المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ١٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجزء الثاني عشر

دار آل بروم للنشر والتوزيع

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

شرح سنن النسائي

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1420 هـ-2000 م

دار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)

ص: 4

‌32 - ما يُجْزىءُ مِنَ الْقِرَاءةِ لِمِنْ لا يُحْسِنُ الْقُرْآنَ

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على الأذكار التي تجزىء من قراءة القرآن لمن لا يحسن قراءة القرآن.

924 -

أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ السَّكْسَكِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَعَلِّمْنِي شَيْئًا يُجْزِئْنِي مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ:"قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(يوسف بن عيسى) بن دينار الزهري، أبو يعقوب المروزي، ثقة فاضل، من [10]، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

روى عن عمه يحيى، وحفص بن غياث، والفضل بن موسى، وأبي معاوية، ووكيع، وابن عيينة، وعبد الله بن نمير، وعلي بن

ص: 5

عاصم، وابن فضيل، وغيرهم.

وعنه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأحمد بن سيار المروزي، وعبدة بن سليمان البصري، والحسن بن سفيان، وعمر بن

محمد بن بجير، وآخرون.

قال النسائي: ثقة. وقال الحاكم: هو جد شيخنا أبي الفضل الحسن ابن يعقوب بن يوسف البخاري، وكان شيخنا أبو الفضل يذكر فضائل جده، وزهده، وورعه، وكثرة صدقاته، وإحسانه، وما خلف من أوقافه ببخارا ونيسابور. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال هو، والبخاري، والنسائى: مات سنة 249

(1)

.

2 -

(محمود بن غيلان) العدوي مولاهم، أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، ثقة، مات سنة 239، من [10]، أخرج له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، تقدم في 33/ 37.

3 -

(الفضل بن موسى) السِّينَانِيُّ، أبو عبد الله المروزي، ثقة ثبت، وربما أغرب، مات سنة 192، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 83/ 100.

4 -

(مِسْعَر) بن كدَام بن ظُهير الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، مات سنة 153، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 8/ 8.

(1)

"تك" جـ 32 ص 449 - 450 "تت" جـ 11 ص 420 - 421.

ص: 6

5 -

(إِبراهيم السَّكسَكِيُّ) هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن إسماعيل، أبو إسماعيل الكوفي، مولى صُخَير -بمهملة، ثم معجمة، مصغرًا- صدوق، ضعيف الحفظ، من [5]، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.

روى عن عبد الله بن أبي أوفى، وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وأبي وائل، وغير. وعنه العَوَّام بن حَوشب، ومسعر، وأبو خالد

الدالاني، وغيرهم.

قال أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال القطان: كان شعبة يضعفه، كان يقول: لا يحسن يتكلم. وقال النسائى: ليس بذاك القوي، يكتب حديثه، وقال ابن عدي: لم أجد له حديثًا منكر المتن، وهو إلى الصدق أقرب منه إلى غيره، ويكتب حديثه، كما قال النسائي. قال الحاكم: قلت لعلي بن عمر الدارقطني: لم ترك مسلم حديث السكَسكي؟ فقال: تكلم فيه يحيى بن سعيد، قلت: بحجة؟ قال: هو ضعيف. وذكره العقيلي في الضعفاء. وقال الساجي: تفرد بحديثه عن ابن أبي أوفى مرفوعًا: "خير عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر". وذكره ابن حبان في الثقات

(1)

.

و"السكسكي" -بفتح المهملتين، وسكون الكاف الأولى-: نسبة إلى السكاسك، بطن من كندة. قاله في اللب جـ 2 ص 21. وفي

(1)

"تك" جـ 2 ص 132 "تت" جـ 1 ص 138.

ص: 7

الأنساب جـ 3 ص 267 "السكسكي": هذه النسبة إلى السكاسك، وهو بطن من الأزد، ووادي السكاسك: موضع بالأردن، نزلت فيه السكاسك حين قدموا الشام زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. انتهى.

6 -

(عبد الله بن أبي أوفى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي، صحابي ابن صحابي رضي الله تعالى عنهما، شهد الحديبية، وعُمِّرَ بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرًا، ومات سنة 87، وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة، تقدم في 3/ 402.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله ثقات، إلا إبراهيم، فتكلموا فيه، وأن الثلاثة الأولين مروزيون، والباقون كوفيون، وأن صحابيه ابن صحابي، وروى 95 حديثًا، اتفق الشيخان على 10، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بواحد، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن) عبد الله (بن أبي أوفى) علقمة بن خالد، رضي الله عنهما، أنه (قال: جاء رجل إِلى النبي صلى الله عليه وسلم) لم يُعرَف اسمه (فقال: إِني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا) أي لا أقدر على حفظ شيء منه، وهو يحتمل أن لا يمكنه الحفظ حالًا ومآلًا لعلمه العجز من نفسه.

ص: 8

ويحتمل أن لا يمكنه في الحال لضيق وقت الصلاة، أو لسوء حفظه.

قال شارح المصابيح: إن هذه الواقعة لا يجوز أن تكون في جميع الأزمان؛ لأن من قدر على تعلم هذه الكلمات لا محالة يقدر على تعلم الفاتحة، بل تأويله: لا أستطيع أن أتعلم شيئًا من القرآن في هذه الساعة، وقد دخل عليّ وقت الصلاة، فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمه أن يتعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله شارح المصابيح كلام حسن جدًّا. والله تعالى أعلم.

(فعلمني شيئًا يجزئني من القرآن) بضم حرف المضارعة، مهموزًا -من الإجزاء رباعيًّا، ويحتمل أن يكون- بفتح حرف المضارعة غير مهموز- من الجَزَاء، تلاثيًا.

قال الفيومي: جَزَى الأمرُ يَجْزِي جَزَاءً، مثلُ قَضَى يَقضِي قَضَاءً، وزنًا ومعنى، وفي التنزيل:{يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، وفي الدعاء:"جزاه الله خيرًا"، أي قضاه له، وأثابه عليه، وقد يستعمل "أجزأ" بالألف، والهمز، بمعنى "جزى"، ونقلهما الأخفش بمعنى واحد، فقال: الثلاثي من غير همزة لغة الحجاز، والرباعي المهموز لغة تميم. انتهى

(2)

.

(1)

راجع المنهل العذب المورود جـ 5 ص 265.

(2)

المصباح المنير جـ 1 ص 100.

ص: 9

والجملة في محل نصمب صفة "شيئًا"، أي يكفيني من قراءة القرآن في صلاتي.

(فقال) صلى الله عليه وسلم (قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إِلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إِلا بالله) زاد في رواية أبي داود من طريق أبي خالد الدالاني، عن إبراهيم السكسكي:"قال: يا رسول الله هذا لله، فما لي؟ قال: قل: اللهم ارحمني، وارزقني، وعافني، واهدني"، فلما قام قال هكذا بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما هذا فقد ملأ يده من الخير".

وفي الحديث دلالة على أن هذا الذكر يجرئ من لا يستطيع أن يتعلم القرآن.

قال الشوكاني رحمه الله: وليس فيه ما يقتضي التكرار، فظاهره أنه يكفي مرة. وقد ذهب البعض إلى أنه يقوله ثلاث مرات، والقائلون

بوجوب الفاتحة في كل ركعة لعلهم يقولون بوجوبه في كل ركعة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر وجوب هذه الأذكار في كل ركعة، لأنه ثبت أن القراءة في كل ركعة؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته بعد قوله:"ثم اقرأ ما تيسر معك": "ثم افعل ذلك في صلاتك

(1)

نيل الأوطار جـ 3 ص 76.

ص: 10

كلها"، وهذا الرجل سأله عما يكفيه من القرآن، أي القرآن الذي يجب أن يقرأه في صلاته، فكان هذا الذكر نائبًا عن القرآن الواجب قراءته في كل ركعة. والله تعالى أعلم.

وسيأتي بيان مذاهب أهل العلم فيمن لا يستطيع قراءة الفاتحة في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

والله تعالى ولي التوفيق، وهو الستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه هذا صحيح.

قال الجامع عفا الله عنه: اعلم أن حديث الباب صححه ابن خزيمة جـ 1 ص 273، وابن حبان جـ 5 ص 114 - 117، والحاكم جـ 1 ص 241، وقال: على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وهو كذلك، فإنه، وهو وإن كان في سنده إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الرحمن السكسكي، وقد تكلموا فيه، لكنه أخرج له البخاري، وقال ابن عدي: لم أجد له حديثًا منكر المتن.

ثم إنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه طلحة بن مصرف، عن ابن أبي أوفى، كما أخرجه ابن حبان في صحيحه، لكن في سنده الفضل بن

ص: 11

الموفق، قال أبو حاتم: كان شيخًا صالحًا ضعيف الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات جـ 9 ص 6 فمثله لا بأس به في المتابعات.

وله شاهد أخرجه أبو داود، والترمذي، وصححه ابن خزيمة جـ 1 ص 274 من حديث رفاعة بن رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ رجلًا الصلاةَ فقال: "إذا قمت إلى الصلاة، فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد، فأقم، ثم كبر، فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله. وكبره، وهلله

" الحديث. رواه أبو داود، والترمذي.

والحاصل أن الحديث صحيح لما ذكر. والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 32/ 924، وفي الكبرى 32/ 996، عن يوسف بن عيسى، ومحمود بن غيلان، كلاهما عن الفضل بن موسى، عن مسعر ابن كدام، عن إبراهيم السكسكي، عن ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه.

زاد في الكبرى: قال أبو عبد الرحمن: إبراهيم السكسكي، ليس بذاك القوي. انتهى.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه أبو داود في الصلاة عن عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن

ص: 12

سفيان الثوري، عن أبي خالد الدالاني، عن إبراهيم، به.

وأخرجه الحميدي رقم 717. وأحمد جـ 4 ص 356. وابن خزيمة 544. وابن حبان جـ 5 ص 114 - 115. والدارقطني جـ 1 ص 313. والحاكم جـ 1/ 241، والبيهقي جـ 2 ص 381.

المسألة الرابعة: اختلف العلماء فيمن عجز عن قراءة. القرآن في الصلاة:

فذهبت الحنابلة إلى أنه إن عجز عن الفاتحة لزمه قراءة قدرها في عدد الحروف والآيات من غيرها، فإن لم يحسن من القرآن إلا آية واحدة من الفاتحة، أو من غيرها كررها بقدرها، فإن كان يحسن آية من الفاتحة، ويحسن شيئًا من غيرها كرر الآية التي يحسنها من الفاتحة بقدرها، ولا يكرر التي ليست من الفاتحة.

فإن لم يحسن شيئًا من القرآن لزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإن لم يحسن إلا بعض الذكر المذكور كرره بقدره مراعيًا لعدد الحروف والجمل، فإن لم يحسن شيئًا من الذكر وقف بقدر الفاتحة كالأخرس، ولا يلزم الذي لا يحسن الفاتحة الصلاة خلف قارئ، لكن يستحب له ذلك، لتكون قراءة الإمام قراءة له، وخروجًا من خلاف من أوجبه.

وبمثل هذا قالت الشافعية، إلا أنهم اختلفوا في الذكر، فقال أبو

ص: 13

علي الطبري: يجب أن يقول: سبحان الله إلى آخر ما ذكر في الحديث، ولا يزيد عليه، وقيل: يلزمه أن يزيد على ما في الحديث كلمتين من الذكر، ليصير سبعة أنواع منه مقام سبع آيات.

ولا يخفى بعده لمخالفته ظاهر الحديث. وقيل: لا يتعين شيء من الذكر، بل يجزئه جميع الأذكار، من التهليل، والتسبيح، والتكبير، وغيرها، ويجب سبعة أنواع من الذكر، ويشترط أن لا ينقص حروف ما أتى به عن حروف الفاتحة. قال النووي: وهو الصحيح عند جمهور الأصحاب.

وذهبت المالكية إلى أن من لم يحسن الفاتحة يجب عليه أن يأتم بمن يحسنها، فإن لم يجد سقطت القراءة عنه، ويكون فرضه الذكر كما قاله محمد بن سحنون. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: لا يجب عليه تسبيح، ولا تحميد. واختاره اللخمي، وهو المعتمد في المذهب، قال: ويستحب له أن يقف وقوفًا ما، فإن لم يفعل أجزأه.

وقال أبو حنيفة: إذا عجز من القراءة قام ساكتًا، ولا يجب الذكر. ذكر هذه الأقوال في "المنهل العذب المورود"

(1)

.

قال الجامع عفا الله: الذي يظهر لي في هذه المسألة أن من عجز عن قراءة شيء من القرآن وجب عليه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. لحديث الباب،

(1)

المنهل العذب جـ 5 ص 266.

ص: 14

فإن الرجل سأل ما يجزيه عن القرآن، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر، فلو كان هناك شيء يجزيه غير هذا لدله عليه، فيعلم أنه لا يجزيه غير ما ذكر، ولا يجب عليه أيضًا أن يصلي وراء من يحسن القرآن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كلفه بذلك.

وأما ما ذكر من التفاصيل في الأقوال المتقدمة، من مراعاة عدد الكلمات، والحروف بمقدار سبع آيات، فتكلف، ليس عليه دليل.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في بيان اختلاف العلماء في قراءة القرآن بغير العربية:

ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب، سواء أمكنته العربية، أو عجز عنها، وسواء كان في الصلاة،

أو غيرها، فإن أتى بترجمة في صلاة بدلًا عن القراءة لم تصح صلاته، سواء أحسن القراءة، أو لا.

قال النووي رحمه الله: هذا مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء، منهم مالك، وأحمد، وداود.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه تجوز الصلاة بغير العربية مطلقًا، وقال أبو يوسف، ومحمد: تجوز للعاجز، دون القادر.

واحتج لأبي حنيفة بقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، قال: والعجم لا يعقلون الإنذار إلا بترجمته.

ص: 15

وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل عَلَى القرآن على سبعة أحرف". وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن قومًا من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئًا من القرآن، فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية؛ ولأنه ذِكْرٌ، فقامت ترجمته مقامه كالشهادة في الإسلام، وقياسًا على جواز ترجمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقياسًا على جواز التسبيح بالعجمية.

واحتج الجمهور بما أخرجه الشيخان من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما يقرأ عمر، فَلَبَّبَهُ بردائه، وأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

، وذكر الحديث. فلو جازت الترجمة لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضه في شيء جائز.

واحتجوا أيضًا بأن ترجمة القرآن ليست قرآنًا؛ لأن القرآن هو هذا اللفظ المعجز، وبالترجمة يزول الإعجاز، فلم يجز، وكما أن الشعر تخرجه ترجمته عن كونه شعرًا، فكذلك القرآن.

وأما الجواب عن الآية الكريمة، فهو أن الإنذار يحصل ليتم به

(1)

، وإن نقل إليهم معناه.

وأما الجواب عن الحديث، فسبع لغات للعرب؛ ولأنه يدل على أنه لا يتجاوز هذه السبعة، وهم يقولون: يجوز بكل لسان، ومعلوم أنها

(1)

هكذا نسخة المجموع "يحصل ليتم به"، ولعل صواب العبارة "يحصل بما يتم به الإنذار". والله أعلم.

ص: 16

تزيد على سبعة.

وعن فعل سَلْمَان أنه كتب تفسيرها، لا حقيقة الفاتحة.

وعن الإسلام بكون المراد معرفة اعتقاده في الباطن، والعجمية كالعربية في تحصيل ذلك.

وعن القياس على الحديث والتسبيح، أن المراد بالقرآن الأحكام، والنظم المعجز، بخلاف الحديث، والتسبيح.

ولقد أجاد إمام الحرمين رحمه الله في الرد عليهم حيث قال: عمدتنا أن القرآن معجز، والمعتمد في إعجازه اللفظُ، قال: ثم تكلم علماء الأصول في المعجز منه، فقيل: الإعجاز في بلاغته، وجزالته، وفصاحته المجاوزة لحدود جزالة العرب.

والمختار أن الإعجاز في جزالته مع أسلوبه الخارج عن أساليب كلام العرب، والجزالةُ والأسلوبُ يتعلقان بالألفاظ، ثم معنى القرآن في حكم التابع للألفاظ، فحصل من هذا أن اللفظ هو المقصود المتبوع، والمعنى تابع.

فنقول بعد هذا التمهيد: ترجمة القرآن ليست قرآنًا بإجماع المسلمين، ومحاولة الدليل لهذا تكلف، فليس أحد يخالف في أن من تكلم بمعنى القرآن بالهندية ليست قرآنًا، وليس ما لفظ به قرآنًا، ومن خالف في هذا كان مراغمًا جاحدًا، وتفسيرُ شعر امرئ القيس ليس

ص: 17

شعره، فكيف يكون تفسير القرآن قرآنًا، وقد سلّموا أن الجنب لا يحرم عليه ذكر معنى القرآن، والمحدثُ لا يُمنَعُ من حمل كتاب فيه معنى القرآن وترجمته؟! فَعُلِم أن ما جاء به ليس قرآنًا، ولا خلاف أن القرآن معجز، وليست الترجمة معجزة، والقرآن هو الذي تَحَدِّى به النبي صلى الله عليه وسلم العرب، ووصفه الله تعالى بكونه عربيًا.

وإذا علم أن الترجمة ليست قرآنًا، وقد ثبت أنه لا تصح صلاة إلا بقرآن حصل أن الصلاة لا تصح بالترجمة.

هذا كله مع أن الصلاة مبناها على التعبد والاتباع، والنهي عن الاختراع، وطريق القياس مُنسَدَّة، وإذا نظر الناظر في أصل الصلاة، وأعدادها، واختصاصها بأوقاتها، وما اشتملت عليه من عدد ركعاتها، وإعادة ركوعها في كل ركعة، وتكرر سجودها إلى غير ذلك من أفعالها، ومدارها على الاتباع، ولم يفارقها جملة وتفصيلًا، فهذا يسد باب القياس، حتى لو قال قائل: مقصود الصلاة الخضوع، فيقوم السجود مقام الركوع لم يقبل ذلك منه، وإن كان أبلغ في الخضوع.

ثم عجبت من قولهم: إن الترجمة لا يكون لها حكم القرآن في تحريمها على الجنب، ويقولون: لها حكمه في صحة الصلاة التي مبناها على التعبد والاتباع، ويخالف تكبيرة الإحرام التي قلنا بها لعاجز عن العربية بلسانه، لأن مقصودها المعنى مع اللفظ، وهذا بخلافه. هذا آخر

ص: 18

كلام إمام الحرمين رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد إمام الحرمين رحمه الله تعالى في الرد عليهم بما لا مزيد عليه، فجزاه الله تعالى عدى ذلك خير الجزاء. وبالله التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

انظر المجموع جـ 3 ص 380 - 381. ونقلته ببعض تصرف.

ص: 19

‌33 - جَهْرُ الإِمَامِ بِآمِينَ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية الجهر للإمام بـ "آمين" بعد قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية.

وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه [باب جهر الإمام بالتأمين].

قال في الفتح: أي بعد الفاتحة في الجهر، والتأمين مصدر "أمَّنَ" بالتشديد، أي قال: آمين، وهي بالمد، والتخفيف في جميع الروايات، وعن جميع القراء، وحكى الواحدي عن حمزة، والكسائي الإمالة.

وفيها ثلاث لغات أخرى شاذة: القصر، حكاه ثعلب، وأنشد له شاهدًا، وأنكره ابن درستويه، وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر، وحكى عياض، ومن تبعه عن ثعلب أنه إنما أجازه في الشعر خاصة، والتشديد مع المد والقصر، وخطأهما جماعة من أهل اللغة.

و"آمين": من أسماء الأفعال، مثل "صه" للسكوت، وتفتح في الوصل؛ لأنها مبنية بالاتفاق، مثل "كيف"، وإنما لم تكسر، لثقل الكسرة بعد الياء، معناها:"استجب"، عند الجمهور، وقيل: غير ذلك، مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى، كقول من قال: معناه اللهم أُمَّنا بخير. وقيل: كذلك يكون. وقيل: درجة في الجنة تجب لقائلها. وقيل: لمن استجيب له، كما استجيب للملائكة. وقيل: هو اسم من

ص: 20

أسماء الله تعالى. رواه عبد الرزاق، عن أبي هريرة بإسناد ضعيف، وعن هلال بن يساف التابعي مثله.

وأنكره جماعة. وقال من مدّ وشدد: معناها قاصدين إليك، ونُقلَ ذلك عن جعفر الصادق. وقال من قصر وشدد: هي كلمة عبرانية، أَو سريانية. وعند أبي داود من حديث أبي زهير النميري الصحابي: إن آمين مثل الطابع على الصحيفة، ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم:"إن خَتَمَ بآمين فقد أوجب". انتهى ما في الفتح

(1)

.

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه "تهذيب الأسماء واللغات": قال الجوهري: قال جمهور أهل اللغة: "آمين" في الدعاء

يمد، ويقصر، قالوا: وتشديد الميم خطأ، وهو مبني على الفتح، مثل "أين"، و"كيف"، لاجتماع الساكنين، وتقول: أمَّنَ تأمينًا.

وأما معناه، فقال الإمام الثعلبي: قال ابن عباس: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى "آمين"؟ فقال: "افعل". وقال قتادة: كذلك يكون. وقال هلال بن يساف، ومجاهد:"آمين": اسم من أسماء الله تعالى

(2)

. وقال سهل: معناه لا يقدر على هذا أحد سواك. وقال الترمذي: معناه لا تخيب رجاءنا. وقال عطية العوفي: آمين كلمة عبرانية، أو سريانية، وليست عربية. وقال عبد الرحمن بن زيد: آمين كنز من كنوز

(1)

جـ 2 ص 512.

(2)

هذا سيأتي رده.

ص: 21

العرش، لا يعلم أحد تأويله إلا الله تعالى. وقال أبو بكر الورّاق: آمين قوّة للدعاء، واستنزال الرحمة.

وقال الضحاك: "آمين" أربعة أحرف مقطعة من أسماء الله عز وجل، وهي خاتم رب العالمين، يختم به براءة أهل الجنة، وبراءة أهل النار، دليله ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين". وقال عطاء: "آمين" دعاء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على آمين، وتسليم بعضكم على بعض".

وقال ابن وهب: آمين أربعة أحرف، يخلق الله عز وجل من كل حرف ملكًا، يقول: اللهم اغفر لمن قال: آمين. هذا ما ذكره الثعلبي

رحمه الله تعالى.

وقال الإمام المتبحر الواحدي رحمه الله تعالى في كتابه "البسيط": في آمين لغات؛ المدّ، وهو المستحبّ، لما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال:{وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7]، قال:"آمين"، يمد بها صوته. والقصر كما قال:[من الوافر]

تَبَاعَدَ مِنِّي فُطْحُلٌ

(1)

إِذ سَأَلْتُهُ

أَمِينَ فَزَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا

أراد زاد الله ما بيننا بعدًا أمين. والإمالة مع المد، روى ذلك عن

(1)

الفطحل كجعفر، وقُنْفُذ: اسم رجل. كما أفاده في تاج العروس جـ 8 ص 64.

ص: 22

حمزة، والكسائي. والتشديد مع المدّ، روي ذلك عن الحسن، والحسين ابن الفضل، ويحقق ذلك ما روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال في تأويله: قاصدين نحوك، وأنت أكرم من أن تخيب قاصدًا، قال: وقال أبو إسحاق: معناها: اللهم استجب، وهي موضوعة في موضع اسم الاستجابة، كما أن "صَهْ" موضوع موضع سكوتًا، وحقها من الإعراب الوقف؛ لأنها بمنزلة الأصوات، إذ كان غير مشتق من فعل، إلا أن النون فتحت فيها لالتقاء الساكنين، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الياء، كما فتحوا أين، وكيف. هذا ما ذكره الواحدي.

قال النووي رحمه الله: وفيه فوائد: من أحسنها إثبات لغة التشديد في "آمين" التي لم يذكرها الجمهور، بل أنكروها، وجعلوها من قول العامة.

وقال الإمام أبو منصور الأزهري في كتابه "شرح ألفاظ المختصر للمزني": قوله: "آمين" استجابة للدعاء، وفيه لغتان، قصر الألف، ومدها، والميم مخففة في اللغتين، يوضعان موضع الاستجابة للدعاء، كما أن "صه"، و"مه" يوضع للإسكات، وحقهما عن الإعراب الوقف، لأنهما بمنزلة الأصوات، فإن حركتهما تحرك بفتح النون، كقوله:

أَمِينَ فَزَادَ اللهُ مَا بَينَنَا بُعدَا

وقال القاضي أبو الفضل عياض المغربي السبتي في كتابه "الإكمال" في شرح صحيح مسلم: معنى "آمين": استجب لنا، وقيل: معناه

ص: 23

كذلك نسأل لنا، والمعروف فيها المد، وتخفيف الميم، وحكى ثعلب فيها القصر، وأنكره غيره، وقال: إنما جاء مقصورًا في ضرورة الشعر، وقيل: هي كلمة عبرانية، مبنية على الفتح، وقيل: بل هي اسم من أسماء الله تعالى، وقيل: معناها يا آمين استجب لنا، والمدة همزة النداء، وعوض عن "يا"، قال: وحكى الداودي تشديد الميم م المدّ، وقال: وهي لغة شاذة، ولم يعرفها غيره، وخطأ ثعلب قائلها. هذا ما ذكره القاضي عياض.

وقال ابن قُرقول -بضم القافين- وهو أبو إسحاق صاحب "مطالع الأنوار": "آمين" مطولةً، ومقصورةً، ومخففةً، وأنكر أكثر العلماء تشديد الميم، وأنكر ثعلب قصر الهمزة، إلا في الشعر، وصححه يعقوب في الشعر وغيره، والنون مفتوحة أبدًا، مثل "أين"، و"كيف"، واختلف في معناه، قيل: كذلك يكون، وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، أصله القصر، فأدخلت عليه همزة النداء، قال: وهذا لا يصح؛ لأنه ليس في أسماء الله تعالى اسم مبني، ولا غير معرب، مع أن أسماء الله تعالى لا تثبت إلا بقرآن، أو سنة متواترة، وقد عُدِم الطريقان في "آمين".

قال الجامع عفا الله عنه: تقييده السنة بالمتواترة غير صحيح، بل كل ما صح في السنة تثبت به أسماء الله تعالى وصفاته، وإن كان خبر آحاد. والله تعالى أعلم.

قال: وقيل: "آمين" درجة في الجنة، تجب لقائلها. وقيل: هو

ص: 24

طابع الله على عباده، يدفع به عنهم الآفات. وقيل: معناه: اللهم أُمَّنَا بخير. هذا ما ذكره صاحب المطالع.

وقال الإمام أبو عبد الله، صاحب "التحرير" في شرح مسلم: في "آمين" لغتان: فتح الألف من غير مد، والثانية بالمد، وهي مبنية، قال بعضهم: بنيت لأنها ليست عربية، أو أنها اسم فعل، كصَهْ، ومَهْ، ألا ترى أن معناها: اللهم استجب، وأعطنا ما سألناك، وقالوا: إن مجيء آمين دليل على أنها ليست عربية، إذ ليس في كلام العرب فاعيل، فأما آري، فليس بفاعيل، بل هو عند جماعة فاعول، وعند بعضهم فاعلي، وعند بعضهم فاعي بالنقصان، وقد قال جماعة: إن أَمين -يعني المقصورة- لم يجئ عن العرب، والبيت الذي يُنشَدُ:

أَمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَينَنَا بُعْدَا

لا يصح على هذا الوجه، وإنما هو: فآمين زاد الله ما بيننا بعدا، قال: وكثير من العامة يشددون الميم منها، وهو خطأ، لا وجه له. هذا آخر كلام صاحب التحرير. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إنما ذكرت عبارة النووي بعد عبارة الفتح؛ لأن في كلام النووي تفصيلًا لما اختصره في الفتح من الأقوال.

والحاصل أنه تلخص مما تقدم أن أفصح لغاتها: المد، والتخفيف، وأشهر معانيها: استجب. والله تعالى أعلم بالصواب. وإليه المرجع

(1)

تهذيب الأسماء واللغات جـ 3 ص 11 - 14.

ص: 25

والمآب.

تنبيه:

أخذ المصنف كالإمام البخاري رحمهما الله تعالى حكم الجهر بـ"آمين" من قوله في الحديث: "إذا أمن القارئ"، وفي لفظ:"إذا أمن الإمام".

قال السندي رحمه الله تعالى: قوله: "إذا أمن القارئ" أخذ منه المصنف الجهر بـ "آمين" إذ لو أسر الإمام بـ "آمين" لما علم القوم بتأمين الإمام، فلا يحسن أمرهم بالتأمين عند تأمينه.

وهذا استنباط دقيق، يرجحه ما سبق من التصريح بالجهر، وهذا هو الظاهر المتبادر.

نعم قد يقال: يكفي في الأمر معرفتهم لتأمين الإمام بالسكوت عن القراءة، لكن تلك معرفة ضعيفة، بل كثيرًا ما يسكت الإمام عن القراءة، ثم يقول:"آمين"، بل الفصل بين القراءة والتأمين هو اللائق، فيتقدم تأمين المقتدي على تأمين الإمام، إذا اعتمد على هذه الأمارة، لكن رواية: "إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} ربما رجح هذا التأويل، فليتأمل.

والأقرب أن أحد اللفظين من تصرفات الرواة، وحينئذ، فرواية "إذا أمن" أشهر، وأصح، فهي أشبه أن تكون هي الأصل. والله أعلم. انتهى كلام السندي رحمه الله تعالى

(1)

.

(1)

شرح السندي جـ 2 ص 143 - 144.

ص: 26

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله السندي رحمه الله من بيان وجه استنباط المصنف رحمه الله ترجمته من حديث الباب، واستحسانه لذلك مخالفًا للمذهب الحنفي الذي لا يرى الجهر بـ"آمين" يُعَدّ من إنصافه، وعدم تعصبه للمذهب، وهذا هو واجب كل مسلم أن يدور مع الدليل حيثما دار ولا يتعصب لرأي بعض العلماء، فإنهم ليسوا معصومين، فكثيرًا ما يقعون في الخطأ، ومخالفة النص، دون قصد منهم، وإنما لعدم وصوله إليهم، أو نحو ذلك، فهم معذورون بذلك، لكن لا يكون خطؤهم مذهبًا يتمسك به مقلدهم، فلا عذر للمقلد بعد أن يتضح له الحق، ويصح لديه النص، فإن ذلك من الحماقة بمكان.

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

اللهم أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه.

والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

925 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ، تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ،

ص: 27

غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن عثمان) بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي مولاهم، أبو حفص الحمصي، صدوق، مات سنة 250، من [10]،

أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 21/ 535.

2 -

(بقية بن الوليد) بن صائد بن كعب الكَلَاعي، أبو يُحْمِد، الحمصي، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، مات سنة 197، من

[8]

، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم والأربعة، تقدم في 45/ 592.

3 -

(الزُّبَيدي) -بالزاي، والباء الوحدة، مصغرًا- محمد بن الوليد بن عامر، أبو الهُذَيل الحمصي القاضي، ثقة ثبت، من كبار أصحاب الزهري، مات سنة 146، وقيل: غير ذلك، من [7]، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 45/ 56.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم، الإمام الحافظ الحجة الثبت، مات سنة 125، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف، المدني الفقيه ثقة مكثر، مات سنة 94، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.

6 -

(أبو هريرة) الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1.

ص: 28

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، إلا بقية، فإنه صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، ويسوي، فهو كما قيل:

احذر أحاديث بقية، وكن منها على تقية، فإنها غير نقية.

ومنها: أن الثلاثة الأولين حمصيون، والباقون مدنيون.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي؛ الزهري، عن أبي سلمة.

ومنها: أن فيه أبا هريرة رئيس المكثرين في الرواية، روى 5374 حديثًا، اتفق الشيخان على 325، وانفرد البخاري بـ 79، ومسلم بـ 93 حديثًا. والله تعالى أعلم بالصواب.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا أمّن القارئ، فأمنوا) المراد من "القارئ" هو الإمام، أي إذا قال الإمام: آمين. وفي الرواية الآتية 927 منِ طريق معمر عن الزهري: "إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه".

وفي رواية مالك، عن ابن شهاب 928: "إذا أمن الإمام فأمنوا

".

وفي رواية الأعرج، عن أبي هريرة 35/ 930: "إذا قال أحدكم:

ص: 29

آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه".

قال الحافظ رحمه الله تعالى: [قوله: إذا أمن الإمام فأمنوا] ظاهرٌ في أن الإمام يؤمن. وقيل: معناه إذا دعا، والمراد دعاء الفاتحة من قوله:{اهْدِنَا} [الفاتحة: 6] إلى آخره، بناءً على أن التأمين دعاء. وقيل: معناه إذا بلغ إلى موضع استدعى التأمين، وهو قوله:{وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، ويرد ذلك التصريحُ بالمراد في حديث الباب.

واستدل به على مشروعية التأمين للإمام، قيل: وفيه نظر، لكونها قضية شرطية. وأجيبَ بأن التعبير بـ "إذا" يشعر بتحقق الوقوع.

وخالف مالك في إحدى الروايتين عنه، وهي رواية ابن القاسم، فقال: لا يؤمن الإمام في الجهرية، وفي رواية عنه: لا يؤمن مطلقًا، وأجاب عن حديث ابن شهاب هذا بأنه لم يره في حديث غيره، وهي علة غير قادحة، فإن ابن شهاب إمام لا يضرّه التفرد، مع ما سيذكر قريبًا أن ذلك جاء في حديث غيره.

وررجح بعض المالكية كون الإمام لا يؤمّن من حيث المعنى بأنه داع، فناسب أدن يختص المأموم بالتأمين، وهذا يجيء على قولهم: إنه لا قراءة على المأموم، وأما من أوجبها عليه فله أن يقول: كما اشتركا في القراءة، فينبغي أن يشتركا في التأمين.

ومنهم من أوّل قوله: "إذا أمن الإمام"، فقال: معناه دعا، قال: وتسمية الداعي مُؤَمِّنًا سائغة، لأن المؤمّن يسمى داعيًا، كما جاء في قوله

ص: 30

تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]، وكان موسى داعيًا، وهارون مؤمِّنًا، كما رواه ابن مردويه من حديث أنس.

وتعقب بعدم الملازمة، فلا يلزم من تسمية المؤمِّن داعيًا عكسه. قاله ابن عبد البر.

على أن الحديث في الأصل لم يصح، ولو صح، فإطلاق كون هارون داعيًا إنما هو للتغليب.

وقال بعضهم: معنى قوله: "إذا أمّن": بلغ موضع التأمين، كما يقال: أنجد: إذا بلغ نَجْدًا، وإن لم يدخلها.

قال ابن العربي: هذا بعيد لغة وشرعًا. وقال ابن دقيق العيد: هذا مجاز، فإن وجد دليل يرجحه عمل به، وإلا فالأصل عدمه.

قال الحافظ: قلت: استدلوا برواية أبي صالح، عن أبي هريرة بلفظ:"إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، فقولوا: آمين"، قالوا: فالجمع بين الروايتين يقتضي حمل قوله: "إذا أمن" على المجاز.

وأجاب الجمهور -على تسليم المجاز المذكور- بأن المراد بقوله: "إذا أمن" أي أراد التأمين، ليتوافق تأمين الإمام والمأموم معًا، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها الإمام.

وقد ورد التصريح بأن الإمام يقولها، وذلك في رواية

(1)

، ويدل

(1)

هكذا نسخة الفتح، وفيها ركاكة، ولعل صواب العبارة: وذلك في رواية تدل على خلاف تأويلهم، وهي رواية معمر

إلخ. أو "رواية معمر" بالجر بدلًا عن "روايةٍ" الأولى. فليحرر.

ص: 31

على خلاف تأويلهم رواية معمر، عن ابن شهاب في هذا الحديث، بلفظ: "إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين

" الحديث. أخرجه أبو داود، والنسائي، والسّرّاج، وهو صريح في كون الإمام يؤمِّن. وقيل في الجمع بينهما: المراد بقوله: "إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين" أي ولو لم يقل الإمام: آمين.

وقيل: يؤخذ من الخبرين تخيير المأموم في قولها مع الإمام أو بعده. قاله الطبري.

وقيل: الأول لمن قرب من الإمام، والثاني لمن تباعد عنه؛ لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة، فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه، فمن سمع تأمينه أمَّن معه، وإلا يؤمن إذا سمعه يقول:{وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]؛ لأنه وقت تأمينه. قاله الخطابي. وهذه الوجوه كلها محتملة، وليست بدون الوجه الذي ذكروه.

وقد رده ابن شهاب بقوله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين". كأنه استشعر التأويل المذكور، فبين أن المراد بقوله:"إذا أمّن" حقيقة التأمين، وهو وإن كان، مرسلًا، فقد اعتضد بصنيع أبي هريرة راويه، كما سيأتي.

وإذا ترجح أن الإمام يؤمن، فيجهر به في الجهرية، كما ترجم به المصنف [جهر الإمام بآمين] والبخاري [باب جهر الإمام بالتأمين]، وهو قول الجمهور خلافًا للكوفيين، وروايةٍ عن مالك، فقال: يسر به مطلقًا.

ص: 32

ووجه الدلالة من الحديث أنه لو لم يكن التأمين مسموعًا للمأموم لم يعلم به، وقد علق تأمينه بتأمينه.

وأجابوا بأن موضعه معلوم، فلا يستلزم الجهر به. وفيه نظر، لاحتمال أن يخلّ به، فلا يستلزم علم المأموم به.

وقد روى رَوْحُ بن عُبَادة، عن مالك في هذا الحديث: قال ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] جهر بـ "آمين": أخرجه السّرّاج.

ولابن حبان من رواية الزُّبيدي في حديث الباب عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته، وقال:"آمين". وللحميدي من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة نحوه، بلفظ: إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]. ولأبي داود من طريق أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة، عن أبي هريرة مثله، وزاد:"حتى يسمع من يليه من الصف".

ولأبي داود، وصححه ابن حبان من حديث وائل بن حُجْر نحو رواية الزبيدي.

وفيه ردّ على من أومأ إلى النسخ، فقال: إنما كان صلى الله عليه وسلم يجهر بالتأمين في ابتداء الإسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حجر إنما أسلم في أواخر الأمر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

(1)

فتح الباري جـ 2 ص 514 - 515.

ص: 33

(فأمنوا) جواب "إذا". استدلّ به على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام؛ لأنه رتب عليه بالفاء، لكن تقدم في الجمع بين الروايتين أن المراد المقارنة، وبذلك قال الجمهور.

وقال أبو محمد الجويني: لا تستحب مقارنة الإمام في شيء من الصلاة غيرِهِ.

قال إمام الحرمين: يمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإمام، لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخر عنه، وهو واضح.

ثم إن الأمر عند الجمهور للندب. وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم، عملًا بظاهر الأمر. قال: وأوجبه الظاهرية على كل مصلّ.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي ذكره أبو محمد بن حزم الظاهري في كتابه "المحلى" أنه فرض على المأموم فقط. ونصه فيه: وقول المأموم: "آمين" إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} فرض، وإن قاله الإمام فهو حسن، وسنة. انتهى

(1)

.

ثم إن الذي يظهر لي وجوبه على المأموم؛ لأن الأمر للوجوب على قول الجمهور، إلا إذا صرفه صارف، وما ذكر الجمهور القائلون بالندب هنا صارفًا. والله تعالى أعلم.

(1)

المحلّى جـ 3 ص 255.

ص: 34

ثم إن مطلق أمر المأموم بالتأمين أنه يُؤَمّن، ولو كان مشتغلًا بقراءة الفاتحة، وبه قال أكثر الشافعية.

ثم اختلفوا هل تنقطع بذلك الموالاة على وجهين؟: أصحهما: لا تنقطع؛ لأنه مأمور بذلك لمصلحة الصلاة، بخلاف الأمر الذي لا يتعلق بها، كالحمد للعاطس. والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الحمد للعاطس مثل التأمين، لا يقطع الموالاة، إذ هو مشروع، ولا دليل على أنه يقطع. والله تعالى أعلم.

(فإِن الملائكة تؤمن) تعليل للأمر بالتأمين، أي لأن الملائكة تؤمن.

ثم إن ظاهره أن المراد بالملائكة جميعهم، واختاره ابن بزيزة.

وقيل: الحفظة منهم. وقيل: الذين يتعاقبون منهم، إذا قلنا: إنهم غير الحفظة.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة، ممن في الأرض، أو في السماء، ففي رواية البخاري، من طريق الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه". وستأتي هذه الرواية للمصنف 35/ 930.

ص: 35

وقد علق البخاري عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووصله أحمد، والدارمي، وابن خزيمة، وفيه:"فوافق ذلك قول أهل السماء". ونحوه لسهيل بن أبي صالح، عن أبيه عند مسلم، وروى عبد الرزاق، عن عكرمة، قال:"صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد" انتهى.

قال الحافظ: ومثله لا يقال بالرأي، فالمصير إليه أولى. انتهى

(1)

.

(فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة) قيل: المراد بالموافقة هو الموافقة في القول والزمن، ويدل عليه قوله قبله:"فإن الملائكة تؤمن".

وقيل: الموافقة في الإخلاص والخشوع، وإليه مال ابن حبان، فإنه لما ذكر الحديث قال: يريد موافقة الملائكة في الإخلاص بغير إعجاب، وكذا جنح إليه غيره، فقال نحو ذلك من الصفات المحمودة، أو في إجابة الدعاء، أو في الدعاء بالطاعة خاصة. أو المراد بتأمين الملائكة استغفارهم للمؤمنين

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول الأول هو الذي رجحه الأكثرون؛ القرطبي، وابن دقيق العيد، والحافظ ولي الدين، والحافظ في الفتح، وهو الذي يظهر لي. والله تعالى أعلم.

(1)

فتع جـ 2 ص 516.

(2)

انظر طرح التثريب جـ 2 ص 366. وفتح الباري جـ 2 ص 516.

ص: 36

وقال ابن المنير: الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزمان أن يكون المأموم على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها، لأن الملائكة لا غفلة عندهم، فمن وافقهم كان متيقظًا

(1)

.

(غفر الله له ما تقدم من ذنبه) جواب "من".

وفي الروايات الآتية كلها: "غفر له ما تقدم من ذنبه" ببناء الفعل للمجهول. ولعل تقديم المصنف لهذه الرواية، مع أن في سندها ضعفًا من أجل بقية، لتصريحها بالفاعل. والله تعالى أعلم.

ثم إن ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية كبائرها وصغائرها، وقد خص العلماء هذا وأشباهه بتكفير الصغائر فقط، وقالوا: إنما يكفر الكبائر التوبة، وكأنهم لما رأوا التقييد في بعض ذلك بالصغائر حملوا ما أطلق في غيرها عليها، كالحديث الصحيح "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفّارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر". والله أعلم

(2)

.

وقد تقدم البحث في ذلك مستوفًى في الكلام على حديث عثمان ابن عفان رضي الله عنه، فيمن توضأ كوضوئه صلى الله عليه وسلم في كتاب الطهارة، وبالله التوفيق.

تنبيه:

قال في "الفتح": وقع في أمالي الجرجاني، عن أبي العباس الأصم،

(1)

انظر "الفتح" جـ 2 ص 516.

(2)

انظر "طرح التثريب" جـ 2 ص 266.

ص: 37

عن بحر بن نصر، عن ابن وهب، عن يونس في آخر هذا الحديث:"وما تأخر"، وهي زيادة شاذة، فقد رواه ابن الجارود في "المنتقى" عن بحر بن نصر بدونها، وكذا مسلم عن حرملة، وابنُ خزيمة عن يونس بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن وهب، وكذلك في جميع الطرق عن أبي هريرة، قال الحافظ: إلا أني وجدته في بعض نسخ من ابن ماجه عن هشام بن عمار، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن ابن عيينة بإثباتها، ولا يصح؛ لأن أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه في مسنده، ومصنفه بدونها، وكذلك حفاظ أصحاب ابن عيينة: الحميدي، وابن المديني ، وغيرهما.

وله طرق أخرى ضعيفة من رواية أبي فروة محمد بن يزيد بن سنان، عن أبيه، عن عثمان، والوليد ابني ساج، عن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة. انتهى ما في "الفتح".

والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

قال الجامع عفا الله عنه: إسناد الصنف، وإن كان فيه بقية، وهو يدلس عن الضعفاء، ويُسَوِّي، إلا أن الحديث أخرجه الشيخان،

وغيرهما من طرق عن الزهري، وأخرجه المصنف من رواية ابن عيينة،

ص: 38

926 ومن رواية معمر 927، ومن رواية مالك 928، كلهم عن الزهري. وسيأتي تفصيل ذلك في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 33/ 925، وفي الكبرى 33/ 997، عن عمرو بن عثمان، عن بقية، عن محمد بن الوليد الزُّبَيدي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عنه. وفي 926، والكبرى 998، عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عنه. و 927، والكبرى 999، عن إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، به. و 928، والكبرى 1000 عن قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد، وأبي سلمة، كلاهما عنه. و 34/ 929، والكبرى 34/ 1001 عن قتيبة، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عنه. و 35/ 930، والكبرى 35/ 1002، عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسلمة -وعن عبد الله بن يوسف- وفي "جزء القراءة" عن إسماعيل بن أبي أويس- كلهم عن مالك، عن سمي، به. وعن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد به. وعن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن

ص: 39

المسيب به. وعن علي بن عبد الله، عن ابن عيينة، به.

وأخرجه مسلم عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل، به. وعن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عن أبي الزناد، به. وعن يحيى بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، به. وعن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، به. وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن عمرو بنّ الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة.

وأبو داود عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، به.

والترمذي عن أبي كريب، عن زيد بن الحباب، عن مالك به.

وابن ماجه عن بكر بن خلف، وجميل بن الحسن، كلاهما عن عبد الأعلى، عن معمر، به. وعن أحمد بن عمرو بن السرح، وهاشم بن القاسم، كلاهما عن عبد الله بن وهب، عن يونس به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وهشام بن عمار، كلاهما عن ابن عيينة، به، وعن محمد بن بشار، عن صفوان بن عيسى، عن بشر بن رافع، عن أبي عبد الله بن عم أبي هريرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ومالك في "الموطأ" رقم 76، وأحمد 1/ 459 و 2/ 233 و 459 و 238 و 270 و 449 و 312، والدارمي رقم 1248 و 1249، والحميدي 933، وابن خزيمة 570 و 1583 و 569.

ص: 40

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو جهر الإمام بـ "آمين"، ووجه ذلك أنه علق تأمين المأمومين على تأمينه، وإنما يُطَّلَعُ على ذلك بالسماع، ولا يُسْمَع ما لا يُجْهَرُ فيه.

وهذا مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق. وذهب أبو حنيفة، ومالك في رواية عنه إلى أنه يسرّ به.

قال ابن دقيق العيد: ودلالة الحديث على الجهر بالتأمين أضعف من دلالته على التأمين قليلًا، لأنه قد يدل دليل على تأمين الإمام من غير جهر.

وقال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله: في قوله: "إذا أمن فأمنوا" دليل بَيِّنٌ على أن الإمام يجهر للناس، ولا يجوز أن يكون غير ذلك؛ لأن الإمام لو أسر التأمين لم يعلم بذلك المأموم، فيؤمن إذا أمن الإمام، وهذا بين ظاهر لمن وفقه الله للفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ محال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المأموم أن يؤمن إذا أمن إمامه. انتهى

(1)

.

وقد ورد. التصريح بالجهر فيما رواه أبو داود من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، قال:"صليت خلف صلى الله عليه وسلم، فجهر بآمين".

(1)

الأوسط جـ 3 ص 130.

ص: 41

وفي لفظ له: "ورفع بها صوته". ورواه الترمذي، وحسنه بلفظ:"ومد بها صوته". وأخرجه الحاكم، وصححه.

وأما رواية شعبة في هذا الحديث: "وخفض بها صوته"، فهي خطأ، خطّأه فيها البخاري، وأبو زرعة، وغيرهما.

ولأبي داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"كان إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين، حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتجّ بها المسجد". لفظ ابن ماجه، وفي إسناده ضعف، لكن يشهد له ما أخرج ابن حبان في صحيحه جـ 5 ص 111 - 112، والدارقطني في سننه جـ 1 ص 335، وحسن إسناده، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته، وقال:"آمين".

قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: وفي حديث أبي هريرة هذا جهرُ المأمومين أيضًا بالتأمين، وهو القول القديم للشافعي، وعليه الفتوى، وفي الجديد لا يجهرون، قال الرافعي: قال الأكثرون: في المسألة قولان: أصحهما أنه يجهر.

ومنها: أن الله تعالى جعل للملائكة قوة الإدراك بالسمع، وهم في السماء لِماَ ينطق به بنو آدم في الأرض، أو لبعض ذلك؛ لأنه جعل

مكان تأمين الملائكة في السماء، ويحتمل أن يراد بالسماء العلو،

ص: 42

والأولى حمله على ما تقدم.

(1)

.

ومنها: أن فيه حجة على الإمامية في دعواهم أن التأمين في الصلاة مبطل لها، لأنه ليس بلفظ قرآن، ولا ذكر. قال ولي الدين رحمه الله: وهم في ذلك خارقون لإجماع السلف والخلف، ولا حجة لهم في ذلك، لا صحيحة، ولا سقيمة.

وقال الحافظ رحمه الله: ويمكن أن يكون مستندهم ما نقل عن جعفر الصادق أن معنى "آمين" أي قاصدين إليك، وبه تمسك من

قال: إنه بالمد والتشديد، وصرح المتولي من الشافعية بأن من قاله هكذا بطلت صلاته. انتهى

(2)

.

ومنها: أن فيه فضيلة الإمام؛ لأن تأمين الإمام يوافق تأمين الملائكة، ولهذا شرع للمأموم موافقته. وظاهر سياق الأمر أن المأموم إنما يؤمن إذا أمن الإمام، لا إذا ترك، وقال به بعض الشافعية، كما صرح به صاحب "الذخائر"، وهو مقتضى إطلاق الرافعي الخلاف. وادعى النووي في "شرح المهذب" الاتفاق على خلافه ونص الشافعي في "الأم" على أن المأموم يؤمن، ولو تركه الإمام عمدًا، أو سهوًا.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الشافعي رحمه الله في "الأمّ"، هو الأرجح عندي، لظاهر قوله: "إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7]

(1)

"طرح التثريب" جـ 2 ص 265 - 266.

(2)

فتح جـ 2 ص 517.

ص: 43

فقولوا: آمين". والله تعالى أعلم.

ومنها: أنه يستفاد من رواية الأعرج الآتية ج 35/ 930: "إذا قال أحدكم آمين، والملائكة في السماء آمين

"، استحباب التأمين للمنفرد والمأموم أيضًا. قال صاحب المفهم: وقد اتفقوا على أن الفذّ يؤمن مطلقًا، والإمام والمأموم فيما يسران فيه يؤمِّنان.

ومنها: أنه أطلق التأمين في الرواية المذكورة، ولم يقيده بالصلاة، فمن قال: يعمل بالمطلق، كالحنفية والظاهرية، يقولون: إن هذا الثواب لا يتقيد بالصلاة، بل التأمين في غير الصلاة حكمه هكذا.

لكن يمكن أن يقال لهم: إن الثواب مترتب على موافقة تأمين ابن آدم لتأمين الملائكة، وإنما نقل لنا تأمين الملائكة لتأمين المصلي، كما تدل الوواية الآتية من طريق معمر، عن الزهري: "إذا قال الإمام: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين

"، وأما من حمل المطلق على المقيد، فإنه يخصه بالصلاة، لرواية مسلم: "إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين

" أفاده ولي الدين رحمه الله تعالى.

ومنها: أنه قد يستدل بقوله: "فأمنوا"، على أن تأمين المأموم بعد تأمين الإمام، لا قبله، ولا معه؛ لأنه رتبه عليه بالفاء. وقد جزم أصحاب الشافعي باستحباب مقارنة الإمام فيه، فقال الرافعي: والأحب أن يكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام، لا قبله، ولا بعده. وقال ابن

ص: 44

الرفعة: إنه لا يستحب مساواته فيما عداه من الصلاة. قال إمام الحرمين: ويمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإمام، لا لتأمينه.

قال الحافظ ولي الدين: ويدل عليه قوله: "إذا قال الإمام: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين

".

وروى أبو داود من حديث بلال أنه قال: يا رسول الله لا تسبقني بآمين، وإسناده ثقات، إلا أن البيهقي صحح رواية من جعله عن أبي

عثمان النهدي مرسلًا، ثم رواه عن بلال، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبقني بآمين". قال البيهقي: فكأن بلالًا كان يؤمن قبل تأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا تسبقني بآمين"، كما قال:"إذا أمن الإمام، فأمنوا". اهـ كلام ولي الدين رحمه الله تعالى.

ومنها: أن المستحب الاقتصار على التأمين عقب الفاتحة من غير زيادة عليه اتباعًا للحديث، وأما ما رواه البيهقي من حديث وائل بن حجر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7] قال: "رب اغفر لي آمين"، فإن في إسناده أبا بكر النهشلي، وهو ضعيف.

وفي "الأم" للشافعي: فإن قال: آمين رب العالمين كان حسنًا. ونقله النووي في زوائده في الروضة. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي نقل عن الشافعي رحمه الله

ص: 45

يحتاج إلى دليل. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

استدل القرطبي في "المفهم" بقوله: "إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين" على تعيين قراءة الفاتحة للإمام، قال ولي الدين: وفي الاستدلال به على الوجوب نظر، والأدلة على الوجوب قائمة صحيحة من غير هذا الحديث. اهـ.

تنبيه آخر:

استدل القرطبي به أيضًا على أن المأموم ليس عليه أن يقرأ الفاتحة فيما جهر به إمامه. قال ولي الدين: وما أدري ما وجه الدلالة منه؟، والأدلة الصحيحة قائمة على وجوب القراءة على المأموم مطلقًا. اهـ.

المسألة الخامسة: في بيان اختلاف أهل العلم في الجهر بـ "آمين":

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله بعد ذكر أحاديث الجهر، ما نصه: فقد ثبت الجهر بالتأمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه.

وممن كان يؤمّن على إثر القراءة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن الزبير، ويؤمّن من خلفه حتى إن للمسجد لَلَجّةً، ثم قال: إنما آمين دعاء، وكان ابن عمر إذا ختم أم القرآن قال: آمين. وروي ذلك عن أبي هريرة.

وبه قال عطاء، والأوزاعي، واختلف فيه عن الأوزاعي، فحكى

ص: 46

الوليد بن مسلم عنه أنه كان يرى الجهر بآمين، وحكى عنه الوليد بن يزيد أنه قال: خمس يخفيهن الإمام، فذكر آمين.

وقال أحمد: يجهر بآمين، وبه قال إسحاق، ويحيى بن يحيى، وسليمان بن داود، وأبو خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، وقال أبو هريرة، وهلال بن يساف: آمين اسم من أسماء الله.

وكان أصحاب الرأي يرون أن يخفي الإمام آمين، وقال سفيان الثوري: فإذا فرغت من قراءة فاتحة الكتاب، فقل: آمين تخفيها. انتهى كلام ابن المنذر ملخصًا

(1)

.

وقال النووي رحمه الله: مذهب الشافعي رحمه الله استحباب التأمين للإمام، والمأموم، والمنفرد، وأن الإمام والمنفرد يجهران به،

وكذا المأموم على الأصح، وحكى القاضي أبو الطيب، والعبدري الجهر به لجميعهم عن طاوس، وأحمد، وإسحاق، وابن خزيمة، وابن المنذر، وداود، وهو مذهب ابن الزبير.

وقال أبو حنيفة، والثوري: يسرون بالتأمين، وكذا قال مالك في المأموم، وعنه في الإمام روايتان:

إحداهما: يسر به.

(1)

الأوسط جـ 3 ص 131 - 132.

ص: 47

والثانية: لا يأتي به، وكذا المنفرد عنده. انتهى

(1)

.

واحتج الأولون بالأحاديث الصحيحة:

منها: أحاديث أبي هريرة التي أخرجها المصنف في هذه الأبواب الثلاثة.

ووجه الدلالة منها هو ما بينه الشافعي رحمه الله تعالى، فيما نقله عنه الربيع، قال: سئل الشافعي عن الإمام، هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم، ويرفع بها من خلفه أصواتهم، فقلت: وما الحجة؟ قال: ثنا مالك، وذكر حديث أبي هريرة المذكور في الباب، ثم قال: ففي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام فأمنوا"، دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين؛ لأن من خلفه لا يعرفون وقت تأمينه، إلا أن يُسمعَ تأمينه، ثم بينه ابن شهاب، فقال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "آمين".

فقلت للشافعي: فإنا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين، فقال: هذا خلاف ما روى صاحبنا، وصاحبكم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن عندنا وعندهم إلا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك، فينبغي أن يُستَدَلَّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بآمين، وأنه أمر الإمام أن يجهر بها، فكيف، ولم يزل أهل العلم عليه.

وروى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "آمين، يرفع بها

(1)

المجموع جـ 3 ص 373.

ص: 48

صوته"، ويحكى مده إياها، وكان أبو هريرة يقول للإمام: لا تسبقني بآمين، وكان يؤذن له، أنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، كنت أسمع الأئمة؛ ابن الزبير، ومن بعده يقولون: آمين، ومن خلفهم آمين، حتى إن للمسجد لَلَجَّة. انتهى كلام الشافعي رحمه الله تعالى منقولا من "التعليق المغني على الدارقطني"

(1)

. وتقدم تفسير ابن المنذر رحمه الله بنحو مما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى.

ومنها: حديث وائل بن حُجر رضي الله عنه، قال:"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] فقال: آمين، ومد بها صوته". رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن. وفي رواية أبي داود: "رفع بها صوته". قال النووي: وإسناده حسن، كل رجاله ثقات، إلا محمد بن كثير العبدي جرحه ابن معين، ووثقه غيره، وقد روى له البخاري، وناهيك به شرفًا، وتوثيقًا له.

وهكذا رواه سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن العنبس، عن وائل بن حجر.

ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل، فاختلف عليه فيه، فرواه عنه أبو الوليد الطيالسي كذلك، ورواه عنه أبو داود الطيالسي، وقال فيه:

"قال: آمين،. خفض بها صوته". ورواه الأكثرون عن سلمة بإسناده، قالوا:"يرفع بها صوته".

(1)

التعليق المغني على الدارقطني جـ 1 ص 337 - 338.

ص: 49

قال البخاري في تاريخه: أخطأ شعبة، إنما هو "جهر بها". وقال الترمذي: قال البخاري: حديث سفيان أصح في هذا من حديث

شعبة، قال: وأخطأ فيه شعبة، قال الترمذي: وكذلك قال أبو زرعة الرازي. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال الدارقطني رحمه الله في سننه بعد إخراج حديث وائل عن طريق شعبة، ما نصه: كذا قال شعبة: "وأخفى بها صوته"، ويقال: إنه وهم فيه؛ لأن سفيان الثوري، ومحمد بن سلمة بن كهيل، وغيرهما رووه عن سلمة، فقالوا:"ورفع صوته بآمين"، وهو الصواب. انتهى.

وقد طعن صاحب "التنقيح" كما نقله عنه في "التعليق المغني" ج 1 ص 334 - 337. في حديث شعبة هذا بأنه قد روي عنه خلافه، كما أخرجه البيهقي في "سننه" عن أبي الوليد الطيالسي، ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، سمعت أبا عنبس يحدث عن وائل الحضرمي، أنه "صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قال {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال: آمين رافعًا صوته". فهذه الرواية توافق رواية سفيان.

وقال البيهقي في "العرفة": إسناد هذه الرواية صحيح، وكان شعبة يقول: سفيان أحفظ، وقال يحيى القطان، ويحيى بن معين: إذا خالف شعبة سفيان، فالقول قول سفيان، قال: وقد أجمع الحفاظ: البخاري، وغيره على أن شعبة أخطأ، فقد روُي من أوجه:"فجهر بها". انتهى.

(1)

المجموع ج 3 ص 369.

ص: 50

وقال الحافظ رحمه الله في "التلخيص": حديث وائل بن حجر رضي الله عنه: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: "آمين"، ومَدَّ بها صوته". رواه الترمذي، وأبو داود، والدارقطني، وابن حبان من طريق الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، عنه، وفي رواية أبي داود:"ورفع بها صوته". وسنده صحيح، وصححه الدارقطني.

وأعله ابن القطان بحجر بن عنبس، وأنه لا يُعرَف، وأخطأ في ذلك، بل هو ثقة معروف، قيل: له صحبة، ووثقه يحيى بن معين،

وغيره.

وتصحف اسم أبيه على ابن حزم، فقال فيه: حجر بن قيس، وهو مجهول، وهذا غير مقبول منه.

ورواه ابن ماجه من طريق أخرى عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قال:{وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال:"آمين"، فسمعناها منه. ورواه أحمد، والدارقطني من هذا الوجه، بلفظ:"مد بها صوته".

قال الترمذي في "جامعه": رواه شعبة عن سلمة بن كهيل، فأدخل بين حجر، ووائل علقمة بن وائل، فقال:"وخفض بها صوته". قال: وسمعت محمدًا يقول: حديث سفيان أصح، وأخطأ فيه شعبة في مواضع، قال: عن حجر أبي العنبس، وإنما هو أبو السكن، وزاد فيه

ص: 51

علقمة، وليس فيه علقمة، وقال:"وخفض بها صوته"، وإنما هو:"ومد بها صوته". وكذلك قال أبو زرعة.

قال الترمذي: وَرَوَى العلاءُ بن صالح، عن سلمة نحو رواية سفيان.

وقال أبو بكر الأثرم: اضطرب فيه شعبة في إسناده ومتنه، ورواه سفيان، فضبطه، ولم يضطرب في إسناده، ولا في متنه.

وقال الدارقطني: يقال: وهم فيه شعبة، وقد تابع سفيان محمد بن سلمة بن كهيل، عن أبيه.

وقال القطان: اختلف شعبة، وسفيان فيه، فقال شعبة:"خفض"، وقال الثوري:"رفع"، وقال شعبة: حجر أبي العنبس، وقال الثوري: حجر بن العنبس، وصوب البخاري، وأبو زرعة قول الثوري، وما أدري لِمَ لم يصوبا القولين حتى يكون حجر بن عنبس هو أبو العنبس؟.

قال الحافظ: وبها جزم ابن حبان في الثقات أن كنيته كاسم أبيه، ولكن قال البخاري: إن كنيته أبو السكن، ولا مانع أن يكون له كنيتان.

قال: واختلفا أيضًا في شيء آخر، فالثوري يقول: حجر، عن وائل، وشعبة يقول: حجر، عن علقمة بن وائل، عن أبيه.

قال الحافظ: لم يقف ابن القطان على ما رواه أبو مسلم الكجي في سننه: حدثنا: عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن

ص: 52

حجر، عن علقمه بن وائل، عن وائل، قال: وقد سمعه حجر من وائل، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم

فذكر الحديث.

وهكذا رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، عن شعبة، عن سلمة، سمعت حُجْرًا أبا العنبس، سمعت علقمة بن وائل، عن وائل، قال:

وسمعته من وائل.

فبهذا تنتفي وجوه الاضطراب عن هذا الحديث، وما بقي إلا التعارض الواقع بين شعبة، وسفيان فيه في الرفع والخفض، وقد رُجحت رواية سفيان بمتابعة اثنين له، بخلاف شعبة، فلذلك جزم النقاد بأن روايته أصح. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين عن رب العالمين": قال البيهقي: لا أعلم اختلافًا بين أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة إذا اختلفا، فالقول قول سفيان، وقال يحيى بن سعيد: ليس أحد أحب إلي من شعبة، ولا يعدله عندي أحد، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان، وقال شعبة: سفيان أحفظ مني، فهذا ترجيح لرواية سفيان.

وترجيح ثان: وهو متابعة العلاء بن صالح، ومحمد بن سلمة بن كهيل له.

وترجيح ثالث: وهو أن أبا الوليد الطيالسي، وحسبك به، رواه

(1)

"التلخيص الحبير" ج 1 ص 236 - 237.

ص: 53

عن شعبة بوفاق الثوري في متنه. فقد اختلف على شعبة كما ترى. قال البيهقي: فيحتمل أن يكون تنبه لذلك، فعاد إلى الصواب في متنه، وترك ذكر علقمة في إسناده

(1)

.

وترجيح رابع: وهو أن الروايتين لو تقاومتا لكانت رواية الرافع متضمنة لزيادة، وكانت أولى بالقبول.

وترجيح خامس: وهو موافقتها، وتفسيرها لحديث أبي هريرة:"إذا أمن الإمام، فأمنوا، فإن الإمام يقول: آمين، والملائكة تقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له".

وترجيح سادس: وهو ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته بآمين". ولأبي داود بمعناه، وزاد بيانًا، فقال: قال: "آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول". وفي رواية عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: "آمين"، يرفع لها صوته، ويأمر بذلك".

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبين مما تقدم تحقيقه من كلام هؤلاء الأئمة الحفاظ أن أرجح الذاهب هو ما عليه الأكثرون، من مشروعية التأمين جهرًا في الجهرية للإمام، والمأموم، والمنفرد، لصحة الأحاديث بذلك، وأما القائلون بعدم الجهر فليس عندهم دليل، إلا ما تقدم من

(1)

الأولى ما تقدم في كلام الحافظ رحمه الله، وأن الإسنادين صحيحان، وإنما الخطأ في المتن فقط. والله أعلم.

ص: 54

رواية شعبة: "وأخفى بها صوته"، وقد اتفق الحفاظ على أن هذه الرواية غير صحيحة، وإنما الصحيح رواية الثوري، وهي بلفظ:"قال: آمين، يمدّ بها صوته". والله سبحانه، وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

926 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن منصور) بن ثابت الخُزاعي الجَوَّاز المكي، ثقة، مات سنة 252، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة، الإمام الحجة الثبت، مات سنة 198، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.

3 -

(سعيد بن المسيب)، الإمام الفقيه الثقة الثبت، مات سنة 94، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 9/ 9.

ص: 55

والباقيان تقدما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

927 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: آمِينَ، وَإِنَّ الإِمَامَ يَقُولُ: آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدَريّ، أو مسعود البصري، ثقة، مات سنة 248، من [10]، تقدم في 42/ 47.

2 -

(يزيد بن زُريع) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت، مات سنة 182، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 5/ 5.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصري، ثم الصنعاني، ثقة ثبت فاضل، مات سنة 154، من كبار [7]، أخرج له الجماعة، تقدم

في 10/ 10.

ص: 56

والباقون تقدموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث واضح مما مضى. والله سبحانه، وتعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

928 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

رجال هذا الإسناد: ستة

كلهم تقدموا في هذا الباب، إلا:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت من [10]، فتقدم في 1/ 1.

2 -

و (مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الثبت الفقيه، من [7]، فتقدم في 7/ 7.

وشرح الحديث واضح مما سبق. والله تعالى ولي التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 57

‌34 - بَابُ الأمْرِ بِالتَّأْمِينِ خَلْفَ الإِمَامِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على أمر المأموم بأن يقول: "آمين" خلف إمامه عقب قراءة فاتحة الكتاب.

ومحل الاستدلال من الحديث واضح، وقد تقدم الكلام عليه مستوفىً في الباب الماضي.

929 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَالَ الإِمَامُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

كلهم تقدموا في الباب الماضي، إلا اثنين:

1 -

(سُميّ) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ثقة، مات سنة 130 مقتولًا بقُدَيد، من [6]، أخرج له الجماعة،

تقدم في 22/ 540.

2 -

(أبو صالح) ذكوان السمان الزيات المدني، ثقة ثبت، وكان

ص: 58

يجلب الزيت إلى الكوفة، مات سنة101، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 36/ 40.

وشرح الحديث، ومسائله تقدمت في الباب الماضي، فراجعها تستفد. وبالله التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 59

‌35 - فَضْلُ التَّأمِينِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على فضل التأمين.

الظاهر أن المصنف رحمه الله أراد أن التأمين لا يختص بحالة الصلاة فقط، بل ينبغي التأمين لقراءة القارئ مطلقًا، ولهذا أورد فيه

رواية الأعرج، لأنها مطلقة غير مقيدة بحال.

قال ابن المُنَيِّر رحمه الله: وأيُّ فضل أعظم من كونه قولًا يسيرًا، لا كلفة فيه، ثم قد ترتبت عليه المغفرة. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ويؤخذ منه مشروعية التأمين لكل من قرأ الفاتحة، سواء كان داخل الصلاة، أو خارجها، لقوله:"إذا قال أحدكم"، لكن في رواية مسلم من هذا الوجه:"إذا قال أحدكم في صلاته"، فيحمل المطلق على القيد.

نعم في رواية همام، غن أبي هريرة عند أحمد -وساق مسلم إسنادها-:"إذا أمن القارئ، فأمنوا"، فهذا يمكن حمله على الإطلاق،

فيستحب التأمين إذا أمّن القارئ مطلقًا لكل من سمعه، من مصل، أو غيره.

ويمكن أن يقال: المراد بالقارئ الإمام إذا قرأ الفاتحة، فإن الحديث واحد، اختلفت ألفاظه. انتهى

(1)

.

(1)

فتح ج 2 ص 517.

ص: 60

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن الإطلاق هو الأولى، والأحوط؛ عملًا بإطلاق قوله:"إذا أَمّنَ القارئ فأَمِّنُوا"، حديث الباب، فينبغي التأمين لقراءة فاتحة الكتاب مطلقًا، في الصلاة، أو خارجها. والله تعالى أعلم.

930 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

كلهم تقدموا قريبًا، إلا اثنين:

1 -

(أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرحمن المدني، ثقة فقيه، مات سنة 23، وقيل: بعدها، من [5]، أخرج له

الجماعة، تقدم في 7/ 7.

2 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدني، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت عالم، مات لسنة 117، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.

وشرح الحديث ومتعلقاته واضحة مما تقدم، فلا حاجه إلى إطالة

ص: 61

الكتاب بإعادتها. والله تعالى ولي التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 62

‌36 - قَوْلُ الْمَأمُومِ إِذَا عَطَسَ خَلْفَ الإِمَامِ

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على الذكر الذي ينبغي أن يقوله المأموم خلف إمامه وقت العطاس.

فالقول بمعنى القول، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول. والله تعالى أعلم.

