجاء بالدبر مردود، والمس وإن كان مختصا بالذكر لكن يلحق به الدبر قياسا والتنصيص على الذكر لا مفهوم له بل فرج المرأة كذلك، إنما خص الذكر بالذكر، لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون، والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خص، والصواب في الصورة التي أوردها الخطابي ما قاله إمام الحرمين، ومن بعده كالغزالي في الوسيط، والبغوي في التهذيب أنه يمر العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه، وهي قارة غير متحركة فلا يعد مستجمرا باليمين، ولا ماسًا بها، ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمرا بيمينه فقد غلط، وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره حال الاستنجاء اهـ فتح جـ 1/ ص 305.

ص: 476

‌24 - الرخصة في البول في الصحراء قائما

أي هذا باب في التسهيل في بول الشخص قائما في الصحراء، وقد تقدم ضبط الرخصة وتفسيرها.

وأما الصحراء: فهي البرية وجمعها صَحاريّ بكسر الراء مثقل الياء، لأنك تدخل ألف الجمع بين الحاء والراء وتكسر ما بعد ألف الجمع، نحو مساجد، ودراهم، فتنقلب الألف الأولى التي بعد الراء ياء للكسرة التي قبلها، وتنقلب ألف التأنيث ياء أيضا لكسر ما قبلها فيجتمع ياءان فتدغم إحداهما في الأخرى، ويجوز التخفيف مع كسر الراء وفتحها فيقال: صحار وصحارَى مثل العَذاري والعَذارَى، والعَزَالِي والعَزَالَى والكسر هو الأصل في الباب كله نحو المغازي، والمرامي، والجواري، والغواشي، وأما الفتح فمسموع، فلا يقال: وزن صحارى فعالل بفتح اللام لفقد هذا البناء في الكلام، وإنما هو منقول عن فعالل بالكسر، ولا يقال صحراءة بهاء بعد الهمزة لأنه لا يجمع على الاسم علامتا تأنيث، وأصحر الرجل للصحراء إصحارا برزلها. اهـ مصباح جـ 1/ ص 333.

26 -

أَخْبَرَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا.

رجال الإسناد: ستة

1 -

"مؤمل بن هشام" اليشكري البصري، عن ابن علية، وأبي

ص: 477

معاوية، وطائفة، وعنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، ووثقاه، توفي سنة 253. وفي (ت) ثقة، من العاشرة.

2 -

"إسماعيل" هو ابن إبراهيم المعروف بابن علية البصري ثقة ثبت [8] تقدم. في 18/ 19.

3 -

"شعبة" هو ابن الحجاج الواسطي البصري بن الورد العتكي مولاهم أبو بسطام، ثقة، حافظ، متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذَبَّ عن السنة، وكان عابدًا، من السابعة مات سنة ستين ومائة. وسيأتي له ترجمة من التهذيب مطولة في 86/ 106.

4 -

"سليمان" هو ابن مهران الأعمش الكوفي ثقة [5] تقدم في 17/ 18.

5 -

"أبو وائل" هو شقيق بن سلمة الكوفي ثقة مخضرم [2] تقدم في 2/ 2.

6 -

"حذيفة" بن اليمان الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 2/ 2.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن فيه الإخبار، والعنعنة، وأن رواته ما بين بصريين، وواسطي، ثم بصري، وكوفيين، وكلهم أئمة أجلاء.

شرح الحديث

"عن حذيفة" بن اليمان رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أتى أي جاء يقال: أتى الرجل يأتي أتيا: جاء، والإتيان اسم منه، وأتيته يستعمل لازما ومتعديا، قال الشاعر (من الكامل):

ص: 478

فاحتَلْ لنَفْسكَ قَبْلَ أتْي العَسْكَر

وأتا يَأتُوا، أتْوًا لغة فيه. قاله في المصباح.

قلت: استعمله هنا متعديا ولذا قال "سُباطة قوم" بالضم كالكناسة وزنا ومعنى "فبال قائما" أي أهرق الماء حال كونه قائمًا.

والمعنى: أنه جاء إلى مَزْبَلة كائنة بفناء الدور فبال، لكون البول لا يرتد إليه لسهولتها.

وإضافة سباطة إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك؛ لأنها لا تخلو عن النجاسة وبهذا يندفع إيراد من استشكل يكون البول يوهي الجدار ففيه إضرار، أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار وهو صريح رواية أبي عوانة في صحيحه.

وقيل: يحتمل أن يكون علي إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى لكن لم يُعْهَد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في الفتح جـ 1/ ص 392.

27 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا.

28 -

أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا بَهْزٌ، قَالَ:

ص: 479

حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَشَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا.

قَالَ سُلَيْمَانُ فِي حَدِيثِهِ: وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْصُورٌ الْمَسْحَ.

رجال الإسنادين

في الأول ستة: تقدموا في الحديث الأول إلا ثلاثة، وهم:

1 -

"محمَّد بن بشار" شيخ المصنف، وهو المشهور ببندار بضم الباء وفتحها وسكون النون كما في المغني.

وهو محمَّد بن بشار بن عثمان العبدي، أبو بكر البصري، الحافظ أحد أوعية السنة، عن المعتمر، ويزيد بن زريع، وغندر، ويحيى القطان، وخلق من طبقتهم، وعنه الجماعة، وابن خزيمة، وابن صاعد، وخلق، قال الخطيب: كان يحفظ حديثه، وقال ابن خزيمة: حدثنا الإمام محمَّد بن بشار، وقال العجلي: بندار ثقة كثير الحديث، وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وقال الذهبي: انعقد الإجماع بعدُ على الاحتجاج ببندار. مات سنة 252، من الطبقة العاشرة.

فائدة: بُنْدار هذا هو أحد الأئمة الذين رَوَى عنهم أصحاب الكتب الستة بدون واسطة وهم تسعة، جمعتهم في نظم حيث قلت:

اشتَركَ الأئمَّةُ الهُدَاةُ

ذَوُو الأصُول السِّتَّة الحُمَاةُ

ص: 480

في النَّقْل عَنْ تسْع شُيُوخ مَهَرَهْ

الحَافظينَ النَّاقدينَ البَرَرَهْ

أولئكَ الأشَجُّ وابنُ مَعْمَر

نَصْرٌ ويَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّري

وابنُ العَلاء وابْنُ بَشَّار كَذَا

ابنُ المُثَنَّى وزيادٌ يُحْتَذَى

فائدة أخرى: بُنْدار بضم الباء وسكون النون لقب له، لكونه جَمَّاعًا للحديث، وأصل البندار هو من يكثر من شراء شيء، ثم يبيعه.

2 -

"محمَّد" هو ابن جعفر الهذلي مولاهم البصري أبو عبد الله الكرابيسي الحافط ربيب شعبة، جالسه نحوا من عشرين سنة، لقبه غُنْدَر بضم الغين وسكون النون وفتح الدال، وحكي ضمها، كما قال النووي في شرح البخاري.

لقبه به ابن جريج، وذلك أنه لما قدم البصرة كان أكثر عليه الشغب، فقال له: اسكت يا غندر، وأهل الحجاز يسمون المشغب غندرا.

روى عن عوف الأعرابي، وحسين المعلم، وابن جريج، وابن أبي عروبة. وعنه أحمد، وابن المديني، وابن معين، وابن راهويه، وقتيبة، وخلق. قال ابن معين: كان من أصح الناس كتابا. قال أبو داود: مات سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقال ابن سعد: سنة أربع، من الطبقة التاسعة.

والسند الثاني

فيه سبعة تقدم منهم شعبة، والأعمش، وأبو وائل، وحذيفة في السند السابق، وأما الباقون فهم:

1 -

"سليمان بن عبيد الله" بن عمرو بن جابر المازني الغيلاني أبو أيوب البصري، عن أمية بن خالد، وبهز بن أسد. وعنه مسلم، والمصنف، ووثقه. مات سنة 246 من الحادية عشرة.

ص: 481

2 -

"بهز" بفتح الباء وسكون الهاء آخره زاي هو ابن أسد العَمِّيُّ بفتح العين وتشديد الميم نسبة إلى العم بطن في تميم، أبو الأسود البصري الإمام. يروي عن شعبة، وأبي بكر النهشلي، وحماد بن سلمة. وعنه أحمد، وبندار، ويعقوب بن إبراهيم. قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت. قال عقبة بن مكرم: مات قبل يحيى القطان، من الطبقة التاسعة.

3 -

"منصور" هو ابن المعتمر بن عبد الله الكوفي تقدم ترجمته في 2/ 2.

لطائف الإسناد

في السند الأول: أنه من سداسياته، وفيه من ألفاظ الأداء الإخبار، والسماع، والتأنين، والقول، ورواته ما بين بصريين، وكوفيين، فالثلاثة الأولون بصريون، وشعبة واسطي بصري، والثلاثة الآخرون كوفيون.

شرح الحديث الثاني

(1)

"عن حذيفة" رضي الله عنه "قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مشى" أي ذهب على رجليه "إلى سباطة قوم" أي كناستهم "فبال قائما، قال سليمان" يعني الأعمش "في حديثه" أي روايته عن أبي وائل "ومسح" أي النبي صلى الله عليه وسلم "على خفيه" أي بعد غسل أعضاء الوضوء ومسح الرأس "ولم يذكر منصور" بن المعتمر في روايته عن أبي وائل "المسح" أي مسح النبي صلى الله عليه وسلم على خفيه، بل انتهى حديثه عند قوله فبال قائما.

والحاصل: أن الأعمش، ومنصورا، رويا هذا الحديث عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه إلا أن الأعمش، زاد في روايته المسح.

وهذه الزيادة كما قال الحافظ: ثابتة من طرق عن شعبة، عن

(1)

إنما تركت الأول لكونه مضى شرحه.

ص: 482

الأعمش وزاد عيسى بن يونس فيه، عن الأعمش أن ذلك كان بالمدينة أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بإسناد صحيح، وزعم في الاستذكار أن عيسى تفرد به، وليس كذلك، فقد رواه البيهقي من طريق محمَّد بن طلحة بن مصرف، عن الأعمش كذلك، وله شاهد من حديث عصمة ابن مالك رواه الطبراني.

قال الحافظ: ولعل البخاري اختصره لتفرد الأعمش به، فقد روى ابنُ ماجه من طريق شعبة أن عاصما رواه له عن أبي وائل عن المغيرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما" قال عاصم وهذا الأعمش يرويه عن أبي وائل عن حذيفة وما حفظه يعني أن روايته هي الصواب، قال شعبة: فسألت عنه منصورًا، فحدثنيه عن أبي وائل، عن حذيفة، يعني كما قال الأعمش، لكن لم يذكر فيه المسح، فقد وافق منصور الأعمش على قوله عن حذيفة دون الزيادة، ولم يلتفت مسلم إلى هذه العلة، بل ذكرها في حديث الأعمش؛ لأنها زيادة من حافظ.

وقال الترمذي: حديث أبي وائل عن حذيفة أصح يعني من حديثه عن المغيرة، وهو كما قال وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصما على قوله: عن المغيرة، فجاز

أن يكون أبو وائل سمعه منهما فيصح القولان معا، لكن من حيث الترجيح رواية الأعمش ومنصور لاتقانهما أصح من رواية عاصم وحماد لكونهما في حفظهما مقال اهـ فتح جـ 1/ ص 392 بتصرف.

وقد تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث متنا وسندا في باب الرخصة في ترك الإبعاد عند قضاء الحاجة فارجع إليه، واستنبط المصنف منه هنا جواز البول قائما في الصحراء دون البيوت لما يأتي في حديث عائشة في الباب التالي.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 483

‌25 - البول في البيت جالسا

أي هذا باب في بيان مشروعية البول جالسا لمن كان في البيت، يريد المصنف رحمه الله أن يوفق بين حديث الباب المتقدم وبين حديث الباب بأن حديث حذيفة المتقدم محمول على ما كان في الصحراء وحديث عائشة على ما في البيت فلا تعارض.

وبعضهم وَفَّقَ بغير هذا، فقيل بأن حديث عائشة محمول على الغالب، وحديث حذيفة محمول على الندور.

وقيل: بأن حديث حذيفة أصح من حديثها لأن في حديثها شَريكا القاضي متكلم فيه بسوء الحفظ.

29 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلاَّ جَالِسًا.

رجال السند: خمسة

1 -

"علي بن حجر" بضم فسكون ابن إياس السعدي المروزي، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة، حافظ من صغار 9 تقدم، في 13/ 13.

2 -

"شريك" بن عبد الله النخعي القاضي بواسط ثم الكوفة أبو

ص: 484

عبد الله صدوق، يخطئ، كثيرا تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلا فاضلا عابدا شديدا على أهل البدع. من الثامنة مات 7 أو 178 أخرج له مسلم والأربعة. أفاده في "ت".

3 -

"المقداد ابن شريح" بن هانيء بن يزيد الحارثي الكوفي ثقة من السادسة. روى له البخاري في الأدب، ومسلم، والأربعة "ت".

4 -

"شريح" بن هانيء بن يزيد الحارثي المَذْحجي، أبو المقدام الكوفي مخضرم ثقة قتل مع أبي بكرة بسجستان (بخ م 4) ت.

5 -

"عائشة" رضي الله عنها أم المؤمنين تقدمت في 5/ 5.

تنبيه: هذا الإسناد من خماسياته ورواته ما بين مروزي، وكوفيين، ومدنية، وفيه الإخبار، والإنباء، والعنعنة، والقول.

وأخرجه الترمذي: في الطهارة عن علي بن حجر، وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وسويد بن سعيد، وإسماعيل بن موسى السدي، أربعتهم عن شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قال الترمذي: وفي الباب عن عمر، وبريدة، وعبد الرحمن بن حسنة، وحديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب وأصح.

شرح الحديث

"عن عائشة" رضي الله عنها أنها "قالت: من حدثكم" أي نقل لكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "بال" حال كونه "قائما فلا تصدقوه" أي لأنه أخبركم بخلاف الواقع "ما كان يبول إلا جالسا" وهذا قالته على حسب علمها، وإلا فالواقع خلاف ما قالته، فإنه ثبت أنه كان يبول قائما كما تقدم في حديث حذيفة رضي الله عنه.

ص: 485

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"الأولى": في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها صحيح.

"الثانية": أن حديث الباب أخرجه أحمد والحاكم والترمذي وابن ماجه كما مر آنفا قال الترمذي حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين واعترض عليهما.

قال الشيخ ولي الدين: هذا الحديث فيه لين لأن فيه شريكا القاضي وهو متكلم فيه بسوء الحفظ، وقول الترمذي: إنه أصح شيء في هذا الباب؛ لا يدل على صحته، ولذلك قال ابن القطان: إنه لا يقال فيه صحيح، وتساهل الحاكم في التصحيح معروف، وكيف يكون على شرط الشيخين مع أن البخاري لم يخرج لشريك بالكلية، ومسلم خرَّج له استشهادًا لا احتجاجًا. نقله السيوطي.

وقال الحافظ في الفتح: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن البول قائما شيء كما بينته في أوائل شرح الترمذي اهـ.

وأجاب العلامة المباركفوري في شرحه على الترمذي: بأن المراد بقوله أحسن شيء وأصح أقل ضعفا وأرجح مما ورد في هذا الباب اهـ جـ 1/ ص 67.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الصواب أنه صحيح، وتعليله بشريك غير صحيح، فقد تابعه سفيان الثوري، كما حققه العلامة الألباني حفظه الله. انظر الصحيحة 1/ 345 رقم 201 والله أعلم.

"الثالثة" قال الترمذي: وفي الباب عن عمر، ثم قال: وحديث عمر إنما روي من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما، فقال: "يا عمر

ص: 486

لاتبل قائما" فما بلت قائما بعد.

قال الترمذي: وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أيوب السختياني، وتكلم فيه، وروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر "قال عمر رضي الله عنه ما بُلتُ قائما منذ أسلمت" وهذا أصح من حديث عبد الكريم.

قال العلامة المباركفوري: أخرجه البزار قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله ثقات.

وهذا الأثر يدل على أن عمر ما بال قائما منذ أسلم، ولكن قال الحافظ في الفتح قد ثبت عن عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وغيرهم أنهم بالوا قياما. اهـ كلام المباركفوري.

وفي الباب حديث أخرجه البزار من حديث بريدة مرفوعا بلفظ "ثلاث من الجفاء أن يبول الرجل قائما أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته أو ينفخ في سجوده" كذا في النيل، وقال الترمذي وحديث بريدة في هذا غير محفوظ. قال الجامع: قد تكلم الشيخ الألباني، وبين علة هذا الحديث في الإرواء جـ 1/ 98 - 99. كما تقدم في 17/ 18، وحديث أخرجه ابن ماجه عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما. وفي إسناده عدي بن الفضل وهو متروك. اهـ تحفة الأحوذي جـ 1/ ص 67.

"الرابعة": اختلف العلماء في تأويل حديث الباب على أقوال:

الأول: حمل المصنف له على أنه في البيوت جمعا بينه وبين حديث حذيفة السابق.

وحاصله أن عائشة إنما نفت ما كان يفعله في البيوت وأن حذيفة أثبت ما رآه في الصحراء، فدل على جواز البول قائما في الصحراء، دون

ص: 487

البيوت، فمعنى حديثها من حدثكم أنه بال قائما في البيت لا تصدقوه، ومعنى حديث حذيفة أنه بال قائما في الصحراء كما تقدم أنه كان ذلك في سُباطة قوم.

الثاني: قول بعضهم إن حديث حذيفة أرجح من حديثها؛ لأن في حديثها شريكا القاضي وهو متكلم فيه بسوء الحفظ ولا عبرة بتصحيح الحاكم له لكونه متساهلا كما قدمناه.

قال الجامع: تقدم الجواب عن هذا القول قريبا. فتنبه.

الثالث: قول الترمذي: إن معنى النهي عن البول قائما على التأديب، لا على التحريم، وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: إن من الجفاء أن تبول وأنت قائم. اهـ جـ 1/ ص 68 بشرح المباركفوري.

الرابع: أن حديث الباب ناسخ لحديث حذيفة، وإليه ذهب أبو عوانة في صحيحه وابن شاهين ورد هذا الحافظ في الفتح.

الخامس: قول بعضهم: إن حديث حذيفة محمول على العذر، فقيل لعدم مكان للجلوس لامتلاء الموضع بالنجاسة، وقيل: لكون ما يقابله من السباطة عاليا ومن خلفه منحدرا مستقلا لو جلس مستقبل السُّباطة سقط إلى خلفه، ولو جلس مستدبرًا لها بَدَت عورته للناس.

وقيل: لأنه حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك لكونه قريبا من الدار، ولذا قال عمر رضي الله عنه "البول قائما أحصن للدبر" رواه عبد الرزاق، وقيل: لأن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك.

والأظهر: أنه فعله لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود، قاله الحافظ رحمه الله، وتقدم بيان هذا في باب الرخصة في ترك ذلك. 17/ 18. والله ولي التوفيق.

ص: 488

‌26 - البول إلى السترة يستتر بها

أي باب مشروعية بول الشخص إلى سترة يستتر بها عن أعين الناس.

30 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ، قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهِ كَهَيْئَةِ الدَّرَقَةِ فَوَضَعَهَا، ثُمَّ جَلَسَ خَلْفَهَا فَبَالَ إِلَيْهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: انْظُرُوا، يَبُولُ كَمَا تَبُولُ الْمَرْأَةُ، فَسَمِعَهُ فَقَالَ:"أَوَمَا عَلِمْتَ مَا أَصَابَ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ كَانُوا إِذَا أَصَابَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْبَوْلِ قَرَضُوهُ بِالْمَقَارِيضِ، فَنَهَاهُمْ صَاحِبُهُمْ فَعُذِّبَ فِي قَبْرِهِ".

رجال السند: خمسة

1 -

"هناد بن السري" بفتح الهاء وتشديد النون والسري بفتح السين وكسر الراء ابن مصعب أبو السري الكوفي ثقة 10 تقدم في 23/ 25.

2 -

"أبو معاوية" الضرير محمَّد بن خازم بمعجمة "التميمي مولاهم أحد الأعلام، عن الأعمش، وسهيل بن أبي صالح، وعاصم

ص: 489

الأحول، وخلق. وعنه أحمد، وإسحاق، وابن المديني، وابن معين، وأبو خيثمة، وخلق. وروى عنه من شيوخه الأعمش، وابن جريج. قال أحمد: كان في غير الأعمش مضطربا. وقال العجلي: ثقة يرى الإرجاء. وقال يعقوب بن شيبة: ربما دلس. قال ابن معين: مات سنة 195، من الطبقة التاسعة.

3 -

"الأعمش" سليمان بن مهران أبو محمَّد الكاهلي الكوفي، ثقة حافظ ثبت، من الخامسة، تقدم في 17/ 18.

4 -

"زيد بن وهب" الجهني أبو سليمان، هاجر فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق، نزل الكوفة. عن عمر، وعثمان، وعلي، وحذيفة، وطائفة، وعنه حبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كهيل، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وخلق. وثقه ابن معين، وابن خراش، قال الأعمش: إذا حدثك زيد فكأنك سمعته من الذي حدثك عنه. قال ابن سعد: توفي بعد الجماجم، مخضرم من الثانية.

5 -

"عبد الرحمن بن حسنة" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن المطاع

(1)

الكندي حليف بني زهرة أخو شُرَحبيل بن حسنة، وحسنة أمهما أفاده الحافظ المزي.

وقال الحافظ في الإصابة: وقال الترمذي: يقال: إنهما أخوان، وأنكر العسكري تبعا لابن أبي خيثمة أن يكون عبد الرحمن أخا شرحبيل، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خرج عليهم ومعه كهيئة الدرقة فبال إليها. الحديث.

روى عنه زيد بن وهب، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وذكر مسلم والأزدي والحاكم أنه تفرد بالرواية عنه، وقد

(1)

وفي الإصابة: عبد الرحمن بن المطاع بن عبد الله بن الغطريف اهـ.

ص: 490

وقع في الطبراني الكبير حديث من طريق أبي قارظ عنه وهو وارد على الإطلاق المذكور اهـ إصابة جـ 2/ ص 414 لكن في إسناده ابن لهيعة، ولا تقوم به حجة قاله في تهذيب التهذيب، وليس لعبد الرحمن في الكتب الستة سوى هذا الحديث الواحد عند المصنف، وأبي داود، وابن ماجه، وله في غيرها أحاديث أخر. قاله السيوطي جـ 1/ ص 27.

لطائف الإسناد

فيه: الإخبار، والعنعنة، والقول.

وفيه: أنه من خماسياته ورواته كوفيون وفيه مخضرم وهو زيد.

وفيه: رواية تابعي عن تابعي، وفيه أن صحابيه ليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث.

شرح الحديث

"عن عبد الرحمن بن حسنة" رضي الله عنه "قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي داود قال "انطلقت أنا وعمرو بن العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخرج ومعه دَرَقة" ولفظ البيهقي قال "كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم "وفي يده كهيئة الدرقة" جملة حالية من الفاعل.

وفي رواية أبي داود "ومعه درقة" ولفظ البيهقي "في يده درقة".

قال العلامة السندي: قوله "كهيئة الدرقة" أي شيء مثل هيئة الدرقة أي كصفتها فالكاف بمعنى مثل مبتدأ، والدرقة بدال وراء مهملتين مفتوحتين: التُّرْسُ إذا كان من جلود ليس فيه خشب ولا عَصَب. اهـ 1/ 27.

وقال السيوطي: الدَّرَقَة بفتح الدال والراء المهملتين والقاف:

ص: 491

الحَجَفَة، والمراد بها الترس إذا كان من جلود وليس فيه من خشب ولا عصب، وهو القصب الذي تعمل منه الأوتار.

وذكر القزاز أنها من جلود دواب تكون في بلاد الحبشة اهـ زهر جـ 1/ ص 27 "فوضعها" أي جعلها حائلة بينه وبين الناس لئلا يطلع أحد على عورته "ثم جلس" النبي صلى الله عليه وسلم "خلفها" أي خلف الدرقة "فبال إليها" أي متوجهًا إليها ومستترًا بها "فقال بعض القوم" قيل لعل القائل كان منافقا، والأولى أنه ليس منافقًا لأن مجموع الروايات يبين ذلك، ففي رواية أبي داود "فقلنا"، وفي رواية البيهقي "فتكلمنا فيما بيننا، فقلنا يبول كما تبول المرأة" فتبين أنه من الصحابة، وإنما قالوا ذلك تعجبا لما رأوه مخالفا لما عليه عادتهم في الجاهلية في بول الرجال قياما وكانوا قريبي العهد بها، ولم يقولوا استهزاء ولا سُخْريّة "انظروا يبول كما تبول المرأة" قال الشيخ ولي الدين العراقي: هل المراد التشبيه بها في الستر أو الجلوس أو فيهما محتمل.

وفهم النووي الأول، فقال في شرح أبي داود: معناه أنهم كرهوا ذلك، وزعموا أن شهامة الرجال لا تقتضي الستر على ما كانوا عليه في الجاهلية، قال الشيخ ولي الدين: ويؤيد الثاني رواية البغوي في معجمه فإن لفظها "فقال بعضنا لبعض يبول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تبول المرأة وهو قاعد" وفي معجم الطبراني "يبول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس كما تبول المرأة" وفي سنن ابن ماجه قال أحمد بن عبد الرحمن المخزومي كان من شأن العرب البول قائمًا ألا تراه في حديث عبد الرحمن بن حسنة يقول يقعد ويبول. اهـ زهر.

وقال السندي: نعم ذكر ما أصاب صاحب بني إسرائيل أنسب بالتستر اهـ.

ص: 492

"فسمعه" أي سمع ما قال ذلك البعض رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقال" رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبا له (أ) تستغرب ذلك مني "وما علمت" ما موصولة أو موصوفة "أصاب صاحب بنى إسرائيل" برفع صاحب على أنه فاعل أصاب ومفعوله محذوف والتقدير أو ما علمت العذاب الذي أصابه صاحب بني إسرائيل.

ويجوز نصبه على أنه مفعول أصاب والفاعل ضمير يعود إلى "ما" أي أوَ ما علمت العذاب الذي أصاب أي هو صاحب بني إسرائيل، قيل: المراد بصاحب بني إسرائيل واحد منهم، وعلى هذا فلا إشكال في الحديث، وقيل المراد به موسى عليه الصلاة والسلام وعلى هذا فمعناه أنه نهاهم عن التهاون في البول فعذب من لم ينته عنه، وهذا القول بعيد جدًا، والأول هو الذي يدل عليه السياق.

وبنو إسرائيل: أولاد يعقوب بن إسحاق، وإسرائيل هو يعقوب، ومعناه بالسريانية عبد الله لأن إسرا بمعنى عبد، وإيل بمعنى الله.

"كانوا" أي بنو إسرائيل "إذا أصابهم شيء من البول" أي أصاب جسدهم أو ثيابهم "قرضوه" أي قطعوه، يقال: قرضت الشيء قرضا من باب ضرب: قطعته بالمقراض. أفاده في المصباح "بالمقاريض" جمع مقراض بكسر الميم، وقال في المصباح، ولا يقال إذا جمعت بينهما: مقراض كما تقول العامة، وإنما يقال عند اجتماعهما:"قرضته بالمقراضين وفي الواحد قرضته بالمقراض" اهـ.

يعني أنهم كانوا يقطعون الموضع الذي أصابه البول؛ لأنه ما كان يجوز لهم أن يطهروا موضع النجاسة بالماء، وإنما التطهير في دينهم بقطع المتنجس والظاهر أنهم كانوا يفعلون ذلك ولو في جسدهم ويؤيد

هذا رواية مسلم "جلد أحدهم" وفي رواية أبي داود "جسد أحدهم"

ص: 493

فيكون هذا من الأمر الشاق الذي حملوه.

وقيل: المراد بالجلد الجلود التي كانوا يلبسونها، وإليه ذهب القرطبي، ويؤيده رواية البخاري "إذا أصاب ثوب أحدهم".

قال الجامع: والأولى عندي أنهم كانوا يعملون هذا وهذا، فهم مكلفون بكليهما فلا حاجة إلى حمل إحدى الروايتين على الأخرى.

"فنهاهم صاحبهم" أي نهي بني إسرائيل صاحبهم المذكور عن القطع المذكور، وقال: إن هذا تكلف شديد فاتركوه "فعذب في قبره" أي عذبه الله بسبب نهيه عن المعروف، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من إنكار ما هو مقرر في الشرع.

فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لا تستثقلوا ما أبينه لكم من الأحكام فعلا أو قولا، ولو كان على خلاف معتادكم في الجاهلية، كما استثقل صاحب بني إسرائيل، وإلا فيخشى أن يصيبكم مثل ما أصابه وهذا على أن القائل انظروا الخ من الصحابة أما على أنه مشرك أو منافق كما قاله في المرقاة فيكون قصد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك توبيخه وتهديده وأنه من أصحاب النار حيث عيَّره بالحياء وجعله من فعل النساء. أفاده في المنهل جـ 1/ ص 88.

قال الجامع: لكن سياق الأحاديث يدل علي المعنى الأول كما تقدم.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"الأولى": في درجته: هذا الحديث صحيح.

"الثانية": فيمن أخرجه مع المصنف:

أخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدد عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش به، وأخرجه "ق" في الطهارة، عن أبي بكر بن شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش به، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن

أبي شيبة والبيهقي.

ص: 494

"الثالثة": في فوائده:

يستنبط من هذا الحديث جواز ترك التباعد عن الناس عند البول.

ومشروعية التستر بشيء ولا سيما إذا كان بقرب الناس.

وأنه لا يجوز لأحد التكلم في شيء من أمور الدين حتى يعلم حكم الله فيه.

والتلطف في المخاطبة عند التعليم فإنه صلى الله عليه وسلم لما سمع مقالتهم لم يقابلهم بالغلظة بل تلطف بهم شفقة عليهم ورحمة.

وطلب التحرز عن النجاسات والإحتياط في ذلك.

وأن المخالفة سبب في الهلاك والتعذيب فقد نبه صلى الله عليه وسلم أن صاحب بني إسرائيل نهى عن المعروف في دينهم فتسبب عنه تعذيبه.

وأن عذاب القبر حق، وأن للبول خصوصية فيه فقد أخرج ابن خزيمة في صحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا "أكثر عذاب القبر من البول". قاله في الفتح جـ 1/ ص 381.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 495

‌27 - التنزه عن البول

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب التنزه عن البول، وموضع الترجمة قوله "فكان لا يستنزه من بول" لأن تسبب العذاب بعدم استنزاهه يدل على وجوب التنزه، والتنزه مصدر تنزه يقال: تَنَزَّةَ فلان يَتَنَزَّه إذا تباعد عن الأقذار. أفاده الفيومي.

فمعنى التنزه عن البول التحفظ عنه.

31 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ:"إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا هَذَا فَكَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ". ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ، فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ، فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ:"لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا".

خَالَفَهُ مَنْصُورٌ، رَوَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ طَاوُسًا.

ص: 496

رجال الإسناد: سبعة

1 -

"هناد بن السري" بفتح السين وتخفيف الراء أبو السري الكوفي ثقة [10] تقدم. في 23/ 25.

2 -

"وكيع" بن الجراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان الكوفي ثقة حافظ من كبار 9 تقدم في 23/ 25.

3 -

"الأعمش" سليمان بن مهران أبو محمَّد الكاهلي مولاهم الكوفي ثقة حافظ من -5 - تقدم. في 17/ 18.

4 -

"مجاهد" بن جَبْر بإسكان الموحدة مولى السائب بن أبي السائب أبو الحجاج المكي المقرئ الإمام المفسر، عن ابن عباس، وقرأ عليه، قال مجاهد: عرضت عليه ثلاثين مرة، وأم سلمة، وأبي هريرة، وجابر، عن عائشة في (خ م).

قال شعبة، والقطان، وابن معين، وأبو حاتم الرازي: لم يسمع منها، لكن قد صرح مجاهد في بعض رواياته سماعه منها.

وعنه عكرمة، وعطاء، وقتادة، والحكم بن عُتيبة، وأيوب، وخلق.

وثقه ابن معين، وأبو زرعة، قال ابن حبان: مات بمكة سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ومولده سنة إحدى وعشرين اهـ. صه

وفي (ت) مات سنة 1 أو 2 أو 3 أو 104 وله 83 سنة رَوَى له الجماعة من الطبقة الثالثة.

5 -

"طاوس" هو ابن كيسان اليماني الجَنَديُّ بفتح الجيم والنون، قيل من الأبناء، وقيل مولى هَمْدان، الإمام العلم، قيل: اسمه ذكوان قاله ابن الجوزي.

عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وزيد بن

ص: 497

أرقم، وجابر، وابن عمر، وأرسل عن معاذ، قال طاوس: أدركت خمسين من الصحابة، وعنه مجاهد، وعمرو بن شعيب، وحبيب بن أبي ثابت، والزهري، وأبو الزبير، وعمرو بن دينار، وسليمان الأحول، وخلق.

قال ابن عباس: إني لأظن طاوسا من أهل الجنة، وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مثله، وقال ابن حبان: حج أربعين حجة، وكان مستجاب الدعوة، قال ابن القطان: مات سنة ست ومائة، وقال بعضهم يوم التروية، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، وثقه ابن معين، وغيره، أخرج له الجماعة اهـ. صه من الطبقة الثالثة. ت.

6 -

"منصور" هو ابن المعتمر بن عبد الله الكوفي ثقة ثبت تقدم في 2/ 2.

7 -

"ابن عباس" هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. الهاشمي، أبو العباس المكي، ثم المدني، ثم الطائفي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وحبر الأمة، وفقيهها، وترجمان القرآن، روى ألفا وستمائة وستين حديثا، اتفقا على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين، وعنه أبو الشعثاء، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وابن المسيب، وعطاء بن يسار، وأمم، قال موسى بن عبيدة: كان عمر يستشير ابن عباس، ويقول: غَوَّاص، وقال سعد: ما رأيت أحضر فهما، ولا ألبَّ لبًّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وقال عكرمة: كان ابن عباس إذا مر في الطريق قالت النساء: أمرَّ المسك أو ابن عباس؟.

وقال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجمل الناس،

ص: 498

وإذا نطق، قلت: أفصح الناس، وإذا حدث، قلت: أعلم الناس، ومناقبه جمة، قال أبو نعيم: مات سنة ثمان وستين. قال ابن بكير: بالطائف، وصلى عليه محمَّد بن الحنفية.

قلت: ابن عباس سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين حديثا، وباقي حديثه عن الصحابة، واتفقوا على قبول مرسل الصحابة، والله أعلم.

أخرج له الجماعة. اهـ صه.

وفي (ت) ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه، وقال عمر: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا أحد، وهو أحد المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة من فقهاء الصحابة اهـ باختصار.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي ثبت في مسند الإمام أحمد بن حنبل أنه روى ألفا وستمائة وستة وتسعين حديثا.

فائدة: اختلف العلماء في عدة الأحاديث التي صرح ابن عباس رضي الله عنهما بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم كان من الغريب قول الغزالي في المستصفي، وقلده جماعة: إنها أربعة ليس إلا.

وعن يحيى القطان، وابن معين، وأبي داود صاحب السنن: تسعة، وعن منذر: عشرة، وعن بعض المتأخرين: أنها دون العشرين من وجوه صحاح.

وقيل: خمسة وعشرون كما تقدم في عبارة الخلاصة.

وقال العلامة السخاوي: وقد اعتنى شيخنا يعني الحافظ ابن حجر بجمع الصحيح والحسن فقط من ذلك فزاد على الأربعين سوى ما هو في حكم السماع كحكاية حضور فعل شيء بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 499

قال: وأشار شيخنا لذلك عقيب قول البخاري في الحديث الثالث من باب الحشر من الرقاق هذا مما يعد أن ابن عباس سمعه اهـ من فتح المغيث، جـ 1/ ص 147 بزيادة.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته وأن فيه من صيغ الأداء الإخبار، والعنعنة والسماع والقول.

ومنها: أن رواته كلهم أجلاء ثقات، وأن الثلاثة الأولين كوفيون والرابع مكي، والخامس يماني، والصحابي مكي، مدني، بصري، طائفي ورواية ثلاث من التابعين بعضهم عن بعض.

فائدة: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هو أحد العبادلة الأربعة وقد ذكرهم السيوطي في الألفية بقوله.

والبَحْرُ وابْنَا عُمَر وعَمْرو

وابنُ الزُّبَيْر فِي اشتهَار يَجْري

دُونَ ابن مَسْعُود لَهُم عَبَادله

وغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذا مَالَ لهُ

وقوله: وغلطوا الخ يشير به إلى أن بعض العلماء أدخل فيهم ابن مسعود، وهذا غلط لأنه مات قبل اشتهار هذا اللقب، وكذا قول بعضهم: إنهم ثلاثة بإسقاط ابن الزبير.

شرح الحديث

"عن ابن عباس" رضي الله عنهما أنه "قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي اجتاز، يقال: مررت يزيد، وعليه، فيُعَدَّى بالباء تارة وبعلى أخرى، مرّا ومُرُورًا ومَمَرًا: أجزت ومرّ الدهرُ مرّا ومرورًا أيضا، ذهب. أفاده في المصباح.

"على قبرين" تثنية قبر، وهو موضع دفن الميت، وأقله حفرة تُواري

ص: 500

الميت، وأكمله اللحد، وفي رواية ابن ماجه "بقبرين جديدين" قاله في المنهل جـ 1/ ص 79 قلت: ذكرنا أنه يتعدى بالباء، و"على"، وفي رواية البخاري هنا "مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما"، وفي الأدب:"خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة" قال الحافظ: فيحمل أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مر به. وفي الأفراد للدارقطني من حديث جابر أن الحائط كان لأم مبشر الأنصارية وهو يقوي رواية الأدب لجزمها بالمدينة من غير شك، والشك في قوله أو مكة من جرير. اهـ فتح جـ 1/ ص 379.

"فقال" النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع صوتهما "إنهما" أي مَن فيهما "يعذبان" أي يعاقبان، يقال: عذبته تعذيبا: عاقبته والاسم العذاب، وأصله في كلام العرب الضرب، ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة، واستعير للأمور الشاقة، فقيل: السفر قطعة من العذاب. قاله الفيومي.

وأسند التعذيب إلى القبرين مجازا من إطلاق المحل على الحال؛ لأن المعذب في الحقيقة مَن فيهما، كما تقدم قريبا.

ويحتمل عود الضمير على معلوم من المقام، وهو من في القبرين لأن سياق الكلام يدل عليه.

وقوله "يعذبان" في محل رفع خبر إن، وفي رواية أبي داود "ليعذبان" بلام التأكيد، وأكده بإن واللام وإن كان مقتضى الظاهر على خلافه لما فيه من الإخبار بمغيب، وما كان هكذا شأنه أن ينكر بقطع النظر عن المخبر به ولتأكيد التنفير من هذا الصنيع المؤدي إلى العذاب أفاده في المنهل جـ 1/ ص 79.

"وما يعذبان في كبير" أي بسبب أمر كبير أي أنهما لا يعذبان في أمر كبير يشق عليهما تركه، أو أنهما لا يعذبان في أمر يستعظمه الناس بل

ص: 501

يتهاونون به ويجترئون عليه، قال ابن مالك فيه شاهد على ورود في للتعليل، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم "عذبت امرأة في هرة" قال وخفي ذلك على أكثر النحويين مع وروده في القرآن كقوله تعالى {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: آية 68] وفي الحديث كما تقدم وفي الشعر فذكر شواهد انتهى.

واستدل ابن بطال بهذه الرواية على أن التعذيب لا يختص بالكبائر، بل قد يقع على الصغائر، قال: لأن الاحتراز من البول لم يرد فيه وعيد يعني قبل هذه القصة. وتعقب برواية منصور عند البخاري، "ثم قال بلى" أي أنه لكبير، وصرح به في الأدب من طريق عبد بن حُميد عنه فقال:"وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير" أفاده في الفتح جـ 1/ ص 380.

تنبيه: وقد اختلف في معني قوله "وإنه لكبير" فقال أبو عبد الملك البوني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن ذلك غير كبير، فأوحى إليه في الحال بأنه كبير، فاستدرك، وتعقب بأنه يستلزم أن يكون نسخا، والنسخ لا يدخل الخبر، وأجيب بأن الحكم بالخبر يجوز نسخه فقوله "وما يعذبان في كبير" إخبار بالحكم، فهذا أوحي إليه أنه كبير، فأخبر به، كان نسخا لذلك الحكم.

وقيل: يحتمل أن الضمير في قوله: وإنه يعود على العذاب، لما ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة "يعذبان عذابا شديدا في ذنب هين".

وقيل: الضمير يعود على أحد الذنبين، وهو النميمة لأنها من الكبائر، بخلاف كشف العورة، وهذا مع ضعفه غير مستقيم؛ لأن الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط كما سيأتي.

وقال الداودي، وابن العربي:"كبيرٌ" المنفي بمعنى أكبر، والمثبت واحد الكبائر، أي ليس ذلك بأكبر الكبائر كالقتل مثلا، وإن كان كبيرًا في الجملة.

ص: 502

وقيل: المعنى ليس بكبير في الصورة لأن تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة، وهو كبير في الذنب.

وقيل: ليس بكبير في اعتقادهما أو في اعتقاد المخاطبين، وهو عند الله كبير، كقوله تعالى {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].

وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز، أي كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك وهذا الأخير جزم به البغوي وغيره، ورجحه ابن دقيق العيد، وجماعة.

وقيل: ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيرًا بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السياق فإنه وصف كلا منهما بما يدل على تجدد ذلك منه، واستمراره عليه للإتيان بصيغة المضارعة بعد حرف كان، والله أعلم اهـ فتح الباري. جـ 1/ ص380.

قال الجامع عفا الله منه: فجملة الأقوال ثمانية، والذي يَقْوَى عندي أنه ليس بكبير في اعتقادهما، فلذا تساهلا في شأنه، مع أنه لا يشق عليهما الاحتراز عنه، وهو عند الله كبير، والله أعلم.

فائدة: قال الحافظ رحمه الله ولم يُعرف اسم المقبورين ولا أحدهما، والظاهر أن ذلك كان على عَمْد من الرواة لقصد الستر عليهما، وهو عمل مستحسن، وينبغي أن لا يبالغ في الفَحْص عن تسمية مَن وقع في حقه ما يذم به، قال: وقد اختلف فيهما، فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني، قال: لأنهما لو كانا مسلمين لما

ص: 503

كان لشفاعته إلى أن ييبسا الجريدتان معنًى، ولكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه فتشفّع لهما إلى المدة المذكورة، وجزم ابن العطار في شرح العمدة بأنهما كانا مسلمين، قال القرطبي: وهو الأظهر، وقال الحافظ: وهو الظاهر من مجموع طرق الحديث اهـ. زهر، جـ 1/ ص 29.

"أمّا" أما بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف فيها معنى الشرط كمهما يكن من شيء بدليل لزوم الفاء بعدها قال ابن مالك:

أمَّا كَمَهْمَا يَكُ منْ شيء وَفَا

لتلْو تلْوهَا وُجُوبًا ألفَا

"هذا" إشارة إلى مَن في أحد القبرين "فكان لا يستنزه" بنون ساكنه بعدها زاي، ثم هاء، هذه هي رواية المصنف، وأبي داود، وابن ماجه، ورواية لمسلم، من الاستنزاه، قال في النهاية: أي لا يستبريء، ولا يتطهر، ولا يستبعد من البول، وفي العيني لا يستنزه من التنزه وهو الإبعاد، جـ 2/ ص 431.

وقد قدمنا في عبارة المصباح أن التنزه هو الإبعاد عن الأقذار، ووقع في رواية الشيخين "لا يستتر" قال الحافظ: كذا في أكثر الروايات بمثناة من فوق الأولى مفتوحة والثانية مكسورة، وفي رواية ابن عساكر

"يستبريء" بموحدة ساكنة من الاستبراء.

قال: فعلى رواية أكثر معنى الاستتار أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة، يعني لا يتحفظ منه، فتوافق رواية "لا يستنزه" لأنها من التنزه وهو الإبعاد، وقد وقع عند أبي نعيم في المستخرج من طريق وكيع، عن الأعمش "كان لا يتوقى" وهي مفسرة للمراد، وأجراه بعضهم على ظاهره فقال: معناه لا يستر عورته، وضعف بأن التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف بالسبية، واطرح اعتبار البول، فيترتب

ص: 504

العذاب على الكشف سواء وجد البول أم لا ولا يخفى ما فيه، وأما رواية الاستبراء فهي أبلغ في التوقي.

وتعقب الإسماعيلى رواية الاستتار بما يحصل جوابه مما ذكرنا.

قال ابن دقيق العيد: لو حمل الاستتار على حقيقته للزم أن مجرد كشف العورة كان سبب العذاب المذكور، وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية يشير إلى ما صححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعا "أكثر عذاب القبر من البول" أي بسبب ترك التحرز منه.

قال: ويؤيده أن لفظ "من" في هذا الحديث لما أضيف إلى البول اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعين الحمل على المجاز لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد لأن مخرجه واحد، ويؤيده أنّ في حديث أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه "أما أحدهما فيعذب في البول" ومثله للطبراني عن أنس اهـ فتح جـ 1/ ص 381.

وفي المنهل: وروى لا يستنتر بنون بين تاءين من النتر وهو جذب فيه قوة

وفي الحديث "إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث نترات" رواه أحمد وأبو داود مرسلا، وروى "لا يستنثر" بتاء مثناة من فوق مفتوحة ونون ساكنة وثاء مثلثة مكسورة، أي لا ينثر بوله من قناة الذكر كما ينثر الماء من أنفه بعد استنشاقه اهـ، جـ 1/ ص 80 ونحوه في العيني.

"من بوله" بالإضافة، ووقع في رواية "من البول" فأل عوض عن المضاف إليه.

ص: 505

وقد استدل به البخاري على أن نجاسة البول مقصورة على بول الناس، ولا يعم بول سائر الحيوانات، فلا يكون حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان.

وقال القرطبي: قوله من البول اسم مفرد لا يقتضي العموم ولو سلم فهو مخصوص بالأدلة المقتضية لطهارة بول ما يؤكل اهـ فتح، جـ 1/ ص 384.

"وأما هذا" إشارة إلى من في القبر الآخر "فإنه كان يمشي بالنميمة" أي يسعى بالفساد بين القوم بأن ينقل لكل واحد منهم ما يقوله الآخر من الشتم والأذى. قاله في المنهل، جـ 1/ ص 80.

والنميمة: فعيلة من نَمَّ الرجل الحديث نَمَا، من باب قتل وضرب: سعى به ليوقع فتنة أو وحشة، فالرجل نَمٌّ تسميةً بالمصدر، ونمَّام مبالغة، والاسم النميمة، والنميم أيضا. قاله في المصباح.

قال ابن دقيق العيد: هي نقل كلام الناس، والمراد منه هنا ما كان بقصد الإضرار، فأما ما اقتضى فعل مصلحة، أو ترك مفسدة فهو مطلوب انتهى.

قال الحافظ: وهو تفسير للنميمة بالمعنى الأعم وكلام غيره يخالفه.

وقال النووي: وهي نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهي من أقبح القبائح، وتعقبه الكرماني فقال: هذا لا يصح على قاعدة الفقهاء، فإنهم يقولون: الكبيرة هى الموجبة للحد، ولا حد على المشي بالنميمة إلا أن يقال: الاستمرار هو المستفاد منه جعله كبيرة لأن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم الكبيرة أو أن المراد بالكبيرة معنى غير المعنى الاصطلاحي، انتهى.

ص: 506

قال الحافظ: وما نقله عن الفقهاء، ليس هو قول جميعهم، لكن كلام الرافعي يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة وجهين: أحدهما هذا، والثاني ما فيه وعيد شديد، قال وهم إلى الأول أميل، والثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر، انتهى.

ولا بد من حمل القول الأول على أن المراد به غير ما نص عليه في الأحاديث الصحيحة، وإلا لزم أن لا يعد عقوق الوالدين، وشهادة الزور، من الكبائر مع أن النبي صلى الله عليه وسلم عدهما من أكبر الكبائر.

قال الحافظ: وعُرفَ بهذا الجوابُ عن اعتراض الكرماني بأن النميمة قد نص في الصحيح على أنه كبيرة اهـ فتح، جـ 1/ ص 381.

وقال الحافظ في الفتح في كتاب الأدب، جـ 10/ ص 488 ما نصه:

قال الغزالي ما ملخصه: ينبغي لمن حملت إليه نميمة أن لا يصدق من ثم له، ولا يظن بمن نُمَّ عنه ما نُقل عنه، ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له، وأن ينهاه ويقبح له فعله، وأن يبغضه إن لم ينزجر، وأن لايرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فينم هو على النَّمَّام فيصير نمّامًا.

قال النووي: وهذا كله إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية، وإلا فهي مستحبة، أو واجبة كمن اطلع من شخص أنه يريد أن يؤدي شخصا ظلما فحذره منه، وكذا من أخبر الإمام أو من له ولاية بسيرة نائبه مثلا فلا منع من ذلك.

وقال الغزالي ما ملخصه: النميمة في الأصل نقل القول إلى المقول فيه، ولا اختصاص لها بذلك، بل ضابطها كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه، أو المنقول إليه أو غيرهما، وسواء كان المنقول قولا أم فعلا وسواء كان عيبا أم لا، حتى لو رأى شخصا يخفى ما له فأفشى كان نميمة.

ص: 507

واختلف في الغيبة، والنميمة، هل هما متغايرتان أو متحدتان؟

والراجح التغاير وأن بينهما عموما وخصوصا وجهيا، وذلك لأن النميمة نقل حال الشخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه، سواء كان بعلمه أم بغير علمه، والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائبا واشتركا فيما عدا ذلك، ومن العلماء من يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائبا والله أعلم اهـ فتح، جـ 10/ ص 488.

"ثم" بعد أن بَيَّن للصحابة حالَ صاحب القبرين أراد أن يتشفع لهما لكمال رأفته "فدعا" أي طلب يقال: دعوت الناس إذا طلبتهم. أفاده في المصباح، ولعل الباء في المفعول زائدة، أو على تضمين دعا معنى فعل يتعدى بالباء أي أمر الخ.

ويقال فيه: دعيته بالياء لغة في دعوته أفاده في "ق".

"بعسيب" بفتح العين وكسر السين المهملتين بوزن كريم الجريدة التي لم ينبت فيها خوص وان نبت فهي السعفة كقصبة.

وفي "ق" العسيب جريدة من النخل مستقيمة دقيقة يُكشَط خُوصها والذي لم ينبت عليه الخُوص من السَّعَف اهـ.

والسعف كقصب جمع سعفة كقصبة: أغصان النخل ما دامت بالخوص، فإن زال الخوص عنها قيل جريدة. أفاده في المصباح.

والخوص بالضم: ورق النخل الواحدة خوصة. أفادة في المصباح أيضا.

"رطب" بفتح فسكون خلاف اليابس.

قال في الفتح: وقيل أنه خص الجريد بذلك لأنه بطيء الجفاف، ورَوَى النسائي من حديث أبي رافع بسند ضعيف أن الذي أتاه بالجريدة

ص: 508

بلال، ولفظه "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة إذ سمع شيئا في قبر، فقال لبلال: ائتني بجريدة خضراء" الحديث. وفي حديث أبي بكرة عند أحمد والطبراني أنه الذي أتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

"فشقه باثنين" أي فأتي بها فكسرها، وجعلها اثنين فالباء زائدة للتأكيد، واثنين مفعول مطلق، أي شقه شقين اثنين أي نصفين، وقال النووي: حال، يقال شقه شقا من باب قتل، والشِّق بالكسر نصف الشيء قاله في المصباح، وفي رواية البخاري "فكسرها كسرتين".

"فغرس" أي غرز بالزاى كما في رواية للبخاري، وفي رواية له "فوضع" والأولى أخص "على هذا" القبر "واحدا" من الشقين "وعلى هذا" القبر واحدا منهما.

وموضع الغرس كان بإزاء الرأس، لما وقع في مسند عبد بن حميد من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش "ثم غرز عند رأس كل واحد منهما قطعة، قاله في الفتح جـ 1/ ص 382.

"ثم" بعد أن غرس "قال" صلى الله عليه وسلم لما قيل له لم صنعت هذا؟ كما في رواية البخاري "لعله" يخفف، ووقع في رواية البخاري وغيره "أن يخفف" قال ابن مالك: يجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن وجاز تفسيره بأن وصلتها لأنها في حكم جملة لاشتمالها على مسند ومسند إليه، قال: ويحتمل أن تكون زائدة مع كونها ناصبة كزيادة الباء مع كونها جارة، انتهى.

وقال الكرماني: شبه لعل بعسى فأتى بأن في خبره.

"يخفف" بالبناء للمفعول أي العذاب "عنهما" أي عن المقبورين.

"ما" مصدرية ظرفية "لم ييبسا" أي يجف العودان، يقال: يبس،

ص: 509

ييبس من باب تعب، وفي لغة بالكسر فيهما إذا جف بعد رطوبة، فهو يابس، وشيء يَبْس ساكن الباء بمعني يابس أيضا. أفاده في المصباح.

والمعنى: يخفف العذاب عنهما مدة عدم يبس الشقين.

وفي رواية البخاري "ما لم تيبسا" قال الحافظ كذا في أكثر الروايات بالمثناة الفوقانية أي الكسرتان، وللكشميهني "إلا أن تيبسا" بحرف الاستثناء، وللمستملي "إلى أن ييبسا" بإلى التي للغاية والياء التحتانية أي العودان.

"خالفه" أي الأعمشَ "منصور" بن المعتمر "رواه" أي الحديث جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، وهو ما كان جوابا لسؤال مقدر، كأنه قيل له: وما وجه المخالفة؟ فقال: رواه "عن مجاهد" بن جبر "عن ابن عباس ولم يذكر طاوسا" يعني أنه رواه عنه بدون واسطة.

يريد المصنف رحمه الله أن هذا الحديث رُوي عن ابن عباس من طريقين أحدهما من طريق الأعمش، وهي بواسطة مجاهد، والثاني من طريق منصور وهي من دون واسطة، وقد أخرجه البخاري من الطريقين جميعا.

قال الحافظ رحمه الله: وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده، فيحمل على أن مجاهدا سمعه من طاوس عن ابن عباس ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وصرح ابن حبان بصحة الطريقين معا اهـ فتح، جـ 1/ ص 379.

وقال الترمذي: رواية الأعمش أصح، وقال في العلل: سألت محمدا يعني البخاري أيهما أصح؟ فقال: رواية الأعمش أصح.

ص: 510

قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله: فإن قيل إذا كان حديث الأعمش أصح فلم لم يخرجه وخرج الذي غير صحيح يعني فلم لم يكتف بإخراج حديث الأعمش فقط؟ قيل: كلاهما صحيح وحديث

الأعمش أصح، فالأصح يستلزم الصحيح على ما لا يخفى اهـ عمدة جـ 2/ ص 430.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته هذا الحديث متفق عليه.

"المسألة الثانية": في بيان مواضع ذكر المصنف له، وذكر من أخرجه معه:

أخرجه المصنف: هنا عن هناد، عن وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، وأخرجه في التفسير في الكبرى من هذا الوجه، وفي الجنائز عن هناد، عن أبي معاوية بالسند المذكور.

وأخرجه البخاري: في الجنائز عن يحيى بن يحيى، وفي الطهارة عن محمَّد بن المثنى، وفي الأدب عن يحيى، كلاهما عن وكيع، وفي الجنائز أيضا عن قتيبة، وفي الحج عن علي، كلاهما عن جرير، ثلاثتهم عن الأعمش عنه به. قاله المزي في التحفة ج 5/ ص 302.

لكن كتب الحافظ في النكت عند قوله عن يحيى بن يحيى ما نصه: قلت: الذي في الأصول: حدثنا يحيى فقط فجزم ابن السكن بأنه ابن موسى، وجزم أبو نعيم في المستخرج بأنه ابن جعفر، وكتب عند قوله

في الحج عن علي، عن جرير، قلت: لم أره في الحج اهـ.

وأخرجه مسلم: في الطهارة عن أبي سعيد الأشج، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيع بالسند المذكور.

ص: 511

وعن أحمد بن يوسف الأزدي عن معلي بن أسد، عن عبد الواحد ابن زياد، عن الأعمش به.

وأخرجه أبو داود: في الطهارة عن زهير بن حرب، وهناد بن السري كلاهما عن وكيع به.

وأخرجه الترمذي: في الطهارة عن قتيبة، وهناد، وأبي كريب، ثلاثتهم عن وكيع به.

قال الترمذي: وروى منصور هذا الحديث عن مجاهد، عن ابن عباس، ورواية الأعمش أصح اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: وأشار المصنف إلى هذا في آخر الحديث، وسنتكلم عليه إن شاء الله هناك.

وأخرجه ابن ماجه: في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، ووكيع به. قاله في التحفة، جـ 5/ ص 302.

وأخرجه أحمد، والبيهقي اهـ المنهل، جـ 1/ ص 84

"المسألة الثالثة": فيمن أتى بالعسيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفتح: رَوَى النسائي من حديث أبي رافع بسند ضعيف أن الذي أتاه بالجريدة بلال، ولفظه "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة إذ سمع شيئا في قبر، فقال لبلال: ائتني بجريدة خضراء" الحديث. وقد مر آنفا.

وفي حديث أبي بكرة عند أحمد والطبراني أنه الذي أتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين فهو في قصة أخرى غير هذه، فالمغايرة بينهما من أوجه.

منها: أن هذه كانت في المدينة وكان معه صلى الله عليه وسلم جماعة، وقصة جابر

ص: 512

كانت في السفر، وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده.

ومنها: أن في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين.

وفي حديث جابر "أنه صلى الله عليه وسلم أمر جابرا بقطع غصنين من شجرتين كان النبي صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرا فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وأن جابرا سأله عن ذلك؟ فقال: "إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين" ولم يذكر في قصة جابر أيضا السبب الذي كان يعذبان به، ولا الترجي الذي في قوله لعله، فبان تغاير حديث ابن عباس، وحديث جابر، وأنهما كانا في قصتين مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك.

وقد روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر، فوقف عليه، فقال: ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه" فيحتمل أن تكون هذه قصة ثالثة، ويؤيده أن في حديث أبي رافع كما تقدم "فسمع شيئا في قبر" وفيه "فكسرها باثنين، ترك نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه"، وفي قصة الواحد جعل نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه، وفي قصة الاثنين جعل على كل قبر جريدة اهـ فتح، جـ 1/ ص 382.

"المسألة الرابعة": في قوله "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا".

قال في الفتح: قال المازري: يحتمل أن يكون أوحي إليه أن العذاب يخفف عنهما هذه المدة انتهى، وعلى هذا فلعل هنا للتعليل، قال: ولا يظهر له وجه غير هذا، وتعقبه القرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف الترجي، كذا قال، ولا يرد عليه ذلك إذا حملناها على التعليل.

قال القرطبي: وقيل إنه شفع لهما هذه المدة كما صرح به في حديث

ص: 513

جابر، لأن الظاهر أتى القصة واحدة وكذا رجح النووي كون القصة واحدة، وفيه نظر لما أوضحنا من المغايرة بينهما.

وقال الخطابي: هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة لا أن في الجريدة معنى يخصه، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس، قال: وقد قيل: إن المعنى فيه أنه يسبح ما دام رطبا فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فيطرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها، وكذلك فيما فيه بركة الذكر وتلاوة القرآن من باب أولى

(1)

اهـ.

وقال الطيبي: الحكمة في كونهما ما دامتا رطبتين تمنعان العذاب يحتمل أن تكون غير معلومة لنا كعدد الزبانية.

"المسألة الخامسة": قد استنكر الخطابي ومن تبعه وضع الناس الجريد ونحوه على القبر عملا بهذا الحديث.

قال الطرطوشي: لأن ذلك ببركة يده، وقال القاضي عياض: لأنه علل غرزهما على القبر بأمر مغيب، وهو قوله ليعذبان.

قال الحافظ: قلت: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا؟ أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب أن لو عُذِّبَ كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا؟ أن لا ندعو له بالرحمة، وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة بل يحتمل أن يكون أمر به، وقد تأسى بريدة بن الحصيب الصحابي بذلك فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان كما سيأتي في الجنائز وهو أولى أن يتبع من غيره اهـ فتح جـ 1/ ص 383.

قال الجامع عفا الله عنه: وقد اعترض عليه العلامة العيني في قوله

(1)

قوله: من باب أولى، هذا غير صحيح، فالأولى ما يأتي للخطابي ومن تبعه، كما سنقرره إن شاء الله تعالى.

ص: 514

وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الخ بأنه قد صرح في الحديث بأنه دعا بجريدتين فكسرهما فوضع على كل قبر منهما كسرة فهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم وضعه بيديه الكريمتين، ودعوى احتمال الأمر لغيره به بعيدة وهي كدعوي احتمال مجيء غلام زيد في قولك جاء زيد، ومثل هذا الاحتمال لا يعتد به اهـ عمدة، جـ 2/ ص 437.

قال الجامع عفا الله عنه: قلت: الذي قاله الخطابي ومن تبعه من استنكار وضع الجريدة ونحوها على القبر هو الذي يترجح عندي، لأنه أمر يختص به الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث كونه مغيبا لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالوحي ومن حيث بركة يده كما علله الخطابي وعياض بذلك.

وأما ما قاله الحافظ: لا يلزم من كوننا الخ فغير صحيح لأن الدعاء أمرنا به أطلعنا على التعذيب أم لا؟ لأنه ليس معللا بالتعذيب بخلاف وضع الجريدة، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا لكل ميت وأمر به، بخلاف غرزها، فإنه ما فعله إلا لأشخاص معينين

(1)

معللا ذلك بما ذكر، ولأنه اقتدى به الصحابة ومن بعدهم على الدعاء بخلاف غرزها فما نقل إلا عن بريدة رضي الله عنهم أجمعين فهو قياس مع الفارق.

وأما قوله: وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده فقد علمت جوابه في كلام العلامة بدر الدين العيني من أن السياق صريح في ذلك فتأمل والله أعلم، وقال في المنهل، جـ 1 / ص 83:

ويدل على ذلك أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة غير بريدة، ولا سيما الخلفاء الراشدون أنه وضع جريدا ولا غيره على القبور، ولو كان سنة ما تركه أولئك الأئمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء

(1)

هذا إذا قلنا: إن الصحيح تعدد الواقعة، أي في حديث ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، كما تقدم.

ص: 515

الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ". الحديث رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وابن حبان في صحيحه. ووصية بريدة رضي الله عنه ليست حجة على غيره كما هو معلوم، فما قاله الخطابي ومن معه هو الأولى ولا سيما أن غالب الناس اعتقد في وضع الجريد ونحوه اعتقادا تأباه الشريعة المطهرة كما هو معروف من حالهم ونطقهم اهـ المنهل، جـ 1/ ص 84.

"المسألة السادسة": قدمنا عن الحافظ أنه لم يعرف اسم المقبورين وأنه كان ذلك عن عمد من الرواة قصدا للستر، وأنه لا ينبغي الفحص عن مثل هذا.

قال: وما حكاه القرطبي في التذكرة وضعفه عن بعضهم أن أحدهما سعد بن معاذ فهو قول باطل لا ينبغي ذكره إلا مقرونا ببيانه، ومما يدل على بطلان الحكاية المذكورة أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر دفن سعد بن معاذ كما ثبت في الحديث الصحيح.

وأما قصة المقبورين ففي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم "من دفنتم اليوم ها هنا" فدل على أنه لم يحضرهما.

وإنما ذكرت هذا ذبًا عن هذا السيد الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيدا، وقال لأصحابه "قوموا إلى سيدكم"، وقال:"إن حكمه قد وافق حكم الله"، وقال:"إن عرش الرحمن اهتز لموته"، إلى غير ذلك من مناقبه الجليلة خشية أن يغتر ناقص العلم بما ذكره القرطبي، فيعتقد صحة ذلك وهو باطل.

وقد اختلف في المقبورين: فقيل: كانا كافرين وبه جزم أبو موسى المديني، واحتج بما رواه من حديث جابر بسند فيه ابن لهيعة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما

ص: 516

يعذبان في البول والنميمة"، قال أبو موسى: هذا وإن كان ليس بقوي لكن معناه صحيح، لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنى ولكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه، فشفع لهما إلى المدة المذكورة.

وجزم ابن العطار في شرح العمدة بأنهما كانا مسلمين، وقال: لا يجوز أن يقال: إنهما كانا كافرين لأنهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب ولا ترجَّاه لهما ولو كان ذلك من خصائصه لبينه يعني كما في قصة أبي طالب.

قال الحافظ: قلت: وما قاله أخيرا هو الجواب، وما طالب به من البيان قد حصل، ولا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية، لكن الحديث الذي احتج له أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه سبب التعذيب فهو من تخليط ابن لهيعة، وهو مطابق لحديث جابر الطويل الذي قدمناه أن مسلما أخرجه واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهر.

وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين، ففي رواية ابن ماجه "مرَّ بقبرين جديدين" فانتفى كونهما في الجاهلية، وفي حديث أبي أمامة عند أحمد "أنه صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع فقال من دفنتم اليوم هنا" فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين لأن البقيع مقبرة المسلمين والخطاب للمسلمين، مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه مَنْ هو منهم، ويقوي كونهما كانا مسلمين رواية أبي بكرة عند أحمد، والطبراني بإسناد صحيح "يعذبان وما يعذبان في كبير، بلى وما يعذبان إلا في الغيبة والبول" فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف اهـ فتح جـ 1/ ص 384.

ص: 517

"المسألة السابعة": في هذا الحديث إثبات عذاب القبر:

قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله: فيه أن عذاب القبر حق يجب الإيمان به والتسليم له، وعلى ذلك أهل السنة والجماعة، خلافا للمعتزلة ولكن ذكر القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في كتاب الطبقات تأليفه إن قيل: إن مذهبكم أداكم إلى إنكار عذاب القبر، وهذا قد أطبقت عليه الأمة، قيل: إن هذا الأمر إنما أنكره أولا ضرار بن عمرو، ولما كان من أصحاب واصل ظنوا أن ذلك مما أنكرته المعتزلة وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان: أحدهما يُجَوّز ذلك كما وردت به الأخبار، والثاني يقطع بذلك وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما ينكرون قول جماعة من الجَهَلة: إنهم يعذبون وهم موتى، ودليل العقل يمنع من ذلك، وبنحوه ذكره أبو عبد الله المرزباني في كتاب الطبقات تأليفه.

وقال القرطبي: إن الملحدة ومن يذهب مذهب الفلاسفة أنكروه أيضا والإيمان به واجب لازم حسب ما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم أن الله يحيى العبد، ويرد إليه الحياة والعقل، وهذا نطقت به الأخبار، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك يكمل العقل للصغار ليعلموا منزلتهم

وسعادتهم، وقد جاء أن القبر ينضم عليه كالكبير.

وصار أبو هُذَيل، وبشر إلى: أن من خرج عن سمة الإيمان فإنه

يعذب بين النفختين، وإنما المسألة إنما تقع في تلك الأوقات وأثبت البلخي والجبائي، وابنه عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه للكافرين والفاسقين، وقال بعضهم: عذاب القبر جائز، وأنه يجري على الموتى من غير رد روحهم إلى الجسد، وأن الميت يجوز أن يتألم ويحس، وهذا مذهب جماعة من الكرَّامية، وقال بعض المعتزلة: إن

ص: 518

الله تعالى يعذب الموتى في قبورهم، ويحدث الآلام، وهم لا يشعرون، فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام كالسكران والمغشي عليه، إن ضُربوا لم يجدوا ألما، فإذا عاد عقلهم إليهم وجدوا تلك الآلام، وأما باقي المعتزلة مثل ضرار بن عمرو وبشر المريسي ويحيى بن كامل، وغيرهم، فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلا، وهذه الأقوال كلها فاسدة تردها الأحاديث الثابتة وإلى الإنكار أيضا ذهب الخوارج، وبعضى المرجئة

ثم المعذب عند أهل السنة والجماعة الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إلى جسده، أو إلى جزئه، وخالف في ذلك محمَّد بن جرير، وطائفة، فقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهذا أيضا فاسد اهـ عمدة القاري جـ 2/ ص 434.

قال الجامع عفا الله عنه: في قولهم: إن المعذب الجسد بعينه أو بعضه ليس دليل قاطع فيه، بل الأدلة مطلقة، كلما أفاده الحافظ في الفتح في الجنائز جـ 3/ ص 275.

وقد جاء في عذاب القبر أحاديث كثيرة:

منها. حديث الباب ..

ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها "أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر، قالت عائشة فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: نعم عذاب القبر حق، قالت: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر" رواه الشيخان.

ومنها: حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الموتى ليعذبون في قبورهم حتى إن البهائم لتسمع أصواتهم" رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن.

ص: 519

ومنها: حديث أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر" رواه مسلم.

"المسألة الثامنة": في الحديث دلالة على نجاسة بول الإنسان قليله وكثيره، وهو مذهب عامة الفقهاء، وليس فيه دليل على نجاسة بول الحيوان مطلقا من مأكول اللحم وغيره كما ذهب إليه الشافعي والحنفية ونسبه ابن حزم لجماعة من السلف.

قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال: أراد البخاري أن المراد بقوله في رواية الباب "كان لا يستتر من البول" بول الناس، لا بول سائر الحيوان، فلا يكون فيه حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان، وكأنه "يعني ابن بطال" أراد الرد على الخطابي حيث قال فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها، ومحصل الرد أن العموم في رواية "من البول" أريد به الخصوص، لقوله في الرواية الأخرى "من بوله" أو الألف واللام عوض عن الضمير، لكن يلتحق ببوله بول من هو في معناه من الناس لعدم الفارق، وكذا غير المأكول، وأما المأكول فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بنجاسة بوله ولمن قال بطهارته حجج أخرى اهـ بتصرف، المنهل جـ 1/ ص 82.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله، بعد ما ذكر ما نقلناه عن الفتح ما نصه:

والظاهر طهارة الأبوال والأزبال من كل حيوان يؤكل لحمه تمسكا بالأصل، واستصحابا للبراءة الأصلية، والنجاسةُ حكم شرعي ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة فلا يقبل قول مدعيها إلا بدليل يصلح للنقل عنهما، ولم نجد للقائلين بالنجاسة دليلا كذلك، وغاية ما جاؤا به حديث صاحب القبر، وهو مع كونه مرادا به الخصوص كما

ص: 520

سلف عمومٌ ظني الدلالة لا ينهض على معارضة تلك الأدلة المعتضدة بما سلف.

قال: فإن قلت: إذا كان الحكم بطهارة بول ما يؤكل لحمه وزبله لما تقدم حتى يرد دليل فما الدليل على نجاسة بول غير المأكول وزبله على العموم.

قلت: قد تمسكوا بحديث "إنها ركس" قاله صلى الله عليه وسلم في الروثة أخرجه البخاري والترمذي والنسائي، وبما تقدم في بول الآدمي وألحقوا سائر الحيوانات التي لا تؤكل به بجامع عدم الأكل وهو لا يتم إلا بعد تسليم أن علة النجاسة عدم الأكل، وهو منتقض بالقول بنجاسة زبل الجلالة، والدفع بأن العلة في زبل الجلالة هو الاستقذار منقوض باستلزامه لنجاسة كل مستقذر كالطاهر إذا صار منتنا إلا أن يقال: إن زبل الجلالة هو محكوم بنجاسته لا للاستقذار، بل لكونه عين النجاسة الأصلية التي جلتها الدابة، لعدم الاستحالة التامة.

وأما الاستدلال بمفهوم حديث "لا بأس ببول ما يؤكل لحمه" فغير صالح لضعفه، حتى قال ابن حزم: إنه خبر باطل موضوع؛ لأن في رجاله سَوَّار بن مصعب، وهو متروك عند جميع أهل النقل، متفق على

ترك الرواية عنه، يروي الموضوعات.

فالذي يتحتم القول به في الأبوال والأزبال هو الاقتصار على نجاسة بول الآدمي وزبله والروثة، وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير ولكنه زاد ابن خزيمة في روايته "إنها ركس إنها روثة حمار".

وأما سائر الحيونات التي لا يؤكل لحمها فإن وجدت في بول بعضها أو زبله ما يقتضي إلحاقه بالمنصوص عليه طهارةً أو نجاسةً ألحقته، وإن لم

ص: 521

تجد فالمتوجه البقاء على الأصل، والبراءة كما عرفت اهـ كلام الشوكاني نيل جـ 1/ ص 85.

قال الجامع: هذا الذي قاله الشوكاني هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.

"المسألة التاسعة": في الحديث دليل على وجوب الاستنجاء، إذ هو المراد بعدم الاستتار من البول فلا يجعل بينه وبين البول حجابا من ماء أو حجارة ويبعد أن يكون المراد الاستتار عن الأعين.

وقال ابن بطال: معناه لا يستتر جسده ولا ثوبه من مماسة البول ولما عذب على استخفافه بغسله وبالتحرز عنه دل على أن من ترك البول في مخرجه ولم يغسلها أنه حقيق بالعذاب، وقال البغوي فيه وجوب الاستتار عند قضاء الحاجة عن أعين الناس.

قال العيني: هذا رد على من قال: ويبعد أن يكون المراد الاستتار عن الأعين، ولكن كلاهما واجب على ما لا يخفى، والتحقيق هو المعنى الأول لظهور ألفاظ روايات الحديث عليه اهـ جـ 2/ ص 435. باختصار.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 522

‌28 - باب البول في الإناء

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية البول في الإناء، والإناء والآنية: الوعاء، والأوعية وزنا ومعنى، والأواني جمع الجمع. قاله في المصباح.

والمناسبة بين البابين واضحة لأن كلا منهما في البول.

32 -

أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَتْنِي حُكَيْمَةُ بِنْتُ أُمَيْمَةَ، عَنْ أُمِّهَا أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ، قَالَتْ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدَحٌ مِنْ عَيْدَانٍ يَبُولُ فِيهِ، وَيَضَعُهُ تَحْتَ السَّرِيرِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

"أيوب بن محمَّد الوزَّان" مولى ابن عباس الربعي، عن ابن عيينة، ومروان بن معاوية. وعنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ووثقه النسائي. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين، وذكر الشيرازي أنه الذي يلقب بالقُلْب

(1)

وقال هما واحد، اهـ صه وفي (ت) أيوب بن محمَّد بن زياد الوزان، أبو محمَّد الرقي، ثقة، من العاشرة.

(1)

القلب بضم القاف وسكون اللام بعدها موحدة اهـ تقريب.

ص: 523

فائدة: الوَزَّان بفتح الواو والزاي المشددة هذه النسبة لجماعة يزنون الأشياء قال في اللباب: وبيت الوزان بالرّىّ بيت العلم والفضل، أولهم أبو سعد عبد الكريم بن أحمد الوَزَّان الرازي أصله من ساوة، سكن الري كان بعض أجداده يزن، فنسب إليه. اهـ.

وكتب في هامش الخلاصة: ما نصه: كان يزن القطن في الوادي. اهـ تهذيب

2 -

"حجاج" بن محمَّد مولي سليمان بن مجالد البغدادي الحافظ الأعور، أبو محمَّد المصِّيصي بكسر فتشديد، روى عن شعبة، وابن جريج، والليث بن سعد، وحمزة الزيات، وطائفة. وعنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وقتيبة، ويحيى بن يحيى، وغيرهم.

قال أبو داود: بلغني أن يحيى كتب عنه نحوا من خمسين ألف حديث، ووثقه ابن المديني، والنسائي، والعجلي، وابن قانع، وسلمة بن قاسم، وابن حبان.

مات ببغداد في ربيع الأول سنة 206 قال ابن سعد وكان تغير في آخر عمره، وكان ثقة صدوقا، وقال الحربي: منع يحيى بن معين ابنه أن يدخل عليه أحدًا بعد أن اختلط. اهـ صه بزيادة. روى له الجماعة. من الطبقة التاسعة.

3 -

"ابن جريج" عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي ثقة فقيه فاضل كان يدلس ويرسل، مات سنة خمسين ومائة، أو بعدها، وقد جاوز سبعين، وقيل جاوز المئة ولم يثبت، من السادسة.

4 -

"حكيمة بنت أميمة" بنت رقيقة كلهن بالتصغير واسم أبيها حكيم، نقل الذهبي أنها لم ترو إلا عن أمها ولم يرو عنها سوى ابن جريج، ذكرها ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب: إنها غير

ص: 524

معروفة من السادسة. اهـ المنهل جـ 1 / ص 95، لكن في المناوي قال: ولم يذكرها ابن حبان في الثقات فليحرر.

قال الجامع: بل ذكرها في الجزء الرابع ص 195.

5 -

"أميمة بنت رقيقة" بنت عبد ويقال عبد الله بن بجاد بن عمير بن

الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.

ورقيقة أمها وهي رقيقة بنت خويلد بن أسد أخت خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: رقيقة بنت صيفي بن هاشم بن عبد مناف أم مخرمة بن نوفل اهـ تحفة الأشراف جـ 11/ ص 864.

وفي المنهل ورقيقة أمها بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف أخرج أبو نعيم في ترجمتها تبعا للطبراني حديث ابن جريج عن حكيمة بنت أميمة عن أمها أميمة بنت رقيقة "قالت كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه" الحديث خلافا لما قاله ابن منده من أن أمها رقيقة بنت خويلد ولابن السكن القائل أنهما واحدة روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أزواجه، وروى عنها محمَّد بن المنكدر وابنتها حكيمة، روى لها أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه، وكانت ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة النساء، روى الترمذي، وغيره من طريق ابن عيينة، عن محمَّد بن المنكدر، أنه سمع أميمة بنت رقيقة تقول: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فقال لنا: "فيما استطعتن وأطقتن" قلن: الله ورسوله أرحم منا بأنفسنا. اهـ، 1/ 96.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته ما بين رَقّي أيوب، وبغدادي، حجاج، ومكي ابن جريج، ومدنيتين، وهما: حكيمة ورقيقة.

ص: 525

وفيه من صيغ الأداء: الإخبارُ، والتحديثُ، والقولُ، والعنعنةُ، وفيه رواية المرأة عن أمها.

شرح الحديث

"عن أميمة بنت رقيقة" رضي الله عنها أنها "قالت كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح" بفتحتين إناء يكون من خشب أو غيره جمعه أقداح اهـ المنهل وفي "ق" آنية تُروي الرجلين، أو اسم يجمع الصغار والكبار. اهـ "من عيدان" بفتح العين المهملة وسكون المثناه التحتية جمع عيدانة هي الطوال من النخيل المتجردة من السعف.

وفي "ق" والعيدان بالفتح الطوال من النخل واحدتها بهاء، ومنها "كان قدح يبول فيه النبي صلى الله عليه وسلم" اهـ.

وقال الزركشي في تخريج أحاديث الرافعي: "عيدان" مختلف في ضبطه بالكسر والفتح، واللغتان بإزاء معنيين، فالكسر جمع عود، والفتح جمع عيدانة بفتح العين، قال أهل اللغة: هى النخلة الطويلة المتجردة، وهي بالكسر أشهر رواية، وفي كتاب تثقيف اللسان مَنْ كَسَرَ العين فقد أخطأ، يعني لأنه أراد جمع عود وإذا اجتمعت الأعواد لا يتأتى منها قدح يحفظ الماء، بخلاف من فتح العين، فإنه يريد قَدَحا من خشب هذه صفته يُنْقَر ليحفظ ما يجعل فيه. انتهى كلام الزركشي اهـ زهر جـ 1/ ص 32.