931 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رِفَاعَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَمِّ أَبِيهِ، مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَطَسْتُ، فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مُبَارَكًا عَلَيْهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا، وَيَرْضَى، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ، فَقَالَ:"مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِى الصَّلَاةِ؟ "، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ:"مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ؟ "، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ عَفْرَاءَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"كَيْفَ قُلْتَ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا، طَيِّبًا، مُبَارَكًا فِيهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا، وَيَرْضَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

ص: 63

"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدِ ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا؟ ".

رجال هذا الإسناد: أربعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت، مات سنة 240، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.

2 -

(رفاعة بن رافع بن يحيى بن عبد الله بن رفاعة بن رافع) ابن مالك بن العجلان الأنصاري الزرقي، إمام مسجد بني زريق، صدوق من [8].

روي عن عم أبيه معاذ بن رفاعة بن رافع. وعنه بشر بن عمر الزهراني، وسعيد بن عبد الجبار الكرابيسي، وقتيبة، وعبد العزيز بن أبي

ثابت.

ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبي في "الكاشف": ثقة

(1)

أخرج له أبو داود، والترمذي، وصحح حديثه، والنسائي، وله عندهم حديث الباب فقط

(2)

.

3 -

(معاذ بن رفاعة بن رافع) بن مالك بن عجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الأنصاري الزرقي المدني، صدوق من [4]، روى له

(1)

"الكاشف" ج 1 ص 311.

(2)

"تك" جـ 9 ص 210 - 211. "تت" ج 3 ص 283.

ص: 64

البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.

روى عن أبيه، وجابر بن عبد الله، ورجل من بني سلمة، يقال له: سُلَيم، قصةَ معاذ بن جبل في الصلاة، مرسل، ومحمد بن عبد الرحمن ابن عمرو بن الجموح، وخولة بنت قيس. وعنه ابن أخيه رفاعة بن يحيى ابن عبد الله بن رفاعة، وحفيداه: موسى، وعيسى ابنا النعمان بن معاذ، وهشام بن هارون، وغيرهم.

ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الآجري: سألت أبا داود عن معاذ ابن رفاعة؟ فقال: ليس به بأس

(1)

. وحكى أبو الفتح الأزدي، عن عباس الدوري، عن ابن معين أنه قال فيه: ضعيف، قال الأزدي: ولا يحتج بحديثه

(2)

.

4 -

(رفاعة بن رافع) بن مالك بن العجلان، أبو معاذ الأنصاري، صحابي ابن صحابي، من أهل بدر، مات في أول خلافة معاوية رضي الله عنهم، تقدم في 27/ 667.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو (67) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد.

(1)

من هامش " تهذيب الكمال" جـ 28 ص 122.

(2)

"تك" جـ 28 ص 121 - 122 - "تت" جـ 10 ص 190.

ص: 65

ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه، وأن صحابيه ابن صحابي، ومن أهل بدر، له عند المصنف، والبخاري، وأبي داود، والترمذي،

وابن ماجه، ستة أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن معاذ بن رفاعة بن رافع، عن أبيه) رفاعة بن رافع رضي الله عنهما، أنه (قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فعَطَسْتُ) قال الفَيُّومي: عَطَسَ عَطْسًا، من باب ضرب، وفي لغة من باب قتل. انتهى.

وفي "المعجم الوسيط": عَطَسَ الرجلُ يَعْطِسُ عَطسًا، وعُطَاسًا: اندفع الهواء من أنفه بعُنْف لعارض، وسُمِعَ له صوت عَطْسٍ. انتهى

(1)

.

ووقع في الرواية الآتية للمصنف 22/ 1062، من طريق علي بن يحيى الزُّرَقِيّ، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع، قال: كنا يومًا نصلي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة، قال "سمع الله لمن حمده"، قال رجل: ربنا، ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من المتكلم آنفًا؟ "، فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكًا، يبتدرونها، أيُّهُم يكتبها أولُ".

(1)

جـ 2 ص 608.

ص: 66

فقال ابن بشكوال رحمه الله: هذا الرجل هو رفاعة بن رافع راوي الخبر، واستدلّ على ذلك برواية الباب حيث قال: "صليتُ خلف

النبي صلى الله عليه وسلم، فعطستُ، فقلت: الحمد لله

".

ونوزع في قوله هذا، لاختلاف سياق السبب والقصة. وأجيب بأنه لا تعارض بينهما، بل يحمل على أن عُطَاسَهُ وقع عند رفع رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يكني عن نفسه، لقصد إخفاء عمله، أو كُنِيَ عنه لنسيان بعض الرواة لاسمه، وأما ما عدا ذلك من الاختلاف، فلا يتضمن إلا زيادة، لعل الراوي اختصرها.

وأفاد بشر بن عمر الزهراني في روايته عن رفاعة بن يحيى أن تلك الصلاة كانت المغرب. أفاده في الفتح

(1)

.

(فقلت: الحمد لله حمدًا) منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر دلّ عليه قوله: "الحمد لله"(كثيرًا طيبًا) أي خالصًا من الرياء والسمعة (مباركًا فيه) أي كثير الخير (مباركًا عليه) يحتمل أن يكون تأكيدًا للأول، وهو الظاهر، وقيل: الأول بمعنى الزيادة، والثاني بمعنى البقاء، قال الله تعالى:{وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فُصِّلَت: 10]، فهذا يناسب الأرض؛ لأن المقصود به النماء، والزيادة، لا البقاء، لأنه بصدد التغير، وقال تعالى:{وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [الصافات: 113]، فهذا يناسب

(1)

جـ 2 ص 543.

ص: 67

الأنبياء؛ لأن البركة لاقية لهم، ولما كان الحمد يناسبه المعنيان جمعهما

(1)

.

(كما يحب ربنا، ويرضى) أي حمدًا موصوفًا بما ذكر، وبأنه مماثل للحمد الذي يحبه الله سبحانه، ويرضاه، فالجار والمجرور متعلق

بمحذوف، حال من "حمدًا".

قال في "الفتح": وأما قوله: "كما يحب ربنا، ويرضى"، ففيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد. انتهى.

(فلما صلى سول الله صلى الله عليه وسلم انصرف) أي سلم من الصلاة، وأقبل على الناس (فقال:"من التكلم في الصلاة؟ ") "من" اسم استفهام في محل رفع بالابتداء، و"المتكلم" خبره، و"في الصلاة" متعلق به، أي من هو الشخص الذي تكلم بهؤلاء الكلمات (فلم يكلمه أحد) أي لم يُجِبِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أحد من الصحابة الحاضرين تلك الصلاة، خوفًا على المتَكلَم لظنهم أنه أتى بما لا ينبغي، وأن استفهام النبي صلى الله عليه وسلم للإنكار عليه (ثم قالها الثانية) أي قال الجملة المذكورة المرة الثانية ثم بَيَّنَ الضمير بقوله:(مَنِ التكلمُ في الصلاة) فهذه الجملة بدل من الضمير المنصوب في "قالها"، وهو مما عاد الضمير فيه على متأخر لفظا ورتبة، وهي ست مسائل جمعتها بقولي:

(1)

ذكره في الفتح، وقال: كذا قرره بعض الشراح، ولا يخفى ما فيه. اهـ. قلت: بل هو تقرير مناسب فيما يظهر لي، وليس فيه خفاء. والله تعالى أعلم.

ص: 68

وَعَوْدُ مُضْمَرٍ عَلَى مَا أُخِّرَا

لَفْظًا وَرتبَةً أَتَى مُغتَفَراَ

فِي مُضْمَرِ الشَّأنِ وَنِعْمَ رَجُلَا

وَرُبَّهُ فَتًى كَذَا مَا أُبْدِلَا

مَا بَعْدَهُ عَنْهُ وَمَا قَدْ فُسِّرَا

بِخَبَرٍ وَفِي التَّنَازُعِ جَرَى

فَتلْكَ سِتٌّ وَسِوَاهَا أَوجَبُوا

تَقَدُّمَ الْمَرجِعِ نِعمَ الْمَطْلَبُ

و"الثانية" منصوب على الظرفية، أي المرةَ الثانيةَ، أو مفعول مطلق على النيابة، أي قالها القولةَ الثانية.

زاد الترمذي في روايته عن قتيبة شيخ المصنف: "ثم قالها الثالثة مَنِ المتكَلمُ في الصلاة؟ ".

(فقال رفاعة بن رافع بن عَفْرَاء) هكذا وقع عند المصنف، والترمذي في نسبه هنا:"ابن عفراء". فلعل اسم أم رافع، أو جدته عفراء، كما يفيده كلام الحافظ رحمه الله في "الإصابة" جـ 3 ص 281.

(أنا يا رسول الله) أي أنا المتكلم بهؤلاء الكليات.

قال في الفتح: وقد استشكل تأخير رفاعة، إجابة النبي صلى الله عليه وسلم حين كرر سؤاله ثلاثًا، مع أن إجابته واجبة عليه، بل وعلى كل من سمع رفاعة، فإنه لم يسأل المتكلم وحده.

وأجيب بأنه لا لم يعين واحدًا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم، ولا من واحد بعينه، فكأنهم انتظروا بعضَهم ليجيب، وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء، ظنًا منهم أنه أخطأ فيما فعل،

ص: 69

ورَجَوْا أن يقع العفو عنه، وكأنه صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى سكوتهم فَهِمَ ذلك، فَعَرَّفَهم أنه لم يقل بأسًا.

ويدل على ذلك أن في رواية سعيد بن عبد الجبار، عن رفاعة بن يحيى عند ابن قانع، قال رفاعة:"فَوَدِدْتُ أني خرجت من مالي، وأني لم أشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة".

ولأبي داود من حديث عامر بن ربيعة، قال:"من القائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأسًا"، فقال: أنا قلتها، لم أرد بها إلا خيرًا.

وللطبراني من حديث أبي أيوب: "فسكت الرجل، ورأى أنه قد هجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء كرهه، فقال: "من هو؟ فإنه لم يقل إلا صوابًا"، فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قلتها، أرجو بها الخير.

ويحتمل أيضًا أن يكون المصلون لم يعرفوه بعينه، إما لإقبالهم على صلاتهم، وإما لكونه في آخر الصفوف، فلا يرد السؤال في حقهم، والعذر عنه هو ما قدمناه.

والحكمة في سؤاله صلى الله عليه وسلم عمن قال أن يتعلم السامعون كلامه، فيقولون مثله. انتهى ما في الفتح

(1)

.

(قال) صلى الله عليه وسلم ("كيف قلت؟ ") استفهمه استحسانًا لقوله، وتعجبًا مما ترتب عليها من الفضل العظيم (قال) رفاعة رضي الله عنه (قلت:

(1)

جـ 2 ص 544.

ص: 70

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا، مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا، ويرضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها) أي سارعوا إليها، وسابق بعضهم بعضًا. يقال: بدَرتُ إلى الشيء أبْدُر بُدُورًا من باب دخل: أسرعت، وكذلك بادَرتُ إليه، وتبادَر القومُ: أسرعوا، وابتدروا السلاح: تبادرا إلى أخذه، وبادرَ الشيءَ مُبَادرةً، وبِدَارًا، وابتدَرُهُ، وبَدَرَ غيره إليه يَبْدُرُهُ: عاجله. أفاده في اللسان

(1)

.

(بضعة وثلاثون ملكًا) قال في الفتح: فيه ردّ على من زعم، كالجوهري أن البضع يختص بما دون العشرين. انتهى.

وعبارة ابن منظور رحمه الله: البَضْعُ، والبِضْعُ -بالفتح، والكسر-: ما بين الثلاث إلى العشر، وبالهاء من الثلاثة إلى العشرة، يضاف إلى ما تضاف إليه الآحاد، لأنه قطعة من العدد، كقوله تعالى:{فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4]، وتبنى مع العشرة، كما تبنى سائر الآحاد، وذلك من ثلاثة إلى تسعة، فيقال: بضعةَ عشر رجلًا، وبضع عشرة جارية. قال ابن سيدَه: ولم نسمع بضعة عشر، ولا بضع عشرة، ولا يمتنع ذلك. وقيل: البضع من الثلاث إلى التسع. وقيل: من أربع إلى تسع. وفي التنزيل: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]. قال الفرّاء: البضع ما بين الثلاثة إلى ما دون العشرة. وقال

(1)

لسان العرب جـ 1 ص 228.

ص: 71

شَمِرٌ: البضع لايكون أقلّ من ثلاثة، ولا أكثر من عشرة. وقال أبو زيد: أقمت عنده بضع سنين -أي بالكسر-. وقال بعضهم: بَضْع

سنين- أي بالفتح. وقال أبو عبيدة: البضع ما لم يبلغ العِقْدَ، ولا نصفه، يريد ما بين الواحد إلى أربعة. وقال: البضع سبعة، وإذا

جاوزت لفظ العشر ذهب البضع، ولا تقول: بضع وعشرون رجلًا، وله بضع وعشرون امرأة. قال ابن بَرِّيٍّ: وحكي عن الفراء في قوله: {بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] أن البضع لا يذكر إلا العشر والعشرين إلى التسعين، ولا يقال فيما بعد ذلك. يعني أنه يقال: مائة ونَيِّفٌ، وأنشد أبو تمَّام في باب الهجاء من الحَمَاسة لبعض العرب [من البسيط]:

أَقُولُ حِينَ أَرَى كَعْبًا وَلِحْيَتَهُ

لَا بَارَكَ اللهُ فِي بِضْعٍ وَسِتِّيِنِ

مِنَ السِّنِينَ تَمَلاَّها بِلا حَسَبٍ

وَلَا حَيَاءٍ وَلَا قَدْرٍ وَلا دِينِ

وقد جاء في الحديث: "بضعًا وثلاثين ملكًا"، و"صلاة الجماعة تفضل صلاة الواحد ببضع وعشرين درجة" انتهى كلام ابن منظور

رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّنَ بما ذكر أن الراجح من أقوال أهل اللغة أن البضع -بالكسر، والفتح- يطلق على ما بين الثلاث والتسع،

(1)

لسان العرب جـ 1 ص 298.

ص: 72

ويستعمل بدون عشرة، كما في قوله تعالى:{فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4]، وقوله:{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]،

ومع العشرة، والعشرين، والثلاثين، إلى التسعين، كما في الحديثين المذكورين. والله تعالى أعلم.

قال فى الفتح: والظاهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة، ويؤيده ما في الصحيّحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "إن لله ملائكة يطوفون في الطُّرُق، يلتمسون أهل الذكر

" الحديث.

واستدل به على أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة. انتهى

(1)

.

(أيهم يصعد بها) قال الفيومي رحمه الله: صَعدَ في السلمِ والدرجة يَصْعَد، من باب تَعِبَ، صُعُودًا، وصَعِدت السطَحَ، وإليه، وصَعَّدت في الجبل -بالتثقيل-: إذا علوته، وصَعِدت في الجبل، من باب تَعِبَ لغة قليلة. انتهى

(2)

.

والمعنى هنا: يتسابق هؤلاء الملائكة أيهم يعرُج بتلك الكلمات إلى الله عز وجل.

وفي الرواية الَاتية 22/ 1062، "أيهم يكتبها أوّلًا"، وعند البخاري:"أيهم يكتبها أولُ"، وللطبراني من حديث أبي أيوب: "أيهم

(1)

فتح جـ 2 ص 544.

(2)

المصباح جـ 1 ص 340.

ص: 73

يرفعها".

و"أوَّلُ" روي بالضم على البناء؛ لأنه من الظروف التي تقطع عن الإضافة، ويُنوَى معناها، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْرًا انْ عَدِمْتَ مَا

لَهُ أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِمَا

قَبْلُ كغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ أَوَّلُ

وَدُونُ وَالجِهَاتُ أَيْضًا وَعَلُ

وروي بالنصب على الحال، كما أفاده السهيلي رحمه الله تعالى. انتهى.

قال الجوهري رحمه الله: أصل "أول" أوْ أل، على وزن أفعل، مهموز الوسط، فقلبت الهمزة واوًا، وأدغمت الواو في الواو، وقيل: أصله "وَوَّلٌ" على فَوْعَلٍ، فقلبت الواو الأولى همزة، وإذا جعلته صفة لم تصرفَه، تقول: لقيته عامًا أوّلَ، وإذا لم تجعله صفة صرفته، نحو رأيته عاما أوّلًا

(1)

.

وأما "أيهم" فروي بالرفع، وهو مبتدأ، وخبره "يصعد بها"، أفاده الطيبي وغيره تبعًا لأبي البقاء في إعراب قوله تعالى:{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]، قال: وهو في موضع نصب، والعامل فيه ما دل عليه:{يُلْقُونَ} [آل عمران: 44]، و"أيُّ" استفهامية،

(1)

راجع عمدة القاري جـ 6 ص 76.

ص: 74

والتقدير مقول فيهم: أيهم يصعد بها. ويجوز في أيهم النصب بأن يقدر المحذوف، "فينظرون أيَّهم".

وعند سيبويه: أيّ موصولة، والتقدير: يبتدرون الذي يصعد بها أولى، وأنكر جماعة من البصريين ذلك.

ولا تعارض بين روايتي: "يصعد بها"، و"يكتبها"؛ لأنه يحمل على أنهم يكتبونها، ثم يصعدون بها إلى الله عز وجل. والله تعالى أعلم،

وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

السألة الأولى: في درجته:

حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنهما هذا صحيح.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح أن حديث رفاعة هذا هو الحديث الذي يأتي للمصنف رحمه الله 22/ 1062، من طريق علي بن يحيى بن خلاّد، وهو حديث أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه، كما سيأتي قريبًا، فقد أشار إلى اتحادهما الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله في "تحفة الأشراف" جـ 3 ص 170 - حيث قال بعد إيراده حديث الباب إثر الحديث المذكور ما نصه: وهو في معنى الذي قبله. وقد تقدم ما قاله الحافظ في تأييده اتحاد القصتين. والله تعالى أعلم.

ص: 75

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 36/ 931، وفي الكبرى 30/ 1003، عن قتيبة، عن رفاعة بن يحيى بن عبد الله بن رفاعة بن رافع، عن عم أبيه معاذ بن رفاعة أبن رافع، عن أبيه.

وأخرجه هنا 22/ 1062، والكبرى 21/ 649، عن محمد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن نعيم بن عبد الله، عن علي بن يحيى الزرقي، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه، قال: كنا يومًا، نصلي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة، قال:"سمع الله لمن حمده"، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من المتكلم آنفًا؟ "، فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكًا، يبتدرونها، أيهم يكتبها أوّلًا". والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أما رواية معاذ بن رفاعة فأخرجها أبو داود عن قتيبة بن سعيد -وسعيد بن عبد الجبار- كلاهما عن رفاعة بن يحيى به. والترمذي عن قتيبة، عن رفاعة، به.

وأما رواية يحيى بن خلاد، فأخرجها البخاري عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، به. وأبو داود عن القعنبي، به.

ص: 76

ومالك في الموطأ رقم 148. وأحمد جـ 4 ص 340. وابن خزيمة رقم 614. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية الذكر المذكور للمأموم إذا عطس خلف الإمام، وهذا ليس خاصًا بالمأموم، بل هو لكل مصل، وإنما ترجم عليه لكونه المذكور في الحديث، وسيأتي في المسألة التالية بيان اختلاف العلماء فيه، إن شاء الله تعالى.

ومنها: ما قاله في "الفتح": استدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور، إذا كانت غير مخالف للمأثور. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الاستنباط نظر، إذ الصلاة عبادة قولية وفعلية مبنية على التعليم النبوي، لا يجوز إحداث شيء سن القول والفعل فيها، بل يقتصر فيها على ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم، وأما هذا الذكر، فقد ثبتت مشروعيته بالنص، حيث أقر صلى الله عليه وسلم قائله، وأخبره بفضله، فلا يكون دليلًا لما ادعاه.

ولا يعترض هذا بالدعاء عقب التشهد، لأنه لا يتعين له شيء غير التعوذ من الأربع التي ورد الأمر بالتعوذ منها، لأن ذلك جاء التخيير فيه، بقوله صلى الله عليه وسلم: عقب تعليمه التشهد: "ثم ليتخير بعدُ من الدعاء ما شاء"، وفي لفظ: "وليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فليدع الله عز

ص: 77

وجل". وسيأتي تمام البحث فيه في محله، إن شاء الله تعالى.

ومنها: جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على غيره.

ومنها: أن العاطس في الصلاة يحمد الله تعالى بغير كراهة.

ومنها: أن العاطس في الصلاة لا يستحق التشميت، وإن حمد الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما شمته، ولا أحد من أصحابه، فدل على أن التشميت من كلام الناس الذي يبطل الصلاة.

ومنها: مشروعية تطويل الاعتدال بالذكر، خلافًا لمن قال: إنه لا يشرع ذلك، إذ هو ركن قصير، وسيأتي الكلام عليه في محله، إن شاء الله تعالى.

ومنها: أن ابن بطال استنبط منه جواز رفع الصوت بالتبليغ خلف الإمام. وتعقبه الزين ابن المنير بأن سماعه صلى الله عليه وسلم لصوت الرجل لا يستلزم رفعه لصوته، كرفع صوت المبلغ.

قال الحافظ: وفي هذا التعقب نظر؛ لأن غرض ابن بطال إثبات جواز الرفع في الجملة، وقد سبقه إليه ابن عبد البر، واستدل له بإجماعهم على أن الكلام الأجنبي يبطل عمده الصلاة، ولو كان سرًا، قال: وكذلك الكلام المشروع في الصلاة لا يبطلها، ولو كان جهرًا. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" جـ 2 ص 544 - 545.

ص: 78

ومنها: بيان فضيلة هذا الذكر.

ومنها: أن بعض الأعمال يكتبها غير الحفظة. والله تعالى أعلم.

السألة الخامسة: في بيان اختلاف أهل العلم في الحمد للعاطس:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في العاطس يحمد الله، وهو في الصلاة، فقالت طائفة: يحمد الله. كذلك قال النخعي، ومكحول، وأحمد بن حنبل، وروينا عن ابن عمر أنه قال: العاطس في الصلاة يجهر بالحمد، فإن عطس رجل، فشمته، وهو ذاكر أنه في الصلاة، فسدت على المصلي صلاته.

قال: وعلى هذا مذهب الشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في "جامعه" بعد إخراج حديث رفاعة المذكور في هذا الباب، ما نصه: وكأن هذا الحديث عند بعض أهل العلم أنه في التطوع، لأن غير واحد من التابعين قالوا: إذا عطس الرجل في الصلاة المكتوبة إنما يحمد الله في نفسه، ولم يوسعوا بأكثر من ذلك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم من رواية بشر بن عمر الزهراني،

(1)

"الأوسط" جـ 3 ص 272.

(2)

"جامع الترمذي" جـ 1 ص 251.

ص: 79

عن رفاعة بن يحيى أن تلك الصلاة التي عطس فيها الرجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله تعالى كانت المغربَ، فيرد قول من حمل الحديث على التطوع.

وقال القاري في "المرقاة": قال ابن الملك: يدل الحديث على جواز الحمد للعاطس في الصلاة. يعني على الصحيح المعتمد، بخلاف رواية البطلان، فإنها شاذة، لكن الأولى أن يحمد في نفسه، أو يسكت خروجًا من الخلاف، على ما في شرح "المنية". انتهى.

فتعقبه العلامة المباركفوري رحمه الله، قائلًا: لو سكت القاري عن قوله: أو يسكت- لكان خيرًا له، فإن حديث الباب يدل على جواز الحمد للعاطس بلا مرية، انتهى

(1)

.

قال الجامع: وأنا أقول: لو سكت القاري عن قوله: لكن الأولى أن يحمد في نفسه إلى آخر كلامه لكان عاملًا بما وجب عليه؛ لأن عدم معارضة النص بقول فلان وفلان من واجب كل مؤمن ومؤمنة، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] الآية.

وحديث الباب نص في الجهر بالحمد المذكور، والخروجُ من الخلاف المعارضِ للنص مرفوضٌ ومهجور، ولقد أحسن من قال، وأجاد في

(1)

تحفة الأحوذي جـ 2 ص 439.

ص: 80

المقال [من البسيط]:

وَلَيْسَ كُلُّ خِلافٍ جَاءَ مُعْتَبَرَا

إلاَّ خِلافٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ

ومن قال [من الوافر]:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رَؤُسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

والحاصل أن القول الصحيح من أقوال أهل العلم أن العاطس يحمد الله تعالى، لصحة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن لا يشرع تشميته، لعدم ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

932 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ أَسْفَلَ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: "آمِينَ"، فَسَمِعْتُهُ، وَأَنَا خَلْفَهُ، قَالَ: فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً، يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ،

ص: 81

فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ:"مَنْ صَاحِبُ الْكَلِمَةِ فِي الصَّلَاةِ؟ ". فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَرَدْتُ بِهَا بَأْسًا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَقَدِ ابْتَدَرَهَا اثْنَا عَشَرَ مَلَكًا، فَمَا نَهْنَهَهَا شَيْءٌ دُونَ الْعَرْشِ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عبد الحميد بن محمد) الْمُسْتَام -بضم الميم، وسكون المهملة، بعدها مثناة- بن حكيم بن عمرو الإمام، أبو عمر الحَرَّاني،

إمام مسجد حرّان، مولى حذيفة بن اليمان، ثقة من [11]، أخرج له النسائي.

روى عن عبد الجبار بن محمد الخطابي، وعثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، ومخلد بن يزيد، والمغيرة بن سقلاب، وأبي جعفر النفيلي.

وعنه النسائى، وأبو عروبة، وأبو علي محمد بن سعيد الرقي الحافظ، وإبراهيم بن محمد بن متويه، وأبو عوانة الإسفراييني، وابن

صاعدة، وعدة. قال النسائي. ثقة. وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه بعض أصحابنا، ولم يُقضَ لي السماع منه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في جمادى الآخرة سنة 266. انفرد به المصنف رحمه الله تعالى

(1)

.

(1)

"تك" جـ 16 ص 457 - 458. "تت" جـ 6 ص 121.

ص: 82

2 -

(مخلد) بن يزيد القرشي الحَرَّاني، صدوق له أوهام، مات سنة 193، من كبار [9]، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود

والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 141/ 222.

3 -

(يونس بن أبي إِسحاق) السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوق يهم قليلًا، مات سنة 152 من [5]، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم والأربعة، تقدم في 16/ 652.

4 -

(أبو إِسحاق) عمرو بن عبد الله الهمداني السَّبيعي الكوفي، ثقة عابد اختلط بآخره، مات سنة 129 وقيل: قبل ذلك، من

[3]

، أخرج له الجماعة، تقدم في 38/ 43.

5 -

(عبد الجبار بن وائل) بن حُجْر، ثقة، لكنه أرسل عن أبيه، مات سنة 112، من [3]، أخرج له مسلم والأربعة، تقدم في 4/ 879.

6 -

(وائل بن حجر) بن سعد بن مسروق الحضرمي، الصحابي الشهير، كان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، ومات في ولاية

معاوية رضي الله عنهما، تقدم في 4/ 879. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم موثقون، وأنهم كوفيون، إلا شيخه، وشيخ شيخه، فحرانيان، نسبة إلى حرّان -

ص: 83

بالفتح والتشديد- مدينة بالجزيرة، قال السمعاني: هي من ديار ربيعة

(1)

، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه الإخبار، والتحديث،

والعنعنة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن وائل بن حجر) رضي الله عنه، أنه (قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كبر رفع يديه أسفل من أذنيه) وتقدم من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق 4/ 879:"ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه"، ولعل الاختلاف لاختلاف الأوقات. والله تعالى أعلم (فلما قرأ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال:"آمين"، فسمعته) فيه استحباب الجهر بـ "آمين"، وقد تقدم البحث عنه مستوفى برقم 33/ 925، (وأنا خلفه) جملة اسمية في محل نصب على الحال من الفاعل في "فسمعته" (قال) وائل (فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا) لم أعرفه (يقول: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال:"من صاحب هذه الكلمة؟ ") إطلاق "الكلمة" على الجملة سائغ في اللغة، كما قال ابن مالك في "خلاصته":

. . . . . . . . .

وَكِلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمّ

وذلك كما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]

(1)

لب اللباب جـ 1 ص 240.

ص: 84

إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99 - 100].

(في الصلاة) متعلق بحال مقدر من "الكلمة"، أي حال كونها واقعة في الصلاة (فقال الرجل) الذي تكلم بها، (أنا يا رسول الله)

أي أنا المتكلم بها (وما أردت بها بأسًا) أي ما قصدت بها سوءًا (قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد ابتدرها اثنا عشر ملكًا) أي تسابقوا في كتابتها، ورفعها إلى الله تعالى (فما نهنهها شيء دون العرش) أي ما منعها، وكفها عن الوصول إليه.

قال ابن منظور رحمه الله: النَّهْنَهَةُ: الكَفُّ. تقول: نَهْنَهْتُ فلانًا: إذا زجرته، فَتَنَهْنَهَ: أي كَفَفْتُه، فكفّ، قال الشاعر [من مجزوّ

الكامل المُرَفَّل]:

نَهْنِهْ دُمُوعَكَ إِنَّ مَنْ

يَغتَرُّ بِالْحِدثَانِ عَاجِزْ

كأنّ أصله من النَّهْيِ. وفي حديث وائل: "لقد ابتدرها اثنا عشر ملكًا، فما نَهْنَهَهَا شيءٌ دون العرش". أي ما منعها، وكفها عن الوصول إليه. ونَهْنَهَهُ عن الشيء: زجره. قال أبو جُنْدَب الهُذَلي [من الطويل]:

فَنَهْنَهْتُ أُولَى الْقَوْمِ عنهُم بِضَربَةِ

تَنَفَّس عَنْهَا كلُّ حَيْشَانَ مُحْجَرِ

(1)

وقد تَنَهْنَهَ، ونَهْنَهْتُ السبُعَ: إذا صِحْتَ به لِتكفَّهُ، والأصل في

(1)

قال ابن سيده: ورجل حَشٍ، وحَشْيَانُ من الربو. اهـ. والحَشَى: الرَّبْوُ الذي يَعرِض للمسرِع في مشيته، من ارتفاع النفَس، وتواتره. اهـ لسان باختصار.

ص: 85

"نَهْنَهَ": نَهْهَهَ بثلاث هاءات، وإنما أبدلوا من الهاء الوُسطى نونا للفرق بين فَعْلَلَ، وفَعَّلَ، وزادوا النون من بين الحروف؛ لأن في الكلمة نونًا. انتهى كلام ابن منظور رحمه الله تعالى

(1)

.

والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث وائل بن حُجر هذا صحيح.

فإِن قيل: إن فيه انقطاعًا؛ لأن عبد الجبار لم يسمع من أبيه، فكيف يصح؟

أجيب: بأن له شاهدًا من حديث أنس رضي الله تعالى عنه تقدم في 19/ 901، ولفظه: قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي بنا، إذ جاء رجل، فدخل المسجد، وقد حَفَزَه النفَسُ، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:"أيكم الذي تكلم بكلمات"، فَأرَمَّ القومُ، قال:"إنه لم يقل بأسًا"، قال: أنا يا رسول الله، جئت، وقد حفزني النفس، فقلتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيت اثني عشر ملكًا، يبتدرونها، أيهم يرفعها". وأما ما قاله الشيخ الألباني من أنه صحيح بما قبله، دون قوله: "فما

(1)

لسان العرب جـ 6 ص 4564.

ص: 86

نهنهها. . ."، وهو تمام الحديث المتقدم انتهى

(1)

- ففيه نظر، إذ هو مخالف لما قبله مخالفة ظاهرة، وليس تمامَهُ، فهناك الملائكة بضعة وثلاثون، وهنا اثنا عشر، وهنا زيادة قوله:"فما نهنهها شيء دون العرش". وفي محاولة الجمع بين الحديثين تكلف بارد، وتعسف ظاهر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 36/ 932، وفي الكبرى 36/ 1004، عن عبد الحميد بن محمد، عن مخلد بن يزيد، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق مختصرًا على الذكر فقط. وعن محمد بن

الصباح، وعمار بن خالد الواسطي، كلاهما عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، به مختصرًا على التأمين فقط.

وأخرجه أحمد جـ 4 ص 317، عن يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به، وليس فيه ذكر الملائكة، ولفظه.

قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: الحمد لله كثيرًا طيبًا

(1)

انظر صحيح النسائي جـ 1 ص 203.

ص: 87

مباركًا فيه، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من القائل؟ "، قال الرجل: أنا يا رسول الله، وما أردت إلا الخير، فقال:"لقد فتحت لها أبواب السماء، فلم ينهها دون العرش". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 88

‌37 - جَامِعُ مَا جَاءَ فِي الْقرْآن

أي هذا باب جامعٌ لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالقرآن، من كيفية نزوله، ومن تسهيل الله تعالى على الأمة حيث أنزله على سبعة أحرف، حتى لا تقع في حرج شديد، لو أنزله على حرف واحد، ومن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف فيه، وعن التساهل عن مراجعته حتى ينساه الشخص، وفي حثه على تعاهده لئلا يتفلت عنه. وغير ذلك.

933 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟، قَالَ:"فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صُورَةِ الْفَتَى، فَيَنْبِذُهُ إِلَيَّ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور، ثقة ثبت فقيه، من [10] مات سنة 238، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.

2 -

(سفيان) بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي مولاهم، أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقة ثبت فقيه حجة [8]، مات سنة 198، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.

ص: 89

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير بن العوَّام الأسدي، أبو المنذر المدني، ثقة فقيه، ربما دلس [5] مات سنة 145، أخرج له الجماعة، تقدم في 49/ 61.

4 -

(عروة) بن الزبير العوّام الأسدي، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه [3]، مات سنة 94، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 44.

5 -

(عائشة) بنت أبي بكر الصديق، أم المؤمنين رضي الله عنهما، تقدمت في 5/ 5.

لطائف هذا الإسناد

منها. أنه من خماسيات المصنف

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

ومنها: أن شيخه مروزي، ثم نيسابوري، وسفيان كوفي، ثم مكي، والباقون مدنيون.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه، ورواية الراوي عن خالته.

ومنها: أن فيه أحد الفقهاء السبعة، وهو عروة، وهم المجموعون في قول بعضهم [من الطويل]:

ألَا إِنَّ مَن لَا يَقْتَدِي بأئِمَّةٍ

فَقِسْمَتُهُ ضِيزَى عَنِ الْحَق خَارِجَهْ

فَخُذْهُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمُ

سَعِيدٌ أبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

ص: 90

ومنها: أنه فيه عائشةَ رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت -2210 - أحاديث.

ومنها: أن فيه من صيغ الأداء: الإخبارَ، والإنباءَ، والعنعنة، وكلها من صيغ الاتصال على الراجح في "عن" من غير المدلس.

قال القاضي عياض رحمه الله: لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع فيه: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعته يقول: وقال لنا فلان، وذكر فلان، وإليه مال الطحاوي، وصحح هذا المذهب ابن الحاجب، ونقل هو وغيره عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، وهو مذهب جماعة من المحدثين، منهم الزهري، ومالك، وسفيان بن عيينة، ويحيى القطان، وقيل: إنه قول معظم الحجازيين، والكوفيين.

وقال آخرون بالمنع في القراءة على الشيخ إلا مقيدًا، مثل حدثنا فلان قراءةً عليه، وأخبرنا قراءةً عليه، وهو مذهب ابن المبارك، وأحمد ابن حنبل، ويحيى بن يحيى التميمي، والمشهور عن النسائي، وصححه الآمدي، والغزالي، وهو مذهب المتكلمين.

وقال آخرون بالمنع في حدثنا، والجواز في أخبرنا، وهو مذهب الشافعي، وأصحابه، ومسلم بن الحجاج، وجمهور أهل المشرق، ونقل عن أكثر المحدثين، منهم ابن جريج، والأوزاعي، والنسائي، وابن وهب، وقيل: إنه أول من أحدث هذا الفرق بمصر، وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث، والأحسن أن يقال فيه: إنه اصطلاح منهم

ص: 91

أرادوا التمييز بين النوعين، وخصصوا قراءة الشيخ بحدثنا لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة.

واختلف في المعنعن فقال بعضهم: هو مرسل، والصحيح الذي عليه الجماهير أنه متصل إذا أمكن لقاء الراوي المروي عنه.

قال النووي: ادعى مسلم إجماع العلماء على أن المعنعن، وهو الذي فيه فلان عن فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضًا -يعني مع براءتهم من التدليس-، ونقل -أي مسلم- عن بعض أهل عصره أنه قال: لا يحمل على الاتصال حتى يثبتا أنهما التقيا في عموهما مرة فأكثر، ولا يكفي إمكان تلاقيهما، وقال: هذا قول ساقط، واحتج عليه بأن المعنعن محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال، وكذا إذا أمكن التلاقي.

قال النووي: والذي رده هو الختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن، البخاري وغيره، وقد زاد جماعة عليه، فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكًا بينًا، وأبو المظفر السمعاني طولَ الصحبة بينهما. انتهى

(1)

.

(قال الجامع عفا الله عنه): عندي أن مذهب مسلم أقوى، لقوة أدلِته، كما بينها في مقدمة صحيحه. والله تعالى أعلم.

(1)

عمدة القاري شرح صحيح البخاري جـ 1 ص 39.

ص: 92

شرح الحديث

(عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، أنها (قالت: سأل الحارث بن هشام) بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، أخو أبي جهل شقيقه، وابن عم خالد بن الوليد، شهد بدرًا كافرًا، فانهزم، وأسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين مائة من الإبل، قتل باليرموك سنة -15 - ، وكان شريفًا في قومه، وله اثنان وثلاثون ولدًا، منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أحد الفقهاء السبعة على قول، وليس في الصحابة الحارث بن هشام إلا هذا، وإلا الحارث بن هشام الجُهَنِيّ، روى عنه المصريون. ذكره ابن عبد البر

(1)

.

قال الحافظ رحمه الله: قوله: (سأل) هكذا رواه أكثر الرواة عن هشام بن عروة.

فيحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك، وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف، فأخرجوه في مسند عائشة.

ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعدُ، فيكون من مرسل الصحابة، وهو محكوم بوصله عند الجمهور، وقد جاء ما يؤيد الثاني، ففي "مسند أحمد"، و"معجم البغوي"، وغيرهما، من طريق عامر بن

(1)

عمدة القاري جـ 1 ص 49.

ص: 93

صالح الزبيري، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن الحارث بن هشام، قال: سألت

وعامر فيه ضعف، لكن وجدت له متابعًا عند ابن منده، والمشهور الأول. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

(رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالنصب مفعولًا به لـ"سأل"، (كيف يأتيك الوحي) مقول لقول مقدر، أي قائلًا:"كيف يأتيك الوحي". وفي رواية البخاري. "فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي".

ثم إنه يحتمل أن يكون المسؤول عنه صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون صفة حامله، أو ما هو أعم من ذلك، وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز، لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله. قاله في الفتح.

وقال السندي رحمه الله: ظاهره أن السؤال عن كيفية الوحي نفسه، لا عن كيفية الملك الحامل له، ويدل عليه أول الجواب، لكن آخر الجواب يميل إلى أن المقصود بيان كيفية الملك الحامل، فيقال: يلزم من كون الملك في صورة الإنسان كون الوحي في صوت مفهومٍ متبينٍ أولَ الوَهْلَة، فبالنظر إلى هذا اللازم صار بيانًا لكيفية الوحي، فلذلك قوبل بصلصلة الجرس، ويحتمل أن يكون السؤال عن كيفية الحامل، أي كيف يأتيك حامل الوحي. انتهى

(2)

.

(1)

فتح جـ 1 ص 28.

(2)

شرح السندي جـ 2 ص 146.

ص: 94

و "كيف" اسم لدخول الجار عليه بلا تأويل، في قولهم: على كيف تبيع الأحمرين، وتستعمل شرطية، نحو: كيف تصنعْ أصنعْ،

واستفهامية، نحو كيف زيدٌ، ولغير ذلك، وهي هنا للاستفهام.

و"الوحي": الإشارة، والكتابة، والرسالة، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، يقال: وَحَيْتُ إليه الكلام، وأوحيت، وَوَحَى

وَحْيًا، وأوحَى أيضًا، أي كتب، قال العَجَّاجَ [من الرجز]:

حَتَّى نَحَاهُمْ جَدُّنَا وَالنَّاحِي

لِقَدَرٍ كَانَ وَحَاه الْوَاحِي

والوَحْيُ المكتوبُ، والكتاب أيضًا، وعلى ذلك جمعوه، فقالوا: وُحِيٌّ، مثل حَلْيٍ، وحُلِيٍّ.

قال لَبِيد [من الكامل]:

فَمَدَافعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا

خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيَّ سِلَامُهَا

أراد ما يُكتَب في الحجارة، ويُنقَش عليها.

وأوحىَ إليه: بعثه، وأوحى إليه: ألهمه، وفي التنزيل {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، وفيه {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي إليها، فمعنى هذا أمَرَها، ووَحَى في هذا المعنى؛ قال العَجّاج [من الرجز]:

وَحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ

وَشَدَّهَا بِالرَّاسيَاتِ الثُّبَّتِ

ووَحَى إليه، وأوحى: كلَّمه بكلام يخفيه من غيره، ووحَى إليه، وأوحَى: أومأ، وفي التنزيل العزيز: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً

ص: 95

وَعَشِيًّا} [مريم: 11]. وقال أبو الهَيْثَم: وأما اللغة الفاشية في القرآن فبالألف، وأما في غير القرآن فوحيت إلى فلان مشهورة. انتهى ملخصًا من لسان العرب

(1)

.

هذا من حيث اللعْة، وأما شرعًا، فهو الإعلام بالشرع، وقد يطلق الوحي، ويراد به اسم المفعول منه، أي الْمُوحَى، وهو كلام الله المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وله أقسام، وصور، فأما أقسامه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فعلى ثلاثة أضرب:

(أحدها): سماع كلام الله تعالى، كسماع موسى عليه الصلاة والسلام.

(والثاني): وحي رسالة بواسطة الملك.

(والثالث): وحي تَلَقٍّ بالقلب، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إن روح القدس نفث في رُوعي. . ."، أي في نفسي.

وأما الوحي إلى غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهو الإلهام، كالوحي إلى النحل. وأما صوره فسبعة، على ما ذكره السهيلي رحمه الله:

(الأولى): المنام، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها المشهور. (الثانية): أن يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس، كما في هذا

(1)

لسان العرب جـ 6 ص 4787 - 4788.

(2)

فتح الباري جـ 1 ص 15.

ص: 96

الحديث، (الثالثة): أن ينفث في رُوعه الكلام، كما مر آنفًا. (الرابعة): أن يتمثل له الملك رجلًا، كما في هذا الحديث أيضًا. (الخامسة): أن يتراءى له جبريل في صورته التي خُلقَ عليها. (السادسة): أن يكلمه الله من وراء حجاب. (السابعة): وحي إسرافيل عليه السلام، ففي مسند أحمد بإسناد صحيح عن الشعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة، وهو ابن أربعين سنة، فقُرِنَ بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين؛ قرن لنبوته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة: عشرًا بمكة، وعشرًا بالمدينة، فمات، وهو ابن ثلاث وَستين سنة. وأنكر بعضهم كونه وكل به غير جبريل عليه السلام. اهـ ملخصًا من عمدة القاري

(1)

.

(قال) وفي الرواية التالية: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم": (في مثل صلصلة الجرس) متعلق بمحذوف، أي يأتيني في مثل صلصلة الجرس.

وفي الرواية التالية: "أحيانًا يأتيني في مثل صلصلة الجرس". وفي رواية البخاري: "مثل صلصلة الجرس".

أي يأتيني في صوت متدارك، لا يدرك في أول الوَهْلَة، كصوت الجرس، أي يجيء في صورة وهيئة لها مثل هذا الصوت، فنبه بالصوت الغير المعهود على أنه يجيء في هيئة غير معهودة، فلذا قابله لقوله في

(1)

عمدة القاري جـ 1 ص 40.

ص: 97

"صورة الفتى"، وعلى الوجهين فصلصلة الجرس مثال لصوت الوحي. قاله السندي رحمه الله تعالى

(1)

.

و"الصلصلة" -بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة- في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين. وقيل: هو صوت متدارك، لا يدرك في أول وهلة. قاله في الفتح.

وقال العلامة العيني رحمه الله: "الصلصلة" -بفتح الصادين المهملتين-: الصوت الذي لا يفهم أوّلَ وَهْلَة. ويقال: هي صوت كل

شيء مصوّت، كصلصلة السلسلة. وفي "العباب": صلصلة اللجام: صوته إذا ضوعف.

وقال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه، ولا يتبينه أولَ ما يقرع سمعه حتى يفهمه من بعدُ. وقال أبو علي الهجري في أماليه:

"الصلصلة" للحديد، والنحاس، والصفر، ويابس الطين، وما أشبه ذلك صوته.

وفي "المحكم": صَلَّ يَصِلُّ صَلِيلًا، وصَلْصَلَ، وتصَلْصَل صَلْصَلَةً، وتَصَلْصُلًا: صوّت.

وقال القاضي: الصلصلة: صوت الحديد فيما له طنين. وقيل: معنى الحديث هو قوةُ صوت حَفِيفِ أجنحة الملائكة، لتشغله عن غير ذلك، وتؤيده الرواية الأخرىَ:"كأنه سلسلة على صفوان"، أي حفيف

(1)

شرح السندي جـ 2 ص 146.

ص: 98

الأجنحة

(1)

. انتهى كلام العيني رحمه الله تعالى

(2)

.

و"الجرس" -بفتح الجيم، والراء-: الجُلْجُل الذي ما يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجَرْسِ -بإسكان الراء- وهو الحِسّ.

وقال الكرماني: الجَرَس: شبه ناقوس صغير، أو سَطْل في داخله قطعة نُحاس معلق منكوسًا على البعير، فإذا تحركت النحاسة، فأصابت السطل، فتحصل صلصلة، والعامة تقول: جرص بالصاد، وليس في كلام العرب كلمة اجتمع فيها الصاد والجيم، إلا الصمج، وهو القِندِيل، وأما الجص فَمُعَرّب.

وقال ابن دريد: اشتقاقه من الجَرْس، أي الصوت والحس. وقال ابن سيَده: الجَرْس أي ما بالفتح، والجِرْس أي بالكسر، والجَرَسُ أي

بفَتحتين: الحركة والصوت من كل ذي صوت. وقيل: الْجَرْس بالفتح إذا أفرد، فإذا قالوا: ما سمعتُ له حِسّا ولا جِرْسًا كسروا، فأتبعوا اللفظ باللفظ. اهـ

(3)

.

قال في "الفتح": [فإن قيل]: المحمود لا يُشَبَّهُ بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبه الوحي، وهو محمود، والمشبه به صوت الجرس، وهو مذموم، لصحة النهي عنه، والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة، كما أخرجه مسلم،

(1)

حفيف الأجنحة -بالحاء الهملة: صوتها.

(2)

المصدر المذكور جـ 1 ص 40 - 41.

(3)

انظر "عمدة القاري" جـ 1 ص 41. ولسان العرب جـ 1 ص 597 - 598.

ص: 99

وأبو داود، وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟

[والجواب]: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفةٍ مَّا، فالمقصود هنا ليان الجنس، فذكر ما ألِفَ السامعون سماعَهُ تقريبًا لأفهامهم.

والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة، وجهة طَنِين، فمن حيث وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه، وعلَل بكونه مزمار الشيطان.

ويحتمل أن يكون النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور، وفيه نظر.

قيل: والصلصة المذكورة صوت الملك بالوحي. قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك، يسمعه، ولا يتبينه أولَ ما يسمعه حتى يفهمه بعدُ. وقيل: بل هو صوت حفيف أجنحة الملك.

والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحيُ، فلا يبقى فيه مكان لغيره، ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به، دون غيره من الآلات. انتهى ما في الفتح

(1)

.

(فيفصم عني) قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله: أي ينفرج عني، ويذهب. كما يُفصَمُ الخلخالُ إذا فتحته لتخرجه عن

(1)

جـ 1 ص 30.

ص: 100

الرجل، وكل عُقدة حللتها، فقد فصمتها، قال الله تعالى:{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]، وانفصام العروة أن تُنفَكَّ عن موضعها، وأصل الفصم عند العرب أن تفكّ الخَلْخال، ولا تُبينَ كسره، فإذا كسرته، فقد قصمته -بالقاف- قال ذو الرمة [من البسيط]:

كأنَّهُ دُمْلُجٌ مِن فِضةٍ نَبَهٌ

(1)

فِي مَلْعَبٍ من جَوَارِي الْحَي مَفْصُومُ

(2)

وقال الحافظ رحمه الله: قوله "فيفصِمُ عني" أي يُقلعُ، ويتجلى ما يَغشَاني، وأصل الفصم: القطع، ومنه قوله تعالى:{لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]. وقيل الفصم بالفاء: القطع بلا إبانة، وبالقاف: القطع بإبانة، فذُكِرَ بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلقة. أفاده في الفتح

(3)

.

وقال العلامة العيني رحمه الله تعالى: فيه ثلاث روايات:

[الأولى]: وهي أفصحها لفتح الياء، وإسكان الفاء، وكسر الصاد المهملة. قال الخطابي: معناه، يقلع، ويتجلى ما يغشاني منه، قال: وأصل الفصم: القطع، ومنه {لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]، وقيل: إنه الصدع بلا إبانة، وبالقاف قطعٌ بإبانة، فمعنى الحديث أن الملك فارقه ليعود.

(1)

النَّبَهُ بفتحتين: كل شيء سقط عن الإنسان فنسيه " اهـ لسان العرب جـ 5 ص 3424.

(2)

التمهيد 22 ص 114 - 115، الاستذكار جـ 8 ص 67 - 68.

(3)

جـ 1 ص 31.

ص: 101

[الثانية]. بضم أوله، وفتح ثالثه، على صيغه المجهول من المضارع الثلاثي.

[الثالثة]: بضم أوله، وكسر ثالثه، من أفصم المطرُ: إذا أقلع، وهي لغة قليلة.

وقال العلامة ابن منظور رحمه الله: الفَصْمُ: الكسر من غير بَيْنُونَة، فَصَمَه يَفْصمُهُ فَصمًا -من باب ضرب-: كسره من غير أن يَبِينَ، وتَفَصَّمَ مثله. قال: وأما القَصْمُ بالقاف، فأن ينكسر الشيءُ، فَيبيَنَ. وانفَصَمَ المطرُ: انقطع، وأقلع، وأفصمَ المطرُ، وأفْصىَ: إذا أقلع، وانكشف، وأفصمتْ عنه الحُمَّى. انتهى

(1)

.

(وقد وَعيتُ عنه ما قال) بفتح العين، أي حفظت، وفهمت. قال ابن منظور رحمه الله: الوَعْيُ حفظ القلب الشيءَ، يقال: وَعَى الشيءَ، والحديثَ يَعِيه وَعْيًا، من باب وَعَدَ، وأوعاه: حَفِظَه، وفَهِمَهُ، وقَبِلَه، فهو واعٍ، وفلان أوعى من فلان، أي أحفظ، وأفهم. وقَال الجوهري رحمه الله: أوعَيتُ الزادَ والمتاعَ: إذا جعلته في الوعاء، قال عَبِيدُ بنُ الأبْرَصِ [من البسيط]:

الْخَيْرُ يَبْقَى وإِنْ طَالَ الزَّمَان بِهِ

وَالشَّرُّ أخبثُ مَا أوْعَيْتُ مِنْ زَادِ

انتهى كلام ابن منظور بتصرف، واختصار

(2)

.

والجملة في محل نصب على الحال من فاعل "يفصم". و"ما" في

(1)

لسان العرب جـ 5 ص 3424.

(2)

لسان جـ 6 ص 4876 - 4877.

ص: 102

قوله: "ما قال": مصدرية حرفية، أو اسم موصول، والعائد مقدر، أي والحال أني قد حفظت عن ذلك الملك قوله، أو القول الذي قاله.

وفيه إسناد الوحي إلى قول اللك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عمن قال من الكفار:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] لأنهم كانوا ينكرون الوحي، وينكرون مجيء الملك به. قاله في الفتح.

(وهو أشده عليّ) أي إن هدْا النوع من الوحي، أشد أنواع الوحي علي.

قال الحافظ رحمه الله: ويفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، لأن الفهم من كلام مثلِ الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود.

والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية، وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع، وهو البشرية، وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.

قال: وقال شيخنا شيخ الإسلام البُلْقيني. سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به، كما سيأتي في حديت ابن عباس:"وكان يعالج من التنزيل شدة".

قال: وقال بعضهم: وإنما كان شديدًا عليه ليستجمع قلبه، فيكون أوعى لما سمع اهـ.

وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد، أو تهديد. وهذا

ص: 103

فيه نظر.

والظاهر أنه لا يختص بالقرآن، كما سيأتي بيانه في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجمة المتضمخ بالطيب في الحج، فإن فيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي عليه، وإنه ليغط.

وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزُّلْفَى والدرجات. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

(وأحيانًا) جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قالَ: أوقاتًا يأتيني، وانتصابه على الظرفية، وعامله "يأتيني" موخرًا عنه.

وفي رواية للبخاري في "بدء الخلق": "كل ذلك يأتي الملك"، أي كل ذلك حالتان، فذكرهما.

وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "كان الوحي يأتيني على نحوين. يأتيني به جبريل، فيلقيه عليّ كما يلقي الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني، ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا يتلفت مني".

قال الحافظ رحمه الله. وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16] كما سيأتي، فإن الملك قد تمثل رجلًا في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية، وفي صورة أعرابي، وغير ذلك، وكلها في الصحاح.

(1)

فتح جـ 1 ص 30 - 31.

ص: 104

[وأوردَ على ما اقتضاه الحديث]-وهو أن الوحي منحصر في الحالتين- حالات أخرى: إما من صفة الوحي، كمجيئه كدَوِي النحل، والنَّفْثِ في الرُّوع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة.

وإما من حامل الوحي، كمجيئه في صورته التي خلق عليها، له ستمائة جناح، ورويته على كرسي بين السماء والأرض، وقد سد الأفق.

(والجواب) منع الحصر في الحالتين المتقدم ذكرهما، وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به، فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بَيَّنَ بها صفة الوحي، لا صفة حامله.

وأما فنون الوحي، فدويّ النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوي بالنسة إلى الحاضرين -كما في حديث عمر- يُسمَع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.

وأما النَّفْث في الرُّوع، فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفث حينئذ في رُوعه.

ص: 105

وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.

وأما الرؤيا الصالحة، فقال ابن بطال: لا تَرِدُ، لأن السؤال وقع عما ينفرد له عن الناس، لأن الرؤيا قد يَشرَكُهُ فيها غيره اهـ. والرؤيا

الصادقة، وإن كانت جزءًا من النبوة، فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيًا، وليس كذلك.

ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضًا على الوجهين المذكورين، لا غير. قاله الكرماني. قال الحافظ: وفيه نظر.

وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا -فذكرها- وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر.

وحديثُ: "إن روح القدس نفتْ في رُوعي". أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود رضي الله تعالى

عنه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

(يأتيني في صورة الفتى)"الصُّورة". التِّمْثال، وجمعها صُوَر،

(1)

فتح جـ 1 ص 29 - 30.

ص: 106

مثل غُرْفَة وغُرَف، وتَصوّرت الشيءَ: مَثَّلْتُ صورته، وشَكْلَه في الذهن، فتصور هو، وقد تطلق الصور، ويراد بها الصفة، كقولهم:

صورة الأمر كذا، أي صفته، ومنه قولهم: صورة المسألة كذا، أي صفتها. قاله في المصباح

(1)

.

و"الفتى" -بفتحتين مقصورًا-: الشاب الحدث، ويستعار للعبد، وإن كان شيخًا مجازًا، تسمية باسم ما كان عليه. وجمعه في القلة فتْيَةُ، وفي الكثرة فِتْيَانٌ، والأنثى فَتَاة، وجمعها فَتَيَات. أفاده في المصباح

(2)

.

والمعنى هنا: أي يأتيني في بعض الأوقات في مثال رجل شابّ.

(فيَنْبِذُه إِلي) من باب ضرب: أي يُلقي ذلك الملك الوحي الذي أتى به إلي.

وفي الرواية التالية: "وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا، فيكلمني فأعي ما يقول". وسيأتي شرحه هناك، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان. ومسائل هذا الحديث ستأتي بعد شرح الحديث التالي، إن شاء الله تعالى.

934 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ

(1)

المصباح جـ 1 ص 350.

(2)

جـ 2 ص 462.

ص: 107

عَائِشَةَ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً، فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ".

قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.

رجال هذا الإسناد: سبعه

1 -

(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المرادي الْجَمَليّ، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت [11]، مات سنة 248، أخرج له مسلَم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد ين يوسف مولى بني أمية، أبو عمرو المصري، قاضيها، ثقة فقيه [10] مات سنة 250 أخرج له أبو داود، والنسائي، تقدم في 9/ 9.

3 -

(عبد الرحمن بن القاسم) بن خالد بن جُنَادة الْعُتَقِيّ، أبو عبد الله المصري الفقيه، صاحب مالك، ثقة من كبار [10]، مات

سنة 191، أخرج له البخاري، وأبو داود في "مراسيله"، والنسائي، تقدم في 19/ 20.

ص: 108

4 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني الثبت الحجة [7]، مات سنة 179، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.

والباقون تقدموا في السند الماضي.

ومن لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالفقهاء الثقات الأثبات.

(قال الجامع عفا الله عنه): شرح الحديث تقدم في الذي قبله، وأشرح هنا ما لم يسبق شرحه:

قوله: (يتمثل لي الملك رجلًا) التمثل مشتق من المثل، أي يتصور، "وأل" في "الملك" للعهد، والمعهود هو جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، ولفظه: "كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل، فيلقيه علي، كما يلقي الرجل على الرجل

" الحديث. وهو مرسل تقدم الكلام عليه في الحديث الماضي.

وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر، قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة، تتشكل أيَّ شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية. ذكره في الفتح

(1)

.

وقوله: (رجلًا) منصوب على أنه مفعول مطلق على النيابة، والأصل تَمَثُّلَ رجلٍ، وقيل: منصوب على الحال، أي مُتَصَوِّرًا بصورة

رجل، وقيل: منصوب على التمييز. ولا يخفى بُعْدُه.

(1)

جـ 1 ص 31.

ص: 109

قال الحافظ السيوطي رحمه الله: قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة، تتشكل أيَّ شكل أرادواه.

وقد سأل عبد الحق الصَّقَلِيُّ إمامَ الحرمين حين اجتمع به بمكة عن هذه، وكيف كان جبريل يجيء مرّة في صورة دحية، وجاء مرة في هيئة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، وصورته الأصلية له ستمائة جناح، وكل جناح منها يسد الأفق؟.

فقال. مِنْ قائل: إنه سبحانه يُفنيِ الرْائدَ من خلقه، ثم يعيده، ومن قائل: إن ذلك إنما هو تمثيل في عين الرائي، لا في جسم جبريل، وهو الذي يعطيه قوله. "يتمثل لي".

قال: وتحقيقه أن جبريل عمارة عن الحقيقة الملكية الخاصة، والملك لا يتغير بالصورة والقوالب، كما أن حقيقتنا لا تتغير بها، ألا ترى أن الجسم يتغير، ويفنى مع أن الأوواح لا تتغير، كما أنها في الجنة تركب على أجسام لطيفة نورانية ملكية، تنعكس الأبدان الآدمية الكثيفة هناك إلى عالم الكمال الجسماني على نحو الأجسام الملكية الآن، فحقيقة جبريل كانت معلومة عند النبي صلى الله عليه وسلم مجعولة في أيّ قَالَب كان.

قلت

(1)

: ولهذا وود في حديث مجيئه، وسؤاله عن الإيمان:"ما جاءني قط، إلا وأنا أعرفه، إلا أن يكون هذه المرة". انتهى المقصود من

(1)

القائل هو السيوطي.

ص: 110

كلام السيوطي رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال في الفتح: قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه، أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بَعْدُ.

وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبًا لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حيًا، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلًا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تَسْرَحُ في الجنة.

وقال شيخنا شيخ الإسلام -يعني البلقيني-: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم، فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته.

ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشًا، فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير، وهذا على سبيل التقريب.

والحق أن تمثل الملك رجلًا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلًا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه، والظاهر أيضًا أن القدر الزائد لا يزول، ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. والله أعلم. انتهى كلام

(1)

زهر الربى جـ 2 ص 148.

ص: 111

الحافظ

(1)

.

(قال الجامع عفا الله عنه): مثل هذا الاختلاف، ومثله الاختلاف السابق في حقيقة الملائكة من فضول الكلام، ومن الخوض فيما لا يعني، لأمور:

(الأول): أنه مما لم يكلف الشرع أحدًا بالخوض فيه.

(الثاني): أنه من القول بلا علم، لأنه ليس عليه أثارة من علم، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

(الثالث): أنه مما لم يخض فيه السلف، ولو كان فيه خير لكانوا أسبق الناس إليه.

فالواجب على العاقل أن لا يخوض في مثل هذا إلا بدليل، فما جاءنا من النبي صلى الله عليه وسلم بيانه من كون الملائكة خلقوا من نور، وأن لهم أجنحة، وأنهم يتشكلون بشكل البشر، وأن جبريل يأتيه بصورة رجل، ونحو ذلك آمنا به، وتكلمنا بتفاصيله، وما لا فلا. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فيكلمني) كذا للأكثر، ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي، عن مالك. "فيعلمني" بالعين بدل الكاف. والظاهر أنه

(1)

فتح جـ 1 ص 31.

ص: 112

تصحيف، فقد وقع في الموطأ روايةِ القعنبي بالكاف، وكذا للدارقطني في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره. قاله في الفتح.

(فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة في صحيحه: "وهو أهونه عليّ".

وقد وقع التغاير في الحالتين، حيث قال في الأول:"وقد وعَيتُ" بلفظ الماضي، وهنا بلفظ الاستقبال، لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل بعد المكالمة، أو أنه في الأول قد تلبس بالصفات الملكية، فإذا عاد إلى حالته الجبلّية كان حافظًا لما قيل له، فعبر عنه بالماضي، بخلاف الثاني، فإنه علَىَ حالته المعهودة

(1)

.

(قالت عائشة) رضي الله عنها. قال في الفتح: هو بالإسناد الذي قبله، وإن كان بغير حرف العطف، كما يستعمله البخاري وغيره كثيرًا، وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف.

وقد أخرجه الدارقطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب، عن مالك، مفصولًا عن الحديث، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة، عن هشام، ونكتة الاقتطاع هنا اختلاف التحمل، لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدًا للخبر الأول. انتهى.

(ولقد رأيته) الواو للقسم، واللام للتأكيد، و"قد" للتحقيق، "رأيت" بمعنى أبصرت، فلذلك اكتفى بمفعول واحد.

(1)

فتح جـ 1 ص 32.

ص: 113

وفيه من المؤكدات واو القسم، ولام التأكيد، و"قد" التي وَضْعُهَا للتحقيق في مثل هذا الموضع، كما في قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} [الشمس: 9]. أكدت به عائشة رضي الله عنها ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "وهو أشده عليّ".

(ينزل عليه) الفاعل ضمير الوحي، وقد صرح به في رواية البخاري، ولفظه:"ولقد رأيته ينزل عليه الوحي". ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، والجار والمجرور نائب فاعله. والجملة في محل نصب على الحال من المفعول به، أي والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حال كونه نازلًا عليه الوحي (في اليوم الشديد البرد) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهي صفة جرت على غير صاحبها، لأنها صفة للبرد، لا لليوم.

وفيه دلالة على معاناته صلى الله عليه وسلم التعبَ والكربَ عند نزول الوحي، لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشريه. قاله مي الفتح

(1)

.

(فيفصم عنه) أي ينفرج، ويذهب عنه. وتقدم ضبطه ومعناه في الحديث الماضي، (وإِن جبينه) بفتح الجيم، وكسر الباء. قال ابن منظور: الجَبِين: فوق الصُّدْغ، وهما جبينان عن: يمين الجبهة، وشمالها،

(1)

فتح جـ 1 ص 32.

ص: 114

وقال ابن سيدَهْ: والجبينان حرفان مُكتنفا الجبهةِ من جانبيها فيما بين الحاجبْين، مُصْعِدًا إلى قُصَاصِ الشعرِ. وقيل: هما ما بين القُصاص إلى الحاجبين. وقيلَ: حروف الجبهة ما بين الصُّدْغَين متصلًا عدا الناصيةَ كلُّ ذلك جَبِينٌ واحد. قال. وبعضٌ يقول: هما جبينان. والجمع أجْبُنٌ، وأجْبِنَةٌ، وجُبُنٌ. انتهى

(1)

.

(ليَتفصد) بالفاء، وتشديد المهملة: أي يسيل، مأخوذ من الفَصْد، وهو قطع العِرْقِ لإسالة الدم، شُبهَ جبينُهُ بالعِرْقِ المفصودِ، مبالغةً في كثرة العَرَق.

(عَرَقًا) منصوب على التمييز، وهو تمييز محول عن الفاعل، قال ابن منظور رحمه الله: تفصَّدَ جبينه عرقًا، أي تفصّدَ عرقُ جبينه، وكذلك هذا الضرب من التمييز إنما هو في نية الفاعل، وانفصد الشيءُ، وتفصد. سال. انتهى

(2)

.

زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل: "وإن كان لَيوُحَى إليه، وهو على ناقته، فيضرب حِزَامَهَا، من ثِقَلِ ما يوحَى إليه"

(3)

.

(1)

لسان العرب جـ 1 ص 540.

(2)

المصدر نفسه جـ 5 ص 3421.

(3)

فتح جـ 1 ص 32.

ص: 115

وأرادت عائشة رضي الله عنها بهذا الإشارةَ إلى كثرة معاناته عليه الصلاة والسلام التعَبَ والكربَ عند نزول الوحي، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا ورد عليه الوحي يجد له مشقة، ويغشاه الكرب، لثقل ما يُلقَى عليه، قال تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، كما روي "أنه كان يأخذه عند الوحي الرُّحَضَاء"

(1)

. أي البُهْرُ

(2)

والعرق من الشدة، وأكثر ما يسمى به عرق الحُمَّى، ولذلك كان جبينه يتفصد عَرَقا، وإنما كان ذلك ليبلو صبره، ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوة.

وقد ذكر البخاري رحمه الله في حديث يعلى بن أمية: "فأدخل رأسه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحْمَرٌّ وجهه، وهو يغطّ، ثم سُري عنه".

ومنه في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال:"كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه كُرِب لذلك، وتَرَبَّدَ وجهه". وفي حديث الإفك، "قالت عائشة رضي الله عنها: فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحَاء

(3)

عند الوحي، حتى إنه لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في اليوم الشَّاتِي، من ثقل الوحي الذي ينزل عليه". أفاده العيني رحمه الله

(1)

الرُّحَضاء: بضم الراء، وفتح الحاء المهملة وبالضاد العجمة الممدودة: العَرَق في إثر الحمى. اهـ عمدة القاري جـ 1 ص 43.

(2)

البُهْر بالضم: تتابع النَّفَسِ، وبالفتح: المصدر. اهـ عمدة القاري جـ 1 ص 43.

(3)

بضم الموحدة، وفتح الراء، والحاء: شدة الكرب، وشدة الحمى.

ص: 116

تعالى

(1)

.

تنبيه:

حكى العسكري في التصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأ: "ليتقصد" بالقاف، تم قال العسكري: إن ثبت فهو من قولهم: تَقَصَّدَ الشيءُ: إذا تكسر، وتقطع، ولا يخفى بُعده. انتهى.

قالط الحافظ: وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل ابن طاهر، فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء، قال: فأصرّ على القاف.

وذكر الذهبي في ترجمة ابن طاهر عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف، قال: فكابرني.

قال الحافظ: ولعل ابن طاهر وجّهَهَا بما أشار إليه العسكري

(2)

. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -37/ 933 - وفي "الكبرى" -37/ 1005 - وفي فضائل القرآن جـ 5 ص 3 رقم -7979 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان بن عيينة،

(1)

"عمدة القاري" جـ 1 ص 43.

(2)

"فتح" جـ 1 ص 32.

ص: 117

عن هشام بن عروة، عن أبيه عنها. و -934 - و"الكبرى" 1006 - عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن هشام به، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن مالك به. وفي "بدء الخلق" عن فَرْوَة بن أبي المَغْرَاء، عن علي بن مسهر، عن هشام به.

ومسلم عن أبي كريب، عن أبي أسامة ح. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن عيينة ح. وعن أبي كريب، عن أبي أسامة، ومحمد بن

بشر ح. وعن محمد بن عبد الله نمير، عن محمد بن بشر كلهم عن هشام به.

والترمذي عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك به.

وأخرجه مالك في "الموطأ" رقم 143، والحميدي 256 وأحمد جـ 6 ص 58 و 202 و 158 و 163 و 256 و 257، وعبد بن حميد رقم 1490. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

منها: أن فيه دليلًا على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن كثير من المعاني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيبهم، ويعلمهم، وكانت طائفة منهم تسأل، وطائفة تحفظ، وكلهم أدّى، وبلّغ

ص: 118

ما علم، ولم يكتم حتى أكمل الله دينه، والحمد لله

(1)

.

ومنها: أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين.

ومنها: جواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره.

وممْها: أن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل

(2)

.

ومنها: ما قاله الحافظ أبو عمر رحمه الله: وفي هذا الحديث: نوعان أو ثلاثة من أنواع نزول الوحي. وقد ورد في غير ما حديث من

نزول الوحي أنواع، حتى الرؤيا الصالحة جعلها جزءًا من أجزاء النبوة، ولكنه أراد بهذا الحديث نزول ما يتلى، والله أعلم.

وقد روى حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان الوحي إذا نزل سمعت الملائكة صوتًا كإمرار السلسلة على الصَّفَا

(3)

.

وفي حديث يوم حنين أنهم سمعوا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد.

وقالت عائشة: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا

(1)

التمهيد جـ 22 ص 113. الاستذكار جـ 8 ص 60.

(2)

فتح جـ 1 ص 32.

(3)

أخرجه أبو داود، وابن خزيمة في التوحيد، والبيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح.

ص: 119

الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. متفق عليه.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يتبدى له جبريل بين السماء والأرض، وذلك بُيّنَ في حديث جابر بن عبد الله الذي أخرجه الشيخان.