لكن دعوى أن الأعواد لا يتأتى منها قدح يحفظ فيه الماء غير مسلمة بل هو مُتَأتٍ وواقع كما هو مشاهد، قاله في المنهل.

وقال السندي: قلت: والجمعية غير ظاهرة على الوجهين، وإن حمل على الجنس يصح الوجهان إلا أن يقال حمل عَيدان بالفتح على الجنس أقرب لأنه مما فرق بينه وبين واحده بالتاء، ومثله يجيء للجنس،

ص: 526

بل قالوا: إن ما أصله الجنس يستعمل في الجمع أيضا فلا إشكال فيه، بخلاف العيدان بالكسر جمع عُود، وأجاب بعضهم على تقدير الكسر بأنه جمع اعتبارا للأجزاء، فارتفع الأشكال على الوجهين اهـ جـ 1/ ص 32.

قال العلامة: ابن القيم وكان يسمى يعني القدح الصادر نقله المناوي.

"يبول فيه" أي في ذلك العَيدان ذكّره باعتبار الإناء، أو لأنه اسم جنس يجوز فيه الوجهان.

"ويضعه تحت السرير" جمعه سُرُر مأخوذ من السرور؛ لأنه في الغالب لأولي النعمة. قاله الراغب، وجَعْلُه تحت السرير ليقرب تناوله، وفي رواية أبي داود تقييده بالليل، قال في المنهل: ويفهم من التقييد بالليل أن البول نهارا غير مشروع في القدح إلا لضرورة لأن الليل محل الأعذار غالبا.

وإنما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قدحا للبول رفقا بنفسه وتعليما للأمة، قال المناوي: والظاهر كما قال العراقي أن هذا كان قبل اتخاذ الكنف في البيوت فإنه لا يمكنه التباعد بالليل للمشقة، أما بعد اتخاذها فكان يقضي حاجته فيه ليلا ونهارا. اهـ. وفيه نظر؛ لأن الليل محل مشقة غالبا، فالأولى إبقاء الحديث على إطلاقه، فيجوز اتخاذ إناء للبول فيه ليلا ولو مع وجود الكنيف اهـ. عبارة المنهل جـ 1/ ص 96.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"الأولى": في درجته حديث أميمة رضي الله عنها حديث حسن.

قال العلامة المناوي ما نصه: قال عبد الحق عن الدارقطني: هذا الحديث ملحق بالصحيح جار مُجرَى مصححات الشيخين، وتعقبه ابن القطان بأن الدارقطني لم يقض فيه بصحة ولا ضعف والخبر متوقف الصحة على

ص: 527

العلم بحال الراوية، فإن ثبتت ثقتها صحت روايتها وهي لم تثبت انتهى. وفي اقتفاء السنن: هذا الحديث لم يضعفوه، وهو ضعيف، ففيه حكيمة، وفيها جهالة، فإنه لم يرو عنها إلا ابن جريج، ولم يذكرها ابن حبان في الثقات. انتهى. ونوزع بما فيه طول، والتوسط ما جزم به النووي من أنه حسن. اهـ فيض القدير جـ 5/ ص 178.

وقال في المنهل العذب: والحديث ضعيف؛ لأن فيه حكيمة، وفيها جهالة، لكنه تقوى بطرق أخرى، ولذا حسنه النووي، والحافظ ابن حجر، والمناوي في شرحه الكبير، وصححه الحاكم في مستدركه، وذكره ابن حبان في صحيحه. اهـ المنهل جـ 1/ ص 97 بتصرف يسير. والحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري.

قال الجامع: سنذكر الطرق التي أشار إليها صاحب المنهل، إن شاء الله تعالى.

"المسألة الثانية": في بيان موضعه عند المصنف، ومن أخرجه معه: أخرجه هنا 28/ 32، وفي الكبرى -34 - عن أيوب بن محمَّد الوزان، عن حجاج بن محمَّد، عن ابن جريج، عن حكيمة، عن أمها.

وأخرجه أبو داود في الطهارة عن محمَّد بن عيسى، عن حجاج بن محمَّد به، وأخرجه الحاكم وابن حبان، والبيهقي.

"المسألة الثالثة": قال الحافظ السيوطي رحمه الله: هذا يعني حديث الباب مختصر وقد أتمه ابن عبد البر في الاستيعاب فقال: "فبال ليلة فوضع تحت سريره فجاء، فهذا القدح ليس فيه شيء، فسأل المرأة -يقال لها: بركة، كانت تخدم أم حبيبة، جاءت معها من الحبشة- فقال: أين البول الذي كان في هذا القدح؟ فقالت: شربته يا رسول الله" قال الحاكم في المستدرك هذه سنة غريبة اهـ زهر جـ 1/ ص 32.

ص: 528

"المسأله الرابعة" قدمنا أن حديث الباب فيه مقال لكنه تقوي بطرق أخري ووعدنا أن نذكرها، فنقول:

أخرج الحسن بن سفيان في مسنده، والحاكم، والدارقطني، والطبراني، وأبو نعيم من حديث أبي مالك النخعي، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن أم أيمن، قالت:"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة له في جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة، فشريت ما فيها، وأنا لا أشعر فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أم أيمن قومي، فأهريقي ما في تلك الفخارة، قلت: قد والله شربت ما فيها قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده، ثم قال: أما والله إنه لا تُبْجَعَنَّ بَطْنُك أبدًا""وتبجعن بالموحدة" ورواه أبو أحمد العسكري بلفظ "ولن تشتكي بطنك".

وأبو مالك ضعيف، ونبيح لم يدرك أم أيمن.

وله طريق أخرى رواها عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرت "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره، فجاء، فإذا القدح ليس فيه شيء، فقال لامرأة يقال لها: بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة: أين البول الذي كان في القدح؛ قالت: شربته، قال: صحة يا أم يوسف -وكانت تكني أم يوسف- فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه" كذا في التلخيص الحبير، وفيه وصحح ابن دحية أنهما قضيتان وقعتا لامرأتين، وهو واضح من اختلاف السياق، ووضح أن بركة أم يوسف غير بركة أم أيمن مولاته اهـ تلخيص جـ 1/ ص 31.

"المسألة الخامسة": أنه ورد حديث يعارض حديث الباب، وهو ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند جيد كما قاله العراقي عن عبد الله بن

ص: 529

يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا ينقع البول في طست في البيت فإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه بول منتقع" وما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر قال "لا تدخل الملائكة بيتا فيه بول".

والجواب: أن المراد به طول مكثه لأنه يقال نقع الماء في منقعه نقْعًا من باب نَفَعَ: طال مكثه قاله في المصباح.

فبان أن المراد طول مكثه، وما في الإناء لا يطول مكثه بل تريقه الخدم عن قريب، ثم يعاد تحت السرير، لما يحدث أفاده المناوي، وقال مغلطاي: يحتمل أن يكون أراد كثرة النجاسة في البيت بخلاف القدح فإنه لا يحصل به نجاسة لمكان آخر. اهـ زهر، ويحمل الحديث الثاني عليه، أي بيتا فيه منتقع.

فإن قلت: يعارضه ما أخرجه أبو يعلى في مسنده، وابن أبي حاتم في العلل والعقيلي في الضعفاء، وابن عدى في الكامل، وابن السني، وأبو نعيم معا في الطب، وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه في تفسيره، والرامهرمزي في الأمثال، والمستغفري في الطب النبوي، وعثمان الدارمي في الأطعمة، عن علي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم، وليس من الشجر شجرة كرم على الله تعالى من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران، فأطعموا نساءكم الوُلَّدَ الرُّطَبَ، فإن لم يكن رطب فتمر" ووجه المعارضة أن اتخاذ القدح منها للبول ينافي الإكرام.

قلت: يجاب عن هذا بأن طرق الحديث كلها ضعيفة حتى أورده ابن الجوزي في الموضوعات.

وحكم العلامة ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة بوضعه، فلا يعارض حديث الباب، فلا يحتاج إلى طلب محامل،

ص: 530

وتأويلات؛ لأن طلب ذلك إذا كان الحديث ثابتا. فتنبه.

وعلى فرض صحته فاتخاذ القدح لا ينافي الإكرام، إذ المراد بالإكرام سقيها، وتلقيحها، ونحو ذلك، فإذا انفصلت واتخذت قدحا زال اسم النخلة عنها، أفادة العلامة المناوي في الفيض.

"المسألة السادسة": في هذا الحديث:

جواز إعداد الآنية، واتخاذها للبول فيها بالليل في البيوت بلا كراهة حيث لم يطل مكثه فيه كما قررناه آنفا.

وفيه: بول الرجل بقرب أهل بيته للحاجة.

وفيه: جواز اتخاذ السرير، وأنه لا ينافي التواضع لمسيس الحاجة.

فائدة: قال ابن قتيبة كان سريره صلى الله عليه وسلم خشبات مشدودة بالليف، بيعت في زمن بني أمية فاشتراها رجل بأربعة آلاف درهم. نقله المناوي في فيض القدير، جـ 5/ ص 178.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 531

‌29 - البول في الطست

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز البول في الطست للحاجة.

والطست: قال ابن قتيبة أصلها طَسَّ فأبدل من أحد المضعفين تاء، لثقل اجتماع المثلين؛ لأنه يقال في الجمع طسَاس، مثل سهم وسهام، وفي التصغير طُسَيْسَة وجمعت أيضا على طُسوس باعتبار الأصل، وعلى طسوت باعتبار اللفظ، قال ابن الأنباري: قال الفراء: كلام العرب طسة، وقد يقال: طس بغير هاء، وهي مؤنثة، وطيىء تقول: طست، كما قالوا في لص لصت، ونقل عن بعضهم التذكير، والتأنيث، فيقال: هو الطسّة والطست، وهي الطسّة، والطست، وقال الزجاج: التأنيث أكثر كلام العرب، وجمعها طَسَّات على لفظها، وقال السجستاني: هى أعجمية معربة، ولهذا قال الأزهري: هى دخيلة في كلام العرب، لأن التاء والطاء لا يجتمعان في كلمة عربية. اهـ المصباح المنير.

وقال في القاموس وحكى بالشين المعجمة اهـ.

33 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ، لَقَدْ دَعَا بِالطَّسْتِ لِيَبُولَ فِيهَا، فَانْخَنَثَتْ نَفْسُهُ وَمَا أَشْعُرُ فَإِلَى مَنْ أَوْصَى؟.

قَالَ الشَّيْخُ: أَزْهَرُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ السَّمَّانُ.

ص: 532

رجال الإسناد: ستة

1 -

"عمرو بن علي" الفلاس أحد شيوخ الستة البصري ثقة ثبت [10]، تقدم. في 4/ 4.

2 -

"أزهر" بن سعد الباهلي مولاهم أبو بكر السمان البصري عن سليمان التيمي، ويونس، وابن عون. وعنه ابن المديني، وإسحاق، وبندار، والذهلي. وثقه ابن سعد. مات 203 عن أربع وثمانين سنة، وفي (ت) عن 94، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. من الطبقة التاسعة.

3 -

"ابن عون" وهو عبد الله بن عون بن أرطبان "بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الطاء والباء الموحدة بعدها ألف ونون" المزني مولاهم، أبو عون الخرّاز بفتح المعجمة والمهملة البصري، أحد الأعلام عن عطاء، ومجاهد، وسالم، والحسن، والشعبي، وخلق، وعنه شعبة، والثوري، وابن علية، ويحيى القطان، وخلائق، قال ابن مهدي: ما أحد أعلم بالسنة بالعراق من ابن عون. وقال روح بن عبادة: ما رأيت أعبد منه. قال يحيى القطان: مات سنة 151 أخرج له الجماعة اهـ صه، من الطبقة السادسة. ت.

4 -

"إبراهيم" بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه، يرسل كثيرا، عن علقمة، وهمام بن الحارث، والأسود ابن يزيد، وأبي عبيدة بن عبد الله، ومسروق، عن عائشة، في أبي داود والنسائي، وابن ماجه، وخلق. وعنه الحكم، ومنصور، والأعمش وابن عون، وزبيد، وخلق، وكان لا يتكلم إلا إذا سئل، قال مغيرة: كنا نهاب إبراهيم كما يهاب الأمير، وقال الأعمش: كان إبراهيم يتوقي الشهرة، ولا يجلس إلى الأسطوانة، وقيل: إنه لم يسمع من عائشة،

ص: 533

قال أبو نعيم: مات سنة 96، وقال عمرو بن علي: سنة 5 آخر السنة، ولد سنة 50، وقيل سنة 47، أخرج له الجماعة. اهـ. صة، من الطبقة الخامسة. ت.

5 -

"الأسود" بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفي مخضرم فقيه، عن ابن مسعود، وعائشة، وأبي موسى وطائفة، وعنه إبراهيم النخعي، وابنه عبد الرحمن، وأبو إسحاق، وعمارة بن عمير، وطائفة، وثقه ابن معين، والناس.

قال إبراهيم: كان يختم القرآن في كل ليلتين، وروي أنه حج ثمانين حجة، وتوفي سنة أربع، أو خمس وسبعين. اهـ. صة من الطبقة الثانية. ت.

6 -

"عائشة" أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5.

لطائف الإسناد

فيه أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأن الثلاثة الأولين بصريون، ومن بعدهم كوفيون إلا الصحابية، فإنها مدنية، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه من صيغ الأداء: الإخبار، والعنعنة، والقول.

شرح الحديث

"عن عائشة" رضي الله عنها أنها "قالت: يقولون" أي الذين يحبون عليا، ويغلون فيه، وهم الشيعة "إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي" أي عهد إليه بالخلافة، يقال: أوصاه، ووصاه توصية: عهد إليه والاسم الوصاة والوصاية

(1)

والوصية، وهو الموصى به أيضا، والوصي

(1)

بالكسر والفتح، لغة، مصباح.

ص: 534

الموصي والموصى، وهي وصيّ أيضًا، جمعه أوصياء، ولا يثنى ولا يجمع. اهـ (ق).

وفي المصباح: وأوصيت إليه بمال: جعلته له وأوصيته بولد: استعطفته عليه، وهذا المعنى لا يقتضي الإيجاب، وأوصيته بالصلاة: أمرته بها، وعليه قوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] أي يأمركم، وفي حديث "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى بتقوى الله" معناه أمر، فيعم الأمر بأي لفظ كان نحو اتقوا الله وأطيعوا الله. اهـ.

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم جعل عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه وصيه وأمره أن يكون خليفته من بعده.

والحاصل: أنهم ذكروا عند عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بالخلافة في مرض موته فأنكرت ذلك، وقالت:"لقد دعا" صلى الله عليه وسلم "بالطست" قال في اللسان: الطست من آنية الصفر أنثى، وقد تذكر. قال الجوهري: الطست بلغة طىء أبدل من إحدى السينين تاء للاستثقال، فهذا جمعت أو صغرت رَدَدْتَّ السين؛ لأنك فصلت بينهما بألف أو ياء، فقلت: طساس وطُسَيس اهـ. وتقدم في أول الباب مستوفى.

"ليبول فيها" أي الطست لشدة مرضه "فانخنثت نفسه" أي مالت ذاته الشريفة، وفي النهاية أي فانثني، وانكسر لاسترخاء أعضائه صلى الله عليه وسلم عند الموت. اهـ. "وما أشعر" أي: أعلم. يقال: شعرت بالشيء شعورًا، من باب قعد وشعْرًا وَشعْرة بكسرهما: علمتُ. اهـ مصباح.

والجملة حال من نفسه، أي والحال أني ما أعلم بموته.

ص: 535

وفي رواية البخاري "فلقد انخنث في حجري، فما شعرت أنه قد مات""فإلى من" استفهامية للإنكار، والجار والمجرور يتعلق بقوله "أوصى" أي إلى أي شخص عهد النبي صلى الله عليه وسلم تريد بذلك الإنكار على من يقول إنه أوصى إلى علي رضي الله عنه بالخلافة في مرض موته، واستندت في نفي ذلك إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها، ولم يقع منه شيء من ذلك، فساغ لها نفي ذلك، لكونه منحصرًا في مجالس معينة لم تغلب عن شيء منها.

والحاصل: كما قال القرطبي أنه كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي، فرد عليهم جماعة من الصحابة ذلك، وكذا مَن بعدهم، فمن ذلك ما استدلت به عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث.

ومن ذلك أن عليا لم يَدَّع ذلك لنفسه، ولا بعد أن ولي الخلافة، ولا ذكره أحد من الصحابة يوم السقيفة، وهؤلاء الشيعة تنقصوا عليا من حيث قصدوا تعظيمه؛ لأنهم نسبوه مع شجاعته العظمى وصلابته في الدين إلى المداهنة، والتقية، والإعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك "قال الشيخ" يعني المصنف بيانا لشيخ شيخه "أزهر هو ابن سعد السَّمَّان" قال في اللباب: بفتح السين وتشديد الميم وفي آخره نون نسبة إلى بيع السمن وحمله. اهـ. والقائل قال الشيخ أحد تلامذته. والظاهر أنه ابن السني والله أعلم.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري.

"المسألة الثانية" في بيان موضعه عند المصنف:

ص: 536

أخرجه هنا، وفي الوصايا عن عمرو بن علي، عن أزهر بن سعد، عن ابن عون الخ، وفي الوصايا أيضا عن أحمد بن سليمان، عن عارم عن حماد بن زيد، عن ابن عون به "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عنده أحد غيري ودعا بالطست" قال أبو الحجاج المزي: كذا في رواية ابن السني أحمد بن سليمان، وفبم رواية حمزة بن محمَّد الكناني أحمد بن سفيان، وفي رواية أبي الحسن بن حيوية أحمد بن نصر. اهـ.

"المسألة الثالثة": فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري: في الوصايا عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن إسماعيل بن علية بالسند المذكور.

وأخرجه الترمذي: في الشمائل عن حميد بن مسعدة، عن سليم بن أخضر، عن ابن عون نحوه.

وأخرجه ابن ماجه في الجنائز عن أبي بكر بن أبي شيبة به، قاله المزي جـ 11/ ص 364.

"المسألة الرابعة": أن المقصود بنفي عائشة رضي الله عنها الوصية في هذا الحديث هو نفي الوصية بالخلافة إلى علي رضي الله عنه وكذا إلى غيره.

فقد أخرج أحمد، وابن ماجه بسند قوي، وصححه من رواية أرقم ابن شرحبيل، عن ابن عباس في أثناء حديث فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أبا بكر أن يصلي بالناس، قال في آخر الحديث "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص" وعن عمر رضي الله عنه "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف".

وأخرج أحمد والبيهقي في الدلائل من طريق الأسود بن قيس، عن عمرو بن أبي سفيان، عن علي أنه لما ظهر يوم الجمل قال: يا أيها الناس

ص: 537

"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئًا" الحديث ذكره الحافظ في الفتح في الوصايا، جـ 5/ ص 426.

"المسألة الخامسة" في وصيته بغير الخلافة:

قال الحافظ رحمه الله: وأما الوصايا بغير الخلافة فوردت في عدة أحاديث يجتمع منها أشياء:

منها: حديث أخرجه أحمد، وهناد بن السري في الزهد وابن سعد في الطبقات، وابن خزيمة كلهم من طريق محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي مات فيه ما فعلت الذُّهَيْبَةُ

(1)

قلت: عندي، فقال: أنفقيها" الحديث.

وأخرج ابن سعد من طريق أبي حازم، عن أبي سلمة، عن عائشة نحوه، ومن وجه آخر عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، ورد فيه "ابعثي بها إلى علي بن أبي طالب ليتصدق بها" وفي المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير عنه حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: "لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته إلا بثلاث لكل من الداريين، والرهاويين، والأشعريين بجاد

(2)

مائة وسق من خيبر، وأن لا يترك في جزيرة العرب دينان، وأن يُنَفَّذ بعث أسامة".

وأخرج مسلم في حديث ابن عباس "وأوصى بثلاث أن تجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم" الحديث.

وفي حديث ابن أبي أوفى الذي قبل هذا "أوصى بكتاب الله" وفي

(1)

تصغير ذهب، وأدخل الهاء فيها لأن الذهب يؤنث والمؤنث الثلاثي إذا صغر ألحق في تصغيره الهاء، نحو قويسة، وشميسة، وقيل: هو تصغير ذهبة على نية القطعة منها، فصغرها على لفظها.

(2)

أي بالجيم الجاد بمعنى المجدود أي نخل يجد منه ما يبلغ مائة وسق. اهـ النهاية.

ص: 538

حديث أنس عنه عند النسائي، وأحمد، وابن سعد، واللفظ له:

"كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم" وله شاهد من حديث علي عند أبي داود، وابن ماجه، وآخر من رواية نعيم بن يزيد، عن علي "وأدوا الزكاة بعد الصلاة" أخرجه أحمد، ولحديث أنس شاهد آخر من حديث أم سلمة عند النسائي بسند جيد.

وأخرج سيف بن عمر في الفتوح من طريق ابن أبي مليكة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم حَذَّرَ من الفتن في مرض موته، ولزوم الجماعة، والطاعة.

وأخرج الواقدي من مرسل العلاء بن عبد الرحمن "أنه صلى الله عليه وسلم أوصى إلى فاطمة فقال: "قولي إذا مت إنا لله وإنا إليه راجعون" وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عبد الرحمن بن عوف، قالوا: يا رسول الله أوصنا -يعني في مرض موته- فقال: "أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وأبنائهم من بعدهم" وقال: لا يروى عن عبد الرحمن إلا بهذا الإسناد، تفرد به عتيق بن يعقوب. انتهى وفيه من لا يعرف حاله.

وفي سنن ابن ماجه من حديث علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أنا مت فغسلوني بسبع قرب من بئر غَرْس

(1)

" وكانت بقباء، وكان يشرب منها.

وفي مسند البزار، ومستدرك الحاكم بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم أوصي أن يصلوا عليه أرسالا بغير إمام. اهـ فتح، جـ 5/ ص 476.

"المسألة السادسة": أشارت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث إلى رد ما أشاعته الرافضة والشيعة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي

(1)

بفتح فسكون. اهـ ق.

ص: 539

بالخلافة وأن يُوَفيّ ديونه:

فمن ذلك: ما أخرجه العقيلي وغيره في الضعفاء في ترجمة حكيم ابن جبير من طريق عبد العزيز بن مروان، عن أبي هريرة، عن سلمان أنه قال: قلت: يا رسول الله، إن الله لم يبعث نبيا إلا بين له من يلي بعده، فهل بَيّن لك؟ قال: نعم علي بن أبي طالب"، ومن طريق جرير ابن عبد الحميد عن أشياخ من قومه عن سلمان، قلت: "من وصيك؟ قال: وصيي وموضع سري، وخليفتي على أهلي، وخير من أخلفه بعدي علي بن أبي طالب، ومن طريق أبي ربيعة الإيادي عن ابن بريدة، عن أبيه رفعه "لكل نبي وصي وإن عليا وصيي وولدي" ومن طريق عبد الله بن السائب، عن أبي ذر رفعه "أنا خاتم النبيين، وعليٌّ خاتم الأوصياء" أوردها وغيرها ابن الجوزي في الموضوعات.

ومن أكاذيبهم أيضًا: ما رواه كثير بن يحيى، وهو من كبار الرافضة، عن أبي عوانة، عن الأجلح، عن زيد بن علي بن الحسين، قال: لما كان اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر قصة طويلة فيها: فدخل علي فقامت عائشة فأكب عليه فأخبره بألف باب مما يكون قبل يوم القيامة، يفتح كل باب منها ألف باب" وهذا مرسل أو معضل، وله طريق أخرى موصولة عند ابن عدي في كتاب الضعفاء، من حديث عبد الله بن عمر بسند واه، ذكرَ كلَّ هذا في الفتح بعضه في "باب آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم" جـ 7/ ص 757 وبعضه في كتاب الوصايا جـ 4/ ص 427.

"المسألة السابعة": في الحديث بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوصى بالخلافة إلى علي رضي الله عنه وإبطال قول الرافضة والشيعة.

وفيه جواز البول في الطست، ونحوه من الأواني إذا دعت إليه حاجة

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 540

‌30 - كراهية البول في الجُحْر

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على كراهية البول في الجحر.

والكراهية مصدر كرُهَ يقال: كَرُه الأمرُ والمنظرُ، كراهة، فهو كَريه مثل قَبُحَ قباحةً فهو قَبيح وَزْنا ومعنى، وكلراهية بالتخفيف أيضا، وكرهته كرهه، من باب تعب كُرْها بضم الكاف، وفتحها: ضد أحببته فهو مكروه، والكَره بالفتح المشقة، وبالضم القهر، وقيل بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة، وأكرهته على الأمر إكراها: حملته عليه قهرا يقال: فعلته كرها بالفتح، أي إكراهًا، وعليه قوله {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: آية 11] فقابل بين الضدين قال الزجاج كل ما في القرآن من الكره بالضم فالفتح فيه جائز إلا قوله في سورة البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: آية 216] والكريهة الشدة في الحرب اهـ المصباح.

والجحر: بالضم كل شيء تحتفره الهَوَامُّ والسباع لأنفسها كالجُحران جمعه جحرة، وأجحار. اهـ قاموس، وقال: والجَحر بالفتح: الغار البعيد القعر. اهـ.

وفي المصباح: الجُحْر للضب، واليربوع، والحية، والجمع: جحَرَة مثل عنَبَة. اهـ.

34 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي جُحْرٍ".

ص: 541

قَالُوا لِقَتَادَةَ: وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ؟ قَالَ: يُقَالُ: إِنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

"عبيد الله بن سعيد" بن يحيى اليشكري أبو قُدامة السرخسي نزيل نيسابور ثقة مأمون سني من العاشرة مات سنة 241 تقدم-15/ 15

2 -

"معاذ بن هشام" الدستوائي البصري نزيل اليمن، عن أبيه، وشعبة، وجماعة، وعنه ابن المديني، وإسحاق الكوسج، قال ابن معين: صدوق ليس بحجة، وقال ابن عدي له حديث كثير ربما يغلط، وأرجو أنه صدوق، مات سنة مائتين وأخرج له الجماعة اهـ (خ). صه من الطبقة [9].

3 -

"أبو معاذ" هو هشام بن أبي عبد الله سَنبر وزان جعفر، أبو بكر البصري ثقة ثبت وقد رمى بالقدر، من كبار [7] تقدم. في 24/ 25.

4 -

"قتادة" بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري الأكمه أحدا لأئمة الأعلام حافظ مدلس، روى عن أنس، وابن المسيب، وابن سيرين، وخلق، وعنه أيوب، وحميد، وحسين المعلم، والأوزاعي، وشعبة، وعلقمة، قال ابن المسيب: ما أتانا عراقي أحفظ من قتادة، وقال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس، وقال ابن مهدي: قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد، قال حماد بن زيد: توفي سنة سبع عشرة ومائة، وقد احتج به أرباب الصحاح. رأس الطبقة الرابعة.

5 -

"عبد الله بن سَرْجس" بفتح أوله وكسر الجيم، المزني، حليف

ص: 542

بني مخزوم، البصري صحابي له سبعة عشر حديثا، انفرد به مسلم بحديث، وعنه عثمان بن حكيم، وعاصم الأحول، وقتادة، أخرج له مسلم والأربعة. اهـ صة. بزيادة.

لطائف الإسناد

منها: أنه مسلسل بالبصريين إلا شيخ المصنف فإنه سرخسي، ثم نيسابوري، وأنه من خماسياته، وفيه من صيغ الأداء الإخبار، والإنباء والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

"عن عبد الله بن سرجس" بمنع الصرف للعلمية والعجمة على وزن نَرجس، قال الزركشي: وليس في كلام العرب فَعْلل بكسر اللام، لأن هذا الوزن مختص بالأمر من الرباعي، وأما نَرْجس فنونه زائدة، وإن

كان عربيا.

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: صحابي صحيح السماع من حديثه عند مسلم وغيره "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فأكلت معه خبزا ولحما ورأيت الخاتم" الحديث وفيه "فقلت استغفر لي يا رسول الله" وقال البخاري وابن حبان: له صحبة اهـ المنهل، جـ 1/ ص 114.

"أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يبولن" بنون التأكيد "أحدكم في جحر" بضم الجيم وسكون الحاء المهملة في الأصل ما تحتفره السباع والهوام لأنفسها وتقدم بأبسط من هذا في أول الباب.

والمراد به في الحديث الشَّقُّ في الحائط أو في الأرض أوغيرهما. ومثل البول الغائطُ بل هو أولى، ومحل النهي ما لم يكن مُعَدًا لذلك. أفاده في المنهل، جـ 1 / ص 114.

ص: 543

قال هشام الدستوائي: " قالوا" أي الجماعة الحاضرون عند تحديث قتادة بهذا الحديث لهم "لقتادة" مستفهمين عن سبب كراهة البول في الجحر "وما يكره من البول في الجحر؟ " ما استفهامية ويكره بضم أوله مبنيا للمفعول أي يبغض، ومن زائدة، والبول نائب الفاعل، أي قالوا: لأي شيء يكره البول في الجحر؟ فالاستفهام إنما هو عن سبب كراهة البول في الجحر أفاده في المنهل.

وقال السندي: الظاهر أن ما موصولة مبتدأ والخبر مقدر، أي لماذا، إذ الظاهر أن السؤال عن سبب الكراهة. اهـ "قال" قتادة جوابا عن هذا الاستفهام "يقال: إنها" أي جنس الجُحْر، ولذلك قال "مساكن الجن" بصيغة الجمع، والتأنيث لمراعاته الخبر. قاله السندي.

وقال الشيخ ولي الدين: أعاد الضمير على الجحر، وهو يدل على أنه مؤنث، ويحتمل أن يريد الجحَرَة التي هي جمعه، وإن لم يتقدم ذكرها. اهـ.

وفي المنهل ما نصه: والضمير في إنها يحتمل أن يكون عائدًا على الأجحار المفهومة من السياق بدليل الجمع في قوله مساكن، ويحتمل أن يكون عائدا على الجحر بمعني الفرجة، وجمع الخبر باعتبار الجنس اهـ.

والمساكن: جمع مسكن بفتح الكاف وكسرها البيت.

والجن: بكسر الجيم ومثله الجنَّة خلاف الإنسان، والجان الواحد من الجن، وهو الحيَّةُ البيضاء أيضا قاله في المصباح.

والمراد بالجن هنا كل ما هو مستور عن أعين الناس، لا خصوص أحد الثقلين، فيشمل الحشرات والهوام، والجن في الأصل ضد الإنس، مأخوذ من الاجتنان وهو الاستتار، سموا بذلك لاستتارهم عن أعين الناس، وهو اسم جنس واحده جني اهـ المنهل.

ص: 544

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته هذا الحديث صححه ابن السكن وابن خزيمة، قال الحافظ في التلخيص: وقيل إن قتادة لم يسمع من عبد الله ابن سرجس، حكاه حرب، عن أحمد، وأثبت السماع منه علي بن عبد الله المديني اهـ، جـ 1/ ص 106 وضعف الحديث الشيخ الألباني بعنعنة قتادة. وقال في البدر المنير: ثبت سماع قتادة من ابن سرجس، وقال المنذري: رجال إسناده ثقات. وقال الطبراني: سمعت محمَّد بن أحمد بن البراء، قال علي بن المديني: سمع قتادة من ابن سرجس، وعن أبي حاتم، لم يلق قتادة من الصحابة إلا أنسا، وعبدُ الله بن سرجس، وقال الحاكم: إن الحديث صحيح على شرط الشيخين اهـ. المنهل باختصار جـ 1/ ص 166.

قال الجامع: علة الحديث كما سبق عن الشيخ الألباني عنعنة قتادة. والله أعلم.

"المسألة الثانية": في بيان موضع ذكر المصنف له:

أخرجه المصنف هنا عن عبيد الله بن سعيد السرخسي، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن عبد الله بن سرجس، وفي الكبري رقم 30 بالسند المذكور.

"المسألة الثالثة": فيمن أخرجه معه:

أخرجه أبو داود في الطهارة أيضا عن عبيد الله بن عمر القواريري، عن معاذ بن هشام، عن أبيه بالسند المذكور. اهـ تحفة الأشراف جـ 4/ ص 350.

وأخرجه أحمد، والحاكم، وكذا البيهقي مطولا بلفظ "لا يبولن

ص: 545

أحدكم في الجُحر وإذا نمتم فأطفئوا السراج، فإن الفأرة تأخذ الفتيلة فتحرق على أهل البيت، وأوكئوا الأسقية، وخمروا الشراب وأغلقوا الأبواب" فقيل لقتادة: وما يكره من البول في الجُحْر فقال: إنها مساكن الجن.

"المسألة الرابعة": فيما يستفاد من الحديث:

دل الحديث على كراهة البول في الحُفَر التي تسكنها السباع والهوام خشية الأذى، قال في المنهل: ومحل الكراهة ما لم يغلب على الظن أذى له، أو لما في الجُحْر من حيوان محترم، وإلا حرم كما هو ظاهر النهي.

ودل أيضا على أنه يطلب من العاقل البعد عما يخشى منه الضرر، وعلى مزيد رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمة، وعلى أنه يطلب ممن تولى أمر جماعة أن يأمرهم بما فيه نفعهم، وينهاهم عما فيه ضررهم. قاله في المنهل جـ 1/ ص 116.

"المسألة الخامسة": في قول قتادة: يقال إنها مساكن الجن بيان لسبب كراهة البول في الجُحْر، وذلك لئلا يحصل له ضرر، وفي رواية البيهقي، والحاكم، فقال:"إنها مساكن الجن" بدون قوله كان يقال كما تقدم.

قال المناوي في شرحه الكبير: ويؤيده الأثر الصحيح أن سعد بن عُبَادة الخزرجي بال في جُحر ثم خَرَّ ميتا، فسُمعَت الجنُّ تقول:

نحنُ قَتَلنَا سَيًدَ الخَزْ .... رَجْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَهْ

وَرَمَيْنَاهُ بسَهْم .... فَلمْ يُخْطىءْ فُؤادَهْ

قال في المرقاة شرح المشكاة بعد أن ذكر هذا الأثر الله أعلم بصحته اهـ المنهل.

ص: 546

قال الجامع عفا الله عنه: قال الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة سعد هذا ما نصه: ولم يختلفوا أنه وُجدَ ميتا في مُغتَسَله، وقد اخْضَرَّ جسده، ولم يشعروا بموته حتى سَمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدًا:

نحنُ قَتَلنَا سَيِّدَ الخَز .... رَجْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَهْ

رَمَيْنَاهُ بسَهْمَين .... فَلَمْ نُخْط فُؤَادَهْ

ويقال: إن الجن قتلته، روى ابن جريج عن عطاء أنه قال: سمعت أن الجن قالت في سعد بن عبادة فذكر البيتين اهـ، جـ 2/ ص 37.

قال العلامة الألباني: بعد ذكر كلام ابن عبد البر: "ولكن لم أجد له إسنادًا صحيحًا على طريقة المحدثين". انظر الإرواء جـ 1 / ص 94.

"المسألة السادسة" في قوله مساكن الجن؛ الجن في الأصل ضد الإنس مأخوذ من الاجتنان، وهو الاستتار، سموا بذلك لاستتارهم عن أعين الناس، وهو اسم جنس واحده جني، وهم أجسام يغلب عليها الجزء الناري، وقيل الهوائي، من شأنهم الخفاء، ولهم قدرة على التشكل بالصورة الشريفة والخسيسة، وتحكُمُ عليهم الصورة بخلاف الملائكة، فإنهم أجسام نورانية لهم قدرة على التشكل بالصورة الشريفة فقط، ولا تحكم عليهم الصورة.

قال في آكام المرجان: الجن ثلاثة أصناف، كما جاء في الحديث، روى ابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله تعالى الجن ثلاثة أصناف، صنف حيات، وعقارب، وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب اهـ

(1)

.

(1)

الله أعلم بصحته.

ص: 547

وهذا القسم الأخير هو المكلف من حين الخلقة فمنهم الكافر قال تعالى: عنهم {{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] قال المفسرون: أي فرقًا مختلفة الأديان يهود ونصارى وعبدة أوثان.

وقال الألوسي في روح المعاني: أخرج البيهقي في الأسماء، وأبو

نعيم والديلمي، وغيرهم بإسناد صحيح كما قاله العراقي عن أبي ثعلبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون" وقال وهب: إن من الجن من يولد له ويأكلون، ويشربون بمنزلة الآدميين، ومنهم من هو بمنزلة الريح، لا يتوالدون ولا يأكلون، ولا يشربون، وهم الشياطين اهـ.

واختلف في أصل الجن: فقيل هم ذرية إبليس كما قاله الحسن، وعليه فالمتمرد منهم يسمى شيطانًا، وقيل: هم ذرية غيره كما قاله مجاهد، والشياطين ولد إبليس يموتون معه عند النفخة، والراجح الأول، فمن آمن من الجن فقد انقطعت نسبته من أبيه، والتحق بآدم، ومن كفر من الإنس، فقد انقطعت نسبته من أبيه، والتحق بإبليس ومن أراد زيادة البيان فعليه بكتاب آكام المرجان. اهـ المنهل جـ 1/ ص 116.

"المسألة السابعة" في خاتمة نختم بها الباب:

اعلم أن المصنف رحمه الله استعمل لفظ الكراهية هنا، وأكثر منه الترمذي، قال العلامة المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي: ما نصه: ومن الألفاظ التي استعملها الترمذي في هذا الكتاب لفظ الكراهة والكراهية، فقال باب كراهية الاستنجاء باليمين، إلى آخر ما ذكره، ثم قال: وهكذا قد أكثر استعمال هذا اللفظ في تراجم الأبواب.

ص: 548

فاعلم أن الإمام الترمذي لم يرد بهذا اللفظ ما هو المشهور أعني التنزيه وترك الأولى، بل أراد بهذا اللفظ معنى عاما شاملا للتنزيه والحرمة، وقد جاء هذا اللفظ في كلام السلف بمعنى الحرمة كثيرًا.

قال العيني في عمدة القارئ: جـ 3/ ص 387 المتقدمون يطلقون الكراهة، ويريدون كراهة التحريم انتهى.

وقال صاحب الدين الخالص في شرح حديث ابن مسعود "الطِّيَرَة شرك": هذا صريح في تحريم الطيرة وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله، ومن قال إنها تكره، فالكراهة في اصطلاح

السلف بمعنى الحرام انتهى.

ولنا أن نذكر كلام الحافظ ابن القيم في هذا الباب فإنه نافع جدًا:

قال في إعلام الموقعين: وقد حرم الله سبحانه وتعالى القول عليه بغير علم في الفتيا، والقضاء، فقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: آية 33] وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه، وشرعه، وقال تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116 - 117].

فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام، ولما لم يحله هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أن لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال، وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله، وحرمه، فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه أحله الله وحرمه الله لمجرد التقليد، أو التأويل.

ص: 549

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميره بُرَيدة أن يُنزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله، وقال "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ ولكن أنزلهم على حكمك، وحكم أصحابك" فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يُسمَّى حكم المجتهدين حكم الله، ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حُكْما حكم به، فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل: هكذا، ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: لم يكن من أمر الناس، ولا من مضي من سلفنا، ولا أدركلت أحدا أقتدى به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسنا، فينبغي هذا، ولا نرى هذا، ورواه عنه عتيق ابن يعقوب، وزاد: ولا يقولون: حلال، ولا حرام، أما سمعت قول الله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.

قال الحافظ ابن القيم: وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة فَنَفَى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير جدًا في تصرفاتهم فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة.

ص: 550

وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين: أكرهه، ولا أقول: هو حرام، ومذهبه تحريمه، وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم، لأجل قول عثمان، وقال في رواية أبي داود: يستحب ألا يدخل الحمام إلا بمئزر له، وهذا استحبابُ وجوب، وقال في رواية إسحاق بن منصور: إذا كان أكثر مال الرجل حراما، فلا يعجبني أن يؤكل ماله، وهذا على سبيل التحريم. وقال في رواية ابنه عبد الله لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة والكواكب، ولا الكنيسة، وكل شيء ذبح لغير الله، قال الله عز وجل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: آية 3] فتأمل كيف قال لا يعجبني فيما نص الله سبحانه على تحريمه، واحتج هو أيضا بتحريم الله له في كتابه، وقال في رواية الأثرم: أكره لحوم الجلالة وألبانها، وقد صرح بالتحريم في رواية حنبل وغيره، وقال في رواية ابنه عبد الله: أكره أكل لحم الحية والعقرب، لأن الحية لها ناب، والعقرب لها حُمَة، ولا يختلف مذهبه في تحريمه.

وذكر ابن القيم أشياء من هذا النحو من كلام أحمد، قال: وهذا في أجوبته أكثر من أن يستقصى وكذلك غيره من الأئمة.

وقد نص محمَّد بن الحسن إن كل مكروه فهو حرام، إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يُطلق عليه لفظ الحرام، وروى محمَّد أيضا عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقرب، وقد قال في الجامع الكبير: يكره الشرب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء ومراده التحريم، وكذلك قال أبو يوسف ومحمد: يكره النوم على فرش الحرير، والتوسد على وسائده، ومرادهما التحريم إلى أن قال وهذا كثير في كلامهم جدًا.

قال: وأما أصحاب مالك فالمكروه عندهم مرتبة بين الحرام والمباح،

ص: 551

ولا يطلقون عليه اسم الجواز، ويقولون: إن أكل كل ذي ناب من السبع مكروه غير مباح، وقد قال مالك في كثير من أجوبته: أكره كذا، وهو حرام.

فمنها: أن مالكا نص على كراهة الشطرنج، وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم، وحمله بعضهم على الكراهة التي هى دون التحريم.

قال الشافعي في اللعب بالشطرنج: إنه لهو شبه الباطل أكرهه، ولا يتبين لي تحريمه، فقد نص على كراهته، وتوقف في تحريمه، فلا يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز، وأنه مباح فإنه لم يقل هذا ولا يدل عليه، والحق أن يقال: إنه كرهها، وتوقف في تحريمها، فأين هذا من أن يقال: إن مذهبه جواز اللعب بها وإباحته.

ومن هذا أيضا: أنه نص على كراهة تزوج الرجل من بنته من ماء الزنا ولم يقل قط إنه مباح، ولا جائز، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أحله الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ الكراهة؛ لأن الحرام يكرهه الله ورسوله، وقد قال تعالى عقيب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} إلى قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} إلى قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} إلى قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إلى آخر الآيات، ثم قال:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 23 - 38].

وفي الصحيح "أن الله عز وجل كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعمل فيه كلام الله ورسوله، ولكن المتأخرون اصطلحوا على

ص: 552

تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم، وتركُهُ أرجح من فعله، ثم منهم من حمل كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث، فغلط في ذلك، وأقبح غلطا منه من حمل لفظ الكراهة، أو لفظ ينبغي في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث، وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال لا ينبغي في المحظور شرعا وقدرا وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: آية 92] وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: آية 69] وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: آية 210، 211]} وقوله على لسان نبيه: "كذبني ابن آدم، وما ينبغي له، وشتمني ابن آدم، وما ينبغي له" وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام" وقوله صلى الله عليه وسلم في لباس الحرير "ولا ينبغي هذا للمتقين" وأمثال ذلك. انتهى كلام العلامة ابن القيم اهـ مقدمة تحفة الأحوذي جـ 1/ ص 417.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 553

‌31 - النهي عن البول في الماء الراكد

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على النهي عن البول في الماء الراكد.

والنهي: مصدر، يقال نهيته عن الشيء أنهاه نهيا، فانتهى عنه، ونهوته نهوا لغة، ونهى الله تعالى: أي حرم والنهية "أي بالضم" العقل، لأنها تنهى عن القبيح. قاله في المصباح.

والراكد: اسم فاعل من ركد الماء رُكودا من باب قعد: سكن، وأركدته أسكنته، وركدت السفينة وقفت فلا تجري. قاله في المصباح.

35 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ.

رجال السند: أربعة

1 -

"قتيبة" بن سعيد بن جميل بن طريف الثقفي البغلاني ثقة ثبت 10 ت240 تقدم وهو أول من بدأ به المصنف سننه من شيوخه.

2 -

"الليث" بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث الفهمي مولاهم الإمام عالم مصر، وفقيهها، ورئيسها، عن سعيد المقبري، وعطاء، ونافع، وقتادة، والزهري، وصفوان بن سليم، وخلائق. وعنه ابن عجلان، وابن لهيعة، وهشيم، وابن المبارك، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وأمم.

ص: 554

قال ابن بكير: وهو أفقه من مالك، وقال محمَّد بن رمح: كان دخل الليث ثمانين ألف دينار ما وجبت عليه زكاة قط، وثقه أحمد، وابن معين، والناس، قال ابن بكير: ولد سنة أربع وتسعين، وتوفي سنة خمس وسبعين ومائة، أخرج له الجماعة اهـ صه بزيادة شيء. من الطبقة السابعة. ت.

3 -

"أبو الزبير" محمَّد بن مسلم بن تَدْرُس بفتح المثناة وضم المهملة الثانية، الأسدي مولاهم المكي، أحد الأئمة، ثقة يدلس. عن جابر، وابن عباس، وعائشة في مسلم، والأربعة، وعبد الله بن عمرو في ابن ماجه، قال ابن معين: لم يلقه، وابن عمر في مسلم. وخلق، وعنه أيوب، والسفيانان، ومالك، وخلائق وعنه من شيوخه عطاء في النسائي. وثقه ابن معين، والنسائي، وابن عدي، وأما أبو حاتم وأبو زرعة فقالا: لا يحتج به. قال ابن المديني: مات سنة ثمان وعشرين ومائه. له عند البخاري حديث، قرنه مسلم بآخر، أخرج له الجماعة اهـ صه، من الطبقة الرابعة. ت.

4 -

"جابر" بن عبد الله بن عمرو بن حرام بفتح المهملة الأنصاري السَّلَمي بفتحتين، أبو عبد الرحمن، أو أبو عبد الله، أو أبو محمَّد المدني، صحابي مشهور، له ألف وخمسمائة حديث وأربعون حديثا، اتفقا على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، وشهد العقبة، وغزا تسع عشرة غزوة، وعنه بنوه وطاوس، والشعبي، وعطاء، وخلق، قال جابر: استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسا وعشرين مرة، قال الفلاس مات سنة ثمان وسبعين بالمدينة عن أربع وسبعين سنة، أخرج له الجماعة اهـ. صه.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم أنه أحد المكثرين في الرواية من

ص: 555

الصحابة رضي الله عنهم وهم سبعة قال السيوطي في ألفيته:

والمُكْثرُونَ في روايَة الأثَرْ

أبُو هُرَيْرَةَ يَليه ابْنُ عُمَرْ

وأنسٌ والبحرُ كَالخُدْريِّ

وَجَابرٌ وَزَوْجَةُ النَّبيِّ

لطائف الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف وهو أعلى ما وقع له من الإسناد، وهذا هو الرابع من الرباعيات، وقد تقدم به في 6/ 6، 14/ 14. 19/ 19.

ومنها: أن رواته ما بين بلخي وهو قتيبة، ومصري وهو الليث، ومكي وهو أبو الزبير، ومدني وهو جابر.

وفيه من صيغ الأداء الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

"عن جابر" بن عبد الله رضي الله عنهما "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى" أي منع "عن البول في الماء الراكد" أي الواقف الذي لا يجري.

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: وهذا النهي في بعض المياه للتحريم، وفي بعضها للكراهة، فإن كان الماء كثيرًا جاريا لم يحرم البول فيه، لمفهوم الحديث، ولكن الأولى اجتنابه وإن كان قليلا جاريا، فقد قال بعض الشافعية: يكره. والمختار أنه يحرم، لأنه يقذره، وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي، وغيره، ولعل هذا محمل حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الجاري" رواه الطبراني ورجاله ثقات، وإلا فالظاهر عدم التفرقة بين القليل وغيره.

وإن كان كثيرا راكدا؛ فقيل: يكره، والمختار الحرمة لأن النهي يقتضي التحريم، ولأنه ربما أدَّي إلى تنجسه بالإجماع إذا تغير، أو إلى

ص: 556

تنجسه عند أبي حنيفة، ومن وافقه في أن الماء الذي لا يبلغ الغدير العظيم ينجسى بوقوع نجس فيه، وإن كان راكدا قليلا فالصواب حرمة البول فيه، لأنه ينجسه، والتغوط في الماء كالبول فيه، بل هو أقبح، وكذلك إذا بال في إناء ثم صبه في الماء أو بال بقرب الماء بحيث يجرى إليه البول فكله مذموم قبيح منهي عنه على التفصيل المذكور، ولا مخالف في هذا إلا ما حكي عن داود من أن النهي مختص بالبول في نفس الماء، وأن الغائط ليس كالبول، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء، أو بال بقرب الماء، وهذا خلاف الإجماع، وهو من أقبح ما نقل عنه في الجمود على الظاهر.

قال العلماء: ويكره البول والتغوط بقرب الماء، وإن لم يصل إليه لعموم النهي من البراز في الموارد، ولما فيه من إذاء المارين بالماء، ولما يخاف من وصوله إلى الماء.

وأما انغماس من لم يستنج في الماء ليستنجي فيه، فإن كان قليلا بحيث ينجس بوقوع النجاسة فيه فهو حرام لما فيه من تلطخه بالنجاسة وتنجيس الماء، وإن كان كثيرًا جاريًا، فلا بأس به وإن كان راكدا فليس بحرام، ولا تظهر كراهته؛ لأنه ليس في معنى البول، ولا يقاربه، ولو اجتنب الإنسان هذا كان أحسن. اهـ كلام النووي باختصار جـ 1/ ص 313.

قال العراقي: إن أراد الاستنجاء من الغائط ففي عدم الكراهة نظر خصوصا لمن لم يخففه بالحجر، ومع الانتشار والكثرة فربما كان أفحش من البول. اهـ طرح جـ 2/ ص 36.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته: حديث جابر رضي الله عنه أخرجه مسلم.

ص: 557

"المسألة الثانية": في بيان موضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 13/ 35 وفي الكبري 26/ 35 بهذا السند فقط.

"المسألة الثالثة": فيمن أخرجه معه:

أخرج هذا الحديث مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى، وقتيبة، ومحمد بن رُمْح ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن أبي الزيبر، عن جابر.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن محمَّد بن رُمح بالسند المذكور قاله في التحفة جـ 3/ ص 339.

وأخرجه الطحاوي، والطبراني في الأوسط. قاله في المنهل جـ 1 / ص 248.

"المسألة الرابعة": فيما يستفاد من الحديث دل بمنطوقه على حرمة البول في الماء الراكد لكن محله إذا لم يكن كثيرا مستبحرا، ويلحق بالبول التغوط، بل هو أقبح، ودل بمفهومه على جواز البول في الماء الجاري، لكن الأولى اجتنابه، وقد مر تفصيله في كلام النووي، وعلى نجاسة البول.

"المسألة الخامسة": اعلم أنه احتج بهذا الحديث الحنفية في تنجيس الماء الراكد بحلول النجاسة فيه، وإن كان أكثر من القلتين فإن الصيغة صيغة عموم، وأجاب المانعون بأن هذا الحديث يتعذر العمل بعمومه إجماعا، لأن الماء الدائم الكثير المستبحر لا تؤثر فيه النجاسة اتفاقا، وإذا بطل عمومه وتطرق إليه التخصيص خصصناه بحديث القلتين، فيحمل عمومه على ما دون القلتين جمعا بين الحديثين، فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقهما، وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه، والخاص مقدم على العام. أفاده العراقي في طرح التثريب جـ 2/ ص 32.

ص: 558

"المسألة السادسة": في هذا الحديث النهي عن البول في الماء الراكد، وقد أخذ داود بن علي الظاهري بظاهره، وقال: النهي مختص بالبول، والغائط ليس كالبول، ومختص ببول الإنسان نفسه، وجاز لغير البائل أن يتوضأ بما بال فيه غيره، وجاز أيضا للبائل إذا بال في إناء، ثم صبه في الماء أو بال بقرب الماء، ثم جرى إليه، وهذا من أقبح ما نقل عنه. أفاده العيني جـ 3/ ص 50، وقد نصر قول داود ابن حزم في المحلى. أفاده في النيل.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر كلاما طويلا ما نصه:

وبهذا الطريق يُعلم أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى عن البول في الماء الدائم مع أنه قد يحتاج إليه فلأن يَنهى البول في إناء، ثم يصبه فيه بطريق أولى. ولا يستريب في هذا من علم حكمة الشريعة، وما اشتملت عليه من مصالح العباد ونصائحهم.

ودع الظاهرية البَحتَة، فإنها تقسي القلوب وتحجبها عن رؤية محاسن الشريعة وبهجتها، وما أودعته من الحكم، والمصالح، والعدل، والرحمة. اهـ تهذيب السنن جـ 1/ ص 66.

"المسألة السابعة": احتج بهذا الحديث أحمد على أن بول الآدمي، وما في معناه من العذرة ينجس الماء الراكد وإن كان أكثر من قلتين وأنَّ غير ذلك من النجاسات يعتبر فيه القلتان، فلم يُعَدِّ حكم البول والعَذرة إلى غيرهما من النجاسات.

قال ابن دقيق العيد: وكأنه رأى الخبث المذكور في حديث القلتين عاما بالنسبة إلى الأنجاس، وهذا الحديث خاص بالنسبة إلى بول الآدمي، فقدم الخاص على العام بالنسبة إلى الأنجاس الواقعة في الماء

الكثير، وأخرج بول الآدمي وما في معناه من جملة النجاسات الواقعة في

ص: 559

القلتين بخصوصه، فينجس الماء دون غيره من النجاسات، ثم قال: ولمخالفهم أن يقول قد علمنا جزما أن هذا النهي إنما هو لمعنى في النجاسة، وعدم التقرب إلى الله تعالى بما خالطها، وهذا المعنى يستوي فيه سائر الأنجاس، فلا يتجه تخصيص بول الآدمي منها بالنسبة إلى هذا المعنى، إلى أن قال. فيحمل الحديث على أن ذكر البول ورد تنبيها على غيره مما يشاركه في معناه من الاستقذار، والوقوف على مجرد الظاهر ها هنا مع وضوح المعنى وشموله لسائر الأنجاس ظاهرية محضة. اهـ طرح جـ 1/ ص 32.

"المسألة الثامنة": أنه حمل مالك النهي في هذا الحديث على الكراهة، لا على التحريم لأن الماء لا يتنجس عنده بوصول النجاسة إليه إلا بالتغير كثيرا كان أو قليلًا جاريا كان أو راكدا.

ولكن ربما تغير الراكد بالبول فيه فيكون الاغتسال به محرما بالإجماع.

قال ابن دقيق العيد: وهذا يلتفت على حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، وهي مسألة أصولية، قال: وقد يقال على هذا: إن حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ، فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين، قال: وهذا متجه إلا أنه يلزم منه التخصيص في هذا الحديث فإن جعلنا النهي للتحريم كان استعماله في الكراهة والتحريم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والأكثرون على منعه انتهى.

وأجاب صاحب المفهم عن مالك: بأنه وإن كان مشهور مذهبه أنه طهور فإنه يصح أن يحمل هذا الحديث على سد الذريعة لأنه ربما أدى إلى تغيره فنهي عن ذلك اهـ طرح جـ 2/ ص 33 بتصرف.

"المسألة التاسعة": قال العلامة ابن دقيق العيد: اعلم أن هذا الحديث

ص: 560

لا بد من إخراجه عن ظاهره بالتخصيص، أو التقييد، لأن الاتفاق واقع على أن المستبحر الكثير جدا لا تؤثر فيه النجاسة، والاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته النجاسة امتنع استعماله، فمالك رحمه الله إذا حمل النهي على الكراهة لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلا بالتغير؛ لا بد أن يخرج صورة التغير بالنجاسة أعني عن الحكم بالكراهة، فإن الحكم ثمة التحريم، فإذا لا بد من الخروج عن الظاهر عند الكل اهـ إحكام الأحكام جـ 1/ ص 22.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 561

‌32 - كراهية البول في المُسْتَحَمِّ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على كراهية البول في المستحم، أي المُغْتَسَل فيه.

والكراهية: مصدر كره، يقال: كره الأمر، والمنظر كراهة فهو كريه، مثل قبح قباحة فهو قبيح وزنا ومعنى، وكراهية بالتخفيف أيضا. اهـ المصباح. وتقدم في الباب 30 بأوضح من هذا فارجع إليه.

والمستحم: بفتح الحاء وتشديد الميم أصله الموضع الذي يغتسل فيه بالماء الحميم، وهو الحار، ثم شاع في مطلق المُغْتَسَل.

وذكر ثعلب أن الحميم يطلق أيضا على الماء البارد من الأضداد، أفاده في الزهر.

36 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَك، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

"علي بن حجر" بضم فسكون بن إياس السعدي المروزي ثقة حافظ من صغار [9] تقدم في 13/ 13.

ص: 562

2 -

"ابن المبارك" هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي أحد الأئمة الأعلام، وشيوخ الإسلام.

عن حميد، وإسماعيل بن أبي خالد، وحسين المعلم، وسليمان وعاصم الأحول، وهشام بن عروة، وخلق. ويروي عنه السفيانان من شيوخه، ومعتمر، وبقية، وابن مهدي، وسعيد بن منصور، وخلائق، قال ابن المبارك: كتبت عن أربعة آلاف شيخ، فرويت عن ألف، قال ابن عيينة: ابن المبارك عالم المشرق والمغرب وما بينهما.

وقال شعبة: ما قدم علينا مثله. وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام. وقال ابن معين: ثقة صحيح الحديث. وقال ابن مهدي: كان نسيج وحده، ولد ابن المبارك سنة 118، ومات سنة 181 وترجمته كبيرة في الحلية لأبي نعيم، وتاريخ الحاكم. اهـ. صه، من الطبقة الثامنة.

3 -

"معمر" بن راشد الأزدي، أبو عروة البصري نزيل اليمن ثقة ثبت من كبار [7] تقدم. في 10/ 10.

4 -

"الأشعث بن عبد الله" بن جابر الحداني بمهملتين مضمومة، ثم مشددة، الأزدي، أبو عبد الله البصري، وقد ينسب إلى جده، وهو الحملي بضم المهملة، وسكون الميم، صدوق -5 - (خت 4). وثقه النسائي وأورده الذهبي في ميزانه، وتعجب من عدم تخريج الشيخين عنه.

(تنبيه) وقع في أكثر نسخ "المجتبى" أشعث بن عبد الملك، وهو خطأ، والصواب ابن عبد الله، فتنبه.

5 -

"الحسن" بن أبي الحسن، واسمه يسار البصري، مولى أم سلمة، والرُّبَيِّع بنت النضر، أو زيد بن ثابت، أبو سعيد الإمام أحد أئمة الهدى والسنة، رُمى بالقدر، ولا يصح. عن جندب بن عبد الله، وأنس، وعبد الرحمن بن سمرة، ومعقل بن يسار، وأبي بكر،

ص: 563

وسمرة، قال سعيد: لم يسمع منه، وأرسل عن خلق من الصحابة. وروى عنه أيوب، وحميد، ويونس، وقتادة، ومطر الوراق، وخلائق، قال ابن سعد: كان عالما جامعا رفيعا ثقة مأمونا عابدا ناسكا، كثير العلم، فصيحا، جميلا، وسيما، ما أرسله فليس بحجة، وكان الحسن شجاعا من أشجع أهل زمانه، وكان عرض زَنْده شبرًا، قال ابن عيينة: مات سنة 110، قيل: ولد سنة 21 لسنتين بقيتا من خلافة عمر. قال أبو زرعة: كل شيء قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت له أصلا مَليًا خلا أربعة أحاديث اهـ. صه. من رأس الطبقة الثالثة.

6 -

"عبد الله بن مُغَفَّل" بمعجمة وفاء كمعظم بن عبد نَهْم بن عفيف ابن أسحم المزني، أبو زياد بايع تحت الشجرة، ونزل البصرة، له ثلاثة وأربعون حديثا اتفاق على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر. وعنه ابن بريدة، وسعيد بن جبير، قال معاوية: ابن قرة أول من دخل تستر حين فتحت عبد الله بن مغفل، وقال الحسن: كان من نقباء الصحابة، مات 57، وقيل سنة 60. اهـ. صه.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، ومنها أن رواته كلهم بصريون إلا شيخ المصنف، وشيخه فإنهما مروزيان.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبار، والإنباء، والعنعنة.

شرح الحديث

"عن عبد الله بن مغفل" بصيغة اسم المفعول المضعف رضي الله عنه "عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه قال "لا" ناهية "يبولن أحدكم" النهي فيه متوجه لجميع الأمة وإن كان ظاهر الخطاب لمن كان حاضرًا من الصحابة. اهـ المنهل جـ 1/ ص 108.

ص: 564

"في مستحمه" بصيغة اسم المفعول، أي مُغْتَسَله كما فسره حديث أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله" وأخرجه المصنف في الزينة مختصرا على الجزء الأول، وقد قدمنا في أول الباب أنه الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، وهو في الأصل الماء الحار، ثم قيل للاغتسال بأي ماء كان استحمام.

وقال في المنهل: والإضافة فيه لأدنى ملابسة لأن المراد مكان الاغتسال ولو غير مملوك اهـ جـ 1/ ص 107.

وإنما نهى عنه إذا لم يكن له مسلك يذهب فيه البول، أو كان المكان صلبا فيوهم المغتسل أنه أصابه منه شيء فيحصل منه الوساوس كما علله بقوله "فإن عامة الوسواس" أي أكثره، لأن عامة الشيء جميعه، أو أكثره وهو المراد هنا.

والوسواس: حديث النفس بما لا خير فيه، أو بما فيه شر، وهو مصدر وسوس يوسوس وسوسة ووسواسا بكسر الواو ووسواسا بفتحها، والوسواس بالفتح اسم للشيطان أيضا، وكل منهما يصح هنا إرادته، أما الأول: فظاهر، وأما الثاني: فعلى تقدير مضاف، أي فإن عامة فعل الوسواس منه، والمراد بفعل الوسواس وسوسته اهـ المنهل جـ 1/ ص 108.

وقال في المصباح: الوسواس بالفتح اسم من وسوست إليه نفسه إذا حدثته، وبالكسر مصدر وسوس متعد بإلى، وقوله تعالى {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] اللام بمعنى إلى، فإن بني للمفعول قيل: موسوس إليه مثل المغضوب عليهم، والوسواس بالفتح مرض يحدث من غلبة السوداء، يختلط معه الذهن، ويقال لما يخطر بالقلب

ص: 565

من شر، ولما لا خير فيه وسواس اهـ (منه) أي من البول في المستحم، يعني أن أكثر الوسواس يحصل من البول في المغتسل، لأنه يصير الموضع نجسا، فيقع في قلبه وسوسة بأنه هل أصابه شيء من رشاشه أم لا؟

قال الشيخ ولي الدين: علل النبي صلى الله عليه وسلم هذا النهي بأن هذا الفعل يورث الوسواس، ومعناه أن المغتسل يتوهم أنه أصابه شيء من قطره ورشاشه، فيحصل له وسواس، وروى ابنُ أبي شيبة في مصنفه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: إنما يكره البول في المغتسل مخافة اللَّمَم. وذكر صاحب الصحاح وغيره أن اللَّمَمَ طرف من الجنون، قال: ويقال أيضا أصابت فلانا لَمَّه من الجن وهو المس، والشيء القليل، وهذا يقتضي أن العلة في النهي عن البول في المغتسل، خشية أن يصيبه شيء من الجن، وهو معنى مناسب؛ لأن المغتسل محل حضور الشياطين، لما فيه من كشف العورة، فهو في معنى البول في الجُحْر، لكن المعنى الذي عَلَّلَ به النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع، قال: ويمكن جعله موافقا لقول أنس بأن يكون المراد بالوسواس في الحديث الشيطان، وفيه حذف تقديره فإن عامة فعل الوسواس أي الشيطان منه، لكنه خلاف ما فهمه العلماء من الحديث ولا مانع من التعليل بهما، فكل منهما علة مستقلة. انتهى كلام العراقي.

قال السيوطي: قلت: بل هو هنا علة واحدة، ولا منافاة فإن اللمم الذي ذكره أنس هو الوسواس بعينه، وذلك طرف من الجنون، فإن الذي يسمى في لغة العرب الوسواس هو الذي في لغة اليونان الماليخوليا وهي عبارة عن فساد الفكر، وقد أكثر في أشعار العرب، والأحاديث، والآثار إطلاق الوسواس مرادًا به ذلك.

منها: حديث أحمد عن عثمان رضي الله عنه قال "لما تُوُفي النبي صلى الله عليه وسلم حزن أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس" أي يجن، وقيل: "ولولا

ص: 566

مخافة الوسواس لسكنت في أرض ليس بها ناس" فالذي قاله أنس هو عين الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم اهـ كلام السيوطي زهر جـ 1/ ص 35.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته: هذا الحديث جزم النووي بأنه حسن.

ونقل في المنهل جـ 1/ ص 111 عن المنذري قال: إسناده صحيح متصل وأشعث بن عبد الله ثقة صدوق وكذا بقية رواته. اهـ، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث أشعث بن عبد الله، وذكر في العلل أنه سأل عنه البخاري فقال: لا أعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وقال ابن سيد الناس: وهو مع غرابته يحتمل أن يكون من قسم الحسن، لأن أشعث مستور. اهـ. قال المناوي بعد ذكر ما ذكر عن ابن سيد الناس: ولذا جزم النووي بأنه حسن اهـ.

وقال الذهبي في الميزان في ترجمة أشعث بن عبد الله: جـ 1/ ص 266 وثقة النسائي وغيره وقد أورده العيقلي في الضعفاء، وقال: في حديثه وَهَم، ثم أورد حديث الباب بسنده.

قال الذهبي: قلت: قول العقيلي في حديثه وَهَم ليس بمسلم له، وأنا أتعجب كيف لم يخرج له البخاري ومسلم اهـ. ومال الشيخ الألباني إلى تضعيفه لعنعنة الحسن فإنه مدلس، قال: لكن في النهي عن البول في المغتسل حديث صحيح. انظر تحقيقه للمشكاة جـ 1/ ص 115. وقال في صحيح النسائي. صحيح دون قوله: "فإن عامة الوسواس منه" انظر صحيح النسائي، 1/ 100.

"المسألة الثانية": في بيان موضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 567

أخرجه هنا -32/ 36، وفي الكبرى -27/ 36 - بالسند المذكور، وأخرجه أبو داود في الطهارة عن أحمد بن حنبل، والحلواني كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أشعث بن عبد الله، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل.

وأخرجه الترمذي في الطهارة عن علي بن حجر، وأحمد بن محمَّد ابن موسى كلاهما عن ابن المبارك، عن معمر به.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن محمَّد بن يحيى، عن عبد الرزاق عن معمر به. أفاده المزي، وأخرجه أحمد، وابن حبان، والحاكم، وعبد الرزاق في الجامع، والعقيلي، والضياء المقدسي، وأخرجه البيهقي من عدة طرق مرفوعًا موقوفًا.

"المسألة الثالثة": أنه وقع في هذا الحديث عند أبي داود وغيره زيادة ثم يغتسل منه وفي رواية أحمد عند أبي داود "ثم يتوضأ فيه" و "ثم" هنا استباعدية، يعني يُسْتَبْعد من العاقل أن يغتسل أو يتوضأ في محل بال فيه، لما يترتب على ذلك من الوسوسة، ونظيره قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: آية 1] أي يستبعد كفر من كفر بعد قيام الأدلة على وحدانية الله تعالى.

وقوله: "يغتسل" الرواية فيه بالرفع فيكون خبرا لمبتدإ محذوف، أي ثم هو يغتسل فيه، والمعنى عليه لينْتَه أحدكم عن البول في المستحم، وله أن يغتسل فيه، وإن لم ينته فليس له أن يغتسل فيه، ويجوز نصبه في جواب النهي على أن "ثم" بمعنى الواو، وقول النووي: لا يجوز النصب؛ لأنه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقل به أحد، بل البول منهي عنه سواء أراد الاغتسال فيه أو منه

ص: 568

أم لا، غير مسلم، فإن النهي عن الجمع بين البول والاغتسال في مكان واحد لا مانع من إرادته في الحديث بدليل التعليل الآتي، وكونه يترتب عليه جواز البول في المستحم، ولم يقل به أحد هذا وإن كان مسلما إلا أنه جاء من طريق المفهوم، وهو معارض بالتعليل المذكور في الحديث، فإنه لو بال في المغتسل أحد واغتسل فيه آخر أورثه ذلك الوسوسة، ومعارض أيضا بنحو قوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر، ولا ضرار" رواه أحمد، وابن ماجه عن ابن عباس. وقال ابن دقيق العيد: المنهي عن الجمع بينهما يؤخذ من هذا الحديث إن ثبتت رواية النصب، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر اهـ.

وأما لو بال في المستحم وهَجَرَه من الاغتسال فيه جاز له ذلك.

ويجوز جزم "يغتسل" عطفا على "يبولن" والمعنى عليه النهي، عن البول في المستحم، وهو ظاهر، وعن الاغتسال فيه على معنى الانغماس فيه لما يترتب عليه من قذارة الماء، وعليه فالنهي للتنزيه. اهـ المنهل جـ 1/ ص 108.

"المسألة الرابعة": في اختلاف العلماء في البول في المغتسل.

قال الإمام الترمذي رحمه الله: وقد كره قوم من أهل العلم البول في المغتسل، وقالوا: عامة الوسواس منه، ورخص فيه بعض أهل العلم، منهم ابن سيرين، وقيل له: إنه يقال: إن عامة الوسواس منه، فقال "ربنا الله لا شريك له" أي: فهو المتوحد في خلقه، لا دخل للبول في المغتسل في شيء من الخلق. قاله أبو الطيب السندي، وقال ابن المبارك: قد وسع في البول في المغتسل إذا جرى فيه الماء. اهـ كلام الترمذي بزيادة.

قال الحافظ ولي الدين العراقي: حمل جماعة من العلماء هذا

ص: 569

الحديث على ما إذا كان المغتسل لَيّنا وليس فيه منفذ بحيث إذا نزل فيه البول شربته الأرض، واستقر فيها فإن كان صلبا ببلاط ونحوه بحيث يجري عليه البول، ولا يستقر، أو كان فيه منفذ كالبالوعة ونحوها فلا نهي.

روى ابن أبي شيبة عن عطاء، قال: إذا كان يسيل فلا بأس، وقال ابن ماجه في سننه: سمعت علي بن محمَّد الطنافسي يقول: إنما هذا في الحفيرة، فأما اليوم فلمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير، فإذا بال فأرسل عليه الماء فلا بأس به.

وقال الخطابي: إنما ينهى عن ذلك إذا لم يكن المكان جددا مستويا لا تراب عليه، وصلبا، أو مُبَلَّطا، أو لم يكن له مسلك ينفذ فيه البول، ويسيل منه الماء، فيَتَوهَّم المغتسل أنه أصابه شيء من قطره ورشاشه

فيورثه الوسواس.

وقال النووي في شرحه: إنما نُهي عن الاغتسال فيه إذا كان صلبا يخاف إصابة رشاشه، فإن كان لا يخاف ذلك بأن يكون له منفذ، أو غير ذلك فلا كراهة.

قال الشيخ ولي الدين: وهو عكس ما ذكره الجماعة، فإنهم حملوا النهي على الأرض اللَّيِّنَة، وحمله هو على الصلبة وقد لمح هو معنى آخر وهو أنه في الصلبة يخشى عود الرشاش بخلاف الرخوة، وهم نظروا إلى أنه في الرخوة يستقر موضعه، وفي الصلبة يجري، ولا يستقر، فإذا صب عليه الماء ذهب آخره بالكلية.

قال السيوطي: قلت: الذي قاله النووي رضي الله عنه سبقه إليه صاحب النهاية، فإنه قال: وإنما نهى عن ذلك إذا لم يكن له مسلك يذهب فيه البول، أو كان صلبا فيتوهم المغتسل أنه أصابه منه شيء،

ص: 570

فيحصل منه الوسواس.

ثم قال الشيخ ولي الدين: إذا جعلنا الاغتسال منهيا عنه بعد البول فيه، فيحتمل أن سبب الوسواس البول فيه على انفراده، ويحتمل أن سببه الاغتسال بعد البول فيه، ويكون قوله: فإن عامة الوسواس منه أي من مجموع ما تقدم أو من الاغتسال أو الوضوء فيه الذي هو أقرب مذكور، ويؤيده حديث "من توضأ في موضع بوله، فأصابه الوسواس فلا يلومن إلا نفسه" رواه ابن عدي من حديث ابن عمرو

(1)

فجعل سبب الوسواس الوضوء في موضع بوله انتهى اهـ زهر جـ 1/ ص 37.

وقال العلامة المباركفوري: قلت: والأولى أن يحمل الحديث على إطلاقه، ولا يقيد المستحم بشيء من القيود، فيحترز عن البول في المغتسل مطلقا سواء كان له مسلك، أم لا، وسواء كان المكان صلبا، أو لينا، فإن الوسواس قد يحصل من البول في المغتسل الذي له مسلك أيضا، وكذلك قد يحصل الوسواس منه في المغتسل اللين والصلب كما لا يخفى. اهـ تحفة الأحوذي جـ 1/ ص101.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله العلامة المباركفوري رحمه الله تحقيق حقيق بالقبول. والله أعلم.

"المسألة الخامسة": أنه يستفاد من هذا الحديث منع البول في محل التطهر، وأنه يُطلب ممن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر أن يبين السبب ليقع كلامه عند المأمور والمنهي موقع القبول، وأنه يطلب من الإنسان البعد عما يضره، وأنه يطلب إيقاع الغسل والوضوء في محل طاهر، وأنه يطلب من الرئيس أن يُرشد رعيته إلى ما فيه صلاحهم، وترك ما لا خير فيه. أفاده في المنهل.

(1)

أخرجه 4/ 1469، وفيه منصور بن عمار، منكر الحديث، وابن لهيعة أيضا.

ص: 571

"المسألة السادسة": قال العلامة محمود محمَّد خطاب السبكي في المنهل العذب المورود جـ 1/ ص 109:

اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على هداية الأمة وإرشادهم إلى ما فيه فلاحهم دينا وأخرى، فلم يدع سبيلا يرشد إلى الخير إلا وقد أمر به، ولا طريقا يوصل إلى الشر إلا وقد نهى عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم "ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئا يبعدكم عن الله تعالى إلا وقد نهيتكم عنه" رواه الطبراني في الكبير عن زيد بن أرقم.

وقد امتن الله تعالى على أمته ببعثته، فقال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: آية 164] فهو صلى الله عليه وسلم رحمة عامة، ونعمة تامة، فمن هدايته صلى الله عليه وسلم وشفقته علينا نهيه لنا عن البول في محل الطهارة، وإعلامه أن عامة الوسواس منه ذلك الأمر الذي يترتب عليه الخروج عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحواذ الشيطان على من قام به، حتى يوقعه في المشقة والعناء، فيخيل لمن رآه أن به جنونا، وحسبك أن فحول العلماء المحققين قد ألفوا في ذم الوسواس كتبا مستقلة، وأطالوا الكلام بما يشفي، ويكفي.

فمن ذلك: ما ذكره ابن قدامة المقدسي في كتابه ذم الموسوسين قال: إن طائفة من الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان، حيث اتصفوا بوسوسته، وقبلوا قوله، وأطاعوه، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صلى كصلاته فوضوؤه باطل، وصلاته غير صحيحة، ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤاكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين

ص: 572

أنه قد صار نجسا، يجب عليه تسبيع يده وفمه، كما لو ولغ فيها كلب، ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات والأمور المحسوسات، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره، ويكبر ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه، ويعلمه قلبه، بل يعلمه غيره منه، ويتقنه، ثم يشك هل فعل ذلك، وكذلك يشككه الشيطان في نيته التي يعلمها من نفسه يقينا، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله، ومع هذا يقبل قول إبليس له أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها مكابرة منه لعيانه، وجحدا ليقين نفسه حتى تراه مترددا متحيرا كأنه يعالج شيئا يجتذبه، أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه، كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس وقبول وسوسته، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد، فقد بلغ النهاية في طاعته، ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه، ويطيعه في الإضرار بجسده تارة، بالغوص في الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله، وإطالة العرك، وربما فتح عينيه في الماء البارد وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس، ووبما صار إلى حال يسخر منه الشيطان، ويستهزىء به من يراه.

وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل: أن رجلا قال له: أنغمس في الماء مرارا كثيرة، وأشك هل صح لي الغسل، فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة، قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ" رواه أحمد، وأبو داود، عن علي، وعمر رضي الله عنهما، ومن ينغمس في الماء مرارا وشك هل أصابه الماء فهو مجنون، قال: وربما

ص: 573

شغله بوسواسه حتي تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما فوَّت عليه ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذه، ويكذب.

وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا، فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة فلم يدعه إبليس حتى زاد، ففرق بينه وبين امرأته، فأصابه لذلك غم شديد وأقاما متفرقين دهرًا طويلا، حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد، ثم إنه حنث في يمين حلفها، ففرق بينهما، وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها.

وبلغني عن آخر كان شديد التنطع في التلفظ بالنية، فاشتد به التنطع والتشديد يوما إلى أن قال: أصلي أصلي مرارا صلاة كذا وكذا، وأراد أن يقول أداء فأعجم الدال، وقال أذاء لله، فقطع الصلاة رجل إلى جانبه، فقال: ولرسوله، وملائكته، وجماعة المصلين.

قال: ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مرارا، قال: فرأيت منهم من يقول الله أكككبر، قال: وقال لي إنسان منهم: قد عجزت عن قولي السلام عليكم، فقلت له: قل مثل ما قلت الآن وقد استرحت، وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا والآخرة، وأخرجهم عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله، وفعله، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم، وأن ما سوى ذلك فهو من تسويل إبليس ووسوسته، ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: آية 6]

ص: 574

وليترك التعريج على كل ماخالف طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنا ما كان فإنه لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم، ومن شك في هذا فليس بمسلم. اهـ ملخصا، وقد أطال البحث في هذا المقام. اهـ المنهل جـ 1/ ص 111.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 575

‌33 - السلام على من يبول

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على أن من سلم على من يبول لا يستحق الجواب. ثم إن ظاهر حديث الباب يدل على جواز السلام على من يبول، وكذا حديث الباب الذي بعده. لكن يعارضه حديث جابر عند ابن ماجه:"أن رجلًا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليَّ فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك".

فهذا يدل على عدم مشروعيته وأجيب بأن الحديث ضعيف، لأن في سنده سويد بن سعيد، وفيه مقال. قاله في المنهل. قال الجامع: قلت: لكن قال البوصيري: إسناده حسن، وسويد لم ينفرد به، فله متابع عن عيسى بن يونس في مسند أبي يعلى وغيره. اهـ وصححه الشيخ الألباني.

37 -

أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، وَقَبِيصَةُ، قَالَا: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عليه السلام.

رجال الإسناد: سبعه

1 -

"محمود بن غيلان" بفتح الغين وسكون الياء العدوي مولاهم

ص: 576

أبو أحمد المروزي الحافظ، عن ابن عيينة، والفضل بن موسى، وأبي معاوية، وخلق. وعنه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، ووثقه، وابن ماجه، وخلق. قال أحمد: صاحب سنة، قال البخاري: مات سنة 239. اهـ صه، من الطبقة [10].