وأحيانًا يأتيه جبريل في هيئة إنسان، فيكلمه مشافهة كما يكلم المرء أخاه، وذلك بُيّن في حديتْ عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر في الإيمان، والإسلام، وحديثه حين جاء جبريل في صفة دحية الكلبي. وفي حديث عمر بن الخطاب، ويعلى بن أمية إذا نزل عليه الوحي يحمرّ وجهه، ويَغطّ غَطيط البكر، وينفخ. إلى غير ذلك من أنواع الوحي الكثيرة.

وروى ابن وهب عن يوثس بن يزيد، عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].

قال: نرى هذه الَاية تعم مَنْ أوحَى الله إليه من البشر كلهم، والكلام ما كلم الله موسى عليه السلام من وراء حجاب.

والوحي ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه، فيثبت الله ما أراد من الوحي في قلب النبي، فيتكلم به النبي، ويكتبه، فهو كلام الله ووحيه.

ص: 120

ومنه ما يكون بين الله ورسله لا يكلم به أحد من الأنبياء أحدًا من الناس، ولكن يكون سر غيب بين الله وبين رسله.

ومنه ما يتكلم به الأنبياء، ولا يكتمونه أحدا، ولا يؤمرون بكتمانه، ولكنهم يحدثون به الناس حديثًا، ويبينون لهم أن الله عز وجل أمرهم أن يبينوه للناس، ويبلغوهم إياه. ومن الوحي ما يرسل الله من يشاء من ملائكته، فيوحيه وحيًا في قلوب من يشاء من أنبيائه ورسله.

وقد بين في كتابه أنه كان يرسل جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام، فقال في كتابه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] الآية. وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195].

وروي عن مجاهد في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] قال: أن ينفث في نفسه {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] قال: موسى حين كلمه الله. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] قال: جبريل إلى محمد، وأشباهه من الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. انتهى كلام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى ببعض تصرف

(1)

.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

التمهيد جـ 22 ص 113 - 114. والاستذكار جـ 8 ص 60 - 67.

ص: 121

935 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} [القيامة: 16، 17]. قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} [القيامة: 16، 17]، قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَأَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ، وَأَنْصِتْ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ قَرَأَهُ كَمَا أَقْرَأَهُ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، تقة ثبت [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(أبو عوانة) الوَضَّاحُ بن عبد الله اليشكري مولاهم الواسطي البزاز، مشهور بكنيته، ثقة ثبت [7]، مالت سنة 175، أخرج له

الجماعة، تقدم في 41/ 46.

3 -

(موسى بن أبي عائشة) الهمْداني -بسكون الميم- مولاهم، أبو الحسن الكوفي، ثقة عابد، يرسل [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 834.

ص: 122

4 -

(سعيد بن جُبَير) الأسدي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه [3] قتل سنة 95 - ولم يكمل الخمسين، أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 436.

5 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنه، تقدم في 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف. ومنها: أن رجاله كلهم ثقات أثبات، وأنهم من رجال الجماعة، وأن شيخه بغلاني، وشيخ شيخه واسطي، والصحابي بصري، والباقيان كوفيان. ومنها: أنهم من الأفراد، لا يشاركهم أحد من الرواة في أسمائهم مع أسماء آبائهم. ومنها: أن أبا عوانة كان كتابه في غاية الإتقان. ومنها: أن موسى بن أبي عائشة لا يعرف اسم أبيه. ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي موسى، عن سعيد. ومنها: أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى -1696 - حديثًا، اتفق الشيخان منها على 75 وانفرد البخاري بـ 28 ومسلم بـ 49 حديثًا. ومنها: أن فيه الإخبارَ في أوله، والتحديث في ثانيه، والعنعنة في الباقي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما (في قوله تعالى) أي في توضيحِ معانيه، وبيان سبب نزوله {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16، 17].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا تعليم من الله تعالى لرسوله

ص: 123

- صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له، ويفسره، ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره، وإيضاح معناه، ولهذا قال تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] أي بالقرآن، كما قال تعالى. {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] انتهى

(1)

.

(قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم) لفظة "كان" في مثل هذا التركيب تفيد الاستمرار (يعالج من التنزيل شدة) المعالجة: محاولة الشيء بمشقة. و"شدة" بالنصب مفعول "يعالج". وقال الكرماني رحمه الله: يجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا له، أي يعالج معالجة شديدة. اهـ.

فعلى هذا يحتاج إلى شيئين: أحدهما: تقدير المفعول به لـ"يعالج". والثاني: تأويل الشدة بالشديدة، وتقدير الموصوف لها، فافهم. قاله البدر العيني رحمه الله تعالى.

(وكان مما يحرك شفتيه) إنما كرر لفظة "كان" لطول الكلام، وقد قال العلماء: إذا طال الكلام جاز إعادة اللفظ، ونحوه، كقوله تعالى:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35]، فأعاد "أنكم" لطول الكلام، وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ

(1)

تفسير ابن كثير جـ 4 ص 479.

ص: 124

{عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 89] إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة: 89]. قاله النووي رحمه الله تعالى

(1)

.

واختلفوا في معنى هذا الكلام، وتقديِرِه، فقال القاضي عياض معناه: كثيرًا ما كان يفعل ذلك. قال: وقَيل: معناه هذا من شأنه،

ودَأبِهِ، فجعل "ما" كناية عن ذلك، وأدغمت نون "مِنْ" في ميم "ما".

ومنه قوله في حديث سمرة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه مَنْ رأى منكم رؤيا" أي هذا شأنه.

وحديث البراء رضي الله عنه: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم مما نحب أن نكون عن يمينه". أي هذا شأننا.

وقال بعضهم: معناه "ربما" لأن "مِنْ" إذا وقع بعدها "ما" كانت بمعنى "ربما"، قاله الشيرازي، وابن خروف، وابن طاهر، والأعلم،

وخرّجوا عليه قول سيبويه: "واعلم أنهم مما يحذفون كذا". وأنشدوا قول الشاعر [من الطويل]:

وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً

عَلى رَأسهِ نُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الفَمِ

وقال الكرماني: أي كان العلاج ناشئًا من تحريك الشفتين، أي مبدأ العلاج منه. وفيه نظر، لأنه جعل اسم كان ضميرًا يعود على العلاج المفهوم من "يعالج"، والأقرب كونه ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الشدة -كما قال الحافظ- حاصلة قبل التحريك.

(1)

شرح مسلم جـ 4 ص 165 - 166.

ص: 125

قال الكرماني: أو "ما" بمعنى "مَنْ"، إذ قد تجيء للعقلاء أيضًا، أي وكان ممن يحرك شفتيه

(1)

.

زاد في الرواية الآتية في التفسير من "الكبرى" جـ 6 ص 503 - : "قال ابن عباس: أنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، قال سعيد: وأنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16]

ونحوه عند الشيخين، ولفظ البخاري في "بدء الوحي": "فقال ابن عباس، فأنا أحركهما لكم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما، كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16].

قال في الفتح: قوله: "فقال ابن عباس: فأنا أحركهما" جملة معترضة بالفاء، وذلك جائز، كما في قول الشاعر:

وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ ينْفَعُهُ

أن سَوْفَ يأتِي كُلُّ ما قُدرَا

وفائدة هذا زيادة البيان في الوصف على القول، وعَبَّرَ في الأول بقوله:"كان يحركهما"، وفي الثاني بـ "رأيت"، لأن ابن عباس لم ير

النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، لأن سورة "القيامة" مكية باتفاق، بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر، وإلى هذا جنح البخاري في إيراده في "بدء الوحي"، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك وُلِدَ، لأنه ولد قبل

(1)

راجع الفتح جـ 1 ص 43، وعمدة القاري جـ 1 ص 72. ونقلته ملخصًا. وذكر العيني وجهين آخرين تركتهما لركاكتهما.

ص: 126

الهجرة بثلاث سنين.

لكن يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك بَعْدُ، أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم، والأول هو الصواب، فقد ثبت ذلك صريحًا عند أبي داود الطيالسي، في مسنده من أبي عوانة بسنده بلفظ:"قال ابن عباس: فأنا أحرك لك شفتي كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع.

ولا تنافي بين قوله: "فحرك شفتيه"، وقوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامه: 16]، لأن تحريك الشفتين بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان، أو اكتفى بالشفتين، وحذف اللسان لوضوحه، لأنه الأصل في النطق، إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك. ويدل عليه رواية البخاري في التفسير من طريق جرير:"يحرك لسانه وشفتيه"، فجمع بينهما.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة، ولم يصبر حتى يتمها، مسارعةً إلى الحفظ، لئلا ينفلت منه شيء. قاله الحسن وغيره.

(1)

هكذا نقل في الفتح في تفسير سورة "القيامة" عن مسند أبي داود الطيالسي عن أبي عوانة، ولكن الذي رأيته في مسنده ص 339 نصه:"قال ابن عباس: إنما أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك"

والحافظ رحمه الله ثبت في النقل، فلا أدري من أي موضع نقله. فيتأمل. والله تعالى أعلم.

ص: 127

ووقع في رواية الترمذي: "يحرك به لسانه يريد أن يحفظه". وللنسائي: "يعجل بقراءته ليحفظه". ولابن أبي حاتم: "يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه، خشية أن ينسى أولَه قبل أن يفرغ من آخره". وفي رواية الطبري، عن الشعبي:"عجل يتكلم به من حبه إياه". وكلا الأمرين مراد.

ولا تنافي بن محبته إياه، والشدة التي تلحقه في ذلك، فأمر بأن يُنصتَ حتى يُقضَى إليه وَحْيُه، وَوُعِدَ بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان، أو غيره.

ونحوُهُ قوله تعالى. {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]. أي بالقراءة. انتهى ما في "الفتح" بزيادة من

"عمدة القاري"

(1)

.

(قال الله عز وجل وفي رواية "الكبرى" في التفسير: "فأنزل الله عز وجل" ({لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16] الضمير عائد على

القرآن، وإن لم يجر له ذكر، لكن القرآن يرشد إليه، بل دلّ عليه سياق الآية. أي لا تعجل بقراءة القرآن ما دام جبريل يقرؤه.

واحتج بهذا من جوز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وجوز الفخر الرازي أن يكون أذن له في الاستعجال إلى وقت ورود النهي عن ذلك، فلا يلزم وقوع الاجتهاد في ذلك

(2)

.

(1)

فتح جـ 1 ص 43 - 44. عمدة القاري جـ 1 ص 73.

(2)

فتح في كتاب التفسير جـ 9 ص 690.

ص: 128

({لِتَعْجَلَ بِه} [القيامة: 16]) أي لتأخذه على عجلة، ثم علل النهي عن العجلة بقوله:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]) أي جمعه في صدرك، وإثبات قراءته في لسانك، كما أشار إليه بقوله:(قال) أي ابن عباس رضي الله عنهما مفسرًا لهذه الجملة (جمعه في صدرك) رواية المصنف أوضح من رواية البخاري في "بدء الوحي"، ولفظه:"جمعه لك صَدْركُ". برفع صدرُك على الفاعلية، قال في الفتح: كذا في أكثر الروايات، وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز، كقوله أنبت الربيع البقل، أي أنبت الله في الربيع البقل، واللام في "لك" للتبيين، أو للتعليل. انتهى

(1)

.

(ثم تقرأه) بالنصب بـ "ـأن" مضمرة، لكونه معطوفًا على اسم خالص، وهو "جَمْعُهُ"، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى اسمٍ خَالِصٍ فِعْلٌ عُطِفْ

تَنْصِبُهُ أنْ ثَابِتًا أوْ مُنْحَذِفْ

ومنه قول الشاعر [من البسيط]:

إِنِّي وَقَتْلِي سُلَيْكًا ثُمَّ أعْقِلَهُ

كَالثَّوْرِ يُضْرَبُ لَمَّا عَافَتِ الْبَقَرُ

فـ "ـأعقله" منصوب لعطفه على اسم صريح، وهو "قتلي". والتقدير هنا:"ثم قِرَاءتُكَ له".

({فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة: 18]) أي إذا تلاه عليك جبريل عليه السلام، ففيه إضافة ما يكون عن أمر الله تعالى إليه {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]) أي فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك. قاله ابن كثير في

(1)

فتح جـ 1 ص 44.

ص: 129

تفسيره. فالقرآن هنا بمعناه المصدري، وهو القراءة. (قال) ابن عباس رضي الله عنهما (فاستمع له، وأنصِتْ) فيه لغتان: قطع همزته، ووصلها، يقال: أنصت إنصاتًا: استمع، يتعدى بالحرف، فيقال: أنصت الرجلُ للقارئ، وقد يحذف الحرف، فيُنصَبُ المفعولُ، فيقال: أنصت الرجلُ القارئَ، ضُمنَ "سمعه". ونَصَتَ له يَنْصتُ، من باب ضرب، لغةٌ: أي سكت مستمعًا، وهذا يتعدى بالهمزة، فيَقال: أنصته، أي أسكته. قاله الفيومي

(1)

.

وقال الأزهري: يقال: أنصت، ونَصَتَ، وانتصت، ثلاث لغات، أفصحهن "أنصت"، وبها جاء القرآن العزيز. انتهى.

والاستماع أخص من الإنصات، لأن الاستماع: الإصغاء، والإنصات: السكوت، ولا يلزم من السكوت الإصغاء، فقد يستمع، ولا ينصت، فلهذا جُمِعَ بينهما، كما قال الله تعالى:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. أفاده في شرح مسلم

(2)

.

زاد في رواية البخاري: " {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]، ثم إن علينا أن تقرأه"، وفي رواية له:"علينا أن نبينه بلسانك" وفي رواية "على لسانك".

البيان الإجمالي؛ فلا يتم الاستدلال.

(1)

المصباح جـ 2 ص 607.

(2)

جـ 4 ص 166 - 167.

ص: 130

(فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعد نزول هذه الآية (إِذا أتاه جبريل استمع) لقراءته (فإِذا انطلق جبريل) أي ذهب، وانصرف من عنده (قرأه كما أقرأه) فاعل "قرأ" الأول ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وفاعل "قرأ" الثاني ضمير جبريل عليه السلام.

يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد نزول هذه الآية إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع لقراءته، فإذا انصرف جبريل قرأ النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قرأ جبريل عليه السلام من غير زيادة، ولا نقصان. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر الصنف له:

أخرجه هنا -37/ 934 - و "الكبرى" 37/ 1005 - وفي التفسير -11634 - عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن موسى بن عقبة أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عنه.

و"الكبرى" في "فضائل القرآن" -7978 - عن هناد بن السري، عن عَبِيدة، عن موسى به، مختصرًا:"كان إذا نزل عليه الوحي يعالج من ذلك شدة".

ص: 131

وفي "التفسير" -11635 - عن أحمد بن سليمان، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] قال. "كان يحرك لسانه، مخافة أن يُفِلتَ منه".

وفي -11636 - أيضًا عن أحمد بن عَبْدَة، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل القرآن عليه، يُعجلُ بقراءته، ليحفظه، فأنزل الله عز وجل:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] إلى قوله: {وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "بدء الوحي"، عن موسى بن إسماعيل- وفي "التوحيد" عن قتيبة- كلاهما، عن أبي عوانة-، وفي "التفسير" عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل- وعن الحميدي، عن ابن عيينة-، وفي "التفسير"، وفي "فضائل القرآن" عن قتيبة، عن جرير- أربعتهم عن موسى بن أبي عائشة به.

ومسلم في الصلاة عن قتيبة، وأبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن جرير به. وعن قتيبة، عن أبي عوانة به.

والترمذي في "التفسير" عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة به. وقال: حسن صحيح.

ص: 132

وأخرجه الحميدي رقم 527 - وأحمد جـ 1 ص 220 و 343.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

منها: بيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقاه من معالجة الشدة عند نزول الوحي عليه، وذلك لثقل الوحي، كما قال الله تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].

ومنها: أنه كان يحرك شفتيه، لئلا ينسى، وقيل: إنما كان يفعل ذلك من حبه له، وحلاوته في لسانه، فنهي عن ذلك حتى يجتمع، لأن

بعضه مرتبط لبعضه.

ومنها: أن فيه من مصطلح الحديث النوعَ المسمى بـ "المسلسل بتحريك الشفتين"، فقد تسلسل بتحريك النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس، كما تقدم في رواية أبي داود الطيالسي، أنه رآه يحرك شفتيه، ثم بتحريك ابن عباس رضي الله عنهما لسعيد، ثم بتحريك سعيد لموسى بن أبي عائشة، وهلم جرّا حتى وصل إلينا من أحد مشايخنا، وهو الشيخ إسماعيل عثمان زين اليمني رحمه الله تعالى.

وفائدة التسلسل اشتماله على زيادة الضبط، واتصال السماع، وعدم التدليس، لكن غالب المسلسلات لا يصح تسلسلها، كحديث الرحمة المسلسل بالأولية، فإنه انقطع اتصاله على سفيان بن عيينة، فمن رواه مسلسلًا إلى آخره، فقد وهم.

ص: 133

وقد بين الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى المسلسل مع بيان فائدته في ألفيته "منظومة الأثر" حيث قال:

هُوَ الَّذي إِسْنَادُهُ رِجَالَهْ

قدْ تَابَعُوا فِي صِفَةٍ أوْ حَالَهْ

قَوْلِيَّة فِعْليَّةٍ كِلَيْهمَا

لَهُمْ أَوِ الإِسنَادِ فِيمَا قُسِّمَا

وَخَيْرُهُ الدَّالُ عَلَى الْوَصْفِ وَمِنْ

مُفَادِهِ زيَادَةُ الضَّبْطِ زُكِنْ

وَقَلَّمَا يًسْلَمُ في التَّسلْسُلِ

مِن خَللٍ وَرُبَّمَا لَمْ يُوصَلِ

كَأوَّلِيَّةٍ لِسُفْيَانَ انْتَهَى

وَخَيْرُهُ مُسَلْسَلٌ بِالْفُقَهَا

ومنها: أن الله تعالى تكفل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن لا ينسى القرآن، وأنه كان لعد نزول هذه الآية يستمع، وينصت لجبريل، فإذا انتهى جبريل من قراءته، وذهب من عنده، قرأه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه كما أقرأه، من غير زيادة، ولا نقص، كما قال تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6].

ومنها. أن فيه إشارة إلى أن أحدًا لا يحفظ القرآن إلا بعون الله تعالى، وفضله، كما قال الله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17].

ومنها: أنه استُدلّ به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو مذهب الجمهور من أهل السنة، وهو الصحيح في الأصول، ونص عليه الشافعي رحمه الله، لما تقتضيه "ثُمَّ" من التراخي.

ص: 134

قال في "الفتح": أول من استدلّ لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر ابن الطيب، وتبعوه، وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له، وظهوره على لسانه فلا.

قال الآمدي: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار، لا بيان المجمل، يقال: بان الكوكب. إذا ظهر.

قال: ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص لبعضٍ بالأمر المذكور، دون بعض.

وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يراد البيان التفصيلي، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي، فلا يتم الاستدلال. وتعقب باحتمال إرادة المعنيين: الإظهارِ والتفصيلِ، وغيرِ ذلك، لأن قوله:"بيانه" جنس مضاف، فيعم جميع أصنافه، من إظهاره، وتبيين أحكامه، وما يتعلق بها، من تخصيص، وتقييد، وغير ذلك. انتهى ما في "الفتح" في كتاب التفسير

(1)

.

وقال العلامة العيني رحمه الله: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع عند الكل، إلا عند من جوز تكليف ما لا يطاق، وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فاختلفوا فيه، فذهب الأكثرون إلى جوازه، واختاره ابن الحاجب، وقال الصيرفي، والحنابلة: ممتنع، وقال الكرخي بالتفصيل، وهو أن تأخيره عن وقت الخطاب ممتنع في غير المجمل، كبيان

(1)

جـ 9 ص 690 - 691.

ص: 135

التخصيص، والتقييد، والنسخ، إلى غير ذلك، وجائز في المجمل، كالمشترك، وقال الجبائي. تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنع في غير النسخ، وجائز في النسخ. انتهى كلام العيني رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي دْهب إليه الجمهور من جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، لا عن وقت الحاجة هو الصواب، لظاهر قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] فإن المعنى جميع أنواع البيان، التي من جملتها بيان المعنى المراد، وحمل الآية على بعض أنواع البيان دون بعض تَحَكّم لا دليل عليه. فتنبه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[فائدة]: ذكر الحافظ العراقي رحمه الله تعالى قصة بدء الوحي، وما يتعلق به في ألفية السيرة المسماة "الدرر السنية في سيرة خير البرية"، فقال:

بَابُ كيْفَ كان بَدْءُ الْوَحْي

حَتَّى إِذَا مَا بَلَغَ الرَّسُولُ

الأرْبَعِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ

وَهْوَ بِغَارٍ بِحِرَاءٍ مُخْتَلِي

فَجَاءَهُ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ الْعَلِي

فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ وَكانَ قَدْ خَلَتْ

مِنْ شَهْرِ مَوْلِدٍ ثَمَانٌ إِنْ ثَبَتْ

وَقِيلَ فِي سَابِعِ عشْرِ رَجَبِ

وَقِيلَ بَل فِي رَمَضَانَ الطَّيبِ

(1)

عمدة القاري جـ 1 ص 73.

ص: 136

قَالَ لَهُ اقْرَأْ وَهْوَ فِي الْمِرَارِ

يُجِيبُ نُطْقًا مَا أنَا بِقَارِي

فَغطَّهُ ثَلَاثَةً حَتَّى بَلَغْ

الْجُهْدَ فَاشْتَدَّ لِذَاكَ وَانْصَبَغْ

أقْرَأهُ جِبْريلُ أوَّلَ الْعَلَقْ

قَرَأهُ كَمَالَهُ بِهَا نَطَقْ

وَكَوْن ذَا الأوَّلُ فَهْوَ الأشْهَرُ

وَقِيلَ بَل يَا أيّهَا الْمُدَّثِّرُ

وَقِيلَ بَلْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ

وَالأوَّلُ الأقْرَبُ لِلصَّوَابِ

جَاءَ إِلَى خَدِيجَةَ الأمِينهْ

يَشْكُو لَهَا مَا قَدْ رَآهُ حِينَهُ

فَثَبَّتَتْهُ إِنَّهَا مُوَفَّقَهْ

أوَّلَ مَا قَدْ آمَنَتْ مُصَدِّقَهْ

ثُمَّ أتَتْ بِهِ تَؤُمُّ وَرَقَهْ

قَصَّ عَلَيْهِ مَا رَأى فَصَدَّقَهْ

فَهْوَ الَّذِي آمَنَ بَعْدُ ثَانِيَا

وَكَانَ بَرًّا صادِقَا مُصَافِيَا

وَالصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ إِنَّهْ

رَأى لَهُ تَضَحْضُحًا فِي الْجَنَّهْ

انتهى كلام الحافظ العراقي رحمه الله تعالى.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

936 -

أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ ابْنِ

ص: 137

مَخْرَمَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ، فَقَرَأَ فِيهَا حُرُوفًا، لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا، قُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: كَذَبْتَ، مَا هَكَذَا

(1)

أَقْرَأَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ فِيهَا حُرُوفًا، لَمْ تَكُنْ أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اقْرَأْ يَا هِشَامُ". فَقَرَأَ كَمَا كَانَ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هَكَذَا أُنْزِلَتْ". ثُمَّ قَالَ: "اقْرَأْ يَا عُمَرُ". فَقَرَأْتُ، فَقَالَ:"هَكَذَا أُنْزِلَتْ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ".

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(نصر بن علي) بن نصر بن علي الجهضمي البصري، ثقة ثبت طلب للقضاء، فامتنع -10 - مات سنة 250 - أو بعدها، أخرج له

(1)

وفي بعض النسخ: "ما كذاك".

ص: 138

الجماعة، تقدم في 20/ 386.

2 -

(عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي البصري، أبو محمد، وكان يغضب إذا قيل له: أبو همام، ثقة -8 - مات سنة 189، أخرج له الجماعة، تقدم في 20/ 386.

3 -

(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حدث به بالبصرة، من كبار -7 - مات سنة 154 عن 58 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر، الإمام الحجة الثبت الفقيه المدني، رأس -4 - مات سنة 125 - ، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.

5 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام الأسدي، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه -3 - مات سنة 94 - ، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 44.

6 -

(ابن مخرمه) هو المسور بن مَخْرَمَةَ بن نوفل بن أُهَيب بن عبد مناف بن زُهْرَة بن كلاب القرشي، أبو عبد الرحمن الزهري، له ولأبيه صحبة، وأمه الشِّفَاء بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان سنين.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وخاله عبد الرحمن بن عوف، وأبي بكر، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن عوف، وعثمان، وعلي، ومعاوية، والمغيرة، ومحمد بن مسلمة، وأبي هريرة، وابن عباس،

ص: 139

وجماعة.

وعنه ابنته أم بكر، ومروان بن الحكم، وعوف بن الطفيل رضيع عائشة، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وسعيد بن المسيب، وعبد الله ابن حنين، وعبد الله بن أبي مليكة، وعلي بن الحسين، وعروة بن الزبير، وعمرو بن دينار، وغيرهم.

قال عمرو بن علي: ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، فقُدِمَ به المدينةَ في عقب ذي الحجة سنة ثمان، ومات في ربيع الآخر سنة -64 - أصابه المنجنيق، وهو يصلي في الحجرة، فمكث خمسة أيام، ثم مات، وهو ابن ثلاث وستين، وفيها أرخه الواقدي، وقيل: قتل مع ابن الزبير سنة 73، والأول أصح.

قال الزبيري: كان ممن يلزم عمر بن الخطاب، وكان من أهل الفضل والدين. ووقع في صحيح مسلم من حديثه في خِطْبَة عليّ لابنة أبي جهل، قال المسور: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا محتلَم، يخطب الناس. فذكر الحديث.

قال الحافظ: وهو مشكل المأخذ، لأن المؤرخين لم يختلفوا أن مولده كان بعد الهجرة، وقصة خِطبة علي كانت بعد مولد المسور بنحو ست سنين، أو سبع سنين، فكيف يسمى محتلمًا، فيحتمل أنه أراد الاحتلام اللغوي، وهو العقل، والله تعالى أعلم.

ومن الشذوذ ما حكي في رجال "الموطأ" لابن الحذاء أنه قيل: إن المسور عاش -115 - سنة. قال الحافظ رحمه الله: ولعل قائل ذلك انتقل

ص: 140

ذهنه إلى مخرمة والد المسور، فإن مخرمة قيل: إنه عمر طويلًا أهـ. روى له الجماعة

(1)

.

7 -

(عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقدم 60/ 75. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله. ومنها: أن رجاله كلهم ثقات. ومنها: أنهم ممن اتفق الستة على التخريج لهم. ومنها: أن شيخه، وشيخ شيخه بصريان، ومعمر بصري، ثم يمني والباقون مدنيون. ومنها: أن فيه رواية صحابي، عن صحابي، وتابعي، عن تابعي. ومنها: أن عروة أحد الفقهاء السبعة، وتقدم غير مرة. ومنها: أن عمر رضي الله عنه روى من الحديث -539 - اتفق الشيخان على -10 - وانفرد البخاري بـ 9 - ومسلم بـ 10 - وأن مخرمة روى -22 - حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بحديث. ومنها. أن فيه الإخبارَ، والإنباءَ، والتحديثَ، والعنعنةَ، وكلها تدل على الاتصال غالبا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عروة) بن الزبير (عن) المسوِر (ابن مَخْرَمة) هكذا اقتصر عبدُ الأعلى، عن معمر، عن الزهري على ذكر المسور بن مخرمة، وفي الرواية الآتية -937 - من طريق مالك، عن الزهري: الاقتصار على

(1)

تك جـ 27 ص 581 - 583. تت جـ 10 ص 151 - 152.

ص: 141

عبد الرحمن بن عَبْدٍ القاريِّ، وفي -938 - من طريق يونس، عن الزهري، وهي رواية عقيل، وشعيب، وابن أخي الزهري، كلهم عن

الزهري. "أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبدٍ القاريَّ أخبراه، أنهما سمعا عمر بن الخطاب، يقول:

(أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حِزَام) بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب

القرشي الأسدي.

وأمه زينب بنت العوّام، أخت الزبير بن العوّام، ويقال: أمه مليكة بنت مالك بن سعد، من بني الحارث بن فِهْر، ويقال. من بني فراس بن غنم، وكان هو وأبوه من مسلمة الفتح، ذكره ابن سعد في "الكبير" في الطبقة الرابعة فيمن أسلم يوم فتح مكة، قال: وكان رجلًا صَليبًا مَهِيبًا

(1)

، وذكره في "الصغير" في الطبقة الخامسة فيمن أسلم بعد فتح مكة.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه جبير بن نفير، وعروة بن الزبير، وقتادة السلمي، والد عبد الرحمن بن قتادة. قال الزهري: كان يأمر بالمعروف في رجال معه.

وقال ابن وهب، عن مالك: كان هشام كالسائح، ما يتخذ أهلًا، ولا ولدًا.

(1)

وفي "تت": وكان جميلًا مهيبًا.

ص: 142

وكان عمر بن الخطاب إذا سمع بشيء من الباطل يُراد أن يفعل، أو ذكر له، يقول: لا يُفعَل هذا ما لقيت أنا، وهشام بن حكيم. قال مالك: ودخل هشام بن حكيم على العامل بالشام في الشيء يريد الوالي أن يعمل به، قال: فيتوَعَّده، ويقول له: لأكتبن إلى أمير المؤمنين بهذا، فيقوم إليه العامل، فيتشبث به. قال: وسمعت مالكًا يقول في هشام بن حكيم، والذين معه بالشام يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، قال: وكانوا يمشون في الأرض بالإصلاح، والنصيحة، يحتسبون.

وقال ابن البَرْقِيّ: أمه بنت عامر بن ضبيعة، من بني محارب بن فهر، وكان بالشام، يأمر بالمعروف، وَلَدَ ثمانية: عمر، وعبد الملك،

وأمة الملك، وسعيد، وخالد، والمغيرة، وفُلَيح، وزينب. له حديثان.

وقال مصعب الزبيري: كان له فضل، ومات قبل أبيه. وقال أبو نعيم الأصبهاني: استشهد بأجنادين.

قال الحافظ رحمه الله: وهو غلط من أبي نعيم، فإن الذي قتل بأجنادين هشام بن العاص، أخو عمرو، وأما هشام بن حكيم هذا فقد

صح أنه كان بحمص، وعياض بن غنم والٍ عليها، وذلك بعد أجنادين بمدة طويلة، وأيضًا فسماع عروة منه في الصحيح، وعروة إنما ولد بعد أجنادين" انتهى

(1)

.

(1)

"تك"جـ 30 ص 194 - 198.

ص: 143

وقال في الفتح: وليس له في البخاري رواية، وأخرج له مسلم حديثًا واحدًا مرفوعًا من رواية عروة عنه، وهذا يدلّ على أنه تأخر إلى

خلافة عثمان، وعلي، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر، أو عمر. انتهى

(1)

.

روى له مسلم، وأبو داود، والنسائي

(2)

، حديثًا واحدًا، أخرجوه من طريق ابن وهب، عن يونس بن يزيد، من ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، أن هشام بن حكيم وجد رجلًا على حمص، يُشَمِّس ناسًا من النبط في أداء الجزية، قال هشام: يا هذا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا"

(3)

.

(يقرأ سورة الفرقان) قال الحافظ رحمه الله: كذا للجميع، وكذا في سائر طرق الحديث في المسانيد والجوامع، وذكر بعض الشراح أنه وقع عند الخطيب في "المبهمات" سورة الأحزاب بدل الفرقان، وهو غلط من النسخة التي وقف عليها، فإن الذي في كتاب الخطيب. "الفرقان"، كما في رواية غيره.

(فقرأ فيها حروفًا) أي وجوهًا من القراءة. قال ابن منظور رحمه الله: وكل كلمة تقرأ على الوجوه من القرآن تسمى حرفًا، تقول: هذا

(1)

فتح جـ 10 ص 30.

(2)

مسلم 8/ 32. وأبو داود رقم 3045. والنسائي في السير من الكبرى رقم 8771.

(3)

"تك" جـ 30 ص 194 - 198.

ص: 144

في حرف ابن مسعود، أي في قراءة ابن مسعود. وقال ابن سيِدَهْ: والحرف القراءة التي تقرأ على أوجه. انتهى

(1)

.

(لم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها) أي تلك الحروف التي قرأها هشام، وفي رواية البخاري، وهي الرواية الآتية للمصنف -938 - من رواية المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد، كلاهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:"سمعت هشام بن حكيم يقرأ "سورة الفرقان" في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم".

تنبيه:

قال الحافظ رحمه الله: لم أقف في شيء من طرق حديث عمر رضي الله عنه على تعيين تلك الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان. انتهى

(2)

.

(قلت: من أقرأك هذه السورة؟، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله فاعل لفعل مقدر، دلّ عليه السؤال. كما قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":

وَيَرْفَعُ الْفَاعِلَ فِعْلٌ أُضْمِرَا

كَمِثلِ "زَيْدٌ" فِى جَوَابِ مَنْ قَرَا

(قلت: كذبت) فيه إطلاق الكذب على غلبة الظن، أو المراد

(1)

لسان العرب جـ 2 ص 837.

(2)

جـ 10 ص 39.

ص: 145

بقوله: كذبت: أخطأت، لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ. قاله في "الفتح".

(ما هكذا) وفي نسخة: "ما كذاك"(أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا أطلق عمر الردّ على هشام رضي الله عنهما بنفي إقراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، استدلالًا على ذلك بكونه صلى الله عليه وسلم أقرأه إياها على خلاف قراءته، كما صرح بذلك في الرواية -938 - حيثما قال:"فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أقرأني هده السورة التي سمعتك تقرؤها. . .".

وإنما ساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام، وسابقته، بخلاف هشام، فإنه كان قريب العهد بالإسلام، فخشي عمر من ذلك أن لا يكون أتقن القراءة. بخلاف نفسه، فإنه كان أتقن ما سمع.

وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديمًا، ثم لم يسمع ما نزل فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشامًا من مسلمة الفتح، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيرًا، فنشأ اختلافهما من ذلك، ومبادرةُ عمر للإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث. "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، إلا في هذه الواقعة. أفاده في "الفتح"

(1)

.

(فأخذت بيده، أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) جملة "أقوده" في محل نصب على الحال من فاعل "أخذ".

(1)

فتح جـ 10 ص 31.

ص: 146

وفي رواية البخاري، وهي الرواية الآتية للمصنف -938 - "فَكِدتُ أسَاوره في الصلاة، فتصبرت حتى سَلَّمَ، فلبّبْته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكأنه لَمَّا لببه بردائه -كما تدل هذه الرواية- صار يجره به، فلهذا صار قائدًا له، ولولا ذلك لكان يسوقه، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إليه:"أرسله".

(فقلت: يا رسول الله انك أقرأتني سورة الفرقان، وإِني سمعت هذا) يريد هشام بن حكيم (يقرأ فيها حروفًا) أي كلمات (لم تكن أقرأتنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ) بوصل الهمزة، لأنه ثلاثي، من قرأ يقرأ، كفتح يفتح (يا هشام) وفي الرواية الآتية:"أرسِلْه يا عمر، اقرأ يا هشام"، وإنما أمره بالإرسال، لكونه أتى به مُلَبَّبًا لئلا يتفلت عليه، فأمره بإرساله، ليتمكن من القراءة (فقرأ) هشام (كما كان يقرأ) أي مثل القراءة التي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت) أي أنزلها الله علي مثل ما قرأها هشام (ثم قال) صلى الله عليه وسلم (اقرأ يا عمر، فقرأت) أي قال عمر رضي الله عنه: فقرأت مثل ما أقرأني رسول الله عَيَط (فقال) صلى الله عليه وسلم (هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف")

ص: 147

قيل. المراد بالأحرف السبعة تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام وعمر بلسان قريش ومع ذلك فقد اختلفت قراءتهما، كما نبه عليه ابن عبد البر، ونقله عن أكثر أهل العلم. وسيأتي بيان الاختلاف في معنى الأحرف السبعة في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

وهذا الكلام -أعني قوله: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"- قاله النبي صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر رضي الله عنه، لئلا ينكر تصويب الشيئين المختلفين.

وقد وقع عند الطبري من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، عن جده، قال. "قرأ رجل، فَغيَّرَ عليه عمر، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل. ألم تقرئني يا رسول الله؟ قال: "بلى"، قال: فوقع في صدر عمر شيء عرفه النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، قال: فضرب في صدره، وقال: "أبعد شيطانًا"، قالها ثلاثًا، ثم قال: "يا عمر، القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابًا، أو عذابًا رحمة".

ومن طريق ابن عمر: "سمع عمر رجلًا يقرأ"، فذكر نحوه، ولم يذكر:"فوقع في صدر عمر"، لكن قال في آخره:"أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كافٍ شافٍ".

ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام:

منها: لأبَي بن كعب مع ابن مسعود رضي الله عنهما في سورة

ص: 148

النحل، وسيأتي للمصنف في -940 - .

ومنها: ما أخرجه أحمد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو:"أن رجلًا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأيّ ذلك قرأتم أصبتم، فلا تُمارُوا فيه". قال الحافظ: إسناده حسن.

ولأحمد أيضًا، وأبي عبيد، والطبري من حديث أبي جهم بن الصمة:"إن رجلين اختلفا في آية من القرآن، كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر نحو حديث عمرو بن العاص.

وللطبري والطبراني عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال:"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد، وأقرأنيها أبيّ بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ إلى جنبه- فقال علي: ليقرأ كل إنسان منكم كما عُلِّمَ، فإنه حسن جميل".

ولابن حبان، والحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من آل حم، فَرُحتُ إلى المسجد، فقلت لرجل: اقرأها، فإذا هو يقرأ حروفًا ما أقرؤها، فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه، فتغير وجهه، وقال: "إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف"، ثم أسرّ إلى علي شيئًا، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما عُلِّمَ، قال:

ص: 149

فانطلقنا، وكل رجل منّا يقرأ حروفًا، لا يقرؤها صاحبه".

وللبخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقرأ آيةً، سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها، قال: فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"كلاكما حسن، فاقرآ"، قال شعبة: أكبر علمي قال: "فإن من كان قبلكم اختلفوا، فأهلكهم"

(1)

. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -37/ 936 - و "الكبرى" -37/ 1008 - عن نصر بن علي، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، عنه. و-937 - و"الكبرى" -1009 - وفي "فضائل القرآن" -798 - عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، وفي "التفسير" -11366 - عن محمد بن سلمة، كلاهما عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عَبْدٍ القاريِّ، عنه.

(1)

راجع فتح الباري جـ 10 ص 31 - 32.

ص: 150

وفي 938 - و"الكبرى" 1000 - عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد- كلاهما عن الزهري، عن عروة عن المسور ابن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد القاريّ، كلاهما عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه.

أخرجه البخاري في "فضائل القرآن" عن سعيد بن عفير، وفي "التوحيد" عن يحيى بن يحيى:، كلاهما عن الليث بن سعد، عن عقيل- وفي "استتابة المرتدين" تعليقًا عن الليث، عن يونس- وفي "فضائل القرآن" أيضًا عن أبي اليمان، عن شعيب- وفي "الإشخاص" من عبد الله بن يوسف، عن مالك- أربعتهم من الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبدٍ، كلاهما عن عمرء ولم يذكر مالك المسور، وذكره الباقون.

ومسلم في "الصلاة" من يحيى بن يحيى، عن مالك به. وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس به. وعن إسحاق بن

إبراهيم، وعبد بن حُميد، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة عنهما به.

وأبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك به.

والترمذي في "القراءة" عن الحسن بن علي الخَلال، وغير واحد، كلهم عن عبد الرزاق به.

ص: 151

وقال: صحيح.

وأخرجه مالك في "الموطأ" ص 142. أحمد 1/ 24، 40، 42، 43، 263. وابن حبان في "صحيحه" جـ 3 ص 16 رقم 741. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعليم أصحابه كتاب الله تعالى كما أمره بالتبليغ.

ومنها: بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من الصَّلابَةِ في الدين، فقد كاد يقطع الصلاة على هشام لشدة غضبه عليه كما يأتي في الرواية التالية قوله:"فكدت أن أعجل عليه" إلخ.

ومنها: جواز تلبيب المجرم إذا خيف أن يفلت.

ومنها: جواز إطلاق الكذب على الخطأ.

ومنها: بيان تسهيل الله تعالى على هذه الأمة إكرامًا لنبيها صلى الله عليه وسلم حيث أرسله رحمة للعالين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فأنزل الله تعالى القرآن على سبعة أحرف، حتى لا تتضايق على حرف واحد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في المراد بالأحرف السبعة:

ص: 152

قال العلامة أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في مقدمة تفسيره:

قد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولًا، ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي، نذكر منها في هذا

الكتاب خمسة أقوال:

الأول: وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، كسفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، والطبرى، والطحاوي، وغيرهم: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو أقْبِلْ، وتَعَالَ، وهَلُمَّ، قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة، قال:"جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اقْرأ على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ إلى سبعة أحرف، فقال: اقرأ، فكلٌّ شافٍ كافٍ، إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة"؛ على نحو "هلُمَّ"، و"تعال"، و"أقبل"، و"اذهب"، و"أسرع"، و"عجِّلْ".

وروى وَرْقَاء، عن ابن أبي نجيح، من مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ:{لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد: 13]:

للذين آمنوا أمهلونا، للذين آمنوا أخرونا، للذين آمنوا ارقُبُونا.

وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 120]: مرُّوا فيه، سعوا فيه.

ص: 153

وفي البخاري، ومسلم: قال الزهري: إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال، ولا حرام.

قال الطحاوي رحمه الله: إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، لأنهم كانوا أميين، لا يكتب إلا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ، إذ كان المعنى متفقًا، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوا بخلافها.

قال ابن عبد البر رحمه الله: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك

الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الطحاوي، وابن عبد البر رحمهما الله تعالى يستلزم النسخ لحديث: "أنزل القرآن على سبعة

أحرف". وفيه نظر لا يخفى. والله تعالى أعلم.

روى أبو داود عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبي إني أقرِئت القرآن، فقيل لي: على حرف، أو حرفين؟، فقال الملك الذي معي: قل: على حرفين، فقيل لي: على

ص: 154

حرفين، أو ثلاثة؟، فقال الملك الذي معي. قل: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال. ليس منها إلا شاف، كاف، إن قلت: سميعًا عليمًا، عزيزًا حكيمًا، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب". حديث صحيح.

وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من كلام ابن مسعود رضي الله عنه نحوه.

قال القاضي ابن الطيب رحمه الله

(1)

. وإذا ثبتت هذه الرواية -يريد حديث أبَيّ- حمل على أن هذا كان مطلقًا، ثم نسخ فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسمًا لله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف.

قال الجامع عفا الله عنه: دعواه النسخ غير صحيح، بل الذي دل عليه هذا الحديث أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرئ أمته على سبعة أحرف، ووسع عليه أن يبدل اسمًا باسم آخر، وأما غيره فلا يجوز له أن يبدل اسمًا باسم آخر، وإن كان بمعناه، إلا إذا كان ذلك التبديل منقولًا عنه صلى الله عليه وسلم، فإذا أقرأ صحابيًا "سميعًا عليمًا"، وأقرأ آخر "عزيزًا حكيمًا"، جازت القراءة بهذا وبهذا. والله تعالى أعلم.

القول الثاني: قال قوم: هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها، يمنها، ونِزَارِها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئًا منها،

(1)

هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر ابن القاضي أبو بكر الباقلاني.

ص: 155

وكان قد أوتي جوامع الكلم، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن.

قال الخطابي رحمه الله. على أن في القرآن ما قد قرئ بسبعة أوجه، وهو قوله:{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]، وقوله:{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] وذكر وجوهًا، كأنه يذهب إلى أن بعضه أنزل على سبعة أحرف، لا كله.

وإلى هذا القول -بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف، على سبع لغات- ذهب أبو عبيد، القاسم بن سلام، واختاره ابن عطية، قال

أبو عبيد: وبعض الأحياء أسعد بها، وأكثر حظًا فيها من بعض.

وذكر حديث ابن شهاب، عن أنس أن عثمان رضي الله عنهما، قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم أنتم وزيد، فاكتبوه بلغة قريش، فإنه نزل بلغتهم. ذكره البخاري رحمه الله تعالى.

وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين، كعب قريش، وكعب خُزَأعَة، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الدار واحدة. قال أبو عبيد: يعني أن خزاعة جيران قريش، فأخذوا بلغتهم.

قال القاضي ابن الطيب رحمه الله: معنى قول عثمان رضي الله عنه: فإنه نزل بلسان قريش، يريد معظمه وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة

ص: 156

على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش فقط، إذ فيه كلمات، وحروف هي خلاف قريش، وقد قال الله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]، ولم يقل: قرشيًا، وهذ يدل على أنه منزل بجميع لسان العرب، وليس لأحد أن يقول. إنه أراد قريشًا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول: أراد لغة عدنان، دون قحطان، أو ربيعة، دون مضر، لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولًا واحدًا.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: قول من قال: إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي في الأغلب، والله أعلم، لأن غير لغة قريش

موجودة في صحيح القراءات، من تحقيق الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز.

وقال ابن عطية: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، أي فيه عبارة عن سبع قبائل، بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك، بحسب الأفصح والأوجز في اللفظ.

ألا ترى أن "فطر" معناه عند غير قريش: ابتدأ خلق الشيء، وعمله، فجاءت في القرآن، فلم تَتَّجهْ لابن عباس، حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:1].

وقال أيضًا: ما كنت أدري معنى قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ

ص: 157

قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتِحْك؛ أي أحاكمك.

وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان لا يفهم معنى قوله تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]: أي على تنقص لهم.

وكذلك اتفق لقطبة بن مالك رضي الله عنه، إذ سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق:10]. ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر. إلى غير ذلك من الأمثلة.

القول الثالث: أن هذه اللغات السبع إنما تكون في مضر. قاله قوم. واحتجوا بقول عثمان رضي الله عنه: نزل القرآن بلغه مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتيم، ومنها لضبة، ومنها لقيس. قالوا: هذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود يحب أن يكون الذين يكتمون المصاحف من مضر.

وأنكر آخرون أن تكون كلها من مضر، وقالوا: في مضر شواذّ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها، مثل كَشْكَشَة قيس، وتَمْتَمَة تميم، فأما كشكشة قيس، فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينًا، فيقولون في {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] جعل ربش تحتش سريا، وأما تمتمة تميم، فيقولون في الناس: النات، وفي أكياس: أكيات. قالوا: وهذه لغات يرغب عن القرآن بها، ولا يحفظ عن السلف فيها شيء.

ص: 158

وقال آخرون: أما إبدال الهمزة عينًا، وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض، فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ به الجِلَّةُ، واحتجوا بقراءة ابن مسعود:"ليسجننه عَتَّى حين"، دْكرها أبو داوَد، وبقول ذي الرُّمَّة [من الطويل]:

فَعَينَاك عَينَاهَا وَجِيدُكِ جيِدُهَا

وَلَوْنُكِ إِلا عَنَّهَا غَيرُ طَائِلِ

يريد "لا أنها".

القول الرابع: ما حكاه صاحب "الدلائل" عن بعض العلماء، وحكى نحوه القاضي بن الطيب، قال: تدبرت وجوه الاختلاف في

القراءة، فوجدتها سبعًا:

منها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه، ولا صورته، مثل:{هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] و"أطْهَرَ"، و {وَيَضِيقُ صَدْرِي} [الشعراء: 13] و"يُضيق".

ومنها: ما لا تتغير صورته، ويتغير معناه با لإعراب، مثل:{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19]، و"رَبُّنَا بَاعَدَ".

ومنها: ما تبقى صورته، ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل قوله:{نُنشِزُهَا} [البقرة: 259]، و"ننشُرُها".

ومنها: ما تتغير صورته، ويبقى معناه: مثل: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] ، و"كالصوف المنفوش".

ومنها: ما تتغير صورته، ومعناه، مثل:{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:

ص: 159

29]، "وطلع منضود".

ومنها: بالتقديم والتأخير، كقوله:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19]، "وجاءت سكرة الحق بالموت".

ومنها: بالزيادة والنقصان، مثل قوله:"تسع وتسعون نعجة أنثى"، وقوله:"وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين"، وقوله:"فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم".

القول الخامس: إن المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى، وهي أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة، وأمثال.

قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن هذا لا يسمى أحرفًا، وأيضًا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حلال، ولا في تغيير شيء من المعاني.

وذكر القاضى ابن الطيب في هذا المعنى حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ولكن ليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، ومنه قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11]، فكدْلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق، من تحليل، وتحريم، وغير ذلك.

وقد قيل: إن المراد بقوله عليه السلام: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" -القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة، لأنها كلها صحت

ص: 160

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بشيء، لظهور بطلانه. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى ببعض تصرف

(1)

.

وقد طول الكلام في تحقيق هذه المسألة الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "فتحه"، أحببت إيراده هنا لكونه مكملًا لما نقلته من القرطبي، وشارحًا له:

قال رحمه الله عند قول البخاري رحمه الله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَهُ} [المزمِّل: 25]: أي من المنزل، وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وأنه تيسير على القارئ، وهذا يقوّي قول من قال: المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام بلسان قريش، وكذلك عمر، ومع ذلك فقد اختلفت قراءتهما. نبه على ذلك ابن عبد البر، ونقل عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة.

وذهب أبو عبيد، وآخرون إلى أن المراد اختلاف اللغات، وهو اختيار ابن عطية.

وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة. وأجيب بأن المراد أفصحها، فجاء عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن على

سبع لغات: منها خمس بلغة العجز من هوازن، قال: والعجز: سعد

(1)

جامع آحكام القرآن جـ 1 ص 42 - 46.

ص: 161

ابن بكر، وجثيم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن، ويقال لهم: عليا هوزان، ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم. يعني بني دارم.

وأخرج أبو عبيد من وجه آخر، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين، كعب قريش، وكعب خزاعة. قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة. يعَني أن خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم.

وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر. واستنكره ابن قتيبة، واحتج بقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، فعلى هذا فتكون اللغات السبع في بطون قريش. وبذلك جزم أبو علي الأهوازي.

وقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع متفرقة فيه، فبعضه للغة قريش، وبعضه بلغة هذيل،

وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وغيرهم. قال: وبعض اللغات أسعد بها من بعض، وأكثر نصيبًا.

وقيل: نزل بلغة مضر خاصة، لقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر. وعيّن بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم: هذيل،

وكنانة، وقيس، وضَبَّة، وتيم الرباب، وأسد خزيمة، وقريش، فهذه

ص: 162

قبائل مضر، تستوعب سبع لغات.

ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أوّلًا بلسان قريش، ومن جاورهم من العرب الفصحاء، تم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة، ولِمَا كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيلِ فهمِ المرادِ، كل ذلك مع اتفاق المعنى، وعلى هذا يتنزل اختلافهم في القراءة، كما تقدم، وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلًا منهم.

قال الحافظ: وتَتِمَّةُ ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي أن كل أحَد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعى في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى ذلك قول كلٍّ من عمر وهشام في حديث الباب: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف، ولو لم يكن مسموعًا له، ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود قراءته "عتى حين" أي "حتى حين"، وكتب إليه:"إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس لغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل"، وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة.

قال ابن عبد البر بعد أن أخرجه من طريق أبي داود بسنده: يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار، لا أن الذي قرأ به ابن

مسعود لا يجوز، قال: وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز

ص: 163

الاختيار فيما أنزل.

قال أبو شامة: ويحتمل أن يكون مراد عمر، ثم عثمان بقولهما:"نزل بلسان قريش" أن ذلك كان أول نزوله، ثم إن الله تعالى سهله على الناس، فجوز لهم أن يقرؤوه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب، ليكون بلسان عربي مبين، فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش، لأنه الأولى.

وعلى هذا يحمل ما كتب له عمر إلى ابن مسعود لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذًا لابد من واحدة، فلتكن بلغة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما العربي المجبول على لغته، فلو كلف قراءته بلغة قريش لعسر عليه التحول مع إباحة الله له أن يقرأ بلغته، ويشير إلى هذا قوله في حديث أبيّ رضي الله عنه كما تقدم "هون على أمتي"، وقوله:"إن أمتي لا تطيق ذلك". وكأنه انتهى عند السبع لعلمه أنه لا تحتاج لفظة من ألفاظه إلى أكثر من ذلك العدد غالبًا، وليس المراد كما تقدم أن كل لفظة منه تقرأ منه على سبعة أوجه.

قال ابن عبد البر رحمه الله: وهذا مجمع عليه، بل هو غير ممكن، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأعلى سبعة أوجه، إلا الشيء القليل، مثل {عَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60].

وقد أنكر ابن قتيبة أن يكون في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه. ورَدَّ عليه ابنُ الأنباري بمثل {عَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]، {فَلَا تَقُلْ

ص: 164

لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، و {جِبْرِيل} [البقرة: 98].

ويدلّ على ما قرره أنه أنزل أوّلًا بلسان قريش، ثم سهل على الأمة أن يقرؤوه بغير لسان قريش، وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام، فقد ثبت أن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة، كما تقدم في حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه:"أن جبريل لقي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عند أضَاة بني غِفَار، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرِئ أمتك القرآن على حرف، فقال أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك"

الحديث. أخرجه مسلم

(1)

.

وحاصل ما ذهب إليه هؤلاء أن معنى قوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، أي أنزل موسعًا على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه، أي يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه، كأنه قال: أنزل على هذا الشرط، أو على هذه التوسعة، وذلك لتسهيل قراءته، إذ لو أخذوا بأن يقرؤوه على حرف واحد لشق عليهم، كما تقدم.

قال ابن قتيبة رحمه الله في أول تفسير المشكل له: كان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُقرئ كل قوم بلغتهم، فالهذلي يقرأ "عَتَّى حين" يريد "حتى حين"، والأسدي يقرأ "تعلَمون" بكسر أوله، والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، قال: ولو أراد كل فريق منهم أن يزول عن لغته، وما جرى عليه لسانه طفلًا وناشئًا وكهلًا؛ لشق عليه

(1)

وهو الحديث الآتي للمصنف في هذا الباب رقم 939.

ص: 165

غاية المشقة، فيسر عليهم ذلك بمنه، ولو كان المراد أن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه، لقال مثلًا: أثزل سبعة أحرف، وإنما المراد أن يأتي في الكلمة وجه، أو وجهان، أو ثلاثة، أو أكثر إلى سبعة.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: أنكو أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات، لا تقدم من اختلاف هشام وعمر، ولغتهما واحدة، قالوا: وإنما المعنى سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو "أقبل"، و"تعال"، و"هلم"، ثم ساق الأحاديث الماضية الدالة على ذلك.

قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد بالأحرف تغاير الألفاظ، مع اتفاق المعنى، مع انحصار ذلك في سبع لغات.

لكن لاختلاف القولين فائدة أخرى، وهي ما نبه عليه أبو عمرو الداني أن الأحرف السبعة ليست متفرقة في القرآن كلها، ولا موجودة فيه في ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية واحدة، فإنما قرأ ببعض الأحرف السبعة، لا بكلها، وهذا إنما يأتي على القول بأن المراد بالأحرف اللغات، وأما قول من يقول بالقول الآخر، فيتأتى ذلك في ختمة واحدة بلا ريب، بل يمكن على ذلك القول أن تحصل الأوجه السبعة في بعض القرآن، كما تقدم.

وقد حمل ابن قتيبة وغيره العدد المذكور على الوجوه التي يقع بها

ص: 166

التغاير في سبعة أشياء:

الأول: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه، ولا صورته، مثل:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] بنصب الراء، ورفعها.

الثاني: ما يتغير بتغير الفعل، مثل:{بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19]، و {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} بصيغة الطلب، والفعل الماضي.

الثالث: ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة، مثل:{ننشرها} [البقرة: 259] بالراء والزاي.

الرابع: ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر، مثل:{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] في قراءة علي: و"طلع منضود".

الخامس: ما يتغير بالتقديم والتأخير، مثل:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19] في قراءة أبي بكر الصديق، وطلحة بن مصرف، وزين العابدين:"وجاءت سكرة الحق بالموت".

السادس: ما يتغير بزيادة، أو نقصان، مِثالُ الزيادة ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما "وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك منهم المخلصين"، ومِثالُ النقص، قراءة ابن مسعود، وأبي الدرداء رضي الله عنهما:"والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى".

السابع: ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها، مثل {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] في قراءة ابن مسعود، وسعيد بن جبير،

ص: 167

"كالصوف المنفوش".

وهذا وجه حسن، لكن استبعده قاسم بن ثابت في "الدلائل" لكون الرخصة في القراءات إنما وقعت، وأكثرُهم يومئذ لا يكتب، ولا يعرف الرسم، وإنما كانوا يعرفون الحروف بمخارجها. قال: وأما ما وجد من الحروف المتباينة المخرج المتفقة الصورة، مثل {نُنشِرُهَا} ، و {نُنشِزُهَا} [البقرة: 259]، فإن السبب في ذلك تقارب معانيها، واتفق تشابه صورتها في الخط.

قال الحافظ: ولا يلزم من ذلك توهين ما ذهب إليه ابن قتيبة، لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقًا، وإنما اطلع

عليه بالاستقراء، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يخفى.

وقال أبو الفضل الرازي رحمه الله. الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف:

الأول: اختلاف الأسماء، من إفراد، وتثنية، وجمع، أو تذكير وتأنيث.

الثاني: اختلاف تصريف الأفعال، من ماض، ومضارع، وأمر.

الثالث: وجوه الإعراب.

الرابع: النقص والزيادة.

الخامس: التقديم والتأخير.

ص: 168

السادس: الإبدال.

السابع: اختلاف اللغات، كالفتح، والإمالة، والترقيق، والتفخيم، والإدغام، والإظهار، ونحو ذلك.

قال الحافظ: وقد أخذ كلام ابن قتيبة، ونقّحه.

وذهب قوم إلى أن السبعة الأحرف سبعة أصناف من الكلام. واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب، على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به، كل من عند ربنا". أخرجه أبو عبيد، وغيره.

قال ابن عبد البر رحمه الله: هذا حديث لا يثبت، لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، ولم يَلْقَ ابنَ مسعود. وقد رده قوم من أهل النظر، منهم أبو جعفر أحمد بن أبي عمران.

قال الحافظ: وأطنب الطبري في مقدمة تفسيره في الردّ على من قال به. وحاصله: أنه يستحيل أن يجتمع في الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة. وقد صحح الحديث المذكور ابن حبان، والحاكم، وفي تصحيحه نظر، لانقطاعه بين أبي سلمة وأبن مسعود.

ص: 169

وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر، عن الزهري، عن أبي سلمة مرسلًا، وقال: هذا مرسل جيّد. ثم قال: إن صح فمعنى قوله في هذا

الحديث: "سبعة أحرف"، أي سبعة أوجه، كما فسرت في الحديث، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى، لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهرة في أن المراد أن الكلمة الوأحدة تقرأ على وجهين، وثلاثة، وأربعة إلى سبعة، تهوينًا وتيسيوًا، والشيء الواحد لا يكون حرامًا وحلالًا في حالة واحدة.

وقال أبو علي الأهوازي، وأبو العلاء الهمداني: قوله: "زاجر، وآمر" استئناف كلام آخر، أي هو زاجر، أي القرآن، ولم يُرَدْ به تفسيرُ الأحرف السبعة، وإنما تَوَهَّمَ ذلك مَنْ توهمه من جهة الاتفاق في العدد. ويؤيده أنه جاء في بعض طوقه، "زاجرًا، وآمرًا" إلخ بالنصب، أي نزل على هذه الصفة من الأبواب السبعة.

وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب، لا للأحرف، أي هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، وأنزله الله

على هذه الأصناف، لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب.

قال الحافظ رحمه الله: ومما يوضح أن قوله: "زاجر، وآمر" إلخ

ص: 170

ليس تفسيرًا للأحرف السبعة ما وقع في مسلم

(1)

من طريق يونس، عن ابن شهاب عقب حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن شهاب: بلغني أن تلك الأحرف السبعة إنما هي في الأمر الذي يكون واحدًا، لا يختلف في حلال، ولا حرام. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى ببعض تصرف

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخص مما تقدم مما ساقه الحافظ رحمه الله تعالى من كلام هؤلاء الأئمة الأعلام رحمهم الله أن الراجح هو قول من قال: إن المراد بالأحرف السبعة في حديث الباب هي أوجه القراءة التي تُؤَدَّى بها المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، وقد يكون ذلك في لغة واحدة، كما وقع لعمر وهشام بن حكيم رضي الله عنهما، فإنهما قرشيان.

وأما بقية الأقوال فلا تخلو من ضعف، وأضعفها قول من قال: إنه من المتشابه الذي لا يعرف معناه، كما اختاره السيوطي في شرحه لهذا الكتاب، فإنه من المحال أن يكون القرآن نزل على سبعة أحرف، ويؤمر الناس أن يقرؤوه على تلك الأحرف، ولا يدرون ما هي الأحرف؟ هذا من أغرب المحال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

هو ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريل عليه السلام على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده، فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف". راجع مسلم بشرح النووي جـ 6 ص 101.

(2)

فتح جـ 10 ص 32 - 36.

ص: 171

المسألة السادسة: في اختلاف العلماء هل الأحرف الأحرف المذكورة في الحديث مجموعة في المصحف الموجود اليومَ، أم لا؟:

قد جمع الحافظ رحمه الله في "فتحه" أقوال أهل العلم في هذه المسألة، واستوفاها، ملخصة، فأحببت إيرادها هنا لغزارة فوائدها،

وكثرة عوائدها، قال رحمه الله تعالى: قال أبو شامة رحمه الله: وقد اختلف الناس في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، هل هي

مجموعة في المصحف الذى بأيدي الناس اليوم، أو ليس فيه إلا حرف واحد منها؟

مال الباقلاني إلى الأول، وصرح الطبري وجماعة بالثاني، وهو المعتمد.

وقد أخرج ابن أبي داود في "المصاحف" عن أبي الطاهر بن أبي السرح، قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين، والعراقيين، هل هي الأحرف السبعة؟، قال. لا، وإنما الأحرف السبعة مثل "هَلُمَّ"، و"تعالَ"، و"أقبل"، أيّ ذلك قلت أجزأك. قال: وقال لي ابن وهب مثله.

والحق أن الذي جُمِعَ في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه من الأحرف السبعة، لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} [التوبة:

ص: 172

100] في آخر براءة، وفي غيره بحذف "من"، وكذا وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاآت، وعدة لامات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معًا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصًا واحدًا، وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءة مما لا يوافق الرسم، فهو مما كانت القراءة جوزت له توسعة على الناس وتسهيلًا، فلما آل الحال إلى ما وقغ من الاختلاف في زمن عثمان، وكَفَّر بعضهم بعضًا اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته، وتركوا الباقي.

قال الطبري رحمه الله: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار، كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة، لأن أمرهم

بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب، بل على سبيل الرخصة.

قال الحافظ رحمه الله: ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: "فاقرؤوا ما تيسر منه".

وقد قررالطبري ذلك تقريرًا أطنب فيه، ووَهَّى من قال بخلافه، ووافقه على ذلك جماعة، منهم أبو العباس بن عمار في "شرح

الهداية"، وقال: أصح ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها، لا كلها.

وضابطه: ما وافق رسم المصحف، فأما ما خالفه، مثل "أن تبتغوا

ص: 173

فضلًا من ربكم في مواسم الحج"، ومثل "إذا جاء فتح الله والنصر"، فهو من تلك القراءات التي تركت، إن صح السند بها، ولا يكفي صحة سندها في إثبات كونها قرآنًا، ولا سيما والكثير منها مما يحتمل أن يكون من التأويل الذي قرن إلى التنزيل، فصار يظن أنه منه.

وقال البغوي رحمه الله في "شرح السنة": المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عثمان بنسخه في المصاحف، وجَمَعَ الناس عليه، وأذهَبَ ما سوى ذلك قطعًا لمادة الخلاف، فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع، كسائر ما نسخ ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم.

وقال أبو شامة رحمه الله: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديتا، وهو خلاف إجماع أهل العلم

قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل.

وقال ابن عمار أيضًا: لقد فعل مسبِّعُ هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة، أو زاد ليزيل الشبهة، ووقع له أيضًا في اقتصاره عن كل إمام على راويين أنه صار من سمع قراءة راوٍ ثالثٍ غيرهما أبطلها، وقد تكون هي أشهر، وأصح، وأظهر، وربما بالغ لا يفهم، فخطأ، أو كفر.

ص: 174

وقال أبو بكر ابن العربي رحمه الله: ليست هذه السبعة متعينة للجواز، حتى لا يجوز غيرها، كقراءة أبي جعفر، وشيبة، والأعمش،

ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم، أو فوقهم.

وكذا قال غير واحد: منهم مكي بن أبي طالب، وأبو العلاء الهمداني، وغيرهم من أئمة القراء.

وقال أبو حيان: ليس في كتاب ابن مجاهد، ومن تبعه من القراءات المشهورة إلا النزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه

سبعة عشر راويًا، ثم ساق أسماءهم، واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي، واشتهر عن اليزيدي عشرة أنفس، فكيف يقتصر على السُّوسي، والدُّوري، وليس لهما مزية على غيرهما، لأن الجميع مشتركون في الضبط، والإتقان، والاشتراك في الأخذ، قال: ولا

أعرف لهذا سببًا إلا ما قُضِيَ من نقص العلم، فاقتصر هؤلاء على السبعة، ثم اقتصر من بعدهم من السبعة على النزر اليسير.

وقال أبو شامة رحمه الله: لم يُرد ابن مجاهد ما نسب إليه، بل أخطأ من نسب إليه ذلك.

وقد بالغ أبو طاهر ابن أبي هاشم صاحبه في الرد على من نسب إليه أدت مراده بالقراءات السبع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، قال ابن أبي هاشم: إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها، أدت الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه

ص: 175

أهل تلك الجهات، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، قال: فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعًا عن الصحابة شرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط، امتثالًا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار، مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة.

وقال مكي بن أبي طالب رحمه الله: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم، وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ثم ساق نحو ما تقدم، قال: وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء، كنافع، وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث، فقد غلط غلطًا عظيمًا. قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهِم، ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين- كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاشم السجستاني، وأبي جعفر الطبري، وإسماعيل بن إسحاق القاضي- قد ذكروا أضعاف هؤلاء.

قال الحافظ رحمه الله: قلت: اقتصر أبو عبيدة في كتابه على خمسة عشر رجلًا، من كل مصر ثلاثة أنفس: فدكر من مكة ابنَ كثير،

وابن محيصن، وحميدًا الأعرج. ومن أهل المدينة أبا جعفر، وشيبة، ونافعًا، ومن أهل البصرة أبا عمرو، وعيسى بن عمر، وعبد الله بن أبي

ص: 176

إسحاق. ومن أهل الكوفة يحيى بن وَثّاب، وعاصمًا، والأعمش. ومن أهل الشام عبد الله بن عامر، ويحيى بن الحارث، قال: وذهب عني اسم الثالث، ولم يذكر في الكوفيين حمزة، ولا الكسائي، بل قال: إن جمهور أهل الكوفة بعد الثلاثة صاروا إلى قراءة حمزة، ولم يجتمع عليه جماعتهم، قال: وأما الكسائي، فكان يتخير القراءات، فأخذ من قراءة الكوفيين بعضًا، وترك بعضًا، وقال بعد أن ساق أسماء من نقلت عنه القراءة من الصحابة والتابعين: فهؤلاء هم الذين يُحكَى عنهم عُظْمُ القراءة، وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث، قال: ثم قام بعدهم بالقراءات قوم ليست لهم أسنانهم، ولا تقدمهم، غير أنهم تجردوا للقراءة، واشتدت عنايتهم بها، وطلبهم لها، حتى صاروا بذلك أئمة يقتدي الناس بهم فيها، فذكرهم.

وذكر أبو حاتم زيادة على عشرين رجلًا، ولم يذكر فيهم ابن عامر، ولا حمزة، ولا الكسائي. وذكر الطبري في كتابه اثنين وعشرين رجلًا.

قال مكي: وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو، ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة، وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمروا على ذلك، فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي، وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراء من هو أجلّ منهم قدرًا، ومثلهم أكثر من

ص: 177

عددهم- أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرين جدًا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة له، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة، والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة، والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إمامًا وحدًا، ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات، ولا القراءة له، كقراءة يعقوب، وعاصم الجحدري، وأبي جعفر، وشيبة، وغيرهم.

قال: وممن اختار من القراءات كما اختار الكسائي أبو عبيد، وأبو حاتم، والمفضل، وأبو جعفر الطبري، وغيرهم، وذلك واضح في

تصانيفهم في ذلك.

وقد صنف ابن جمير المكي، وكان قبل ابن مجاهد كتابًا في القراءات، فاقتصر على خمسة اختار من كل مصر إمامًا، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار، ويقال: إنه وَجَّهَ بسبعة، هذه الخمسة، ومصحفًا إلى اليمن، ومصحفًا إلى البحرين، لكن لم نسمع لهذين المصحفين خبرًا، وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف، فاستبدلوا من غير البحرين واليمن قارئين يكمل بهما العدد، فصادف ذلك موافقة العدد الذي ورد الخبر به، وهو "أن القرآن أنزل على سمعة أحرف"، فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسألة، ولم يكن له فطنة، فظن أن المراد بالقراءات السبع

ص: 178

الأحرف السبعة، ولا سيما، وقد كثر استعمالهم الحرف في موضع القراءة، فقالوا: قرأ بحرف نافع، وبحرف ابن كثير، فتأكد الظن بذلك، وليس الأمر كما ظنه، والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أنه الذي يصح سنده في السماع، ويستقيم وجهه في العربية، ويوافق خط المصحف، وربما زاد بعضهم الاتفاق عليه، ونعني بالاتفاق كما قال مكي بن أبي طالب ما اتفق عليه قراء المدينة والكوفة، ولا سيما إذا اتفق نافع وعاصم. قال: وربما أرادوا بالاتفاق ما اتفق عليه أهل الحرمين. قال: وأصح القراءات سندًا نافع، وعاصم، وأفصحها أبو عمرو، والكسائي.

وقال ابن السمعاني في "الشافي": التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر، ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين، فانتشر رأيهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، قال: وقد صنف غيره في السبع أيضا، فذكر شيئًا كثيرًا من الروايات عنهم غير ما في كتابه، فلم يقل أحد: إنه لا تجوز القراءة بذلك لخلو ذلك المصحف عنه.

وقال أبو الفضل الرازي في "اللوائح" بعد أن ذكر الشبهة التي من أجلها ظن الأغبياء أن أحرف الأئمة السبعة هي المشار إليها في الحديث، وأن الأئمة بعد ابن مجاهد جعلوا القراءات ثمانية أو عشرة لأجل ذلك. قال: واقتفيت أثرهم لأجل ذلك، وأقول: لو اختار إمام من أئمة القراء حروفًا، وجرد طريقًا في القراءة بشرط الاختيار لم يكن ذلك خروجًا عن الأحرف السبعة".

ص: 179

وقال الكواشي: كل ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة النصوصة، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا، أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من الثلاثة، فهو الشاذ.

قال الحافظ رحمه الله: وإنما أوسعت القول في هذا لما تجدد في الأعصار المتأخرة من توهم أن القراءات المشهورة منحصرة في مثل "التيسير"، و"الشاطبية"، وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن ذلك، كأبي شامة، وأبي حيان، وآخرُ من صرح بذلك السبكي، فقال في شرح المنهاج عند الكلام على القراءة بالشاذ: صرح كثير من الفقهاء بأن ما عدا السبعة شاذّ، توهمًا منه انحصار المشهور فيها، والحق أن الخارج عن السبعة على قسمين:

الأول: ما يخالف رسم المصحف، فلا شك في أنه ليس بقرآن.

والثاني: ما لا يخالف رسم المصحف، وهو على قسمين أيضًا:

الأول: ما ورد من طريق غريبة، فهذا ملحق بالأول.

والثاني: ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديمًا وحديثًا، فهذا لا وجه للمنع منه، كقراءة يعقوب، وأبي جعفر، وغيرهما. ثم نقل كلام البغوي، وقال: هو أولى من يعتمد عليه في ذلك، فإنه فقيه محدث مقرئ. ثم قال: وهذا التفصيل بعينه وارد في الروايات عن السمعة، فإن عنهم شيئًا كثيرًا من الشواذ، وهو الذي لم يأت إلا من

ص: 180

طريق غريبة، وإن اشتهرت القراءة من ذلك المنفرد. وكذا قال أبو شامة، ونحن وإن قلنا: إن القراءة الصحيحة إليهم نسبت، وعنهم نقلت، فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف، لخروجه عن الأركان الثلاثة، ولهذا ترى كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه. انتهى ما في الفتح

(1)

.

وإلى الشروط الثلاثة المذكورة أشار المحقق ابن الجزري في "طيبة النشر" بقوله:

وَكُلّ مَا وَافَقَ وَجْهًا نَحوِي

وَكانَ لِلرَّسمِ احْتِمَالًا يَحْوِي

وصَحَّ إِسْنَادًا هُوَ الْقُرْآنُ

فَهذِهِ الثَّلَاثَةُ الأرْكَانُ

وَحَيْثُمَا يَخْتَلُّ شَرْطٌ أثْبِتِ

شُذُوذَهُ لَوْ أنَّهُ فِي السَّبْعَةِ

وقال صاحب "مراقي السعود":

وَلَيْسَ مِنْةُ مَا بِالاحادِ رُوِي

فَلِلْقرَاءَةِ بِه نَفْيٌ قَوِي

كالاحْتِجَاجِ غير مَا تَحَصَّلَا

فِيِهِ ثَلَاثَةٌ فَجَوِّزْ مُسْجَلَا

صِحَّةُ الاسْنَادِ وَوَجْهٌ عَربِي

ووَفقُ خَطِّ الأمِّ شَرْطٌ مَا أُبِيِ

مِثْلُ الثَّلَاثَةِ وَرَجَّحَ النَّظَرْ

تَوَاتُرًا لَهَا لَدَى مَنْ قَدْ غَبَرْ

تَوَاتُرُ السَّبعِ عَلَيْهِ أجْمَعُوا

وَلَمْ يَكُنْ فِي الْوَحْي حَشْوٌ يَقَعُ

وَمَا بِهِ يُعْنَى بِلَا دَلِيلِ

غَيرُ الَّذي ظَهَرَ لِلْعُقُولِ

(1)

فتح ج 10 ص 36 - 39.

ص: 181

قال الجامع عفا الله عنه: هذا خلاصة ما نقلوه، وتحقيق ما قالوه، وهو تحقيق نفيس، وبحث أنيس، لمن له رغبة في العلم، وتطلع

إلى الفهم، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

937 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ،- عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ

(1)

أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي

(2)

سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا،

(1)

وفي بعض النسخ "أنا" بدلًا من "أنْ".

(2)

وفي بعض النسخ: "أنا" بدلًا من "إني".

ص: 182

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ"، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هَكَذَا أُنْزِلَتْ"، ثُمَّ قَالَ لِي:"اقْرَأْ". فَقَرَأْتُ، فَقَالَ:"هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ".

رجال هذا الإسناد: ثمانية

كلهم تقدموا في هذا الباب، فمالك، ومَن قبله تقدموا في الحديث الثاني، ومَن بعده تقدموا في الحديث الماضي، إلا:

(عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ

(1)

) من ولد القَارَة بن الديش بن مُحَلِّم بن غالب بن أيثَع بن الهون بن خُزَيمة بن مدركة. بن إلياس بن مضر ابن نزار.

يقال: له صحبة، وقيل: بل ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: أتي به إليه، وهو صغير.

روى عن عمر، وأبي طلحة، وأبي أيوب، وأبي هريرة. وعنه ابنه محمد، والسائب بن يزيد، وهو من أقرانه، وعروة بن الزبير،

(1)

في "ت" بتشديد الياء. وفي هامش "صة" منسوب هو وابناه محمد، وإبراهيم، وأقاربه، ويعقوب بن عبد الرحمن، وغيرهم- إلى القارة قبيلة مشهورة بِجَوْدَة الرمي. ص 231.

ص: 183

والأعرج، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأحمد بن عبد الرحمن بن عوف، ويحيى بن جعدة بن هُبَيرة، والزهري.

قال ابن معين. ثقة. وقال ابن سعدة توفي بالمدينة سنة -85 - في خلافة عبد الملك، وهو ابن -78 - سنة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة -88 - وكذا أرخه ابن قانع، وابن زبر، والقَرَّاب، وزاد: وهو ابن -78 - سنة.

وقال الواقدي: له صحبة، ثم قال. كان على بيت المال زمن عمر، وهو من جِلَّةِ تابعي أهل المدينة وعلمائهم.

وأخرج البيهقي في التشهد من طريق ابن إسحاق: حدثني ابن شهاب، وهشام، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، وكان عاملًا لعمر على بيت المال. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وذكره مسلم، وابن سعد، وخليفة في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة. وروى ابن وهب عن يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عَبْد القَارِيّ، عن أبيه، قال: أتِي بعبد الله، وعبد الرحمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح على رؤوسهما، فذكر قصة، أوردها البغوي "في معجم الصحابة". أخرج له الجماعة

(1)

.

وشرح الحديث والمسائل المتعلقة به واضحة مما سبق في الحديث الماضي.

(1)

"تك" جـ 17 ص 263 - 265. "تت"جـ 6 ص 223 - 224.

ص: 184

(قوله: فكدت أن أعجل عليه) أي قاربت أن آخذه بعَجَلَة وأجُرّه في الصلاة. وكاد يفعل كذا يكاد، من باب تَعبَ: قارب الفعل. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: كدتُ أفعلُ مَعناه عند العرب قاربت الفعل، ولم أفعل، وما كِدتُ أفعل: معناه فَعَلْتُ بعد إبطاء. قال الأزهري: وهو كذلك، وشاهده قوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، معناه ذبحوها بعد إبطاء لتعذر وِجْدان البقرة عليهم، وقد يكون "ما كدتُ أفعلُ" بمعنى ما قاربت

(1)

.

وهي من الأفعال الناقصة التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ويكون خبرها غالبًا فعلًا مضارعًا، ولا يقترن غالبًا بـ"أن"، كقوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

كَكَانَ كَاد وعسَى لَكِنْ نَدَرْ

غَيْرُ مُضَارِعٍ لِهَذَينِ خَبَرْ

وكوْئهُ بِدُونِ أنْ بَعْدَ عَسى

نَزْرٌ وَكَادَ الأمرُ فيهِ عُكِسَا

ومن اقتران خبرها بـ"أن" قول الشاعر: [الخفيف]:

كَادَتِ النَّفسُ أن تَفِيضَ عَلَيْهِ

إِذْ غَدَا حَشْوَ رَيْطَةٍ وَبُرُودِ

وبعضهم خص اقترانه بالشعر، والصحيح الأول.

(وقوله: ثم لببته بردائه) لتشديد الموحدة الأولى: أي جعلت

(1)

المصباح جـ 2 ص 545.

ص: 185

رداءه في عنقه، ثم جررته، قال ابن منظور: ولَبَّبَ الرجلَ: جعل ثيابه في عنقه وصَدْرِهِ في الخصومة، ثم قبضه وجرّه، وأخذ بتلبيبه كذلك. انتهى

(1)

.

(وقوله: "فاقرؤوا ما تيسر منه") أي من المُنزَل. وفيه -كما تقدم- إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وأنه للتيسيرَ على القارئ.

واستدلّ به على جواز القراءة بكل ما ثبت من القرآن بالشروط التي تقدمت، وهي شروط لابد من اعتمارها، فمتى اختلّ شرط منها لم تكن تلك القراءة معتمدة.

وقد قرر ذلك أبو شامة في "الوجيز" تقريرًا بالغًا، وقال: لا يُقطَع بالقراءة بأنها منزلة من عند الله إلا إذا اتفقت الطرق عن ذلك الإمام الذي قام بإمامة المصر بالقراءة، وأجمع أهل عصره، ومن بعدهم على إمامته في ذلك، قال: أما إذا اختلفت الطرق عنه فلا، فلو اشتملت الآية الواحدة على قراءة مختلفة مع وجود الشرط المذكور جازت القراءة بها بشرط أن لا يختل المعنى، ولا يتغير الإعراب.

وذكر أبو شامة في "الوجيز" أن فتوى وودت من العجم لدمشق، سألوا عن قارئ يقرأ عشرًا من القرآن، فيخلط القراءات؟. فأجاب ابن الحاجب، وابن الصلاح، وغير واحد من أئمة ذلك العصر بالجواز بالشروط التي ذكرناها، كمن يقرأ مثلًا {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:

(1)

لسان العرب جـ 5 ص 3981.

ص: 186

37] فلا يقرأ لابن كثير بنصب "آدم"، ولأبي عمرو بنصب "كلمات"، وكمن يقرأ {نَغْفِرْ لَكُمْ} [الأعراف: 161] بالنون {خَطِيئَاتِكُمْ} بالرفع. قال أبو شامة: لا شك في منع مثل هذا، وما عداه فجائز. والله أعلم.

قال الحافظ: وقد شاع في زماننا من طائفة من القراء إنكار ذلك، حتى صرح بعضهم بتحريمه، فظن كثير من الفقهاء أن لهم في ذلك معَتمَدًا، فتابعوهم، وقالوا: أهل كل فنّ أدرى بفنهم، وهذا ذهول ممن قاله، فإن علم الحلال والحرام إنما يتلقى من الفقهاء، والذي منع ذلك من القراء إنما هو محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة، فإنه متى خلطها كان كاذبًا على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته، فمن أقرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى، كما قاله الشيخ محيي الدين، وذلك من الأولوية، لا على الحتم، أما المنع على الإطلاق فلا. والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله هؤلاء الأئمة رحمهم الله تعالى من جواز قراءة الآية الواحدة بالروايات المختلفة بالشروط

المذكورة هو الصواب الحقيق بالقبول، وما عداه مردود مخذول، لمخالفته للنص الصحيح المنقول:"فاقرؤوا ما تيسر منه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

938 -

أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ،

(1)

فتح جـ 10 ص 46.

ص: 187

قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ، أَخْبَرَاهُ، أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَمَّا سَلَّمَ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُهَا؟، فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: كَذَبْتَ. فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي تَقْرَؤُهَا، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ، لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ". فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَؤُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هَكَذَا أُنْزِلَتْ"، ثُمَّ قَالَ

ص: 188

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ يَا عُمَرُ". فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هَكَذَا أُنْزِلَتْ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ". رجال هذا الإسناد: ثمانية

كلهم تقدموا في الإسنادين السابقين، إلا ثلاثة:

1 -

(يونس بن عبد الأعلى) بن ميسرة الصدفي، أبو موسى المصري، ثقة، من صغار [10]، مات سنة 264، وله 96 سنة، أخرج له مسلم، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 1/ 449.

2 -

(ابن وهب) عبد الله القرشي مولاهم، أبو محمد المصري، ثقة حافظ عابد فقيه من [9]، مات سنة 197، وله 72 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 63/ 79.

3 -

(يونس بن يزيد) الأيلي، أبو يزيد، ثقة يهم قليلًا، من كبار [7]، مات سنة 159، أخرج له الجماعة، تقدم في 9/ 9،

وشرح الحديث، والمسائل المتعلقة به واضحة مما سبق.

(وقوله: فكدت أساوره) أي قاربت أواثبه، وأقاتله.

قال الفيومي رحمه الله: سارَ يَسُورَ: إذا غَضِبَ، والسَّوْرَة اسم

ص: 189

منه، والجمع سَوْرَاتٌ، بالسكون للتخفيف، وقال الزُّبَيديّ: السَّوْرة: الحِدَّة، والسَّورة البَطْش، وسار الشرابُ يَسُور سَوْرًا، وسَوْرَةً: إذا أخذ الرَأسَ، ودمسورةْ الجُوعِ والخَمْرِ: الحِدَّةُ أيضًا، ومنه الْمُسَاوَرَةُ، وفي التهذيب: والإنسان يُسَاوِر إنسانًا: إذا تناول رأسه، ومعناه المغالبة. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

939 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ، وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي

(2)

لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ، قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ

(3)

(1)

المصباح: جـ 1 ص 294 - 295.

(2)

وفي بعض النسخ "وإن أمتي".

(3)

وفي بعض النسخ: "ثم جاءه الثالثة".

ص: 190

الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل، يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ، فَقَدْ أَصَابُوا".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الْحَدِيثُ خُولِفَ فِيهِ الْحَكَمُ، خَالَفَهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، رَوَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلاً.

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(محمد بن بشار) بن عثمان العبدي، أبو بكر البصري، بُندار، ثقة من [10]، مات سنة 252، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 27.

2 -

(محمد بن جعفر غندر) أبو عبد الله البصري، ثقة صحيح الكتاب، وكانت فيه غفلة من [9]، مات سنة 193 - أو بعدها،

أخرج له الجماعة، تقدم في 21/ 22.

ص: 191

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت الحافظ من [7]، مات سنة 160، أخرج له الحماعة، تقدم في 24/ 26.

4 -

(الحكم) بن عتيبة، أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، ربما دلس من [5]، مات سنة 113، أخرج له الجماعة، تقدم في 86/ 104.

5 -

(مجاهد) بن جَبْر، أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير والعلم من [3]، مات سنة 101 وقيل: بعد ذلك وله 83 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 27/ 31.

6 -

(ابن أبي ليلى) هو عبد الرحمن الأنصاري المدني، ثم الكوفي، ثقة من [2]، مات سنة 86، أخرج له الجماعة، تقدم في

86/ 104.

7 -

(أبَيّ بن كعب) لن قيس بن عبيد الأنصاري الخزرجي، أبو المنذر، وأبو الطفيل، سيد القراء، من فضلاء الصحابة مات سنة 19 وقيل: غير ذلك، أخرج له الجماعة، تقدم في 323/ 808. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

مثها: أنه من سباعيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وكلهم من رجال الجماعة، وأنهم ما بين بصريين، وهم الثلاثة الأولون،

وكوفيين، وهما الحكم، وابن أبي ليلى، ومكي، وهو مجاهد، ومدني، وهو أبَيُّ رضي الله عنه.

ص: 192

ومنها أن شيخه هو أحد مشايخ الستة الذين يروون عنهم بدون واسطة.

ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، الحكم، ومجاهد، وابن أبي ليلى. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي بن كعب) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار) بفتح الهمزة، وبضاد معجمة مقصورة: أي عند مُستَنقع مائهم. قال بن سِيدَهْ: الأضَاة: الماء المُستَنقِعُ من سَيْلٍ، أو غيره. والجمع أضَوَاتٌ، وَأضًا، مقصور، مثل قَنَاة وقَنًا، وإضَاءٌ بالكسر والمدّ، وإضُونَ، كما يقال: سَنَة وسنُون، فأضَاةٌ، وأضًا، كحصاة وحصًى، وَأضَاةٌ وإضَاءٌ، كرَحَبَةٍ وَرِحَابٍ، ورَقَبَةٍ ورِقَابٍ، وأنشد ابن بَرِّيٍّ في جمعه على إضينَ للطِّرِمَّاحِ:

مَحافِرُها كأسْرِيَةِ الإِضِينَا

(1)

وضبطه ياقوت في "معجمه" بهمزة بعد الألف، فقال: أضَاءَة بني غِفَار: بعد الألف والأضاءَةُ: همزة مفتوحة، والأضَاءة: الماء المستنقع من سيل أو غيره، ويقال: هو غدير صغير، ويقال: هو مسيل الماء إلى الغدير. وغِفَار قبيلة من كنانة، موضع قريب من مكة فوق سَرفَ قرب التَّنَاضِب، له ذكر في حديث المغازي انتهى

(2)

.

(1)

لسان العرب جـ 1 ص 90 - 91.

(2)

معجم البلدان جـ 1 ص 214.

ص: 193

(فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إِن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن) من الإقراء رباعيًا، ونصب "أمتك"، ويحتمل أن يكون من القراءة، و"الأمة" بالرفع على الفاعلية، إن صحت الرواية، والمعنى أوفق بالأول، إذ أمر أحد بفعل غيره غير مستحسن، فليتأمل. أفاده السندي

(1)

. (أمتك القرآن على حرف) تقدم معنى الحرف قريبًا (أسأل الله) بصيغة المضارع المسند إلى ضمير المتكلم (معافاته ومغفرته) بفتح تاء "معافاته"، لكونه مفردًا منصوبًا على المفعولية لـ"أسأل"، وليس جمع مؤنث سالم ينصب بالكسرة.

(فإِن أمتي لا تطيق ذلك) بالفاء التعليلية، فالجملة تعليل لسؤاله المعافاة والمغفرة. وفي نسخة بالواو.

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم يسأل الله سبحانه أن يتجاوز عن أمته عن القراءة على حرف واحد، ويوسع لها، ويغفر لها ذنوبها، فإنها لا تطيق ذلك، لعدم وحدة لغتهم، فلو كلفوا أن يقرؤوا بلغة قريش التي هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم مثلًا لشق عليهم ذلك، لعدم ممارستهم لها.

وقد أخرج الترمذي رحمه الله عن زِرّ بن حُبَيش، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ، فقال:"يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قطّ، قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف". قال الترمذي. حسن صحيح. وفي الرواية

(1)

شرح السندي جـ 2 ص 152.

ص: 194

الآتية -941 - أن الذي دلّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن يطلب الزيادة في الأحرف هو ميكائيل عليه السلام. (ثم أتاه الثانية) أي أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم المرة الثانية، أو الإتيانة الثانية، فالثانية منصوب على الظرفية، أو على المفعولية المطلقة (فقال: إِن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال) صلى الله عليه وسلم ("أسأل الله معافاتَه، ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاءه الثالثة)، وفي نسخة:"ثم أتاه الثالثة"(فقال: إِن الله عز جل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاتة أحرف، فقال: "أسأل الله معافاته، ومغفرته، وإِن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاء الرابعة، فقال: إِن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرؤوا عليه، فقد أصابوا) أي فَأيُّ حرف من الحروف السبعة قرؤوا عليه فقد وافقوا الصواب.

وقال النووي رحمه الله: معناه: لا تَتَجَاوز أمتك سبعة أحرف، ولهم الخيار في السبعة، ويجب عليهم نقل السبعة إلى من بعدهم بالتخير فيها، وأنها لا تُتَجَاوَز. والله أعلم انتهى

(1)

.

(قال أبو عبد الرحمن) النسائي رحمه الله تعالى (هذا الحديث خولف فيه الحكم) بن عتيبة الراوي له عن مجاهد مرفوعًا (خالفه منصور بن المعتمر) أبو عتَّاب الكوفي الإمام الثبت الحجة المتوفى سنة 132 هـ، تقدم -2/ 2 - ثم بين وجه الخلاف، فقال: (رواه عن

(1)

شرح مسلم جـ 6 ص 104.

ص: 195

مجاهد) الذي روى عن الحكم.

وجملة "رواه" مستأنفة استئنافًا بيانِيًّا، وهو الذي يقع جوابًا عن سؤال مقدر، فكأن سائلًا سأل المصنف، لَمّا قال: خالفه منصور بن

المعتمر، فقال: ما وجه مخالفته له؟ فأجابه بقول: "رواه عن مجاهد إلخ".

ويحتمل أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من "منصور"، أي حال كونه راويًا له عن مجاهد (عن عبيد بن عمير) بن قتادة الليثي، أبو عاصم المكي، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما قاله مسلم، وعده غيره في كبار التابعين، وكان قاص أهل مكة، مجمع على توثيقه، مات قبل ابن عمر رضي الله عنه، تقدم 12/ 416.

(مرسلًا) حال من الضمير المنصوب في "رواه".

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن المصنف رحمه الله أراد لهذا تضعيف رواية الحكم هذه، لمخالفة منصور له، لكن الذي يظهر أنها صحيحة، لأن مخالفته بالإرسال لا تضره، لأنه ثقة حافظ، فيكون من زيادة الثقة، ولذا أخرج روايته مسلم في صحيحه، كما سيأتي قريبًا. والله تعالى أعلم.

تنبيه: رواية منصور التي أشار إليها المصنف لم أر من أخرجها. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

ص: 196

حديث أبي بن كعب هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -37/ 939 - و"الكبرى" 37/ 1011 - عن محمد ابن بشار، عن غندر، عن شعبة، من الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عنه. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، كلهم عن غندر- وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه- كلاهما عن شعبة به. أبو داود فيه عن محمد بن المثنى به. وأخرجه أحمد 5/ 127 و 128. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته، حيث راجع ربه، وقال:"أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، فهو صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- كما وصفه الله عز وجل بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

ومنها: رأفة الله تعالى بهذه الأمة، حيث وسع عليها أن تقرأ القرآن عَلَى سبعة أحرف.

ومنها: شدة عناية الله تعالى بحبيبه صلى الله عليه وسلم، حيث أعطاه بكل رَدّة

ص: 197

دعوة مستجابة.

فقد أخرج مسلم في "صحيحه"، فقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبِي، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده، عن أبُيّ بن كعب، قال: كنت في المسجد، فدخل رجل، يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة فى دخلنا جميعًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر، فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فحَسَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسُقِطَ في نفسي

(1)

من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني، ضرب في صدري، فَفِضْتُ عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فَرَقًا، فقال لي:"يا أبَيّ أُرْسَلَ إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هَونْ على أمتي، فَرَدَّ إليَّ الثانية اقرأه على حرفين، مرددتُ إليه أن هونْ على أمتي، فَرَدَّ إلَيَّ الثالثة اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل رَدَّةٍ رَدَدْتُكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليومٍ يرْغَبُ إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم". انتهى

(2)

.

(1)

قوله: "سُقِط" بالبناء للمفعول، أي أنه اعترته حيرة ودهشة.

ومعناه وسوس لي الشيطان تكذيبًا للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية، لأنه في الجاهلية كان غافلًا، أو متشككًا فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب. انتهى شرح النووي بتصرف. جـ 6 ص 102.

(2)

انظر: صحيح مسلم بشرح النووي جـ 6 ص 101 - 103.

ص: 198

ومنها: أن من قرأ بحرف من الحروف السبعة، فقد وافق الصواب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

940 -

أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ نُفَيْلٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةً، فَبَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ، إِذْ سَمِعْتُ رَجُلاً، يَقْرَؤُهَا، يُخَالِفُ قِرَاءَتِي، فَقُلْتُ لَهُ: مَنْ عَلَّمَكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: لَا تُفَارِقْنِي حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا خَالَفَ قِرَاءَتِي فِي السُّورَةِ الَّتِي عَلَّمْتَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اقْرَأْ يَا أُبَيُّ". فَقَرَأْتُهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَحْسَنْتَ"، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ:"اقْرَأ". فَقَرَأَ، فَخَالَفَ قِرَاءَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَحْسَنْتَ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أُبَيُّ إِنَّهُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلُّهُنَّ شَافٍ كَافٍ".

ص: 199

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِذَلِكَ الْقَوِيِّ.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(عمرو بن منصور) النسائي، ثقة ثبت من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 108/ 147.

2 -

(أبو جعفر بن نفيل) هوعبدالله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي الحرّاني، ثقة حافظ، مات سنة 234، من كبار [10] أخرج له البخاري، والأربعة، تقدم في 7/ 406.

3 -

(معْقِل بن عبيد الله) الجَزَري، أبو عبد الله العبسي -بالموحدة- مولاهم الجَزَوي المُدَيْبِرِي -والْمُدَيبِر بين حَرّان والرُّهَا- صدوق يخطىء من [8].

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح الحديث، وقال مرة: ثقة، وعن ابن معين: ليس به بأس، وكذلك قال النسائي. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين. ثقة، وقال معاوية بن صالح، عن ابن معين: ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يخطىء، ولم يفحش خطؤه، فيستحقَّ الترك. وقال ابن عدي بعد أن سرد له عدة أحاديث: هو حسن الحديث، لم أجد في حديثه منكرًا، وقال النسائي في الكنى: صالح، وقال في هذا الباب: ليس بذلك القوي. وقال

ص: 200

الذهبي في "الميزان ": قال أبو الحسن القطان: معقل عندهم مستضعف. كذا قال، بل هو عند الأكثرين صدوق لا بأس به. قال

النفيلي: مات سنة -166 - أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي

(1)

.

4 -

(عكرمة بن خالد) بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله ابن عُمَرَ بن مخزوم القرشي المخزومي المكي، ثقة -3 - .

قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. ووثقه البخاري فيما ذكره أبو الحسن بن القطان. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: لم يسمع من ابن عباس. وقال أبو زرعة: عكرمة بن خالد، عن عثمان مرسل. وقال ابن أبي حاتم: قال أحمد بن حنبل: لم يسمع من عُمَرَ، وسمع من ابنه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد عطاء بن أبي رباح. أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه

(2)

.

وأما الباقون، فتقدموا قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف، وأن رجاله كلهم موثقون، على خلاف في معقل بن عبيد الله، وأنهم ما بين نسائي، وهو شيخه،

(1)

"تك" جـ 28 ص 274 - 277. "تت" جـ 10 ص 234. "ميزان الاعتدال" جـ 4 ص 146.

(2)

"تك" جـ 20 ص 249 - 251. "تت" جـ 7 ص 258 - 259.

ص: 201

وحرّاني، -نسبة إلى حرّان- بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء- مدينة بالجزيرة. قاله في السمعاني 2/ 195 - وجزري، وهو معقل، ومكي، وهو خالد، وكوفي، وهو سعيد، ومدني، ثم بصري، ثم مكي، ثم طائفي، وهو ابن عباس، رضي الله عنهما.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، خالد، عن سعيد، ورواية صحابي، عن صحابي، ابن عباس، عن أبَي بن كعب رضي الله

عنهما.

ومنها: أن فيه ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى -1696 - حديثًا، اتفق الشيخان على -75 - وانفرد البخاري بـ 28 - ومسلم بـ 49 حديثًا. وفيه أبَيّ بن كعب رضي الله عنه سيد القرّاء، الذي قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1]، روى -164 - اتفق الشيخان على -3 - وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بسبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبَيّ بن كعب) رضي الله عنه، أنهأ (قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة، فبينا أنا في المسجد جالس) "بين" هذه هي الظرفية زيدت عليها الألف، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأمْرُ أمْرنَا

إِذَا نَحْنُ فِيهِم سُوقَة لَيْسَ نُنْصَفُ

واختلف النحاة في هذه الألف، فقيل: كافّة تكف "بين" عن الإضافة، وقيل: زائدة، و"بين" مضافة إلى الجملة، وقيل: زائدة،

ص: 202

و"بين" مضافة إلى زمن محذوف مضاف إلى الجملة، أي بين أوقاتِ نسوسُ الناسَ.

ومثل الألف "ما" في نحو قول الشاعر [من الخفيف]:

بَيْنَمَا نَحنُ بِالأرَاكِ مَعًا

إِذ أتَى رَاكبٌ عَلَى جَمَلِهْ

أفاده ابن هشام الأنصاري رحمه الله في "مغنيه"

(1)

.

وقوله. "أنا" في محل رفع بالابتداء، و"جالس" خبره، و"في المسجد" متعلق به.

وقد تقدم الكلام عليها مطولًا في عدة مواضع، وأنها تتضمن معنى الشرط، فتحتاج إلى جواب، ويقترن جوابها، "إذ"، و"إذا"، ويتجرد عنهما أيضًا، وجوابها هنا قوله (إِذ سمعت رجلًا) يحتمل أن يكون ابن مسعود رضي الله عنه، كما سيأتي بيانه قريبًا، إن شاء الله تعالى (يقرؤها) أي تلك السورة التي أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم (يخالف قراءتي) جملة في محل نصب على الحال من فاعل "يقرأ"، أي حال كونه مخالفًا لقراءتي التي تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال السندي رحمه الله: قوله: "تخالف قراءتي": أي يقرؤها قراءة تخالف قراءتي، أو هو يخالف قراءتي، وعلى الأول "تخالف" بالمثناة الفوقية، وعلى الثاني بالتحتية. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: نسخ "المجتبى"، وكذا نسخة "الكبرى"

(1)

انظر: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" جـ 2 ص 10 بحاشية الأمير.

(2)

شرح السندي جـ 2 ص 153.

ص: 203

التي بين يَدَيّ كلها بالتحتانية، ولعل السندي وجد نسخة بالفوقانية. فليحرر. والله تعالى أعلم.

(فقلت له: من) بفتح الميم استفهامية (علمك) بتشديد اللام من التعليم، أي من أقرأك (هذه السورة؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ"رسول الله" ليس فاعلًا لـ"قال"، بل هو فاعل لفعل محذوف دل عليه السؤال، كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى:

ويَرفعُ الْفَاعِلَ فِعْلٌ أضْمِرَا

كمِثلِ زَيْدٌ فِي جَوابِ مَنْ قَرَا

والجملة من الفعل المقدر، والفاعل المذكور في محل نصب مقول القول.

(فقلت: لا تفارقني) يحتمل أن تكون "لا" ناهية، والفعل مجزوم بها، ويحتمل أن تكون نافية، والفعل مرفوع (حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم) بنصب الفعل بعد "حتى" لكونه مستقبلًا، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْد حَتَّى حَالًا أوْ مُؤَوَّلَا

بِهِ ارْفَعَنَّ وَانصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا

(فأتيته) أي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ذلك الرجل (فقلت: يا رسول الله إِن هذا) الرجل (خالف قراءتي في السورة التي علمتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقرأ يا أبي" قال أبيّ رضي الله

ص: 204

عنه (فقرأتها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنت") حيث قرأت كما أقرأتك، وفيه استحباب قول: أحسنت للقارئ، إذا قرأ قراءة صحيحة (ثم قال للرجل: اقرأ، فقرأ) ذلك الرجل (فخالف قراءتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنت"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبيّ إِنه) الضمير لشأن تفسره الجملة التي بعده، وهي خبر "إن"، أي إن الأمر والشأن (أنزل القرآن على سبعة أحرف) تقدم الكلام في اختلاف العلماء في معناه، وأن الراجح أنه أنزل على سبعة أوجه من القراءة، فلتراجع مسائل حديث عمر في اختلافه هشام بن حكيم رضي الله عنهما (كلهن شاف كاف) أي كل واحدة من تلك الأحرف السبعة "شاف" للمؤمنين من الأمراض الباطنة والظاهرة، كما قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وقال:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].

"كاف" عن بقية الأحرف، بمعنى أن من قرأ به لا يلزمه أن يقرأ بحرف آخر.

أو "شاف" لصدور المؤمنين في معرفة أحكام الدين، كما قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، "كاف" في

الحجة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإبطال شُبَهِ المعاندين.

ص: 205

أو "شاف" في إثبات المطلوب للمؤمنين، "كاف" في الحجة على الكافرين.

أو "شاف" لأمراض الجهل، "كاف" في الصلوات.

وإنما قال: "شاف كاف" بالإفراد، ولم يقل: شافيات كافيات، نظرًا للفظ "كل"، فإنه مفرد مذكر. والله تعالى أعلم.

(قال أبو عبد الرحمن) النسائي رحمه الله (معقل بن عبيد الله ليس بذلك القويّ) أراد به تضعيفه، وقد تقدم في ترجمته عن "التهذيب" أنه قال: ليس به بأس، وقال في "الكنى": صالح، فتضاربت أقواله فيه، وكذلك تضاربت فيه أقوال ابن معين، فمرة قال: ليس به بأس، ونقل عنه إسحادق بن منصور أنه قال: ثقة، وفي رواية معاوية بن صالح عنه: ضعيف. وقد قال أحمد: صالح الحديث، ومرة قال: ثقة. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه هذا صحيح.

فإِن قلت: قد أشار المصنف رحمه الله إلى تضعيف معقل بن عبيد الله، فكيف يصح؟

أجيب: بأنه اضطربت أقواله فيه، كما تقدم قريبًا، فلا يعتمد عليها، وقد وثقه أحمد، وأخرج له مسلم.

ص: 206

فالحق كما قال الحافظ الذهبي: هو عند الأكثرين صدوق لا بأس به. فهو صالح للاحتجاج به، ويشهد له ما أخرجه أحمد، والبيهقي من رواية سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب، رضي الله عنهما، كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى، فالحديث صحيح.

وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -37/ 940 - وفي "الكبرى" 37/ 1012 بالإسناد المذكور. والله تعالى أعلم

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

941 -

أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيٍّ، قَالَ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِي مُنْذُ أَسْلَمْتُ، إِلاَّ أَنِّي قَرَأْتُ آيَةً، وَقَرَأَهَا آخَرُ غَيْرَ قِرَاءَتِي، فَقُلْتُ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ الآخَرُ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَقْرَأْتَنِي آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". وَقَالَ الآخَرُ: أَلَمْ تُقْرِئْنِي آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟، قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ عليهما السلام أَتَيَانِي، فَقَعَدَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِي، وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِي، فَقَالَ جِبْرِيلُ

ص: 207

- عليه السلام: اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، اسْتَزِدْهُ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، فَكُلُّ حَرْفٍ شَافٍ كَافٍ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(يعقوب بن إِبراهيم) الدَّوْرَقي، أبو يوسف البغدادي، ثقة حافظ من [10]، مات سنة 252، أخرج له الجماعة، تقدم في 21/ 22.

2 -

(يحيى) بن سعيد بن فَرُّوخ القطان أبو سعيد البصري الإمام الحافظ الحجة من [9]، مات سنة 198، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.

3 -

(حميد) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصري، ثقة عابد مدلس من [5]، مات سنة 142، أخرج له الجماعة، تقدم في

87/ 108.

4 -

(أنس) بن مالك، أبو حمزة الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6.

5 -

(أُبَيّ) بن كعب رضي الله عنه، تقدم قريبًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة.

ص: 208

ومنها: أن شيخه هو أحد مشايخ الأئمة الستة أصحاب الأصول بدون واسطة، وقد تقدموا غير مرة.

ومنها: أن فيه رواية صحابي، عن صحابي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي) بن كعب رضي الله عنه.

ولفظ "الكبرى" في "فضائل القرآن" -7986 - من طريق يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس: أن أبي بن كعب، قال: ما حاك في صدري منذ أسلمت، إلا أني قرأت آية، فقرأها رجل على غير قراءتي، فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، فقلت: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أقرأتني آية كذا وكذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فقال الرجل: أقرأتني آية كذا وكذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياني، فَعَمَدَ جبريلُ، فقعد عن يميني، وقعد ميكائيل عن شمالي، فقال جبريل: اقرأ على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقلت زدني، فزادني، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، فقلت: زدني، فزادني، فمال جبريل: اقرأ القرآن على ثلاثة أحرف، حتى بلغ على سبعة أحرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال. اقرإ القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف".

(قال: ما حاك في صدري) أي ما أثّر في قلبي، وما تَخالج فيه.

ص: 209

وفاعل "حاك" محذوف لدلالة السياف عليه، أي "شك"، وقد جاء مصرحًا عند أحمد جـ 5 ص 122 - ولفظه:"ما حكّ في صدري شك منذ أسلمت"

وفي لفظ: "ما دخل قلبي شيء منذ أسلمت"، وفي رواية المصنف في "عمل اليوم والليلة":"فدخلني من الشك أشدّ مما كنت عليه في الجاهلية".

قال في "النهاية": "ما حاك في نفسك"، أي أثر فيها، ورَسَخ، يقال: ما يحيك كلامك في فلان: أي ما يؤثّر. انتهى.

وقال ابن منظور. وحاك الشيء في صدري حَوْكًا: رَسَخَ. قال الأزهري: ما حَكَّ في صدري منه شيء، وما حَاكَ، كلٌّ يقال، فمن قال: حَكَّ، قال: يَحكُّ، ومن قال: حَاكَ، قال: يَحيكُ، ويقال: ما حاك في صدري ما قَلتَ، أي ما رسخ، قال: والحائَك: الراسخ في قلبك الذي يَهُمُّكَ.

وقال المُبَرد: وما حَكَّ في صدري شيء منه: أي ما تَخَالَجَ. انتهى.

وقال في مادّة "حيك": وقال ابن الأعرابي: ما حَكَّ في قلبي شيء، ولا حَزَّ، ويقال: ما يَحِيك كلامُك في فلان: أي ما يؤثر، والْحَيْكُ: أخْذُ القولِ في القلب، يقال: ما يَحِيكُ فيه المَلَام. إذا لم يؤثّر فيه. انتهى ملخصًا

(1)

.

(1)

لسان من مادة "حوك" جـ 1 ص 1043 - 1053. ومادة "حيك" جـ 1 ص 1072.

ص: 210

قال الجامع عفا الله عنه: يستفاد مما ساقه ابن منظور رحمه الله من هذه الأقوال أن هذا الفعل، فيه ثلاثَ لغات: حاك يحيِك، يائيا، وحاك يحُوك، واويًّا، وحَكَّ يَحُكُّ مضعفًا. والله تعالى أعلم.

(منذ أسلمت) من وقت إسلامي، و"منذ": ظرف متعلق بـ"حاك"، مضاف إلى جملة "أسلمت"، ومثلها "مذ"، فإنهما إذا وليهما اسم

مرفوع، أو فعل فهما ظرفان، كما قال ابن مالك في "خلاصته":

وَمُذْ وَمُنْذُ اسْمَان حَيْثُ رَفَعَا

أوْ أُولِيَا الْفِعْل كجِئتُ مُذْ دَعَا

وإِنْ يَجُرَّا فِي مضِيٍّ فَكمِنْ

هُمَا وَفِي الْحُضُور مَعنَى فِي استَبِنْ

(إِلا أني قرأت آيةً) بفتح همزة "أنّ" والجملة في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا، كما هو مذهب الخليل والكسائي، كما أشار إليه في "الخلاصة":

وَقَدْ يُجَرّ بِسوَى رُبَّ لَدَى

حَذفٍ وَبَعضُ ذَا يُرَى مُطَّرِدَا

أو منصوب بنزع الخافض، كما هو مذهب سيبويه، كما أشار إليه في الخلاصة أيضًا:

وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرفِ جَرِّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنجَرِّ

نَقْلًا وَفِي "أنَّ" وَ"أنْ" يَطَّرِدُ

مَعْ أمْنِ لَبسٍ كعَجِبتُ أنْ يَدُوا

والتقدير هنا إلا في حال قراءتي آية إلخ، يعني أنه لم يقع شك في قلبه بعد إسلامه إلا في هذه الحالة.

ص: 211

(وقرأها) أي تلك الآية (آخر) أي رجل آخر (غير قراءتي) أي غير قراءتي التي قرأت بها (فقلت: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر) أي الرّجل الآخر الذي قرأ خلاف قراءته (أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله أقرأتني آية كذا وكذا) يحتمل أن يكون الكلام إخبارًا، ويحتمل أن يكون استفهامًا للتقرير، كما يدل عليه قول الرجل الآخر:"ألم تقرئني" إلخ (قال) صلى الله عليه وسلم (نعم) تصديق لقوله: "أقرأتني"، لأن "نعم" تُبْقِي الكلام على ما هو عليه، من إيجاب أو نفي، لأنها وضعت لتصديق ما تقدم من غير أن ترفع النفي، وتبطله، فإذا قال القائل: ما جاء زيد، ولم يكن جاء، قلت في جوابه: نعم، وكان التقدير نعم ما جاء، فصدقت الكلام على نفيه، ولم تبطل النفي، وإن كان قد جاء قلت:"بلى"، لأنها للإبطال، فـ "نعم" تبقي الكلام على حاله، و"بلى" تبطله، فلذا لو قالوا في جواب قوله تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]: نعم لكان كفرًا، لأن معناه: لست بربنا

(1)

. وقد تقدم تمام البحث في هذا غير مرة، وإنما أعدته لطول العهد به.

والمعنى هنا: نعم أقرأتك الآية (وقال الآخر: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: نعم) أي نعم أقرأتك إياها، ثم قال صلى الله عليه وسلم مبينًا سبب اختلافهما (إِن جبريل وميكائيل- عليهما السلام) بكسر همزة

(1)

راجع المصباح المنير جـ 2 ص 614.

ص: 212

"إن"، والجملة ذُكِرت تعليلًا لبيان تصويب كل من القراءتين، ويحتمل أن تكون "أن" بفتح الهمزة، بتقدير حرف جر، أي لأن جبريل إلخ (أتياني، فقعد جبريل عن يميني) وفي رواية يزيد بن هارون المتقدمة: "فعمد، جبريل، فقعد عن يميني"(و) قعد (ميكائيل عن يساري) وفي رواية يزيد "عن شمالي"(فقال جبريل عليه السلام: اقرإِ القرآن) أمر من القراءة ثلاثيًا، فهمزته همزة وصل (على حرف، فقال ميكائيل: استزده، استزده) أي اطلب من الله، أو من جبريل، لأنه واسطة، أن يزيدك في الحروف، تسهيلًا على أمتك، وإنما كرره تأكيدًا (حتى بلغ سبعة أحرف) يحتمل أن يكون الفاعل ضمير ميكائيل، أي استمر قوله:"استزده" إلى أن بلغ سبعة أحرف، ويحتمل أن يكون ضمير جبريل، أي استمر قوله:"اقرإ القرآن" إلى أن بلغ سبعة أحرف.

وفي رواية يزيد بن هارون المتقدمة: "فقال ميكائيل: استزده، فقلت: زدني، فزادني، فقال جبريل: اقرإ القرآن على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، فقلت: زدني، فقال جبريل: اقرإ القرآن على ثلاثة أحرف، حتى بلغ على سبعة أحرف".

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند مسلم: "أقرأني جبريل عليه السلام على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده، فيزيدني

حتى انتهى إلى سبعة أحرف".

ص: 213

(فكل حرف شاف كاف) أي كل حرف من تلك الأحرف السبعة شاف للأمة من جميع الأدواء، وكاف لها عن طلب غيره. والله

سبحانه وتعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديتْ أُبيّ رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -37/ 941 - وفي "الكبرى" -37/ 1013 - عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد القطان، عن حميد، عن أنس، عنه وفي "فضائل القرآن" من "الكبرى" عن إسحاق بن إبراهيم، عن يزيد بن هارون، من حميد، نحوه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

اعلم: أنه لم يخرج هذا الحديث من أصحاب الأصول غير المصنف، كما أشار إليه الحافظ أبو الحجاج المزي في "تحفته" جـ 1

ص 11.

وأخرجه (أحمد في مسنده) جـ 5 ص 114، 112، (وعبد بن حميد) رقم 164، (وعبد الله بن أحمد) في زوائد المسند جـ 5

ص 122.

ص: 214

تنبيه: أخرج هذا الحديث أحمد في مسنده عن عفان، عن حماد ابن سلمة، وابن جرير الطبري عن محمد بن مرزوق، عن أبي الوليد

الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، عن أبي بن كعب رضي الله عنهم. زاد فيه "عبادة" بين أنس وأُبيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن هذه الرواية شاذة، لمخالفة حماد بن سلمة لسائر الحفاظ ممن رواه عن حميد، وهم يحيى القطان -كما في رواية الباب- ويزيد بن هارون -كما في "الفضائل" من "الكبرى"، وزوائد المسند جـ 5 ص 122 - ، وبشر بن المفضل -كما في زوائد المسند أيضا جـ 5 ص 122 - ومعتمر بن سليمان- كما في الزوائد أيضًا- فإنهم رووه عن أنس، عن أبَيّ، بدون ذكر عبادة رضي الله عنهم، فتقدم روايتهم على روايته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

942 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِذَا عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا

(2)

ذَهَبَتْ".

(1)

راجع "النكت الظراف" جـ 1 ص 11. بنسخة "تحفة الأشراف".

(2)

وفي نسخة "وإن أطِلقَت".

ص: 215

رجال هذا الإسناد: أربعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس، أبو عبد الله، الإمام الفقيه الحافظ الحجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه من [3]، تقدم في 12/ 12.

4 -

(ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو (68) من رباعيات الكتاب، وهي أعلى ما وقع له من الأسانيد.

ومنها: أن رجاله كلهم من رجال الجماعة.

ومها: أنه مسلسل بالفقهاء الثقات المدنيين، وشيخه، وإن كان بغلانيًا، إلا أنه دخل المدينة.

ومنها: أنه أصح الأسانيد مطلقًا، على ما نقل عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى، كما قال الحافظ السيوطي رحمه الله في ألفية المصطلح

ص: 216

عند تعداد أصح الأسانيد:

فَمَالكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَيِّدِه

وَزِيدَ مَا لِلشَّافِعِي فَأحْمَدِهْ

ومنها: أن فيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد فقهاء الصحابة رضي الله عنهم. والله سبحانه وتعالى

أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل صاحب القرآن) وفي رواية الشيخين: "إنما مثل صاحب القرآن"، بزيادة "إنما".

وفي "فضائل القرآن" من "الكبرى" -33/ 8043 - من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل القرآن كمثل الإبل المعقّلة، إذا عاهدها صاحبها على عُقُلِها أمسكها، وإذا أغفلها ذهبت، إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم له نسيه".

قال في "الفتح". وقوله: "إنما" يقتضي الحصر على الراجح، لكنه حصر مخصوص بالنسبة إلى الحفظ والنسيان بالتلاوة والترك. انتهى

(1)

.

(1)

جـ 10 ص 98.

ص: 217

وقال الحافظ ولي الدين رحمه الله:

إِن قلت: مقتضى الحديث على القول لدلالة "إنما" على الحصر أنه لا مثل لصاحب القرآن سوى المثل المذكور في هذا الحديث، مع أنه عليه الصلاة والسلام قد ضرب له أمثالًا أخرى، فمنها: قوله عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأتْرُجّة، ريحها طيب، وطعمها طيب".

قلت: المراد حصره مثله في هذا بالنسبة إلى أمر مخصوص، وهو دوام حفظه بالدرس، ونسيانه بالترك، فهو بالدرس كحافظ البعير بالعقل، وفي نسيانه بالترك، كمضيع البعير بعدم العقل، وأما بالنسبة إلى أمور أخرى فله أمثلة أخرى، والحصر، وإن كان ظاهره العموم، فهو حصر مخصوص، وله نظائر معروفة. والله أعلم. انتهى كلام ولي الدين رحمه الله تعالى

(1)

.

والمثل -بفتحتين، وبكسر، فسكون، وكأمير- الشبْهُ، جمعه: أمثال. والمَثَلُ أيضًا: الصفة، كما في قوله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15]. أفاده في "ق".

والمراد أن مثل صاحب القرآن مع القرآن، كمثل صاحب الإبل إلخ.

(1)

"طرح التثريب" جـ 3 ص 104.

ص: 218

وقال القاضي عياض رحمه الله. ومعنى صاحب القرآن. أي الذي ألِفَه، والمصاحبة: المؤالفة، ومنه: فلان صاحب فلان، وأصحاب الجنة، وأصحاب النار، وأصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، وأصحاب الصُّفَّة، وأصحاب إبل وغنم، وصاحب كنز، وصاحب عبادة

(1)

.

وقال في "الفتح": وقوله: ألفه، أي ألف تلاوته، وهو أعم من أن يألفها نظرًا من المصحف، أو عن ظهر قلب، فإن الذي يداوم على ذلك يذلّ له لسانه، ويسهل عليه قراءته، فإذا هجره ثقلت عليه القراءة، وشقت عليه انتهى

(2)

.

(كمثل الإِبل المعقلة) أي المشدودة بالعِقَال، والتشديد فيه للتكثير. قاله ابن الأثير

(3)

. والمعنى أن حاله كحال صاحب الإبل المعقلة معها. وفي رواية البخاري: "كمثل صاحب الإبل المعقلة".

و"الإبل" -بكسرتين-: اسم جمع، لا واحد لها، وهي مؤنثة، لأن اسم الجمع الذي لا واحد له من لفظه إذا كان لما لا يعقل يلزمه التأنيث، وتدخله الهاء إذا صغر، نحو أُبَيْلَةٍ، وغُنَيْمَة، وسمع إسكان الباء للتخفيف، ومن التأنيث، وإسكان الباء قولُ أبي النجم، [الرجز]:

وَالإِبْلُ لَا تَصْلُحُ لِلْبُسْتَانِ

وَحَنَّتِ الإِبلُ إِلَى الأَوطَانِ

(1)

راجع شرح مسلم للنووي رحمه الله جـ 6 ص 77.

(2)

فتح جـ 10 ص 98.

(3)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" جـ 3 ص 281.

ص: 219

والجمع آبال، وأبِيلٌ، كَعبيدٍ، وإذا ثني أو جمع فالمراد قطيعان، أو قطيعات، وكذلك أسماء الجموع، نحو أبقار، وأغنام، والإبل بناء نادر، قال سيبويه: لم يجئ على فِعِلٍ -بكسر الفاء والعين- من الأسماء إلا حرفان، إبِلٌ، وحِبِرٌ، وهو الْقَلَحُ، ومن الصفات إلا حرف، وهي امرأة بِلِزٌ، وهي الضخمة، وبعض الأئمة يذكر ألفاظًا غير ذلك، لم يثبت نقلها عن سيبويه. قاله في المصباح

(1)

.

والْمُعَقَّلَة. بضم الميم، وفتح العين، وتشديد القاف، بصيغة اسم المفعول، أي المشدودة بالعِقَال، وهو الحبل الذي يُشَدُّ في ركبة المعير.

شَبَّهَ النبي صلى الله عليه وسلم دَرْسَ القرآن، واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يُخشَى من الشِّرَاد، فما زال التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدودًا بالعقال، فهو محفوظ. وخص الإبل بالذكر، لأنها أشد الحيوان الإنسيِّ نفورًا، وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة (1).

(إِن عاهد عليها) أي إذا تفقدها، وأحدث العهد بها. وفي نسخة من "الكبرى":"إن عاهد عليها"، وهو رواية الصحيحين.

قال ابن منظور. والمُعاهدة، والاعتِهَادُ، والتَّعَاهُدُ، والتَّعَهُّدُ واحد، وهو إحداث العهد بما عَهِدته، ويقالَ للمُحافظ على العهد:

(1)

راجع الفتح جـ 10 ص 98.

ص: 220

مُتَعَهِّد. ومنه قول أبي عَطَاءٍ السِّندِيّ، وكان فصيحًا، يَرْثي ابنَ هُبَيْرَة:

وَإِنْ تُمْسِ مَهْجُور الْفِنَاءِ فَرُبَّمَا

أقَامَ بِهِ بَعدَ الْوُفُودِ وُفُودُ

فَإِنَّكَ لَمْ تَبْعُد عَلَى مُتَعَهَدٍ

بَلَى كُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرَابِ بَعِيدُ

قال: وتَعَهَّدَ الشَّيءَ، وتعَاهده، واعتهده: تفقّده، وأحدث العهد به، قال الطِّرِمَّاح [من الخفيف]:

وَيُضِيعُ الَذِي قَدَ اوْجَبَهُ اللَّـ

ـهُ عَلَيه وَلَيسَ يَعْتَهِدُهُ

وتَعَهَّدْتُ ضَيْعَتي، وكُلَّ شيء، وهو أفصح من قولك: تعاهدته، لأن التعاهد إنما يكون بين اثنين. وفي "التهذيب": ولا يقال: تعاهدته.

قال: وأجازها الفراء. انتهى كلام ابن منظور باختصار

(1)

.

(أمسكها) أي استمرّ إمساكه لها. وفي رواية أيوب عن نافع، عند مسلم:"فإن عقلها حفظها"

(2)

.

(وإِن أطلقها ذهبت) أي إن حَلَّ وِثَاقَها وتركها انفلتت، وشَرَدَت منه، فلا يقدر على إمساكها.

وفي رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع عند مسلم:"إن تعاهدها صاحبها، فعقلها أمسكها، وإن أطلق عقلها ذهبت"، وفي رواية موسى

(1)

لسان العرب جـ 4 ص 3150.

(2)

هكذا عزا هذا اللفظ في "الفتح" إلى مسلم من رواية أيوب، ولم أره في "صحيحه"، وكذا ما عزاه إليه من لفظ عبيد الله بن عمر الآتي. فليحرر.

ص: 221

ابن عقبة، عن نافع عنده:"وإذا قام صاحب القرآن، فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم له نسيه". قاله في الفتح. وتقدمت رواية

موسى بن عقبة هذه للمصنف في "الكبرى".

والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -37/ 942 - وفي "الكبرى" -37/ 1014 - وفي "فضائل القرآن" -32/ 8041 - عن قتيبة، عن مالك، عن نافع، عنه. وفي "الفضائل" أيضًا -33/ 8043 - عن قتيبة بن سعيد، عن يعقوب -يعني ابن عبد الرحمن- عن موسى بن عقبة، عن نافع، عنه، وتقدم لفظه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "فضائل القرآن" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك به. ومسلم في الصلاة عن عن يحيى بن يحيى، عن مالك

وعن زهير بن حرب، ومحمد بن المثنى، وعبيد الله بن سعيد، كلهم عن يحيى القطان. (ح) وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد

ص: 222

الأحمر. (ح) وعن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه - كلهم عن عبيد الله. (ح) وعن ابن أبي عمر، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب. (ح) وعن قتيبة بن سعيد، عن يعقوب بن عبد الرحمن. (ح) وعن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أنس بن عياض- كلهم عن موسى ابن عقبة له.

وابن ماجه في "الأدب" من أحمد بن أزهر، عن عبد الرزاق، عن معمر، من أيوب به.

و (مالك في الموطأ) رقم 143، و (أحمد) جـ 2 ص 17 و 23 و 30 و 35 و 64 و 112.

وفوائد الحديث تأتي في الحديث الذي بعده، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

943 -

أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "بِئْسَمَا لأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ

ص: 223

مِنْ عُقُلِهِ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عمران بن موسى) القزّاز الليثي، أبو عمرو البصري، صدوق من [10]، مات بعد 240، أخرج له الترمذي والنسائي وابن

ماجه، تقدم في 6/ 6.

2 -

(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت، من [8]، مات سنة 182، أخرج له الجماعة، تقدم في 5/ 5.

3 -

(شعبة) بن الحجاج، الإمام الثبت الحجة من [7]، تقدم في 24/ 26.

4 -

(منصور) بن المعتمر السلمي، أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة ثبت لا يدلس من [5]، تقدم في 2/ 2.

5 -

(أبو وائل) شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، ثقة مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة أخرج له الجماعة،

تقدم في 2/ 2.

6 -

(عبد الله) بن مسعود الهذلي، رضي الله عنه، تقدم في 35/ 39.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ص: 224

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له الشيخان، وأبو داود.

ومنها: أنهم ما بن بصريَّيْنِ، وهما شيخه، ويزيد بن زريع، وكوفيينَ، وهم الباقون.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، منصور، من أبي وائل، فإن منصورًا تابعي صغير، كما قاله الحافظ في "الفتح"، وقال الحافظ

الذهبي رحمه الله في ترجمته: وما علمت له رواية عن أحد من الصحابة، وبلا شك كان عنده بالكوفة بقايا من الصحابة، وهو رجل

شابّ، مثل عبد الله بن أبي أوفى، وعمرو بن حريث. انتهى كلام الذهبي رحمه الله بتصرف

(1)

.

ومنها: أن فيه عبد الله بالإطلاق، والمراد به عند الكوفيين ابن مسعود، كما هو القاعدة في اصطلاح المحدثين، كما أشار إليه الحافظ السيوطي رحمه الله في "ألفية المصطلح"، بقوله:

وحيثُمَا أُطْلِقَ عَبدُاللهِ فِي

طَيبَةَ فَابن عُمَرٍ وَإنْ يَفِي

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيرِ أوْ جَرَى

بِكُوفةٍ فهوَ ابنُ مَسْعودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

والشَّامِ مَهْمَا أُطْلقَ ابن عَمْرِو

والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

انظر "سير أعلام النبلاء" جـ 5 ص 402.

ص: 225

شرح الحديث

(عن أبي وائل) وقد صرح أبو وائل بالسماع عن عبد الله عند البخاري تعليقًا، قال: سمعت عبد الله، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: بئسما لأحدهم أن يقول)، وفي رواية لمسلم:"لا يقل أحدكم: نَسيتُ آية"، "وبئس" هي أخت "نعم"، فالأولى للذم، والثانية للمدح، وهَما -على الصحيح من أقوال النحاة- فعلان غير متصرفين، يرفعان الفاعل ظاهرًا، أو مضمرًا.

ثم إذا كان الفاعل ظاهرًا فإما يكون مُحَلّىً بالألف واللام للجنس، كقوله تعالى:{نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40]، وقوله:{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]. وإما أن يكون مضافًا إلى ما هما فيه، كقوله تعالى:{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]، {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72].

وإن كان الفاعل مضمرًا، فلابدّ من ذكر اسم نكرة ينصب على التفسير للضمير، كقوله تعالى:{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].

وقد يكون هذا التفسير "ما" على ما نص عليه سيبويه، كما في هذا الحديث، وكما في قوله تعالى:{فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271].

فـ "ما" في هذا الحديث نكرة منصوبة على التمييز، وفاعل "بئس" ضمير مستتر، على الأصح، وقيل:"ما" هي الفاعل. وقوله:

"لأحدهم" متعلق بحال محذوف، أي حال كونه كائنًا لأحدهم، أو

ص: 226

متعلق بـ "بئس" على رأي بعضهم، وقوله:"أن يقول" في تأويل المصدر مخصوص بالذم، أي بئس شيئًا قوله.

وإلى ما ذَكَرنَاه من أحوال "نعم" وبئس أشار ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة" حيث قال:

فِعْلَانِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَيْنِ

نِعْمَ وَبِئسَ رَافِعَانِ اسْمَيْنِ

مقَارِنيْ "ألْ" أو مُضَافَيْنِ لمَا

قَارَنَهَا كَـ"نِعْمَ عُقْبَى الْكُرَمَا"

وَيَرْفَعَانِ مُضْمَرًا يُفَسِّرُهْ

ممَيِّزٌ كَـ"نِعْمَ قَوْمًا مَعْشَرهْ"

وَجَمْع تَمْيِيزٍ وَفَاعِلٍ ظَهَرْ

فِيه خلَافّ عَنْهُمُ قَدِ اشْتَهَرْ

وَ "مَا" ممَيِّزٌ وَقِيلَ فَاعِلُ

فِي نَحْوِ "نِعمَ مَا يَقُولُ الْفَاضِلُ"

وَيُذْكَرُ الْمَخْصُوصُ بَعْدُ مُبْتَدَا

أوْ خَبَرَ اسمٍ لَيسَ يَبدُو أبَدَا

وَإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بِهِ كفى

كَـ "الْعلْمُ نِعْمَ الْمُقْتَنَى وَالْمُقْتَفَى"

(نسيت آية كيت وكيت) بفتح النون، وتخفيف السين اتفاقًا. وإنما نهي عنه لما فيه من التشبه بمن ذمه الله تعالى بقوله:{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126]، فالاحتراز عن مثل هذا القول أحسن. أفاده السندي رحمه الله تعالى.

قال النووي رحمه الله: (قوله: كيت وكيت) أي كذا وكذا، وهو بفتح التاء على المشهور، وحكى الجوهري فتحها وكسرها عن أبي

ص: 227

عبيد. انتهى

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: "كيتَ وكيتَ" يعبر بهما عن الجمل الكثيرة، والحديث الطويل، ومثلهما "ذَيْتَ وذَيْتَ". وقال ثعلب: كيَت للأفعال، وذيت الأسماء.

وحكى ابن التين عن الداودي أن هذه الكلمة مثل كذا، إلا أنها خاصة بالمؤنث، قال في الفتح: وهذا من مفردات الداودي. انتهى

(2)

.

وقال ابن منظور: ما نصه: وكان من الأمر كَيْتَ وكَيْتَ، وإن شئت كسرت التاء، وهي كناية عن القِصَّةِ، أو الأحْدُوثةِ، حكاه سيبويه. وقال الليث: تقول العرب كان منَ الأَمر كيتَ وكيتَ، قال. وهذه التاء في الأصل هاءٌ مثل ذَيْتَ وذيتَ، أصلها كَيَّه، وذَيَّه، بالتشديد، فصارت تاء في الوصل. انتهى

(3)

.

(بل هو نُسِّيَ) بضم النون، وتشديد المهملة المكسورة. قال القرطبي. رواه بعض رواة مسلم مخففًا. قال الحافظ: وكذا هو في "مسند أبي يعلى"، وكذا أخرجه ابن أبي داود في "كتاب الشريعة" من طرق متعددة مضبوطة بخط موثوق به على كلّ سين علامة التخفيف. وقال عياض: كان الكناني -يعني أبا الوليد الوقشي- لا يجيز في هذا

(1)

شرح مسلم جـ 6 ص 77.

(2)

فتح جـ 10 ص 99.

(3)

لسان العرب جـ 5 ص 3964 - 3965.

ص: 228

غير التخفيف.

قال الحافظ: والتثقيل هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في "الغريب" بعد قوله:"كيت وكيت": ليس هو نَسِيَ، ولكنه نُسِّيَ، الأول بفتح النون، وتخفيف السين، والثاني بضم النون، وتثقيل السين.

قال القرطبي: التثقيل معناه أنه عوقب بوقوع النسيان عليه، لتفريطه في معاهدته، واستذكاره، قال: ومعنى التخفيف أن الرجل تُرِكَ غيرَ ملتفَتٍ إليه، وهو كقوله تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، أي تركهم في العذاب، أو تركهم من الرحمة.

وسيأتي الخلاف في متعلق الذم من قوله: "بئس" في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالى.

(استذكروا القرآن) أي واظبوا على تلاوته، وأطلبوا من أنفسكم المذاكرة له. ورواية المصنف بدون عاطف، وكذا عند مسلم، وفي رواية البخاري "واستذكروا" بواو العطف، قال الطيبي: وهو عطف من حيث المعنى على قوله: "بئسما لأحدهم"، أي لا تقصروا في معاهدته.

وزاد ابن أبي داود من طريق عاصم، عن أبي وائل في هذا الموضع:"فإن هذا القرآن وَحْشِيّ". وكذا أخرجها من طريق المسيب بن رافع،

ص: 229

عن ابن مسعود. قاله في الفتح.

(فإِنه) الفاء تعليلية، أي لأنه (أسرع تفصيًا)، وفي رواية الشيخين:"أشد تفصيًا". بفتح الفاء، وكسر الصاد المهملة الثقيله، بعدها تحتانية خفيفة: أي خروجًا وتخلُّصًا.

وأصل التَّفَصِّي: أن يكون الشيءُ في مَضِيقٍ، ثم يخرج إلى غيره. قال ابن الأعرابي: أفْصَى: إذا تخلّص من خير، أو شرّ. وقال الجوهري: أصْلُ الفَصْيَة الشيء تكون فيه، ثم تخرج منه. ويقال. ما كدت أتَفَصَّى من فلان: أي ما كدت أتخلص منه، وتفصّيت من الديون: إذا خرجت منها، وتخلصت. انتهى ملخصًا من اللسان

(1)

.

قال في الفتح. ووقع في حديث عقبة بن عامر بلفظ: "تَفَلُّتًا"، وكذا وقعت عند مسلم في حديث أبي موسى، ونصب على التمييز. انتهى.

(من صدور الرجال) متعلق بـ"ـتفصّيًا"، أي أسرع خروجًا من قلوبهم.

(من النعم من عُقُلِهِ) الجار والمجرور الأول متعلق بـ "ـأسرع"، وهو على حذف مضاف، أي من تفصي النعم، والثاني متعلق بالمضاف المقدر.

و"النَّعَمُ" -بفتحتين-: المال الراعي، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل، قال أبو عبيد:"النعم" الجِمَال فقط،

(1)

جـ 5 ص 2534.

ص: 230

ويؤنث، ويذكّر، وجمعه نُعْمَانٌ، مثلُ حَمَلٍ، وحُمْلَان، وأنْعام أيضًا.

وقيل: "النعم" الإبل خاصة، والأنعام ذوات الخُفّ، والظِّلْفِ، وهي الإبل، والبقر، والغنم، وقيل: تطلق الأنعام على هذه الثلاثة، فإذا

انفردت الإبل فهي نَعَم، وإن انفردت البقر والغنم لم تُسَمَّ نَعَمًا. قاله الفيّومي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال النووي رحمه الله: "النعم" أصلها الإبل، والبقر، والغنم، والمراد هنا الإبل خاصة، لأنها التي تُعقل.

و"العُقُلُ"- بضم العين، والقافُ، ويجوز إسكان القاف، وهو كنظائره، وهو جمع عِقَالٍ، ككتاب وكُتُب.

وتذكير الضمير في قوله: "من عقله" لأن النعم يجوز تذكيره، وتأنيثه، كما مر آنفًا.

ووقع في رواية لمسلم "بعقلها"، وفي رواية "من عقله"، وفي رواية "في عقلها". قال النووي: رحمه الله: وكله صحيح.

والمراد برواية الباء "من"، كما في قوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] على أحد القولين في معناها

(2)

.

وقال القرطبي رحمه الله: من رواه "من عُقُلِها" فهو على الأصل

(1)

المصباح جـ 2 ص 613 - 614.

(2)

انظر. شرح مسلم جـ 6 ص 77.

ص: 231

الذي يقتضيه التعدي من لفظ التفلت

(1)

وأما من رواه بالباء، أو بـ"ـفي"، فيحتمل أن يكون بمعنى "من"، أو للمصاحبة، أو الظرفية.

والحاصل تشبيه من يتفلّت منه القراَدن بالناقة التى تتفلَّت من عقالها، ولقيت متعلقة به. قال الحافظ: كذا قال.

والتحرير أن التشبيه وقع بين ثلاثة بثلاثة، فحامل القرآن شُبِّهَ بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة، والحفظ بالربط.

وقال الطيبيُّ وحمه الله: ليس بين القرآن والناقة مناسبة؛ لأنه قديم، وهي حادثة، لكن وقع التشبيه في المعنى

(2)

. والله تعالى أعلم،

وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -37/ 943 - وفي "الكبرى" -37/ 1015 - وفي "عمل اليوم والليلة" -10562 - وفي "فضائل القرآن" 8039 - عن عمران بن موسى، عن يزيد بن زُرَيع، عن شعبة، عن منصور، عن أبي

(1)

أي في رواية "أشَدُّ تَفَلُّتًا" ومثله "التفَصِّي" كما في رواية المصنف رحمه الله.

(2)

راجع "فتح الباري" جـ 10 ص 102.

ص: 232

وائل، عنه. وفي "عمل اليوم والليلة" -10563 - وفي "فضائل القرآن" 8043 - عن محمود بن غيلان، عن أبي نُعَيم، ومعاوية، كلاهما عن سفيان، عن منصور به. وفي "فضائل القرآن" أيضًا 8043 عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن منصور به. وفي "فضائل القرآن" أيضًا 8040 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن منصور به. وفي "عمل اليوم والليلة" -10561 - عن أحمد بن حرب، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل به. وفي -10560 - عن عبد الوارث بن عبد الصمد، عن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن محمد بن جحادة، عن عبدة بن أبي لبابة، عن أبي وائل عنه. وفي -10564 - عن قتيبة بن سعيد، عن حماد، عن منصور، وعاصم، كلاهما عن أبي وائل، عن ابن مسعود موقوفًا.

تنبيه:

ليس في رواية "عمل اليوم والليلة" إلا الجزء الأول من الحديث فقط، وكذا في "فضائل القرآن" من طريق سفيان عن منصور. والله

تعالى أعلم.

تنبيه آخر:

قال المصنف رحمه الله في "فضائل القرآن" بعد أن خرج الحديث مرفوعًا بسند الباب- ما نصه: وقفه جرير.

ص: 233

حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا جرير، من منصور، من أبي وائل، عن عبد الله، قال: استذكروا القرآن، فلهو أشدّ تفصيًا من صدوو الرجال من النعم من عُقُله، ولا يقولنّ أحدكم: نَسِيت آية كيت وكيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "بل نسي". انتهى

(1)

.

وقال الإسماعيلي رحمه الله. روى حماد بن زيد، عن منصور، وعاصم الحديثين معًا موقوفين، وكذا رواهما أبو الأحوص عن ممْصور، وأما ابن عيينة، فأسند الأول، ووقف الثاني، قال: ورفعهما جميعًا إبراهيم بن طهمان، وعَبِيدَةُ بنُ حُمَيد عن منصور، وهو ظاهر سياق سفيان الثوري.