2 -

"زيد بن الحُباب" بضم أوله وبموحدتين العُكْلي، أبو الحسين الخراساني الكوني الحافظ الجوّال، دخل الأندلس في طلب العلم، وجاب البلاد، روى عن مالك بن مغول، وقرة بن خالد، وأسامة بن زيد، وحسين بن واقد، وخلق. وروى عنه أحمد، وابن المديني، وسلمة بن شبيب، ومحمد بن رافع، وخلق. وثقه ابن المديني، وأبو حاتم. قال ابن معين: ثقة يقلب حديث الثوري، توفي سنة ثلاث ومائتين اهـ صه، من [9].

3 -

"قبيصة" بفتح القاف وكسر الباء بن عقبة بن محمَّد بن سفيان بن عقبة السوائي أبو عامر الكوفي الحافظ، روى عن فطر بن خليفة، ويونس بن أبي إسحاق. وعنه البخاري، وأحمد، ومحمود بن غيلان، وثقه ابن معين إلا في الثوري، وقال ابن نمير: لوحدثنا قبيصة عن النخعي لقبلناه، أي وهو أقدم من الثوري، وحديثه عنه في البخاري، قال مطين: مات سنة 215، أخرج له الجماعة ج صه من [9].

4 -

"سفيان" بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة من رؤوس الطبقة السابعة وكان ربما دلس، مات سنة 161، وله 64 سنة، وستأتي ترجمته بأطول من هذا في 89/ 111.

5 -

"الضحاك بن عثمان" بن عبد الله بن خالد بن حزَام بكسر المهملة الأسدي الحزامي أبو عثمان المدني، يروي عن إبراهيم بن حنين، وسعيد المقبري، وزيد بن أسلم، ونافع. وعنه الثوري، وابن وهب،

ص: 577

ويحيى القطان، وزيد بن الحباب، وخلق. وثقه ابن معين، وأبو داود، وابن سعد، وقال: توفي بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة، وقال أبو زرعة: ليس بقوي، أخرج له مسلم، والأربعة اهـ، صه وفي التقريب صدوق يهم من السابعة. اهـ.

6 -

"نافع" العدوي مولى ابن عمر المدني ثقة من [3] تقدم. في 12/ 12.

7 -

"عبد الله بن عمر" بن الخطاب رضي الله عنهما تقدم، في 12/ 12.

لطائف الإسناد

فيه: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته ما بين مروزي، وهو الأول، وكوفيين وهم الثلاثة بعده، ومدنيين وهم من الضحاك إلى آخره، وفيه من صيغ الأداء الإخبار، والتحديث، والإنباء، والعنعنة، والقول.

شرح الحديث

"عن ابن عمر" بن الخطاب رضي الله عنهما أنه "قال: مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم" هو أبو الجهيم بالتصغير عبد الله بن الحارث بن الصمة كما بينه الشافعي رحمه الله تعالى في روايته لهذا الحديث من طريق الأعرج، وصرح به في مشكاة المصابيح. قال في باب التيمم، وعن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة قال "مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد عليَّ حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ثم وضع يديه على الجدار، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد عليَّ" ذكره البغوي في شرح السنة:، وقال: هذا حديث حسن. اهـ. ويحتمل أن يكون المراد بالرجل هو المهاجر بن قنفذ الآتي في الباب التالي. ومعنى مر عليه: اجتاز عليه،

ص: 578

يقال: مررت يزيد، وعليه مَرًا ومُرورا وممَرًا: اجتزت. قاله في المصباح.

وعبارة القاموس وشرحه: مرَّ عليه يمر، مرا، ومرورا. جاز، ومَرَّ مَرًا، ومُرورا: ذهب كاستمر، وقال ابن سيده: مر يمر مرا ومرورا: جاء وذهب، ومره، ومر به جاز عليه، وهذا قد يجوز أن يكون مما يتعدى بحرف وغير حرف، ويجوز أن يكون مما حذف فيه الحرف فأوصل الفعل، وعلى هذين الوجهين يحمل بيت جرير (من الوافر):

تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا .... كَلامُكُمُو عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ

وقال بعضهم: إنما الرواية مَرَرْتم بالدِّيَار ولم تَعُوجوا فدل هذا على أنه فرق من تعديه بغير حرف، وأما ابن الأعرابي فقال: مر زيدا في معنى مر به، لا على الحذف، ولكن على التعدي الصحيح، ألا ترى أن ابن جني قال: لا تقولوا مررت زيدا في لغة مشهورة إلا في شيء حكاه ابن الأعرابي، قال: ولم يروه أصحابنا. اهـ ق وتاج جـ 3/ ص 537.

"وهو" صلى الله عليه وسلم "يبول" جملة حالية أي والحال أن النبي صلى الله عليه وسلم يبول "فسلم" ذلك الرجل "عليه" صلى الله عليه وسلم "فلم يرد" النبي صلى الله عليه وسلم "عليه" أي الرجل المسلم "السلام" يحتمل أنه أخر الرد حتى تطهير كما في الرواية الآتية في الباب الآتي، تعظيما لذكر اسم الله؛ لأن السلام اسم من أسماء الله كما ورد في الحديث، ويؤيده أن في رواية أبي داود وغيره زيادة "ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر".

ويحتمل أنه ترك الرد عليه أصلا تأديبا له، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه من طريق جابر قال "إن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتني على مثل هذه الحال فلا تسلم عليَّ فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك" وفي سنده سويد بن سعيد وفيه مقال إلا أنه لم ينفرد به.

ص: 579

قال الحافظ أبو بكر البوصيري في مصباح الزجاجة: هذا إسناد حسن؛ لأن سويدا لم ينفرد به فله متابع عن عيسى بن يونس في مسند أبي يعلى وغيره اهـ، 1/ 149. وقد مر قريبا.

وقال العلامة السندي: ويحتمل أنه ترك الرد أحيانا، وأخره أحيانا

على حسب اختلاف الناس في التأديب وغيره اهـ جـ 1/ ص 37.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه مسلم.

"المسألة الثانية": في بيان موضع ذكره عند المصنف، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه المصنف هنا -33/ 37 - بالسند المذكور، وأخرجه مسلم في الطهارة عن محمَّد بن عبد الله بن نُمَيْر، عن أبيه، عن سفيان، عن الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه أبو داود فيه أي الطهارة عن أبي بكر، وعثمان ابني شيبة كلاهما عن عمر بن سعد الحَفَري، والترمذي فيه أي الطهارة، وفي الاستئذان عن نصر بن علي، ومحمد بن بشار كلاهما عن أبي أحمد الزُّبَيري، وفي الاستئذان أيضا عن محمَّد بن يحيى النيسابوري. عن محمَّد بن يوسف، وابن ماجه في الطهارة عن عبد الله بن سعيد، والحسين بن أبي السَّريّ، كلاهما عن أبي داود الحَفَري، كلهم عن سفيان الثوري، عن الضحاك بن عثمان به. أفاده الحافظ المزي. وأخرجه أحمد، والبيهقي.

"المسألة الثالثة": زاد أبو داود من طريق ابن عمر وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 580

تيمم ثم رد على الرجل السلام" فيستفاد من مجموع الأحاديث كراهة ذكر الله تعالى حال قضاء الحاجة، ولو كان واجبا باعتبار الأصل كرد السلام، وكونُ المسلم في هذا الحال لا يستحق جوابا، وهذا متفق عليه، وأما رده صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فمن مكارم أخلاقه، ولذا نهى ذلك الرجل عن السلام عليه، وإن سلم فلا يرد عليه، كما قدمناه في حديث ابن ماجه.

قال العلماء: وكما لا يرد السلام حال قضاء الحاجة لا يشمت العاطس، ولا يحمد الله تعالى إذا عطس، ولا يجيب المؤذن، وكذا لا يأتي بشيء من ذلك حال الجماع، وإذا عطس في هذه الأحوال يحمد الله تعالى في نفسه، ولا يحرك به لسانه.

وكراهة الذكر في هذه الأحوال كراهة تنزيه، لا تحريم كما عليه الأكثرون.

وحكي عن إبراهيم النخعي، وابن سيرين، أنه لا بأس بالذكر حال قضاء الحاجة، لكن لا وجه لهما. اهـ المنهل جـ 1/ ص 67.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 581

‌34 - رد السلام بعد الوضوء

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية رد السلام على من سلم على من يبول بعد الوضوء.

ذكر المصنف في الباب المتقدم السلام على من يبول وذكر هنا الرد بعد الوضوء، وكأنه والله أعلم يشير إلى أن عدم رده صلى الله عليه وسلم المذكور في الحديث الأول ليس إبطالا للسلام، بل المراد أنه أخر جوابه حتى يكون على أكمل حال.

والحاصل: أن المفهوم من الترجمتين كون المسلم على من يبول لا يستحق جوابا في الحال بل بعد إنتهاء البول والطهارة.

لكن قدمنا في حديث ابن ماجه أنه لا يستحق جوابا فيحتمل أنه لا يستحق جوابا في الحال، ويحتمل أنه لا يستحق أصلا ويكون رده صلى الله عليه وسلم بعد الوضوء من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وهذا الثاني هو الأقرب، لحديث ابن ماجه المتقدم، فتبصر.

38 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حُضَيْنٍ أَبِي سَاسَانَ، عَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ، فَلَمَّا تَوَضَّأَ رَدَّ عَلَيْهِ.

ص: 582

رجال الإسناد: سبعة

1 -

"محمَّد بن بشار" بن عثمان العَبْدي أبو بكر البصري الحافظ بُنْدار بضم الباء وفتحها وسكون النون أحد أوعية السنة، عن المعتمر، ويزيد بن زريع، وغندر، ويحيى القطان، وخلق من طبقتهم. وعنه الجماعة، وابن خزيمة، وابن صاعد، وخلق، قال الخطيب: كان يحفظ حديثه، وقال ابن خزيمة: حدثنا الإمام محمَّد بن بشار، وقال العجلي: بندار ثقة كثير الحديث، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: لا بأس به، وقال الذهبي: انعقد الإجماع بعدُ على الاحتجاج ببندار، مات سنة 252.اهـ صه بزيادة يسيرة [10] وتقدم في 24/ 27.

2 -

"معاذ بن معاذ" التميمي العنبري أبو المُثَنَّى البصري الحافظ قاضي البصرة. عن سليمان التيمي، وحميد، وابن عون، وخلق. وعنه أحمد، وإسحاق، وابن المديني، وابن معين، وخلق. قال القطان: ما بالبصرة ولا بالكوفة ولا بالحجاز أثبت من معاذ بن معاذ.

قال ابن سعد: مات سنة ست وتسعين ومائة، من كبار [9]. أخرج أحاديثه الجماعة اهـ صه ج 3/ ص 37.

3 -

"سعيد" هو ابن أبي عروبة واسم أبيه مهران اليشكري مولاهم أبو النضر البصري الحافظ العلم، عن الحسن، والنضر بن أنس، حديثا واحدا، وأبي التَّيَاح، ومطر الورَّاق. وخلق. وعنه شعبة، وابن علية، ويزيد بن زريع، ومحمد بن جعفر، وخلق. قال أحمد: قدري لم يكن له كتاب إنما كان يحفظ، وقال ابن معين: ثقة من أثبتهم في قتادة، وقال أبو حاتم: ثقة قبل أن يختلط، وقال دُحيم: اختلط سنة خمس وأربعين ومائة، وقال النسائي: لم يسمع من عمرو بن دينار

ص: 583

وزيد بن أسلم، والحكم بن عُتيبة، قال عبد الصمد بن عبد الوارث: مات سنة 156، أخرج له الجماعة اهـ صه. من [7].

4 -

"قتادة" بن دعامة بالكسر، أبو الخطاب البصري ثقة ثبت تقدم. في 30/ 34 رأس الطبقة [4].

5 -

"الحسن" بن أبي الحسن يسار البصري العلم المشهور ثقة حجة من [3] تقدم في 32، 36.

6 -

"حضين" بضاد معجمة مصغرا ابن المنذر بن الحارث الرَّقَاشي "أبو ساسان" بمهملتين وهو لقب وكنيته أبو محمد، كان من أمراء علي بصفين، وهو ثقة من الثانية، مات على رأس المائة اهـ تقريب، 1/ 77، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود، قال أبو أحمد العسكري: لا أعرف من يُسمَّى حضينا بالضاد غيره، وحكى مغلطاي أنه قيل فيه بالصاد المهملة، قال الشيخ ولي الدين: وفيه نظر. من الثانية.

7 -

"المهاجر بن قنفذ" بضم القاف والفاء بينهما نون ساكنة ابن عمير ابن جُدعان بضم فسكون التيمي صحابي أسلم يوم الفتح، وولاه عثمان شرطته أفاده في التقريب. وفي المنهل قيل إن اسم المهاجر عمرو، واسم قنفذ خلف، وإن مهاجرا وقنفذا لقبان، وإنما قيل له المهاجر لأنه لما أراد الهجرة أخذه المشركون، فعذبوه، ثم هرب منهم، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا المهاجر حقا، وقيل: إنه أسلم يوم فتح مكة، وسكن البصرة، ومات بها. روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. اهـ.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف.

ص: 584

ومنها: أن رواته كلهم بصريون.

ومنها: أنهم ثقات.

ومنها: أن فيه رجلا لا يشاركه في اسمه أحد وهو حضين كما أشار إليه السيوطي في الألفية بقوله:

وليسَ في الرُّوَاه من حُضَيْن .... إلا أبُو سَاسَانَ عَنْ يَقين

ومنها: أن شيخ المصنف هو أحد المشايخ الذين اشترك أصحاب الأصول في الأخذ عنهم، وهم تسعة نظمتهم بقولي:

اشْتَرَكَ الأئمَّةُ الهُدَاةُ

ذَوُو الأصُول السِّتَّة الوُعَاةُ

في تسْعَة منَ الشُّيُوخ المَهَرَهْ .... البَارعينَ النَّاقدينَ البَرَرَه

أولئكَ الأشَجُّ وابنُ مَعْمَر

نَضْرٌ ويَعْقُوبُ وعَمْروٌ السَّري

وابنُ العَلاء وابنُ بَشَّار كَذَا .... ابنُ المُثَنَّى وزيَادٌ يُحْتَذَى

شرح الحديث

"عن المهاجر" بصيغة اسم الفاعل "ابن قنفذ" بضم القاف والفاء بينهما نون ساكنة رضي الله عنه "أنه" أي المهاجر "سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو" الواو للحال أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم "يبول" وكذا في رواية أبي داود ومثله رواية أبي الجُهَيم عند البغوي في شرح السنة، ورواية أبي هريرة عند ابن ماجه، والظاهر من هذه الروايات أن السلام كان حال قضاء الحاجة، وظاهر رواية أحمد، وابن ماجه، والبيهقي من حديث المهاجر بن قنفذ "أنه سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه" الحديث.

وثبت في رواية الشيخين وغيرهما من حديث أبي الجهيم، وابن عمر، وابن عباس أن السلام كان بعد قضاء الحاجة.

ص: 585

قال في المنهل: ولا تنافي بين هذه الروايات لأن الواقعة متعددة اهـ جـ 1/ ص 70. وسيأتي قريبا جمع آخر في قول ابن العربي، إن شاء الله تعالى.

"فلم يرد عليه" سلامه لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى، ففي حديث أنس مرفوعا "إن السلام اسم من أسماء الله تعالى وضع في الأرض فأفشوا السلام بينكم" رواه البخاري في الأدب المفرد، فكره صلى الله عليه وسلم أن يذكر الله تعالى إلا على طهارة، بل آخره "حتى توضأ فلما توضأ رد عليه" وفي رواية أبي داود "ثم اعتذر إليه، فقال إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر" واعتذاره صلى الله عليه وسلم إليه تطييب لقلبه إذ أخر رد سلامه إلى أن فرغ من الوضوء وإلا فترك الرد حال البول لا يعتذر منه، لأن السلام في مثل هذه الحال غير مشروع كما قدمناه في رواية ابن ماجه بإسناد حسن، أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سلم عليه وهو يبول:"إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليَّ فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك".

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته: حديث المهاجر رضي الله عنه صحيح.

"المسألة الثانية": في بيان موضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -34/ 38 - وفي الكبرى 28/ 37 عن محمَّد بن بشار، عن معاذ بن معاذ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر، عن المهاجر رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن محمَّد بن المثنى، عن عبد الأعلى، عن سعيد بسند المصنف، وأخرجه ابن ماجه فيه عن إسماعيل بن محمَّد الطَّلْحي،

ص: 586

وأحمد بن سعيد الدارمي، كلاهما عن روح، عن سعيد، الخ. أفاده المزي. وأخرجه أحمد، والبيهقي.

"المسألة الثالثة": أنه وقع هنا وفي الباب السابق أن السلام كان في حالة البول ووقع في رواية ابن ماجه، وأحمد من حديث المهاجر أنه سلم عليه وهو يتوضأ، ووقع عند أبي داود في باب التيمم من رواية محمَّد بن ثابت العبدي عن نافع، عن ابن عمر قال "مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكَّة من السِّكك، وقد خرج من غائط، أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه" وهذا صريح في أن السلام كان بعد البول.

فالتوفيق بين هذه الروايات أن تحمل رواية وهو يتوضأ على مقدماته وهو البول بطريق الاستعارة.

وأما رواية وقد خرج من غائط أو بول فلا تُعارض غيرها لأن في سندها محمَّد بن ثابت العبدي قال ابن العربي في شرح الترمذي بعد ذكر رواية الضحاك بن عثمان عن نافع التي تقدمت في الباب السابق هذا حديث صحيح اتفق عليه العلماء، فلا تُعارض حديثَ الصحيحين أو أحدهما روايةُ السنن على أن كل الروايات موافقة له، ومحمد بن ثابت العبدي ضعيف الحديث، أو تكونان واقعتين مختلفتين اهـ.

"المسألة الرابعة": دل قوله صلى الله عليه وسلم "إني كرهت أن اذكر الله عز وجل إلا على طهر" على كراهة ذكر الله حال قضاء الحاجة ولو كان واجبا كرد السلام ولا يستحق المسلم في تلك الحالة جوابا، قال النووي رحمه الله: وهذا متفق عليه. اهـ. لكن قدمنا عن إبراهيم وابن سيرين عدم كراهة الذكر حال قضاء الحاجة فتأمل.

وفيه أنه ينبغي لمن سلم عليه في تلك الحال أن يَدَعَ الرد حتى يتوضأ، أو يتيمم، ثم يرد، وهذا إذا لم يخش فوت المسلم، أما إذا خشي فوته

ص: 587

فالحديث لا يدل على المنع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تمكن من الرد بعد أن توضأ أو تيمم على اختلاف الرواية، فيمكن أن يكون تركه لذلك طلبا للأشرف وهو الرد حال الطهارة.

ويبقى الكلام في الحمد حال العطاس فالقياس على التسليم المذكور في حديث الباب وكذلك التعليل بكراهة الذكر إلا على طهر يشعران بالمنع من ذلك، ولكن ظاهر حديث "إذا عطس أحدكم فليحمد الله" يشعر بشرعيته في جميع الأوقات التي منها وقت قضاء الحاجة فهل يخصص عموم كراهة الذكر المستفادة من المقام بحديث العطاس، أو يجعل الأمر بالعكس، أو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه فيتعارضان فيه تردد، وقد قيل: إنه يحمد بقلبه وهو المناسب لتشريف مثل هذا الذكر وتعظيمه وتنزيهه قاله الشوكاني، 1/ 119، 120.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح لديَّ أنه يؤخر الحمد إلى أن يفرغ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في رد السلام جمعا بين المصلحتين، إذ كل منهما واجب فإذا لم يمكن أداؤه في الحال استدركه فيما بعدُ، وأما الحمد بالقلب فلا يسقط الطلب بالحمد اللفظي ما دام ممكنا والله أعلم.

وفي الحديث أيضا: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق وعظيم الشِّيَم وكمال الشفقة.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 588

‌35 - النهي عن الاستطابه بالعظم

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن الاستطابة بالعظم.

والاستطابة: الاستنجاء، يقال: استطاب، وأطاب إطابة أيضا: إذا استنجى؛ لأن المستنجى تَطيب نفسه بإزالة الخبث عن المخرج. أفاده في المصباح.

والعظم: بفتح فسكون جمعه عظام، وأعظم، مثل سهام، وأسهم. أفاده في المصباح، والمناسبة بين البابين من حيث إن الاستطابة يطلب لإزالة البول ونحوه، والأبواب تسلسلت في موضوع البول والبحث عن السلام عنده، والردّ بعده.

39 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ سَنَّةَ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ أَحَدُكُمْ بِعَظْمٍ، أَوْ رَوْثٍ.

رجال الإسناد: سته

1 -

"أحمد بن عمرو بن السرح" هو أحمد بن عمرو بن عبد الله ابن عمرو بن السَّرْح بمهملات، الثانيةُ ساكنة، الأموي مولاهم أبو الطاهر المصري الفقيه. عن ابن عيينة، والوليد بن مسلم، ووكيع، وابن القاسم، والشافعي، وخلق، وعنه مسلم، وأبو داود،

ص: 589

والنسائي، وابن ماجه، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وقالا: لا بأس به. ووثقه أبو داود، والنسائي، وقال علي بن الحسن بن خلف بن فديد: كان ثقة ثبتا صالحا، وقال ابن يونس: كان فقيها من الصالحين الأثبات، توفي سنة تسع وأربعين، وقيل سنة 250 من [10].

2 -

"ابن وهب" هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، أبو محمد البصري الفهري ثقة حافظ عابد من [9] تقدم في 9/ 9.

3 -

"يونس" بن يزيد الأيلي ثقة من [7] ثقة تقدم. في 9/ 9.

4 -

"ابن شهاب" أبو بكر محمَّد بن مسلم الزهري العلم المشهور [4] تقدم. في 1/ 1.

5 -

"أبو عثمان بن سَنَّة الخُزَاعي" بفتح السين المهملة وتشديد النون الدمشقي مقبول من الثانية، ووهم من زعم أن له صحبة، فإن حديثه مرسل، وأخرج له المصنف، وابن ماجه في تفسيره. قاله في التقريب.

6 -

"عبد الله بن مسعود" بن غافل -بمعجمة ثم فاء مكسورة بعد الألف- بن حبيب بن شَمْخ -بفتح المعجمة الأولى وسكون الميم- بن مخرمة بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي أبو عبد الرحمن الكوفي، أحد السابقين الأولين، وصاحب النعلين، شهد بدرا والمشاهد، وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا، اتفقا على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، وروى عنه خلق من الصحابة، ومن التابعين علقمة، ومسروق، والأسود، وقيس بن أبي حازم، والكبار، تلقن من النبي صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، قال علقمة: كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه، ودله وسمته، قال أبو نعيم: مات بالمدنية سنة 32 عن بضع وستين سنة، أخرج أحاديثه الجماعة اهـ صه، جـ 1/ ص 99.

ص: 590

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رواته ما بين مصريَّين وهما الأول والثاني، وأيلي وهو يونس، ومدنيين وهما ابن شهاب والصحابي، ودمشقي وهو ابن سنة.

ومنها: أن فيه راويا انفرد المصنف بإخراج حديثه في الأصول الستة وهو أبو عثمان بن سنة الخزاعي.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي.

ومنها: أن أبا عثمان هذا قال الذهبي في الميزان ما أعرف روى عنه غير الزهري، وقال أبو زرعة الرازي: لا أعرف اسمه. قاله في تهذيب الكمال.

تنبيه: قد وهم من عد ابن مسعود من العبادلة لأنه مات قبل أن يشتهر هذا اللقب.

شرح الحديث

"عن عبد الله بن مسعود" الهُذَلي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى" قال في المختار نهاه عن كذا ينهاه نَهْيًا، وانتهي عنه، وتناهى: أي كف. اهـ. وفي المصباح نهيته عن الشيء أنهاه نهيا فانتهى عنه، ونهوته نهوا لغة، ونهى الله تعالى أي حَرَّم اهـ.

أي منع النبي صلى الله عليه وسلم "أن" مصدرية "يستطيب أحدكم" أي يستنجي، قال في لسان العرب: الاستطابة والإطابة كناية عن الاستنجاء، وسمي بهما من الطيب، لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء، أي يطهره، ويقال منه: استطاب الرجل، فهو مستطيب، وأطاب نفسه فهو مطيب، قال الأعشي (من الرجز):

ص: 591

يَارَخَمًا قَاظَ عَلَى مَطْلُوبِ

يُعْجلُ كَفَّ الخَارِيءِ المُطِيبِ اهـ.

وأن وصلتها في تأويل المصدر مجرور بحرف جر محذوف قياسا كما قال ابن مالك:

وَعَدِّ لازمًا بحَرْف جَرٍّ

وإنْ حُذفْ فَالنَّصْبُ للمُنْجَرِّ

نَقْلا وفي أنَّ وأنْ يَطَّردُ

مَعْ أمْن لَبْس كَعَجبْتُ أنْ يَدُوا

أي نَهَى عن استطابة أحدكم، وهو يشمل المذكور والإناث "بعظم أو روث" بفتح فسكون، قال ابن سيده: الروث رجيع ذي الحافر، والجمع أرواث. اهـ لسان، وفي المصباح رَاثَ الفرسُ ونحوه رَوْثا، من باب قال، والخارج رَوْث تسميةً بالمصدر، والروثة الواحدة. اهـ.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وإن كان في سنده أبو عثمان بن سنة. وهو كما في التقريب مقبول لكن لحديثه شواهد عند الشيخيين وغيرهما فيكون صحيحا.

فقد أخرج البخاري في باب ذكر الجن عن أبي هريرة رضي الله عنه "أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها قال: مَن هذا؟ قال: أنا أبو هريرة، قال: ابغني أحجارًا استنفض بها، ولا تأتني بعظم، ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وَفْد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمرُّوا بعظم ولا بروثة، إلا وجدوا عليها طعاما".

وأخرج مسلم، وأحمد، عن ابن مسعود رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 592

قال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، وقال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفرَ ما يكون لحما، وكل بَعْرة علف لدوابكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم" ورواه أيضا أبو داود، والحاكم، والدارقطني.

وأخرج مسلم، وأبو داود، وأحمد، عن جابر رضي الله عنه قال:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسح بعظم أو بعرة".

وعن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بروث أو بعظم، وقال: إنهما لا يطهران" رواه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح.

وقد ورد في الباب أحاديث متعددة مصرحة بالنهي عن العظم والروث. قاله الشوكاني رحمه الله.

وقال الحافظ في التلخيص: وفي الباب عن الزبير بن العوَّام رواه الطبراني بسند ضعيفه، وعن سلمان رواه مسلم، وعن رُوَيفع بن ثابت رواه أبو داود، والنسائي، وعن سهل بن حُنيف رواه أحمد وإسناده واه، وعن رجل من الصحابة رواه الدارقطني وزاد فيه "أو جلد" قال: ولا يصح ذكر الجلد فيه، وروى ابنُ خزيمة، والدارقطني من طريق الحسن بن فرات، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران" اهـ جـ 1/ ص 109.

"المسألة الثانية": حديث الباب بهذا السند مما انفرد به المصنف من بين الستة كما أشار إليه أبو الحجاج المزي في التحفة جـ 7/ ص 167.

"المسألة الثالثة": في اختلاف العلماء فيما دل عليه الحديث.

ص: 593

دل حديث الباب والأحاديث التي ذكرناها على منع الاستنجاء بالعظم والروث.

وقد اختلف العلماء في ذلك فقال الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحق، والظاهرية: لا يصح الاستنجاء بهما، واستدلوا بهذه الأحاديث وغيرها.

وذهب بعض البغداديين إلى جواز ذلك، وهو قول أبي حنيفة، قال في البدائع: فإن فعل يعني الاستنجاء بالعظم يعتد به عندنا، فيكون مقيما للسنة، ومرتكبا للكراهة. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: ويرده ما رواه الدارقطني، وصححه عن أبي هريرة كما تقدم قريبا. وفيه وقال "إنهما لا يطهران" فإنه نص صريح في عدم الجواز.

وقال الحافظ في الفتح: من قال: علة النهي عن الروث كونه نجسا ألحق به كل نجس، ومتنجس، وعن العظم كونه لزجا فلا يزيل إزالة تامة ألحق به ما في معناه كالزجاج الأملس، ويؤيده ما رواه الدارقطني، وصححه من حديث أبي هريرة، فذكر الحديث الذي مر آنفا.

وقال النووي في شرح مسلم: نبه النبي صلى الله عليه وسلم بالرجيع على جنس النجس، فإن الرجيع هو الروث، وأما العظم فلكونه طعاما للجن فنبه به على جميع المطعومات، وتلحق به المحترمات، كأجزاء الحيوان، وأوراق كتب العلم، ولا فرق في النجس بين المائع والجامد. فإن استنجى بنجس لم يصح استنجاؤه، ووجب عليه بعد ذلك الاستنجاء بالماء ولا يجزئه الحجر؛ لأن الموضع صار نجسا بنجاسة أجنبية، ولو استنجى بمطعوم أو غيره من المحترمات الطاهرات فالأصح أنه لا يصح استنجاؤه، ولكن يجزئه الحجر بعد ذلك إن لم يكن نقل النجاسة من

ص: 594

موضعها، وقيل: إن استنجاءه الأول يجزئ مع المعصية. اهـ.

وقال الشوكاني: قيل: والعلة في النهي عن العظم اللزوجة المصاحبة له التي لا يكاد يتماسك معها، وقيل: عدم خلوه في الغالب عن الدسومة، وقيل: لكونه طعام الجن، وهذا هو المتعين لورود النص به فيلحق به سائر المطعومات، وأما الروث فعلة النهي عنه النجاسة، والنجاسة لا تزال بمثلها. اهـ نيل جـ 1/ ص 150.

وقال الصنعاني في سبل السلام: وعلل هنا بأنهما لا يطهران، وعلل بأنهما طعام الجن، وعللت الروثة بأنها ركس، والتعليل بعدم التطهير فيها عائد إلى كونها ركسا، وأما عدم تطهير العظم فلأنه لزج لا يكاد يتماسك، فلا ينشف النجاسة، ولا يقطع البلة، ولما علَّلَ صلى الله عليه وسلم بأن العظم والورثة طعام الجن قال له ابن مسعود:"وما يغني عنهم ذلك يا رسول الله؟ قال: إنهم لا يجدون عظمًا إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان يوم أخذ، ولا وجدوا روثا إلا وجدوا فيه حَبَّهُ الذي كان يوم أكل" رواه أبو عبد الله الحاكم في الدلائل، ولا ينافيه ما ورد أن الروث علف لدوابهم كما لا يخفى. اهـ. أي لإمكان حمل الطعام فيه على طعام الداوب اهـ المنهل، جـ 1/ ص 145.

وقال المجد ابن تيمية في المنتقى: وفيه تنبيه على النهي عن إطعام الدواب النجاسة اهـ.

قال الشوكاني: لأن تعليل النهي عن الاستنجاء بالبعرة بكونها طعام داوب الجن يشعر بذلك اهـ، جـ 1 / ص 151.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 595

‌36 - النهي عن الاستطابة بالروث

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن الاستنجاء بالروث وتقدم معنى الاستطابة في الباب السابق.

40 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْقَعْقَاعُ عَنْ أَبِى صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْخَلَاءِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا، وَلَا يَسْتَنْجِ بِيَمِينِهِ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

"يعقوب بن إبراهيم" بن كثير العبدي الدَّوْرَقي الحافظ أخو أحمد الحافظ أبو يوسف البغدادي، رَوَى عن يحيى بن أبي زائدة، ومعتمر بن سليمان، وعبد العزيز بن أبي حازم، وخلق. وعنه الجماعة، قال الخطيب: كان ثقة حافظا متقنا صنف المسند، قال السراج: مات سنة 252. اهـ صه من [10]، وتقدم في 21/ 22.

2 -

"يحيى بن سعيد" بن فَرُّوخ القطان أبو سعيد البصري الثقة العلم

ص: 596

من كبار [9] تقدم في 4/ 4.

3 -

"محمَّد بن عجلان" القرشي، أبو عبد الله المدني، أحد العلماء العاملين، عن أنس، وأبي حازم الأعرج، وعكرمة، وطائفة، وعنه عبد الوهاب بن بَخْت، ومنصور، وشعبة، والثوري، ومالك، وخلق، وثقه أحمد، وابن معين، وذكره البخاري في الضعفاء، وحُمل به ثلاث سنين، توفي سنة 148، أخرج له الأربعة، وروى له البخاري تعليقا ومسلم متابعة. اهـ صه.

وقال في التقريب: صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة من الخامسة.

وقال يحيي القطان: كان مضطربا في حديث نافع، وقال مالك: لما بلغه أن ابن عجلان حدث بحديث "خلق الله آدم على صورته" لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء، ولم يكن عالما، ولكن لابن عجلان فيه متابعون، وقال الذهبي: كان ابن عجلان من الرفعاء، والأئمة أولي الصلاح والتقوى، ومن أهل الفتوى، ومع كونه متوسطا في الحفظ فقد كان جيد الذكاء، مجاب الدعوة. اهـ المنهل، جـ 1/ ص 44.

4 -

"القعقاع" بن حكيم الكناني المدني، رَوَى عن ابن عمر، وجابر، وعائشة، وعلي بن الحسين، وغيرهم. وعنه سعيد المقبري، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، ومحمد بن عجلان، وكثيرون، وثقه أحمد، وابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: ليس بحديثه بأس. اهـ المنهل جـ 1/ ص 444. أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة من [4].

5 -

"أبو صالح" ذكوان السمان المدني، روى عن أبي سعيد، وأبي الدرداء، وعائشة، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه بنوه سهيل، وعبد الله

ص: 597

وصالح، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، وسمع منه الأعمش ألف حديث.

قال أحمد: ثقة من أجل الناس، وأوثقهم، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، وقال: صالح الحديث، يحتج بحديثه، وقال أبو زرعة: ثقة مستقيم الحديث، توفي سنة 101، روى له الجماعة. من [3].

6 -

"أبو هريرة" عبد الرحمن بن صخر الدَّوْسي الشهير رضي الله عنه تقدم. في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رواته ما بين بغدادي وهو الأول، وبصري وهو يحيى، ومدنيين وهم الباقون.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي.

ومنها: أن صحابيه أكثر الصحابة رواية، وقد تقدم أنه روى 5374 حديثا، وأن المكثرين سبعة.

ومنها: أن شيخ المصنف أحد التسعة الذين روى الأئمة الستة في كتبهم عنهم من دون واسطة، وقد تقدم الكلام فيهم قريبًا.

ومنها: أن في قول المصنف: يعني ابن سعيد لطيفة إسنادية، وهي أنه إذا لم يكن الشيخ ذكر نسب شيخه، وأراد الراوي عنه أن ينسبه ينبغي له أن يفصل ذلك بيعني أو نحوها، لئلا يقول على شيخه ما لم يقله، قال السيوطي في الألفية.

ولا تَزدْ في نَسَب أوْ وَصْف مَنْ

فَوْقَ شُيُوخ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ

بنَحْو يَعْني أوْ بأنَّ أوْ بهُو الخ

ص: 598

شرح الحديث

"عن أبي هريرة" رضي الله عنه "عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه "قال إنما أنا لكم مثل الوالد" ولفظ أبي داود "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد" ولفظ ابن ماجه كلفظ المصنف إلا أنه زاد "لولده".

والمعنى: أنه مثل الوالد لولده في الشفقة والحُنُوّ، لا في الرتبة والعُلُوّ، لأنه لا يماثل النبي صلى الله عليه وسلم فيهما أحد قاله في المنهل، جـ 1/ ص 45.

"أعلمكم" جملة حالية من "أنا" وحذف المفعول لأفادة التعميم، أي كل ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، ولا يمنعني من ذلك التصريح بما يُستهجن، ولا أبالي بما يُستحيى من ذكره، وهذا تمهيد لما يُبَيّن لهم من آداب الخلاء إذ الإنسان كثيرا ما يستحي من ذكرها، ولا سيما في مجلس العظماء، قاله السندي رحمه الله، جـ 1/ ص 38.

"إذا ذهب أحدكم" يشمل الذكر والأنثي، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، وهو الذي يقع جوابا لسؤال مقدر، فكأنهم قالوا له ماذا تعلمنا؟ فأجابهم قائلا إذا ذهب أحدكم "إلى الخلاء" ولفظ أبي داود إلى الغائط.

والخلاء: كالفضاء وزنا ومعنى، والخلاء أيضا المتوضأ، وقد تقدم أن الخلاء بالمد موضع قضاء الحاجة، سمي بذلك لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، وهو الكنيف والحُشّ والمرفق والمرحاض أيضا، وأصله المكان الخالي، ثم كثر استعماله حتى تجُوِّزَ به عن الخارج، يعني أنه إذا ذهب أحدكم إلى المكان الخالي لأجل أن يقضي فيه حاجته، أو ذهب لقضاء الخلاء أي الخارج من البول والغائط فإلى بمعنى اللام، والخلاء بمعنى الخارج إطلاقا للمحلّ على الحالّ.

"فلا يستقبل القبلة" جواب إذا ولا ناهية، أي لا يتوجه إليها "ولا يستدبرها" أي لا يولّها ظهره "ولا يستنج بيمينه" أي لا يغسل موضع

ص: 599

النّجْو بفتح فسكون وهو الخرء، أو لا يمسح ذلك بحجر أو نحوه.

قال في المصباح: واستنجيت: غسلت موضع النجو، أو مسحته بحجر أو مدر، والأول مأخوذ من استنجيت الشجر: إذا قطعته من أصله؛ لأن الغسل يزيل الأثر، والثاني من استنجيت النخلة: إذا التقطت رُطَبَهَا؛ لأن المسح لا يقطع النجاسة بل يُبقي أثرها. اهـ.

"بيمينه" قال ابن سيده اليمين نقيض اليسار جمعه أيمان، وأيمُن، ويمان. قاله في اللسان، أي بيده اليمين "وكان" صلى الله عليه وسلم "يأمر بثلاثة أحجار" أي بالاستنجاء بثلاثة أحجار كما سيأتي التصريح به في حديث عائشة في باب الاجتزاء في الاستطابة بالحجارة دون غيرها "ونهى" صلى الله عليه وسلم "عن الروث" بفتح فسكون رجيع ذوات الحافر، والأشبه أن المراد هنا رجيع الحيوان مطلقا فيكون من إطلاق اسم الخاص على العام، أي نهى عن الاستنجاء بالروث "والرِّمِّة" بكسر الراء وتشديد الميم: هي العظم البالي، وتجمع على رمم، مثل سدرة وسدر، والرميم مثل الرِّمة، والمراد هنا مطلق العظم، لما تقدم من عموم النهي عن الاستنجاء به، ونص على الرمة بخصوصها لدفع توهم أن الجن لا ينتفعون بها فيجوز

الاستنجاء بها اهـ المنهل، جـ 1/ ص 46.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته:

حديث الباب فيه محمَّد بن عجلان وقد تقدم الكلام في أحاديثه في ترجمته لكن لحديثه شواهد كما تقدم فيصح.

"المسألة الثانية": في بيان موضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 600

أخرجه هنا -36/ 40، عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى القطان، عن ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود في الطهارة عن عبد الله بن محمَّد النفيلي، عن ابن المبارك عن محمَّد بن عجلان بسند المصنف.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة أيضا عن محمَّد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن عجلان الخ. وعن يعقوب بن حميد بن كاسب، عن المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، وعبد الله بن رجاء المكي كلاهما عن محمَّد بن عجلان الخ مختصرا "إذا استطاب أحدكم" الحديث أفاده أبو الحجاج المزي.

وأخرجه مالك، وأحمد، وليس في روايته الأمر بالأحجار، وأخرجه مسلم بلفظ "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" وأخرجه ابن حبان كلهم في الطهارة بألفاظ متقاربة قاله في المنهل، جـ 1/ ص 47.

"المسألة الثالثة" أنه:

دل الحديث على أنه يُطلب من الأبناء طاعة الآباء، وعلى الآباء إرشاد أولادهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه من الدين، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لجميع الأمة كالأب كما أن أزواجه أمهاتهم؛ لأن منه صلى الله عليه وسلم ومن أزواجه تعلم أحكام الدين، فبره، وبرهن أوجب من بر الوالدين، لقوله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: آية 6].

ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" متفق عليه.

ص: 601

ودل أيضا على منع استقبال القبلة واستدبارها بالبول أو الغائط، وقد تقدم تحقيقه في باب النهي عن استقبال القبلة، وعلى منع الاستنجاء باليمين، وبالروث، والعظم، وعلى وجوب الاستنجاء بثلاثة أحجار.

"المسألة الرابعة": قال في المنهل: وقد استنبط ابن التين من الحديث المذكور منع استقبال الشمس والقمر حال قضاء الحاجة، وكأنه قاسه على استقبال القبلة، وقياسه غير ظاهر على ما لا يخفى، ومردود بما يؤخذ من حديث أبي أيوب المتقدم، فإن قوله فيه "ولكن شرّقوا أو غرّبوا" صريح في جواز استقبال القمرين، واستدبارهما، إذ لا بد أن يكونا في الشرق أو الغرب غالبا.

وبهذا تعلم أنه لا وجه لمن قال من الفقهاء بكراهة استقبال الشمس، أو القمر، أو استدبارهما عند قضاء الحاجة.

وأما ما رواه الترمذي عن الحسن، قال: حدثني سبعة رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أبو هريرة، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وعمران بن حصين، ومعقل بن يسار، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، يزيد بعضهم على بعض في الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في المغتسل ونهى عن البول في الماء الراكد ونهى عن البول في الشارع ونهي أن يبول الرجل وفرجه باد إلى الشمس والقمر" فقال: الحافظ هو حديث باطل لا أصل له بل هو من اختلاق عباد بن كثير وذكر أن مداره عليه، وقال النووي في شرح المهذب إن هذا حديث باطل، وقال ابن الصلاح لا يعرف وهو ضعيف اهـ انتهى المنهل، 1/ 46. ببعض تصرف.

ص: 602

‌37 - باب النَّهْىِ عَنْ الاِكْتِفَاءِ فِي الاِسْتِطَابَةِ بِأَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن الاجتزاء في الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار.

41 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَيُعَلِّمُكُمْ حَتَّى الْخِرَاءَةَ. قَالَ: أَجَلْ، نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ نَسْتَنْجِيَ بِأَيْمَانِنَا، أَوْ نَكْتَفِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

"إسحق بن إبراهيم" بن مَخْلد الحنظلي، أبو محمَّد المشهور بابن راهويه المروزي الحافظ الثقة [10]، تقدم ذكره. في 2/ 2.

2 -

"أبو معاوية" محمَّد بن خازم بمعجمة التميمي مولاهم الضرير، أحد الأعلام الكوفي. روى عن الأعمش، وسهيل بن أبي صالح، وعاصم الأحول، وخلق. وعنه أحمد، وإسحق، وابن المديني، وابن

معين، وأبو خيثمة، وخلق. وروى عنه من شيوخه الأعمش، وابن

ص: 603

جريج. قال أحمد: كان في غير الأعمش مضطربا، وقال العجلي: ثقة يرى الإرجاء، وقال يعقوب بن شيبة: ربما دلس، قال ابن معين: مات سنة 195، أخرج له الجماعة اهـ صه، وفي "ت" ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، من كبار -9 - وتقدم في 26/ 30.

3 -

"الأعمش" سليمان بن مهْران أبو محمد الكاهلي مولاهم الكوفي ثقة من [5]، تقدم في 17/ 18.

4 -

"إبراهيم" بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي ثقة ثبت من [5]، تقدم. في 29/ 3.

5 -

"عبد الرحمن بن يزيد" بن قيس النخعي أبو بكر الكوفي. روى عن ابن مسعود، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي موسى، وعائشة. وعنه ابنه محمَّد، والشعبي، وسلمة بن كهيل، وغيرهم. وثقه ابن معين، والعجلي، والدارقطني، وابن سعد، وقال: له أحاديث كثيرة، قيل: مات سنة 83، أخرج له الجماعة. من كبار الطبقة الثالثة.

6 -

"سلمان" هو أبو عبد الله الفارسي ويعرف بسلمان الخير، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سئل عن نسبه فقال: أنا سلمان ابن الإسلام، أصله من جبا قرية من قرى أصبهان، وقيل: من رامهرمز، وكان أبوه دهقانها وسيدها، قال ابن إسحاق وغيره ما معناه: مَرَّ سلمان على النصارى المجاورين للفرس، وهم في كنائسهم، فأعجبه دينهم، فلزمهم فقيده أبوه على ذلك، وطلب منه خدمة بيت النار، ففكّ القيد، وخرج إلى الشام، فسأل عن عالم النصارى، فَدُلَّ عليه، فخدمه، واطلع منه على خيانة في دينه، فأخبر النصارى بذلك، فرجموه، وأقاموا مكانه رجلا صالحا، فصحبه سلمان حتى قارب الموت، فسأله أن يوصيه، فذكر له رجلا صالحا بالمَوْصل، فلما مات الأول، أتى هذا، وصحبه، فلما

ص: 604

حضرته الوفاة، قال له: أوصني، فذكر له رجلا بعمورية، فصحبه، فلما أشرف على الوفاة سأله الوصية، فقال: لا أجد اليوم أحدًا على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظل زمان نبي يبعث بدين إبراهيم مهاجره بأرض ذات نخل له آيات وعلامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فلما مر به ركب من العراق من كَلْب صحبهم، فباعوه بوادي القرى من يهودي، ثم اشتراه يهودي آخر من بني قريظة، وقدم به إلى المدينة، فأقام بها إلى أن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بعد أن رأى الصفات التي وصفت له وكان من خيار الصحابة.

قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" رواه الطبراني، والحاكم عن عمرو بن عوف، وقال: سنده ضعيف، وفي حديث آخر "سلمان سابق فارس" أخرجه ابن سعد عن الحسن مرسلا، وعن بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: علي منهم، يقول ذلك ثلاثا، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد" أخرجه الترمذي وابن ماجه

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: آية 38] فقالوا: من يستبدل بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان رضي الله عنه، ثم قال:"هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس" أخرجه الترمذي

(2)

، وقال الحسن: كان سلمان أميرًا على ثلاثين ألفا، فخطب فيهم في عباءة يفترش نصفها، وقال سليمان ابن المغيرة، عن حميد بن هلال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أبي الدرداء وسلمان، وقال لأبي الدرداء:"سلمان أفقه منك".

وكان سلمان إذا خرج عطاؤه يتصدق به، وينسج الخوص، ويأكل

(1)

حديث ضعيف.

(2)

حديث صحيح.

ص: 605

من كسب يده، له ستون حديثا، اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بثلاثة، وروى عنه ابن عباس، وأنس، وعقبة بن عامر، وأبو سعيد، وغيرهم، قال ابن الأثير: صح أنه أدرك وصي عيسى، وقرأ الكتابين. وذكر البغوي أن سلمان لما حضره الموت بكى، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدًا فتركنا عهده، أن تكون بلغة أحدنا كزاد الراكب، فلما مات، نظر فيما ترك، فهذا هو نحو ثلاثين درهما، توفي سنة 35 عن مائتين وخمسين سنة، وقيل: ثلاثمائة وقيل: غير ذلك. أخرج أحاديثه الجماعة.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم كوفيون إلا شيخ المصنف فإنه مروزي، وأن فيه راويا لا مشارك له في اسم أبيه، وهو محمَّد بن خازم أبو معاوية، وفيه رواية الرجل عن خاله، وهو إبراهيم فإن عبد الرحمن خاله، وكذا أخوه الأسود بن يزيد، فأمه مُليكة بنت يزيد بن قيس، وأن رواته كلهم ثقات.

وفيه: رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض، الأعمش، وإبراهيم، وعبد الرحمن.

وفيه: أن صحابيه معمّر لا يشاركه في عمره على بعض الأقوال غيره.

وفيه: من ألفاظ الأداء الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

"عن سلمان" الفارسي رضي الله عنه وقد "قال له" أي لسلمان "رجل" أي من المشركين، ففي رواية لمسلم، قال يعني سلمان قال لنا

ص: 606

المشركون، وفي ابن ماجه: قال: قال له بعض المشركين، وهم يستهزئون به: إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء. الخ.

والحاصل أنهم قالوا ذلك استهزاء "إن صاحبكم" يريد النبي صلى الله عليه وسلم "ليعلمكم" أي كل شيء كما في رواية أبي داود، وابن ماجه "حتى الخراءة" بالكسر والمد التخلي والقعود للحاجة قاله ابن الأثير، وقال الخطابي: وأكثر الرواة يفتحون الخاء قال: وقد يحتمل أن يكون بالفتح مصدرا وبالكسر اسما يقال: خَرىءَ خراءة وخرؤة وخرءًا سلح، مثل كره كراهة، وكرْها، والاسم الخِراء، والخُرء بالضم العذرة، أفاده في اللسان، وفي السندي الخراءة بكسَر خاء وفتح راء بعدها ألف ممدودة ثم هاء: هو القعود عند الحاجة، وقيل: هو فعل الحدث، وأنكر بعضهم فتح الخاء، لكن في الصحاح خرئ خَرَاءة، ككره كراهة، وهو يفيد صحة الفتح، وقيل: لعله بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، وقيل: المراد هيئة القعود للحديث، قلت: وهذا المعنى يقتضي أن يكون بكسر الخاء وسكون الراء وهمزة، كجلسة لهيئة الجلوس. اهـ كلام السندي. وفي المصباح: خرىء يخرأ، من باب تعب إذا تغوط، واسم الخارج خَرء، مثل فلس وفلوس، يعني أنه يعلمكم آداب التخلي والقعود عند قضاء الحاجة.

"قال" سلمان "أجل" بفتحتين، وسكون اللام، كنعم وزنا ومعنى.

قال في اللسان: وقولهم: أجل إنما هو جواب مثل نعم، قال الأخفش: إلا أنه أحسن من نعم في التصديق، ونعم أحسن منه في الاستفهام، فإذا قال: أنت سوف تذهب قلت: أجل، وكان أحسن من نعم، وإذا قال: أتذهب؟ قلت: نعم. وكان أحسن من أجل، وأجل تصديق لخبر يخبرك به صاحبك، فيقول: فعل ذلك، فتصدقه بقولك له: أجل، وأما نعم فهو جواب المستفهم بكلام لا جحد فيه، تقول له:

ص: 607

هل صليت؟ فيقول: نعم، فهو جواب المستفهم. اهـ.

يقول سلمان رضي الله عنه: نعم علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ شيء نحتاج إليه في ديننا.

قال الطيبي: جواب سلمان من باب أسلوب الحكيم لأن المشرك لما استهزأ كان من حقه أن يُهَدَّد، أو يُسكت عن جوابه، لكن ما التفت سلمان إلى استهزائه، وأجاب جواب المرشد للسائل المُجدّ. اهـ.

ويحتمل أنه رد له بأن ما زعمه سببا للاستهزاء ليس بسبب له بل المسلم يصرح به عند الأعداء؛ لأنه أمر يحسنه العقل عند معرفة تفصيله فلا عبرة بالاستهزاء به لإضافته إلى أمر مستقبح ذكره، والجواب بالرد لا يسمى أسلوب الحكليم. اهـ المنهل، جـ 1/ ص 38. ومثله للسندي.

قال الجامع عفا الله عنه: قلت: أسلوب الحكيم نوع من أنواع المحسنات البديعية المعنوية: وهو: تلقى المخاطب بغير ما يترقبه إما بترك سؤاله، والإجابة عن سؤال لم يسأله، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد إشارة إلى أنه كان ينبغي له أن يسأل هذا السؤال، أو يقصد هذا المعنى.

فكلام سلمان من النوع الثاني فهو من الأسلوب الحكيم كما قاله الطيبي، فتأمل.

"نهانا" أي منعنا "أن نستقبل القبلة" أي بفروجنا كما في الموطأ "لا تستقبلوا القبلة بفروجكم" و"أل" في القبلة للعهد. والمعهود الكعبة كما فسرها حديث أبي أيوب حيث قال: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة" الحديث "بغائط" هكذا عند المصنف بالباء، قال وليّ الدين العراقي: ضبطناه في سنن أبي داود بالباء الموحدة وفي مسلم باللام اهـ.

ص: 608

ومثله للنووي في شرح مسلم، وزاد وروي "للغائط" باللام والباء، وهما بمعنى اهـ، أي لأجل غائط، أو بسببه.

والغائط في الأصل: المكان المنخفض من الأرض، ثم صار اسما للخارج المعروف من دبر الآدمي.

"أو بول" هو في الأصل: مصدر بال، من باب قال، ثم استعمل في الخارج المعروف من القبل.

قال الشيخ ابن دقيق العيد: والحديث دل على المنع من استقبالها ببول أو غائط، وهذه الحالة تتضمن أمرين: أحدهما: خروج الخارج المستقذر، والثاني كشف العورة، فمن الناس من قال: المنع للخارج، لمناسبته لتعظيم القبلة عنه، ومنهم من قال: المنع لكشف العورة، وينبني على هذا الخلافُ في جواز الوطء مستقبلَ القبلة مع كشف العورة فمن علل بالخارج أباحه إذ لا خارج، ومن علل بالعورة منعه. اهـ شرح العمدة، جـ 1/ ص 53.

وتقدم تحقيق المسألة في باب النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة.

"أو نستنجي" بالنصب عطفا علي نستقبل أي نهانا أن نستنجي أي نغسل موضع النجو، أي الخرء بالماء، أو نمسحه بالحجر ونحوه كما تقدم قريبا تفسير الاستنجاء بهما "بأيماننا" جمع يمين خلاف الشمال، والنهي عن الاستنجاء باليمين على إكرامها وصيانتها عن الأقذار ونحوها، لأن اليمين للأكل والشرب، والأخذ، والإعطاء، ومصونة عن مباشرة الثُّفْل، وعن مماسة الأعضاء التي هى مجاري الأثفال

(1)

والنجاسات، خلاف الشمال، فإنها لخدمة أسفل البدن بإماطة ما هنالك من القَذَرات وتنظيف ما يحدث من الإنسان، وغيره، وسيأتي قريبًا تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى.

(1)

الأثْفَالُ بالفتح جمع ثُفْل بالضم كقُفْل، وأقفال: حُثالة الشيء، وهو الثخين الذي يبقى أسفل الصافي. اهـ المصباح جـ 1 ص 82.

ص: 609

"أو نكتفي" بالنصب أيضا أي نجتزىء "بأقل من ثلاثة أحجار" أي نهانا عن الاكتفاء في حالة الاستنجاء بالأحجار بأقل من ثلاثة أحجار، وهذا نص صريح في استيفاء ثلاث مسحات لابد منه.

قال الخطابي: فيه بيان أن الاستنجاء بالأحجار أحد المطهرَين وأنه إذا لم يستعمل الماء لم يكن بد من الحجارة، أو ما يقوم مقامها وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل اهـ.

وفي رواية غير المصنف زيادة "أو نستنجي برجيع أو عظم" والرجيع: فعيل بمعني فاعل، وهو الروث والعذرة؛ لأنه رجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعاما أو علفا.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولي" في درجته: حديث سلمان رضي الله عنه أخرجه مسلم.

"المسألة الثانية" في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -37/ 41 - وفي الكبرى -30/ 40 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي معاوية، عن الأعمش، وفي -42/ 49 - عن عمرو ابن علي، وشعيب بن يوسف، كلاهما عن ابن مهدي، عن سفيان، كلاهما عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية، ووكيع، وعن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، وعن أبي موسى، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش،

ص: 610

ومنصور، كلاهما عن إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدد، عن أبي معاوية بالسند المذكور.

وأخرجه الترمذي في الطهارة عن هناد، عن أبي معاوية الخ

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن علي بن محمَّد، عن وكيع بالسند المذكور، وعن بندار عن ابن مهدي به. أفاده المزي.

وأخرجه أحمد في المسند، والدارقطني

"المسألة الثالثة": حديث الباب اشتمل على مسائل:

منها: النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وتقدم الكلام عليه مستوفى في باب النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة، والباب الذي بعده، فأرجع إليه في 19/ 20 وفي 20/ 21.

ومنها: النهي عن الاستنجاء باليمين ويأتي الكلام عليه في بابه.

ومنها: النهي عن الاكتفاء بأقل من ثلاثة أحجار، وهذا هو الذي ترجم له المصنف وهو الذي نبحث عنه في المسألة التالية.

"المسألة الرابعة" أنه اختلف العلماء في اشتراط الثلاث في الاستنجاء بالأحجار:

فمنهم: من اشترطه، ومنهم من استحبه.

فالأول: مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الحديث، فإنهم اشترطوا أن لا ينقص من الثلاث مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها فيزاد حتى ينقي، ويستحب حينئذ الإيتار، لقوله:"ومن استجمر فليوتر" وليس بواجب لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد قال:

ص: 611

"ومن لا فلا حرج" وبهذا يحصل الجمع بين الروايات، قاله في الفتح جـ 1/ ص 309 مع زيادة يسيرة من المجموع.

المذهب الثاني: مذهب مالك، وداود قالا: الواجب الإنقاء فإن حصل بحجر أجزأه، وحكاه العبدري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال أبو حنيفة، حيث أوجب الاستنجاء.

واحتج هؤلاء: بحديث أبي هريرة "من استجمر فليوتر، ومن فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" قالوا: ولأن المقصود الإنقاء، ولأنه لو استنجى بالماء لم يشترط عدد فكذا الحجر.

واحتج أصحاب المذهب الأول: بحديث سلمان المذكور في الباب وهو صريح في وجوب الثلاث.

وبحديث أبي هريرة، وهو حديث صحيح، وبحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار" الحديث الآتي، وهو صحيح.

وبحديث أبي هريرة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرِّمّة" المتقدم، وهو صحيح، وبحديث خزيمة بن ثابت "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: بثلاثة أحجار" رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي

(1)

، وبحديث ابن مسعود "أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: إنها ركس" رواه البخاري هكذا، ورواه أحمد، والدارقطني، والبيهقي، وفي بعض رواياته زيادة "فألقى الروثة، وقال: ائتني بحجر" يعني ثالثا، وفي بعضها "ائتني بغيرها".

(1)

حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود جـ 1 ص 11.

ص: 612

وبحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من استجمر فليوتر" رواه مسلم.

وفي رواية لأحمد، والبيهقي، "إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثًا" قال البيهقي: هذه الرواية تُبَيّنُ أن المراد بالإيتار في الرواية الأولى ما زاد على الواحد.

قال الخطابي: في حديث سلمان "أمرنا أن نستنجي بثلاثة أحجار" في هذه البيانُ الواضحُ أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز، وإن حصل الإنقاء بدونها، ولو كفى الإنقاء لم يكن لاشتراط العدد معنى، فإنا نعلم أن الإنقاء قد يحصل بواحد. وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى، لأنه يزيل الين، والأثر، فدلالته قطعية فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد، وأما الحجر فلا يزيل الأثر، وإنما يفيد الطهارة ظاهرا لا قطعا فاشترط فيه العدد كالعدة بالأقراء لما كانت دلالتها ظنا اشترط فيها العدد، وإن كان قد تحصل براءة الرحم بقرء، ولهذا اكتُفي بقرء في استبراء الأمة، ولو كانت العدة الولادة لم يشترط العدد، لأن دلالتها قطعية هذا مختصر كلام الخطابي.

فإن قيل: التقييد بثلاثة أحجار إنما كان لأن الإنقاء لا يحصل بدونها غالبا، فخرج مخرج الغالب، قلنا: لا يجوز حمل الحديث على هذا، لأن الإنقاء شرط بالاتفاق، فكيف يُخلُّ به، ويذكر ما ليس بشرط مع

كونه موهما للاشتراط.

فإن قيل: فقد ترك ذكر الإنقاء، قلنا: ذلك من المعلوم الذي يستغنى بظهوره عن ذكره بخلاف العدد، فإنه لا يعرف إلا بتوقيف، فنص على ما يخفى وترك ما لا يخفى، ولو حمل على ما قالوه، لكان إخلالا

بالشرطين معا، وتعرضا لما لا فائدة فيه، بل فيه إيهام.

والجواب عن الحديث الذي احتجوا به أن الوتر الذي لا حرج في

ص: 613

تركه هو الزائد على ثلاثة، جمعا بين الأحاديث، والجواب عن الدليلين الآخرين سبق في كلام الخطابي، والله أعلم قاله الإمام النووي رحمه الله في المجموع، جـ 2/ ص 104.

وقال العلامة الشوكاني: وقد عارضت الحنفية هذا الحديثَ الدالّ على وجوب الثلاث يعني حديث سلمان بحديث ابن مسعود الآتي في الباب التالي، وفيه "فأخذ الحجرين وألقى الروثة"، قال الطحاوي: هو دليل على أن عدد الأحجار ليس بشرط، لأنه قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجار، لقوله:"ناولني" فلما ألقى الروثة دل على أن الاستنجاء بالحجرين يجزئ، إذ لو لم يكن ذلك لقال: ابغني ثالثا، وردّة الحافظ، وقال قد روى أحمد فيه هذه الزيادة بإسناد رجاله ثقات، قال في آخره فألقى الروثة وقال:"إنها ركس ائتني بحجر" قال: مع أنه ليس فيما ذكر استدلال لأنه مجرد احتمال وحديث سلمان نص في عدم الاقتصار على مادونها، ثم حديث سلمان قول، وحديث ابن مسعود فعل، وإذا تعارضا قدم القول. اهـ. وأيضا في سائر الأحاديث الناصة على وجوب الثلاث زيادة يجب المصير إليها مع عدم منافاتها بالاتفاق، ولم تقع هنا منافية فالأخذ بها متحتم. اهـ نيل الأوطار، جـ 1/ ص 149.

قال الجامع عفا الله عنه: المذهب الحق هو ما هذب إليه المشترطون للثلاث، لقوة دليله. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 614

‌38 - الرُّخْصَةِ فِي الاِسْتِطَابَةِ بِحَجَرَيْنِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الرخصة في الاستنجاء بحجرين، والرُّخصة وزان غُرْفة، وتضم الخاء للاتباع، ومثله ظُلْمة وظُلُمة وهُدْنة وهُدُنة، وقُرْبة وقُرُبة، وجُمْعة وجُمُعة، وخُلْبة وخُلُبة، لليف، وجُبْنَة وجبنة، لما يؤكل، وهُدْبة وهُدُبة الثوب، والجمع رُخَص ورُخُصات، مثل غُرَف وغُرُفات.

والرخصة: التسهيل في الأمر والتيسير، يقال: رخص الشرع لنا في كذا ترخيصا، وأرخص إرخاصا: إذا يسره وسهله. قاله في المصباح.

وتقدم تفسير الاستطابة قريبا.

أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أن الأمر بثلاثة أحجار ليس على سبيل الوجوب، مستدلا بحديث الباب، وقد عرفت ما فيه في الباب السابق.

42 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ، وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ يَقُولُ: أَتَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً، فَأَتَيْتُ بِهِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ،

ص: 615

وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ:"هَذِهِ رِكْسٌ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرِّكْسُ طَعَامُ الْجِنِّ.

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

"أحمد بن سليمان" بن عبد الملك الجزري الرُّهاوي بضم المهملة، أبو الحسين، الحافظ أحد الأثبات المشاهير. عن حسين الجعفي، ويزيد بن هارون، وجعفر بن عون، وزيد بن الحُباب، وعبد الله ابن واقد. وعنه المصنف فأكثر

(1)

وقال: ثقة، مأمون. قال عروبة: كان ثبتا في الأخذ، والأداء، مات سنة 261 اهـ صه بتغيير يسير، وفي "ت" ثقة حافظ من [11].

20 -

"أبو نعيم" الفضل بن دُكَين، واسمه عمرو بن حماد بن زهير التيمي مولى آل طلحة الكوفي المُلائي الأحول الحافظ العلم، عن الأعمش، وزكريا بن أبي زائدة، وجعفر بن بُرْقان، وأفلح بن حميد، وخلق.

وعنه البخاري، وأحمد، وإسحاق، ويحيى بن معين، وخلق، قال أحمد: ثقة، يقظان، عارف بالحديث.

وقال الفسوي: أجمع أصحابنا على أن أبا نعيم كان غاية في الإتقان قال يعقوب ابن شيبة: مات سنة 219 أخرج له الجماعة. اهـ صه، وفي "ت" ثقة ثبت من [9].

3 -

"زهير" بن معاوية بن حُدَيج بضم المهملة الأولى مصغرًا وآخره

(1)

أي أكثر عنه الرواية.

ص: 616

جيم ابن الرُّجَيل بجيم مصغرا ابن زهير بن خيثمة الجعفي، أبو خيثمة الكوفي، أحد الحفاظ والأعلام، عن سماك بن حرب، والأسود بن قيس، وزياد بن علاقة، وأبي الزبير، وخلق، وعنه القطان، وابن مهدي، وأبو نعيم، والأسود بن عامر، وعمرو بن خالد، وخلق. قال شعيب بن حرب: زهير أحفظ من عشرين مثل شعبة وقال أحمد: زهير ثبت، سمع من أبي إسحاق بأخرة. قال الخطيب: حدث عنه ابن جريج، وعبد الغفار الحراني، وبين وفاتيهما بضع وستون سنة، توفي سنة 173، ومولده سنة 100 أخرج له الجماعة. اهـ صه، وفي "ت" ثقة ثبت، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بأخرة، من [7].

4 -

"أبو إسحق" عمرو بن عبد الله السَّبيعي الهمداني، أبو اسحق الكوفي أحد أعلام التابعين. عن جرير البجلي، وعدي بن حاتم، وجابر بن سمرة، وزيد بن أرقم، وطائفة، وعنه ابنه يونس، وحفيده إسرائيل، وقتادة، وسليمان التيمي، وخلق، قال أبو حاتم: ثقة يشبه الزهري في الكثرة. قال محمَّد بن فضيل، عن أبيه: كان أبو إسحاق يقرأ في ثلاث. وقال حميد الرؤاسي: سمع منه ابن عيينة بعد ما

اختلط، قال الواقدي: مات سنة سبع وعشرين ومائة، أخرج له الجماعة. اهـ صه. وفي "ت" مكثر ثقة عابد، اختلط بآخره، من [3].

5 -

"أبو عُبَيْدة" بن عبد الله بن مسعود فشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر كوفي ثقة من كبار الثالثة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه من -3 - اهـ "ت". مات بعد سنة 80.

وقال في الخلاصة: عامر بن عبد الله بن مسعود الهُذلي أبو عبيدة الكوفي، عن أبيه في السنن الأربعة، قال عمر وبن مرة: سألته هل تذكر من عبد الله شيئا؟ قال: لا. وعن أبي موسى، وكعب بن عجرة.

وعنه إبراهيم النخعي، ومجاهد، ونافع بن جبير، فُقد سنة إحدى وثمانين. اهـ.

ص: 617

6 -

"عبد الرحمن بن الأسود" بن يزيد النخعي، أبو حفص الفقيه، عن أبيه، وعائشة، وعنه الأعمش، وأبو إسحاق الشيباني: وثقه ابن معين. حج ثمانين حجة، واعتمر ثمانين عمرة، مات سنة ثمان وتسعين، روى له الجماعة. اهـ صه. وفي "ت" ثقة -3 - ت 99.

7 -

"عن أبيه" هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن الكوفي مخضرم فقيه، عن ابن مسعود، وعائشة، وأبي موسى، وطائفة. وعنه إبراهيم النخعي، وابنه عبد الرحمن، وأبو إسحاق، وعمار: بن عمير، وطائفة. وثقه ابن معين، والناس. قال إبراهيم: كان يختم في كل ليلتين، وروي أنه حج ثمانين حجة. توفي سنة أربع، أو خمس وسبعين. أخرج له الجماعة اهـ صه. وفي "ت"

مخضرم ثقة مكثر فقيه الطبقة الثانية.

8 -

"عبد الله" هو ابن مسعود رضي الله عنه الهذلي تقدم. في 35/ 39.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سُبَاعيات المصنف.

ومنها: أن شيخ المصنف ممن انفرد هو به عن بقية الستة.

ومنها: أن فيه رواية الشخص عن أبيه.

ومنها: أن رواته كلهم كوفيون إلا شيخ المصنف فإنه جزري.

ومنها: أن فيه عبد الله بالإطلاق والقاعدة: أنه إذا أطلق الكوفيون ذلك فهو ابن مسعود كما أنه إذا أطلقه المدنيون فهو ابن عمر، أو المكيون، فهو ابن الزبير، أو البصريون فهو ابن عباس، أو المصريون، والشاميون فهو ابن عمرو بن العاص، كما ذكر السيوطي ذلك في الألفية بقوله:

ص: 618

وَحَيْثُمَا أطْلقَ عَبدُ الله في

طيْبَةَ فَابْنُ عُمَر وَإنْ يَفي

بمكَّة فَابْنُ الزُّبَيْر أوْ جَرَى

بكُوفَة فَهُوَ ابْنُ مَسْعُود يُرَى

والبصرَة البحْرُ وَعنْدَ مصْرِ .... وَالشَّام مَهْمَا أطلقَ ابْنُ عَمْرِو

شرح الحديث

"عن أبي إسحق" السبيعي أنه "قال ليس أبو عبيدة" بن عبد الله بن مسعود "ذكره" أي لي أي لست أرويه الآن عن طريقه "ولكن عبد الرحمن بن الأسود" هو الذي ذكره لي فأرويه عن طريقه.

ومعنى كلام أبي إسحاق هذا: أنه يروي هذا الحديث هنا عن طريق

عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، لا عن طريق أبي عبيدة عن أبيه، وإن كان أيضًا نقله عنه.

والحاصل: أنه يرويه عنهما جميعا إلا أنه الآن لا يريد أن يرويه عن طريق أبي عبيدة لأنها منقطعة كما بينه الحافظ في الفتح، ونص عبارته في جـ 1/ ص 309 وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن رواية أبي عبيدة أعلى، لأنها بدون واسطة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها بواسطة أبيه، لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح فتكون منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة.

ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، عند الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق.

فمراد أبي إسحاق هنا بقوله ليس أبو عبيدة ذكره أي لست أرويه الآن عن أبي عبيدة وإنما أرويه عن عبد الرحمن. اهـ عبارة الحافظ رحمه الله. واعترضه العيني بما فيه نظر، ولذا تركته.

ص: 619

"عن أبيه" هو الأسود بن يزيد النخعي، قال الحافظ: وقال ابن التين: هو الأسود بن عبد يغوث الزهري وهو غلط فاحش، فإن الأسود الزهري لم يُسْلم فضلا عن أن يعيش حتى يروي عن عبد الله بن مسعود اهـ، جـ 1/ ص 309 "أنه" أي أباه "سمع عبد الله" بن مسعود رضي الله عنه حال كونه "يقول: أتي النبي صلى الله عليه وسلم من الغائط" أي الأرض المطمئنة لقضاء الحاجة والمراد به هنا: معناه اللغوي قاله العلامة العيني، 2/ 292 "وأمرني أن" مصدرية "آتيه بثلائة أحجار فوجدت" أي أصبت، ولهذا اكتفى بمفعول واحد وهو قوله "حجرين والتمست الثالث" أي طلبت الحجر الثالث "فلم أجده" أي الثالث "فأخدت روثة" واحدة الروث، والأرواث، قيل: الروثة إنما تكون للخيل والبغال والحمير. نقله العيني في عمدته عن التيمي، 1/ 262.

وقال الحافظ: زاد ابن خزيمة في رواية له في هذا الحديث "انها كانت روثة حمار" اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الزيادة هى المتعينة في تفسير الروثة هنا لأن تفسير الرواية بالرواية أولى "فأتيت بهن" أي بالثلاثة من الحجرين والروثة "النبي صلى الله عليه وسلم" منصوب بأتيت "فأخذ الحجرين وألقى الروثة" أي رماها "وقال" مبينا سبب الإلقاء "هذه ركس" أي الروثة ركس بكسر الراء وإسكان الكاف "قال أبو عبد الرحمن" صاحب الكتاب مُبَينا معنى الركس "الركس طعام الجن".

قال الجامع عفا الله عنه: اختلفوا في معنى الركس، فقيل هي لغة في الرجس بالجيم ويدل عليه رواية ابن ماجه، وابن خزيمة في هذا الحديث، فإنها عندهما بالجيم. وقيل:"الركس" الرجيع رد من حالة

الطهارة إلى حالة النجاسة. قاله الخطابي وغيره. قال الحافظ: والأولى

ص: 620

أن يقال: رد من حالة الطعام إلى حالة الروث، وقال ابن بطال. لم أر هذا الحرف في اللغة يعني الركس بالكاف، وتعقبه أبو عبد الملك بان معناه الردّ كما قال تعالى:{أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: آية 91] أي ردوا فكأنه قال هذا رد عليك انتهى. قال الحافظ: ولو ثبت لكان بفتح الراء يقال: ركسه ركسا إذا رده اهـ. قال الجامع عفا الله عنه: قلت: قول ابن بطال فيه نظر، لأن أهل اللغة ذكروا الركس بالكسر، قال في المصباح: الركس بالكسر، هو الرجس اهـ. وقال في اللسان: والركس شبيه بالرجيع اهـ.

وفى رواية الترمذي "هذا ركس" يعني نجسا هكذا نقله في الفتح لكن لم أر هذا، التفسير في نسخة الترمذي التي بين يدي.

وأما تفسير المصنف المذكور، فقد قال الحافظ: ما حاصله وأغرب النسائي في هذا فإن ثبت في اللغة فهو مريح من الإشكال.

وقال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله ما نصه: وقال ابن التين: الرجس والركس في هذا الحديث قيل النجس، وقيل القذر، وقال ابن بطال: يمكن أن يكون معنى ركس رجس، قال ولم أجد لأهل اللغة شرح هذه الكلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة باللغة، وقال الداودي: يحتمل أن يريد بالركس النجس، ويحتمل أن يريد بها طعام الجن، وفي العباب الركس بمعنى مفعول كما أن الرجيع من رجعته، والرجس بالكسر والرجس بالتحريك والرجس مثال كتف: القذر، يقال: رجس نجس، ورجس نجس، ورجس نجس اتباع، وقال الأزهري: الرجس اسم لكل ما استقذر من العمل، ويقال: الرجس المأثم اهـ عمدة القارىء جـ 2/ ص 292.

ص: 621

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.

"المسألة الثانية" في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا -38/ 42 - وفي الكبرى -32/ 43 عن أحمد بن سليمان، عن أبي نعيم، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن

ابن الأسود، عن أبيه، عنه. وأخرجه البخاري في الطهارة عن أبي نعيم بسند المصنف.

ثم قال تعليقًا: وقال إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق حدثني عبد الرحمن، فبيّن به أن أبا إسحاق سمعه من عبد الرحمن، فانتفت تهمة التدليس.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن خلاد، عن يحيى بن سعيد، عن زهير بالسند المذكرر. وأخرجه أحمد، وابن خزيمة.

"المسألة الثالثة": حديث الباب اختلف فيه المحدثون تصحيحًا وتضعيفًا، وإن كان الراجح صحته، قال الإمام الترمذي في جامعه حدثنا هناد وقتيبة، قالا: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال:"خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته، فقال: "التمس ثلاثة أحجار" الحديث.

قال أبو عيسى: وهكذا روى قيس بن الربيع هذا الحديث، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، نحو حديث إسرائيل، وروى معمر، وعمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله،

وروى زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود بن يزيد، عن عبد الله، وروى زكريا بن أبي زائدة، عن أبي

ص: 622

إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله، وهذا حديث فيه اضطراب.

قال أبو عيسى: سألت عبد الله

(1)

بن عبد الرحمن أيّ الروايات في هذا الحديث عن أبي إسحاق أصح؟ فلم يقض فيه بشيء، وسألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا فلم يقض فيه بشيء، وكأنه رأى حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله أشبه، ووضعه في كتابه الجامع.

قال أبو عيسى: وأصح شيء في هذا عندي حديث إسرائيل، وقيس عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة، عن عبد الله؛ لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء، وتابعه على ذلك قيس بن الربيع.

قال أبو عيسى: وسمعت أبا موسى محمد بن المثنى يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدى يقول: ما فاتني الذي فاتني من حديث سفيان الثوري عن أبي إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتم قال أبو عيسى وزهير في أبي إسحاق: ليس بذلك لأن سماعه منه بأخرة.

قال: وسمعت أحمد بن الحسن الترمذي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبي إسحاق اهـ كلام الترمذي رحمه الله تعالى.

والحاصل: أن الترمذي رحمه الله يرى ترجيح رواية إسرائيل على رواية زهير التي أخرجها البخاري في الصحيح، وعلى روايات معمر وغيره بثلاثة وجوه:

الأول: أن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من زهير ومعمر وغيرهما.

(1)

يعني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي صاحب المسند.

ص: 623

الثاني: أن قيس بن الربيع تابع إسرائيل على روايته، عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة، عن عبد الله.

الثالث: أن سماع إسرائيل من أبي إسحاق ليس في آخر عمره وسماع زهير منه في آخر عمره.

قال العلامة المباركفوري رحمه الله: قلت في كل من هذه الوجوه الثلاثة نظر، فما قال في الأول فهو معارض بما قال الآجريّ: سألت أبا داود عن زهير وإسرائيل في أبي إسحاق فقال زهير فوق إسرائيل بكثير، وما قال في الوجه الثاني من متابعة قيس بن الربيع لرواية إسرائيل فإن شريكا القاضي تابع زهيرا وشريك أوثق من قيس، وأيضا تابع زهيرًا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، وابن حماد الحنفي، وأبو مريم، وزكريا بن أبي زائدة.

وما قال في الوجه الثالث فهو معارض بما قال الذهبي في الميزان قال أحمد بن حنبل: حديث زكريا وإسرائيل عن أبي إسحاق لين، سمعا منه بآخره فظهر الآن أنه ليس لترجيح رواية إسرائيل وجه صحيح، بل الظاهر أن الترجيح لرواية زهير التي رجحها البخاري ووضعها في صحيحه.

قال الحافظ في مقدمة الفتح: حكى ابن أبي حاتم عن أبيه، وأبي زرعة أنهما رجحا رواية إسرائيل، وكأن الترمذي تبعهما في ذلك، والذي يظهر أن الذي رجحه البخاري هو الأرجح.

وبيان ذلك: أن مجموع كلام هؤلاء الأئمة مشعر بأن الراجح على الروايات كلها إما طريق إسرائيل وهي عن أبي عبيدة، عن أبيه، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، فيكون الإسناد منقطعًا، أو رواية زهير، وهي عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود، فيكون متصلا،

ص: 624

وهو تصرف صحيح، لأن الأسانيد فيه إلى زهير وإلى إسرائيل أثبت من بقية الأسانيد، وإذا تقرر ذلك كان دعوى الاضطراب في الحديث منفية، لأن الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطربًا إلا بشرطين:

أحدهما: استواء وجوه الاختلاف، فمتى رجح أحد الأقوال قُدِّم، ولا يُعَل الصحيح بالمرجوح.

وثانيهما: مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، أو يغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه، فحينئذ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب، ويتوقف على الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك، وههنا يظهر عدم استواء وجوه الاختلاف على أبي إسحاق فيه لأن الروايات المختلفة عنه لا يخلو إسناد منها من مقال غير الطريقين المقدم ذكرهما عن زهير، وعن إسرائيل، مع أنه يمكن رد أكثر الطرق إلى رواية زهير، والذي يظهر بعد ذلك تقديم رواية زهير، لأن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق قد تابع زهيرًا، وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من رواية يحيى بن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق كرواية زهير، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه من طريق ليث بن أبي سليم،، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه عن ابن مسعود كرواية زهير عن أبي إسحاق، وليث وان كان ضعيف الحفظ فإنه يعتبر به ويستشهد فيعرف أن له من رواية عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أصلا اهـ كلام الحافظ مقدمة الفتح ص 366 - 367، وقال في الفتح: ومما يرجحها أيضا استحضار أبي إسحاق لطريق أبي عبيدة، وعدوله عنها بخلاف رواية إسرائيل عنه عن أبي عبيدة، فإنه لم يتعرض فيها لرواية عبد الرحمن، كما أخرجه الترمذي وغيره، فلما اختار في رواية زهير طريق عبد الرحمن على طريق أبي عبيدة دل على أنه عارف

ص: 625

بالطريقين، وأن رواية عبد الرحمن عنده أرجح. والله أعلم. اهـ فتح جـ 1 ص 310.