قال الحافظ رحمه الله: ورواية عَبِيدَة أخرجها ابن أبي داود، ورواية سفيان أخرجها البخاري مرفوعة، لكن اقتصر على الحديث الأول، وأخرج ابن أبي داود من طريق أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله مرفوعًا الحديثين معًا، وفي رواية عبدة بن أبي لبابة تصريح ابن مسعود بقوله:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وذلك يقوي رواية من رفعه عن منصور. والله تعالى أعلم

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن الحديثين رويا مرفوعين، وموقوفين، والراجح الرفع، لكونه زيادة من الثقات الضابطين، مثل

شعبة، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن طهمان، وعَبِيدة بن حُمَيد،

(1)

السنن الكبرى جـ 5 ص 19.

(2)

انظر الفتح جـ 10 ص 101.

ص: 234

وغيرهم، فلا التفات إلى قول من أعل الحديثين بالوقف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "فضائل القرآن" عن محمد بن عرعرة، عن شعبة به. (ح) وعن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن سفيان، عن منصور به. وعن أبي نعيم، من سفيان به.

ومسلم في الصلاة عن زهير بن حرب، وعثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، كلهم عن جرير به. وعن محمد بن عبد الله بن

نمير، عن أبيه، وأبي معاوية- وعن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية- كلاهما عن الأعمش به. وعن محمد بن حاتم، عن محمد بن بكر، عن ابن جريج، عن عبدة بن أبي لبابة به.

والترمذي عن محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة به.

وأخرجه (الحميدي) رقم 91، (وأحمد) 1/ 417 و 423 و 429 و 438 و 3620 و 449 و 463، و (الدارمي) رقم 3350. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائد الحديثين:

منها: الحَثُّ على محافظة القرآن بدوام دراسته، وتكرار تلاوته، والتحذير من تعريضه للنسيان.

وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم مبالغةً في الحث على تعاهده، فيما أخرجه

ص: 235

الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيًا من الإبل في عقلها".

ومنها: ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد، وتقريبه إلى الأذهان.

ومنها: بيان صعوبة القرآن على المتساهل في مراجعته، ولا ينافي هذا قوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17]؛ لأن

تيسيره بالنسبة لمن أراد حفظه، واجتهد فيه، وصعوبته بالنسبة لمن لم يتعاهده، ولم يُجهِدْ نفسه فيه.

ومنها: النهي عن قول الإنسان: نسيت آية كذا وكذا، وإنما يقول: نُسيتها، وإنما نهي عن الأول دون الثاني، لأنه يتضمن التساهل فيها، والتغافل عنها، وقد قال الله تعالى:{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126].

وقال القاضي عياض رحمه الله: أولى ما يتأول عليه الحديث أن معناه ذمّ الحال، لا ذم القول، أي نسيت الحالة، حالة من حفظ القرآن، فغفل عنه حتى نسيه. انتهى. وقال النووي رحمه الله: الكراهية للتنزيه.

قال الجامع عفا الله عنه: يؤيد ما قاله النووي رحمه الله ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلًا يقرأ في سورة بالليل، فقال:"يرحمه الله، لقد أذكرني آية كذا وكذا، كنت أُنسيتها من سورة كذا وكذا". رواه البخاري. وفي رواية الإسماعيلي: "كنت نَسِيتُها"- بفتح النون، ليس

ص: 236

قبلها همزة. فإنه صارف للنهي عن التحريم إلى التنزيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسأله الخامسة: في اختلاف العلماء في متعلق الذمّ من قوله: "بئس": قال في الفتح: واختلف في متعلق الذم من قوله: "بئس" على أوجه:

الأول: قيل هو على نسبة الإنسان إلى نفسه النسيان، وهو لا صنع له فيه، فإذا نسبه إلى نفسه أوهم أنه انفرد بفعله، فكان ينبغي أن يقول: أنسيت، أو نُسّيت -بالتثقيل- على البناء للمجهول فيهما، أي إن الله هو الذي أنساني، كما قال:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وقال:{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64]، وبهذا الوجه جزم ابن بطال، فقال: أراد أن يجري على ألسن العباد نسبة الأفعال إلى خالقها، لما في ذلك من الإقرار له بالعبودية، والاستسلام لقدرته، وذلك أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها مع أن نسبتها إلى مكتسبها جائز بدليل الكتاب والسنة، ثم ذكر الحديث الآتي في [باب نسيان القرآن]

(1)

، قال: وقد أضاف موسى عليه السلام النسيان مرة إلى نفسه، ومرة إلى الشيطان، فقال:{فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]، ولكل إضافة منها معنى صحيح،

(1)

الظاهر أنه أراد حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ في سورة بالليل، فقال:"يرحمه الله، لقد أذكرني آية كذا وكذا، كنت أنسيتها من سورة كذًا"، وفي رواية الإسماعيلي:"نَسِيتها".

ص: 237

فالإضافة إلى الله بمعنى أنه خالق الأفعال كلها، وإلى النفس لأن الإنسان هو المكتسب لها، وإلى الشيطان بمعنى الوسوسة اهـ.

قال الحافظ: ووقع له ذهول فيما نسبه لموسى عليه السلام، وإنما هو كلام فتاه.

وقال القرطبي رحمه الله: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب النسيان إلى نفسه -يعني حيث قال حينما سمع رجلًا يقرأ سورة: "يرحمه الله لقد أذكرني آية كذا وكذا، كثت أنسيتها، من سورة كذا وكذا"- وفي رواية الإسماعيلي: نَسِيتها- وكذا نسبه يوشع إلى نفسه حيث قال: {نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63]، وموسى إلى نفسه حيث قال:{لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 63]، وقد سيق قول الصحابة {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة: 286] مساق المدح، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7].

فالذي يظهر أن ذلك ليس متعلق الذمّ، وجنح إلى اختيار:

الوجه الثاني: وهو كالأول، لكن سبب الذمّ ما فيه من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد، وكثرة

الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته، والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال الإنسان: نسيت الاية الفلانية، فكأنه شهد على نفسه بالتفريط، فيكون متعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد، لأنه الذي يورث النسيان.

الوجه الثالث: قال الإسماعيلي رحمه الله: يحتمل أن يكون كره

ص: 238

له أن يقول: نسيت بمعنى تركت، لا بمعنى السهو العارض، كما قال تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وهذا اختيار أبي عبيد، وطائفة.

الوجه الرابع: قال الإسماعيلي أيضًا: يحتمل أن يكون فاعل نَسِت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: لا يقل أحد عني إني نسيت آية كذا، فإن الله هوَ الذي نسّاني ذلك، لحكمة نسخه، ورفع تلاوته، وليس لي في ذلك صنع، بل الله هو الذي ينسيني لما تنسخ تلاوته، وهو كقوله تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7]، فإن المراد بالمنسي ما ينسخ تلاوته، فينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم ما يريد نسخ تلاوته.

الوجه الخامس: قال الخطابي. يحتمل أن يكون ذلك خاصًا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من ضروب النسخ نسيان الشيء الذي ينزل، ثم ينسخ منه بعد نزوله الشيء، فيذهب رسمه، وترفع تلاوته، ويسقط حفظه عن حملته، فيقول القائل: نسيت آية كذا، فنهوا عن ذلك، لئلا يتوهم على محكم القرآن الضياع، وأشار لهم إلى أن الذي يقع من ذلك إنما هو بإذن الله لما رآه من الحكمة والمصلحة.

الوجه السادس: قال الإسماعيلي: وفيه وجه آخر، وهو أن النسيان الذي هو خلاف الذكر إضافته إلى صاحبه مجاز، لأنه عارض

له لا عن قصد منه، لأنه لو قصد نسيان الشيء لكان ذاكرًا له في حال قصده، فهو كما قال: ما مات فلان، ولكن أميت.

قال الحافظ: هو قريب من الوجه الأول، وأرجح الأوجه الوجه

ص: 239

الثاني، ويؤيده عطف الأمر باستذكار القرآن عليه. انتهى ما في الفتح

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أرجح الأوجه عندي هو الثاني كما رجح الحافظ رحمه الله تعالى.

فيكون سبب الذم هو عدم الاعتناء باستذكار القرآن، وتعاهده، فإذا قال: نسيت آية كيت وكيت فكأنه شهد على نفسه بالتفريط، فيكون مشابهًا للذين ذمهم الله تعالى بسبب إعراضهم عن آياته، بقوله:{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة: في اختلاف العلماء في حكم نسيان القرآن:

قال في الفتح: واختلف السلف رحمهم الله في نسيان القرآن، فمنهم من جعل ذلك من الكبائر، وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك ابن مزاحم موقوفًا، قال. ما من أحد تعلم القرآن، ثم نسيه إلا بذنب أحدثه، لأن الله يقول:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 35]، ونسيان القرآن من أعظم المصائب، واحتجوا أيضًا بما أخرجه أبو داود، والترمذي من حديث أنس مرفوعًا:"عُرِضَت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن، أوتيها رجل، ثم نسيها". وفي إسناده ضعف.

(1)

فتح جـ 10 ص 99 - 100.

ص: 240

وقد أخرج ابن أبي داود من وجه آخر مرسل نحوه، ولفظه:"أعظم من حامل القرآن وتاركه".

ومن طريق أبي العالية موقوفًا: "كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن، ثم ينام عنه حتى ينساه". وإسناده جيد.

ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه، ويقولون فيه قولًا شديدًا.

ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعًا: "من قرأ القرآن، ثم نسيه لقي الله وهو أجذم"

(1)

. وفي إسناده أيضًا مقال.

وقد قال به من الشافعية أبو المكارم، واحتج بأن الإعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن، ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به، والتهاون بأمره.

وقال القرطبي: من حفظ القرآن، أو بعضه، فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه، فإذا أخلّ بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح

عنها ناسب أن يعاقب على ذلك، فإنّ ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل، والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد.

وقال إسحاق بن راهويه: يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يومًا لا

(1)

واختلف في معنى "أجذم"، فقيل: مقطوع اليد، وقيل: مقطوع الحجة. وقيل. مقطوع السبب من الخير. وقيل: خالي اليد من الخير، وهي متقاربة. وقيل: يحشر مجذومًا حقيقة، ويؤيده في رواية زائدة بن قدامة عند عبد بن حميد. "أتى الله يوم القيامة وهو مجذوم". انتهى فتح جـ 10 ص 107.

ص: 241

يقرأ فيها القرآن.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بكون النسيان من الكبائر على إطلاقه غير صحيح، لأنه مما لا دليل عليه، إذ لا تصح الأحاديث فيه، ففي إسناد حديث أنس المذكور عبدُ المجيد بنُ عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، وهو مختلف فيه، والمطلب بن عبد الله بن حنطب، صدوق كثير التدليس والإرسال -كما قال في التقريب- وقد عنعنه عن أنس. فالحديث ضعيف.

وأما حديث سعد بن عبادة ففيه يزيد بن أبي زياد ضعيف، وعيسى بن أبي عيسى قال ابن المديني: مجهول لم يرو عنه غير يزيد بن أبي زياد، وقال ابن عبد البر: لم يسمع من سعد بن عبادة، ولا أدركه

(1)

.

وبالجملة أن الأحاديث في هذا الباب لا تصح، وعلى تقدير صحتها تحمل على من أعرض عن القرآن عملًا وتلاوة، فيكون معنى الحديث على معنى قوله تعالى:{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126].

وأما الذي يعمل بالقرآن، وهو حافظ له، ثم عرض له مانع يمنعه عن استذكاره، وشغل يشغله عن مراجعته حتى نسيه، فليس داخلًا في الوعيد، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان ينسى بعض الآيات، فلو كان نسيانه معصية لما نسي صلى الله عليه وسلم.

والحاصل أن نسيان القرآن بعد حفظه بعذر ليس بمعصية، فضلًا عن

(1)

انظر "تت"جـ 8 ص 227.

ص: 242

أن يكون من الكبائر، وأما نسيانه بدون عذر فإنه من الكبائر، لأنه يدل على إعراضه عنه، وعدم مبالاته به، فيدخل تحت الوعيد المذكور في الآية المذكورة. هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السابعة: ليس في الحديثين المذكورين تقدير مدة مخصوصة للزمن الذي يختم فيه القرآن، لكن مقتضاهما أنه يتلوه على

وجه لو نقص عنه لأدى إلى نسيانه، أو نسيان شيء منه، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في تمكنهم من الحفظ، وفي سرعة النسيان وبطئه.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختمونه في كل سَبْعٍ.

وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن حذيفة، قال: قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أبطأت عنا الليلة، قال:"إنه طرأ عليّ حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أختمه"، قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُحَزّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده

(1)

.

وفي صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو: "واقرإ القرآن في شهر؟ " قلت: إني أجد قوة، حتى قال: "فاقرأه في

(1)

وفي سنده عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى مختلف فيه. وعثمان بن عبد الله بن أوس ليس له إلا هذا الحديث، ولم يوثقه إلا ابن حبان.

ص: 243

سبع، ولا تزد على ذلك".

وممن كان يختمه في كل سبعة أيام تميمٌ الداري، وعبد الرحمن بن يزيد، وإبراهيم النخعي، وعروة بن الزبير، وأبو مِجْلز، وأحمد بن

حنبل، وامرأة ابن مسعود، واستحسنه مسروق.

وممن كان يختمه في ثمان أُبيّ، وأبو قلابة. وممن كان يختمه في ست الأسود بن يزيد. وممن كان يختمه في خمس علقمة بن قيس، وممن كان يختمه في ثلاث ابن مسعود، وقال: من قرأه في أقلّ من ثلاث فهو رأجز، وكره ذلك معاذ، وكان المسيب بن رافع يختمه في كل ثلاث، ثم يصبح اليوم الذي يختم فيه صائمًا. رواها كلها ابن أبي شيبة. رحمه الله تعالى.

وروى ابن أبي داود عن بعض السلف أنهم كانوا يختمون في شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليال. وقال أحمد بن حنبل: أكثر ما سمعت أنه يختم القرآن في أربعين، وكره الحنابلة تأخيره عن ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله عبد الله بن عمرو في كم يقرأ القرآن؟ قال:"في أربعين يومًا"، ثم قال:"في شهر"، تم قال:"في عشرين"، ثم قال:"في خمس عشرة"، ثم قال:"في عشر"، ثم قال:"في سبع"، لم ينزل من سبع. رواه أبو داود.

قالوا: ولأن تأخيره أكثر من ذلك يفضي إلى النسيان، والتهاون

ص: 244

به، قالوا: وهذا إذا لم يكن له عذر، فأما مع العذر فواسع له، واستحبوا أن يختمه في سبع، وقالوا: إن قرأه في ثلاث فحسن، لما

روي عن عبد الله بن عمرو، قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بي قوّةً، قال:"اقرأه في ثلاث". رواه أبو داود. وعن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: أكره أن يقرأه في أقلّ من ثلاث، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يفقه من قرأه في أقلّ من ثلاث". رواه أبو داود.

وجعل ابن حزم الظاهري قراءته في أقل من ثلاث حرامًا، فقال: يستحب أن يختم القرآن مرة في كلّ شهر، ويكره أن يختم في أقل من خمسة أيام، فإذا فعل ففي ثلاثة أيام، لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ذلك، ولا يجوز لأحد أن يقرأ أكثر من ثلث القرآن في يوم وليلة، ثم استدلّ على ذلك بالحديث المتقدم:"لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث".

قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: ولا حجة في ذلك على تحريمه، ولا يقال: إن كل من لم يتفقه في القرآن فقد ارتكب محرمًا، ومراد الحديث أنه لا يمكن مع قراءته في أقل من ثلاث التفقه فيه، والتدبر لمعانيه، ولا يتسع الزمان لذلك.

وقد روي عن جماعة من السلف قراءة القرآن كله في ركعة واحدة، منهم عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، وعن علي الأزدي وعلقمة قراءته في ليلة واحدة. رواها كلها ابن أبي شيبة في

ص: 245

"مصنفه".

وكان الشافعي يختم القرآن في كل يوم وليلة، فإذا كان شهر رمضان ختم في اليوم والليلة مرتين. وكان الأسود يختمه في رمضان

في ليلتين، وفي سواه في ست. وكان بعضهم يزيد على ذلك.

قال ابن عبد البر: كان سعيد بن جبير وجماعة يختمون القرآن مرتين وأكثر في ليلة.

وقال النووي: وأكثر ما بلغنا في ذلك عن ابن الكاتب أنه كان يقرأ في اليوم والليلة ثمان ختمات، وأكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة، والترتيل أفضل من العجلة.

وفي مصنف ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت لأن أقرأ القرآن في شهر أحب إلى من أن أقرأه في خمس عشرة، ولأن أقرأه في خمس عشرة أحب إليّ من أن أقرأه في عشر، ولأن أقرأه في عشر أحب إليّ من أن أقرأه في سبع، أقِفُ، وأدعو. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأفضل أن يقرأ القرآن في شهر، لما في رواية البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:"اقرإ القرآن في شهر". مع أنه يعلم أن له نشاطًا وقوة على القراءة، فلما استزاده، وألحّ عليه قال له:"اقرأه في عشرين"،

(1)

انظر طرح التثريب في شرح التقريب جـ 3 ص 102 - 104.

ص: 246

إلخ. فدلّ على أن الشهر هو الأولى، لكن من وجد قوة ونشاطًا فله أن يزيد على ذلك حتى يصل إلى سبع، والأفضل أن لا يزيد عليها، لأنها التي وقف عندها النبي صلى الله عليه وسلم مع إلحاح عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال له:"ولا تزد على سبع"، فدل على أنه لا أفضل وراءها، ويجوز في ثلاث، ولا يزيد عليها، فإن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثامنة: أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ في سورة بالليل، فقال:"يرحمه الله، لقد أذكرني آية كذا وكذا، كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا". وفي لفظ. "كنت أسقطتهن من سورة كذا".

في هذا الحديث حجة لمن أجاز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس طريقه البلاغ مطلقًا، وكذا فيما طريقه البلاغ، لكن بشرطين: أحدهما: أنه بعد ما يقع منه تبليغه، والآخر: أنه لا يستمرّ على نسيانه، بل يحصل له تذكره، إما بنفسه، وإما بغيره، وهل يشترط في هذا الفورُ؟ قولان، فأما قبل تبليغه، فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلًا.

وزعم بعض الأصوليين، وبعض الصوفية أنه لا يقع منه نسيان أصلًا، وإنما يقع منه صورته لِيَسُنّ. قال القاضي عياض: لم يقل به من الأصوليين أحد، إلا أبا المظفر الإسفراييني، وهو قول ضعيف.

وقال الإسماعيلي رحمه الله: النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من

ص: 247

القرآن يكون على قسمين:

أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في السهو. "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون".

والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسِخ تلاوته، وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى. {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7].

قال: فأما القسم الأول، فعارض سريع الزوال، لظاهر قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وأما الثاني فداخل في قول تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] على قراءة من قرأ بضم أوله من غير همز. انتهى من الفتح بتصرف

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي تفيده الأدلة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم ينسى كما ينسى سائر البشر، لكن ذلك بعد تبليغه للناس، وحفظهم له، أما قبل التمليغ فلا؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه، حيث قال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فلو نسيه قبل التبليغ لما تمكن من تبليغه، فلا يكون محفوظًا، وقد أخبر الله تعالى بأنه حافظ له. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

جـ 10 ص 104 - 106.

ص: 248

‌38 - الْقِرَاءَةُ فِي رَكْعَتَي الْفَجْر

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية القراءة في ركعتي الفجر، وبيان الآيتين اللتين يقرأ بهما فيهما مع الفاتحة، وإنما ترك ذكرها اكتفاء بما تقدم له من الأدلة على وجوب قراءتها في كل الصلوات.

والمراد بركعتي الفجر سنة الصبح القبلية.

وأراد المصنف رحمه الله تعالى الرد على من قال: لا يقرأ فيهما أصلًا، وعلى من قال: لا يقرأ غير الفاتحة، كما سنذكره في المسألة

الرابعة، إن شاء الله تعالى.

944 -

أَخْبَرَنِا

(1)

عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي الأُولَى مِنْهُمَا الآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَفِي الأُخْرَى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ

(1)

وفي نسخة: "أخبرني".

ص: 249

بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(عمران بن يزيد) هو عمران بن خالد بن يزيد بن مسلم القرشي، ويقال: الطائي الدمشقي، نسب لجده، صدوق من [10]،

مات سنة 244، أخرج له النسائي، تقدم في 18/ 422.

2 -

(مروان بن معاوية) بن الحارث بن أسماء الفزاري، أبو عبد الله الكوفي، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقة حافظ، وكان يدلس أسماء

الشيوخ من [8]، مات سنة 193، أخرج له الجماعة، تقدم في 50/ 850.

3 -

(عثمان بن حكيم) بن عَبَّاد بن حُنَيف الأنصاري الأوسي، أبو سهل المدني، ثم الكوفي، ثقة من [5].

قال البخاري عن علي: له نحو عشرين حديثًا. وقال أبو طالب عن أحمد: ثقة ثبت. وقال ابن معين، وأبو داود، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح. وقال أبو سعيد الأشج، عن أبي خالد الأحمر: سمعت أوثق أهل الكوفة، وأعبدهم عثمان بن حكيم. ووثقه العجلي، وابن نمير، ويعقوب بن شيبة، وابن سعد، وغيرهم، وذكره ابن حبان في الثقات. وأرخ ابن قانع وفاته سنة 138 - وقال خليفة في الطبقة الخامسة من أهل الكوفة: مات قبل الأربعين ومائة. علق له

ص: 250

البخاري، وأخرج له الباقون

(1)

.

4 -

(سعيد بن يسار) أبو الحُبَاب المدني، ثقة متقن من [3]، مات سنة 117، أخرج له الجماعة، تقدم في 46/ 740.

5 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدم في 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.

ومنها: أن رجاله ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا شيخه، فهو من أفراده.

ومنها: أنه مسلسل بالإخبار والتحديث.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي.

ومنها: أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(قال) عثمان بن حكيم (أخبرني سعيد بن يسار أن ابن عباس) رضي الله عنهما (أخبره) أي سعيدًا (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر) أي في بعض الأحيان بدليل ما يأتي في الباب التالي

(1)

"تت" جـ 7 ص 111 - 112.

ص: 251

أنه قرأ بـ"قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد".

ولفظ أبي داود: "إن كثيرًا مما كان يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركعتي الفجر"

والمراد أنه كان يقرأ ما ذكر بعد قراءة الفاتحة، لما تقرر من الأدلة أن الصلاة لا تصح بدونها، كما أشرنا إليه في أول الباب.

(في الأولى منهما) بدل من الجار والمجرور قبله، بدل تفصيل من مجمل (الآية) بالنصب مفعول به لـ "يقرأ" (التي في البقرة {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]) "قولوا" بدل من "الآية" منصوب محكي، أو خبر لمبتدإ محذوف، أي هي، أو مفعول لفعل محذوف، أي أعني (إِلى آخر الآية) أي يقرؤها إلى آخرها، وتمامُها:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

(وفي الأخرى) أي ويقرأ في الركعة الثانية {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] أي يقرأ الآية المشتملة على هذا الكلام، وهي {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].

ووقع في رواية لمسلم من طريق أبي خالد الأحمر، من عثمان بن حكيم: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ

ص: 252

وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136]، والتي في آل عمران:{تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64].

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن الرواية الأولى أرجح لأن مروان بن معاوية أحفظ من أبي خالد الأحمر، وقد تابعه عيسى بن

يونس، كما ذكره مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.

ويحتمل أن يكون في بعض الأوقات يقرأ هذه، وفي بعضها يقرأ هذه، وهو ظاهر صنيع مسلم، حيث أخرج الحديثين في صحيحه. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا -38/ 944 - وفي "الكبرى" -38/ 1016 بالإسناد المذكور. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن قتيبة بن سعيد، عن مروان بن معاوية الفزاري- وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر-

وعن علي ابن خشرم، عن عيسى بن يونس- ثلاثتهم عن عثمان بن حكيم، عن سعيد بن يسار، عنه.

ص: 253

وأبو داود فيه عن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن عثمان بن حكيم به.

وأخرجه (أحمد (1/ 230 و 231، (وعبد بن حُمَيد) رقم 706، (وابن خزيمة)1115. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: مشروعية القراءة في ركعتي الفجر، وهو مذهب الجمهور، وقد خالف بعض السلف فقال: لا يقرأ شيئًا. وهو قول باطل مخالف للسنة الصحيحة التي لا معارض لها، كما قال النووي رحمه الله تعالى.

ومنها: بيان استحباب قراءة الآيتين المذكورتين بعد الفاتحة في الركعتين، وهو مذهب الشافعي، وجمهور أهل العلم رحمهم الله، وقال مالك وجمهور أصحابه، لا يقرأ غير الفاتحة، وهو قول مخالف للأدلة الصحيحة أيضًا

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

انظر: شرح مسلم للنووي رحمه الله جـ 6 ص 6.

ص: 254

‌39 - بَابَ الْقِرِاءَةِ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب قراءة هاتين السورتين بعد فاتحة الكتاب في ركعتي الفجر.

945 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(عبد الرحمن بن إِبراهيم) بن عمرو العُثماني مولاهم الدمشقي، أو سعيد، لقبه (دُحَيم) مصغرًا ابن اليتيم، ثقة حافظ متقن

من [10]، مات سنة 245، أخرج له البخاري، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 45/ 56.

2 -

(مروان) بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري، أبو

ص: 255

عبد الله الكوفي، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقة حافظ، كان يدلس أسماء الشيوخ من [8]، مات سنة 193، أخرج له الجماعة، تقدم

في 50/ 850.

3 -

(يزيد بن كيسان) اليشكري، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين -مصغرًا- الكوفي، صدوق يخطئ من [6]، أخرج له البخاري في

الأدب المفرد ومسلم والأربعة، تقدم في 173/ 270.

4 -

(أبو حازم) سلمان الأشجعي الكوفي، ثقة -3 - مات على رأس (100)، أخرج له الجماعة، تقدم في 173/ 270.

5 -

(أبو هريرة) الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، من رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له مسلم، والترمذي، وأنهم كوفيون، إلا شيخه، فدمشقي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية للحديث، روى -5374 - حديثًا، وفيه الإخبار في أوله، والتحديث في موضعين، والعنعنة في موضعين. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في

ص: 256

ركعتي الفجر) أي بعد قراءة أم القرآن، وإنما لم يذكرها لوضوح أمرها {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أي قرأ السورتين بتمامهما، فقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الثانية بعد الفاتحة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].

وفي الحديث دليل لما ذهب إليه الجمهور من استحباب قراءة سورة في كل ركعة من هاتين الركعتين بعد الفاتحة، وكون المقروء في الأولى سورة "الكافرون"، وفي الثانية سورة "الإخلاص".

ولا دليل فيه لمن قال: لا تتعين قراءة الفاتحة في هاتين الركعتين، لعدم ذكرها مع السورتين، لما علمت من أن عدم ذكرها لاشتهار أمرها.

وفيه الردّ على مالك في قوله بالاقتصار فيهما على الفاتحة، وعلى من قال: لا قراءة فيهما أصلًا. والله تعالى أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -39/ 945 - وفي "الكبرى" -39/ 1017 -

ص: 257

بالإسناد المذكور.

المسألة الثالتة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن محمد بن عباد، وابن أبي عمر- كلاهما عن مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد بن كيسان، عن

أبي حازم عنه.

وأبو داود فيه عن يحيى بن معين، عن مروان به.

وابن ماجه فيه عن عبد الرحمن بن إبراهيم، دحيم، ويعقوب ابن حميد بن كاسب، كلاهما عن مروان يه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 258

‌40 - تَخْفِيفُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على استحباب تخفيف صلاة ركعتي الفجر.

946 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنْ كُنْتُ لأَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَيُخَفِّفُهُمَا، حَتَّى أَقُولَ: أَقَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ؟.

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي، أبو يعقوب، أو أبو محمد المعروف بابن راهويه، ثقة حجة ثبت فقيه من [10]، مات سنة 238 وله 72 سنة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، تقدم في 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قرط الضبي الكوفي، نزيل الري

(1)

وفي نسخة "أخبرنا".

ص: 259

وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه من [8]، مات سنة 188، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.

3 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاري، أبو سعيد قاضي المدينة، ثقة ثبت من [5]، مات سنة 144 - أو بعدها، أخرج له

الجماعة، تقدم في 22/ 23.

4 -

(محمد بن عبد الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصاري المدني، ابن أخي عمرة بنت عبد الرحمن، وهو محمد بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، ويقال: ابن محمد بدل عبد الله، ومنهم من ينسبه إلى جده لأمه، فيقول: محمد

ابن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، ثقة -6 - .

روى عن عمته عمرة بنت عبد الرحمن، وأختها لأمها أم هشام بنت حارثة بن النعمان، ويحيى بن أسعد بن زارارة، وابن كعب بن مالك، وعمرو، ويقال: محمد بن شرحبيل، والأعرج، ومحمد بن عمرو بن الحسن، وغيرهم.

وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أبي كثير، وسهيل بن أبي صالح، وعمارة بن غزية، وأبو أويس، وغيرهم.

ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وقال: توفي سنة -124 - وهو ثقة، وله أحاديث. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وصرح ابن سعد بأن عمرة عمة أبيه.

ص: 260

وكان عامل عمر بن عبد العزيز على المدينة فيما قال يحيى بن أبي كثير وغيره.

وقال ابن أبي خيثمة: مصعب بن عبد الله يقول: كان محمد بن عبد الرحمن واليًا على اليمامة لعمر بن عبد العزيز، وكان رجلًا

صالحًا.

أخرج له الجماعة

(1)

.

5 -

(عمرة) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، ثقة من [3]، ماتت قبل 100 - ويقال: بعدها، أخرج لها الجماعة، تقدمت 134/ 203.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وأنهم مدنيون، إلا شيخه، فمروزي، نزل نيسابور، وجريرًا، فكوفي، نزل الريّ، وفيه رواية الراوي عن عمته، وفيه عائشة من المكثرين السبعة، روت -2210 - حديثًا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

"تك" جـ 25 ص 610 - 611 - "تت"جـ 9 ص 298.

ص: 261

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: إِن كنت لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم) "إن" مخففة من الثقيلة، واللام في "لأرى" هي الفارقة بين "إن" المخففة، وبين "إن" الشرطية، كما قال في "الخلاصة":

وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللاَّمُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

أي إني كنت لأبصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم (يصلي ركعتي الفجر) الجملة في محل تصب على الحال، لأنَّ "أرى" بصرية، لا تنصب إلا مفعولًا واحدًا، وهو هنا "رسول الله".

ووقع في "الكبرى": "في ركعتي الفجر" بزيادة "في"، والظاهر أنه خطأ. والله تعالى أعلم.

(فيخففهما) أي يخفف القراءة في الركعتين (حتى أقول) بنصب الفعل بـ "ـأن" مضمرة وجوبًا بعد "حتى"، لأن الفعل ينصب بعدها إذا كان مستقبلًا، ويرفع إذا كان حالًا، أو مؤولًا به، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أنْ"

حَتْمٌ كَـ"جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"

وَتِلْوَ "حَتَّى" حَالًا أوْ مُؤَوَّلَا

بِهِ ارْفَعنَّ وانْصِبِ الْمُستَقْبَلَا

ثم إن القول هنا يحتمل أن يكون بمعنى التلفظ، ويحتمل أن يكون بمعنى الظن.

(أقرأ بأم الكتاب) هكذا في "المجتبى" بالاستفهام، وهو الموافق

ص: 262

لما في الصحيحين، ووقع في "الكبرى":"ما قرأ فيهما بأم الكتاب"، بـ "ما" النافية، ولا ينافي معنى الاستفهام، إذ معناه حتى أظن عدم قراءته، فقد صح فيما سبق من الدلائل أنه صلى الله عليه وسلم كانت يقرأ فيهما. والله أعلم.

ولفظ البخاري. "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب". وفي رواية الحموي: "بأم القرآن"، وزاد مالك في روايته:"أم لا؟ ".

ولفظ أحمد عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن:"إذا طلع الفجر صلى ركعتين، أو لم يصل إلا ركعتين، أقول: لم يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب". وكذا عند مسلم من طريق معاذ، عن شعبة، لكن لم يقل. "أو لم يصل إلا ركعتين". ورواه أحمد أيضًا عن يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة بلفظ:"كان إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين، فأقول: هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب"

(1)

.

قال السندي رحمه الله: قوله (أقرأ بأم الكتاب) مبالغة في التخفيف، ومثله لا يفيد الشك في القراءة، ولا يقصد به ذلك، ولا دليل فيه لمن يقول بالاقتصار على الفاتحة، ضرورةَ أن حقيقة اللفظ الشكُّ في الفاتحة أيضًا، وهو متروك بالاتفاق، وعند الحمل على ما قلنا لا يلزم الاقتصار، فالحمل عَلَى الاقتصار مشكل، وقد ثبت خلافه، كما تقدم. والله أعلم. انتهى

(2)

.

(1)

راجع الفتح جـ 3 ص 362 طبعة دار الفكر.

(2)

شرح السندي جـ 2 ص 156.

ص: 263

وقال النووي رحمه الله: هذا الحديث دليل على المبالغة في التخفيف، والمواد المبالغة بالنسبة إلى عادته صلى الله عليه وسلم من إطالة صلاة الليل وغيرها من نوافله، وليس فيه دلالة لمن قال: لا يقرأ فيهما أصلًا، لما قدمناه من الدلائل الصحيحة الصريحة. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد تمسك به من زعم أنه لا قراءة في ركعتي الفجر أصلًا. وتعقب بما ثبت في الأحاديث الآتية.

قال القرطبي رحمه الله: ليس معنى هذا أنهما شكت في قراءته صلى الله عليه وسلم الفاتحة، وإنما معناه أنه كان يطيل في النوافل، فلما خفف في قراءة ركعتي الفجر صار كأنه لم يقرأ بالنسبة إلى غيرها من الصلوات.

قال الحافظ رحمه الله: وفي تخصيصها أم القرآن بالذكر إشارة إلى مواظبته لقراءتها في غيرها من صلاته.

وقد روى ابن ماجه بإسناد قوي عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الفجر، وكان يقول: "نعم السورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ".

ولابن أبي شيبة من طريق محمد بن سيرين، عن عائشة رضي الله عنها:"كان يقرأ فيهما بهما".

ولمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم:"قرأ فيهما بهما".

(1)

شرح مسلم جـ 6 ص 4.

ص: 264

وللترمذي، والنسائي

(1)

من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "رَمَقْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم شهرًا، فكان يقرأ فيهما بهما".

وللترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مثله بغير تقييد، وكذا للبزار عن أنس رضي الله عنه.

ولابن حبان عن جابر رضي الله عنه ما يدل على الترغيب في قراءتهما فيهما. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(2)

.

والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيالت مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -40/ 946 - وفي "الكبرى" 40/ 1018 - بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري 2/ 72 عن محمد بن بشار، عن محمد بن

(1)

ولفظ النسائي 68/ 992 - "رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة"

وسيأتي الكلام عليه هناك، إن شاء الله تعالى.

(2)

فتح جـ 3 ص 362.

ص: 265

جعفر، عن شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عمته عمرة، عن عائشة رضي الله عنها. وعن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن يحيى بن سعيد، من محمد بن عبد الرحمن، من عمرة، عنها.

ومسلم 2/ 160 من محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي، من يحيى بن سعيد به. وعن عبيد الله معاذ، عن أبيه، عن شعبة به.

وأبو داود رقم 1255 - عن أحمد بن أبي شعيب الحَرَّاني، عن زهير ابن معاوية به.

و (الحميدي) رقم 181، و (أحمد) 6/ 40 و 49 و 100 و 172 و 164 و 186 و 235، و (ابن خزيمة) رقم 1113. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: قال الحافظ أبو الحجاج الْمِزيّ رحمه الله تعالى في "تحفة الأشراف" من زياداته.: ما نصه: رواه سعد بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن عبد الرحمن، من عمرة، كما تقدم من رواية أخيه يحيى ابن سعيد عنه.

وقد اختلف فيه على يحيى بن سعيد:

فمنهم: من رواه عنه، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عمرة- كما تقدم.

ومنهم: من رواه عنه، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عمته

ص: 266

عمرة -كما قال شعبة- وهم الأكثرون، وكلا القولين صواب.

ومنهم: من رواه عنه، عن محمد بن محمد الرحمن، عن أمه عمرة، وهو وَهَمٌ.

ورواه مروان بن معاوية الفزارى، من يحيى بن سعيد، عن محمد ابن يحيى بن حبان، عن عمرة، وهو وهم أيضًا، لم يتابعه عليه أحد.

ورواه هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، عن عمرة، وهو وهم أيضًا، لم يُتَابَعْ عليه.

ورواه جماعة جَمَّةٌ، عن شعبة -كما تقدم- منهم يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وخالد بن الحارث، وعثمان بن عمر ابن فارس، وعمرو بن مرزوق.

ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، ولم يتابع على ذلك، وهو معدود من أوهامه.

وذكره أبو مسعود في ترجمة أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن، عن أمه عمرة، ووهم في ذلك أيضًا، وتبعه الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" على وهمه. والله تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ المزّي رحمه الله تعالى

(1)

.

(1)

"تحفة الأشراف" جـ 12 ص 414 - 415.

ص: 267

وقال الحافظ في "نكته": قلت: أخرجه الطحاوي من طريق معاوية ابن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أمه عمرة. فهذا سلف أبي مسعود الذي تبعه الحميدي. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قول البخاري: "عن محمد بن عبد الرحمن" في رواية يحيى بن سعيد: ما حاصله: كذا في الأصل غير منسوب، والظاهر أنه ابن أخي عمرة، وبذلك جزم أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عند الإسماعيلي، وتابعه آخرون عن يحيى.

وذكر الدارقطني في "العلل" أن سليمان بن بلال رواه عن يحيى بن سعيد، قال: حدثني أبو الرجال، وكذا رواه عبد العزيز بن مسلم، ومعاوية بن صالح، عن يحيى، عن محمد، عن عمرة

(2)

، وهو أبو الرجال، وقد تقدم أنه محمد بن عبد الرحمن، فيحتمل أن يكون ليحيى فيه شيخان، لكن رجح الدارقطني الأول. وحكى فيه اختلافات أخرى موهومة. وقد رواه مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عائشة، فأسقط من الإسناد اثنين. انتهى.

وقال أيضًا عند قول شعبة: "عن محمد بن عبد الرحمن، عن عمته عمرة": ما نصه: أي ابن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة،

(1)

النكت الظراف جـ 12 ص 414.

(2)

ونص ما في الفتح: عن يحيى بن محمد بن عمرة، وهو أبو الرجال. وهذا خطأ بلا شك. والذي أثبته هنا هو الذي تفيده عبارة النكت الظراف جـ 12 ص 414. فليحرر.

ص: 268

ويقال: اسم جده "عبد الله".

وقوله: "عن عمته عمرة"، هي بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، وعلى هذا فهي عمة أبيه.

وزعم أبو مسعود، وتبعه الحميدي أنه محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان الأنصاري أبو الرجال، ووهّمه الخطيب في ذلك،

وقال: إن شعبة لم يرو عن أبي الرجال شيئًا. ويؤيد ذلك أن عمرة أم أبي الرجال، لا عمته.

وقد رواه الطيالسي، عن شعبة، فقال، "عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة. ووهموه أيضا. ويحتمل إن كان حفظه أن يكون لشعبة فيه شيخان. انتهى حاصل ما في "الفتح" ببعض تصرف"

(1)

. والله تعالى أعلم.

المسألة الخامسة: يستفاد من حديث الباب استحباب تخفيف ركعتي الفجر، ولذا بالغ بعض السلف، فقال: لا يقرأ فيهما شيئًا أصلًا.

وقال مالك وجمهور أصحابه. لا يقرأ غير الفاتحة، وحكاه ابن عبد البر عن أكثر العلماء.

وقال الشافعي وأحمد والجمهور -كما حكاه عنهم النووي-: يستحب أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة سورة. ذكر هذا الحافظ ولي الدين

(1)

جـ 3 ص 362.

ص: 269

العراقي رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال في "الفتح": ما حاصله بتصرف: استدلّ بحديث الباب من قال لا يزيد فيهما على أم القرآن، وهو قول مالك.

وفي البويطي عن الشافعي: استحباب قراءة السورتين المذكورتين فيهما مع الفاتحة، عملًا بالحديث المذكور، وبذلك قال الجمهور، وقالوا: معنى قول عائشة رضي الله عنها: "هل قرأ فيهما بأم القرآن؟ " أي مقتصرًا عليها، أو ضم إليها غيرها، وذلك لإسراعه بقراءتها، وكان من عادته أن يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها.

وذهب بعضهم إلى إطالة القراءة فيهما، وهو قول أكثر الحنفية، ونقل عن النخعي، وأورد البيهقي فيه حديثًا مرفوعًا، من مرسل سعيد ابن جبير، وفي سنده راو لم يسمّ.

وخص بعضهم ذلك بمن فاته شيء من قراءته في صلاة الليل، فيستدركها في ركعتي الفجر، ونقل ذلك عن أبي حنيفة، وأخرجه ابن

أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن البصري.

واستدل به على الجهر بالقراءة في ركعتي الفجر، ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون ذلك عرف بقراءته بعض السورة، كما ثبت في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قتادهّ في صلاة الظهر: "ويسمعنا الآية

(1)

طرح التثريب جـ 3 ص 46.

ص: 270

أحيانًا"

(1)

، ويدلّ على ذلك أن في رواية ابن سيرين المذكورة:"يسرّ فيهما القراءة". وقد صححه ابن عبد البرّ.

واستدلّ بالأحاديث المذكورة من قال: لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، لأنه لم يذكرها مع سورتي الإخلاص.

وتعقب بأنه ترك ذكر الفاتحة لوضوح الأمر فيها، ويؤيده قول عائشة رضي الله عنها:"لا أدري أقرأ الفاتحة، أم لا؟ "، فإنه يدل على أن الفاتحة كان مقررًا عندهم أنه لابد من قراءتها. والله تعالى أعلم. انتهى ما في الفتح بتصرف

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن تخفيف ركعتي الفجر هو المستحب، وأن قراءة الفاتحة لابد منها، ويقرأ معها أحيانًا السورتين المذكورتين في حديث الباب، أو الآيتين السابقتين في الباب الماضي، وأما القول بالإقتصار على الفاتحة، فمردود بالأحاديث الصحيحة المذكورة، وكذا القول بعدم القراءة أصلًا باطل لمنابذته للأحاديث الصحيحة الموجبة لقراءة فاتحة الكتاب، ولاستحباب الآيتين السابقتين، أو السورتين المذكورتين في هذا الباب. والله تعالي أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، إليه أنيب.

(1)

سيأتي 56/ 975.

(2)

جـ 3 ص 362 - 363.

ص: 271

‌41 - الْقِرَاءَةُ فِي الصُّبْحِ بِالرُّومِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية قراءة سورة الروم في صلاة الصبح.

947 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ شَبِيبٍ أَبِي رَوْحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحِ، فَقَرَأَ "الرُّومَ"، فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ:"مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الطُّهُورَ، فَإِنَّمَا يَلْبِسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ أُولَئِكَ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن بشار) العبدي، أبو بكر، بندار البصري، ثقة حافظ من [10]، مات سنة 252، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 27.

2 -

(عبد الرحمن) لن مهدي بن حسان العنبري مولاهم، أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث من [9]،

ص: 272

مات سنة 198، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبت إمام حجة فقيه من [7]، مات سنة 161 وأخرج له الجماعة، تقدم في 33/ 37.

4 -

(عبد الملك بن عُمَير) بن سويد القرشي، ويقال: اللخْمِي، أبو عمرو، ويقال: أبو عمر، حليف بني عدي الكوفي، ويقال له:

الفرسي، لفرس له سابق، يقال له: القبطي، ثقة فقيه تغير حفظه، وربما دلس من [3].

رأى علي بن أبي طالب، وأبا موسى الأشعري، قال البخاري عن علي بن المديني: له نحو مائتي حديث. وقال علي بن الحسن الهسنجاني، عن أحمد: عبدُ الملك مضطرب الحديث جدًا جمع مع قلة ما روى، له خمسمائة حديث، وقد غلط في كثير منها. وقال إسحاق بن منصور: ضعفه أحمد جدًا. وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: سماك أصلح حديثًا منه. وذلك أن عبد الملك يختلف عليه الحفاظ. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: مُخَلِّط. وقال العجلي: يقال له ابن القبطية، كان على قضاء الكوفة، وهو صالح الحديث، روى أكثر من مائة حديث، تغير حفظه قبل موته. وقال ابن أبي حاتم: ثنا صالح ابن أحمد: ثنا علي بن المديني: سمعت ابن مهدي يقول: كان الثوري يعجب من حفظ عبد الملك، قال صالح: فقلت لأبي: هو عبد الملك

ص: 273

ابن عمير؟ قال: نعم، قال ابن أبي حاتم: فذكرت ذلك لأبي؟ فقال: هذا وهم، إنما هو عبد الملك بن أبي سليمان، وعبد الملك بن عمير لم يوصف بالحفظ. وقال البخاري: سُمِعَ عبدُ الملك بنُ عمير يقول: إني لأحدث بالحديث، فما أترك منه حرفًا، وكان من أفصح الناس، ورواه الميموني عن أحمد، عن ابن عيينة، عن عبيد بن عمير مثله، وقال أبو بكر بن عياش. سمعت أبا إسحاق الهمداني يقول: خذوا العلم من عبد الملك بن عمير. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عيينة: قال رجل لعبد الملك: أين عبد الملك بن عمير القبطي؟ قال. أما عبد الملك، فأنا، وأما القبطي فكان فرسًا لنا سابقًا. وروي عن أبي بكر بن عياش، قال: سمعتُ عبد الملك يقول. هذه السَّنَةَ يُوفَّى في مائةٌ وثلاث سنين.

وقال أبو بكر بن أبي الأسود: مات سنة -136 - أو نحوها، زاد غيره: في ذي الحجة.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ولد لثلاث بقين من خلافة عثمان، ومات سنة -136 - وله يومئذ -103 - سنين، وكان مدلسًا، وكذا ذكر مولده ووفاته ابن سعد، وقال ابن نمير: كان ثقة ثبتًا في الحديث. وقال ابن البَرقِيّ عن ابن معين: ثقة إلا أنه أخطأ في حديث أو حديثين. وقال أبو زرعة: عبد الملك بن عمير عن أبي عبيدة بن الجرّاح مرسل. وقال أبو حاتم: يدخل بينه وبين عمارة بن رويبة رجل، وقال أبو حاتم أيضًا: لا أعلمه سمع من ابن عباس شيئًا. وقال بكر بن المختار عن عبد الملك: صعد بي أبي إلى المنبر إلى علي، فمسح رأسي. وحكى ابن أبي خيثمة عن ابن مردانية كان الفصحاء بالكوفة. أربعة:

ص: 274

عبد الملك بن عمير، وذكر الباقين.

قال الحافظ رحمه الله: واختلف في ضبط "القرشي"، فقيل: بالقاف والمعجمة، نسبة إلى قريش، ويدل عليه قول ابن سعد: إنه حليف بني عدي ابن كعب، وعليه مشى المزّي حيث قال: القرشي، ويقال: اللخمي، وأما أبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وغير واحد، فضبطوه بالفاء والمهملة، لنسبته إلى فرسه، حتى خطأ ابن الأثير من قال غير ذلك. والصواب أنه يجوز في نسبته الأمران، لما أسلفناه. انتهى. أخرج له الجماعة. والله أعلم

(1)

.

5 -

(شبيب) بن نُعَيم، ويقال: ابن أبي رَوْح الوُحَاظي، أبو رَوْحٍ الحمصي، ثقة -3 - أخطأ من عده في الصحابة.

روى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقال له الأغرّ، وعن أبي هريرة، ويزيد بن خُمَيْرٍ. وعنه حَرِيز بن عثمان، وعبد الملك بن عمير، وسنان بن قيس الشامي، وجابر بن غانم السلفي.

قال الآجري عن أبي داود: شيوخ حَرِيز كلهم ثقات، وذكره ابن حبان في الثقات.

ونقل ابن القطان عن ابن الجارود، قال: قال محمد بن يحيى الذهلي: هذا شعبة، وعبد الملك بن عمير في جلالتهما يرويان عن

شبيب أبي روح، قال ابن القطان: شبيب رجل لا تعرف له عدالة. انتهى.

(1)

"تك" جـ 18 ص 370 - 376. "تت" جـ 6 ص 411 - 413.

ص: 275

قال الحافظ: وإنما أراد الذهلي برواية شعبة عنه أنه روى حديثه، لا أنه روى عنه مشافهة، إذ رواية شعبة إنما هي من عبد الملك عنه.

وذكره ابن قانع في الصحابة، وساق له حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج أحمد الحديث في مسنده من رواية شعبة، عن عبد الملك، من شبيب، عن رجل له صحبة، وهو الصواب. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

. أخرج له أبو داود، والمصنف.

6 -

(رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) قال في "تهذيب الكمال": يقال: له الأغرّ. انتهى. ونحوه في "تهذيب التهذيب". وفي "تحفة الأشراف": ويقال: اسم هذا الرجل الأغرّ. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سُدَاسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شبيبًا، فمن أفراد المصنف، وأبي داود.

ومنها: أن شيخه وعبد الرحمن بصريان، وسفيان وعبد الملك كوفيان، وشبيب حمصي.

ومنها: أن شيخه أحد مشايخ الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة، وقد تقدموا غير مرة.

ومنها: أن قوله: "عن وجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، وإن كان فيه

(1)

"تك" جـ 12 ص 371 - 373. "تت" جـ 4 ص 309 - 310.

ص: 276

مبهم، إلا أنه لا يضر، لأن الصحابة كلهم عدول.

فقد روى البخاري عن الحميدي، أنه قال. إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من الصحابة، فهو حجة، وإن لم يسمَّ ذلك الرجل.

وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من الصحابة، ولم يسمه، فالحديث صحيح؟ قال: نعم.

وجعل البيهقي في سننه ما رواه التابعي عن رجل لم يسمَّ من الصحابة مرسلًا. قال العلائي: وليس بجيد، اللهم إلا إن كان يسميه

مرسلًا، ويجعله حجة، كمراسيل الصحابة، فهو قريب.

قال الحافظ العراقي رحمه الله: نعم فرق أبو بكر الصيرفي من الشافعية في كتاب "الدلائل" بين أن يرويه التابعي عن الصحابي معنعنًا، أو مع التصريح بالسماع، فقال: وإذا قال في الحديث بعض التابعين: "عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" لا يقبل؛ لأني لا أعلم سمع التابعي من ذلك الرجل، إذ قد يحدث التابعي عن رجل، وعن رجلين عن الصحابي، ولا أدري، هل أمكن لقاء ذلك الرجل، أم لا؟ فلو علمت إمكانه منه لجعلته كمدرك العصر، قال: وإذا قال: "سمعت رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" قُبِلَ، لأن الكلّ عدول. انتهى كلام الصيرفي. قال العراقي: وهو حسن متجه، وكلام من أطلق محمول عليه

(1)

. انتهى وكذا اختار السيوطي هذا التفريق، حيث قال في ألفيته:

وَرَجُلٌ مِن الصحَابِ وَأبَى

الصَّيرفِي مُعَنْعنًا وَلْيُجْتَبَى

(1)

راجع التقييد والإيضاح للعراقي ص 74، وتدريب الراوي جـ 1 ص 197.

ص: 277

قال الجامع عفا الله عنه: قد يستفاد من عبارة الصيرفي. أن ما كان معنعنًا له حكم سائر المعنعنات، فإن كان الراوي مدلسًا، أو لم يعاصر من رَوَى عنه

(1)

كانت روايته منقطعة، وإن كان الراوي غير مدلس، وقد عاصر من روى عنه كانت روايته بالعنعة محكومًا باتصالها، ومحتجًا بها، وهذا هو الذي يتجه عني. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) تقدم قريبًا أنه يقال له: الأغرّ (عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى الصبح، فقرأ "الروم") أي "سورة الروم"، سميت بذلك لأنها تتحدث عن قصة الروم (فالتبس عليه) أي اشتبه عليه الروم، وأشكلت عليه قراءته، وإنما ذَكَّرَ الضميرَ مع أن الروم اسم للسورة، بتأويله بالقرآن، إن القرآن يطلق، على الجميع، وعلى بعض أجزائه. والله أعلم (فلما صلى) أي فرغ من الصلاة، وسلم منها (قال: ما بال أقوام؟) "ما" استفهامية، و"البال": بمعنى الحال والشأن، قال الشاعر [من الطويل]:

فَبِتْنَا عَلَى مَا خَيَّلَتْ نَاعِمَيْ بَالِ

(2)

(1)

هذا المذهب مذهب الإمام مسلم صاحب الصحيح، فإنه يكتفي بالمعاصرة فقط، وهو الراجح عندي، وأما البخاري، فيشترط اللقاء، ولا يكتفي بالمعاصرة، ورجحه كثير من العلماء، كيا هو مفصل في كتب المصطلحات.

(2)

انظر لسان العرب جـ 1 ص 390.

ص: 278

أي ما حالهم، وما شأنهم؟، والاستفهام للإنكار (يصلون معنا) جملة في محل جرّ صفة لـ"قوم"(لا يحسنون الطهور) بضم الطاء،

أي الطهارة، ويحتمل أن يكون بفتحها اسمًا لما يُتَطَهّر به، ويكون المعنى على حذف مضاف، أي استعمال الطَّهُور، يعني أنهم لا يحسنون استعمال الماء في حال تطهرهم.

والجملة في محل نصب على الحال من الضمير فى "يصلون".

وقال السندي رحمه الله في شرحه: "الطهور" بضم الطاء، وجوز الفتح على أنه اسم للفعل، والحملُ على الماء لا يناسب المقام. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "على أنه اسم للفعل" فيه نظر، لأن معناه أنه اسم للحديث، والحدث لضم الطاء، لا بفتحها، على

المشهور.

وقوله: "لا يناسب المقام" فيه نظر أيضًا، إذ هو يناسبه على الوجه الذي ذكرته. والله تعالى أعلم.

(فإِنما يلبس) أي يخلط. يقال: لبست الأمر لَبْسًا، من باب ضرب: خَلَطته، وفي التنزيل:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، والتشديد مبالغة. قاله الفيومي

(2)

.

(علينا القرآن أولئك) الجار والمجرور متعلق بـ "يلبس"، و"القرآن" مفعوله مقدمًا، و"أولئك" فاعله مؤخرًا.

(1)

شرح السندي جـ 2 ص 156.

(2)

المصباح جـ 2 ص 548.

ص: 279

يعني أن عدم إحسان هؤلاء الأمومين للطهارة كانت سببًا لالتباس القرآن عليه.

وفي رواية لأحمد: "إنما لبس علينا الشيطان القراءة من أجل أقوام، يأتون الصلاة بغير وضوء، فإذا أتيتم الصلاة فأحسنوا الوضوء".

وفيه أن شؤم عدم عناية المأمومين بتكميل الطهارة يكون سببًا لالتباس القرآن على الإمام. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه

التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث الباب حسن.

تنبيه:

ضعف الشيخ الألباني هذا الحديث في تخريج "المشكاة" جـ 1 ص 97 - وأورده في ضعيف النسائي ص -31 - لأن في سنده عبد الملك ابن عمير، وهو مدلس، وتغير حفظه.

قلت: لكنه صرح بالسماع عند أحمد في مسنده جـ 3 ص 47 أو جـ 5 ص 368.

وأيضًا فإن شعبة لا يروي عن مشايخه إلا صحيح حديثهم. والله تعالى أعلم.

ص: 280

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -41/ 947 - وفي "الكبرى" -41/ 1019 - بالسند المذكور. وهو من أفراده، لم يخرجه أحد من أصحاب الأصول غيره، كما أشار إليه الحافظ المزي في "تحفته" جـ 11 ص 162.

وأخرجه (أحمد) في "مسنده" جـ 3 ص 471 ثنا إسحاق بن يوسف، عن شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي روح الكلاعي،

قال. صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، فقرأ فيها سورة الروم.

قال: وحدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت شبيبًا أبا روح، يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: ثنا محمد بن جعفر

(1)

، ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا زائدة، ثنا عبد الملك بن عمير، قال: سمعت شبيبًا أبا روح من ذي الكلاع أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم .. فذكر الحديث.

وأخرجه جـ 5 ص 363 قال: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الملك

(1)

هكذا في النسخة المطبوعة من المسند أن الإمام أحمد روى عن محمد بن جعفر، عن أبي هاشم، عن زائدة

وفي أطراف الحافظ ابن حجر جـ 8 ص 341 - ما يفيد أن الإمام أحمد يروي عن أبي هاشم، عن زائدة، لا عن محمد بن جعفر، عن أبي هاشم، عن زائدة. والذي يظهر لي أن ما في النسخة المطبوعة خطأ، والصواب ما في الأطراف. فليتنبه.

ص: 281

ابن عمير، عن شبيب بن أبي روح، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .. فذكر الحديث.

وقال: 368 ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت شبيبًا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب

النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث.

قال الجامع عفا الله عنه: قد وقع اختلاف في هذه الأسانيد، ففي رواية إسحاق بن يوسف، عن شريك، ورواية أبي هاشم عن زائدة أن أبا روح هو الذي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية محمد بن جعفر عن شعبة، ورواية وكيع عن سفيان الثوري وكذا رواية عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عند المصنف في هذا الباب، أن أبا روح روى عن رجل من الصحابة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم.

والصواب عندي رواية شعبة والثوري، فهي مقدمة على رواية شريك، وزائدة، لكونهما يقدمان عليهما في الحفظ والإتقان، ولا سيما

شريك، فإنه ضعيف الحفظ بالنسبة إليهما، وقد تقدم عن "تت" ما يدل على هذا التصويب.

والحاصل أن أبا روح ليس صحابيًا، وإنما هو يروي عن رجل من الصحابة. فتبصر. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: قال الحافظ رحمه الله في "النكت الظراف": أخرجه -يعني حديث الباب- الطبرانيُّ من طريق شعبة، عن

ص: 282

عبد الملك، عن شبيب أبي روح، عن الأغرّ

فذكر الحديث، لكنه أدخله في ترجمة الأغر المزني، وهو وهم، وجزم ابن عبد البر بأن راوي هذا الحديث غفاري. انتهى

(1)

.

وقال في "الإصابة": "الأغرّ" غير منسوب، وقال بعضهم: إنه غفاري، روى أحمد، والنسائي من طريق الثوري، عن عبد الملك بن عمير، عن شبيب أبي روح، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الصبح، فقرأ "الروم"

الحديث.

وأخرجه الطبراني من طريق مؤمل بن خلف، عن مؤمل بن إسماعيل، عن شعبة، عن عبد الملك، عن شبيب، عن الأغرّ رجلٍ من الصحابة. لكن أدخل حديثه هذا في أحاديث الأغر المزني، وتبعه أبو نعيم، وممن غاير بينهما البغوي، فأورد حديثه عن زياد بن يحيى، عن مؤمل بسنده، وقال فيه: عن الأغر رجلٍ من بني غفار، ورواه البزار في مسنده عن زياد بن يحيى، بهذا الإسناد، فوقع عنده "عن الأغر المزني"، وهو خطأ. والله أعلم. انتهى

(2)

.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

"النكت الظراف" جـ 11 ص 162.

(2)

الإصابة جـ 1 ص 88.

ص: 283

‌42 - الْقِرَاءَةُ فِي الصُّبْحِ بالسِّينَ إلَى الْمائَةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على استحباب القراءة في صلاة الصبح بعد فاتحة الكتاب بستين آية، فما فوقها إلى المائة.

948 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ سَيَّارٍ -يَعْنِي ابْنَ سَلَامَةَ- عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ.

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن إسماعيل بن إِبراهيم) بن مِقْسَم الأسدي المعروف أبوه بابن علية، البصري نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة من [11]، مات سنة 264، أخرج له النسائي، تقدم في 22/ 489.

2 -

(يزيد) بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي، ثقة متقن عالد من [9]، مات سنة 206 وقد قارب -90 - سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 153/ 244.

3 -

(سليمان التيمي) هو ابن طَرْخَان، أبو المعتمر البصري، ثقة عابدمن [4]، مات سنة 143 عن 97 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 87/ 107.

ص: 284

4 -

(سَيَّار بن سَلَامَةَ) الرِّيَاحي، أبو الْمِنْهَال البصري، ثقة من [4]، مات سنة 129، أخرج له الجمَاعة، تقدم في 2/ 495.

5 -

(أبو برزة) الأسلمي، نَضْلَةُ بن عُبيد صحابي مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خُرَاسان، ومات بها سنة -65 على الصحيح، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 495. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فمن أفراده.

ومنها: أنه مسلسل بالمصريين.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، سليمان، عن سَيَّارٍ.

ومنها: أن في قوله: "يعني ابن سلامة" القاعدةَ المشهورة عند أهل الحديث، وهي أنه إذا زاد الراوي على شيخه بيانَ من فوقه، بنسبته إلى أبيه، أو بلدته، أو حرفته، أو غير ذلك تَعَيَّنَ عليه أن يفصل زيادته بـ"يعني"، أو بـ"هو"، أو نحوهما، كما أشار إلى ذلك الحافظ السيوطي رحمه الله في ألفية الحديث بقوله:

وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أوْ وَصْف مَنْ

فَوْقَ شيُوخٍ عَنهُمُ مَا لَم يُبَنْ

بنَحْوِ "يَعْنِي" أوْ بِـ"أنَّ" أوْ بِـ"هُو"

أمَّا إِذا أَتَمِّة أوَّلَهُ

أجِزهُ فِي البَاقِي لَدَى الْجُمْهُورِ

وَالْفصْلُ أولَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ

ص: 285

وقد تقدم بيان هذا غير مرة، وإنما أعدته تذكيرًا، لطول العهد به. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي برزة) نَضْلَة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الغداة بالستين إِلى المائة) يعني أنه يقرأ بعد الفاتحة بستين آية من القرآن، ثم يزيد على ذلك حتى يصل إلى مائة آية.

وَقَدَّرَهَا في رواية الطبراني بسورة "الحاقة"، ونحوها.

ووقع في رواية للبخاري: "ما بين الستين إلى المائة". وأشار الكرماني إلى أن القياس أن يقول: "ما بين الستين والمائة"، لأن لفظ "بين" يقتضي الدخول على متعدد. قال: ويحتمل أن يكون التقدير: "ويقرأ ما بين الستين، وفوقها إلى المائة"، فحذف لفظ "فوقها" لدلالة الكلام عليه. انتهى

(1)

.

وفيه استحباب تطويل القراءة في صلاة الصبح.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث طرف من حديث تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في -2/ 495 - ، فارجع إليه تستفد. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

(1)

انظر الفتح جـ 3 ص 34.

ص: 286

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 287

‌43 - الْقِرَاءَةُ فِي الصُّبْحِ بـ {ق}

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على استحباب القراءة في صلاة الصبح بسورة {ق} .

949 -

أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَتْ: مَا أَخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي بِهَا فِي الصُّبْحِ.

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(عمران بن يزيد) هو ابن خالد بن يزيد بن مسلم القرشي، أو الطائي الدمشقي، نسب لجده، صدوق من [10]، مات سنة 244، أخرج له النسائي، تقدم في 18/ 422.

2 -

(ابن أبي الرجال) هو عمد الرحمن بن أبي الرِّجَال -بكسر الراء، ثم جيم- محمدِ بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة بن

النعمان بن نُفَيع بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النَّجَّاري الأنصاري المدني، كان ينزل بعض ثُعورِ الشام. صدوق، ربما

ص: 288

أخطأ، من [8].

وأمه أم أيوب بنت رفاعة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن صعصعة ابن وهب، من بني عدي بن النجّار. قاله محمد بن سعد.

وهو أخو حارثة بن أبي الرجال، ومالك بن أبي الرجال، ومحمد ابن أبي الرجال، وأبي بكر بن أبي الرجال، وكان جده حارثة بن النعمان من أهل بدر.

روى عن أبيه، وأخيه حارثة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم. وعنه أبو نعيم، وعبد الله بن يوسف، وقتيبة، وعمران بن خالد، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، والمفضل الغلابي، والدارقطني: ثقة.

وقال ابن معين أيضًا، وأبو داود: ليس به بأس. وقال البردعي: سألت أبا زرعة عن عبد الرحمن وحارثة؟ فقال. عيد الرحمن أشبه، وحارثة وَاهٍ، وعبد الرحمن أيضًا يرفع أشياء لا يرفعها غيره. وقال الآجري، عن أبي داود: أحاديث عمرة يجعلها كلها عن عائشة. وقال أبو حاتم: صالح، هو مثل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. انتهى. أخرج له الأربعة

(1)

.

3 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاري، أبو سعيد القاضي

(1)

"تك" جـ 17 ص 88 - 91. "تت" جـ 6 ص 169.

ص: 289

المدني، ثقة متقن من [5]، مات سنة 144، أخرج له الجماعة، تقدم في 22/ 23.

4 -

(عمرة) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، ثقة -3 - ماتت قبل -100 ويقال: بعدها، أخرج لها الجماعة، تقدمت في 134/ 203.

5 -

(أم هشام بنت حارثة بن النعمان) بن نفيع بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن عنم بن مالك بن النجار الأنصارية النجارية، صحابية مشهورة

(1)

وهي أخت عمرة الراوية عنها لأمها. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروت عنها أختها عمرة، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، ويحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة. قال ابن عبد البر في "الاستيعاب". لم يسمع يحيى منها، وبينهما عبد الرحمن. انتهى

(2)

.

وقال في "الإصابة". وقال أبو عمر: أم هاشم، وقيل. أم هشام، قال أحمد بن زهير: سمعت أبي يقول من أم هشام بنت حارثة: بايعت بيعة الرضوان. وقال ابن سعد. أم هشام بنت حارثة من بني مالك بن النجار، وأمها أم خالد بنت خالد بن يعيش بن قيس بن زيد مناة،

(1)

هكذا قال في "ت" صحابية مشهورة، وفي "تك" و"تت": لها صحبة. قلت: والعمارة الأولى أولى، لأنها ممن بايعت بيعة الرضوان، كما نص عليه في الإصابة، فهي مشهورة، فلذا عبرت هنا في الشرح بما في "ت". والله أعلم.

(2)

"تك" جـ 5 ص 390. "تت" جـ 12 ص 481 - 482.

ص: 290

تزوجها عمارة بن الحبحاب بن سعد بن قيس، أسلمت، وبايعت، وساق حديث التنور عن الواقدي بسند له إليها، وساقه مطولًا من

طريق ابن إسحاق بسندها إلى يحيى بن عبد الله عنها بطوله. انتهى

(1)

.

أخرج لها مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ولم يسمها. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.

ومنها: أن رجاله كلهم موثقون، وأن شيخه من أفراده، وابن أبي الرجال من رجال الأربعة، ويحيى، وعمرة من رجال الجماعة، والصحابية من رجالهم، إلا البخاري، والترمذي.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعية. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان) الانصارية رضي الله عنهما، لا يعرف اسمها، أنها (قالت: ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، إِلا من وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي "الكبرى":"إلا من وراء النبي صلى الله عليه وسلم"(كان يصلى بها في الصبح) تعني أنها ما حفظت هذه السورة إلا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة ما كان يقرأ بها في صلاة

(1)

"الإصابة" جـ 13 ص 302 - 303. باختصار.

ص: 291

الصبح.

فجملة: "كان يصلي بها" إلخ جملة تعليلية، أي لأنه كان يكثر قراءتها في صلاة الصبح.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا في رواية ابن أبي الرجال: "يقرأ بها في صلاة الصبح"، وهو وَهَمٌ، والمحفوظ:"يقرأ بها على المنبر في كل جمعة"، كما يأتي تحقيقه قريبًا. والله تعالى أعلم.

تنبيه: حديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنهما هذا أخرجه المصنف هنا -43/ 949 - وفي "الكبرى" -43/

1021 -

بالإسناد المذكور.

وهو ضعيف، لمخالفة عبد الرحمن بن أبي الرجال لمن هو أحفظ منه من أصحاب يحيى بن سعيد الأنصاري.

فقد أخرجه مسلم من رواية سليمان بن بلال، ويحيى بن أيوب، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن أخت لعمرة، قالت:"أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة".

وأخرجه أيضًا من طريق شعبة، عن خُبَيب بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن محمد بن معن، عن بنت لحارثة بن النعمان، قالت:"ما حفظت {ق} [ق: 1] إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها كل جمعة"، قالت:"وكان تَنُّورُنَا، وتَنُّورُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا". فهذا هو المحفوظ.

ص: 292

والحاصل أن المحفوظ في هذا الحديث قراءته صلى الله عليه وسلم هذه السورة في كل جمعة على المنبر، وسيأتي ذلك للمصنف -28/ 1411، ويأتي تمام البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى

(1)

.

والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

950 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمِّي يَقُولُ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)} [ق: 10] قَالَ شُعْبَةُ: فَلَقِيتُهُ فِي السُّوقِ فِي الزِّحَامِ، فَقَالَ:(ق)[ق: 1].

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(إِسماعيل بن مسعود) الجَحْدري، أبو مسعود البصري، ثقة من [10]، مات سنة، 248، أخرج له النسائي، تقدم في 42/ 47.

2 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة من [10]، مات سنة 245، أخرج له مسلم وأبو داود في القدر، والترمذي،

(1)

راجع صحيح مسلم بشرح النووي جـ 6 ص 160 - 161.

ص: 293

والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 5/ 5.

3 -

(خالد بن الحارث) بن عبيد بن سليم الْهُجَيْمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت من [8]، مات لسنة 186، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 47.

4 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الثبت الحجة أبو بِسْطَام الواسطي، ثم البصري من [7]، مات سنة 160، أخرج له الجماعة، تقدم في 34/ 36.

5 -

(زياد بن عِلَاقَة) -بكسر المهملة، وبالقاف- الثعلبي -بالمثلثة، والمهملة- أبو مالك الكوفي، ثقة رمي بالنصب -3 - .

روى من عمه قطبة بن مالك، وأسامة بن شريك، وجرير بن عبد الله، وجابر بن سمرة، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم.

وعنه السفيانان، والأعمش، وسماك بن حرب، وزائدة، وشعبة، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ليث بن أبي سليم: ثنا زياد رجل قد أدرك ابن مسعود.