"المسألة الرابعة": زعم سليمان الشاذكوني أن أبا إسحاق دلس هذا الخبر، وقال لم يسمع في التدليس بأخفى من هذا قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن ولم يقل ذكره لي اهـ.

وهذا الزعم مردود، لأنه ثبت أن أبا إسحاق قال حدثني عبد الرحمن كما ذكره البخاري في صحيحه تعليقًا بصيغة الجزم، عن إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق.

قال الحافظ بعد ذكره نحو هذا: ما نصه: وقد استدل الإسماعيلي أيضا على صحة سماع أبي إسحق لهذا الحديث من عبد الرحمن يكون يحيى القطان رواه عن زهير، فقال بعد أن أخرجه من طريقه: والقطان لا يرضى أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق، وكأنه عرف ذلك بالاستقراء من صنيع القطان، أو بالتصريح من قوله فانزاحت عن هذه الطريق علة التدليس. اهـ كلام الحافظ 1/ 310.

"المسألة الخامسة": قد اشتمل حديث الباب على أحكام قد مر معظمها في الأبواب المتقدمة، ومن جملتها ما بوَّب عليه المصنف هنا، وهو الرخصة في الاستطابة بحجرين، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وداود قالوا: المدار على الإنقاء، لا على العدد المعين، واستدلوا بهذا الحديث؛ لأنه لو كان العدد شرطًا لطلب ثالثًا، وقد عرفت أن الصواب مع من اشترط الثلاثة، والجوابُ عما تمسك به هؤلاء قد مر في الباب الذي قبل هذا. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 626

‌39 - بابُ الرُّخْصَةِ فِي الاسْتِطَابَةِ بِحَجَرٍ وَاحدٍ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الرخصة في الاستنجاء بحجر واحد، واستدلال المصنف على هذا الحكم بحديث الباب غير واضح لما يأتي.

43 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاَهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا اسْتَجْمَرْتَ فَأَوْتِرْ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

"إسحاق بن إبراهيم" المعروف بابن راهويه الحنظلي المروزي الثقة المثبت [10] ت 238 تقدم، في 2/ 2.

2 -

"جرير" بن عبد الحميد بن قُرط الضبي الكوفي نزيل الرّيّ وقاضيها ثقة ثبت [8] تقدم في 2/ 2.

3 -

"منصور" بن المعتمر بن عبد الله السلمي أبو عتاب الكوفي ثقة ثبت من [6] تقدم. في 2/ 2.

4 -

"هلال بن يَساف" بفتح التحتانية والسين الأشجعي مولاهم أبو الحسن الكوفي، عن البراء، وعمران بن حصين، وحماد. وعنه عمرو ابن مرة، وعبدة بن أبي لبابة، وسَلَمة بن كُهَيل، وطائفة، وثقه ابن معين، والعجلي. اهـ صه بزيادة، أخرج له البخاري تعليقًا ومسلم والأربعة.

ص: 627

وفي التقريب: ضبط يساف بكسر الياء قال: ويقال فيه اساف بالهمز بدل الياء. وقال: ثقة من الثالثة.

5 -

"سلمة بن قيس" الأشجعي صحابي نزل الكوفة له سبعة أحاديث، وعنه هلال بن يساف، وأبو إسحاق أخرج له الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، له عندهم فرد حديث

(1)

.

وفي تهذيب التهذيب: وقال أبو القاسم البغوي: روى ثلاثة أحاديث، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح، أن عمر استعمله على بعض مغازي فارس اهـ.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم كوفيون إلا شيخ المؤلف فإنه مروزي.

ومنها: أن صحابيه لا رواية له في هذه الكتب المذكورة إلا حديث واحد، وهو هذا الحديث المذكور في الباب.

ومنها: أنه تفرد بالرواية عنه هلال بن يساف على ما ذكره أبو الفتح الأزدي، وأبو صالح المؤذن، لكن الصحيح: أنه روى عنه أيضا أبو إسحاق السبيعي.

شرح الحديث

"عن سلمة" بفتحتين "بن قيس" الأشجعي، الغطفاني، رضي الله عنه "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أنه "قال: إذا استجمرت" أي أردت قلع النجاسة بالجمار. يقال: استجمر الإنسان في الاستنجاء: قلع النجاسة بالجمرات قاله في المصباح، والجمرات واحدها جمرة: الحجارة الصغار.

(1)

أفاده في "صه" ص 149.

ص: 628

وفي اللسان: والاستجمار: الاستنجاء بالحجارة، واستجمر، واستنجى واحد: إذا تمسح بالجمار، وهي الأحجار الصغار، ومنه سميت جمار الحج للحصى التي يُرمى بها. اهـ بتصرف.

وفي السندي: قوله: إذا استجمرت، أي استعملت الأحجار الصغار للاستنجاء، أو بَخَّرت الثياب، أو كفان الميت، والأول أشهر، وعليه بني المصنف كلامه. اهـ جـ 1/ ص 41.

"فأوتر" أي استعمله وترا، أي واحدًا أو ثلاثًا، أو خمسًا، أو نحوها، وهذا مراد المصنف في تفسير الوتر، حيث إنه أورده دليلا على الاكتفاء بحجر واحد، لكن المُتَعَيِّنُ حمله على الثلاث فأكثر كما سيأتي.

قال العلامة السنذي: يريد يعني المصنف أن إطلاقه يشمل الاكتفاء بالواحد أيضا، وقد يقال: المطلق يحمل على المقيد في الروايات الأخرى، لا سيما والعادة تقتضيه والإنقاء لا يحصل بالواحد اهـ.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته.

قال الترمذي رحمه الله: حديث سَلَمة بن قيس حديث حسن صحيح.

"المسألة الثانية": في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 43 بهذا السند، وفي الأمر بالاستنثار حديث 89، عن قتيبة، عن حماد، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن سلمة بن قيس، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأت فاستنثر، وإذا استجمرت فأوتر" وفي الكبرى 33، 44، 54 بالإسنادين المذكورين.

"المسألة الثالثة": فيمن أخرجه معه: أخرجه الترمذي في الطهارة

ص: 629

بالنص المذكور عن قتيبة، عن حماد بن زيد، وجرير بن عبد الحميد كلاهما عن منصور الخ.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أحمد بن عبدة، عن حماد بالسند المذكرر، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن منصور به.

"المسألة الرابعة": استدل المصنف بحديث الباب على الاكتفاء بحجر واحد، وقد تقدم أنه مذهب الإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، وداود، وحُكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قالوا: الواجب الإنقاء، فإذا حصل بحجر واحد أجزأ، واحتجوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج".

واستدل المصنف أيضا بحديث الباب حيث إن الوتر أقله واحد.

وذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وجمهور أصحاب الحديث إلى اشتراط الثلاث.

وقد ذكرنا حجتهم في باب النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار، وأن الراجح هو الذي ذهبوا إليه.

وأما استدلال المصنف بحديث الباب فغير واضح؛ لأن الوتر المراد به الثلاث؛ لأن حديث سلمان المتقدم وغيره بَيَّن المراد به حيث قال: "أو أن نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار"، فالوتر هو الثلاث، لأن الرواية يفسر بعضها بعضًا. فتبصر. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 630

‌40 - الاِجْتِزَاءِ فِي الاِسْتِطَابَةِ بِالْحِجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على "الاجتزاء" أي الاكتفاء، يقال: اجتزأت بالشيء: اكتفيت، قاله في المصباح "في الاستطابة" أي الاستنجاء "بالحجارة دون غيرها" المراد به الماء، أي دون استعمال الماء.

واتفقوا على أنه ليس الحجر متعينا بل يقوم مقامه الخرق، والخَشَبُ،

ونحوها من كل جامد طاهر مزيل للعين غير مُحتَرَم، ولا هو جزء من حيوان، خلافا لمن قال من الظاهرية: إنه يتعين الحجر لنصه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله.

44 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ قُرْطٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَلْيَسْتَطِبْ بِهَا، فَإِنَّهَا تَجْزِي عَنْهُ".

رجال الإسناد ستة

1 -

"قتيبة" بن سعيد بن جميل بن طريف، أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة ثبت من [10] تقدم 1/ 1.

2 -

"عبد العزيز" بن أبي حازم المخزومي مولاهم المدني الفقيه، عن

ص: 631

أبيه، وسهيل بن أبي صالح. وعنه إسماعيل بن أبي أويس، وقتيبة، وعلي بن حجر، قال أحمد: لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، وقال ابن معين: ثقة، مات وهو ساجد في الحرم النبوي، قال ابن أبي شيبة: سنة 184 أخرج له الجماعة. اهـ صه، وفي "ت" صدوق فقيه من الطبقة [8].

3 -

"أبو حازم" سلمة بن دينار، مولى الأسود بن سفيان الأعرج التمار المدني القاص الزاهد أحد الأعلام، عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، مرسلا، وسهل بن سعد في البخاري ومسلم، وابن المسيب، وأبي سلمة. وعنه ابنه عبد العزيز، ومالك، والسفيانان، والحمادان.

قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: ثقة. لم يكن في زمانه مثله، وقال أبو حازم: لا تكون عالما حتى تكون، فيك ثلاث خصال: لا تبغي على مَن فوقك، ولا تحقر مَن دونك. ولا تأخذ على علمك دنيا. قال خليفة: مات سنة 135.

وقال الهيثم: سنة 40 قال ابن سعد بعدها، وقال ابن معين: سنة 44. روى له الجماعة اهـ صه وفي "ت" ثقة عابد من الطبقة [5]. مات في خلافة المنصور.

4 -

"مسلم بن قُرط" بضم القاف وسكون الراء بعدها مهملة، المدني مقبول من السادسة اهـ تقريب.

وفي تهذيب التهذيب: مسلم بن قُرط حجازي، روى عن عروة بن الزبير، عن عائشة في الاستطابة بثلاثة أحجار، وعنه أبو حازم سلمة بن دينار، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: هو يخطئ. قلت: هو مُقلٌّ جدًا، وإذا كان مع قلة حديثه يخطئ فهو ضعيف، وقد قرأت بخط الذهبي لا يعرف. وحسن الدارقطني حديثه المذكور. اهـ. أخرج حديثه أبو داود، والنسائي.

ص: 632

وقال السيوطي رحمه الله: ولا يعرف هذا الحديث بغير هذا الإسناد، ولا ذكر لابن قرط في غيره، ولم يتعرضوا له بمدح، ولا قدح. وقال الشيخ ولي الدين: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ، ولا نعرفه بأكثر من أنه رَوَى عن عروة. اهـ زهر جـ 1 ص 42.

5 -

"عروة" بن الزبير بن العوّام الأسدي، أبو عبد الله المدني أحد الفقهاء السبعة، وأحد علماء التابعين، عن أبيه، وأمه، وخالته عائشة، وعلي، ومحمد بن مسلمة، وأبي هريرة. وعنه أولاده عثمان، وعبد الله، وهشام، ويحيى، ومحمد، وسليمان بن يسار، وابن أبي مليكة، وخلائق. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث فقيه عالم ثبت مأمون. وقال العجلي: لم يدخل نفسه في شيء من الفتن، وقال الزهري: كان يتألف الناس على حديثه، قال عروة: ما ماتت عائشة حتى تركتها قبل ذلك بثلاث سنين. وقال الزهري: عروة بحر لا تكدره الدلاء. قال ابن شوذب: كان يقرأ كل ليلة ربع القرآن، ومات وهو صائم، ولد سنة 29 أرَّخَه مصعب، وقال ابن المديني: مات سنة 92، قال خليفة: سنة 3، وقال ابن سعد: سنة 4، وقال يحيى بن بكير: سنة 5، قلت. قيل: عروة عن أبيه مرسل. روى له الجماعة. اهـ صه. وفي "ت": ثقة فقيه مشهور من -3 - مات سنة -94 - على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عمر الفاروق.

6 -

"عائشة" أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت. في 5/ 5.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم مدنيون، إلا شيخ المصنف، فإنه بغلاني.

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.

ص: 633

ومنها: أن فيه راويا هو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة الذين كان مالك يعتد بإجماعهم كإجماع سائر الناس، وهو عروة، وقد تقدموا غير مرة.

ومنها: أن صحابيته من المكثرين السبعة، رَوَت ألفًا ومائتين وعشرة أحاديث، وقد جمع الحافظ السيوطي المكثرين في ألفيته، فقال:

والْمكْثرُونَ في روَاية الأثَرْ

أبُو هُرَيْرَةَ يَليه ابْنُ عُمَرْ

وأنَسٌ والبَحْرُ كالخُدْريٌ

وجَابرٌ وزَوْجَةُ النَّبيِّ

والمكثر من روى أكثر من ألف حديث.

ومنها: أن هذا الحديث لا يعرف بغير هذا الإسناد كما تقدم في كلام الحافظ السيوطي.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عمن ليس بتابعي لأن أبا حازم تابعي كثر الرواية عن سهل بن سعد، ومسلم بن قرط، لا يعرف بغير روايته عن عروة، ولذلك ذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة، وهي طبقة أتباع التابعين، قاله الشيخ ولي الدين العراقي رحمه الله تعالى.

شرح الحديث

" عن عائشة" رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا ذهب أحدكم إلى الغائط" أي إذا أراد أحدكم الذهاب إلى مكان قضاء الحاجة والخطاب، وإن كان للذكر لكنه غير مختص بهم، بل مثلهم الإناث، لأنهن شقائق الرجال، قاله في المنهل جـ 1/ ص 147.

"فليذهب" اللام لام الأمر، أي فليمض "معه" الظرف متعلق بحال محذوف أي حال كونه مصاحبا معه "بثلاثة أحجار" الباء للتعدية متعلقة بيذهب وقوله "فليستطب بها" جملة في محل جر صفة لأحجار، أو

ص: 634

مستأنفة، أو في محل نصب حال مقدرة، أي عازما على الاستطابة بهن.

ومعنى فليستطب بها: أي يستنجي بتلك الأحجار، قال في عون المعبود: والاستطابة، والاستنجاء، والاستجمار كناية عن إزالة الخارج من السبيلين عن مخرجه، فالاستطابة، والاستنجاء تارة يكونان بالماء، وتارة بالأحجار، والاستجمار مختص بالأحجار، اهـ جـ 1/ ص 62.

وقد قدمنا عن اللسان: أن الاستطابة والإطابة كناية عن الاستنجاء وسمي بهما من الطيب لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء أي يطهره "فإنها" أي الأحجار الثلاث "تجزي عنه" بضم التاء بمعنى تكفي، وتغني من الإجزاء، وهو الكفاية. وقال الزركشي: ضبطه بعضهم بفتح التاء، ومنه قوله تعالى {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: آية رقم 48، 123] انتهى. فهو من جزى يجزي مثل قضى يقضي، وزنا ومعنى، أي تقضي تلك الأحجار "عنه" أي عن الماء المفهوم من السياق، أو عن المستنجى، أو الاستنجاء، والأول: هو الأظهر معنى، وإن كان بعيدًا لفظًا. يعني أن الاستطابة بالأحجار الثلاث تكفي عن الماء، وإن بقي أثر النجاسة بعدما زالت عين النجاسة. أفاده في العون.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها صحيح لشواهده.

قال العلامة محدث العصر محمد ناصر الدين الألباني في إرواء الغليل ما معناه: حديث عائشة مرفوعًا "وإذا ذهب أحدكم" الحديث صحيح أخرجه أحمد، في المسند، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، والدارقطني، والبيهقي، كلهم من طريق مسلم بن قُرْط، عن عروة، عن

ص: 635

عائشة مرفوعًا، وقال الداراقطني: إسناده حسن، وفي نسخة صحيح.

قلت: وفيه نظر لأن مسلم بن قرط هذا لا يعرف، كما قال الذهبي وجنح الحافظ ابن حجر في التهذيب إلى تضعيفه كما بينته في صحيح أبي داود، وإنما قلت بصحة الحديث لأن له شاهدًا من حديث أبي أيوب الأنصاري عند الطبراني، وآخر من حديث سلمان الفارسي بمعناه، أخرجه مسلم، وأبو عوانة في صحيحيهما، وخرَّجناه في صحيح أبي داود. اهـ كلام العلافة الألباني باختصار جـ 1/ ص 84.

"المسألة الثانية" في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -40/ 44 - وفي الكبرى -42/ 31 - عن قتيبة، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن مسلم بن قرط، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه أبو داود في سننه في الطهارة، عن سعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.

وقد قدمنا في كلام الألباني مَن خرَّجه من غير الستة.

"المسألة الثالثة": أنه دل حديث الباب على وجوب الاستطابة، وأنها لاتجوز بأقل من ثلاثة أحجار، وأن الأحجار تجزئ عن الماء، وهذا هو الذي بوب عليه المصنف.

وهو مجمع عليه عند عامة أهل العلم، قالوا: يجوز الاقتصار على الأحجار، وخالفت الزيدية، والقاسمية، من الشيعة فقالوا: لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء.

قال النووي في شرح المهذب: وهم محجوجون بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار، وأذن فيه، وفعله. اهـ جـ 1/ ص 101.

ص: 636

"المسألة الرابعة": أن الجمهور ألحقوا بالحجر ما يقوم مقامه من كل جامد، طاهر، مزيل للعين، وليمس له حرمة ولا هو جزء من حيوان.

قال النووي في المجموع: سواء في ذلك الأحجار والأخشاب والخرق والخزف والآجر الذي لا سرجين فيه، وما أشبه ذلك، وهو مذهب العلماء كافة، إلا داود، فلم يجوّز غير الحجر، هكذا قيل،

وقال أبو الطيب: هذا ليس بصحيح عن داود، بل مذهبه الجواز.

والحجة فيه ما ثبت في حديث أبي هريرة قال اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج لحاجته فقال:"ابغني أحجارا أستنفض بها، ولا تأتني بعظم، ولا روث" رواه البخاري، وغيره، وحديثه الآخر:"وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرِّمَّة" فنهيه صلى الله عليه وسلم عن هذين يدل على أن غير الحجر يقوم مقامه، وإلا لم يكن لتخصيصهما بالنهي معنى، وحديث ابن مسعود الذي مر قريبًا حيث إنه علل منع الاستنجاء بكونها ركسا، ولم يعلل بكونها غير حجر.

قال النووي رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم "وليستنج بثلاثة أحجار" وشبهه، فإنما نص علي الأحجار، لكونها الغالب الموجود للمستنجي بالقضاء، مع أنه لا مشقة فيها، ولا كلفة، في تحصيلها، وهذا نحو قوله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: آية 151] وقوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: آية 101] ونظائر ذلك، فكل هذا مما ليس له مفهوم يُعْمل به، لخروجه على الغالب. اهـ المجموع جـ 1/ ص 114.

قال الجامع عما الله عنه: هذا الذي حققه النووي رحمه الله هو التحقيق الحقيق بالقبول. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 637

‌41 - الاسْتِنْجَاءُ بِالمَاءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الاستنجاء بالماء.

وأراد المصنف رحمه الله بهذا الرَّدِّ على مَن مَنَع الاستنجاء بالماء وسنذكره في المسائل في آخر الباب، إن شاء الله تعالى.

45 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ أَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ مَعِي نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ.

رجال الإسناد خمسة

1 -

"إسحق بن إبراهيم" بن مَخْلد الحنظلي، أبو محمد المعروف بابن راهويه المروزي ثقة ثبت حافظ فقيه، من العاشرة، تقدم. في 2/ 2.

2 -

"النضر" بن شُمَيل بالتصغير المازني، أبو الحسن البصري، ثم الكوفي، النحوي شيخ

(1)

مرو، عن حميد، وبهز بن حكيم، وابن عون، وشعبة. وعنه يحيى بن يحيى، وإسحاق الكوسج، وثقه النسائي، قال محمد بن قُهْزَاذَ: مات سنة 203، أخرج له الجماعة، وفي التقريب: ثقة ثبت، من كبار التاسعة، مات سنة 204 وله 82 سنة.

(1)

وفي التقريب: نزيل مرو.

ص: 638

3 -

"شعبة" بن الحجاج أبو بسطام الواسطي، ثم البصري الحجة المثبت، من السابعة، تقدم، في 24/ 26.

4 -

"عطاء بن أبي ميمونة" اسم أبيه مَنيع مولى أنس، أبو معاذ البصري، عن أنس، وعمران بن حصين، وقيل: هو مولاه، وعنه ابناه روح، وإبراهيم، وخالد الحَذَّاء. وثقه ابن معين، قيل: مات سنة 131، له في البخاري فرد حديث.

وفي التهذيب: وقال أبو حاتم: صالح لا يحتج بحديثه، وكان قَدَريًا، وقال ابن عدي: في أحاديثه ما ينكر.

وفي التقريب: ثقة رمي بالقدر، من الرابعة. اهـ.

5 -

"أنس بن مالك" أبو حمزة الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه تقدم. في 6/ 6.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته ثقات احتج بهم الجماعة.

ومنها: أنهم بصريون، إلا شيخ المصنف فإنه مروزي، ثم نيسابوري، وكذا شيخه وإن كان بصريًا، فهو نزيل مرو، فهو بصري، مروزي.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء: الإخبار، والإنباء، والعنعنة، والسماع.

شرح الحديث

"عن عطاء بن أبي ميمونة" أنه "قال سمعت أنس بن مالك" رضي الله عنه "يقول" جملة حالية من الفاعل، قال العلامة العيني: وإنما ذكر

ص: 639

بلفظ المضارع مع أن حق الظاهر أن يكون بلفظ الماضي لإرادة استحضار صورة القول تحقيقا وتأكيدا له كأنه يُبَصِّرُ الحاضرين ذلك. اهـ عمدة جـ 2/ ص 278 "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا دخل الخلاء" أي المحل الذي يتبرز فيه، وانتصابه بنزع الخافض من قبيل دخلت الدار كما أفاده العلامة العيني في العمدة، جـ 2/ ص 279، ويدل على أن المراد بالخلاء هنا هو الموضع رواية أبي داود "دخل حائطًا" إذ الحائط هو البستان "أحمل أنا وغلام" هو الابن الصغير، وجمع القلة غلمة بالكسر، وجمع الكثرة غلْمَان، ويطلق الغلام على الرجل مجازًا باسم ما كان عليه، كما يقال للصغير شيخ مجازًا باسم ما يؤول إليه، وجاء في الشعر غُلامة بالهاء للجارية، قال الشاعر يصف فرسًا:

يُهَانُ لهَا الغُلامَةُ وَالغُلامُ

قال الأزهري: وسمعت العرب تقول للمولود حين يولد ذكرا: غلام، وسمعتهم يقولون للكهل: غلام، وهو فاش في كلامهم. قاله في المصباح.

وقال في العمدة. هو الذي طرَّشا ربه، وقيل: من حين يولد إلى أن يشيب، وزعم الزمخشري أن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن أجري عليه بعد ما صار مُلتحيا اسمُ الغلام فهو مجاز، ويروى عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في بعض أراجيزه.

أنَا الغُلامُ الهَاشميُّ المَكيْ

وقالت ليلى الأخيليَّة في الحجاج (من الطويل):

غُلامٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ تباهيًا

قال: وقال بعضهم: يستحقُّ هذا الاسم إذا ترعرع، وبلغ حد

ص: 640

الاحتلام بشهوة النكاح، كأنه يشتهي النكاح ذلك الوقت، ويسمى الغلامَ قبل ذلك تفاؤلا، وبعد ذلك مجازًا وفي المخصص هو غلام من لدن فطامه إلى سبع سنين، وعن أبي عبيد هو المتَرَعْرعُ المتحرك، والجمع أغلمة، وغلمة، وغلمان، والأنثي غلامة اهـ، جـ 2/ ص 275.

"معي" منصوب علي الظرفية صفة لغلام، أي مصاحب لي "نحوي" أي مثلي، أراد مقارب لي في السنن.

واعلم أن الغلام المذكور يحتمل أن يكون ابن مسعود، وقواه الحافظ في الفتح، ويبعده قول أنس عند البخاري "منَّا"، وعند الإسماعيلي "من الأنصار"، وما أجاب به الحافظ تكلف ظاهر، ويحتمل أن يكون أبا هريرة لما في أبي داود من حديث أبي هريرة، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى" ونحوه للبخاري في ذكر الجن.

وفيه ما في الذي قبله، ويحتمل أن يكون جابرا لما في حديث جابر الطويل عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم، انطلق لحاجته، فاتبعه جابر بإداوة، ولا سيما، وهو أنصاري، وفيه ما تقدم.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا داعي إلى هذه التكلفات التي لا يقبلها الذوق السليم، وأي مانع من أن نقول: إنه غلام أنصاري نحو أنس من المراهقين، وما الذي اضطرنا إلى معرفة عينه، حتى نتكلف

لهذه التأويلات الباردة. والله المستعان، وعليه التكلان.

"إداوة" بالنصب مفعول "أحمل"، وهي بكسر الهمزة إناء صغير من جلد تتخذ للماء كالسَّطيحَة ونحوها والجمع آدَاوَى قاله العيني في عمدته، جـ 1/ ص 275.

وفي المصباح والإداوة بالكسر: المطهرة، وجمعها الأدَاوَى بفتح الواو. اهـ.

ص: 641

"من ماء" قال العلامة العيني: "من" للبيان، اهـ أي مملوءة من ماء اهـ زهر "فيستنجي" النبي صلى الله عليه وسلم "بالماء" الذي في الإداوة، أي يغسل ما بالمخرجين من بقية النجو، أي الخارج من البطن، قال العلامة بدر الدين العيني: قال الخطابي: الاستنجاء في اللغة الذهاب إلى النجوة من الأرض لقضاء الحاجة، والنجوة المرتفعة من الأرض كانوا يستترون بها إذا قعدوا للتخلي، وفي المطالع الاستنجاء إزالة النجو، وهو الأذى الباقي في فم المخرج، وأكثر ما يستعمل في الماء وقد يستعمل في الأحجار، وأصله من النجو، وهو القَشْر والإزالة، وقيل: من النجوة لاستتارهم به، وقيل: لارتفاعهم وتجافيهم عن الأرض عند ذلك، وقال الأزهري عن شَمر: الاستنجاء بالحجارة مأخوذة من نَجَوت الشجرة، وأنجيتها، واستنجيتها: إذا قطعتها، كأنه يقطع الأذى عنه بالماء، أو بحجر يتمسح به، قال: ويقال: استنجيت العقب: إذا خلصته من اللحم، ونقيته منه، وقال الجوهري: استنجى مسح موضع النجو، أو غسله، والنجو ما يخرج من البطن، واستنجى الوترَ: أي مَدّ القوسَ، وأصله الذي يتخذ أوتار القسي، لأنه يخرج ما في المصارين من النجو، ويقال أنجى: أي أحدث، ونجوت الجلد من البعير، وأنجيته إذا سلخته، وفلان في أرض نجاة يستنجى من شجرها العصيّ، والقسي، واستنجى الناس في كل وجه أي أصابوا الرُّطَبَ.

وقال الأصمعي: استنجيت النخلة: إذا التقطت رُطَبَهَا، قال: ونجوت غصون الشجرة: أي قطعتها، وأنجيت غيري، وقال أبو زيد: استنجيت الشجر: قطعته من أصله، وأنجيت قضيبا من الشجرة: أي قطعته.

وفي اصطلاح الفقهاء الاستنجاء: إزالة النجو من أحد المخرجين بالحجر، أو بالماء، فإن قلت: الاستفعال للطلب فيكون معناه طلب

ص: 642

النجو، قلت: الاستفعال قد جاء أيضا لطلب المزيد فيه، نحو الاستعتاب، فإنه ليس لطلب العتب، بل لطلب الإعتاب، والهمزة فيه للسلب، فكذا هذا هو لطلب الإنجاء، وتجعل الهمزة للسلب والإزالة.

اهـ كلام العلامة العيني في العمدة، جـ 2/ ص 272.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث أنس رضي الله عنه متفق عليه.

"المسألة الثانية": في بيان موضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه المصنف هنا -41/ 45 - وفي الكبرى -34/ 37 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر، عن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في الطهارة عن أبي الوليد، وسليمان بن حرب، وعن بندار، عن غندر، وفي الصلاة عن محمد بن حاتم بن بزيع، عن أسود بن عامر شاذان، أربعتهم عن شعبة، وأخرجه في الطهارة عن يعقوب الدَّوْرَقي، عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن رَوْح بن القاسم كلاهما عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس.

وقال عقيب حديث غندر: وتابعه النضر، وشاذان.

وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر، عن وكيع، وغندر، وعن أبي موسى محمد بن المثنى، عن غندر كلاهما عن شعبة بالسند المذكور، وعن زهير بن حرب، وأبي كريب كلاهما عن إسماعيل بن علية به،

وعن يحيى بن يحيى، عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن خالد هو الحذاء عنه به.

وأخرجه أبو داود في الطهارة عن وهب بن بقية، عن خالد الواسطي به أفاده المزي.

ص: 643

وأخرجه أحمد 3/ 171، 203، 259. والدارمي رقم 681 - وابن خزيمة في صحيحه رقم 85، 87.

"المسألة الثالثة": فيما يستفاد من الحديث:

دل حديث الباب على خدمة الصالحين، وأهل الفضل.

وعلى استخدام الرجل بعض أتباعه الأحرار خصوصا إذا أرصدوا لذلك.

وعلى جواز الاستعانة في أسباب الوضوء.

وعلى جواز اتخاذ آنية للوضوء، وحمل الماء معه إلى محل قضاء حاجته.

وعلى استحباب التباعد والاستتار عن أعين الناس عند قضاء الحاجة.

وعلى جواز الاستنجاء بالماء، وهو الذي بوب عليه المصنف، وسيأتي تحقيقه في المسألة التالية.

"المسألة الرابعة": أنه اختلف العلماء في جواز الاستنجاء بالماء، وفي الاقتصار عليه، قال النووي رحمه الله في المجموع جـ 1/ ص 100: يجوز الاقتصار في الاستنجاء على الماء، ويجوز الاقتصار على الأحجار والأفضل الجمع بينهما فيستعمل الأحجار، ثم يستعمل الماء، فتقديم الأحجار لتقليل مباشرة النجاسة في استعمال الماء، ثم يستعمل الماء ليطهر المحل طهارة كاملة، فلو استنجى أولا بالماء؛ لم يستعمل الأحجار بعده؛ لأنه لا فائدة فيه.

وإن أراد أن يقتصر على أحدهما فالماء أفضل، لأنه يطهر المحل، ولا فرق في جواز الاقتصار على الأحجار بين وجود الماء وعدمه، ولا بين الحاضر والمسافر، والصحيح والمريض، وهذا مذهب جماهير العلماء

ص: 644

من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم.

وحكى ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص، وحذيفة، وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يرون الاستنجاء بالماء، وعن سعيد بن المسيب قال: ما يفعل ذلك إلا النساء، وقال عطاء: غسل الدبر مُحدَث.

وقالت الزيدية والقاسمية من الشيعة: لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء، فأما سعيد وموافقوه فكلامهم محمول على أن الاستنجاء بالماء لا يجب، أو أن الأحجار أفضل، وأما الشيعة فلا يعتدُّ بخلافهم، ومع هذا فهم محجوجون بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار، وأذنَ فيه، وفَعَلَه.

وأما الدليل على جوازه بالماء: فأحاديث كثيرة صحيحة مشهورة:

منها: حديث الباب.

ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت لنسوة: مُرْنَ أزواجكن أن يستنجوا بالماء، فإني أستحييهم منه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، حديث صحيح، يأتي بعد هذا.

وحديث أبي هريرة "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة، فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر، فتوضأ. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، ولم يضعفه أبو داود، ولا غيره، وإسناده صحيح إلا أن فيه شريك بن عبد الله القاضي، وقد اختلفوا في الاحتجاج به، وفي المسألة أحاديث كثيرة.

قال الخطابي: وزعم بعض المتأخرين أن الماء مطعوم، فلهذا كره الاستنجاء به سعيدٌ وموافقوه، وهذا قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة. والله أعلم، اهـ كلام النووي، جـ 1/ ص 102 بتغيير يسير.

ص: 645

46 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُعَاذَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ، فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ مِنْهُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ.

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

"قتيبة" بن سعيد أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة، ثبت، من العاشرة، تقدم، في 1/ 1.

2 -

"أبو عوانة" بفتح العين المهملة الوَضَّاح بفتح أوله والضاد المعجمة آخره مهملة ابن عبد الله اليشكري الواسطي، أحد الأعلام، عن قتادة، وابن المنكدر، وإسماعيل السدي، وخلق. وعنه شيبان بن فروخ، وخلف بن هشام، وقتيبة، ومسدد، وخلائق. قال عفان: كان صحيح الكتاب، وقال أبو حاتم: إذا حدث من حفظه غلط؛ وقال غيره: إذا حدث من كتابه فهو ثقة. قال محمد بن محبوب: مات سنة 176، أخرج له الجماعة. اهـ صه، وفي التقريب: ثقة ثبت من السابعة.

3 -

"قتادة" بن دعامة أبو الخطاب البصري ثقة ثبت من الرابعة، تقدم. في 30/ 34.

4 -

"معاذة" بنت عبد الله العدوية، أم الصهباء البصرية العابدة، عن علي، وعائشة، وعنها أبو قلابة، ويزيد الرِّشْك، وأيوب، وعاصم الأحول، وطائفة، قال ابن معين: ثقة حجة، قال الذهبي: بلغني أنها كانت تحيي الليل، وتقول عجبت لعين تنام، وقد علمت طولَ الرُّقاد في القبور، قال ابن الجوزي: توفيت سنة 83، اهـ صه. وفي "ت": ثقة من الثالثة.

ص: 646

5 -

"عائشة" أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته ما بين بلخي، وواسطي، وبصريين، ومدنية، وكلهم ثقات.

شرح الحديث

"عن عائشة" رضي الله عنها "أنها قالت مُرْن" فعل أمر مسند إلى نون النسوة، من أمر بكذا يأمر، فأصله أو مُرْنَ بوزن انصرن فخفف.

قال العلامة الفيومى في المصباح: ما نصه: وإذا أمرت من هذا الفعل، ولم يتقدمه حرف عطف حذفت الهمزة على غير قياس، وقلت مُرهُ بكذا، ونظيره كُلْ، وخُذْ، وإن تقدمه حرف عطف فالمشهور رد

الهمزة على القياس، فيقال: وأمر بكذا، ولا يعرف في كُلْ وخُذْ إلا التخفيف مطلقا. اهـ.

قال الجامع: لكن أثبت ابن مالك ذلك أيضا في كل وخذ بقلة حيث يقول في لاميته مشيرًا إلى هذه القاعدة (من البسيط):

وشَذَّ بالحَذْف مُرْ وخُذْ وكُلْ وفَشَا

وأمُرْ ومُسْتَتدَرٌ تَتْميمُ خُذْ وَكُلا

"أزواجكن أن يستطيبوا بالماء" أي يستنجوا به، والاستطابة: الاستنجاء كما مر "فإني أستحييهم منه" قال في المصباح: والاستحياء الانقباض والانزواء، قال الأخفش: يتعدى بنفسه، وبالحرف، فيقال: استحييت منه، واستحييته، وفيه لغتان إحداهما لغة الحجاز، وبها جاء القرآن بياءين، والثانية لتميم بياء واحدة. اهـ بتغيير يسير. والمعنى فإني أنقبض عن ذكر ذلك لهم، وبيانه، ثم ذكرت دليل هذا الحكم، فقالت:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله" أي الاستنجاء بالماء.

ص: 647

وفي رواية أحمد والبيهقي عن شداد أبي عمَّار، عن عائشة "أن نسوة من أهل البصرة دخلن عليها، فأمرتهن أن يستنجين بالماء، وقالت مُرْنَ أزواجكن بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله وهو شفاء من الباسور".

قال البيهقي: قال الإمام أحمد رحمه الله: هذا مرسل، أبو عمار شداد لا أراه أدرك عائشة. اهـ، جـ 1/ ص 10.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى" في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها صحيح.

"المسألة الثانية" في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول، وغيرهم:

أخرجه المصنف هنا -41/ 46 - وفي الكبرى 34/ 46 عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن معاذة، عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه الترمذي عن قتيبة، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، كلاهما عن أبي عوانة، بسند المصنف.

وأخرجه أحمد، والبيهقي كما مر آنفا.

"المسألة الثالثة" يستفاد من هذا الحديث ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية الاستنجاء بالماء، وقد تقدم في الحديث السابق تحقيق المسألة، وبيانُ مذاهب العلماء فيها.

وفيه استحباب الحياء للنساء عن ذكر ما يستحيا منه عند الرجال الأجانب. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 648

‌42 - بابُ النَّهْي عَنْ الاسْتِنجَاءِ باِليَمِينِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على النهي عن الاستنجاء باليمين.

47 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي إِنَائِهِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

"إسماعيل بن مسعود" الجَحْدري، أبو مسعود البصري، عن خلف بن خليفة، وعبد العزيز العَمِّيّ، وعنه النسائي. قال أبو حاتم: صدوق. قال ابن أبي عاصم: مات سنة 248.

وقال في (ت) ثقة من العاشرة. اهـ.

2 -

"خالد" بن الحارث بن عُبيد بن سُليم، الهُجَيمي، أبو عثمان البصري، عن حميد، وابن عون، وهشام بن عروة. وعنه أحمد، وإسحاق، وابن المديني، وابن المثنى، وخلق.

قال النسائي: ثقة ثبت. وقال القطان: ما رأيت خيرًا منه، ومن سفيان. قال الفلاس: مات سنة -186 - وولد له ستة عشر ابنا. اهـ (صة) وفي (ت) من الثامنة. ت سنة -186 - ومولده سنة 120، أخرج له الجماعة.

ص: 649

3 -

"هشام" بن أبي عبد الله سنبر بفتح المهملة والموحدة وإسكان النون بينهما، الدستوائي بفتح الدال والمثناة بينهما مهملة ساكنة، أبو بكر البصري، "ودستواء من كور الأهواز" عن قتادة، ويحيى بن أبي كثير، وطائفة. وعنه ابنه معاذ، وأبو داود الطيالسي، وقال: كان أمير المؤمنين في الحديث، وأبو نعيم، ومسلم بن إبراهيم، وخلق. قال العجلي: ثقة، ثبت. قال ابن سعد: حجة لكنه يرى القدر. قال

الفلاس: مات سنة 154 من كبار السابعة، تقدم 30/ 34.

4 -

"يحيى" بن أبي كثير الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت، يدلس، ويرسل من الخامسة وتقدم. في 23/ 24.

5 -

"عبد الله بن أبي قتادة" الأنصاري المدني ثقة من الثانية تقدم. في 23/ 24.

6 -

"أبو قتادة" الحارث بن ربعي الصحابي المشهور فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم. في 23/ 24.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات وأنهم بصريون إلا يحيى، فإنه يمامي ثم بصري، ومَن بعده مدنيان.

شرح الحديث

"عن أبي قتادة" الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا شرب أحدكم فلا يتنفس" بالجزم وكذا قوله "يمس"، "ويتمسح" لأن لا ناهية.

وروي بالرفع في كلها فـ"لا": نافية، أفاده في الفتح، والعمدة، و "يتنفس"، من باب التفعل، يقال: تنفس يتنفس تَنَفُّسًا، والتنفس له

ص: 650

معنيان: أحدهما أن يشرب ويتنفس في الإناء من غير أن يُبَينَه عن فيه، وهو مكروه، وهو المراد في الحديث هنا، والآخر أن يشرب الماء وغيره من الإناء بثلاثة أنفاس، فيُبين فاه عن الإناء في كل نَفَس، وأصل التركيب يدل على خروج النسيم كيف كان من ريح، أو غيرها وإليه ترجع فروعه، والتنفس خروج النفس من الفم وكل ذي رئة يتنفس، وذوات الماء لارئة لها كذا قاله الجوهري. اهـ عمدة، جـ 2/ ص 282 بزيادة يسيرة.