قال الحافظ رحمه الله: لا يلتئم أن يكون هو، مع جزمه بأن روايته عن سعد مرسلة، لأنه عاش بعد ابن مسعود طويلًا، بل عاش بعد المغيرة

ص: 294

مدة. وقال العجلي: كان ثقة، وهو في عداد الشيوخ. وقال يعقوب بن سفيان: كوفي ثقة.

وقال الصريفيني: توفي سنة 135 وقد قارب المائة. وقال الأزدي: سيئ المذهب كان منحرفًا عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الطبري نقلًا عن هشام بن الكلبي أن زيادًا أدرك الجاهلية، قال الحافظ: وهذا عندي غلط. والله أعلم. انتهى. أخرج له الجماعة

(1)

.

6 -

(هو قطبة بن مالك) الثعلبي

(2)

، ويقال: الذُّبْيَاني، عم زياد بن علاقة، له صحبة، سكن الكوفة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زيد بن أرقم. وعنه ابن أخيه زياد بن عِلَاقة بن مالك، والحجاج أبو أيوب مولى بني ثعلبة.

قال أبو عمر بن عبد البرّ: قطبة بن مالك الثعلبي، ويقال. الثُّعْلِيّ، والصواب الثَّعْلَبي من بني ثَعْلَبَه، ويقال الذُّبْيَاني، قال: وقال لي خلف ابن القاسم، عن أبي علي بن السكن أنه قال: سمعت ابن عقدة يقول: قطبة بن مالك من بني ثُعْل، وصوابه الثُّعْلِيّ، قال ابن السكن: والناس يخالفونه، ويقولون: الثَّعْلَبِيّ.

قال الحافظ: وذكر الدارقطني، وابن السكن، والحاكم،

(1)

"تت" جـ 3 ص 10 ص 380 - 381.

(2)

في "ت": الثعلبي -بالمثلثة والمهملة، وفي "المغني":"ذبياني" بمضمومة، وسكون موحدة، وخفة تحتية، وبنون منسوب إلى ذبيان بن بغيض اهـ.

ص: 295

والأزدي، والبغوي، وغيرهم أن زياد بن علاقة تفرد بالرواية عنه، وقد أفاد الحافظ المزي له راويًا آخر -يعني الحجاج المذكور-

وظفرت بثالث ذكره ابن المديني في التاريخ والعلل، وهو عبد الملك بن عمير.

ولما ذكره ابن حبان في الصحابة قال: قطبة بن مالك الثعلبي مولى بني ثعلبة بن يربوع. انتهى. أخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد"، والباقون إلا أبا داود

(1)

. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها. أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا شيخه إسماعيل، فمن أفواده، ومحمد بن عبد الأعلى، فما أخرج له البخاري أصلًا، وأخرج له أبو داود في القدر، والصحابي، حيث أخرج له البخاري، إلا في خلق أفعال العباد، ولم يخرج له أبو داود أصلًا.

ومنها: أنهم إلى شعبة بصريون، والباقون كوفيون.

ومنها: أن فيه رواية الراوي عن عمه.

ومنها: أن صحابيه من المقلين، ليس له في الكتب الستة إلا حديثان، حديث الباب، وحديث. "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء"

عند الترمذي فقط. والله تعالى أعلم.

(1)

"تك" جـ 23 ص 608 - 609. "تت" جـ 8 ص 379 - 380.

ص: 296

شرح الحديث

(عن زياد بن عِلَاقة) بكسر العين، أنه (قال: سمعت عمي) هو قطبة

(1)

بن مالك الثعلبي رضي الله عنه (يقول: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فقرأ في إِحدى الركعتين) هي الأولى، ففي رواية مسلم من طريق غندر، عن شعبة. فقرأ في أول ركعة {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق:10]) أي قرأ السورة المشتملة على هذه الآية، لا أنه قرأ هذه الآية فقط، بدليل قوله الآتي: فقال: {ق} [ق:1] ، فهو من إطلاق اسم الجزء على الكلّ.

وفي رواية ابن خزيمة في صحيحه من طريق سفيان بن عيينة، عن زياد بن علاقة، عن عمه قطبة بن مالك: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح بسورة {ق} ، فسمعته يقرأ {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}

(2)

[ق:10].

ومعنى {بَاسِقَاتٍ} : طويلات {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} قال أهل اللغة والمفسرون: معناه منضود متراكب بعضه فوق بعض. قال ابن قتيبة:

هذا قبل أن ينشق، فإذا انشق كِمامه، وتفرق، فليس هو بعد ذلك بنضيد. انتهى

(3)

.

(قال شعبة: فلقيته) أي لقيت زياد بن عِلَاقة بعد ذلك (في السوق) أي في المكان الذي تباع فيه الأشياء.

(1)

بضم القاف، وسكون الطاء، وبالباء الموحدة.

(2)

صحيح ابن خزيمة جـ 1 ص 42.

(3)

راجع شرح النووي على صحيح مسلم جـ 4 ص 178.

ص: 297

قال الفيومي: وهي مؤنثة، وهو أفصح، وأصحّ، وتصغيرها سُوَيْقَةٌ، والتذكير خطأ، لأنه قيل: سُوقٌ نافِقَة، ولم يسمع نافِقٌ بغير هاء، والنسبة إليها سمُوقِيٌّ على لفظها. انتهى

(1)

.

(في الزحام) أي في حال مزاحمة الناس بعضهم بعضًا. وهو بكسر الزاي مصدر "زاحم"، ويقال فيه أيضًا. "مزاحمة"، كما قال ابن

مالك في "خلاصته":

لفَاعَلَ الْفِعالُ وَالْمُفاعَلَه

وَغَيْر مَا مَرَّ السَّمَاعُ عَادَلَهْ

(فقال: {ق} [ق: 1]) أي قال بدل قوله: فقرأ في إحدى الركعتين {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10]، قرأ في إحدى الركعتين {ق} [ق: 1]. ولفظ مسلم: "وربما قال: {ق} [ق: 1] ".

والمعنى أن شعبة لقي زيادًا في السوق بعد ما سمعه يقول: قرأ {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] فسمعه يقول: قرأ {ق} [ق: 1].

وفي هذا الحديث استحباب قراءة هذه السورة أحيانًا.

وفي رواية لمسلم حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، وكان صلاته بعدُ تخفيفًا". والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

المصباح جـ 1 ص 296.

ص: 298

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته.

حديث قطبة بن مالك الثعلبي رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -43/ 950 - وفي "الكبرى" -43/ 1022 - عن إسماعيل بن مسعود، ومحمد بن عبد الأعلى كلاهما عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن زياد بن علاقة، عنه. وفي "التفسير" من "الكبرى" -11521 - عن محمد بن عبس الأعلى وحده به. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي كامل فضيل بن حسين، عن أبي عوانة- وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شريك -وابن عيينة- وعن زهير بن حرب، عن ابن عيينة- وعن بندار، عن غندر، عن شعبة.

والترمذي فيه عن هناد بن السريّ، عن وكيع، عن مِسْعَر، وسفيان الثوري- ستتهم عن زياد بن عِلَاقَة به.

وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة به.

وأخرجه الحميدي في "مسنده" رقم 825، وأحمد جـ 4 ص 322، والدارمي رقم 1301 و 1302، والبخاري في "خلق أفعال العباد"

ص: 299

38، وابن خزيمة 527 و 1591. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 300

‌44 - الْقِرَاءَة فِي الصُّبْحِ بـ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية القراءة في صلاة الصحيح أحيانًا بسورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1].

951 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ مِسْعَرٍ، وَالْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ سُرَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} [التكوير: 1].

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن أبان) بن وزير البَلْخِيّ، أبو بكر بن إبراهيم المُسْتَمْلي الحافظ، يلقب حمدويه، وكان مستملي وكيع، يقال: بضع عشرة سنة، ثقة حافظ من [10]، روى عن وكيع، وابن عيينة، وابن علية، وغيرهم. وعنه روى الجماعة، سوى مسلم، فروى عنه في غير الجامع، وموسى بن هارون، وإبراهيم الحربي، وغيرهم.

قال المرُّوذِيّ: قلت لأبي عبد الله: فأبو بكر مستملي وكيع تعرفه؟ قال: نعم، قد كان معنا يكتب الحديثَ، كتب لي كتابًا بخطه أظنه قال: الطلاق. قلت: إنه حدث بحديث أنكروه، ما أقل من هو عنده، عن

ص: 301

عبد الرَّزَّاق، وهو عندك، وعند خلف -يعني ابن سالم- قال: قد كان معنا تلك السنة، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قدم علينا رجل من بَلْخَ يقال له: محمد بن أبان، فسألت أبي عنه؟ فعرفه، وذكر أنه كان معهم عند عبد الرزاق، فكتبنا عنه. وقال أحمد بن قتيبة: سمعت عمرو بن حماد بن فَرَافِصَة -وكان يختلف إلى محمد بن أبان المستملي- يقول: قدمت الكوفة، فأتيت أبا بكر بن أبي شيبة، فسألني عن محمد بن أبان؟ فقلت: قد خلّفتة على أنه يقدم، فإنه كان قد أزْمَعَ على الخروج، قال: ليته قدم حتى يُنْتَفَع به. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صدوق. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان حسن المذاكرات ممن جمع، وصنف، وكان مستملي وكيع، قال موسى هارون وأبو القاسم البغوي وعلي بن محمد السِّمْسَار: مات ببَلْخَ سنة 244 - زاد موسى: في المحرّم، وزاد علي: يوم السبت، ودفن يوم الأحد لاثنتي عشرة خلت من المحرّم.

وقال الْقَبَّاني، عن البخاري، وأبو حاتم ابن حبان: مات سنة 245.

وقال الخليلي: ثقة متفق عليه، وفي "الزهرة": روى عنه البخاري 38

(1)

.

فائدة: "البَلْخِيّ" بفتح الباء الموحدة، وسكون اللام، وبالخاء المعجمة-: نسْبة إلى بلخ مدينة مشهورة بخراسان. قاله في "لب

(1)

"تك" جـ 24 ص 296 - 300. "تت" جـ 9 ص 3 - 4.

ص: 302

اللباب" جـ 1 ص 142.

2 -

(وكيع بن الجرّاح) بن مَلِيح الرُّؤَاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، من كبار [9]، مات في آخر 196 أو أول 7 - وله 70 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 23/ 25.

3 -

(مسْعَر) بن كِدَام بن ظُهير الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة تحت فاضل من [7]، مات سنة 153 أو 155، أخرج له الجماعة، تقدم في 8/ 8.

4 -

(المسعودي) عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي، صدوق اختلط قبل موته، وضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد اختلاطه من [7،]، مات سنة 160 وقيل: 165، أخرج له البخاري تعليقًا، والأربعة، تقدم في 50/ 849.

تنبيه:

وقع في النسختين المطبوعتين من المجتبى: ما نصه: "حدثنا وكيع بن الجراح، عن مسعود المسعودي"، وأشار في هامش بعضها إلى أنه وقع في بعض النسخ:"عن مسعود المسعودي"، وكلاهما تصحيف، والصواب كما في النسخة الهندية، و"السنن الكبرى": عن "مِسْعرٍ، والمسعودي". فليُتَنَبَّهْ. والله تعالى أعلم.

5 -

(الوليد بن سَرِيع) -بفتح السين المهملة- الكوفي، مولى آل عمرو بن حريث المخزومي، صدوق من [4].

ص: 303

روى عن عمرو بن حريث، وعبد الله بن أبي أوفى. وعنه إسماعيل ابن أبي خالد، والمسعودي، ومسعر، وأبو خليفة، وخلف بن خليفة، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبي في "الكاشف": ثقة. أخرج له مسلم، والنسائي

(1)

.

6 -

(عمرو بن حُريث) بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم القرشي المخزومي، أبو سعيد الكوفي. له ولأبيه صحبة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أخيه سعيد بن حريث، وله صحبة، وأبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وسعيد بن زيد، وعدي بن حاتم، وعنه ابنه جعفر، وابن أخيه عمرو بن عبد الملك بن حريث، ومولياه: أصبغ، وهارون بن سلمان، والوليد بن سَرِيع، وغيرهم.

قال الواقدي: توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن حريث ابن اثنتي عشرة سنة. وقال البخاري وغيره: مات سنة (85).

وروى الخطيب في "المتفق والمفترق" من طريق ابن أبي ميسرة محمد ابن الحسين الزعفراني، قال: كان يكنى أبا سعيد، وهو في عداد الطلقاء الصغار، حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة (98). قال الحافظ: كذا قال، وفيه نظر، ولعله بتقديم السين، فقد حكى خليفة بن خياط في "تاريخه" ذلك، وقربه شريح بن هانئ وغيره، وقال ابن حبان في الصحابة: ولد يوم بدر، ومات بمكة سنة (85). وقال ابن إسحاق:

(1)

"تك" جـ 31 ص 14 - 15. "تت" جـ 11 ص 134.

ص: 304

قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن (12) سنة. انتهى.

وعلى كل من التقديرين: أن يكون ولد يوم بدر، أو قبلها بهذا القدر، فيشكل عليه ما رواه أبو داود من طريق فطر بن خليفة: ثنا أبي، من عمرو بن حريث، قال: خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارًا بالمدينة

الحديث، فإن ظاهره أنه كان في زمنه رجلًا. والله أعلم. وقال ابن سعد: ولي الكوفة لزياد، ولاه ابنه عبيد الله بن زياد. انتهى. أخرج له الجماعة

(1)

. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها. أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له مسلم، والمسعودي، فعلق له البخاري، ولم يخرج له مسلم، والوليد بن سَرِيع، فأخرج له مسلم، والمصنف، فقط.

ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين، إلا شيخه، فبلخي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عمرو بن حريث) المخزومي رضي الله عنه، أنه (قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في) صلاة (الفجر {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] أي يقرأ هذه السورة.

(1)

"تك" جـ 21 ص 580 - 582. "تت" جـ 8 ص 17 - 18.

ص: 305

وفي رواية "الكبرى" في التفسير -16151 - من طريق الفضل بن موسى، عن مسعر: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فسمعته يقرأ:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]

(1)

.

وفي -11650 - من رواية شعبة، عن الحجاج بن عاصم، عن أبي الأسود، عن عمرو بن حريث، قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فسمعته يقرأ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]

وفي الحديث مشروعية قراءة هذه السورة أحيانًا. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عمرو بن حويث المخزومي رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -44/ 951 - وفي "الكبرى" -44/ 1023 - عن محمد بن أبان الملخي، عن وكيع، عن مسعر، والمسعودي، كلاهما عن الوليد بن سَرِيع، عنه.

(1)

وهي رواية عند مسلم من طريق ابن بشر، عن مسعر. انظر جـ 4 ص 177 - 178. بشرح النووي.

ص: 306

وفي التفسير من "الكبرى" 11651 - عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن مسعر به بلفظ تقدم قريبًا. وفي -11650 - عن محمد بن المثنى، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحجاج بن عاصم، من أبي الأسود، عنه بلفظ تقدم قريبًا أيضًا. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع- وعن أبي كريب، عن محمد بن بشر- وعن زهير بن حرب، عن يحيى ابن سعيد- ثلاثتهم عن مسعر به. بلفظ: "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17].

وأخرجه (الحميدي) في مسنده رقم 567، و (أحمد) جـ 4 ص 306 و 307، (والدارمي) رقم 1303 و 1304. وبالله تعالى

التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 307

‌45 - الْقِرَاءَةُ في الصُّبْحِ بـ"الْمُعَوِّذتَيْنِ"

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية القراءة في صلاة الصبح بالمعوِّذتين.

و"المعوِّذتان": تثنية معوذة، اسم فاعل من عَوّذَ يعوّذ تعويذًا: إذا قال: أعيذك بالله من كل شر.

وأراد بالمعوِّذتين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]، سميا بذلك لأنهما عوّذتا صاحبهما، أي عَصَمَتاه من كل سوء. أفاده الفيومي

(1)

.

وقال ابن منظور: والمعوِّذتان بكسر الواو: سورة الفلق، وتاليتها، لأن مبدأ كل واحدة منهما {قُلْ أَعُوذُ}

(2)

. والله تعالى أعلم.

952 -

أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ حِزَامٍ التِّرْمِذِيُّ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُفْيَانُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّهُ سَأَلَ

(1)

المصباح جـ 2 ص 437.

(2)

لسان العرب جـ 4 ص 3163.

ص: 308

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ؟، قَالَ عُقْبَةُ: فَأَمَّنَا بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية

1 -

(موسى بن حزام

(1)

الترمذي) نزيل بَلْخَ، أبو عمران، ثقة فقيه عابد من [11].

روى من حسين الجعفي، وزيد بن الحباب، وأبي أسامة، وعبد الله ابن مسلمة القعنبي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. وروى عنه البخاري

مقرونًا بغيره، والترمذي، والنسائي، وأحمد بن سيار المروزي، وغيرهم.

قال الترمذي: حدثنا موسى بت حزام الرجل الصالح. وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم أغاثه الله تعالى بأحمد بن حنبل، فانتحل السنة، وذب عنها، وقمع من خالفها، مع لزوم الدين حتى مات. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا في سنة -251 - وكان يقال: إنه من الأبدال. وفي "ت": مات بعد 250 - انتهى

(2)

.

فائدة: "الترمذي"- بكسر أوله، أو فتحه، أو ضمه، أقوال، وكسر الميم، أو ضمه، قولان، وذاله معجمة: نسبة إلى تُرْمُذ

(3)

مدينة

(1)

بكسر المهملة، بعدها زاي معجمة.

(2)

"تك" جـ 29 ص 52 - 53. "تت" جـ 10 ص 340 - 341.

(3)

مثلث التاء.

ص: 309

على طرف جيحون. قاله في "لب اللباب" جـ 1 ص 169.

2 -

(هارون بن عبد الله) بن مروان البغدادي، أبو موسى الحَمَّال البزاز، ثقة من [10]، مات سنة (243) وقد ناهز 80 - أخرج له مسلم والأربعة، تقدم في 50/ 62.

3 -

(أبو أسامة) حماد بن أسامة بن زيد القرشي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت ربما دلس، من كبار [9]، مات سنة 201، أخرج له

الجماعة، تقدم في 44/ 52.

4 -

(سفيان) بن سعيد الثوري أبو عبد الله الكوفي الإمام المثبت الحجة من [7]، مات سنة 161، أخرج له الجماعة، تقدم في 33/ 37.

5 -

(معاوية بن صالح) بن حُدَير الحضرمي، أبو عبد الرحمن الحمصي، قاضي الأندلس، صدوق له أوهام من [7] مات سنة 158 وقيل: بعد 170، أخرج له مسلم والأربعة، تقدم في 50/ 62.

6 -

(عبد الرحمن بن جُبَير بن نفير) الحضرمي، أبو حميد، ويقال: أبو حِمْيَر الحمصي، ثقة من [4].

روى عن أبيه، وأنس بن مالك، وخالد بن معدان، وكثير بن مرة. وروى عن ثوبان، والصحيح عن أبيه، عن ثوبان. وعنه يحيى بن جابر الطائي، ومعاوية بن صالح، ويزيد بن حِمْيَر، وثور بن يزيد، وزهير ابن سالم، وصفوان بن عمرو، ومحمد بن الوليد الزُّبيدي، وإسماعيل ابن عياش، وجماعة.

ص: 310

قال أبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال ابن سعد: كان ثقة، وبعض الناس

يستنكر حديثه، ومات سنة -118 - في خلافة هشام. أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والباقون

(1)

.

7 -

(جُبَيْر بن نُفَيْر) بن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي، ثقة جليل من [2]، ولأبيه صحبة مات سنة 80 - وقيل. بعدها أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة، تقدم في 50/ 62.

8 -

(عقبة بن عامر) الجهني، صحابيّ مشهور، أبو حماد، وقيل: غيره، ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا مات قرب 60 - أخرج له الجماعة، تقدم في 108/ 144. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا شيخيه، فالأول أخرج له هو، والبخاري، والترمذي، فقط، والثاني، لم يرو عنه البخاري، وكذلك عبد الرحمن بن جبير، وأبوه، ما أخرج لهما البخاري في الصحيح، بل في الأدب المفرد.

ومنها: أن موسى ترمذي، وهارون بغدادي، وأبو أسامة،

(1)

"تك" جـ 17 ص 26 - 28 "تت" جـ 6 ص 154.

ص: 311

وسفيان كوفيان، والصحابي مصري، والباقون حمصيون.

ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه، وتابعي، من تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عقبة بن عامر) الجهني رضي الله عنه (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوِّذتين) أي هل هما من القرآن، أم لا؟، ففي صحيح ابن خزيمة: قال. سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعوِّذتين، أمن القرآن هما؟

(قال عقبة: فأمنا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر) أي صلى بنا إمامًا بهاتين السورتين بيانًا لكونهما من القرآن، وأنهما سورتان عظيمتان تقومان مقام سورتين طويلتين، كما هو المعتاد في صلاة الفجر.

وفي هذا الحديث ردّ على من أنكر كون هاتين السورتين من القرآن. وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية. في بيان مواضع ذكر المصنف له:

ص: 312

أخرجه هنا -45/ 952 - وفي "الكبرى" 45/ 1024 - بالإسناد المذكور، وأعاده في "كتاب الاستعاذة" -1/ 5434 - بنفس الإسناد.

وهو من أفراده لم يخرجه أحد من أصحاب الأصول غيره. وأخرجه (ابن خزيمة في صحيحه) برقم 536. وبالله تعالى التوفيق.

المسألة الثالثة: دل هذا الحديث على أن هاتين السورتين من القرآن العظيم، وهو الذي استقر عليه الإجماع أخيرًا. وكان عبد الله بن

مسعود رضي الله عنه يخالف في ذلك.

فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده بسنده عن زرّ بن حُبَيش، قال: قلت لأبَيّ بن كعب: إن ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فقال. أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، فقلتها، قال:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]، فقلتها، فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه أبو بكر الحميدي في مسنده، عن سفيان بن عيينة، حدثنا عبدة بن أبي لبابة، وعاصم بن بهدلة، أنهما سمعا زِرّ بن حبيش، قال: سألت أبي بن كعب عن المعوذتين، فقلت: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يَحُكُّ المعوذتين من المصحف؟ فقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"قيل لي: قل، فقلت"، فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرج البخاري في صحيحه عن زرّ، قال: سألت أبي بن كعب،

ص: 313

فقلت: أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال: إني سألت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "قيل لي، فقلت"، فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرج أبو يعلى بسنده عن علقمة، قال كان عبد الله يحك المعوذتين من المصحف، ويقول: إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما، ولم يكن عبد الله يقرأ بهما.

وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند من حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه، ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله.

قال الأعمش: وحدثنا عاصم، عن زرّ بن حبيش، عن أبي بن كعب، قال: سألنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "قيل لي، فقلت".

أورد هذه الأحاديث ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، ثم قال ما نصه:

وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتواتر عنده، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوهما في المصاحب الأئمة، ونَفَّذُوهما إلى سائر الآفاق كذلك. ولله الحمد والمنة. انتهى كلام ابن كثير ملخصًا

(1)

.

(1)

تفسير ابن كثير جـ 4 ص 610 - 611.

ص: 314

وقال الحافظ رحمه الله بعد ذكره نحو ما تقدم من الأحاديث نقلًا عن البزار: ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة.

قال الحافظ: وهو في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، وزاد فيه ابن حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر:"فإن استطعت أن لا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل".

وأخرج أحمد من طريق أبي العلاء بن الشِّخِّير، عن رجل من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه المعوذتين، وقال له:"إذا أنت صليت، فاقرأ بهما". وإسناده صحيح.

ولسعيد بن منصور من حديث معاذ بن جبل: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، فقرأ بالمعوذتين".

وقد تأول القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الانتصار"، وتبعه عياض وغيره- ما حكي عن ابن مسعود، فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنه كان يرى أن لا يكتب في المصحف شيئًا، إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابته فيه، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك، قال: فهذا تأويل منه، وليس جحدًا لكونهما قرآنًا.

قال الحافظ: وهو تأويل حسن، إلا أن الرواية الصحيحة الصريحة

ص: 315

التي ذكرتها تدفع ذلك، حيث جاء فيها:"ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله".

نعم يمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف، فيتمشى التأويل المذكور.

وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيتهما، وإنما كان في صفة من صفاتهما. انتهى. وغاية ما في هذا أنه

أبهم ما بينه القاضي. ومن تأمل سياق الطرق التي أوردتها للحديث استبعد هذا الجمع.

وأما قول النووي في "شرح المهذب": أجمع المسلمون على أن المعوذتين، والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منهما شيئًا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح. ففيه نظر.

وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم، فقال في أوائل "المحلَّى": ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين، فهو كذب باطل.

وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل.

والطعن في الروايات الصحيحة لغير مستند لا يقبل، بل الرواية صحيحة، والتأويل محتمل، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل

عصى، فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول.

ص: 316

وقد قال ابن الصباغ في الكلام على مانعي الزكاة: وإنما قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة، ولم يقل: إنهم كفروا بذلك، وإنما لم يكفروا لأن الإجماع لم يكن استقر، قال: ونحن الآن نكفر من جحدها. قال: وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوذتين، يعني أنه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك.

وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي، فقال: إن قلنا: إن كونهما من القرآن كان متواترًا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من

أنكرهما، وإن قلنا: إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر. قال: وهذه عقدة صعبة.

وأجيب باحتمال أنه كان متواترًا في عصر ابن مسعود، لكن لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلت العقدة بعون الله تعالى. انتهى كلام

الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

وهو كلام نفيس جدًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

فتح جـ 9 ص 770 - 771.

ص: 317

‌46 - بَابُ الْفَضْل فِي قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على بيان الفضل في قراءة المعوذتين.

953 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَسْلَمَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: اتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ رَاكِبٌ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمِهِ، فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ "سُورَةَ هُودٍ"، وَ"سُورَةَ يُوسُفَ"، فَقَالَ:"لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا، أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} [الناس: 1] ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت من [10]، مات سنة 240، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْمِيّ، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور من [7]، مات سنة 175، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35.

ص: 318

3 -

(يزيد بن أبي حَبِيب) سُوَيد، أبو رجاء المصري، ثقة فقيه، يرسل من [5]، مات سنة 128، وقد قارب 80، أخرج له الجماعة، تقدم في 134/ 207.

4 -

(أبو عمران أسلم) بن يزيد، أبو عمران التُّجِيبي

(1)

المصري، ثقة من [3].

روى عن أبي أيوب، وعقبة بن عامر، ومسلمة بن مخلد، وهبيب ابن مغفل، وأم سلمة، وغيرهم. وعنه سعيد بن أبي هلال، ويزيد بن

أبي حبيب، وغيرهما.

قال النسائي: ثقة. وقال ابن يونس: كان وجيهًا بمصر. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأخرج له

هو والحاكم في صحيحيهما. أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي

(2)

.

وقوله: "أسلم" بالجر بدل من "أبي عمران".

5 -

(عقبة بن عامر) الجهني رضي الله عنه، تقدم في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا أبا

(1)

بضم التاء، وكسر الجيم، آخره موحدة: نسبة إلى تُجيب قبيلة من كندة، ومحلة بمصر. اهـ لب جـ 1 ص 166.

(2)

"تت" جـ 1 ص 265.

ص: 319

عمران، فمن أفراد المصنف، وأبي داود.

ومنها: أنه مسلسل بالمصريين، وقتيبة، وإن كانت بغلانيًا، إلا أنه دخل مصر.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، يزيد، عن أبي عمران. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عقبة بن عامر) رضي الله عنه، أنه (قال: اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقد بين فيما يأتي للمصنف في "كتاب الاستعاذة" -5429 - أنه كان في طريق مكة. وفي رواية -5430 - أنه كان في غزوة، فيحتمل أن يكون ذلك في غزوة الفتح، ويحتمل أن تتعدد الواقعة. والله تعالى أعلم.

(وهو راكب) جملة حالية من المفعول (فوضعت يدي على قدمه) صلى الله عليه وسلم (فقلت: أقرئني يا رسول الله سورة هود)"هود" اسم نبي عليه السلام عربي، ولهذا ينصرف. وسميت السورة باسمه، لأنها تتحدث عن قصته.

وقال السمين الحلبي رحمه الله في "تفسيره ": يجوز في "هود" مرادًا به السورة الصرف، وتركه، وذلك باعتبارين، وهما أنك إذا عنيت أنه اسم للسورة تعين منعه من الصرف، وهذا رأي الخليل، وسيبويه، وكذلك نوح ولوط إذا جعلتهما اسمين للسورتين المذكورتين اللتين هما

ص: 320

فيهما، فتقول: قرأت هودَ، ونوحَ، ولوطَ، وتبركت بهودَ، ونوحَ، ولوطَ، وإن عنيت أنه على حذف مضاف جوزت صرفه، فتقول: قرأت هودًا، ونوحًا، ولوطًا، يعني سورة هودٍ، وسورة نوحٍ. وقد جوز الصرف باعتبار الأول عيسى بن عمر، ورأيه ضعيف. انتهى كلام السمين باختصار

(1)

.

وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم ابن سام بن نوح. وقيل: هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن عم أبي عاد. انتهى بيضاوي

(2)

.

(وسورة يوسف) بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، سميت السورة باسمه لما ذكرنا (فقال) صلى الله عليه وسلم (لن تقرأ شيئًا أبلغ عند الله) زاد في "كتاب الاستعاذة":"عز وجل"(من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]) والمراد أنه لا تقرأ بشيء أعظم في باب الاستعاذة من هاتين السورتين، لما يأتي في "كتاب الاستعاذة" من طريق ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن عقبه رضي الله عنه، وفيه "

ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما". فلا ينافي هذا ما ثبت من أفضلية فاتحة الكتاب، وآية الكرسي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

انظر الدر المصون في علوم الكتاب المكنون جـ 4 ص 74.

(2)

انظر حاشية الجمل جـ 2 ص 378.

ص: 321

تنبيه: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا صحيح.

وهو من أفراد المصنف رحمه الله، أخرجه هنا -46/ 953 - وفي "الكبرى" -46/ 1025 - وفي "كتاب الاستعاذة" -1/ 5439 - بالسند المذكور. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

954 -

أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "آيَاتٌ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1]، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} [الناس: 1] ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن قدامة) بن أعين الهاشمي مولاهم المِصِّيصِيُّ، ثقة من [10]، مات سنة 250 تقريبًا، أخرج له أبو داود والنسائي،

تقدم في 19/ 528.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبي، أبو عبد الله الكوفي نزيل الرَّيِّ وقاضيها، ثقة ثبت من [9]، مات سنة 188، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.

3 -

(بيان) بن بشرْ الأحمسي البجلي، أبو بشر الكوفي، ثقة من [5].

ص: 322

روى عن أنس، وقيس بن أبي حازم، والشعبي، وغيرهم، وعنه شعبة، والسفيانان، وشريك، وزائدة، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم.

قال ابن المديني: له نحو سبعين حديثًا. وقال أحمد: ثقة من الثقات. وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، زاد أبو حاتم: وهو أحلى من فِرَاس. وقال العجلي. كوفي ثقة، وليس بكثير الحديث، روى أقل من مائة حديث. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتًا. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وقال أبو ذرّ الهروي، عن الدارقطني: هو أحد الثقات الأثبات. وفرق أبو الفضل الهروي، والخطيب في "المتفق والمفترق" بينه وبين بيان بن بشر المعلم، يروي عنه هاشم بن البريد، زاد الخطيب: ليس لهاشم رواية عن البجلي.

قال الحافظ: ومما يدلّ على أنهما اثنان أن المعلم طائي، والآخر بجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة

(1)

.

4 -

(قيس) بن أبي حازم، واسم أبيه: حصين بن عوف، ويقال: عوف بن عبد الحارث، ويقال: عبد عوف بن الحارث بن عوف بن حُشَيش البجلي الأحمسي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة مخضرم من [2].

أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فقبض، وهو في الطريق، وأبوه له صحبة، ويقال: لقيس رؤية، ولم يثبت.

روى عن أبيه، وعن العشرة المبشرين بالجنة، على خلاف في

(1)

"تك" جـ 4 ص 303 - 305. "تت" جـ 1 ص 506.

ص: 323

عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم.

وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر، والمغيرة بن شبيل، وغيرهم.

قال علي بن المديني: روى عن بلال، ولم يلقه، وعن عقبة بن عامر، ولا أدري سمع مثله، أم لا؟، ولم يسمع من أبي الدرداء، ولا من سلمان وقال إسحاق بن إسماعيل، عن ابن عيينة: ما كان بالكوفة أحد أروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قيس. وقال الآجري، عن أبي داود: أجود التابعين إسنادًا قيس بن أبي حازم، روى عن تسعة من العشرة، ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف.

وقال يعقوب بن شيبة السدوسي: وقيس من قدماء التابعين، وقد روى عن أبي بكر، فمن دونه، وأدركه، وهو رجل كامل، ويقال: إنه ليس أحد من التابعين جَمَعَ أنْ روى عن العشرة مثله، إلا عبد الرحمن ابن عوف، فإنا لا نعلمه روى عنه شيئًا، ثم قد روى بعد العشرة عن جماعة من الصحابة، وكبرائهم، وهو متقن الرواية، وقد تكلم أصحابنا فيه، فمنهم من رفع قدره، وعظمه، وجعل الحديث عنه من أصح الإسناد، ومنهم من حمل عليه، وقال: له أحاديث مناكير، والذين أطروه حملوا هذه الأحاديث على أنها عندهم غير مناكير، وقالوا: هي غرائب، ومنهم من حمل عليه في مذهبه، وقالوا: كان يحمل على علي، وعلى جميع الصحابة، والمشهور عنه أنه كان يقدم عثمان، ولذلك تجنب كثير من قدماء الكوفيين الرواية عنه. ومنهم من

ص: 324

قال: إنه مع شهرته لم يرو عنه كبير أحد، وليس الأمر عندنا كما قال هؤلاء، وقد روى عنه جماعة، منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وهو أرواهم عنه، وكان ثقة ثبتًا، وبيان بن بشر، وكان ثقة ثبتًا، وذكر آخرين، ثم قال: كل هؤلاء قد روى عنه.

وقال ابن خراش: كوفي جليل، وليس في التابعين أحد روى عن العشرة إلا قيس بن أبي حازم. وقال ابن معين: هو أوثق من الزهري، وقال مرة: ثقة. وقال أبو سعيد الأشج: سمحت أبا خالد الأحمر يقول لعبد الله بن نمير: يا أبا هشام أما تذكر إسماعيل بن أبي خالد، وهو يقول: حدثنا قيس هذه الأسطوانةُ -يعني في الثقة مثل هذه الأسطوانة- وقال يحيى بن أبي غنية: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: كبر قيس حتى جاوز المائة بسنين كثيرة، حتى خرف، وذهب عقله.

وقال ابن المديني. قال لي يحيى بن سعيد. قيس بن أبي حازم منكر الحديث، ثم ذكر له يحيى أحاديث مناكير، منها حديث كلاب الحوأب.

قال الحافظ: ومراد القطان بالمنكر الفرد المطلق.

وقال الذهبي في "الميزان": ثقة حجة، كاد أن يكون صحابيًا، أجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلم فيه فقد آذى نفسه. انتهى.

قال عمرو بن علي: مات سنة -84 - وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: مات سنة -97 - أو -98 - وقال خليفة، وأبو عبيد: سنة -98 - وقال الهيثم بن عدي: مات في آخر خلافة سليمان بن عبد الملك. وكذا قال الواقدي. وحكى ابن حبان في "الثقات" في وفاته

ص: 325

أيضًا 84 و 94 و 86 وقال: كنيته أبو عبد الله، وقيل: أبو عبيد الله، يروي عن العشرة، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فقدم المدينة، وقد قبض، فبايع أبا بكر. وفي مسند البزار عن قيس بن أبي حازم، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد قبض، فسمعت أبا بكر يقول

فذكر حديثًا.

وقال في "الإصابة": وقد أخرج أبو نعيم من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم: دخلت المسجد مع أبي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فلما خرجت قال لي أبي: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا قيس، وكنت ابن سبع، أو ثمان.

قال الحافظ رحمه الله: لو ثبت هذا لكان قيس من الصحابة، والمشهور عند الجمهور أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه الخطيب من الوجه الذي أخرجه ابن منده، وقال: لا يثبت. انتهى. أخرج له الجماعة

(1)

.

5 -

(عقبة بن عامر) رضي الله عنه، تقدم في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم

(1)

"تك" جـ 23 ص 10 - 16. "تت" جـ 8 ص 386 - 388. "الإصابة" جـ 8 ص 237 - 238.

ص: 326

ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو، وأبو داود.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، بيان، عن قيس.

ومنها. أن قيسًا هو الذي انفرد من بين التابعين بالرواية عن العشرة المبشرين بالجنة، على الأصح في عبد الرحمن بن عوف، وليس ذلك لأحد من التابعين غَيرِهِ، وإلى هذا أشار الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في ألفية الحديث، حيث قال:

والتَّابِعُونَ طَبَقَاتٌ عَشَرَهْ

مَع خمسَةٍ أوَّلُهُمْ ذُو الْعَشَرهْ

وَذَاكَ قيْسٌ مَالَة نَظِيرُ

وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمٍ كَثِيرُ

والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عقبة بن عامر) رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آيات أنزلت عليَّ الليلة) "آيات" مبتدأ، و"أنزلت" بالبناء للمفعول، و"عَلَيَّ" متعلق به، و"الليلة" منصوب على الظرفية، متعلق به أيضًا، والجملة في محل جر صفة لـ"آيات"، أي آيات من القرآن مُنزَلَةٍ عليَّ في هذه الليلة.

ولفظه في "كتاب الاستعاذة" من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس:"أنزل علي آيات، لم يُرَ مثلُهُنّ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] إلى آخر السورة، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] إلى آخر السورة".

ولفظ مسلم عن قتيبة، بإسناد المصنف: "ألم تر آيات أنزلت

ص: 327

الليلة، لم يُرَ مثلُهن قط، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1] ".

(لم ير مثلهن قطّ) بالبناء للمفعول أيضًا، و"مثلهن" نائب فاعله، والجملة في محل جر صفة بعد صفة، أوفي محل نصب حال. و"قط" من ظروف الزمان تستعمل للماضي، وقد تقدم قول شيخنا عبد الباسط المِنَاسِيّ رحمه الله تعالى في ضبطها:

وَخَمْسَةً جَعَلَ مَنْ قَطُّ ضَبَطْ

قَطُّ وَقُطُّ قَطِّ ثُمَّ قَطُ قَطْ

والمعنى أنه لم ينزل الله تعالى عليّ فيما مضى من الزمان مثل هؤلاء الآيات في بابهن، وهو الاستعاذة، يعني أنه لم يكن آياتُ سورةٍ كُلُّهُنَّ تعويذ للقارئ غير هاتين السورتين، ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجانّ، وأعين الإنسان، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما". أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح. ولما سُحِر استشفى بهما، وإنما كان كذلك لأنهما من الجوامع في هذا الباب.

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] بدل من "آيات"، أو خبر لمحذوف، أي هن، أول مفعول لمحذوف، أي أعني. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 328

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عقبة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -46/ 954 - وفي "الكبرى" -46/ 1036 - بالسند المذكور، وفي "كتاب الاستعاذة" -1/ 5440 - عن محمد بن المثنى، عن يحيى القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عنه. وفي "فضائل القرآن" من "الكبرى" عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن إسماعيل به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه؛ وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع؛ وعن محمد بن رافع، عن أبي أسامة؛ ثلاثتهم عن إسماعيل بن أبي خالد. وعن قتيبة، عن جرير، عن بيان- كلاهما عن قيس، عنه.

والترمذي في "فضائل القرآن" عن بندار، عن يحيى، عن إسماعيل به. وقال: حسن صحيح. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائد حديثي الباب:

منها: أن فيهما بيان عظم فضل هاتين السورتين، وقد سبق اختلاف أهل العلم في جواز إطلاق تفضيل بعض سور القرآن على بعض،

ص: 329

وترجيح الراجح من ذلك -وهو الجواز- بدليله في-25/ 912.

ومنها: أن فيهما دليلًا واضحًا على كون هاتين السورتين من القرآن، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك في الباب الماضي.

ومنها: أن لفظة "قل" من القرآن ثابتة في أول السورتين بعد البسملة، وقد أجمعت الأمة على ذلك، كما قاله النووي رحمه الله

تعالى

(1)

.

وقد ورد في فضل هاتين السورتين أحاديث كثيرة، عن عقبة بن عامر وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقد أخرج المصنف رحمه الله معظمها في "كتاب الاستعاذة" -5428 - 5441.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: بعد أن أورد الأحاديث الكثيرة عن عقبة بن عامررضي الله عنه: ما نصه: فهذه طرق عن عقبة كالتواتر عنه تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث. انتهى

(2)

. والله تعالى ولي التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

راجع شرح مسلم جـ 6 ص 96.

(2)

تفسير ابن كثير جـ 4 ص 612.

ص: 330

‌47 - الْقِرَاءَةُ فِي الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على مشروعية القراءة في صلاة الصبح.

ثم إنه يحتمل أن يكون المراد بيان ما يقرأ بعد فاتحة الكتاب من السور، ويؤيده ما تقدم في الأبواب السابقة، فإنها بينت السور التي تقرأ بعد فاتحة الكتاب.

ويحتمل أن يكون بيان مشروعية مطلق القراءة، والاحتمال الأول أولى، لأن مطلق القراءة معلوم من الأدلة السابقة في وجوب قراءة

الفاتحة، وغيرها.

وقد ترجم البخاري رحمه الله بقوله: [باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة]، والله تعالى أعلم.

955 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ح وَأَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ

ص: 331

يَوْمَ الْجُمُعَةِ {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2]، وَ {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1].

رجال هذا الإسناد: ثمانية

1 -

(محمد بن بشار) بن عثمان العبدي، أبو بكر البصري، بندار، ثقة حافظ، من [10]، مات سنة 252، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 27.

2 -

(عمرو بن علي) بن بحر الفلاس الصيرفي، أبو حفص البصري، ثقة حافظ، من [10]، مات سنة 249، تقدم في 4/ 4.

3 -

(يحيى بن سعيد) القطان، أبو سعيد البصري، الإمام الحافظ الحجة [9]، مات سنة 198، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.

4 -

(عبد الرحمن) بن مهدي بن حسّان العنبري مولاهم، أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، من [9]،

مات سنة 198، تقدم في 42/ 49.

5 -

(سفيان) بن سعيد الثوري، الإمام الحافظ الحجة، من [7] تقدم قبل باب.

6 -

(سعد بن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، ثقة فاضل عابد، من [5]، مات سنة 125 وقيل: بعدها، وهو ابن 72 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 11/ 518.

ص: 332

7 -

(عبد الرحمن الأعرج) هو ابن هُرْمُزَ، مولى ربيعة بن الحارث، أبو داود المدني، ثقة ثبت عالم، من [3]، مات سنة 117،

أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.

8 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله. ومنها: أن رجاله كلهم ثقات نُبَلَاء، وأنهم من رجال الجماعة، وأنهم بصريون، إلا سعدًا، والأعرج، وأبا هريرة فمدنيون. ومنها: أن شيخيه من مشايخ الأئمة الستة الذين يروون عنهم بدون واسطة، وقد تقدموا غير مرة. ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، سعد، عن الأعرج. ومنها: أن فيه أبا هريرة رئيس المكثرين من الصحابة رضي الله عنهم، روى 5374 - حديثًا.

ومنها: أن فيه قوله: "واللفظ له"، أي اللفظ المذكور لشيخه عمر وابن علي، وأما محمد بن بشار فقد رواه بمعناه، وقد تقدم بيان ذلك غير مرة، فلا تغفل. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح) أي بعد الفاتحة، وإنما لم يذكرها لوضوح أمرها (يوم

ص: 333

الجمعة) متعلق بـ "يقرأ"، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف حال من "صلاة الصبح"، أي حال كونها كائنة يوم الجمعة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2]) برفع "تنزيل" على الحكاية، وزاد في الرواية التالية:"السجدة"، وهو بالنصب بدل مما قبله.

{هَلْ أَتَى} [الإنسان:1] زاد في الرواية التالية: {عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1].

والمراد أنه كان يقرأ كل وكعة بسورة من هاتين السورتين. وقد بين ذلك مسلم في ووايته من طريق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، بلفظ:{الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] في الركعة الأولى، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1].

وفيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذه الصلاة من هذا اليوم، لما تشعر الصيغة به من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، أو إكثاره منه، بل قد ورد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه التصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك، أخرجه الطبراني، ولفظه:"يديم ذلك". وأصله في ابن ماجه بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبو حاتم إرساله.

وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه، فقال في الكلام على حديث الباب: ليس في الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائمًا اقتضاء قويًا، وهو كما قال بالنسبة لحديث الباب، فإن الصيغة ليست نصًا في المداومة، لكن

ص: 334

الزيادة التي ذكرناها نص في ذلك. قاله في "الفتح"

(1)

.

قيل: الحكمة في قراءة هاتين السورتين في فجر الجمعة الإشارة إلى ما فيهما من ذكر خلق آدم، وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك كان، وسيقع يوم الجمعة. قاله في الفتح نقلًا عن ابن دحية رحمه الله تعالى

(2)

. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -47/ 955 - وفي "الكبرى" -47/ 1027 - بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي نعيم- وعن محمد بن يوسف- كلاهما عن سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن الأعرج، عنه.

(1)

جـ 3 ص 34.

(2)

راجع الفتح جـ 3 ص 36.

ص: 335

ومسلم فيه عن زهير بن حرب، عن وكيع، عن سفيان به. ومن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه به.

وابن ماجه فيه عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب به.

وأخرجه أحمد جـ 2 ص 430 و 472، والدارمي برقم 1550. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة. قال الحافظ رحمه الله: قد أشار أبو الوليد الباجي في رجال البخاري إلى الطعن في سعد بن إبراهيم لروايته لهذا الحديث، وأن مالكًا امتنع من الرواية عنه لأجله، وأن الناس تركوا العمل به، لا سيما أهل المدينة اهـ.

وليس كما قال، فإن سعدًا لم ينفرد به مطلقًا، فقد أخرجه مسلم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو الحديث التالي في الباب عند النسائي- وكذا ابن ماجه، والطبراني من حديث ابن مسعود، وابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص، والطبراني في "الأوسط" من حديث علي.

وأما دعواه أن الناس تركوا العمل به فباطلة، لأن أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين قد قالوا له، كما نقله ابن المنذر وغيره، حتى إنه ثابت عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف والد سعد، وهو من كبار التابعين من أهل المدينة أنه أم الناس بالمدينة بهما في الفجر يوم الجمعة. أخرجه

ص: 336

ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.

وكلام ابن العربي يشعر بأن ترك ذلك أمر طرأ على أهل المدينة، لأنه قال: وهو أمر لم يعلم بالمدينة، فالله أعلم بمن قطعه كما قطع غيره. اهـ.

وأما امتناع مالك من الرواية عن سعد، فليس لأجل هذا الحديث، بل لكونه طعن في نسب مالك، كذا حكاه ابن البَرْقِيّ، عن يحيى بن معين، وحكى أبو حاتم، عن علي بن المديني، قال: كان سعد بن إبراهيم لا يحدث بالمدينة، فلذلك لم يكتب عنه أهلها.

وقال الساجي: أجمع أهل العلم على صدقه. وقد روى مالك عن عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عنه، فصح أنه حجة باتفاقهم. قال:

ومالك إنما لم يرو عنه لمعنى معروف، فأما أن يكون تكلم فيه، فلا أحفظ ذلك اهـ. والله تعالى أعلم.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في حكم قراءة هاتين السورتين في صلاة فجر يوم الجمعة:

ذهب بعض أهل العلم إلى استحباب ذلك، وممن كان يفعله من الصحابة- كما قاله الحافظ العراقي رحمه الله عبد الله بن عباس، ومن التابعين إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وأصحاب الحديث.

وذهب مالك وآخرون إلى كراهته. قال النووي: وهم محجوجون

ص: 337

بهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة المروية من طرق

(1)

.

وقال في "الفتح". وقد اختلف تعليل المالكية بكراهة قراءة السجدة في الصلاة، فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض. قال القرطبي: وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث.

وقيل: لخشية التخليط على المصلين، ومن ثَمَّ فرق بعضهم بين الجهريه والسرية، لأن الجهرية يؤمن معها التخليط. لكن صح

(2)

من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فيها سجدة في صلاة الظهر، فسجد بهم فيها. أخرجه أبو داود، والحاكم، فبطلت التفرقة.

ومنهم من علل الكراهة بخشية اعتقاد العوام أنها فرض. قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهة مطلقًا فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة، فينبغي أن تترك أحيانًا، لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة التوقعة، وهو يحصل بالترك في بعض الأوقات اهـ.

وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: ينبغي أن يفعل ذلك في الأغلب للقدوة، ويقطع أحيانًا لئلا تظنه العامة سنة. اهـ.

(1)

راجع نيل الأوطار جـ 3 ص 330.

(2)

لكن في صحته نظر، لأن في سنده أمية شيخ لسليمان التيمي، رَوىَ عن أبي مِجْلَز مجهول، كما في تقريب التهذيب، ونبه عليه الشوكاني في "نيله" جـ 3 ص 120 - 121. فتأمل.

ص: 338

وهذا على قاعدتهم في التفرقة بين السنة والمستحب.

وقال صاحب "المحيط" من الحنفية: يستحب قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانًا، لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره.

وأما صاحب "الهداية" منهم فذكر أن علة الكراهة هجران الباقي، وإيهام التفضيل، وقول الطحاوي يناسب قول صاحب المحيط، فإنه خص الكراهة بمن يراه حتمًا، لا يجزئ غيره، أو يرى القراءة بغيره مكروهة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما تقدم في كلام ابن دقيق العيد، وأشار إليه ابن العربي، رحمهما الله تعالى هو الراجح عندي، فتستحب

المداومة على هاتين السورتين في صلاة فجر يوم الجمعة، لكن إن خُشِي على العوامّ اعتقاد وجوب ذلك فينبهون بالقول، أو بالترك أحيانًا، دفعًا للمفسدة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

فائدتان: ذكرهما الحافظ في "الفتح"، فقال:

الأولى: لم أر في شيء من الطرق التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم سجد لما قرأ سورة "تنزيل السجدة" في هذا المحلّ إلا في كتاب الشريعة لابن أبي داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما،

(1)

فتح جـ 3 ص 34.

ص: 339

قال: "غدوت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة، فسجد"

الحديث، وفي إسناده من ينظر في حاله. وللطبراني في الصغير من حديث علي رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الصبح في "تنزيل السجدة". لكن إسناده ضعيف. والله تعالى أعلم.

الثانية: قيل: الحكمة في اختصاص يوم الجمعة بقراءة سورة السجدة، قصد السجود الزائد حتى إنه يستحب لمن لم يقرأ هذه السورة بعينها أن يقرأ سورة غيرها، فيها سجدة، وقد عاب ذلك على فاعله غير واحد من العلماء، ونسبهم صاحب الهدي إلى قلة علم، ونقص المعرفة، لكن عند ابن أبي شيبة بإسناد قوي عن إبراهيم النخعي أنه قال: يستحب أن يقرأ في الصبح يوم الجمعة بسورة فيها سجدة، وعنده من طريقه أيضًا أنه فعل ذلك، فقرأ سورة مريم، ومن طريق ابن عون قال: كانوا يقرؤون في الصبح يوم الجمعة بسورة فيها سجدة، وعنده من طريقه أيضًا، قال: وسألت محمدًا -يعني ابن سيرين- عنه؟ فقال: لا أعلم به بأسًا. انتهى.

فهذا قد ثبت عن بعض علماء الكوفة والبصرة، فلا ينبغي القطع بتزييفه.

وقد ذكر النووي في زيادات الروضة هذه المسألة، وقال: لم أر فيها كلامًا لأصحابنا، ثم قال: وقياس مذهبنا أنه يكره في الصلاة إذا قصده. انتهى.

ص: 340

وقد أفتى ابن عبد السلام قبله بالمنع، ويبطلان الصلاة بقصد ذلك.

قال صاحب المهمات: مقتضى كلام القاضي حسين الجواز. وقال الفاروقي في "فوائد المهذب": لا تستحب قراءة سجدة غير تنريل، فإن ضاق الوقت عن قراءتها قرأ بما أمكن منها، ولو بآية السجدة منها. ووافقه ابن أبي العصرون في "كتاب الانتصار"، وفيه نظر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قراءة غير ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من السورة التي فيها السجدة، بدلًا عما ثبت عنه ليس مما ينبغي، بل لا يبعد القول بكراهته إن قصده، وأما القول ببطلان الصلاة به فشيء عجيب، فكيف تبطل الصلاة بقراءة سورة من السور القرآنية مع الفاتحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

956 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ح وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

شَرِيكٌ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنِ الْمُخَوَّلِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

(1)

فتح جـ 3 ص 35 - 36.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 341

{تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] السَّجْدَةِ، وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَان} [الإنسان: 1].

رجال هذا الإسناد: ثمانية

1 -

(قتيبة) بن سعيد، تقدم في الباب الماضي.

2 -

(أبو عوانة) وَضَّاح بن عبد الله اليشكري الواسطي، ثقة ثبت، من [7] مات سنة 175 أو 176، أخرج له الجماعة، تقدم في

41/ 46.

3 -

(علي بن حُجْر) السعدي المروزي، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة حافظ، من صغار [9]، مات سنة 244، أخرج له البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، تقدم في 13/ 13.

4 -

(شريك) بن عبد الله النخعي القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوق يخطئ كثيرًا، عادل فاضل عابد شديد على أهل

البدع، من [8]، مات سنة 177، أخرج له البخاري تعليقًا، مسلم، والأربعة، تقدم في 25/ 29.

5 -

(مُخَوَّل

(1)

بن راشد) أبو راشد بن أبي المُجَالد النهدي مولاهم الكوفي الحنّاط

(2)

ثقة نسب إلى التشيع، من [6] مات بعد أربعين ومائة، أخرج له الجماعة، تقدم في 20/ 426.

(1)

"مخول"- بوزن مُحَمّد، وقيل: بوزن مِنْبَر.

(2)

"الحناط" بمهملة، ونون.

ص: 342

6 -

(مسلم) بن عمران البطين، ويقال: ابن أبي عمران، أبو عبد الله الكوفي، ثقة من [6] ، تقدم في 26/ 915.

7 -

(سعيد بن جُبَير) الأسدي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه، من [3] قتل سنة 95 ولم يكمل 50، أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 436.

8 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدم في 27/ 31.

قال الجامع عفا الله عنه: لطائف الإسناد تقدم غير مرة، وكذا شرح الحديث تقدم في الحديث الذي قبله. والله ولي التوفيق، وهو

المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 47/ 956 - وفي "الكبرى" -47/ 1028 - بالسند المذكور. وفي -38/ 1421 - وفي "الكبرى" -37/ 1736 - عن محمد ابن عبد الأعلى الصنعاني، عن خالد بن الحارث الهُجَيمي، عن شعبة، عن مخول، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عنه، بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح {الم (1) تَنْزِيلُ}

ص: 343

[السجدة: 1، 2]، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]، وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين". وأعاده في "الكبرى" في "التفسير" -11639 - بلفظ حديث الباب عن علي بن حجر به. والله تعالى ولي التوفيق.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان، وعن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، وعن أبي كريب، عن وكيع، ثلاثتهم عن سفيان الثوري- وعن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة- كلاهما عن مخول بن راشد، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عنه - بلفظ:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة "سورة الجمعة، والمنافقين".

وأبو داود" فيه عن مسدد، عن يحيى القطان، عن شعبة به. وعن مسدد، عن أبي عوانة، عن مخول- بالقصة الأولى.

والترمذي فيه عن علي بن حُجْر، عن شريك، عن مخول بالقصة الأولى، وقال: حسن صحيح.

وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن خلاد الباهلي، عن وكيع، وابن مهدي، كلاهما عن سفيان له.

ص: 344

وأخرجه أحمد جـ 1 ص 226 و 328 و 340 و 354 و 272 و 307 و 316 و 334 و 361 و 334. وابن خزيمة رقم 553. والله تعالى ولي التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 345

‌48 - بَابُ سُجُودِ الْقُرْآن

أي هذا باب في ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية السجود في تلاوة القرآن.

وكان الأولى للمصنف رحمه الله تعالى أن يترجم بـ[كتاب سجود القرآن]، أو بـ[أبواب سجود القرآن] كما فعل الإمام البخاري رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم.

السُّجُودُ فِى {صَ} [ص: 1]

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية السجود في "سورة {ص} ".

957 -

أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِقْسَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي {ص} [ص: 1]، وَقَالَ:"سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً، وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(إِبراهيم بن الحسن المِقْسَمِيّ) أبو إسحاق المِصِّيصِيّ، ثقة،

ص: 346

من [11]، أخرج له أبو داود، النسائي، تقدم في 51/ 64.

2 -

(حجاج بن محمد) الأعور، أبو محمد الترمذي، نزيل بغداد، ثم المصيصة، ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخره لما قدم بغداد، من

[9]

مات سنة 206، أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 32.

3 -

(عمر بن ذرّ) بن عمد الله بن زُرَارة الهَمْدَاني الْمُرْهِبِيّ، أبو ذرّ الكوفي، ثقة رمي بالإرجاء، من [6].

روى عن أبيه، وسعيد بن جبير، وأبي وائل، ويزيد بن أمية، ومجاهد، وآخرين.

وعنه أبان بن تغلب، وحجاج بن محمد الأعور، وابن عيينة، ووكيع، وابن المبارك، وآخرون.

قال البخاري، عن علي: له نحو ثلاثين حديثًا، وقال أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان. قال جدي: عمر بن ذرّ ثقة في الحديث، ليس ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه. وقال الدُّورِيّ وغيره عن ابن معين: ثقة. وكذا قال النسائي، والدارقطني. وقال العجلي. كان ثقة بليغًا يرى الإرجاء، وكان لَيِّن القولِ فيه.

وقال أبو داود: كان رأسًا في الإرجاء، وكان قد ذهب بصره. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا، وكان مرجئًا، لا يحتج بحديثه، هو مثل يونس بن أبي إسحاق، وقال في موضع آخر: كان رجلًا صالحًا، محله

ص: 347

الصدق. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو عاصم، عن عمر بن ذرّ كوفيٍّ ثقةٍ مرجىءٍ. وقال ابن خراش: صدوق من خيار الناس، وكان مرجئًا، وعن يحيى بن سعيد القطان ما يدلّ على أنه كان رأسًا في الإرجاء. وقال ابن حبان في "الثقات": كان مرجئًا، وهو ثقة. وقال البَرْدِيجي: روى عن مجاهد أحاديث مناكير، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة مرجىء. وقال ابن سعد: قال محمد بن عبد الله الأسدي: توفي سنة (153) كان مرجئًا، فمات، فلم يشهده الثوري، وكان ثقة، إن شاء الله، كثير الحديث، وقيل: مات سنة (150) وقيل: سنة (2) وقيل: (5) وقيل: (6) وقيل: (7). والله أعلم.

روى له ابن ماجه في "التفسير" والباقون سوى مسلم

(1)

. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

وقع في النسخة المطبوعة "عَمْرو بن ذَرّ" بالفتح، وهو خطأ، والصواب عُمَر بالضمّ.

ووقع في نسخة "الكبرى""عمر بن زر" بالزاي، وهو خطأ، والصواب "ذرَ" بالذال المعجمة. فتنبه.

4 -

(ذّرّ) بن عبد الله المرهبي الكوفي، ثقة عابد رمي بالإرجاء، من [6] مات قبل المائة، أخرج له الجماعة، تقدم في 195/ 312.

وأما سعيد، وابن عباس، فتقدما في الباب الماضي. والله تعالى أعلم

(1)

"تك" جـ 21 ص 334 - 340. "تت" جـ 7 ص 444 - 445.

ص: 348

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وأن شيخه ممن انفرد به هو وأبو داود، والباقون من رجال الجماعة، إلا عمر ابن ذر، فما أخرج له مسلم، وأخرج له ابن ماجه في "التفسير"، وأن شيخه وحجاجًا مصيصيان، والباقون كوفيون، إلا ابن عباس، فمدني، ثم بصري، وفيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في {ص}) ولفظه عند البخاري، وغيره: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:{ص} ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها".

ووقع عند البخاري في "التفسير" من طريق مجاهد، قال:"سألت ابن عباس من أين سجدت في {ص}؟ "، ولابن خزيمة من هذا الوجه:"من أين أخذت سجدة {صَ}؟ "، ثم اتفقا، فقال:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

ففي هذا بيان أنه استنبط مشروعية السجود فيها من الآية، وفي الأول أنه أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تعارض بينهما، لاحتمال أن يكون استفاده من الطريقين.

ص: 349

وقد وقع عند البخاري في أحاديث الأنبياء من طريق مجاهد في آخره فقال ابن عباس: "نبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم". فاستنبط وجه سجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها من الآية.

وسبب ذلك كون السجدة التي في {ص} إنما وردت بلفظ الركوع، فلولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدة.

وقوله: "ليست من عزائم السجود": المراد بالعزائم ما وردت العزيمة على فعله، كصيغة الأمر، مثلًا، بناءً على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب، وقد روى ابن المنذر وغيره عن علي بن أبي طالب بإسناد حسن:"إن العزائم {حم}، {وَالنَّجْمِ}، و {اقْرَأْ}، و {الم (1) تَنْزِيلُ}. وكذا ثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخيرة. وقيل. "الأعراف"، و {سُبْحَانَ}، و {الم}. أخرجه ابن أبي شيبة. قاله في "الفتح"

(1)

.

(وقال) صلى الله عليه وسلم حينما سجدها (سجدها داود) عليه الصلاة، والسلام (توبةً) منصوب على أنه مفعول لأجله، وكذا قوله:"شكرًا"، كما قال في "الخلاصة":

يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ

أبَانَ تَعْلِيلًا "جُدْ شُكْرًا وَدِنْ"

والمعنى أن داود عليه السلام سجد هذه السجدة لأجل التوبة إلى الله سبحانه وتعالى.

(1)

جـ 3 ص 257.

ص: 350

(ونسجدها شكرًا) أي نحن أيتها الأمة نسجد هذه السجدة في هذه السورة شكرًا لله تعالى على ذلك، فحين يجري في القرآن ذِكْرُ مَنِّ الله تعالى على عبده داود عليه السلام بالتوفيق لتلك التوبة والقبول لها؛ نسجد لله تعالى شكرًا على ذلك.

وقد استدلّ الشافعي رحمه الله بقوله: "شكرًا" على أنه لا يسجد فيها في الصلاة، لأن سجود الشكر لا يشرع داخل الصلاة.

وفي رواية أبي داود، وابن خزيمة، والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر {ص} فلما بلغ السجدة، نزل، فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تَشَنَّزَ الناس

(1)

للسجود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تَشَنَّزْتم للسجود، فنزل، فسجد، وسجدوا". فهذا السياق يشعر بأن السجود فيها لم يؤكد كما أكد في غيرها.

واستدل بعض الحنفية من مشروعية السجود عند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] بأن الركوع عندها ينوب عن السجود، فإن شاء المصلي ركع بها، وإن شاء سجد، ثم طرده في جميع السجدات، وبه قال ابن مسعود رضي الله عنه

(2)

.

(1)

أي تهيؤوا، واستعدوا.

(2)

راجع الفتح جـ 3 ص 257.

ص: 351

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاستنباط محل نظر. والله تعالى أعلم.

وقال السندي رحمه الله تعالى: وكون السجدة للشكر لا يستلزم عدم الوجوب، كما أنه لا يستلزم الوجوب، فينبغي الرجوع في معرفة أحد الأمرين إلى خارج. والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق القول في هذه المسألة قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله عنه هذا صحيح.

وهو بهذا اللفظ من أفراد المصنف رحمه الله، أخرجه هنا -48/ 957 - وفي "الكبرى" -48/ 1029 - بالسند المذكور. وأعاده في "التفسير" من "الكبرى" -11437.

وأخرجه أيضًا في "التفسير" 11169 - عن عبيد الله بن سعد، عن عمه يعقوب بن إبراهيم، عن شريك، عن حصين بن عبد الرحمن، عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه سجد في {ص} ثم قال: "أمرَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالأنبياء، ثم قرأ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ

(1)

شرح السندي جـ 2 ص 160.

ص: 352

اقْتَدِهْ} " [الأنعام: 90].

وفي -11170 - عن عتبة بن عبد الله، عن سفيان، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد في {ص}، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ} "[الأنعام: 90].

وقد أخرجه البخاري، وأبو داود، والترمذي، بلفظ:" {ص} ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها".

فأخرجه البخاري في سجود القرآن عن سليمان بن حرب، وأبي النعمان، كلاهما عن حماد بن زيد- وفي "أحاديث الأنبياء" عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب- كلاهما عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " {ص} ليست من عزائم السجود

".

وأبو داود في "الصلاة" عن موسى بن إسماعيل به. والترمذي فيه عن ابن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن أيوب به. وقال: حسن صحيح. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية. في اختلاف العلماء في سجود {ص} .

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله: وقد اختلف أهل العلم في السجود في {ص} ، فروينا عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وابن عمر أنهم سجدوا فيها. وفعل ذلك طاوس، وهو قول سعيد بن جبير، والحسن الحصري، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي.

وذهبت طائفة إلى أنه لا سجود في {ص} ، وممن كان لا يسجد

ص: 353

فيها: عبد الله بن مسعود، وعلقمة، وأصحاب عبد الله، وكان الشافعي لا يرى السجود فيها.

قال: وبالقول الأول أقول، للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما رجحه الإمام ابن النذر رحمه الله تعالى هو الراجح عندي، لقوة دليله. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف العلماء في حكم سجود التلاوة:

ذهب جمهور أهل العلم إلى أن سجود التلاوة سنة، وليس بواجب، وممن قال بهذا عمر بن الخطاب، وسلمان الفارسي، وعمران

ابن حصين، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وغيرهم رضي الله عنهم.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن سجود التلاوة واجب على القارئ، والمستمع، واحتج له بقوله تعالى:{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الإنشقاق: 20، 21]، وبقول تعالى:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]، وبالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للتلاوة، وقياسًا على سجود الصلاة.

واحتح الأولون بالأحاديث الصحيحة:

(1)

الأوسط جـ 5 ص 254 - 255.

ص: 354

منها: حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] فلم يسجد فيها. متفق عليه.

ومنها: ما احتج به الشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة، وهو حديث الأعرابي:"خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع". متفق عليه.

ومنها: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل، فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة، قرأها، حتى إذا جاء السجدة، قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود، فمن سجد، فقد أصاب، ومن لم يسجد، فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر". وفي رواية قال: "إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء". أخرجهما البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه".

قال النووي رحمه الله: وهذا القول من عمر رضي الله عنه في هذا الموطن، والمجمع العظيم دليل ظاهر في إجماعهم على أنه ليس

بواجب، ولأن الأصل عدم الوجوب حتى يثبت صحيح صريح في الأمر به، ولا معارض له، ولا يوجد هنا.

وأما الجواب عن الآية التي احتجوا بها، فهي إنما وردت في ذم الكفار في تركهم السجود استكبارًا، وجحودًا، وأما المراد بالسجود في الآية الثانية سجود الصلاة، والأحاديث التي احتجوا بها محمولة على

ص: 355

الاستحباب، جمعًا بين الأدلة. والله تعالى أعلم. انتهى من "مجموع النووي" رحمه الله مختصرًا

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن مذهب الجمهور وهو عدم الوجوب هو الراجح، لقوة دليله، كما ذكر آنفًا. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في عدد سجود القرآن:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في عدد سجود القرآن، فروينا عن ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يعدان سجود القرآن، فقالا: الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والحج أولها، والفرقان، وطس، وآلم تنزيل، وص، وحم السجدة، إحدى عشرة سجدة. وروينا عن ابن عباس رواية أخرى أنه عدها عشرًا، وأسقط السجود في ص.

وقد اختلف عن ابن عمر في السجدة الثانية من سورة الحج.

وقالت طائفة: سجود القرآن أربع عشرة سجدة، في الحج منها سجدتان، وفي المفصل ثلاثة، وليس في ص منها شيء. هكذا قال

الشافعي، وقال أبو ثور كقول الشافعي في العدد، غير أنه أثبت السجود في ص، وأسقط السجود من سووة النجم، خالف الشافعي في هاتين السجدتين.

(1)

المجموع شرح التهذيب جـ 4 ص 61 - 62.

ص: 356

وقال إسحاق في سجود القرآن: خمس عشرة: الأعراف، والرعد، والنحل، وبنو إسرائيل، ومريم، وفي الحج سجدتان مباركتان، وفي

الفرقان، والنمل، وألم تنزيل السجدة، وفي ص، وفي حم السجدة، وفي النجم، وفي إذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك الذي خلق.

وقال أصحاب الرأي كما قال إسحاق، إلا في السجود في الحج، فإنهم قالوا: فيها سجدة واحدة، وقولهم كقوله في سائر سجود القرآن. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(1)

. وبالله تعالى التوفيق.

فائدة: قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: واعلم: أنه يشترط لجواز سجودة التلاوة، وصحته شروط صلاة النفل من الطهارة عن

الحدث، والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، ولا يجوز السجود حتى يتم قراءة السجدة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: مسألة اشتراط الطهارة في سجود التلاوة فيها خلاف، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره عدم

اشتراط ذلك، وهو ظاهر مذهب البخاري، فإنه ترجم [باب سجود المسلمين مع المشركين، والمشرك نجس ليس له وضوء].

قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسجد على غير وضوء.

(1)

الأوسط جـ 5 ص 267 - 268.

(2)

شرح مسلم جـ 5 ص 79.

ص: 357

انتهى

(1)

.

وروى ابن أبي شيبة من طريق عبيد بن الحسن، عن رجل زعم أنه كنفسه، عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عمر ينزل عن راحلته،

فيهريق الماء، ثم يركب، فيقرأ السجدة، فيسجد، وما يتوضأ.

وأما ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، قال. لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر، فيجمع بينهما -كما قال الحافظ- بأنه أراد بقوله طاهر الطهارة الكبرى، أو الثاني على حالة الاختيار، والأول على الضرورة.

ووافق ابن عمرَ على جواز السجدة بلا وضوء الشعبيُّ، أخرجه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح، وأخرج أيضًا عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ أنه كان يقرأ بالسجدة، ثم يسجد، وهو على غير وضوء إلى غير القبلة، وهو يمشي يومئ إيماء. قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئًا، وقد كان يسجد معه صلى الله عليه وسلم من حضر تلاوته، ولم ينقل أنه أمر أحدًا منهم بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعًا متوضئين، وأيضًا قد كان يسجد معه المشركون، كما

(1)

انظر صحيح البخاري بنسخة الفتح جـ 3 ص 258.

(2)

فتح جـ 3 ص 258 - 259.

ص: 358

تقدم، وهم أنجاس، لا يصح وضوؤهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع: عندي الأولى أن لا يسجد على غير وضوء، وأما إيجاب الوضوء فمحل توقف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه

المرجع والمآب.

فائدة أخرى: قال النووي رحمه الله تعالى: يجوز عندنا سجود التلاوة في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ لأنها ذات سبب، ولا

يكره عندنا ذوات الأسباب، وفي المسألة خلاف مشهور انتهى

(2)

.

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: روي عن بعض الصحابة أنه يكره سجود التلاوة في الأوقات المكروهة، والظاهر عدم الكراهة، لأن

السجود المذكور ليس بصلاة، والأحاديث الواردة في النهي خاصة بالصلاة. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الشوكاني رحمه الله تعالى حسن جِدًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".

(1)

نيل الأوطار جـ 3 ص 125 - 126.

(2)

شرح مسلم جـ 5 ص 79.

(3)

نيل الآوطار جـ 3 ص 126.

ص: 359

‌49 - السُّجُودُ فِي {وَالنَّجْمُ} [النجم: 1]

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على مشروعية السجود في سورة {وَالنَّجْمُ} [النجم: 1].

958 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَبَاحٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ سُورَةَ النَّجْمِ، فَسَجَدَ، وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَأَبَيْتُ أَنْ أَسْجُدَ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ أَسْلَمَ الْمُطَّلِبُ.

رجال هذا الإسناد: تسعة

1 -

(عبد الملك بن عبد الحميد بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران) الجزري، ثم الرقيّ، أبو الحسن الميموني، الحافظ الفقيه، ثقة فاضل، من [11].

صحب أحمد بن حنبل، وروى عنه، وعن أبيه عبد الحميد، ومحمد بن عبيد الطنافسي، وحجاج بن محمد ورَوْح بن عُبَادَةَ،

ص: 360

وغيرهم. وعنه النسائي، وأبو حاتم، وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة. وقال أبو علي الحَرَّاني: مات سنة (274).

وذكر مسلمة في "الصلة" أن ابن الأعرابي حدثهم عنه، فهو على هذا خاتمة أصحابه. وقال أبو بكر الخلال: كان سنه يوم مات دون المائة، سمعته يقول: ولدت سنة (181) وكان فقيه البدن، كان أحمد يكرمه، ويفعل معه ما لا يفعله مع أحد غيره، قال: وسمعته يقول: صحبت أحمد على الملازمة من (200) إلى سبع وعشرين

(1)

. انفرد به المصنف.

"تنبيه":

قوله: "عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران" هكذا وقع في نسخ "المجتبى" وهو"عبد الملك بن عبد الحميد بن عبد الحميد بن ميمون ابن مهران" فسقط" عبد الحميد" الثاني من نسخ "المجتبى" فتنبه.

2 -

(ابن حنبل) هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، أبو عبد الله المروزي، نزيل بغداد، أحد الأئمة، ثقة حافظ

فقيه حجة، وهو رأس الطبقة [10].

خرجت به أمه من مرو، وهي حامل، فولدته ببغداد، وبها طلب العلم، ثم طاف البلاد، فروى عن بشر بن المفضل، وإسماعيل ابن علية،

(1)

تهذيب الكمال جـ 18 ص 334 - 335. تهذيب التهذيب جـ 6 ص 400.

ص: 361

وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، ويحيى بن سعيد القطان، وأبي داود الطيالسي، وعبد الله بن نمير، وعبد الرزاق، وعلي ابن عياش الحمصي، والشافعي، وغندر، ومعتمر بن سليمان، وجماعة كثيرين.

روى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والباقون مع البخاري أيضًا بواسطة، وأسود بن عامر شاذان، وابن مهدي، والشافعي، وأبو الوليد، وعبس الرزاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، ويزيد بن هارون، وهم من شيوخه، وقتيبة، وداود بن عمرو الضبي، وخلف بن هشام، وهم أكبر منه، وأحمد بن أبي الحواري، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والحسين بن منصور، وزياد بن أيوب، ودُحَيم، وأبو قدامة السرخسي، ومحمد بن رافع، ومحمد بن يحيى بن أبي سَمينَة، وهؤلاء من أقرانه، وابناه. عبد الله، وصالح، وتلامذته أبو بكر الأثرم، وحرب الكرماني، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وحنبل بن إسحاق، وشاهين بن السميدع، والميموني، وغيرهم، وآخر من حدث عنه أبو القاسم البغوي.

قال ابن معين: ما رأيت خيرًا من أحمد، ما افتخر علينا قط بالعربية، ولا ذكرها. وقال عارم: قلت له يومًا: يا أبا عبد الله: بلغني أنك من العرب، فقال: يا أبا النعمان نحن قوم مساكين. وقال صالح: سمعت أبي يقول: ولدت سنة (164) في أولها، في ربيع الأول. وقال عبد الله: سمعت أبي يقول. مات هشيم سنة (183) وخرجت إلى الكوفة في تلك الأيام، ودخلت البصرة سنة (86). وقال أيضًا: سمعته يقول:

ص: 362

سمعت من علي بن هاشم بن البريد سنة (179) في أول سنة طلبت الحديث، ثم عدت إليه المجلس الآخر، وقد مات، وهي السنة التي مات فيها مالك، وقال أيضًا: حججت سنة (87) وقد مات فضيل بن عياض قبل ذلك، ورأيت ابن وهب بمكة، ولم أكتب عنه، قال: وحججت خَمْسَ حِجَجٍ، منها ثلاث حجج راجلًا، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهمًا. وقال إبراهيم بن شماس: سمعت وكيع بن الجراح، وحفص بن غياث يقولان. ما قدم الكوفة مثل ذاك الفتى، يعنيان أحمد. وقال القطان: ما قدم علي مثل أحمد، وقال فيه مرة: حبر من أحبار هذه الأمة. وقال أحمد بن سنان: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيمًا منه لأحمد بن حنبل. وقال عبد الرزاق: ما رأيت أفقه منه، ولا أورع. وقال أبو عاصم: ما جاءنا من ثمة أحد غيره يحسن الفقه. وقال يحيى ابن آدم: أحمد إمامنا. وقال الشافعي: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أفقه، ولا أزهد، ولا أورع، ولا أعلم من أحمد بن حنبل. وقال عبد الله الخريبي: كان أفضل أهل زمانه. وقال أبو الوليد: ما بالمصْرَيْنِ أحب إلى من أحمد، ولا أرفع قدرًا في نفسي منه. وقال العباس العنبري: حجة. وقال ابن المديني. ليس في أصحابنا أحفظ منه. وقال قتيبة: أحمد إمام الدنيا. وقال أبو عبيد: ليس أعلم في الإسلام مثله. وقال يحيى بن معين: لو جلسنا مجلسًا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها. وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، نَزِهُ النفسِ، فقيه في الحديث، متبع

ص: 363

الآثار، صاحب سنة وخير. وقال أبو ثور: أحمد شيخنا، وإمامنا. وقال العباس بن الوليد ابن مَزْيَد: قلت لأبي مُسْهِر: هل تعرف أحدًا يحفظ على هذه الأمة أمر دينها؟ قال: لا إلا شاب في ناحية المشرق، يعني أحمد. وقال بشر بن الحارث. أدْخِلَ الكِيَر، فخرج ذهبًا أحمر. وقال حجاج بن الشاعر: ما رأت عيناي روحًا في جسد أفضل من أحمد بن حنبل. وقال أحمد الدورقي: مَنْ سمعتموه يذكر أحمد بسوء، فاتهموه على الإسلام.

وقال أبو زرعة الرازي. كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له. وما يدريك؟ قال: أخذت عليه الأبواب. وقال نوح بن حبيب: رأيت أحمد في مسجد الخيف سنة (98) مستندًا إلى المنارة، فجاءه أصحاب الحديث، فجعل يعلمهم الفقه والحديث، ويفتي الناس. وقال عبد الله: كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة. وقال هلال ابن العلاء: مَنَّ الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم، بالشافعي، تفقه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأحمد، ثبت في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس، وبيحيى بن معين، نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي عبيد، فسر الغريب. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه؟ فقال: إمام، وهو حجة. وقال النسائي: الثقة المأمون أحد الأئمة. وقال ابن ماكولا: كان أعلم الناس بمذاهب الصحابة والتابعين. وقال الخليلي: كان أفقه أقرانه وأورعهم، وأكفهم عن الكلام في المحدثين، إلا في

ص: 364

الاضطرار، وقد كان أمسك عن الرواية من وقت الامتحان، فما كان يروي إلا لابنيه في بيته. وقال ابن حبان في "الثقات": كان حافظًا متقنًا فقيهًا ملازمًا للورع الخفي، مواظبًا على العبادة الدائمة، أغاث الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذاك أنه ثبت في المحنة، وبذل نفسه لله، حتى ضرب بالسياط للقتل، فعصمه الله تعالى عن الكفر، وجعله علمًا يقتدى به، وملجأ يُلْجَأ إليه. وقال سليمان بن حرب لرجل سأله عن مسألة: سل أحمد عنها، مإنه إمام. وقال محمد بن إبراهيم البوشنجي: ما رأيت أجمع في كل شيء من أحمد، ولا أعقل، وهو عندي أفضل، وأفقه من الثوري. وقال ابن سعد: ثقة ثبت صدوق كثير الحديث. وقال أبو الحسن بن الزعفراني: كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه، فوجد كفنه صحيحًا لم يبل، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة.

قال عباس الدُّوري، ومُطّيَّن، والفضل بن زياد، وغيرهم: مات يوم الجمعة لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، سنة (241)، لكن قال

الفضل: في ربيع الآخر، وكذلك قال عبد الله بن أحمد، وقيل: حُزِر من صلى عليه، فكانوا ثمانمائة ألف رجل، وستين ألف امرأة، وقيل: أكثر من ذلك. وقال عبد الله بن أحمد: كان أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز. أخرج له الجماعة

(1)

.

(1)

تهذيب الكمال جـ 1 ص 437 - 470. تهذيب التهذيب جـ 1 ص 773 - 776.

ص: 365

3 -

(إِبراهيم بن خالد) بن عبيد القرشي الصنعاني المؤذن، ثقة، من [9].

روى عن رباح بن زيد الثوري، ومعمر، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، وابن المديني، وأحمد بن صالح، وجماعة. قال ابن معين: ثقة.

وقال أحمد: كان ثقة، وأثنى عليه خيرًا.

وقال أبو حاتم ابن حبان في "الثقات": كان مؤذن مسجد صنعاء سبعين سنة. ووثقه البزار، والدارقطني. أخرج له أبو داود، والنسائي

(1)

.

4 -

(رباح) بن زيد القرشي مولاهم الصنعاني، ثقة فاضل، من [9].

روى عن معمر، وعبد الله بن بجير بن ريسان، وعمر بن حبيب المكي، وغيرهم. وعنه إبراهيم بن خالد، وعبد الرزاق، ومحمد بن عبد الرحيم بن شروس، وزيد بن المبارك الصنعانيون، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم.

قال حرب: رأيت أحمد، وذكر رباحًا، فذكر من فضله. وقال: كان ابن المبارك يثني عليه. وقال الميموني، عن أحمد: كان خيارًا، ما

أرى كان في زمانه خير مثله، قد انقطع عن الناس. وقال أبو حاتم: جليل

(1)

تهذيب التهذيب جـ 1 ص 117 - 118.

ص: 366

ثقة. وقال ابن سعد، من الواقدي: قد رأيته، وكان له فضل وعلم بحديث معمر.

وقال النسائي: ثقة. ووثقه العجلي، والبزار، ومسلم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان شيخًا صالحًا فاضلًا. وقال إبراهيم ابن خالد الصنعاني: مات سنة (187) وهو ابن (81) سنة. أخرج له أبو داود، والنسائي

(1)

.

5 -

(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، من كبار [7]، مات سنة 154، أخرج له

الجماعة، تقدم في 10/ 10.

6 -

(ابن طاوس) هو عبد الله بن طاوس بن كيسان الأبْنَاوي، أبو محمد اليماني، ثقة فاضل عابد، من [6].

روى من أبيه، وعطاء، وعمرو بن شعيب، وعكرمة بن خالد، وغيرهم. وعنه ابناه طاوس، ومحمد، وعمرو بن دينار، وأيوب

السختياني، ومعمر، وغيرهم.

قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال عبد الرزاق، عن معمر: قال لي أيوب: إن كنت راحلًا إلى أحد، فعليك بابن طاوس، فهذه رحلتي إليه، وقال أيضًا عن معمر: ما رأيت ابن فقيه مثل ابن طاوس، فقلت له: ولا هشام بن عروة؟ فقال: حسبك بهشام، ولكن لم أر مثل هذا، وكان أعلم الناس بالعربية، وأحسنهم خلقًا. قال ابن سعد، عن الهيثم

(1)

تهذيب التهذيب جـ 3 ص 233 - 234.

ص: 367

ابن عديّ: مات في خلافة أبي العباس. وقال ابن عيينة: مات سنة (132) وأرخه ابن قانع سنة إحدى. وقال النسائي في "الكنى": ثقة مأمون، وكذا قال الدارقطني في "الجرح والتعديل". وقال العجلي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد أيوب بسنة، وكان من خيار عباد الله فضلًا ونسكًا ودينًا، وتكلم فيه بعض الرافضة.

ذكر أبو جعفر الطوسي في "تهذيب الأحكام" له عن أبي طالب الأنباري عن محمد بن أحمد البريري، عن بشر بن هارون، ثنا الحميدي، ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، قال: جلست إلى ابن عباس بمكة، فقلت: روى أهل العراق، عن طاوس، عنك مرفوعًا:"ما أبقت الفرائض، فلأولى عَصَبَةٍ ذَكَر". فقال: أبْلِغْ أهلَ العراق أني ما قلت هذا، ولا رواه طاوس عني. قال حارثة: فلقيت طاوسًا، فقال: لا والله ما رويت هذا، وإنما الشيطان ألقاه على ألسنتهم، قال: ولا أراه إلا من قبل ولده، وكان على خاتم سليمان بن عبد الملك، وكان كثير الحمل على أهل البيت.

قال الحافظ رحمه الله: قلت: ومن دون الحميدي لا يعرف حاله، فلعل النبلاء من بعضهم، والحديث المذكور في "الصحيحين". انتهى. أخرج له الجماعة

(1)

.

7 -

(عكرمة بن خالد) بن العاص بن هشام المخزومي المكي، ثقة

(1)

راجع تهذيب التهذيب جـ 5 ص 267 - 268.

ص: 368

عابد، من [3]، مات بعد عطاء، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، تقدم في 37/ 940.

8 -

(جعفر بن المطلب بن أبي وداعة) السهمي، أخو كثير، مقبول، من [3].

روى عن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو، وأبيه المطلب. وعنه عكرمة بن خالد، وابن أخيه، سعيد بن كثير بن المطلب. ذكره ابن حبان في "الثقات". انفرد به المصنف

(1)

.

9 -

(المُطَّلِب بن أبي وَدَاعَةَ) الحارث بن صُبَيرة

(2)

بن سُعَيد بن سهم السهمي القرشي، أمه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب. له ولأبيه صحبة، وهما من مسلمة الفتح، وأمه أروى بنت الحارث ابن عبد المطلب.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن حفصة. وعنه أولاده: جعفر، وعبد الرحمن بن المطلب، والسائب ابن يزيد، وعكرمة بن خالد، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، على خلاف فيه. روى له مسلم حديثه عن حفصة في صلاة السبحة قاعدًا.

وقال الواقدي: نزل المدينة، وله لها دار، وبقي دهرًا، ومات بها.

(1)

تهذيب التهذيب جـ 2 ص 108.

(2)

"صبيرة" بمهملة، ثم موحدة. و"ابن سُعَيد" بالتصغير.

ص: 369

أخرج له الجماعة، إلا البخاري

(1)

.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من تساعيات المصنف رحمه الله وهو قريب من أنزل الأسانيد له، وهي العُشَاريات.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وفيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيه من المقلين،

ليس له في الكتب الخمسة إلا ثلاثة أحاديث:

حديث الباب عند المصنف. وحديث حفصة رضي الله عنها أنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبحته قاعدًا"

أخرجه الجماعة، إلا البخاري، وحديث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم

عند أبي داود، والترمذي، والمصنف. وحديث أن العباس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه سمع شيئًا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال:"من أنا"

عند الترمذي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن المطلب بن أبي وَدَاعَةَ) السهمي رضي الله عنه، أنه (قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد، وسجد مَنْ عنده) وفي رواية لأحمد:"وسجد الناس معه"، أي سجد كل من حضره من المسلمين والمشركين، والجن والإنس، ففي رواية البخاري من حديث ابن

(1)

تهذيب الكمال جـ 28 ص 86 - 87. تهذيب التهذيب جـ 10 ص 179 - 180.

ص: 370

عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بـ"النجم"، وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجنّ، والإنس"(فرفعت رأسي) كناية عن عدم سجوده، فقوله (وأبيت أن أسجد) أي امتنعت عن السجود معهم. بيان لمعنى قوله:"فرفعت رأسي".

ثم بين سبب امتناعه عن ذلك بقوله (ولم يكن يومئذ أسلم المطلب) يحتمل أن يكون هذا الكلام للمطلب نفسه، فيكون من باب

الالتفات، ويحتمل أن يكون للراوي عنه. يعني أنه إنما امتنع من السجود لكونه وقتئذ غير مسلم.

زاد في رواية أحمد: "وكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا قرأها إلا سجد". وفي رواية: "قال المطلب: فلا أدع السجود فيها أبدًا".

وفيه بيان مشروعة السجود في "سورة النجم"، وهو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك بعضهم، وسيأتي بيان ذلك في مسائل

الحديث التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث المطلب بن أبي وَدَاعَةَ رضي الله عنه هذا صحيح.

فإِن قلت: فيه جعفر بن المطلب، قال عنه في "التقريب". مقبول،

ص: 371

فيكف يصح؟

أجيب: بأنه تابعي روى عن عمرو بن العاص، وعبد الله ابن عمرو، وأبيه المطلب، وروى عنه عكرمة بن خالد، وابن أخيه سعيد

بن كثير، ووثقه ابن حبان، فأقل أحواله أن يكون حسن الحديث، ثم إن حديثه هذا يشهد له حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي بعده، فيكون حديثًا صحيحًا. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: هذا الحديث من أفراد المصنف رحمه الله، فإنه ما أخرجه من أصحاب الأصول، غيره، أخرجه هنا -49/ 958 - وفي "الكبرى" -49/ 1030 - بالسند المذكور.

وأخرجه أحمد جـ 3 ص 420 وجـ 4 ص 215 وجـ 6 ص 399 و 400. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

959 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ النَّجْمَ، فَسَجَدَ فِيهَا.

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(إِسماعيل بن مسعود) الْجَحْدَريّ، أبو مسعود البصري، ثقة، من [10]، مات سنة 248، أخرج له النسائي، تقدم في 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث بن عُبَيْد الهُجَيمي، أبو عثمان البصري، ثقة

ص: 372

ثبت، من [8]، مات سنة 186، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت، من [7]، مات سنة 160، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 26.

4 -

(أبو إِسحاق) السبيعي، عَمْرُو بن عبد الله الهمداني الكوفي، ثقة عابد يدلس، واختلط بآخره، من [3]، مات سنة 117، أخرج له الجماعة، تقدم في 38/ 42.

5 -

(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفي، مخضرم ثقة مكثر فقيه، من [2]، مات سنة 74 أو 75، أخرج له الجماعة، تقدم في 29/ 33.

6 -

(عبد الله) بن مسعود الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم في 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فمن أفراده، وأن الثلاثة الأولين

بصريون، والباقون كوفيون، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه عبد الله، وهو إذا أطلق في الصحابة عند الكوفيين ابن مسعود رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

ص: 373

شرح الحديث

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {وَالنَّجْمِ} أي السورة بكاملها (فسجد فيها) أي عند فراغه من قراءتها.

زاد في رواية الشيخين: "وسجد من كان معه، غير أن شيخًا أخذ كَفًا من حصى، أو تراب، فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله: لقد رأيته بعدُ قتل كافرًا".

وفي البخاري في "التفسير": من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق: قال. أول سورة أنزلت فيها سجدة {وَالنَّجْمِ} ، قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلًا رأيته أخذ كفًا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا، وهو أمَيَّةُ بنُ خَلَف.

ووقع في رواية زكريا، من أبي إسحاق في أول هذا الحديث: أن أول سورة استعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ على الناس:{وَالنَّجْمِ} . وفي رواية زهير بن معاوية: أول سورة قرأها على الناس.

قال الجامع عفا الله عنه: لا تنافي بين حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا، المفيد تعميم سجود كل من حضر، إلا أمية بن خلف،

وبين حديث المطلب الماضي المفيد أنه لم يسجد أيضًا، لأنه يحمل تعميم ابن مسعود على أنه بالنسبة إلى من اطلع هو عليه. أفاده في الفتح

(1)

.

(1)

فتح الباري في كتاب التفسير جـ 9 ص 5987 طبعة دار الفكر.

ص: 374

والحاصل أن الذين عُلِمَ عدم سجودهم من الكفار رجلان: أمية بن خلف، والمطلب بن أبي وداعة.

ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده جـ 3 ص 304 - عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم، فسجد، وسجد معه الناس، إلا رجلين، أرادا الشهرة". قال أبو بكر الهيثمي رحمه الله في "مجمع الزوائد" جـ 2 ص 285: وقد رواه الطبراني في "الكبير"، ورجاله ثقات. انتهى والله تعالى أعلم.

تنبيه:

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وكان سبب سجودهم أنها أول سجدة نزلت. قال رحمه الله: وأما ما يرويه الأخباريون والمفسرون أن سبب ذلك ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم فباطل، لا يصح فيه شيء، لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل، لأن مدح إله غير الله تعالى كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أَن يقوله الشيطان على لسانه، ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك. والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

. وسيأتي مزيد بسط لهذا في المسألة السادسة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

جزم الواقدي بأن هذه القصة كانت في رمضان سنة خمس -يعني من

(1)

فتح الباري في كتاب التفسير جـ 9 ص 5987 طبعة دار الفكر.

ص: 375

البعثة-، وكانت المهاجرة الأولى إلى الحبشة خرجت في شهر رجب، فلما بلغهم ذلك رجعوا، فوجدوهم على حالهم من الكفر، فهاجروا الثانية. قاله في "الفتح". والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -49/ 959 - وفي "الكبرى" -49/ 1031 - بالسند المذكور. وأعاده في "التفسير" منه -11549 - بنفس السند مختصرًا بلفظ "قرأ النجم، فسجد فيها". والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "سجود القرآن" عن حفص بن عمر الحوضي؛ وعن بندار، عن غندر؛ وفي "مبعث النبي صلى الله عليه وسلم" عن سليمان بن حرب؛ وفي "المغازي" عن عبدان، عن أبيه، أربعتهم عن شعبة. وفي "التفسير" عن نصر بن علي، عن أبي أحمد الزبيري، عن إسرائيل- كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأسود، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

ومسلم في "الصلاة" عن محمد بن المثنى، وبندار، كلاهما عن غندر به. وأبو داود فيه عن الحوضي به.

ص: 376

وأحمد 1/ 388 و 401 و 437 و 443 و 462، والدارمي رقم 1473. وابن خزيمة برقم 553. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في بيان اختلاف العلماء في السجود في "سورة النجم":

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: وقد اختلف أهل العلم في السجود في "النجم"، فكان عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان،

وعبد الله بن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم يسجدون في "النجم"، وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن عزائم السجود، فذكر "النجم".

وممن رأى السجود في "النجم" سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

وذهب طائفة إلى أنه ليس في "المفصل" سجود، وممن روي عنه أنه قال ذلك: ابن عباس، وأبي بن كعب، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وطاوس، ومالك، رحمهم الله تعالى.

قال ابن المنذر رحمه الله: ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد في المفصل في غير سورة منه، وبذلك نقول. انتهى كلام

ص: 377

ابن المنذر رحمه الله باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى هو الحق عندي لما ذكره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: أخرج البخاري في "صحيحه" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم، وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجنّ، والإنس.

قال الكرماني رحمه الله: سجد المشركون مع المسلمين، لأنها أول سجدة نزلت، فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم.

قال: وما قيل: من أن ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحة له عقلًا، ولا نقلًا. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: والاحتمالات الثلاثة فيها نظر، والأول منها لعياض، والثاني يخالفه سياق ابن مسعود، حيث زاد فيه أن الذي استثناه منهم أخذ كفًا من حصىً، فوضع جبهته عليه، فإن ذلك ظاهر في القصد، والثالث أبعد، إذ المسلمون حينئذ هم الذين كانوا خائفين من المشركين، لا العكس. انتهى

(2)

.

(1)

الأوسط جـ 5 ص 256 - 263.

(2)

فتح جـ 9 ص 597 - 598.

ص: 378

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الوجه الأول الذي عزاه إلى القاضي عياض رحمه الله تعالى، وهو أن ذلك السجود من الكفار لمعارضة المسلمين، حيث إنهم سجدوا لله تعالى، فأراد المشركون مخالفتهم في سجودهم لله، فسجدوا يقصد آلهتهم هو الصواب، لأنه الموافق لما هم عليه من العناد، والتكبر عن الحق، وانتصارهم لآلهتهم.

وأما ما اشتهر من أن سبب هذا السجود هو قصة الغرانيق فإنه باطل، وسيأتي بيانه في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

المسألة السادسة: أنه اشتهر أن سبب سجود المشركين في "سورة النجم" هو ما ذكره جماعة من المفسرين في سبب نزول قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية. [الحج: 52]: أنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم، فكان ذات يوم جالسًا في نَادٍ من أنديتهم، وقد نزل عليه سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20]، وكان ذلك التمني في نفسه، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد

ص: 379

معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين، فتفرقت قريش مسرورين بذلك، وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه جبريل، فقال: ما صنعت؟ تَلَوْتَ على الناس ما لم آتك به من الله؟ فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاف خوفًا شديدًا، فأنزل الله هذه الآية

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سبحان الله ما أبشع هذه القصة، وسيأتي إبطال المحققين لها.

وأخرج ابن أبي حاتم، والطبري، وابن المنذر من طرق عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال:"قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1]، فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد، وسجدوا، فنزلت الآية"

(2)

.

وأخرجه البزار، وابن مردويه من طريق أمية بن خالد، عن شعبة، فقال في إسناده: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فيما أحسب، ثم ساق الحديث. قال البزار: لا يروى متصلًا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور، قال: وإنما يروى هذا من طريق

ص: 380

الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. انتهى. والكلبي متروك، ولا يعتمد عليه، وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي، وذكره ابن إسحاق في "السيرة" مطولًا، وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك موسى بن عقبة في "المغازي" عن ابن شهاب، وكذا ذكره أبو معشر في السيرة له عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، وأورده من طريقه الطبري، وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السدي، ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب، عن يحيى بن أبي كثير، عن الكلبي، عن أبي صالح، وعن أبي بكر الهذلي، وأيوب، عن عكرمة، وسليمان التيمي، عمن حدثه ثلاثتهم، عن ابن عباس، وأوردها الطبري أيضا من طريق العوفي، عن ابن عباس، ومعناهم كلهم في ذلك واحد.

قال الحافظ: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف، وإما منقطع.

قال الجامع: ولقد أنصف الحافظ في هذا، ولكنه حاول بعد ذلك في جبر خلل هذه الأسانيد بكثرة طرقها، فما أنصف.

فإنه قال: ولكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلًا، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين، رجالهما على شرط الصحيحين: أحدهما: ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فذكر نحوه. والثاني: ما أخرجه أيضًا من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية.

ص: 381

قال: وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته، فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها.

وهو بإطلاقه مردود عليه. وكذا قول عياض: هذا الحديث لم يخرجه أحدا من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده. وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية.

قال: وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مع الشك الذي وقع في وصله، وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه. ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم، قال: ولم ينقل ذلك. انتهى.

ثم رد على ما قال ابن العربي، وعياض بما لا طائل تحته، فلذا أعرضت عن ذكره.

والصواب أن ما قالاه هو الحق الذي لا محيد عنه، فإن ضعف هذه الأحاديث مما لا يخالف فيه الحافظ، ولكنه يرى لها قوة بكثرة طرقها، وتباين مخارجها، لكن ثبوت مثل هذا الأمر الخطير والنبإ الجسيم الذي فيه مَدخَلٌ لأهل الزيغ والإلحاد في الطعن في الوحي وفي تبليغه بمثل هذه الإخبار الضعاف بعيد عن الحق كل البعد لمن تأمل بإنصاف، ونصوص كتاب الله تعالى صريحة في بطلان مثل هذا، كما سيأتي قريبًا.

ص: 382

قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في "تفسيره" بعد أن أورد ما تقدم مما قاله جماعة المفسرين من حديث قصة الغرانيق: ما نصه: ولم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته، بل بطلانه، فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، قال الله تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [القلم: 44 - 46]، وقوله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وقوله {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} [الإسراء: 84]، فنفى المقاربة للركون فضلًا عن الركون.

قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل.

وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال إمام الإئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض في "الشفا": إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدًا، ولا عمدًا، ولا سهوًا، ولا غلطًا.

وقال ابن كثير، قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنًا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى

(1)

.

(1)

فتح القدير جـ 3 ص 461 - 462.

ص: 383

والحاصل أن هذه القصة لا تثبت نقلًا، وإن حاول من حاول في إثباتها، ولا تقبل عقلًا، ولا يجوز الاستناد إليها، ولا الاعتماد عليها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 384

‌50 - تَرْكُ السُجُودِ فِي "النَّجْمِ"

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على جواز ترك السجود لمن قرأ "سورة النجم".

960 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ الإِمَامِ؟ فَقَالَ: لَا قِرَاءَةَ مَعَ الإِمَامِ فِي شَيءٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]، فَلَمْ يَسْجُدْ.

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(علي بن حجر) المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9]، مات سنة 244. أخرج له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. تقدم في 13/ 13.

2 -

(إِسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير الأنصاري الزرقي، أبو إسحاق القارئ المدني، ثقة ثبت، من [8]، مات سنة 180، أخرج له

الجماعة. تقدم في 16/ 17.

ص: 385

3 -

(يزيد بن خُصَيَفَة

(1)

) هو ابن عبد الله بن خُصَيفة بن عبد الله ابن يزيد الكندي المدني، نسب لجده، ثقة، من [5].

روى عن أبيه، والسائب بن يزيد، ويزيد بن عبد الله بن قسيط، وغيرهم. وعنه الجعيد بن محمد الرحمن، ومالك، وإسماعيل بن جعفر، وغيرهم.

قال الأثرم، عن أحمد، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: قال أحمد: منكر الحديث. وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة حجة، وقال ابن سعد: كان عابدًا ناسكًا كثير الحديث ثبتًا، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن عبد البرّ: إنه ابن أخي السائب بن يزيد، وكان ثقة مأمونًا. أخرج له الجماعة

(2)

.

4 -

(يزيد بن عبد الله بن قُسَيط

(3)

) بن أسامة بن عُمَير الليثي، أبو عبد الله المدني الأعرج، ثقة، من [4].

روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وابن المسيب، وخارجة بن زيد، وعطاء بن يسار، وغيرهم.

وعنه ابناه عبد الله، والقاسم، ويزيد بن خصيفة، ومالك، وعمرو ابن الحارث، والليث بن سعد، وغيرهم.

قال ابن معين: ليس به بأس. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان

(1)

"خُصَيفَة" بالخاء المعجمة، والصاد المهملة، مصغرًا. قاله في الفتح جـ 3 ص 260.

(2)

"تت" جـ 11 ص 340.

(3)

"قُسَيط" بقاف، ومهملتين مصغرًا.

ص: 386

في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ.

وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: قال عبد الرزاق: قلت لِمَالِكٍ: مَالَكَ لا تُحَدِّثُني بحديث ابن المسيب عن عمر، وعثمان في "المعاطاة"؟، قال العمل عندنا على خلافه، والرجل ليس هناك -يعني يزيد بن عبد الله بن قُسَيط-. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، لأن مالكًا لم يرضه، وتعقب ابن عبد البرّ في "الاستذكار" كلام أبي حاتم بأن قول عبد الرزاق أن مراد مالك بقوله: والرجل ليس هناك -يعني به يزيد بن قسيط- غلط من عبد الرزاق، لظنه أن مالكًا سمعه منه، وإنما سمعه مالك عنه بواسطة رجل لم يسمه، كما رواه الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك، عمن حدثه عن يزيد بن عبد الله ابن قسيط، قال: فإنما أراد مالك الرجل الذي كتم اسمه.

قال الحافظ: لكن ليس في رواية عبد الرزاق عن الثوري، عن مالك أن بينه وبين ابن قسيط آخر، وهذا يستلزم أن يكون مالك إنما دلس. قال ابن عبد البرّ: ويزيد قد احتجّ به مالك في مواضع من "الموطأ"، وهو ثقة من الثقات.

وقال ابن عدي: مشهور عندهم، وهو صالح الروايات. وقال إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط،

وكان فقيهًا، ثقة، وكان ممن يستعان به في الأعمال، لأمانته وفقهه.

ص: 387

قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة 122 وكان ثقة كثير الحديث. وذكر ابن حسان الزيادي: أنه بلغ تسعين سنة. أخرج له الجماعة

(1)

.

5 -

(عطاء بن يسار) الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة، ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3]، مات سنة 94

وقيل. بعد ذلك، أخرج له الجماعة. تقدم في 64/ 80.

6 -

(زيد بن ثابت) بن الضَّحَّاك بن لوذان الأنصاري النَّجَّاريّ، أبو سعيد، وأبو خارجة، صحابي مشهور، كاتب الوحي، من الراسخين في العلم، مات سنة 5 أو 48، وقيل: بعد سنة 50، أخرج له الجماعة، تقدم في 122/ 179. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له أبو

داود، ولا ابن ماجَهْ. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فإنه مروزي. ومنها: أن فيه رواية ثلاثة من التابِعِينَ: يزيد، عن يزيد، عن عطاء. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عطاء بن يسار) الهلالي مولاهم (أنه أخبره) أي أن عطاءً

(1)

تهذيب التهذيب جـ 11 ص 342 - 343.

ص: 388

أخبر يزيدَ بنَ عبد الله (أني سأل زيد بن ثابت) رضي الله عنه (عن القراءة مع الإمام؟) أي عن حكم قراءة المأموم خلف إمامه (قال)

زيد: (لا قراءة مع الإمام في شيء) من الصلوات، هذا مذهب زيد رضي الله عنه، وطائفة، وهو أن المأموم لا يقرأ خلف إمامه؛ لا الفاتحة، ولا غيرها، وقد خالفه في ذلك كبار الصحابة، فأوجبوا قراءة الفاتحة، تبعًا للنصوص الصحيحة الصريحة التي توجب قراءتها وراء الإمام، فإنها مقدمة على آراء هؤلاء التي لا تَعتَمِدُ على نص صحيح مرفوع، فتفطن.

قال النووي رحمه الله تعالى: أما قوله: "لا قراءة مع الإمام في شيء"، فيستدل به أبو حنيفة رضي الله عنه وغيره ممن يقول: لا قراءة على المأموم في الصلاة، سواء كانت سريَّهً، أو جهرية، ومذهبنا أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم في الصلاة السرية، وكذا في الجهرية على أصح القولين، والجواب عن قول زيد هذا من وجهين:

أحدهما: أنه قد ثبت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بأم القرآن"، وغير ذلك من الأحاديث، وهي مقدمة على قول زيد وغيره.

والثاني: أن قول زيد محمول علي قراءة السورة التي بعد الفاتحة في الصلاة الجهرية، فإن المأموم لا يشرع له قراءتها، وهذا التأويل متعين، ليحمل قوله على موافقة الأحاديث الصحيحة، ويؤيد هذا أنه يستحب

ص: 389

عندنا، وعند جماعة للإمام أن يسكت في الجهرية بعد الفاتحة قدر ما يقرأ المأموم الفاتحة، وجاء فيه حديث حسن في سنن أبي داود وغيره، فيقرأ المأموم الفاتحة في تلك السكتة، فلا يحصل قراءته مع قراءة الإمام، بل في سكتته. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد قدمنا البحث في هذه المسألة مُستوفىً في باب القراءة بما فيه الكفاية، فإن أردت الاستفادة، فارجع إليه. وبالله تعالى التوفيق.

(وزعم) من باب قتل، وفي الزعم ثلاث لغات: فتح الزاي للحجاز، وضمها لأسد، وكسرها لبعض قيس. قاله في "المصباح"

(2)

.

قال النووي رحمه الله: المراد بالزعم هنا القول المحقق، والزعم يطلق على القول المحقق، والكذب، وعلى المشكوك فيه، ويُنَزَّلُ في كل موضع على ما يليق به. انتهى كلام النووي بتغيير يسير

(3)

.

وقال ابن منظور رحمه الله ما حاصله: الزعم مثلث: الأول: القول، وقيل: هو القول يكون حقًا، ويكون باطلًا، وقيل: الزعم

الظن، وقيل: الكذب. وقال ابن بَرِّيّ: الزعم يأتي في كلام العرب على أربعة أوجه:

1 -

يكون بمعنى الكفالة والضمان، كقول عمر بن أبي ربيعة:[من الرمل]:

(1)

شرح مسلم جـ 5 ص 75 - 76.

(2)

جـ 1 ص 253.

(3)

شرح مسلم جـ 5 ص 76.

ص: 390

قلْتُ: كَفِّي لَك رَفنٌ بالرِّضَا

وَازعُمي يا هِنْدُ قالَتْ: قَدْ وَجَبْ

2 -

ويكون بمعنى الوعد، كقول عَمْرو بن شَأس:[من الطويل]:

تقُولُ: هَلكْنا إِنْ هَلَكْتَ وإِنَّمَا

عَلَى اللهِ أرْزَاقُ الْعِبَاد كَمَا زَعَمْ

3 -

ويكون بمعنى القول والذكر، كقول أبي زُبَيدٍ الطائيّ:[من البسيط]:

يَا لَهْف نَفسِيَ إِنْ كَانَ الَّذِي زَعَمُوا

حَقًّا وَمَاذَا يَرُدّ الْقوْمَ تَلْهيفِي

4 -

ويكون بمعنى الظن، كقول عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة بن مسعود:[من الطويل]:

فَذقْ هجْرَهَا قدْ كنْتَ تَزْعُمُ أنَّهُ

رَشَادٌ ألَايَا رُبمَا كَذَبَ الزَّعْمُ

قال: فهذا البيت لا يحتمل سوى الظن، وبيت عمر بن أبي ربيعة لا يحتمل سوى الضمان، وبيت أبي زُبَيد لا يحتمل سوى القول، وما سوى ذلك على ما فُسِّرَ. انتهى كلام ابن منظور باختصار

(1)

.

(أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح همزة "أن" لوقوعها موقع المصدر، لأنها مفعول "زعم"، كما قال في "الخلاصة".

وَهَمْزَ إِنَّ افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدر

مَسَدَّهَا وَفي سِوَى ذَاكَ اكْسرِ

{وَالنَّجْمِ} [النجم:1] مفعول "قرأ" محكي، أي قرأت سورة النجم (فلم يسجد) أي لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم تلك السجدة.

واستنبط بعضهم من هذا الحديث أن القارئ إذا تلا على الشيخ لا

(1)

لسان العرب جـ 3 ص 1834 - 1835.

ص: 391

يندب له سجود التلاوة ما لم يسجد الشيخ، أدبًا مع الشيخ. قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -50/ 960 - وفي "الكبرى" -50/ 1032 - بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في الصلاة عن آدم بن أبي إياس، عن ابن أبي ذئب - وعن أبي الربيع الزهراني، من إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خُصَيفَة - كلاهما عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط عن عطاء بن يسار، عنه.

ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، ويحيى بن أيوب، وقتيبة، وعلي ابن حُجْر، أربعتهم عن إسماعيل بن جعفر به.

وأبو داود فيه عن هناد بن السري، عن وكيع، من ابن أبي ذئب به. وعن أبي الطاهر بن السَّرْح، عن ابن وهب، عن أبي صَخْر، عن خارجة ابن زيد، عن أبيه.

والترمذي فيه عن يحيى بن موسى، عن وكيع به، وقال: حسن صحيح.

ص: 392

وأخرجه أحمد 5/ 183 و 186، وعبد بن حميد برقم 251، والدارمي برقم 1480، وابن خزيمة برقم 568. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

قال الحافظ رحمه الله تعالى: اتفق ابن أبي ذئب، ويزيد بن خصيفة في هذا الإسناد على ابن قسيط، وخالفهما أبو صخر، فرواه عن ابن قسيط، عن خارجة بن زيد، عن أبيه. أخرجه أبو داود، والطبراني، فإن كان محفوظًا حمل على أنَّ لابنِ قُسَيط فيه شيخين.

وزاد أبو صخر في روايته: "وصليت خلف عمر بن عبد العزيز، وأبي بكر بن حزم، فلم يسجدا فيها". انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة:

قال النووي رحمه الله تعالى: احتج بهذا الحديث مالك رحمه الله، ومن وافقه، في أنه لا سجود في المفصل، وأن سجدة "النجم"، و"إذا السماء انشقت"، و"اقرأ باسم ربك" منسوخات بهذا الحديث، وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما:"أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى الدينة". وهذا مذهب ضعيف، فقد ثبت حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في "إذا السماء انشقت"، و"اقرأ باسم ربك". رواه مسلم

(2)

، وقد أجمع العلماء على

(1)

فتح جـ 3 ص 261.

(2)

ويأتي للمصنف برقم 963 و 967.

ص: 393

أن إسلام أبي هريرة رضي الله عنه كان سنه سبع من الهجرة، فدلّ على السجود في المفصل بعد الهجرة، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فضعيف الإسناد، لا يصح الاحتجاج له، وأما حديث زيد رضي الله عنه فمحمول على بيان جواز ترك السجود، وأنه سنة ليس بواجب، ويُحتَاج إلى هذا التأويل، للجمع بينه وبين حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والله أعلم- انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله عند قول الإمام البخاري رحمه الله تعالى [باب من قرأ السجدة، ولم يسجد]:

ما حاصله: يشير بذلك إلى الردّ على من احتج بحديث الباب على أن المفصل لا سجود فيه كالمالكية، أو أن "النجم" بخصوصها لا سجود فيها، كأبي ثور، لأن ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدلّ على تركه مطلقًا، لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك، إما لكونه كان بلا وضوء، أو لكون الوقت كان وقت كراهة، أو لكون القارئ لم يسجد، أو ترك حينئذ لبيان الجواز، وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعي، لأنه لو كان واجبًا لأمره بالسجود، ولو بعد ذلك.

وأما ما رواه أبو داود في غيره من طريق مَطَرٍ الوَلاق، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من "المفصل" منذ تحول إلى المدينة"، فقد ضعفه أهل العلم بالحديث،

(1)

شرح مسلم جـ 5 ص 76 - 77.

ص: 394

لضعف في بعض رواته، واختلاف في إسناده، وعلى تقدير ثبوته فرواية من أثبت ذلك أرجح؛ إذ المثبت مقدم على النافي، فسيأتي في الباب الذي يليه ثبوت السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1].

وروى البزار، والدارقطني، من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في سورة النجم، وسجدنا معه". والحديث رجاله ثقات.

وروى ابن مردويه في "التفسير" بإسناد حسن عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه رأى أبا هريرة رضي الله عنه سجد في خاتمة "النجم"، فسأله، فقال: إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها، وأبو هريرة إنما أسلم بالمدينة.

وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن الأسود بن يزيد، عن عمر رضي الله عنه أنه سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]. ومن طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سجد فيها.

وفي هذا ردّ على من زعم أن عمل أهل المدينة استمرّ على ترك السجود في "المفصل". ويحتمل أن يكون المنفي المواظبة على ذلك؛ لأن "المفصل" تكثر قراءته في الصلاة، فترك السجود فيه كثيرًا، لئلا تختلط الصلاة على من لم يفقه، أشار إلى هذه العلة مالك في قوله بترك السجود في "المفصل" أصلًا.

ص: 395

وقال ابن القصار: الأمر بالسجود في {وَالنَّجْمِ} ينصرف إلى الصلاة. وردّ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم قبلُ.

وزعم بعضهم أن عمل أهل المدينة استمرّ بعد النبي صلى الله عليه وسلم على ترك السجود فيها.

وفيه نظر، لما رواه الطبري بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ "النجم" في الصلاة، فسجد فيها، ثم قام، فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1]. ومن طريق إسحاق بن سويد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سجد في "النجم". انتهى حاصل كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تحصل من الأدلة الصحيحة أن المذهب الصحيح هو مذهب الجمهور، وهو مشروعية السجود في "المفصل". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

راجع الفتح جـ 3 ص 260.

ص: 396

‌51 - باب السجود فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعيه السجود في قراءة سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1].

961 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ بِهِمْ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1]، فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِيهَا.

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الثبت المدني، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(عبد الله بن يزيد) المخزومي المدني المقرئ الأعور، أبو عبد الرحمن، مولى الأسود بن سفيان، ويقال: مولى الأسود بن عبد

الأسد، ثقة من [6].

روى عن زيد بن أبي عياش، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان،

ص: 397

وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير. وعنه يحيى بن أبي كثير، ومالك، وإسماعيل بن أمية، وصفوان بن سليم، وأسامة بن ليث الرَّبَذِيُّ، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه؟ فقال: ثقة. فقيل له: حجة؟ قال: إذا روى عنه مالك، ويحيى بن أبي كثير، وأسامة، فهو حجة. وقال العجلي: مدني ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن الأثير في تاريخه: مات سنة 148. أخرج له الجماعة

(1)

.

4 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري، المدني، ثقة مكثر فقيه، من [3]، مات سنة 94، أخرج له الجماعة. تقدم في 1/ 1.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، ومنها: أنه مسلسل

بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني، ومنها: أن فيه أبا سلمة بن عبد الرحمن مشهور بكنيته، لا اسم له غيرها، على الصحيح، وقيل: اسمه

(1)

تهذيب التهذيب جـ 6 ص 82.

ص: 398

عبد الله، وقيل: إسماعيل، وهو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة) رضي الله عنه (قرأ بهم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]) يعني أنه صلى بهم صلاة قرأ فيها بهذه السورة (فسجد فيها، فلما انصرف) أي سلم من الصلاة (أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها)، وفي رواية البخاري من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال:"رأيت أبا هريرة رضي الله عنه قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، فسجد بها، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أرك تسجد؟ قال: لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يسجد لم أسجد".

وفي رواية من طريق بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع، قال:"صليت خلف أبي هريرة رضي الله عنه العَتَمَةَ، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه".

وقول أبي سلمة "لم أرك تسجد"، قيل: هو استفهام إنكار من أبي سلمة يشعر بأن العمل استمر على خلاف ذلك؛ ولذلك أنكره أبو رافع.

قال الحافظ: وفيه نظر، وعلى التنزل، فيمكن أن يتمسك به من لا

ص: 399

يرى السجود في الصلاة، أما تركها مطلقًا، فلا. ويدل على بطلان المدَّعَى أن أبا سلمة، وأبا رافع لم ينازعا أبا هريرة بعد أن أعلمهما بالسنة في هذه المسأله، ولا احتجا عليه بالعمل على خلاف ذلك.

قال ابن عبد البرّ: وأيُّ عَمَلٍ يُدَّعَى مع مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين بعده؟. انتهى

(1)

.

وفي هذا الحديث مشروعية السجود في "المفصل"، وهو الحق، وقد تقدم في الباب الماضي تحقيق ذلك، فارجع إليه. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -51/ 961، 962، 963، 964، 965، -52/ 966 - ، 967، 53 - / 968.

وفي "الكبرى"-51/ 1033، 1034، 1035، 1036، 1037، -52/ 1038، 1039،-53/ 1040. والله تعالى أعلم.

(1)

فتح جـ 3 ص 261.

ص: 400

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أما حديث -961 - من طريق عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة، عنه فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن عبد الله بن يزيد به. وأما حديث 962 - من طريق عمر بن عبد العزيز فمن أفراده. وأما حديث 963 - من رواية أبي بكر بن الحارث بن عبد الرحمن بن هشام عنه، فأخرجه الترمذي في "الصلاة" عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن المذكور عنه. وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن عيينة به.

قال محمد بن يحيى الذهلي: لا أعلم ووى هذا الحديث عن يحيى ابن سعيد غير ابن عيينة، وهو عندي وَهَم، إنما ووى الناس عن يحيى في هذا الإسناد حديث الإفلاس

(1)

. انتهى "تحفة الأشراف" جـ 10 ص 430.

وأما حديث -964 - فهو مثله. وأما حديث -965 - و -966 - فهو من أفراده.

وأما حديث -967 - من رواية عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة، فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة -وعمرو الناقد-

(1)

وهو حديث: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به من غيره". متفق عليه.

ص: 401

كلاهما عن ابن عيينة، من أيوب بن موسى، عن عطاء، عنه. وأبو داود فيه عن مسدد، عن ابن عيينة به والترمذي فيه عن قتيبة، عن ابن عيينة به. وابن ماجه فيه من أبي بكر بن أبي شيبة به. رواه علي بن محمد ابن أبي الخصيب، عن وكيع، فقال. عن عطاء بن يسار. وروي عن محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه

(1)

.

وأما حديث -968 - من طريق بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فأخرجه البخاري في "سجود

القرآن" عن مسدد - وفي "الصلاة" عن أبي النعمان- كلاهما عن معتمر بن سليمان، عن أبيه سليمان التيمي، عن بكر به. وعن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي به. ومسلم في "الصلاة" عن عبيد الله ابن معاذ، ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن معتمر به. وعن أبي كامل الجحدري، من يزيد بن زريع به.

وعن عمرو الناقد، عن عيسى بن يونس - وعن أحمد بن عبدة، عن سليم بن الأخضر- كلاهما عن سليمان التيمي به. وأبو داود فيه عن مسدد، عن معتمر له. والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

962 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ،

(1)

راجع تحفة الأشراف جـ 10 ص 269.

ص: 402

قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ قَيْسٍ -وَهُوَ مُحَمَّدٌ- عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1].

رجال هذا الإسناد: ثمانية

1 -

(محمد بن رافع) القشيري النيسابوري، ثقة عابد، من [11]، مات سنة 245، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي

والنسائي. تقدم في 92/ 114.

2 -

(ابن أبي فديك) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُدَيك -بالفاء مصغرًا- واسمه دينار، الدِّيِليُّ مولاهم، أبو إسماعيل المدني، ثقة من صغار [8].

روى عن أبيه، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهشام بن سعد، وابن أبي ذئب، وغيرهم. وعنه الشافعي، وأحمد، والحميدي، وقتيبة،

وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس.

وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس بحجة. قال البخاري: مات سنة 200. وقال ابن سعد:

سنة 99، وقال مرة: سنة 201. أخرح له الجماعة

(2)

.

(1)

في نسخة: "أخبرنا".

(2)

تهذيب التهذيب جـ 9 ص 61.

ص: 403

3 -

(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث ابن أبي ذئب القرشي، أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل، من [7]، مات سنة 158 وقيل: 159، أخرج له الجماعة. تقدم في 41/ 685.

4 -

(عبد العزيز بن عياش) -بتحتانية، ومعجمة، وقيل: بموحدة، ومهملة- الحجازي المدني، مقبول من [6].

روى من محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس القاصّ، وعمر بن عبد العزيز. وعنه ابن أبي ذئب. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وكذا ذكره ابن شاهين في "الثقات"، وقال: قال أحمد: صالح. وروى له المصنف حديث الباب فقط

(1)

.

5 -

(محمد بن قيس) المدني قاصّ عمر بن عبد العزيز، أبو إبراهيم، ويقال: أبو أيوب، ويقال: أبو عثمان، مولى يعقوب القبطي،

ويقال: مولى آل أبي سفيان، ثقة من [6].

روى عن أبي هريرة، وجابر، مرسلًا، وأبي صِرْمة الأنصاري، وعن أبيه، وأمه، وعبد الله بن أبي قتادة، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم. وعنه إسماعيل بن أمية، وابن إسحاق وابن أبي ذئب، وغيرهم.

قال ابن سعد. كان كثير الحديث، عالمًا. وقال يعقوب بن سفيان، وأبو داود: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال خليفة: توفي أيام

(1)

راجع تهذيب التهذيب جـ 6 - 351 - 352.

ص: 404

الوليد بن يزيد. له عند مسلم حديث أبي صِرْمَةَ، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"لو لم تذنبوا"

الحديث، فقط. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: محمدُ بن قيس، عن أبي هريرة، وعنه أبو معشر، قال ابن معين: ليس بشيء، لا يُروىَ عنه. انتهى

(1)

. أخرجه مسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن معين رحمه الله: "ليس بشيء" هذه العبارة يطلقها ابن معين أحيانًا على من كان قليل الرواية، فقد ذكر الحافظ رحمه الله في "مقدمة فتح الباري" في ترجمة عبد العزيز بن المختار البصري: وثقه ابن معين في رواية، وقال في رواية: إنه ليس بشيء، قال الحافظ: احتج به الجماعة، وذكر ابن القطان الفاسي أن مراد ابن معين بقوله في بعض الروايات:"ليس بشيء"، يعني أن أحاديثه قليلة جدًا

(2)

.

والظاهر أنه أراد هنا هذا المعنى، ويؤيده قوله بعده: لا يُرْوىَ عنه. فتأمل. والله تعالى أعلم.

6 -

(عمر بن عبد العزيز) بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي مولاهم، أمير المؤمنين، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ولي إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولي الخلافة بعده، فَعُدَّ مع الخلفاء الراشدين، من [4] مات في رجب سنة

(1)

راجع تهذيب التهذيب جـ 9 ص 414.

(2)

"هدي الساري" ص 591 طبعة دار الفكر.

ص: 405

101 وله 40 سنة، ومدة خلافته سنتان ونصف، أخرج له الجماعة، تقدم في 122/ 171.

7 -

(أبو سلمة).

8 -

(أبو هريرة) رضي الله عنهما.

تقدما في السند السابق.

وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به. وبالله تعالى التوفيق.

تنبيه:

قال الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله تعالى في "تحفته": حديث: "سجد النبي صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]. أخرجه النسائي في الصلاة عن محمد بن رافع، عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن عبد العزيز بن عياش، عن محمد بن قيس، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه. تابعه أبو علي الحنفي، عن ابن أبي ذئب، عن عبد العزيز بن عياش، عن محمد بن قيس عنه به.

ورواه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه -وهو الحديث الآتي بعد هذا 963 - قال: وهو المحفوظ.

ورواه قُرَاد أبو نوح، عن ابن أبي ذئب، فلم يذكر "محمد بن قيس". وكذلك رواه الحجاج، عن محمد، عن ابن أبي ذئب، إلا أنه

ص: 406

قال: "عبد العزيز بن عياض" بدل "ابن عياش"، ولم يتابع على ذلك. ورواه نجيح أبو معشر المدني، عن محمد بن قيس، عن عمر بن عبد العزيز. ورواه عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سععد، عن أبيه، عن جده، عن جعفر بن ربيعة، عن حرب بن قيس، عن محمد بن قيس، عن عمر بن عبد العزيز. ورواه الربيع بن سليمان المرادي، عن شعيب بن الليث بن سعد بهذا الإسناد، ولم يذكر "محمد بن قيس". انتهى كلام الحافظ المزي رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

963 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1]، وَ ({اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1].

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(محمد بن منصور) بن ثابت الجوّاز المكي، ثقة من [10]، مات سنة 252، أخرج له النسائي، تقدم في 20/ 21.

(1)

تحفة الأشراف جـ 10 ص 470.

ص: 407

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت الحافظ، من [8]، مات سنة 198، أخرج له الجماعة. تقدم في 1/ 1.

3 -

(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني، ثقة ثبت من [5] ، مات سنة 144 أخرج له الجماعة. تقدم في 22/ 23.

4 -

(أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم) الأنصاري النجّاري المدني القاصّ، اسمه وكنيته واحد، وقيل: يكنى أبا محمد، ثقة عابد من [5]، مات سنة 120 وقيل: غير ذلك، أخرج له الجماعة. تقدم في 188/ 163.

5 -

(عمر بن عبد العزيز) تقدم في السند السابق.

6 -

(أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام) بن المغيرة ابن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، كان أحد الفقهاء السبعة، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكر اسمه، وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد، ثقة فقيه عابد من [3].

روى عن أبيه، وأبي هريرة، وعمار بن ياسر، ونوفل بن معاوية، وعائشة، وأم سلمة، وأم معقل الأسدية، وغيرهم.

وعنه أولاده: عبد الملك، وعمر، وعبد الله، وسلمة، ومولاه سُمَيّ، وابن أخيه القاسم بن محمد بن عبد الرحمن، والزهري، وغيرهم.

ص: 408

قال ابن سعد: ولد في خلامة عمر بن الخطاب، وكان يقال له: واهب قريش، لكثرة صلاته، وكان مكفوفًا. وقال الواقدي: اسمه كنيته، وكان قد ذهب بصره، واستصغر يوم الجمل، فرد هو وعروة بن الزبير، وكان ثقة فقيهًا عالمًا سخيًا كثير الحديث. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن خراش: هو أحد أئمة المسلمين، وقال أيضًا: أبو بكر، وعمر، وعكرمة، وعبد الله بنو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كلهم أجلة ثقات يضرب بهم المثل. روى الزهري عنهم كلهم، إلا عمر. وقال الآجري، عن أبي داود: كان أعمى، وكان إذا سجد يضع يده في طست ماء من علة كانت به.

وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الزبير بن بكار: كان قد كف بصره، وكان يسمى الراهب، وكان من سادات قريش. وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه: أدركت من فقهاء المدينة وعلمائها ومن يُرتضَى، ويُنتهَى إلى قولهم، منهم: ابن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار في مشيخة من نظرائهم أهل فقه وفضل. وقال الشعبي، عن عمر بن عبد الرحمن: إن أخاه أبا بكر كان يصوم ولا يفطر.

قال ابن المديني، وخليفة، وجماعة: مات سنة 93، وقيل:94. وأرخه في سنة 4 عمرو بن علي، وأبو عبيد، والواقدي، وغير واحد.

ص: 409

زاد الواقدي: وكانت تسمى سنة الفقهاء. وقيل: مات سنة 95. أخرج له الجماعة

(1)

.

7 -

(أبو هريرة) تقدم قريبًا.

وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة له. وبالله تعالى التوفيق.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدم قريبًا أن محمد بن يحيى الذهلي قال: لا أعلم روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد غيرُ ابن عيينة، وهو عندي وَهَمٌ، إنما روى الناس عن يحيى بن سعيد في هذا الإسناد حديث الإفلاس. انتهى. يعني حديث:"من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به من غيره". رواه الجماعة.

قال الجامع: عندي أن الحكم بالوَهَمِ في حديث ابن عيينة هذا نظر، فإنه إمام حجة، لا يضره مخالفة الجماعة له، فقد تفرد برواية حديث بِسَنَدٍ رَوَى الجماعةُ بذلك السند حديثًا آخر.

وقد تقدم عن الحافظ المزي أنه قال: رواه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. قال وهو المحفوظ. انتهى. وهذا هو نفس السند الذي روى به ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، فقد حكم له المزي بكونه محفوظًا. فتدبر.

(1)

تهذيب الكمال جـ 33 ص 112 - 117. تهذيب التهذيب جـ 12 ص 30 - 31.

ص: 410

والحاصل أن الظاهر كون هذا السند صحيحًا، لا وَهَمَ فيه. والله تعالى أعلم. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

964 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ.

قال الجامع عفا الله عنه: رجال هذا الإسناد سبعة، كلهم تقدموا في السند الماضي، إلا قتيبة، فتقدم في أول الباب. وقد تقدم البحث في الفرق بين "مثله" و"نحوه" غير مرة. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

965 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:"سَجَدَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رضي الله عنهما فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1]، وَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمَا".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس، أبو حفص البصري، ثقة حافظ

ص: 411

من [10]، مات سنة 249، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام المثبت الحجة من [9]، مات سنة 198، أخرج له الجماعة. تقدم في 4/ 4.

3 -

(قسرة بن خالد) السَّدُوسِيُّ البصري، ثقة ضابط، من [6] مات سنة 155، أخرج له الجماعة. تقدم في 4/ 4.

4 -

(محمد بن سيرين) الأنصاري أبو بكر البصري، ثقة تبت عابد كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى، من [3]، مات سنة 110، أخرج له الجماعة. تقدم في 46/ 57.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.

قال الجامع عفا الله عنه. هذا الحديث من أفراد المصنف، وهو صحيح، وقد تقدم تخريجه في أول الباب، فلا حاجة إلى إعادته هنا.

وقوله: (ومن هو خير منهما) يريد به النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أن السجود في "المفصل" كان ثابتًا عن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما بعده صلى الله عليه وسلم في المدينة، فبطل دعوى من ادعى انقطاعه فيها بعده صلى الله عليه وسلم. وبالله تعالى التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 412

‌52 - السُجُودُ فِي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على مشروعية السجود في قراءة سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].

966 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "سَجَدَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما، وَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمَا صلى الله عليه وسلم فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1].

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث هو الذي قبله سندًا، إلا اثنين:

1 -

(إِسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي، ثم النيسابوري، الإمام الحافظ الحجة، من [10]، مات سنة 238، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. تقدم في 2/ 2.

2 -

(المعتمر) بن سليمان التيمي، أبو محمد البصري، يلقب بـ"الطُّفيل" ثقة، من كبار [9]، مات سنة 187 وقد جاوز الثمانين، أخرج له الجماعة. تقدم في 10/ 10.

وكذا المتن هو الماضي، إلا أنه زاد هنا:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 413

967 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَوَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "سَجَدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1].

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) هو الذي في السند الماضي.

2 -

(سفيان) بن عيينة تقدم قريبًا.

3 -

(أيوب بن موسى) بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، أبو موسى المكي، ثقة من [6]، مات سنة 132، أخرج له الجماعة. تقدم في 150/ 241.

4 -

(عطاء بن ميناء) -بكسر الميم، وسكون التحتانية، ثم نون- المدني، وقيل: البصري، مولى ابن أبي ذُبَاب الدَّوْسِيّ، قيل: يكنى أبا معاذ، صدوق من [3].

روى عن أبي هريرة. وعنه سعيد المقبري، وعمرو بن دينار، وأيوب ابن موسى، وغيرهم.

قال ابن جريج، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، وزعم

ص: 414

أنه كان من أصلح الناس. وقال ابن عيينة: عطاء بن ميناء من المعروفين من أصحاب أبي هريرة. وقال العجلي: تابعي ثقة. وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل مكة

(1)

، وقال: كان قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وليس له عند أبي داود، والترمذي، والمصنف، إلا حديث الباب فقط

(2)

.

5 -

(وكيع) بن الجراح الرؤاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، من كبار [9]، مات في آخر 196 أو أول 7 وله 70 سنة، أخرج له الجماعة. تقدم في 23/ 25.

6 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحجة الثبت الكوفي من [7] مات سنة 161، أخرج له الجماعة. تقدم في 33/ 37.

7 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ووكيع" عطف على قوله: "سفيان"، فهو متصل، وليس معلقًا، فلإسحاق في هذا السند شيخان:

أحدهما: سفيان بن عيينة، والثاني وكيع بن الجرّاح، عن سفيان الثوري- كلاهما عن أيوب بن موسى، والأول أعلى، لأنه وصل إلى أيوب بواسطة، بخلاف الثاني، فبواسطتين.

والحديث واضح المعنى، وقد تقدم تخريجه في الباب الماضي، فمن

(1)

هكذا نسخ تهذيب التهذيب "من أهل مكة"، ولعل الصواب "من أهل المدينة". والله تعالى أعلم.

(2)

تهذيب الكمال جـ 20 ص 119 - 120. تهذيب التهذيب جـ 7 ص 216.

ص: 415

أراد الاستفادة، فليرجع إليه. والله تعالى ولي التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 416

‌53 - باب السُّجُودِ فِي الْفَريضةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية السجود عند تلاوة آية السجدة في الصلاة الفريضة.

وموضع الاستدلال واضح من قوله: "سجد بها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وأنا خلفه"، لأن مراده سجوده في الصلاة، بدليل رواية ابن خزيمة:"صليت خلف أبي القاسم، فسجد بها".

وأراد المصنف بترجمته الردَّ على من كره السجود في الفريضة، أو قال ببطلانها به، كما سيأتي بيان الخلاف، وتحقيق الصواب في ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

968 -

أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُلَيْمٍ،- وَهُوَ ابْنُ أَخْضَرَ، عَنِ التَّيْمِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ -يَعْنِى الْعَتَمَةَ- فَقَرَأَ سُورَةَ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1]، فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا فَرَغَ، قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذِهِ -يَعْنِى سَجْدَةً- مَا كُنَّا نَسْجُدُهَا، قَالَ:

ص: 417

"سَجَدَ بِهَا أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا خَلْفَهُ، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(حُمَيد بن مَسْعَدَة) بن المبارك الباهلي البصري، صدوق من [10]، مات سنة 244، أخرج له مسلم والأربعة. تقدم في 5/ 5.

2 -

(سُلَيم

(1)

بن أخضر) البصري، ثقة ضابط من -8 - .

روى عن ابن عون، وعكرمة بن عمار، وسليمان التيمي، وغيرهم. وعنه ابن مهدي، وعفان، والأصمعي، وحميد بن مسعدة، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: من أهل الصدق والأمانة. وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: أعلم الناس بحديث ابن عون. وقال سليمان بن حرب: ثنا سُلَيم بن أخضر الثقة المأمون الرضيّ. وقال القواريري: ثنا سُلَيم بن أخضر، وكان في ابن عون كحماد بن زيد في أبوب. وقال ابن سعد: كان ألزمهم لابن عون، وكان ثقة. وقال أبو القاسم الطبري: بصري ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، فقال: يروي عن حميد الطويل، وابن عون، مات سنة 180 وكذا أرخه خليفة، وزكريا الساجي. أخرج له الجماعة، إلا البخاري،

(1)

"سُليم" بصيغة التصغير.

ص: 418

وابن ماجه

(1)

.

3 -

(التيمي) سليمان بن طرخان، أبو المعتمر البصري، ثقة عابد من [4]، مات سنة 143، أخرج له الجماعة. تقدم في 87/ 107.

4 -

(بكر بن عبد الله المزني) أبو عبد الله البصري، ثقة ثبت جليل من [3]، مات سنة 106، أخرج له الجماعة. تقدم في 87/

107.

5 -

(أبو رافع) نفيع الصائغ المدني، نزيل البصرة، ثقة ثبت مشهور بكنيته من [2]، أخرج له الجماعة. تقدم في 129/ 191.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه؛ فما أخرج له البخاري، وسليم بن أخضر؛ فما أخرج له البخاري، وابن ماجه.

ومنها: أنه مسلسل بالبصريين، إلا الصحابي، فمدني. ومنها: أن فيه ثلاثةً من التالعين، يروي بعضهم عن بعض، سليمانُ التيمي من صغار التابعين، وبكر من أوساطهم، وأبو رافع من كبارهم.

ومنها: أن فيه قوله: "وهو ابن أخضر"؛ وذلك لأن شيخه لم ينسبه

(1)

تهذيب التهذيب جـ 4 ص 164.

ص: 419

إلى أبيه، وأراد هو أن ينسبه توضيحًا، فزاد قوله:"وهو" فصلًا بين كلام شيخه، وبين ما زاده هو، وقد تقدم بيان هذه القاعدة غير مرة. فتنبه.

ومنها: أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رئيس المكثرين من الصحابة، روى -5374 - حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي رافع) نفيع الصائغ، أنه (قال: صليت خلف أبي هريرة) رضي الله عنه (صلاةَ العشاء -يعني العتمة-) أي العشاء الآخرة، وهذه العناية من بعض الرواة، أراد لها تفسير العشاء لأنها قد تطلق على صلاة المغرب كما تقدم (فقرأ سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، فسجد فيها) أي سجد في هذه السورة لأجل تلاوته آية سجدة (فلما فرغ) أي سلم من الصلاة (قلت: يا أبا هريرة هذه -يعني سجدة- ما كنا نسجدها) أي إن هذه السجدة التي سجدتها في هذه السورة لم نكن نسجدها مع غيرك من الأئمة. فقوله: "هذه" مبتدأ، خبره جملة قوله:"ما كنا نسجدها" وقوله: "يعني سجدةً" هذه العناية من بعض الرواة بين بها المراد من اسم الإشارة. وفي رواية أبي داود: "فقلت: ما هذه السجدة؟ " بالاستفهام الإنكاري.

(قال) أبو هريرة رضي الله عنه (سجد بها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم) أي سجد بسبب قراءة هذه السورة، أو الباء بمعنى "في"، أي سجد فيها (وأنا خلفه) جملة في محل ئصب على الحال من الفاعل. والمراد أنه

ص: 420

سجد بها في الصلاة.

قال ابن المنير: لا حجة فيها على مالك؛ حيث كره السجدة في الفريضة -يعني في المشهور عنه- لأنه ليس مرفوعًا. قال الحافظ: وغفل عن رواية أبي الأشعث، عن معتمر بهذا الإسناد بلفظ:"صليت خلف أبي القاسم، فسجد بها". أخرجه ابن خزيمة، وكذلك أخرجه الجوزقي من طريق يزيد بن هارون، عن سليمان التيمي، بلفظ:"صليت مع أبي القاسم، فسجد بها". انتهى.