"في الإناء" أي الوعاء جمعها آنية، وجمع الأنية: الأواني، مثل سقاء، وأسقية، وأساقي، وأصله غير مهموز، ولهذا ذكره الجوهري في باب "أنى" فعلى هذا أصله إناي قلبت الياء همزة لوقوعها في الطرف بعد ألف ساكنة قاله العيني في العمدة، جـ 2/ ص 282.

وقال الحافظ: قوله في "الإناء" أي داخله، وأما إذا أبانه، وتنفس، فهي السنة، وهذا النهي للتأديب لإرادة المبالغة في النظافة، إذ قد يخرج مع النفس بُصَاق، أو مخاط أو بُخَارٌ رديء، فيكسبه رائحة كريهة، فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه. اهـ فح، جـ 1/ ص 35.

"وإذا أتى الخلاء" بالمد: المتوضَّأ، ويطلق على الفضاء أيضا، قاله العيني، أي: فبال كما فسرته الرواية الأخرى "إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه" أفاده الحافظ "فلا يمس ذكره بيمينه" من مَسسْتُ الشيءَ بالكسر أمَسُّ مَسًا ومَسيسًا ومسِّيسَى مثال خصِّيصَى هذه هي اللغة الفصحى، وحكى أبو عبيدة مَسَسْتة بالفتح أمُسُّه بالضم، وربما قالوا: مست الشيءَ، يحذفون منه السين الأولى، ويحولون كسرتها إلى الميم، ومنهم من لا يحول ويترك الميم على حالها مفتوحة أفاده العيني "ولا يتمسح بيمينه" أي لا يستنج، وهو من باب التفعل أشار به إلى أنه لا

ص: 651

يتكلف المسح باليمنى، لأن باب التفعل للتكلف غالبا قاله البدر العيني.

وهذا النهي قد أجمع عليه العلماء، كما قال النووي، ثم الجمهور على أنه نهى تَنزيه وأدب، لا نهي تحريم وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام. قال النووي: وأشار إلى تحريمه جماعة من أصحابنا. اهـ.

قال العلامة الشوكاني: وهو الحق، لأن النهي يقتضي التحريم، ولا صارف له فلا وجه للحكم بالكراهة فقط اهـ نيل، 1/ 126.

قال الجامع: وما قاله الشوكاني رحمه الله حسن جدًا. والله أعلم.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

"المسألة الأولى": في درجته: حديث أبي قتادة رضي الله عنه متفق عليه.

"المسألة الثانية": في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا -42/ 47 عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن هشام عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنه.

وأخرجه في باب النهي عن مس الذكر باليمنى 23/ 24 عن يحيى ابن دُرُسْت، عن أبي إسماعيل القَنَّاد، عن يحيى بن أبي كثير به، وعن هناد بن السري، عن وكيع عن هشام، عن يحيى به.

وفي الحديث الآتي 42/ 48 عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري، عن عبد الوهاب الثقفي عن يحيى، وأخرجه في السنن الكبري في الوليمة عن قتيبة، عن ابن أبي عدي، عن حجاج عن يحيى، به.

"المسألة الثالثة": فيمن أخرجه مع المصنف: أخرجه (خ م دت ق) فأخرجه البخاري في الطهارة عن معاذ بن فضالة عن هشام، وعن محمد

ص: 652

ابن يوسف، عن الأوزاعي، وفي الأشربة عن أبي نعيم، عن شيبان ثلاثتهم عن يحيى بن أبي كثير الخ.

وأخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن همام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير الخ، وعن يحيى ابن يحيى، عن وكيع، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير الخ، وأخرجه أيضا في الطهارة والأشربة عن ابن أبي عمر، عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن يحيى ابن أبي كثير الخ.

وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، كلاهما عن أبان بن يزيد، عن يحيى الخ، وأخرجه الترمذي في الطهارة عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن معمر، عن يحيى الخ، وقال: حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن هشام بن عمار، عن عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، وعن دحيم نحوه عن الوليد بن مسلم، كلاهما عن الأوزاعي، عن يحيى الخ. أفاده المزي.

"المسألة الرابعة": في اختلاف ألفاظه قد تقدم لفظ هشام، ولفظ أيوب "نَهَى أن يتنفس في الإناء، وأن يمس ذكره بيمينه، وأن يستطيب بيمينه" وفي لفظ أبان "وإذا شرب فلا يشرب نفسا واحدا" وحديث وكيع مختصر "إذا دخل أحدكم الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه" وكذلك حديث معمر "نهى أن يمس الرجل ذكره ليمينه" وكذلك حديث القناد "إذا بال أحدكم، فلا يأخذ ذكره بيمينه" أفاده الحافظ المزي في تحفته جـ 9/ ص 251.

"المسألة الخامسة": قوله "فلا يتنفس" قال البدر العينى رحمه الله: قد ذكرنا أنه نهي، ويحتمل النفي، وعلى كل تقدير هو نهي أدب

(1)

(1)

قد تقدم أن الحق أنه نهي تحريم، فتنبه.

ص: 653

وذلك أنه إذا فعل ذلك لم يأمن أن يبرز من فيه الريق، فيخالط الماء فيعافه الشارب، وربما يروح بنكهة المتنفس، إذا كانت فاسدة، والماء للطفه ورقّة طبعه تسرع إليه الروائح، ثم إنه يعد من فعل الدواب، إذا كرعت في الأواني جرعت، ثم تنفست فيها، ثم عادت فشربت، وإنما السنة أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس كلما شرب نفسًا من الماء نحاه عن فمه، ثم عاد مصّا له غير عبٍّ إلى أن يأخذ ريه منه، والتنفس خارج الإناء أحسن في الأدب، وأبعد عن الشره، وأخف للمعدة، وإذا تنفس فيه تكاثر الماء في حلقه، وأثقل معدته، وربما شرق، وآذى كبده، وهو فعل البهائم، وقد قيل: إن في القلب بابين يدخل النفس من أحدهما ويخرج من الآخر، فيلقي ما على القلب من هم أو قذى، ولذلك لو احتبس النفس ساعة هلك الآدمي، ويخشي من كثرة التنفس في الإناء أن يصحبه شيء مما في القلب، فيقع في الماء، ثم يشربه فيتأذى به، وقيل: علة الكراهة أن كل عَبَّة شَرْبَة مستأنفة، فيستحب الذكر في أولها، والحمد في آخرها، فإذا وصل، ولم يفصل بينهما فقد أخل بعدة سُنَن.

فإن قلت: لم يُبَيَّن في الحديث عدد التنفس خارج الإناء غاية ما في الباب أنه نهى عن التنفسى فيها، قلت: قد بينه في الحديث الآخر بالتثليث.

وقد اختلف العلماء في أي هذه الأنفاس الثلاثة أطول على قولين:

أحدهما: الأول.

والثاني: أن الأول أقصر والثاني أزيد منه.

والثالث أزيد منهما، فيجمع بين السنة والطب؛ لأنه إذا شرب قليلا قليلا وصل إلى جوفه من غير إزعاج، ولهذا جاء في الحديث "مصُّوا

ص: 654

الماء مَصًا ولا تعبوه عَبًا، فإنه أهنأ، وأبرأ"

(1)

.

فإن قلت: قد صح عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثًا" قلت المعنى يتنفس في مدة شربه عند إبانة القدح عن الفم، لا التنفس في الإناء لا سيما مع قوله هو "أهنأ، وأمرأ، وأبرأ" أو فعله بيانا للجواز، أو النهي خاص بغيره، لأن ما يتقذر من غيره يستطاب منه، فإن قلت: هل الحكم مقصور على الماء أم غيره من الأشربة مثله.

قلت: النهي المذكور غير مختص بشرب الماء بل غيره مثله، وكذلك الطعام مثله فكره النفخ فيه، والتنفس في معنى النفخ. وفي جامع الترمذي مصححا عن أبي سعيد الخدرى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ قال: "أهرقها"، قال: فإني لا أروي من نفس واحد، قال:"فأبن القدح إذًا عن فيك".

فإن قلت: ما الدليل علي العموم؟ قلت: حذف المفعول في قوله "وإذا شرب"، وذلك لأن حذف المفعول ينبىء عن العموم. اهـ عمدة جـ 2/ ص 283.

"المسألة السادسة": "قوله فلا يمس ذكره بيمينه" حمل الجمهور النهي على التنزيه، لأن النهي فيه لمعنيين: أحدهما لرفع قدر اليمين، والآخر أنه لو باشر النجاسة بها يتذكر عند تناوله الطعام ما باشرت يمينه من النجاسة فينفر طبعه من ذلك.

وحمل أهل الظاهر على التحريم حتى قال الحسين بن عبد الله الناصري في كتابه البرهان على مذهب أهل الظاهر: ولو استنجى بيمينه لا يجزيه، وهو وجه عند الحنابلة وطائفة من الشافعية اهـ عمدة جـ 2.

وقال الحافظ: ومحل هذا الاختلاف حيث كانت اليد تباشر ذلك بآلة

(1)

أخرجه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في الشعب، وأورده الشيخ الألباني في الضعيفة رقم 1428 جـ 3 ص 619 وتكلم عن ضعفه. فانظره.

ص: 655

غيرها كالماء وغيره، أما بغير آلة فحرام غير مجزئ بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمين. اهـ فتح، جـ 1/ ص 305.

قال الجامع عفا الله عنه: ومال العلامة الشوكاني إلى رأي أهل الظاهر، حيث قال: وهو الحق لأن النهي يقتضي التحريم، ولا صارف له، فلا وجه للحكم بالكراهة فقط. اهـ نيل، جـ 1/ ص 12.

قلت: وهو الذي يترجح لديّ، كما تقدم والله أعلم.

ثم إن النهي المذكور محمول على حالة البول، فيكون ما عداه مباحا، وقال بعض العلماء يكون ممنوعا أيضا من باب أولى؛ لأنه نُهيَ عن ذلك في مظنة الحاجة في تلك الحالة، وتعقبه أبو محمد بن أبي جمرة بأن مظنة الحاجة لا تختص بحالة الاستنجاء، وإنما خص النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يُعطَى حكمه فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسب للمادة، ثم استدل على الإباحة بقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن علي حين سأله عن مس ذكره "إنما هو بضعة منك" فدل على الجواز في كل حال فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وبقي ما عداها على الإباحة انتهى والحديث الذي أشار إليه صحيح، أو حسن.

وقد يقال: حمل المطلق علي المقيد غير متفق عليه بين العلماء، ومن قال به يَشترط فيه شروطا، لكن نبه ابن دقيق العيد على أن محل الاختلاف إنما هو حيث تتغاير مخارج الحديث بحيث يُعَدُّ حديثين مختلفين، فأما إذا اتحد المخرج، وكان الاختلاف فيه من بعض الرواة فينبغي حمل المطلق على المقيد بلا خلاف، لأن التقييد حينئذ يكون زيادة من عدل فتقبل. اهـ فتح جـ 1/ ص 306.

وقد تقدم تمام البحث على هذا الحديث في باب "النهي عن مس الذكر باليمين عند الحاجة".

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 656

48 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ، وَأَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَأَنْ يَسْتَطِيبَ بِيَمِينِهِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

"عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن" بن المسور بكسر الميم بن مخرمة الزهري البصري، عن ابن عيينية، والوليد بن مسلم، وطائفة. وعنه مسلم، والأربعة، قال أبو حاتم: صدوق، قيل: مات سنة 256. روى عنه مسلم أربعة عشر حديثًا وفي "ت" صدوق من صغار العاشرة.

2 -

"عبد الوهاب" بن عبد المجيد بن الصَّلْت بن عبد الله بن الحكم ابن أبي العاصي الثقفي أبو محمد البصري أحد الأئمة، عن حميد، وأيوب، وخالد الحذّاء، وخلق، وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وابن المديني، ومن القدماء الشافعي، قال ابن المديني: ليس في الدنيا كتاب عن يحيى الأنصاري أصح من كتاب عبد الوهاب، قال عمرو بن علي مات سنة 194، وفي "ت" ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، مات سنة 194 عن نحو 80 سنة.

3 -

"أيوب" بن أبي تميمة كيسان السختياني بفتح المهملة أو كسرها بعدها معجمة ساكنة ثم مثناه فوقية مسكورة ثم تحتانية وآخره نون نسبة إلى عمل السختيان وبيعه، وهو جلود الضأن، العَنَزى بزاي، أبو بكر البصري الفقيه، أحد الأئمة الأعلام. عن عَمْرو بن سلمة، وأبي رجاء

ص: 657

العطاردي، وأبي عثمان النَّهْدي، والحسن، وعطاء، وأبي قلابة، وخلق. وعنه ابن سيرين من شيوخه، وشعبة، والسفيانان، والحمادان، ابن زيد عند البخاري، وعبد الوارث وابن علية وخلق، قال ابن المديني: له نحو مائة حديث، وقال شعبة: حدثنا أيوب، والله سيدُ الفقهاء، وقال حماد بن زيد: أيوب أفضل من جالسته وأشده اتباعا للسنة، قال ابن عينية: ما لقيت مثله في التابعين. قال ابن سعد: كان ثقة ثبتا حجة جامعًا كثير العلم، ولد سنة 66، قال ابن المديني: توفى سنة 131، أخرج له الجماعة وفي "ت" ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، من الخامسة.

4 -

"يحيى بن أبي كثير" الطائي اليمامي ثقة تقدم في 23/ 24.

5 -

"ابن أبي قتادة" عبد الله المدني تقدم في 23/ 24.

6 -

"أبو قتادة" الحارث بن ربعي رضي الله عنه تقدم في 23/ 24.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته ما بين بصريين، وهم مَنْ قبل يحيى، ويمامي ثم بصري، وهو يحيى، ومدنيين وهما مَنْ بعده.

شرح الحديث

"عن ابن أبي قتادة" عبد الله "عن أبيه" أبي قتادة الحارث بن ربْعي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن" مصدرية "يَتَنفس" بالبناء للفاعل، والضمير عائد إلى الشارب المفهوم من المقام "في الإناء" أي داخله، وأما خارجه فسنة كما تقدم "وأن يمس" البائل "ذكره ييمينه" حمله الجمهور على التنزيه والحق أنه للتحريم لأنه لا صارف للنهي عن التحريم كما سبق تحقيقه "وأن يستطيب" أي يستنجى "ليمينه" تكريما لها، وقد تقدم تمام البحث في الحديث السابق، فأرجع إليه تزدد علمًا.

ص: 658

49 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَشُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ -وَاللَّفْظُ لَهُ-، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّا لَنَرَى صَاحِبَكُمْ يُعَلِّمُكُمُ الْخِرَاءَةَ، قَالَ: أَجَلْ، نَهَانَا أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِيَمِينِهِ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَقَالَ:"لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ".

رجال الإسناد: تسعة

1 -

"عمرو بن علي" الفلاس أبو حفص الصيرفي البصري ثقة حافظ، من العاشرة، تقدم في 4/ 4.

2 -

"شعيب بن يوسف" النسائي، عن ابن عيينة وغيره، وعنه النسائي وغيره اهـ صه، وقال المصنف وأبو زرعة: ثقة مأمون، أفاده في التهذيب، وفي التقريب: شعيب بن يوسف النسائي أبو عمرو ثقة صاحب حديث من العاشرة. اهـ.

3 -

"عبد الرحمن بن مهدى" بن حَسَّان الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلوي الحافظ الإمام العَلَم، عن عُمر بن ذَرّ، وعكرمة بن عمار، وشعبة، والثوري، ومالك، وخلق. وعنه ابن المبارك،

ص: 659

وابن وهب أكبر منه، وأحمد، وابن معين، وعمرو بن علي، قال ابن المديني: أعلم الناس بالحديث ابن مهدي.

وقال ابن المديني أيضا: إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه، فإن اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن، لأنه أصدقهما، وكان في يحيى تشدد.

وكان يختم في كل ليلتين، وقال أبو حاتم: إمام ثقة أثبت من القطان وأتقن من وكيع، وقال أحمد: إذا حدث ابن مهدي عن رجل فهو حجة، وقال القواريري: أملى علينا ابن مهدي عشرين ألفًا من حفظه، وقال ابن سعد: مات سنة 198 بالبصرة عن 63 سنة، وكان يحج كل سنة رضي الله عنه، أخرج له الجماعة. اهـ صه بزيادة من هامشه، وفي "ت" ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، من التاسعة.

4 -

"سفيان" بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي الثقة المشهور من السابعة، تقدم. في 33/ 37.

5 -

"منصور" بن المعتمر بن عبد الله السلمي أبو عَتَّاب الكوفي ثقة ثبت تقدم. في 2/ 2.

6 -

"الأعمش" سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي ثقة ثبت من الخامسة، تقدم في 17/ 18. وهو عطف على منصور مجرورٌ.

7 -

"إبراهيم" بن يزيد النخعي الفقيه الكوفي ثقة تقدم، في 29/ 33.

8 -

"عبد الرحمن بن يزيد" النخعي أخو الأسود بن يزيد الكوفي ثقة من كبار الثالثة، تقدم في 37/ 41.

9 -

"سلمان" الفارسي ابن الإسلام الصحابي المشهور رضي الله عنه تقدم في 47/ 41.

ص: 660

لطائف الإسناد

منها: أن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بصريين، وهما عمرو، وابن مهدي، ونسائي، وهو شعيب، وكوفيين، وهم الباقون.

ومنها: أن فيه إشارة إلى القاعدة المصطلحية حيث قال بعد أخبرنا عمرو بن علي، وشعيب بن يوسف:"واللفظ له"، وذلك أنه إذا كان الحديث عنده عن اثنين أو أكثر، واتفقا في المعنى دون اللفظ، فله جمعهما في الإسناد، ثم يسوق الحديث على لفظ أحدهما، فيقول: أخبرنا فلان وفلان، واللفظ لفلان، أو وهذا لفظ فلان، قال: أو قالا: أخبرنا فلان، ونحوه من العبارات، فإن لم يخص أحدهما بنسبة اللفظ إليه، بل قال: أخبرنا فلان وفلان وتقاربا في اللفظ، قالا: حدثنا فلان، جاز على الرواية بالمعنى، فإن لم يقل: وتقاربا، فلا بأس به على جواز الرواية بالمعنى.

وقد قدمنا تحقيق هذا فيما سبق.

ومنها: أنه ينبغي لفظ "كلاهما" بعد قوله: "واللفظ له"، والتقدير أخبرنا عمرو بن علي، وشعيب بن يوسف، كلاهما عن عبد الرحمن الخ.

ومنها: أن قوله والأعمش بالجر عطفا على منصور، وما وقع في النسخه المطبوعة من ضبطه بالرفع بالقلم خطأ، والحاصل أن سفيان يروي عن منصور والأعمش، وكلاهما يرويان عن إبراهيم، فتنبه. فيقدر لفظ "كلاهما" قبل قوله "عن إبراهيم" أي منصور والأعمش كلاهما يرويان عن إبراهيم النخعي، وتقدير لفظ "كلاهما" في مثل هذا الموضع أمر مصطلح عليه، وسننبه عليه إذا مَرَّ علينا مثل هذا إن شاء الله تعالى.

ص: 661

شرح الحديث

"عن سلمان" الفارسي رضي الله عنه "قال" أي سلمان "قال المشركون" وتقدم للمصنف قال قال له رجل، وفي رواية مسلم قال لنا المشركون، وفي راوية أبي داود قال: قيل له، وفي رواية ابن ماجه قال: قال له بعض المشركين، وهم يستهزئون به "إنا لنرى صاحبكم" يعني النبي صلى الله عليه وسلم "يعلمكلم الخراءة" وفي رواية المصنف المتقدمة "يعلمكم حتى الخراءة"، وفي أبي داود، وابن ماجه "يعلمكم كل شيء حتى الخراءة".

والخراءة: بالكسر والمد التخلي، والقعود للحاجة، ويجوز فتح خائها، وتقدم بأتم من هذا "قال" سلمان مجيبا له "أجل" كنعم وزنا ومعنى، يعني علمنا صاحبنا صلى الله عليه وسلم كل شيء نحتاج إليه في ديننا وجوابه من باب أسبوب الحكيم، وتقدم تحقيقه "نهانا" صلى الله عليه وسلم "أن يستنجى أحدنا بيمينه" في تأويل المصدر مجرور بـ "عن" مقدرة قياسًا، أي عن استنجاء أحدنا بيمينه "ويستقبل" بالنصب عطفا على يستنجي "القبلة" أي يتوجه إليها بفرجه.

قال العلامة السندي: ظاهره أي حالة الاستنجاء لكن الرواية السابقة صريحة أن المراد الإستقبال حال قضاء الحاجة، والحديث واحد، فالظاهر أن المراد ذلك، واختلاف العبارات من الرواة، ولذا جوز كثير منهم الاستقبال حالة الاستنجاء، وإن منعوا حالة قضاء الحاجة، وقالوا القياس فاسد لظهور الفرق، وقاس بعضهم، ومنعوا في الحالتين. اهـ جـ 1/ ص 44.

"وقال" النبي صلى الله عليه وسلم "لا يستنجي أحدكم" هكذا يستنجي بدون حذف الياء للجازم فيحتمل أن يكون على لغة من يحذف الحركة المقدرة

(1)

(1)

وهو لغة لا ضرورة كما قال السيوطي في الهمع، وخرج عليه قراءة من يتقي ويصبر بجزم يصبر، انظر حاشية الخضري على ابن عقيل، في آخر باب الإعراب.

ص: 662

ويحتمل كون "لا" نافية، والمراد بالنفي النهي "بدون ثلالة أحجار" أي بأقل منها.

تنبيه: قال الزركشي في التخريج: وقع لابن حزم في هذا الحديث وهمان:

"أحدهما": أنه صحف، وبنى على ذلك التصحيف حكما شرعيا، فقال: لا يجزئ أحدًا أن يستنجي مستقبل القبلة في بناء كان أوغيره ثم ساق الحديث بلفظ "نهانا أن يستنجى أحدنا بيمينه، أو مستقبل القبلة" هكذا قال: أو "مستقبل" بالميم في أوله، وإنما المحفوظ "ويستقبل القبلة" بالياء المثناة من تحت، وقد رواه سفيان الثوري، وغيره فقال:"أو يستقبل القبلة" بالعطف بأو.

"الثاني": أنه ذهب إلى أنه لا تجوز الزيادة على ثلاثة أحجار لقوله "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار" قال: لأن "دون" تستعمل في كلام العرب بمعنى "أقل"، أو بمعنى "غير"، كما قال تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: آية 81] أي غير الله فلا يجوز الاقتصار على أحد المعنيين، دون الآخر، قال: فصح بمقتضى هذا الخبر أن لا يجزئ في المسح أقل من ثلاثة أحجار ولا يجوز غيرها، إلا ما جاء به النص زائدًا وهو الماء، قال ابن طبرزد: وهذا خطأ على اللغة فإن العدد إنما وضع لبيان ما هو أقل ما يجزئ في الاستنجاء، كما أن خمسًا من الإبل أو خمس أواق أقل ما يجب فيه الزكاة من الإبل والورق، فلا يستقيم أن يكون "دون" هنا بمعنى "غير" لفساده بالإجماع لكن

(1)

النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بها في الحديث الأول إلا معنى أقل انتهى كلام الزركشي كما نقله السيوطي في الزهر جـ 1/ ص 44 - 45.

وقد تقدم ما يتعلق بحديث سلمان هذا في باب "النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار" فأرجع إليه، تزدد علمًا.

(1)

هكذا النسخة لكن، ولعله فإن النبي صلى الله عليه وسلم الخ. أو نحو ذلك من العبارة فتأمل.

ص: 663

‌43 - باب دَلْكِ الْيَدِ بِالأَرْضِ بَعْدَ الاِسْتِنْجَاءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية دَلْك الشخص يده بالأرض بعد الاستنجاء مبالغة في التنظيف وإزالة للرائحة الكريهة.

والدلك: بفتح فسكون مصدر، يقال: دلَكتُ الشيء دَلكًا من باب قتل مَرَسْتَهُ بيدي، ودلكت النعل بالأرض: مسحتها بها. قاله في المصباح.

50 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَلَمَّا اسْتَنْجَى دَلَكَ يَدَهُ بِالأَرْضِ.

51 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ -يَعْنِي ابْنَ حَرْبٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى الْخَلَاءَ، فَقَضَى الْحَاجَةَ، ثُمَّ قَالَ:"يَا جَرِيرُ، هَاتِ طَهُورًا". فَأَتَيْتُهُ بِالْمَاءِ، فَاسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَقَالَ بِيَدِهِ

ص: 664

فَدَلَكَ بِهَا الأَرْضَ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ، وَاللهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

رجال الإسناد الأول: ستة

1 -

"محمد بن عبد الله بن المبارك" القرشي، أبو جعفر البغدادي المُخَرَّمي

(1)

.

الحافظ قاضي حلوان، عن أبي معاوية، والقطان، وإسحاق الأزرق، وابن مهدي، وخلق. وعنه (خ د س) وثقه أبو حاتم، والنسائي، قال ابن قانع: مات سنة 254. اهـ صه وفي "ت" ثقة حافظ من الحادية عشرة.

2 -

"وكيع" بن الجراح الإمام العلم الثقة الحجة الكوفي من التاسعة، تقدم في 23/ 25.

3 -

"شريك" بن عبد الله بن أبي شريك النخعي، أبو عبد الله الكوفي قاضيها، وقاضي الأهواز، عن زياد بن علاقة، وزُبيد، وسلمة ابن كُهَيل، وسماك، وخلق. وعنه هُشيم، وعباد بن العوام، وابن المبارك، وعدي بن حُجْر، ولُوَين، وأمم. قال أحمد: هو في أبي إسحاق أثبت من زهير، وقال ابن معين: ثقة يغلط، وقال العجلي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة سيء الحفظ، قال الخطيب: حدث

(1)

بضم الميم وفتح المعجمة وكسر المهملة المشددة: نسبة إلى المُخَرِّم، محلة ببغداد وإنما قيل لها المخرم، لأن بعض ولد يزيد بن المخرم نزلها فسميت به. انظر لب اللباب جـ 2 ص 244

ص: 665

عنه أبان بن تغلب، وعباد الرَّوَاجني، وبين وفاتيهما أكثر من مائة سنة.

قال أحمد: مات سنة 177 له في البخاري فرد حديث.

وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلا فاضلا عابدًا شديدًا على أهل البدع، من الثامنة، مات سنة سبع، أو ثمان وسبعة ومائة. اهـ أخرج له البخاري

تعليقًا، والباقون.

4 -

"إبراهيم بن جرير" بن عبد الله البجلي عن أبيه، قال يحيى: لم يسمع منه، وعن ابن. أخيه أبي زرعة، وعنه أبان بن عبد الله، وشريك، قال ابن عدي: أحاديثه مستقيمة، بقي إلى حدود العشرين ومائة. أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

وفي التقريب: صدوق إلا أنه لم يسمع من أبيه، وقد روى عنه بالعنعنة، وجاءت رواية بصريح التحديث لكن الذنب لغيره من الثالثة. اهـ

5 -

"أبو زرعة" بن عمرو بن جرير البجلي اسمه هَرم، أو غير ذلك، الكوفي عن جده، وأبي هريرة، وأرسل عن أبي ذر، كان من علماء التابعين، وعنه حفيداه جرير ويحيى، وطلق بن معاوية، وثقه ابن معين.

وفي (ت) قيل: اسمه هرم وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقة من الثالثة اهـ. أخرج له الجماعة.

6 -

"أبو هريرة" الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته ما بين بغدادي، وهو

ص: 666

الأول، وكوفيين وهم الباقون، وأن فيه رواية الراوي عن ابن أخيه، وهو إبراهيم، عن أبي زرعة.

شرح الحديث الأول

"عن أبي هريرة" رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ" أي أراد الوضوء "فلما استنجى" أي غسل مقعدته بالماء "دلك" من باب نصر، أي مسح يده "بالأرض" مبالغة في التنظيف، ولتزول الروائح الكريهة.

ورواية أبي داود عن أبي هريرة قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور، أو ركوة فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ.

رجال الإسناد الثاني: خمسة

1 -

"أحمد بن الصباح" النهشلي أبو جعفر بن أبي سريج بجيم مصغرا الرازي المقرئ الحافظ، عن وكيع، ومروان بن معاوية، ويحيى القطان، وأبي معاوية، وخلق، وعنه (خ د س) ووثقه، توفي بعد

الأربعين ومائتين، وفي "ت" ثقة حافظ له غرائب، من العاشرة.

2 -

"شعيب بن حرب" المدائني، أبو صالح المكي، نزيل بغداد، عن صخر بن جويرية، وزهير بن معاوية، وعنه أحمد بن حنبل ويعقوب بن إبراهيم الدورقي. وثقه ابن معين، وأبو حاتم، قال محمد

ابن عيسى: مات سنة 176

(1)

. وفي "ت" ثقة عابد، من التاسعة. أخرج له البخاري، وأبو داود، والمصنف.

3 -

"أبان بن عبد الله" بن أبي حازم "البجلي"

(2)

الأحمسي

الكوفي، عن عمه عثمان، وعطاء، وعنه الثوري، وابن المبارك، وشعيب بن حرب، قال يحيى: ثقة ثقة، وقال أحمد: صدوق صالح،

(1)

والذي في ت وأصله مات سنة 197.

(2)

"البجلي" بفتحتين، نسبة إلى قبيلة بجيلة، قاله في اللباب.

ص: 667

قال ابن حبان: فحش خطؤه، وانفرد بالمناكير. وقال ابن عدي: لم أجد له حديثًا منكرًا، مات في خلافة أبي جعفر المنصور، اهـ صه، بزيادة وفي "ت" صدوق، في حفظه لين، من السابعة، مات في خلافة أبي جعفر، أخرج له الأربعة.

4 -

"إبراهيم بن جرس" المتقدم في السند السابق.

5 -

"جرير بن عبد الله" بن جابر وهو السليل بن مالك بن نصر البجلي القسري، أبو عمرو، أسلم سنة عشر، وبسط له النبي صلى الله عليه وسلم ثوبًا ووجَّهَهُ إلى ذي الخلصة

(1)

فهدمها، وعمل على اليمن في أيامه صلى الله عليه وسلم له مائة حديث، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة، وعنه ابنه إبراهيم، وأنس، وزيد بن وهب، والشعبي، وطائفة، قال ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا ابتسم، وكانت نعله ذراعًا، وشهد فتح المدائن، وكان على ميمنة الناس يوم القادسية، ويلقب بيوسف هذه الأمة، قال خليفة: مات سنة إحدى أو أربع وخمسين. أخرج له الجماعة.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته ما بين رازي، وهو الأول، ومكي وهو الثاني، وكوفيين، وهم الباقون.

ومنها: أن في قوله: يعني ابن حرب فائدة حسنة، وهي أن شيخه لم ينسب له شيخه لأبيه، وإنما ذكر نسبه هو، فأراد أن يميز بين ما ذكره شيخه وبين ما زاده هو بنفسه، فأتى بكلمة "يعني"، قال في الألفية.

ولا تَزدْ فِي نَسَب أو وَصْف مَنْ

فَوقَ شُيُوخ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ

بنَحْو "يَعْني" أوْ بـ "أنَّ" أوْ بـ"هُو"

وقد تقدم غير مرة.

(1)

صنم كانوا يعبدونه.

ص: 668

شرح الحديث

"عن إبراهيم بن جرر، عن أبيه" جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه "قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء" بالفتح والمد كالفضاء وزنا ومعنى، أو المتوضأ كما في المصباح، والأول أوضح هنا "فقضى الحاجة" قال في المصباح: وقضيت وطري: بلغتُهُ ونلتُه، وقضيت الحاجة كذلك اهـ. والمراد بالحاجة الغائط والبول "ثم قال" صلى الله عليه وسلم "يا جرير هات" بكسر التاء قال السيوطي: وهل هو اسم فعل، أو فعل غير متصرف، قولان للنحاة اهـ. وقال في اللسان ما معناه: وقد أماتت العرب كل شيء من فعلها غير الأمر بهات، وما أهاتيك، أي ما أنا بمعطيك، ولا يقال منه. هاتيتُ ولا يُنهى بها، قال وإذا أمرت الرجل بأن يعطيك شيئًا قلت له: هات يا رجل، وللاثنين هاتيا، وللجمع هاتوا، وللمرأة هاتي بزيادة الياء، إلى أن قال: وهاتاه إذا ناوله شيئًا قال المفضل هات، وهاتيا، وهاتوا، أي: قربوا، ومنه قوله تعالي:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [النمل: آية 64] أي: قربوا. اهـ باختصار، وقيل: إن هات اسم فعل بمعنى ناول، قاله في الكواكب الدرية.

"طهورا" بفتح الطاء اسم لما يتطهر به من الماء "فأتيته بالماء فاستنجى بالماء وقال بيده" أي: تهيأ واستعد ليضرب بيده، فإنَّ "قال": تأتي لمعان كثيرة، قال في "ق":"قال" يجيء بمعنى "تكلم"، و "ضرب"، و"غلب"، و"مات"، و"مال"، و"استراح"، و "أقبل"، ويعبر بها عن التهيؤ للأفعال والاستعداد لها، يقال: قال فأكل، وقال فضرب، وقال، فتكلم. ونحوه. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: والمناسب هنا هو المعنى الأخير ولا يبعد معنى مال إلى الأرض بيده "فدلك" من باب نصر "بها" أي بيده "الأرض" مبالغة في التنظيف.

ص: 669

"قال أبو عبد الرحمن" النسائي الظاهر أنه من كلام المصنف، ويتحمل أن يكون من بعض الرواة عنه.

"هذا" أي حديث أبان حيث جعله من مسند جرير "أشبه بالصواب من حديث شريك" بن عبد الله، حيث جعله من مسند أبي هريرة "والله سبحانه وتعالى أعلم" وإنما رجح النسائي رواية أبان بن عبد الله، لأن شريكا سيء الحفظ مشهور بالتدليس، بخلاف أبان، وليس مراد النسائي أن رواية أبان صحيحة، لأنها منقطعة، لأن إبراهيم بن جرير لم يسمع من أبيه، وإنما مراده ترجيح كون الحديث من مسند جرير، على كونه من مسند أبي هريرة، لما ذكرنا، ولا يستلزم ذلك الصحة.

قال ابن الموَّاق: معنى كلام النسائي: أن كون الحديث من مسند جرير أولى من كونه من مسند أبي هريرة، لا أنه حديث صحيح في نفسه، فإن إبراهيم بن جرير لم يسمع من أبيه شيئا، قاله يحيى بن معين، وقال أبو حاتم وأبو داود: إن حديثه عنه مرسل، لكن ابن خزيمة لم يلتفت إلى هذا، فأخرج روايته عنه في صحيحه.

قال الشيخ ولي الدين: وفي ترجيح النسائي رواية أبان على رواية شريك نظر، فإن شريكا أعلى، وأوسع رواية، وأحفظ، وقد أخرج له مسلم في صحيحه، ولم يخرج لأبان المذكور مع أنه اختلف عليه فيه، فرواه الدارقطني، والبيهقي من طريقين عنه، وعن مولى لأبي هريرة، عن أبي هريرة، وهذا الاختلاف على أبان مما يضعف روايته على أنه لا يمتنع أن يكون لإبراهيم فيه إسنادان؛ أحدهما عن أبي زرعة والآخر عن أبيه، وأن يكون لأبان فيه إسنادان؛ أحدهما عن إبراهيم بن جرير، والآخر عن مولى لأبي هريرة. اهـ زهر جـ 1/ ص 46.

وقال ابن القطان: لهذا الحديث "يعني حديث شريك" علتان:

ص: 670

إحداهما: شريك فهو سيء الحفظ مشهور بالتدليس.

والثانية: إبراهيم بن جرير، فإنه لا يعرف حاله، ورد بأن ابن حبان ذكره في الثقات، وقال ابن عدي: لم يضعف في نفسه، وإنما قيل: لم يسمع من أبيه شيئا، وأحاديثه مستقيمة، تكتب. قال الذهبي: وضعف حديثه، جاء من جهة الانقطاع، لا من قبل سوء الحفظ، وهو صدوق. اهـ ذكر هذا في المنهل جـ 1/ ص 117.

مسائل تتعلق بحديثي الباب

"المسألة الأولى" في درجتهما:

هما مما سكت عنه أبو داود، والمنذري، وقد عرفت ما فيهما، من العلة ففي الحديث الأول شريك بن عبد الله، وهو سيء الحفظ مدلس، وقد عنعنه، وفي الثاني انقطاع لأن إبراهيم لم يسمع من أبيه، وقد قدمنا أن ترجيح النسائي له لا يقتضي صحته، وقد اعترض ولي الدين ترجيحه بما تقدم، ولكن حسن النووي حديث أبي هريرة في المجموع.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن كلا الحديثين حسن، بل لا يبعد تصحيحهما، لأن لهما شاهدًا من حديث ميمونة رضي الله عنها عند الشيخين.

ففي رواية البخاري عنها قالت: "وضع رسول الله وضوءًا للجنابة، فأكفأ بيمنيه على شماله مرتين، أو ثلاثا، ثم غسل فرجه، ثم ضرب بيده الأرض، أو الحائط مرتين، أو ثلاثا".

وفي رواية مسلم "ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكا شديدًا".

وقد حسن الشيخ الألباني الحديثين انظر صحيح النسائي ج 1 ص 12.

"المسألة الثانية" في بيان مواضع ذكر المصنف لهما: أخرجهما في

ص: 671

هذا الباب، وأخرج في الكبرى حديث أبي هريرة بسنده المذكور برقم 35/ 48.

"المسألة الثالثة" فيمن أخرجهما معه: أخرج أبو داود حديث أبي هريرة في الطهارة عن أبي ثور، إبراهيم بن خالد الكلبي، عن أسود بن عامر، وعن محمد بن عبد الله المخرمي، عن وكيع كلاهما عن شريك، عن إبراهيم بن جرير بسند المصنف، وابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعلي بن محمد كلاهما عن وكيع به، وعن أبي حاتم، عن سعيد بن سليمان الواسطي، عن شريك نحوه. أفاده المزي.

وأخرجه الدارقطني، والبيهقي، وأحمد، والدارمي.

وأخرج حديث جرير ابنُ ماجه عن محمد بن يحيى، عن أبي نعيم عن أبان بن عبد الله البجلي بسند المصنف.

"المسألة الرابعة" فيما يفيده الحديثان من الأحكام:

دل الحديثان على:

استحباب دلك اليد بالأرض بعد الفراغ من الاستنجاء، لتزول الرائحة الكريهة من اليد.

وعلى جواز استخدام الحُرِّ، إذا رضي، وعلى استحباب خدمة الأصاغر للأكابر.

وعلى جواز استعانة الشخص على طُهُوره بغيره، خلافا لمن كره ذلك.

وعلى جواز الاستنجاء بالماء خلافًا لمن منع من ذلك.

وعلى استحباب الابتعاد عن أعين الناس عند قضاء الحاجة، لقوله:"دخل غَيضَة"، في رواية ابن ماجه. والله أعلم.

* * *

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 672

اللهم صل عل محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

السلام على النبي، ورحمة الله، وبركاته.

سبحانك اللهم، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك، لا شريك، أستغفرك، وأتوب إليك.

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير محمد ابن الشيخ علي بن آدم الإتيوبي الوَلويُّ غفر الله له، ولوالديه:

هذا آخر الجزء الأول من شرح سنن النسائي المسمى "ذخيرة العقبي في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى، في شرح المجتنى".

أسال الله تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ونافعًا لي، ولكل من تَلَقَّاهُ بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

ويليه الجزء الثاني، وأوله "باب التوقيت في الماء".

ص: 673