(فلا أزال أسجد بها حتى ألقى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) أي حتى أموت، لأنه لا يلقاه إلا بعد الموت. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

في هذا الحديث حجة لمن قال بمشروعية السجود في الصلاة المفروضة، كما ترجم عليه المصنف رحمه الله تعالى.

وقد اختلف أهل العلم في ذلك.

فذهب الجمهور إلى مشروعيته في الصلاة مطلقًا، وهو الراجح، لحديث الباب وغيره.

وذهب بعضهم إلى كراهته في الفريضة، وهو المشهور عن مالك، وعنه كراهته في السرية دون الجهرية، وهو قول للحنفية، وغيرهم

(1)

.

(1)

راجع الفتح جـ 3 ص 266.

ص: 421

وذهب بعضهم إلى أنه لا يسجد في الفرض، فإن سجد فسدت الصلاة به، ذكره الشوكاني عن بعض الزيدية

(1)

وكل هذه الأقوال محجوجة بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد في الفريضة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

وقد تقدم بيان تخريجه، وما يتعلق به من السائل في حديث رقم 51/ 961. وبالله تعالى التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

راجع "نيل الأوطار" جـ 3 ص 120.

ص: 422

‌54 - باب قِرَاءةِ النَّهَارِ

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على وجوب القراءة في صلاة النهار. وفي بعض النسخ إسقاط لفظة "باب". وموضع الاستدلال

قوله: "كل صلاة يقرأ فيها"، فإن الظاهر أنه مرفوع، بدليل قوله: "فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم

".

وقد ترجم المصنف رحمه الله تعالى في "الكبرى" بقوله بعد البسملة: [كتاب صفة الصلاة][قراءة النهار]. والله تعالى أعلم.

969 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "كُلُّ صَلَاةٍ يُقْرَأُ فِيهَا، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَاهَا أَخْفَيْنَا مِنْكُمْ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن قُدَامة) بن أعين المصيصي، ثقة من [10]، مات سنة 250 تقريبًا، أخرج له أبو داود والنسائي. تقدم في 19/ 528.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي المصيصي نزيل الري، ثقة من [8]، مات سنة 188، أخرج له الجماعة. تقدم في 2/ 2.

ص: 423

3 -

(رَقَبَة) بن مَصْقَلَة العبدي أبو عبد الله الكوفي، ثقة مأمون من [6]، مات سنة 129، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود،

والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في "التفسير". تقدم في 4/ 403.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشي مولاهم المكي، ثقة فاضل، كثير الإرسال من [3]، مات سنة 114، أخرج له الجماعة. تقدم في 112/ 154.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو وأبو داود، ورقبة، فأخرج له ابن ماجه في "التفسير"، وشيخه وجرير مصيصيان، ورقبة كومي، وعطاء مكي، وأبو هريرة رضي الله عنه مدني. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عطاء) بن أبي رباح المكي، أنه (قال: قال أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه (كل صلاة يقرأ فيها) أي كل ركعة، أو كل صلاة سريةً كان، أو جهريةً. فـ"كل صلاة" مبتدأ، و"يقرأ فيها" بالبناء للمفعول، والجملة خبر المبتدأ. وفي الرواية التالية:"في كل صلاة قراءة".

ص: 424

بَيَّنَ بهذا أبو هريرة رضي الله عنه وجوب القراءة في كل صلاة، فرضًا كانت أو نفلًا، منفردًا كان الصلي أو إمامًا أو مأمومًا، سرية

كانت، أو جهرية، وأشار إلى أن هذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله:"فما أسْمَعَنَا أسْمَعْنَاكُم" ....

فتبين بهذا وجه استدلال المصنف رحمه الله على ما أشار إليه في ترجمته، وهو وجوب القراءة في النهار.

(فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم) بفتح العين في الأول، وسكونها في الثاني، أي الذي جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة جهرنا به حتى نسمعكم (وما أخفاهما) الضمير للقراءة المفهومة من المقام، وفي نسخة "أخفى" بدون الضمير، وفي "الكبرى":"وما أخفى منا"، (أخفينا منكم) أي القراءة التي أخفاها صلى الله عليه وسلم أخفيناها نحن اقتداء به.

وقول أبي هريرة رضي الله عنه: "فما أسمعنا"

يدل على أن قوله: "كُلُّ صلاةٍ يُقْرَأ فيها" مُتَلَقّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون للجميع حكم الرفع.

زاد في رواية البخاري من طريق ابن جريج عن عطاء: "وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير". وفي رواية مسلم: "فقال له رجل: إن لم أزد على أم القرآن؟ فقال: إن زدت عليها فهو خير، وإن انتهيت إليها أجزأت عنك".

قال في "الفتح": وفي هذا الحديث أن من لم يقرأ الفاتحة لم تصح

ص: 425

صلاته، وهو شاهد لحديث عبادة المتقدم. وفيه استحباب السورة، أو الآيات مع الفاتحة، وهو قول الجمهور في الصبح والجمعة، والأوليين من غيرهما، وصح إيجاب ذلك من بعض الصحابة، كما تقدم، وهو عثمان بن أبي العاص.

وقال به بعض الحنفية، وابن كنانة من المالكية، وحكاه القاضي الفراء الحنبلي في "الشرح الصغير" روايةً عن أحمد. وقيل: يستحب في جميع الركعات، وهو ظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والله أعلم. انتهى

(1)

.

وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية:

في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -54/ 969 - و"الكبرى" 1/ 1041 - بالسند المذكور. وفي 970 - و"الكبرى" 45/ 1042 - بالسند الآتي بَعْدُ.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

(1)

فتح جـ 2 ص 500.

ص: 426

أخرجه البخاري في الصلاة عن مسدد ومسلم فيه عن عمرو الناقد؛ وزهير بن حرب، ثلاثتهم عن إسماعيل ابن علية، عن ابن جريج، عن عطاء، عنه. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

970 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:"فِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَاهَا أَخْفَيْنَا مِنْكُمْ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة من [10]، مات سنة 245، تقدم في 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الهُجَيمي البصري، ثقة ثبت من [8]، مات سنة 180، تقدم في 42/ 47.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة فقيه فاضل يدلس من [6]، تقدم في 28/ 32.

4 -

(عطاء).

(1)

وفي نسخة: "أنبأنا".

ص: 427

5 -

(أبو هريرة).

تقدما في الماضي. وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به. وبالله تعالى التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 428

‌55 - القِراءَةُ فِي الظُّهْرِ

أي باب ذكر الحديثين الدالين على مشروعية القراءة في صلاة الظهر.

971 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ صُدْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ:"حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْبَرِيدِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، فَنَسْمَعُ مِنْهُ الآيَةَ بَعْدَ الآيَاتِ، مِنْ (سُورَةِ لُقْمَانَ)، (وَالذَّارِيَاتِ) ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن إِبراهيم بن صُدْرَان) الأزدي السلمي، أبو جعفر المؤذن البصري، ثقة من [10]، مات سنة 247، أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي. تقدم في 66/ 82.

2 -

(سَلْمُ بن قُتَيبة) الشَّعِيرِيُّ، أبو قُتَيبة الخراساني الفِرْيَابي، نزيل البصرة، صدوق من [9].

روى عن يونس بن أبي إسحاق، وإسرائيل بن يونس، وجرير بن حازم، وهاشم بن البريد، وغيرهم.

وعنه عمرو بن علي الفَلاَّس، وعقبة بن مكرم، ونصر بن علي

ص: 429

الجهضمي، ومحمد بن إبراهيم بن صدران، وغيرهم.

قال الدروي عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو داود، وأبو زرعة. ثقة. وقال أبو حاتم: ليس به بأس، كثير الوهم، يكتب حديثه. وقال عمرو بن علي، من يحيى بن سعيد: ليس أبو قتيبة من الجِمَالِ التي تَحْمِلُ المَحَامِلَ. قال ابن أبي عاصم: مات سنة 200، وقال غيره: مات بعدها. وقال ابن قانع: توفي سنة 201 بصري ثقة. وقال الحاكم، عن الدارقطني: ثقة. وقال المسعودي، عن الحاكم: ثقة مأمون.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد 200، وقال: وقد قيل: مات في جمادى الأولى سنة 200، وذكر الرشاطي في "الإنساب""العَرَمَاني" بالعين المفتوحة، والراء، والميم، والنون نسبة إلى عرمان من الأزد، منهم سلم بن قتيبة. انتهى. قال الحافظ: فيحتمل أن قولهم: "الفريابي" تصحيف. وقال أبو سعد بن السمعاني: "الشعيري" نسبة إلى بيع الشعير. انتهى. أخرج له الجماعة، إلا مسلمًا

(1)

.

3 -

(هاشم بن البريد) بفتح الموحدة، وكسر الراء، بعدها تحتانية - أبو علي الكوفي، ثقة إلا أنه رمي بالتشيع من [6].

قال أبو طالب، من أحمد: لا بأس به. وقال إسحاق بن منصور،

(1)

تهذيب الكمال جـ 11 ص 232 - 235، تهذيب التهذيب جـ 4 ص 133 - 134.

ص: 430

عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، إلا أنه يترفض. وقال الجوزجاني: كان غاليًا في سوء مذهبه. وقال أبو العرب الصقلي: قال أحمد بن حنبل: هاشم بن البريد ثقة، وفيه تشيع قليل. وقال الدارقطني: مأمون. أخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه

(1)

.

4 -

(أبو إِسحاق) السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي، ثقة عابد مدلس اختلط بآخره من [3]، مات سنة 129، أخرج له

الجماعة. تقدم في 38/ 42.

5 -

(البراء) بن عازب بن الحارث الأنصاري الأوسي صحابي ابن صحابي رضي الله عنهما تقدم في 86/ 105. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله ثقات، وأن شيخه أخرج له هو وأبو داود، والترمذي، وأن هاشمًا أخرج له هو، وأبو داود، وابن ماجه، وسَلْمًا أخرج له الجماعة إلا مسلمًا، والباقيان من رجال الجماعة، وأنهم كوفيون، إلا شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان. والله تعالى أعلم.

(1)

راجع تهذيب التهذيب جـ 11 ص 16 - 17.

ص: 431

شرح الحديث

(عن البراء) بن عازب رضي الله عنهما، أنه (قال: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآيات)، وفي "التفسير" -11525 - :"بعد الآية" بالإفراد (من سورة لقمان والذاريات)، أي يقرأ قراءة بحيث يسمع من خلفه الآية من جملة ما قرأه من هاتين السورتين.

وفيه الدلالة علئ ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية القراءة في صلاة الظهر، وفيه أيضا جواز الجهر ببعض الآيات في الصلاة السرية، وأنه لا يكره الجمع بين الجهر والسر في الصلاة السرية. وفيه أيضًا استحباب قراءة هاتين السورتين أحيانًا في صلاة الظهر. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث البراء رضي الله عنه هذا رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة أبي إسحاق، وهو مدلس، لكن يشهد له حديث أبي قتادة رضي الله عنه الآتي -974 - فهو صحيح به.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 432

أخرجه هنا -55/ 971 - وفي "الكبرى" -2/ 1043 - وفي "التفسير" 11525 - بالسند المذكور.

وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن عقبة بن مُكْرَم، عن سَلْم بن قُتيبة، عن هاشم بن البَرِيد، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما.

قال الحافظ المزي رحمه الله: رواه أبو يعلى الموصلي، عن محمد ابن أبي بكر المقدّمي، عن سلم بن قتيبة، عن أبي عبد الرحمن، عن أبي إسحاق. انتهى

(1)

.

وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

972 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ النَّضْرِ، قَالَ: "كُنَّا بِالطَّفِّ، عِنْدَ أَنَسٍ، فَصَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: إِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَقَرَأَ لَنَا بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} [الغاشية: 1].

(1)

تحفة الأشراف جـ 2 ص 58.

ص: 433

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن شجاع المرّوذي) نزيل بغداد، ثقة من [10]، مات سنة 244، أخرج له الترمذي، والنسائي. تقدم في 8/ 886.

2 -

(أبو عبيدة) الحدّاد عبد الواحد بنت واصل السَّدُوسي مولاهم، البصري، نزيل بغداد، ثقة من [9].

قال أحمد: لم يكن صاحب حفظ، كان صاحب شيوخ، وكان كتابه صحيحا. وقال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال

غيره عن ابن معين: كان من المتثبتين، ما أعلم أنّا أخذنا عليه خطأ البتة. وقال العجلي، ويعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، وأبو داود: ثقة.

وذكره ابن حسان في "الثقات". ووثقه الدارقطني، والخطيب. وحكى الأزدي عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه أنه ضعفه، ثم قال

الأزدي: ما أقرب ما قال أحمد، لأن له أحاديث غير مرضية عن شعبة وغيره، إلا أنه في الجملة قد حمل عنه الناس، ويُحتَمَل لصدقه. وقال في "ت": ثقة، تكلم فيه الأزدي بغير حجة. اهـ.

قال أبو قلابة الرقاشي: إنه ولد يوم مات أبو عبيدة الحدّاد سنة 190. أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وابن ماجه

(1)

.

3 -

(عبد الله بن عُبَيد) الحِمْيَريّ مؤذن مسجد المسارج، وهو

(1)

راجع تهذيب التهذيب جـ 6 ص 440.

ص: 434

مسجد عُتْبَة بن غَزْوان، ويعرف بمسجد جَرادار، ويقال: شرادار المسارج، ثقة من [7].

روي عن أبي بكر بن النضر بن أنس، وعنه إسماعيل ابن علية، ويزيد بن زريع، والنضر بن شميل، وأبو عبيدة الحداد، وصفوان بن عيسى، وعثمان بن الهيثم، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح ما به بأس. أخرج له الترمذي، والمصنف، وابن ماجه

(1)

.

4 -

(أبو بكر بن المضر) بن أنس بن مالك الأنصاري البصري، روى عن جده أنس بن مالك. وعنه عبد الله بن عُبَيد مؤذن مسجد جَرَادار. انفرد به المصنف. وفي "ت": مستور من [5].

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله في "ت": مستور. فيه نظر، لأن المستور من روى عنه أكثر من واحد، ولم يوثق، وأبو بكر هذا لم يرو عنه إلا عبد الله بن عبيد، فهو مجهول العين. فتنبه.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها. من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله ثقات، غير أبي بكر بن النضر، فمجهول العين، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه

(1)

تهذيب الكمال جـ 15 ص 262 - 263، تهذيب التهذيب جـ 5 ص 309.

ص: 435

من المكثرين السبعة، روى -2286 - حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة 92 أو 93. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن عُبَيد، قال: سمعت أبا بكر بن النضر) بن أنس (قال: كنا بالطَّفِّ) قال المجد رحمه الله: "الطّفّ -أي بفتح الطاء المهملة، وتشديد الفاء-: موضع قُرْبَ الكوفة، وما أشرف من أرض العرب على رِيفِ العراق، والجانب، والشاطئ. انتهى

(1)

.

(عند أنس) بن مالك رضي الله عنه، ولعله ذهب إلى ذلك المكان لبعض حاجته (فصلى بهم الظهر) فيه التفات، لأن الظاهر أن يقول:"فصلى بنا"، (فلما فرغ) أي سلم من الصلاة (قال: إِني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، فقرأ لنا بهاتين السورتين، بـ {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، و {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1]) الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور قبله.

وفيه ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية القراءة في صلاة الظهر، وفيه أيضًا استحباب قراءة هاتين السورتين في بعض الأوقات.

والله تعالى أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

القاموس المحيط ص 1076.

ص: 436

مسألة

حديث أنس رضي الله عنه هذا المرفوع منه صحيح، وقد انفرد به المصنف عن أصحاب الأصول، أخرجه هنا -55/ 972 - وفي

"الكبرى" 2/ 1044.

[فإن قيل]: في سنده أبو بكر بن النضر، وهو مجهول العين، فكيف يصح؟.

[قلت]: قد أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، من طريق محمد بن مَعْمَر القَيْسِيّ عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، قال: حدثنا قتادة، وثابت، وحميد، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسمعون منه النغمة في الظهر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}

(1)

. [الغاشية: 1] فهذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح، فيشهد لحديث الباب فيصح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

انظر صحيح ابن خزيمة جـ 1 ص 257. وصحيح ابن حبان جـ 5 ص 132.

ص: 437

‌56 - تَطْوِيلُ الْقِيَامِ فِي الرَّكْعَةِ الأولى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على مشروعية تطويل القيام بتطويل القراءة في الركعة الأولى من صلاة الظهر.

973 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ:"لَقَدْ كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَجِيُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى، يُطَوِّلُهَا".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن عثمان) بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي مولاهم، أبو حفص الحمصي، صدوق من [10]، مات سنة 250،

أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 21/ 535.

2 -

(الوليد) بن مسلم القرشي مولاهم، أبو العباس الدمشقي، ثقة كثير التدليس والتسوية من [8]، مات سنة 194 أو 195، أخرج له الجماعة، تقدم في 5/ 454.

3 -

(سعيد بن عبد العزيز) التَّنُوخي الدمشقي، ثقة إمام، لكنه

ص: 438

اختلط في آخره من [7] مات سنة 167 أو بعدها، وله بضع وسبعون سنة، أخرج له الجماعة تقدم في 5/ 460.

4 -

(عطية بن قيس) الكلابي، ويقال: الكَلَاعي بالعين المهملة بدل الموحدة، أبو يحيى الحمصي، ويقال: الدمشقي، ثقة مقرئ من

[3]

.

روى عن أبيِّ بن كعب، ومعاوية، والنعمان بن بشير، وأبي الدرداء، وغيرهم. وعنه ابنه سعد، وسعيد بن عبد العزيز، وعبد الله ابن يزيد الدمشقي، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، والحسن بن عمران العسقلاني، وقرأ عليه القرآن، وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة، وقال: كان معروفًا، وله أحاديث.

وقال ابن أبي حاتم: عن أبيه: عطية مولى لبني عامر. وسئل عنه، فقال: صالح الحديث. وقال عبد الواحد بن قيس: كان الناس يصلحون مصاحفهم على قراءة عطية بن قيس. وقال الفسوي: سألت عبد الرحمن -يعني دُحَيما- عنه، فقال: كان أسنهم -يعني من أقرانه- وكان غزا مع أبي أيوب الأنصاري، وكان هو وإسماعيل بن عبيد الله قارئ الجند.

وقال أبو مسهر: كان مولده في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة 7 وغزا في خلافة معاوية، وتوفي سنة عشر ومائة. وقال المفضل الغلابي: حدثني رجل من بني عامر، من أهل الشام، قال: عطية بن قيس من التابعين، وكان لأبيه صحبة، وقال سعد بن عطية بن قيس: مات أبي سنة 121، وهو ابن 104 سنة، وقال ابن حبان في "الثقات": كان

ص: 439

مولده سنة 17، ومات قبل مكحول سنة 121. استشهد له البخاري بحديث واحد، وأخرج له الباقون

(1)

.

5 -

(قَزَعَةَ) بن يحيى، ويقال: ابن الأسود، أبو الغادية البصري، مولى زياد بن أبي سفيان، ويقال: مولى عبد الملك بن مروان، ويقال: بل هو من بني الحَرِيش، قَدِمَ دمشق، ثقة من [3].

روى عن ابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وحبيب بن مسلمة الفِهْري، وأبي هريرة، وقَرْثَع الضبي، وأبي سعيد الخدري، وعنه عبدَ الملك بن عمير، وعطية بن قيس، وقتادة، ومجاهد، وآخرون.

قال العجلي: بصري تابعي ثقة. وقال ابن خراش: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال محمد بن زياد الهلالي، عن عبد الملك ابن عمير: ثنا قزعة، وكان رجلًا يسبق الحاج في سلطان معاوية. وقال البزار ليس به لأس. وقال أبو حاتم الرازي: لا ندري سمع منه قتادة، أم لا؟.

له عند البخاري حديث أبي سعيد الخدري في سفر المرأة، وليس له غيره، وأخرج له الباقون

(2)

.

6 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 169/ 262.

(1)

تهذيب الكمال جـ 20 ص 153 - 156. تهذيب التهذيب جـ 7 ص 228 - 229.

(2)

تهذيب الكمال جـ 23 ص 597 - 600. تهذيب التهذيب جـ 8 ص 377.

ص: 440

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو، وأبو داود، وابن ماجه، ومنها: أنه مسلس بالشاميين، إلا الصحابي، فمدني، ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي؛ عطية، عن قَزَعَةَ، وهو من رواية الأقران، فكلاهما من الطبقة الثالثة، ومنها: أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى -1170 - حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله عنه، أنه (قال: لقد كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إِلى البقيع) بفتح الباء الموحدة، وكسر القاف- اسم لمقْبَرَة المدينة النبوية، قال الفيومي رحمه الله: البَقِيعُ: المكان المتَّسِعُ، ويقال: الموضع الذي فيه شجر، وبَقِيعُ الغَرْقَد بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم كان ذا شجر، وزال وبقي الاسم، وهو الآن مقبرة. انتهى

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: والبَقِيعُ: موضع فيه أُرُومُ

(2)

شجر من ضُرُوب شَتَّى، وبه سمي بقيع الغَرْقَد، وهو مقبرة بالمدينة والْغَرْقَد:

(1)

انظر: المصباح جـ 1 ص 57.

(2)

أي أصل شجر، و"الأرومة" بضمتين، وتميم تفتح همزته: الأصل، والجمع: أرُوم. أفاده في "اللسان" جـ 1 ص 66.

ص: 441

شجر له شوك، كان ينبت هناك، فذهب، وبقي الاسم لازمًا للموضع. والبقيع من الأرض: المكان الْمُتَّسِعُ، ولا يسمى بقيعًا، إلا وفيه شجر. انتهى

(1)

.

(فيقضي حاجته) من النقول والغائط (ثم يتوضأ، ثم يجيء) إلى المسجد (ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى)، جملة في محل نصب على الحال من فاعل "يجيء"، والرابط هو الواو، كما أوضحه ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة" حيث قال:

ومَوضعَ الْحَالِ تَجيءُ جُمْلَهْ

كَـ "جَاء زيدٌ وَهْوَ نَاوٍ رِحْلَهْ"

إلى أن قال:

وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوىَ مَا قُدِّمَا

بِوَاوٍ أوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِما

(يطوّلها) يحتمل أن تكون الجملة حالًا، أي حال كونه مُطَوّلا لها. ويحتمل أن تكون مستأنفة استئنافًا بيانيًا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدر، كأن سائلًا قال له: كيف وجده في الركعة الأولى؟ فأجابه بقوله: "يطولها"، أي إنما أدركه لكونه مطولًا لها. ولفظ مسلم:"مما يطولها".

وفي الحديث دليل واضح لما ترجم له الصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية تطويل القيام في الركعة الأولى من صلاة الظهر، تكثيرًا للجماعة.

قال النووي رحمه الله تعالى: قد ثبت في أحاديث أخَرَ في غير هذا

(1)

لسان العرب جـ 1 ص 326.

ص: 442

الباب، وهي في الصحيحين:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخف الناس صلاةً في تمام"، وأنه صلى الله عليه وسلم قال:"إني لأدخل في الصلاة، أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مخافة أن تفتن أمه".

قال العلماء: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تختلف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل، ولا شغل هناك له ولا لهم طَوَّلَ، وإذا لم يكن كذلك خفف، وقد يريد الإطالة، ثم يعرض ما يقتضي التخفيف، كبكاء الصبي، ونحوه، وينضم إلى هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت، فيخفف. وقيل: إنما طول في بعض الأوقات، وهو الأقل، وخفف في معظمها، فالإطالة لبيان جوازها، والتخفيف لأنه الأفضل.

وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتخفيف، وقال:"إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس، فليخفف، فإن فيهم السقيم، والضعيف، وذا الحاجة". وقيل: طول في وقت، وخفف في وقت، ليبين أن القراءة فيما زاد على الفاتحة لا تقدير فيها من حيث الاشتراط، بل يجوز قليلها، وكثيرها، وإنما المشترط الفاتحة، ولهذا اتفقت الروايات عليها، واختلف فيما زاد، وعلى الجملة السنة التخفيف، كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم للعلة التي بينها، وإنما طول في بعض الأوقات لتحققه انتفاء العلة، فإدن تحقق أحدٌ انتفاء العلة طوّل. انتهى كلام النووي بتغيير يسير.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النووي رحمه الله

ص: 443

تعالى حسن جدًّا، وقد قدمت تحقيق المسألة مُستَوفىً بما فيه الكفاية في [كتاب الإمامة] برقم -35/ 823 - فإن أحببت الاستفادة فارجع إليه، والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

1 -

أخرجه هنا -56/ 973 - وفي "الكبرى" 3/ 1045 - بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن داود بن رُشَيد، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس- وعن محمد بن

حاخم، عن ابن مهدي، من معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد- كلاهما عن قَزَعَةَ، عنه. وابن ماجه فيه من أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحُبَاب، عن معاوية بن صالح به.

والله تعالى أعلم وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

974 -

أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ -

ص: 444

وَهُوَ الْقَنَّادُ- قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"كَانَ يُصَلِّي بِنَا الظُّهْرَ، فَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، يُسْمِعُنَا الآيَةَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالرَّكْعَةَ الأُولَى -يَعْنِى فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(يحيى بن دُرُسْتَ

(1)

) بن زياد البصري، ثقة من [10]، أخرج له الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 23/ 24.

2 -

(أبو إِسماعيل القَنَّاد) إبراهيم بن عبد الملك البصري، صدوق، في حفظه شيء، من [7]، أخرج له الترمذي والنسائي، تقدم في 23/ 24.

تنبيه: وقع هنا في نسخ "المجتبى" الموجودة عندي عقب ذكر أبي إسماعيل القَنَّاد، وبين يحيى بن أبي كثير: ما نصه: "حدثنا خالد" وليس موجودًا في "الكبرى"، ونصها: أخبرنا يحيى بن دُرُسْتَ البصري، قال: نا أبو إسماعيل- وأبو إسماعيل إبراهيم بن عبد الملك بصري، قال:

(1)

بضمتين، وسكون المهملة. اهـ "ت" ص 375.

ص: 445

نا يحيى

وقد تقدم هذا السند بعينه في "المجتبى" برقم 233/ 24 - ونصه هناك: أخبرنا يحيى بن درست، قال: أنبأنا أبو إسماعيل -وهو القناد- قال: حدثني يحيى بن أبي كثير

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن زيادة: "حدثنا خالد" في نسخ "المجتبى" هنا غلط، لما يلي:

الأول: أنه ليس في شيوخ أبي إسماعيل القَنَّاد من اسمه خالد، فلْتُرَاجَعْ ترجمته في "تهذيب الكمال" جـ 2 ص 140. وفي "تهذيب

التهذيب" جـ 1 ص 142. بل ليس له فيهما سوى شيخين: يحيى بن أبي كثير، وقتادة.

الثاني: أنه ليس فيمن روى عن يحيى بن أبي كثير من اسمه خالد، فلتُرَاجع ترجمته في "تهذيب الكمال" جـ 31 ص 504 - 510 - و"تهذيب التهذيب" جـ 11 ص 268 - 270.

الثالث: تصريح أبي إسماعيل القَنَّاد بالتحديث عن يحيى بن أبي كثير، كما تقدم في نص "الكبرى" في هذا الباب، ونص "المجتبى" في 23/ 24.

والحاصل أن زيادة "حدثنا خالد" هنا غلط. والصواب: حدثنا أبو إسماعيل، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير

إلخ. هذا ما ظهر لي،

ص: 446

والله تعالى أعلم بالصواب.

3 -

(يحيى بن أبي كثير) الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت، يدلس، ويرسل من [5]، مات سنة 132، أخرج له الجماعة، تقدم في 23/ 24.

4 -

(عبد الله بن أبي قتادة) الأنصاري المدني، ثقة من [2]، مات سنة 95، أخرج له الجماعة. تقدم في 23/ 24.

5 -

(أبو قتادة) الأنصاري، الحارث بن ربعي، وقيل غيره، السَّلَمي المدني شهد أحدًا وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرًا مات سنة 54 على الأصح، أخرج له الجماعة. تقدم في 23/ 24. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، غير أبي إسماعيل، فمتكلم فيه، وهم من رجال الجماعة غير شيخه؛ فانفرد به هو، والترمذي، وابن ماجه، وغير أبي إسماعيل؛ فمن أفراده، والترمذي، وفيه رواية تابعي عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(أن عبد الله بن أبي قتادة حدثه) أي حدث يحيى بن أبي كثير

ص: 447

(عن أبيه) أي حال كونه آخذًا عن أبيه أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أي حال كون أبي قتادة يتحدث عن شأنه صلى الله عليه وسلم (قال) أبو قتادة رضي الله عنه: (كان) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يصلي بنا الظهر، فيقرأ في الركعتين الأوليين) لم يبين في هذه الرواية ما كان يقرؤه، وقد بينه في الرواية الآتية في الباب التالي -57/ 975 - من طريق الأوزاعي، وفي 95/ 977 من طريق أبان بن يزيد: أنه كان يقرأ بـ "أم القرآن"، وسورتين في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر

(يسمعنا الآية كذلك) جملة في محل نصب على الحال، أي حال كونه مسمعًا لنا الآية، وقوله:"كذلك" أي كما أنه يقرأ، يعني كما أنه يقرأ، يسمعنا الآية أيضًا، وأراد به تشبيه ثبوت الإسماع بثبوت القراءة، والمراد أنه يسمعهم أحيانًا، كما بينته رواية الأوزاعي:"ويسمعنا الآية أحيانًا".

(وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة) أي الأولى، ففي رواية الأوزاعي:"وكان يطيل في الركعة الأولى". وفي رواية هشام الدستوائي: "ويطول في الأولى، ويقصر في الثانية". وفي رواية أبان: "وكان يطيل أول ركعة من صلاة الظهر".

وإنما طول في الأولى إعانة لهم على إدراك صلاة الجماعة كاملة بإدراك الركعة الأولى، عملًا بقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] الآية.

ص: 448

(والركعةَ الأولى) بالنصب عطفًا على "الركعة"(-يعني في صلاة الصبح-) أي وكان يطيل الركعة الأولى من صلاة الصبح. والعناية من

بعض الرواة، ولا أدري من هو؟. وفي رواية هشام:"وكان يفعل ذلك في صلاة الصبح، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية".

والحديث دليل لما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو مشروعية تطويل الركعة الأولى على الثانية من صلاة الظهر. وسيأتي تحقيق القول فيه في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 56/ 974، وفي "الكبرى" 3/ 1046 - بالسند المذكور. و 57/ 975، و"الكبرى" 4/ 1047 و 58/ 976، و"الكبرى" 5/ 1048، و 59/ 977، و"الكبرى" 6/ 1049، و 60/ 978، و"الكبرى" 7/ 1050. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي نعيم عن شيبان النحوي،

ص: 449

وعن المكي بن إبراهيم، عن هشام الدستوائي، وعن موسى بن إسماعيل، عن همام، وعن محمد بن يوسف، عن الأوزاعي، وعن أبي

نعيم، عن هشام- كلهم من يحيى بن أبي كثير به.

ومسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن همام، وأبان بن يزيد كلاهما عن يحيى بن أبي كثير به. وأبو داود فيه عن مسدد، عن يحيى، عن هشام به. وعن الحسن بن علي، عن يزيد ابن هارون به. وعن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير به. وابن ماجه فيه عن بشر بن هلال الصواف، عن يزيد بن زريع، عن هشام الدستوائي به.

وأخرجه أحمد في "مسنده"، والدارمي في "سننه"، وابن خزيمة في "صحيحه". والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: دل حديث الباب على استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية.

قال النووي رحمه الله: هذا مما اختلف فيه العلماء في العمل بظاهره، وهما وجهان لأصحابنا.

أشهرهما عندهم: لا يطول، والحديث متأول على أنه طوّل بدعاء الافتتاح والتعوذ، أو لسماع داخل في الصلاة ونحوه، لا في القراءة.

والثاني: أنه يستحب تطويل القراءة في الأولى قصدًا، وهذا هو

ص: 450

المذهب الصحيح المختار الموافق لظاهر السنة، ومن قال بقراءة السورة في الأخريين اتفقوا على أنها أخف منها في الأوليين. إنتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه. هذا الذي صححه النووي رحمه الله من استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية، هو الراجح عندي عملًا

بظواهر الأحاديث الصحيحة. والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله: كأن السبب في ذلك أن النشاط في الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حَذَرًا من الملل. انتهى.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير في آخر هذا الحديث:"فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة". ولأبي داود، وابن خزيمة نحوه من رواية أبي خالد، عن سفيان، عن معمر.

وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إني أحب أن يطوّل الإمام الركعة الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس.

واستدل به على استحباب تطويل الأولى على الثانية.

وقال من قال باستحباب استوائهما: إنما طالت الأولى بدعاء الاستفتاح والتعوذ، وأما في القراءة فهما سواء، ويدل عليه حديث أبي

(1)

راجع شرح مسلم جـ 4 ص 175.

ص: 451

سعيد عند مسلم: "كان يقرأ في الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية". وفي رواية لابن ماجه: أن الذين حزروا كانوا ثلاثين من الصحابة.

وادعى ابن حبان أن الأولى طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها مع استواء المقروء فيهما. وقد روى مسلم من حديث حفصة رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها.

واستدل به بعض الشافعية على جواز تطويل الإمام في الركوع لأجل الداخل. قال القرطبي: ولا حجة فيه؛ لأن الحكمة لا يعلل بها لخفائها، أو لعدم انضباطها، ولأنه لم يكن يدخل في الصلاة يريد تقصير تلك الركعة، ثم يطيلها لأجل الآتي، وإنما كان يدخل فيها ليأتي بالصلاة على سننها من تطويل الأولى، فافترق الأصل والفرع، فامتنع الإلحاق. انتهى.

وقد ذكر البخاري في "جزء القراءة" كلامًا معناه أنه لم يَرِدْ عن أحد من السلف في انتظار الداخل في الركوع شيء. والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

راجع فتح جـ 2 ص 490.

ص: 452

‌57 - بَابُ إسماعِ الإمَامِ الآيَةَ فِي الظُّهْرِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على جواز إسماع الإمام المأمومين الآية من القرآن في صلاة الظهر.

975 -

أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسْلِمٍ -يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي جَمِيلٍ الدِّمَشْقِيِّ

(1)

- قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمَاعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ:"حَدَّثَنَا أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ بِـ"أُمِّ الْقُرْآنِ"، وَسُورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطِيلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عمران بن يزيد بن خالد بن مسلم -يعرف بابن أبي جميل الدِّمَشقِيِّ-) ويقال. عمران بن خالد بن يزيد بن مسلم، وقد

ينسب إلى جده، صدوق من [10]، مات سنة 244، أخرج له النسائي، تقدم في 18/ 422.

(1)

قوله: "الدمشقي" يحتمل رفعه صفة لعمران، وجملة "يعرف بابن أبي جميل" معترضة. ويحتمل جره صفة لـ"ابن أبي جميل". والله أعلم.

ص: 453

2 -

(إِسماعيل بن عبد الله بن سَمَاعَةَ) العدوي مولى آل عمر الرَّمْلي، وقد ينسب إلى جده، ثقة من [8]، أخرج له أبو داود،

والترمذي، والنسائي. تقدم في 134/ 201.

3 -

(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الدمشقي، الفقيه، ثقة جليل من [7]، مات سنة 157، أخرج له

الجماعة. تقدم في 45/ 56.

والباقون تقدموا في الباب الماضي، وكذا شرح الحديث ومتعلقاته من المسائل.

والحديث دليل واضح لما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز إسماع الإمام الأمومين الآية في صلاة الظهر، وفيه جواز الجهر ببعض الآيات في الصلاة السرية.

قال النووي رحمه الله: قوله: "وكان يقرأ بفاتحة الكتاب، وسورتين". فيه دليل لما قاله أصحابنا وغيرهم، أن قراءة سورة قصيرة بكمالها أفضل من قراءة قدرها من طويلة؛ لأن المستحب للقارئ أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط، ويقف عند انتهاء المرتبط، وقد يخفى الارتباط على أكثر الناس، أو كثير منهم، فندب إلى إكمال السورة ليحترز عن الوقوف دون الارتباط. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": واستدل به على جواز الجهر في السرية، وأنه لا سجود على من فعل ذلك، خلافًا لمن قال ذلك من الحنفية وغيرهم،

(1)

شرح مسلم جـ 4 ص 174.

ص: 454

سواء قلنا: كان يفعل ذلك عمدًا، لبيان الجواز، أو بغير قصد للاستغراق في التدبر. وفيه حجة على من زعم أن الإسرار شرط لصحة الصلاة السرية.

وقوله: "أحيانًا" يدل على تكرر ذلك منه. وقال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الإخبار دون التوقف على اليقين؛ لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها، ويحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقب الصلاة دائمًا، أو غالبًا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدًّا. والله أعلم. انتهى

(1)

.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

فتح جـ 2 ص 490.

ص: 455

‌58 - تَقْصِيرُ الْقِيَامِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الظُّهْرِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب تقصير القيام في الركعة الثانية من صلاة الظهر.

976 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِى أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِنَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، وَيُطَوِّلُ فِي الأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، يُطَوِّلُ فِي الأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِنَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، يُطَوِّلُ الأُولَى، وَيُقَصِّرُ الثَّانِيَةَ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدَامَةَ السَّرَخْسِيُّ، نزيل نيسابور، ثقة ثبت مأمون سُنِّيّ من [10]، مات سنة 241، أخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي، تقدم في 15/ 15.

ص: 456

2 -

(معاذ بن هشام) الدستُوائي البصري، وقد سكن اليمن، صدوق ربما وهم من [9]، مات سنة 200، أخرج له الجماعة. تقدم في 30/ 34.

3 -

(هشام بن أبي عبد الله) سَنْبَر الدستوائي، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، رمي بالقدر، من كبار [7] مات سنة 154 وله 78 سنة، أخرج له الجماعة. تقدم في 30/ 34.

والباقون تقدموا قريبًا، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به واضحة مما تقدم.

والحديث دليل لما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب تقصير القيام في الركعة الثانية من صلاة الظهر.

قال الجامع عفا الله عنه: لم يقع في حديث أبي قتادة هذا، ولا فيما مضى من الروايات ذكر القراءة في الأخريين، فتمسك به بعض

الحنفية على إسقاطها فيهما، كما قال في "الفتح"

(1)

.

قلت: هذا التمسك باطل، فقد ثبت في حديثه الآتي في الباب التالي من طريق أبان بن يزيد العطار، أنه كان يقرأ في الأخريين بـ"أم القرآن". فتبصر. وبالله تعالى التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

راجع الفتح جـ 2 ص 490.

ص: 457

‌59 - الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأوليَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر.

وكان الأولى للمصنف أن يترجم للأخريين؛ لأن الأحاديث المتقدمة فيها بيان القراءة في الأوليين، وهذه الرواية فيها زيادة بيان القراءة في الأخريين، فيكون التبويب بها أليق. والله تعالى أعلم.

977 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ بِـ"أُمِّ الْقُرْآنِ" وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ بِـ"أُمِّ الْقُرْآنِ"، وَكَانَ يُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطِيلُ أَوَّلَ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى الَعنَزِيّ البصري، ثقة، حافظ

ص: 458

من [10]، مات سنة 252، أخرج له الجماعة. تقدم في 64/ 80.

2 -

(عبد الرحمن بن مهدي) أبو سعيد البصري الإمام الثبت الحجة من [9]، مات سنة 198، أخرج له الجماعة. تقدم في 42/ 49.

3 -

(أبان بن يزيد) العطار، أبو يزيد البصري، ثقة، له أفراد من [7]، مات في حدود سنة 160 أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، تقدم في 9/ 787.

والباقون تقدموا قريبًا، وكذا شرح الحديث واضح مما سبق، وقد سبق الكلام عليه في 56/ 973، فارجع إليه.

وفيه دليل واضح لما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو القراءة في الأوليين من صلاة الظهر، وفيه أيضًا بيان مشروعية القراءة في الأخريين، بل هذا كان أحق أن يُبَوِّبَ المصنفُ عليه، كما تقدم.

قال النووي رحمه الله: فيه دليل على أنه لابد من قراءة الفاتحة في جميع الركعات، ولم يوجب أبو حنيفة رحمه الله في الأخريين القراءةَ، بل خيره بين القراءة، والتسبيح، والسكوت، والجمهور على وجوب القراءة، وهو الصواب الموافق للسنن الصحيحة. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى بتغيير يسير

(1)

.

(1)

شرح مسلم جـ 4 ص 175.

ص: 459

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النووي رحمه الله من ترجيح مذهب الجمهور في وجوب القراءة في الركعتين الأخريين هو الصواب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وماتوفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 460

‌60 - الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأوَليَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة العصر.

978 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَة، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ بِـ"فَاتِحَةِ الْكِتَابِ"، وَسُورَتَيْنِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الأُولَى فِي الظُّهْرِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّبْحِ".

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء البَغْلَاني، ثقة ثبت من [10]، مات سنة 240، أخرج له الجماعة تقدم في 1/ 1.

2 -

(ابن أبي عدي) محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، نسب إلى جده، أبو عمرو البصري، ثقة من [9]، مات سنة 194 على الصحيح،

ص: 461

أخرج له الجماعة. تقدم في 122/ 175.

3 -

(حجاج الصوّاف) ابن أبي عثمان ميسرة، أو سالم، أبو الصَّلّت الكِنْدِيّ مولاهم البصري، ثقة حافظ من [6]، مات سنة 143، أخرج له الجماعة. تقدم في 12/ 790.

4 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدني، ثقة فقيه مكثر من [3] مات سنة 94، أخرج له الجماعة. تقدم في 1/ 1.

والباقون تقدموا، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به واضحة مما سبق.

ودلالة الحديث لما ترجم له المصنف رحمه الله واضحة. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

987 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِـ" {السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، و {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1]، وَنَحْوِهِمَا.

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس، أبو حفص البصري، ثقة حافظ

ص: 462

من [10]، مات سنه 247، أخرج له الجماعة. تقدم في 4/ 4.

2 -

(عبد الرحمن) هو ابن مهدي المتقدم في الباب الماضي.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصري، ثقة عابد، تغير بآخره، من كبار [8]، مات سنة 167، أخرج له الجماعة. تقدم في 18/ 288.

4 -

(سماك) بن حرب بن أوس بن خالد الذُّهْلي البكري، أبو المغيرة الكوفي، صدوق، روايته عن عكرمة مضطربة، وتغير بآخره، فكان ربما يُلَقَّن، من [4]، مات سنة 123، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة. تقدم في 2/ 325.

5 -

(جابر بن سَمُرَة) بن جُنَادة السُّوَائيّ، الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها سنة 70 ، أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 816. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله موثقون، والكلام في سماك في حديث عكرمة خاصة على الراجح، وأنهم من رجال

الجماعة، وأنهم بصريون، غير الصحابي وسماك فكوفيان، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة الذين يروون عنهم بدون واسطة، وقد تقدموا غير مرة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(جابر بن سمرة) رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في

ص: 463

الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1]) أي يقرأ بعد "الفاتحة" في الركعة الأولى السورة الأولى، وفي الثانية السورة الثانية (ونحوهما) أي كـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]، كما تقدم في 55/ 972، وكـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]، كما يأتي في الحديث التالي.

ثم إن الاختلافات في السور التي تقرأ بعد الفاتحة يُحمَل على اختلاف الأوقات والأحوال، فلا تنافي بين الأحاديث. والله تعالى

أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه المصنف هنا 60/ 979، وفي "الكبرى" 7/ 1051، وفي "التفسير" 11662 بالسند المذكور.

وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن موسى بن إسماعيل، عن حماد

ص: 464

ابن سلمة، عن سماك بن حرب، عنه. والترمذي فيه عن أحمد بن منيع، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة به.

وأخرجه أحمد 5/ 103 و 106 و 108، والدارمي برقم 1294 والبخاري في جزء القراءة برقم 296. والله تعالى أعلم. وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

980 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} [الليل: 1]، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ بِأَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(إِسحاق بن منصور) بن بَهْرَام الكَوْسَج، أبو يعقوب المروزي، ثقة ثبت من [11]، مات سنة 251، أخرج له البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 72/ 88.

2 -

(شعبة) الحجّاج الحجة الثبت من [7]، مات سنة 160، أخرج له الجماعة. تقدم في 24/ 26.

والباقون تقدموا قريبًا. والله تعالى ولي التوفيق.

ص: 465

شرح الحديث

(عن جابر بن سمرة) رضي الله عنهما، أنه (قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في) صلاة (الظهر {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1])، وفي رواية لمسلم من طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة بدل هذه السورة. "كان يقرأ في الظهر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] "، (و) يقرأ (في) صلاة (العصر نحو ذلك) أي سورة مثل {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] في طولها، (و) يقرأ (في) صلاة (الصبح بأطول من ذلك) أي بسورة أطول من السورة المذكورة.

وفيه ما بوب له المصنف، وهو مشروعية القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة العصر، وكذا الظهر.

وفيه استحباب قراءة هذه السورة ونحوها في الظهر والعصر، وقراءة أطول من ذلك في صلاة الصبح. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 466

أخرجه المصنف هنا -60/ 980، وفي "الكبرى" 7/ 1052 بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن محمد بن المثنى، عن ابن مهدي - وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي داود الطيالسي- كلاهما عن شعبة، عن سماك، عنه. وأبو داود فيه عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به. وأخرجه اين خزيمة برقم 510. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 467

‌61 - تَخْفِيفُ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على استحباب تخفيف القيام والقراءة في الصلاة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نسخ "المجتبى"، و"الكبرى"[تخفيف القيام والقراءة]، وكان الأولى أن يقول:[تخفيف القيام، والقعود]؛ إذ المراد بتخفيف القيام تخفيفُ القراءة، فلا فائدة في عطف أحدهما على الآخر؛ ولأنه الموافق لما يأتي في الحديث، حيث يقول:"ويخفف القيام والقعود" فتأمل. والله تعالى أعلم.

981 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَقَالَ: صَلَّيْتُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: يَا جَارِيَةُ هَلُمِّي لِي وَضُوءًا، مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِمَامِكُمْ هَذَا، قَالَ زَيْدٌ: وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَيُخَفِّفُ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ".

رجال هذا الإسناد: أربعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد تقدم قريبًا.

ص: 468

2 -

(العَطَّاف

(1)

بن خالد) بن عبد الله بن العاص المخزومي، أبو صفوان المدني، صدوق يهم من [7]، مات قبل مالك أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "القدر"، والترمذي، والنسائي، تقدم في 15/ 765.

3 -

(زيد بن أسلم) العدوي مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدني، ثقة عالم، يرسل من [3]، مات سنة 136، أخرج له

الجماعة، تقدم في 64/ 80.

4 -

(أنس بن مالك) الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو -69 - من رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدم غير مرة.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، من رجال الجماعة، غير العطاف، فهو صدوق يَهِمُ، وأخرج له المصنف، والترمذي، وأخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "القدر"، ولم يخرج له مسلم، ولا ابن ماجه.

ومنها: أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى 2286 حديثًا، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة 92 أو 93 وقد جاوز المائة. والله تعالى أعلم.

(1)

بفتح العين المهملة، وتشديد الطاء المهملة.

ص: 469

شرح الحديث

(عن زيد بن أسلم) أنه (قال: دخلنا على أنس بن مالك) رضي الله عنه، أي ليعودوه، لأنه كان مريضًا، ففي رواية أحمد رحمه الله جـ 3 ص 225: حدثنا عصام بن خالد، ويونس بن محمد، قالا: ثنا العطاف بن خالد، عن زيد بن أسلم، قال: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم انصرفنا إلى أنس بن مالك نسأل عنه، وكان شاكيًا، فلما دخلنا عليه سلمنا، قال: أصليتم؟

(فقال: أصليتم؟ قلنا: نعم، قال: يا جارية) نداء للأمة.

قال الفيومي: "الجارية": السفينة، سميت بذلك لِجَرْيِهَا في البحر، ومنه قيل للأمة جاريةٌ على التشبيه، لجريها مسخَّرَةً في أشْغَال مواليها، والأصل فيها الشابّة، لخفتها، ثم توسعوا حتى سَمَّوْا كلَّ أمة جارية، وإن كانت عجوزًا لا تقدر على السعي، تسميةً بما كانت عليه، والجمع الجَوَاري. انتهى

(1)

.

(هَلُمِّي لي وَضُوءًا) أي أحْضِري لي ماء أتوضأ به.

و"هَلُمَّ": بفتح الهاء، وضم اللام، وتشديد الميم: كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال:"تعال". قال الخليل: أصلها: "لُمَّ" من الضم والجمع، ومنه "لمَّ الله شَعَثَهُ"، وكأن المنادي أراد لُمَّ نفسَكَ إلينا،

(1)

المصباح ص 98.

ص: 470

و"ها" للتنبيه، وحذفت الألف تخفيفًا، لكثرة الاستعمال، وجُعِلَا اسمًا واحدًا. وقيل: أصلها "هَلْ أُمَّ" أي قُصِدَ، فنقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسَقَطت، ثم جُعِلا كَلمة واحدة للدعاء.

وأهل الحجاز ينادون بها بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والمفرد والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18].

وفي لغة نَجْدٍ تَلحَقُها الضمائرُ، وتُطَابَقُ، فيقال. "هلمي" و"هَلُمَّا" و"هَلُمُّوا"، و"هَلمُمْنَ"، لأنهم يجعلونها فِعْلًا، فيلحقونها الضمائر، كما يلحقونها "قُومِي"، و"قُما"، و"قُمُوا"، و"قُمْنَ".

وقال أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجميع من لغة عُقَيل، وعليه قَيْسٌ بَعْدُ، وإلحاق الضمائر من لغة تميم، وعليه أكثر العرب، وتستعمل لازمةً، نحو:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، أي أقْبِلْ، ومتعديةً، نحو:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُم} [الأنعام: 150] أي أحضروا. قاله الفيومي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: استعمال أنس رضي الله عنه هنا من الثاني، فقد نصب لها "وَضُوءًا".

و"الوضوء" هنا بالفتح: اسم للماء المتوضأ به. قال في "المصباح":

(1)

المصباح ص 640.

ص: 471

"الوَضُوءُ" بالفتح الماء يُتَوضأ به، وبالضم: الفعل، وأنكر أبو عبيد الضم، وقال: المفتوح اسم يقوم مقام المصدر، كالقَبُول يكون اسمًا ومصدرًا". انتهى

(1)

.

قال أنس رضي الله عنه: (ما صليت وراء إِمام أشبه) بالجر صفة لـ"إمام"، ونصب بالفتحة لكونه غير منصرف للوصفية ووزن الفعل، (صلاة) منصوب على التمييز (برسول الله صلى الله عليه وسلم من إِمامكم هذا)، يريد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، كما أشار إليه بقوله (قال زيد) أي ابن أسلم، (وكان عمر بن عبد العزيز يُتم الركوع والسجود) أي يؤديهما تامين، لا ينقص منهما الأذكار المسنونة فيهما، (ويخفف القيام) أي بتخفيف القراءة (والقعود) أي بتخفيف الدعاء الذي عقب التشهد.

وهذا محل الترجمة، حيث إن أنَسًا وصف صلاة عمر بن عبد العزيز بكونها مشابهة لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفف القيام والقعود.

وفيه منقبة عظيمة لعمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ حيث شهد له أنس رضي الله عنه، وكذا أبو هريرة رضي الله عنه في الحديث التالي على ما هو الظاهر، بأنه أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وزاد في رواية لأحمد في حديث أنس: "قال زيد: ما يَذْكُرُ في ذلك أبا بكر، ولا عمر".

(1)

المصباح ص 663.

ص: 472

قال الجامع: هذا فضل عظيم مِنَ الله تعالى على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، حيث إن أمراء بني أمية كانوا معروفين بتضييع الصلاة، وإخراجها عن وقتها، فأحْيَى رحمه الله تعالى هذه السنة التي أماتها أسلافه، وقام بها حقَّ القيام، حتى وصفه الصحابيان الجليلان -وقد كانا صليا وراء الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بأنهما ما صليا وراء إمام أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيا ليا مقبَةً تعلو المنقبات، وعطيّةً ربانية تسمو العطيات، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

تنبيه:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا صحيح.

فإن قلت: في سنده العطاف بن خالد، وهو متكلم فيه. قلت: يشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه التالي، فيصح به. والله تعالى

أعلم.

وهو من أفراد الصنف رحمه الله، من بين أصحاب الأصول، وأخرجه أحمد في "مسنده" جـ 3 ص 225. وبالله تعالى التوفيق، وهو

حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 473

982 -

أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:"مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فُلَانٍ، قَالَ: سُلَيْمَانُ: كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ الأُخْرَيَيْنِ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ، وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطُوَلِ الْمُفَصَّلِ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(هارون بن عبد الله) الحَمَّالُ أبو موسى البغدادي، ثقة من [10]، مات سنة 243، أخرج له مسلم، والأربعة، تقدم في 50/ 62.

2 -

(ابن أبي فُدَيك) محمد بن إسماعيل بن مسلم، أبو إسماعيل المدني، صدوق، من صغار [8]، مات سنة 180 على الصحيح، أخرج له الجماعة، تقدم في 51/ 962.

3 -

(الضَّحَّاك بن عثمان) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسدي الحِزَامي، أبو عثمان المدني، صدوق يَهِمُ من [7]، أخرج له مسلم والأربعة، تقدم في 33/ 37.

4 -

(بكير بن عبد الله) بن الأشج مولى بني مخزوم، أبو

ص: 474

عبد الله، أو أبو يوسف المدني، نزيل مصر، ثقة من [5]، مات سنة 120 وقيل بعدها، أخرج له الجماعة، تقدم في 135/ 211.

5 -

(سليمان بن يسار) الهلالي المدني، ثقة فاضل، أحد الفقهاء السبعة، من كبار [3]، مات بعد سنة 100، وقيل قبلها، أخرج له الجماعة، تقدم في 22/ 156.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا شيخه، والضحاك، فما أخرج لهما البخاري، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رئيس المكثرين من الرواية؛ روى -5374 - حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه (قال: ما صليتُ وراء أحد أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان) زاد أحمد في رواية: "إنسانًا قد سماه".

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أنه عمر بن عبد العزيز

ص: 475

رحمه الله، كما توضحه سياق الروايات، ففي رواية أحمد جـ 2 ص 329 - 330 - من طريق أبي بكر الحنفي، عن الضحاك بن عثمان:"ما رأيت رجلًا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان -لإمام كان بالمدينة- وفي رواية ابن خزيمة: "لأمير كان بالمدينة".

قال سليمان بن يسار: فصليت خلفه، فكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل.

قال الضحاك: وحدثني من سمع أنس بن مالك، يقول. ما رأيت أحدًا أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني عمر بن عبد العزيز- قال الضحاك: فصليت خلف عمر بن عبد العزيز، وكان يصنع مثل ما قال سليمان بن يسار. انتهى.

ففي هذا دلالة ظاهرة على أن عمر بن عبد العزيز هو الذي عناه أبو هريرة رضي الله عنه بقوله: "من فلان". والله تعالى أعلم.

(قال سليمان) بن يسار (كان) أي فلان المذكور، وفي رواية أحمد المذكورة:"قال سليمان بن يسار: فصليت خلفه، فكان يطيل الأوليين"

وفي رواية له من طريق عبد الله بن الحارث، عن الضحاك، قال الضحاك: فحدثني بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار، أنه قال: صليت وراء ذلك الرجل، فرأيته يطول الركعتين

ص: 476

الأوليين

(يطيل الركعتين الأوليين من) صلاة (الظهر، ويخفف الأخريين) أي منها، (ويخفف) صلاة (العصر ويقرأ في المغرب)، ولفظ أحمد "في الأوليين من المغرب"(بقصار المفصل) بضم الميم، وفتح الفاء، وفتح الصاد المهملة المشددة. قال النووي رحمه الله: سمي بذلك لكثرة الفصول فيه بين سُوَرِه، وقيل: لقلة المنسوخ فيه، وآخره {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]، وفي أوله مذاهب، سيأتي بيانها في الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

(ويقرأ في) صلاة (العشاء بوسط المفصل) سيأتي بيانه في الباب التالي أيضًا، وفي الرواية الآتية في الباب التالي من طريق عبد الله بن الحارث:"ويقرأ في العشاء بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، وأشباهها"

(ويقرأ في) صلاة (الصبح بطول المفصل) بضم الطاء المهملة، وفتح الواو جمع "طولى"، كفُضْلَى وفُضَل، وكُبْرَى وكُبَر، وفي نسخة "بطِوَال" بكسر الطاء، وفتح الواو، بعدها ألف، جمع طَوِيل ككَرِيم وكِرَام. أفاده في "المصباح"

(1)

.

وفي رواية عبد الله بن الحارث المذكورة: "ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين".

قال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى: هذا الاختلاف في القراءة من جهة المباح، جائز للمصلي أن يقرأ في المغرب، وفي

(1)

المصباح ص 381.

ص: 477

الصلوات كلها التي يزاد على فاتحة الكتاب فيها بما أحب، وشيئًا من سور القرآن، ليس بمحظور عليه أن يقرأ بما شاء من سور القرآن، غير أنه إذا كان إمامًا، فالاختيار له أن يخفف في القراءة، ولا يطول بالناس في القراءة فَيَفْتِنَهُم، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه:"أتريد أن تكون فتانًا"، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة أن يخففوا الصلاة، فقال:"مَنْ أمَّ منكم الناس فليخفف". انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن خزيمة رحمه الله حسن جِدًّا. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 61/ 982، وفي "الكبرى" 8/ 1054 بالسند المذكور. وفي 62/ 983، وفي "الكبرى" 9/ 1055 بالسند الآتي. والله تعالى أعلم.

(1)

راجع صحيح ابن خزيمة جـ 1 ص 261 - 262.

ص: 478

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن بندار، عن أبي بكر الحنفي، عن الضحاك بن عثمان، عن سليمان بن يسار، عنه. وأخرجه أحمد جـ 2 ص 300 و 329 و 532. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 479

‌62 - بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدالِّ على استحباب القراءة في صلاة المغرب بقصار المفصَّل.

اعلم: أنه قد اختلف في المعنى المراد بالمفصل على أقوال.

قال في "القاموس المحيط"، وشرحه: والمفصّل -كمُعَظَّم- من القرآن اختلف فيه، فقيل: من "سورة الحُجُرَات" إلى آخره في الأصح من الأقوال، أو من "الجاثية"، أو من "القتال"، أو من "ق"، وهذا عن الإمام محيي الدين النواوي، أو من "الصافات"، أو من "الصف"، أو من "تبارك"، وهذا يروى عن محمد بن إسماعيل بن أبي الصَّيفِ اليماني، أو من "إنا فتحنا"، وهذا عن أحمد بن كشاشب الفقيه الشافعي الذِّمَاري، أو من "سبح اسم ربك"، عن الفِرْكَاحِ فقيه الشام، أو من "الضحى"، عن الإمام أبي سليمان الخطابي رحمهم الله تعالى.

وسمي مفصلًا لكثرة الفصول بين سُوَرهِ أي لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، وقيل: لقصر أعداد سوره من الآي، أو لقلة المنسوخ فيه، وقيل غير ذلك.

وفي "الأساس": المفصل ما يلي المثاني من قصار السور. الطوال، ثم المثاني ثم المفصل

(1)

. انتهت عبارة "القاموس" وشرحه جـ 8 ص 60.

(1)

هكذا عبارة التاج، ولعل فيه سقطًا، والأصل: لأن ترتيبها الطوالُ، ثم المثاني، ثم المفصلُ. أو نحو ذلك من العبارات. فليحرر.

ص: 480

وقال في "الفتح": واختلف في المراد بـ"المفصل" مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن، هل هو من أول "الصافات"، أو "الجاثية"، أو "القتال"، أو "الفتح"، أو "الحجرات"، أو "ق"، أو "الصفّ"، أو "تبارك"، أو "سبح"، أو "الضحى" إلى آخر القرآن، أقوال أكثرها مستغرب، اقتصر النووي في "شرح المهذب" على أربعة من الأوائل، سوى الأول والرابع، وحكى الأول والسابع والثامن ابن أبي الصيف اليمني، وحكى الرابع والثامن الذماري في "شرح التنبيه"، وحكى التاسع المرزوقي في شرحه، وحكى الخطابي والماوردي العاشر، والراجح "الحجرات". ذكره النووي. ونقل المحب الطبري قولًا شاذًا أن المفصل جميع القرآن.

وأما ما ذكره الطحاوي من طريق زُرَارَة بن أوفى: أقرأني أبو موسى كتاب عمر إليه: "اقرأ في المغرب آخر المفصل، وآخرُ المفصل من {لَمْ يَكُنِ} إلى آخر القرآن"، فليس تفسيرًا للمفصل، بل لآخره، فدلّ على أن أوله قبل ذلك. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

وقال السندي رحمه الله: "المفصل" عبارة عن السُّبُعِ الأخير من القرآن، أوله "سورة الحجر"، سمي مفصلًا، لأن سوره قِصَار، كل

سورة كفصل من الكلام، قيل: طواله إلى "سورة عمّ"، وأوَساطه إلى الضحى، وقيل غير ذلك. انتهى

(2)

.

(1)

الفتح جـ 2 ص 496.

(2)

شرح السندي جـ 2 ص 167.

ص: 481

983 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فُلَانٍ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَ ذَلِكَ الإِنْسَانِ، وَكَانَ يُطِيلُ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ، وَيُخَفِّفُ فِي الْعَصْرِ، وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} [الشمس: 1] وَأَشْبَاهِهَا، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِسُورَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ.

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عبيد الله بن سعيد) السَّرَخْسِيُّ، ثقة ثبت، من [10]، ثلاثة أبواب.

2 -

(عبد الله بن الحارث) بن عبد الملك المخزومي، أبو محمد المكي، ثقة، من [8]، أخرج له مسلم والأربعة، تقدم في 7/ 504.

والباقون تقدموا في الباب الماضي. وكذا شرح الحديث، ومتعلقاته من المسائل.

ص: 482

وقوله: "فصلينا وراء ذلك الإنسان" إلخ من كلام سليمان بن يسار كما بُيِّنَ في الرواية السابقة في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 483

‌63 - الْقِرَاءَةُ في الْمَغْرِبِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية قراءة سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] في صلاة المغرب، والظاهر أن ذلك في ركعة منها، والله تعالى أعلم.

984 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِنَاضِحَيْنِ عَلَى مُعَاذٍ، وَهُوَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَصَلَّى الرَّجُلُ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ، أَلَا قَرَأْتَ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، وَ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} [الشمس: 1] وَنَحْوِهِمَا".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن بشار) بُندار، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، من [10]. تقدم في 24/ 27.

ص: 484

2 -

(عبد الرحمن) بن مهدي، أبو سعيد البصري الإمام الحجة الثبت، من [9]. تقدم في 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الكوفي الإمام الحجة الثبت، من [7]. تقدم في 33/ 37.

4 -

(مُحارب بن دِثَار) السَّدُوسي الكوفي القاضي، ثقة إمام زاهد، من [4]. تقدم في 16/ 652.

5 -

(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما، تقدم في 31/ 35.

ولطائف هذا الإسناد، وشرح الحديث، والمسائل المتعلقة به، قد مرت مستوفاة برقم 39/ 831. ولنوضح هنا بعض ما يُستَشْكَلُ:

قوله: "مر رجل" قد تقدم أنه لم يقع تسمية هذا الرجل في شيء من طرق هذا الحديث، وقد ذكروا في تسميته أقوالًا، قد مر ذكرها بالرقم المذكور.

وقوله: "بناضحين". تثينة "ناضح" هي الإبل التي يستقى عليها الماء، وجمعها نواضح.

وقوله: "يصلي المغرب"، قد تقدم بيان اختلاف الروايات في تعيين تلك الصلاة، أهي المغرب، أم العشاء؟، وترجيح القول بتعدد القصة بالرقم المذكور أيضًا.

ص: 485

وقوله. "ألا قرأت"، بتشديد اللام وتُخَفَّف، من أدوات التحضيض، كما في قوله تعالى:{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13]، وتأتي للعرض، والفوق بين التحضيض والعرض، أن التحضيض طلب بإزعاج، والعرض طلب بِلين. وأداوت التحضيض خمسة: لَوْلَا، وَلوْمَا، وهَلاّ مشددة، وألاّ مشددة أيضًا، وألَا مخففة، قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

لَوْلَا وَلَوْمَا يَلْزَمَانِ الابْتِدَا

إِذَا امْتِنَاعًا بِوُجُودٍ عَقَدَا

وبهِمَا التَّحْضِيضَ مِزْ وَهَلاَّ

ألاَّ ألَا وَأوْلِيَنْهَا الْفِعْلَا

وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرِ

عُلِّقَ أوْ بظَاهرٍ مُؤخَّرِ

(1)

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

راجع شرح الألفية لابن عقيل مع حاشية الخضري جـ 2 ص 132.

ص: 486

‌64 - الْقِرَاءَةُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {الْمُرْسَلَاتِ}

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على مشروعية القراءة بسورة {الْمُرْسَلَاتِ} في صلاة المغرب أحيانًا.

985 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، قَالَتْ:"صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ {الْمُرْسَلَاتِ} [المرسلات: 1]، مَا صَلَّى بَعْدَهَا صَلَاةً حَتَّى قُبِضَ صلى الله عليه وسلم".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائي ثقة ثبت من [11]، أخرج له النسائي تقدم في 108/ 141.

2 -

(موسى بن داود) الضبي، أبو عبد الله الطَّرَسُوسيّ الخُلْقَاني الفقيه، كوفي الأصل، سكن بغداد، صدوق فقيه زاهد، له أوهام، من صغار [9].

ص: 487

قال ابن نمير: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة صاحب حديث، ولي قضاء طرسرس إلى أن مات بها.

وقال ابن عمار الموصلي: كان قاضي الْمِصِّيصَة، وكان زاهدًا صاحب حديث ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ في حديثه اضطراب. وقال الدارقطني: كان مصنفًا مكثرًا مأمونًا، وولي قضاء الثغور، فحُمِدَ فيها. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: مات سنة (217). وقال مطين: مات سنة (216) أو (17). روى له مسلم حديث أبي سعيد في الشك في الصلاة فقط، واستشهد به الترمذي في حديث في صيام التطوع. وذكر الجاحظ أنه كان فصيحًا خطيبًا فاضلًا. روى له الجماعة سوى البخاري

(1)

.

3 -

(عبد العزيز بن أبي سلمة الماجِشُون) هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدني نزيل بغداد، ثقة فقيه مصنف، من [7]، مات سنة، 164 أخرج له الجماعة. تقدم في 17/ 897.

4 -

(حميد) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصري، ثقة مدلس، من [5]، مات سنة 142 أو 143، أخرج له الجماعة. تقدم في 87/ 108.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6.

(1)

تهذيب التهذيب. ولم يذكر ممن روى له الترمذي، والظاهر أنه منهم، فقد استشهد به؛ فتنبه.

ص: 488

6 -

(أم الفضل بنت الحارث) هي لبابة بنت الحارث بن حَزْن بن بُجَير بن الهُزَم بن رُويبة بن عبد الله بن هِلَال بن عامر بن صَعصَعَة، الهلالية، وهي زوج العباس بن عبد المطلب، وأخت ميمونة أم المؤمنين لأبويها، وأخت أم حفيد، واسمها هُزَيلَة بنت الحارث، ولهن أختان من أمهن: سلمى، وأسماء بنتا عُمَيس، وأختهن لبابة أم خالد ابن الوليد، وهي "الكبرى" وقيل: الصغرى، واسمها عصماء، ويقال: بل عصماء أخت أخرى لهن.

روت من النبي صلى الله عليه وسلم. وعنها ابناها عبد الله، وتمام، ومولاها عمير بن الحارث، وأنس بن مالك، وقابوس بن أبي الْمُخَارق، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وكريب مولى ابن عباس.

قال ابن عبد البر: يقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها، ويقيل عندها، وكانت من المنجبات، ولدت للعباس ستة رجال، لم تلد امرأة مثلهم، وهم: الفضل، وبه كانت تكنى، ويكنى زوجها العباس أيضًا أبا الفضل، وعبد الله الفقيه، وعبيد الله، وقُثَم، ومَعْبَد، وعبد الرحمن، وأم حبيبة سابعة، وفي أم الفضل يقول عبد الله بن يزيد الهلالي [من الرجز]:

مَا وَلَدَتْ نَجِيبَةٌ مِن فَحْلِ

بِجَبَلٍ نَعْلَمُهُ أوْ سهْلِ

كسِتَّةٍ مِنْ بَطْنِ أمّ الْفَضْلِ

أكْرِمْ بِهَا مِنْ كَهْلَةٍ وَكَهْلِ

عَمِّ النَّبِيِّ الْمُصْطَفى ذِي الْفَضْلِ

وَخَاتِمِ الرُّسْلِ وَخَيْرِ الرُّسْلِ

ص: 489

قال: وأخوات أم الفضل لأبيها وأمها: ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولبابة الصغرى، وعَصماء، وعَزَّة، وهُزَيلَة، أخوات لأب وأم، كلهن بنات الحارث بن حَزن الهلالي، وأخواتهن لأمهن: أسماء، وسلمى، وسلامة بنات عميس الخَثْعَميات، وأخوهن لأمهن مَحْميَة جَزْء الزُّبيدِيّ، فهن لست أخوات لأب وأم، وتسع أخوات لأم، أمهن كلهن هند بنت عوف الكنانية، وقيل: الحِمْيَرية، قالوا: وهي العجوز التي قيل فيها: أكرمُ الناسِ أصهارًا، وقد قيل: إن زينب بنت خزيمة الهلالية أختهن لأمهن أيضًا.

وروى الدراوردي عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس أن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم قال:"الأخوات الأربع مؤمنات: ميمونة بنت الحارث، وأم الفضل، وأسماء، وسلمى".

قال ابن حبان في "الصحابة": ماتت قبل زوجها

(1)

العباس بن عبد المطلب في خلافة عثمان رضي الله عنهم. أخرج لها الجماعة

(2)

. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سُدَاسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وأن شيخه ممن انفرد هو بهم ، وأن فيه رواية صحابي عن صحابية. والله

تعالى أعلم.

(1)

في "ت": "بعد زوجها"؛ فليحرر.

(2)

تهذيب الكمال جـ 35 ص 297 - 298. تهذيب التهذيب جـ 12 ص 449 - 450.

ص: 490

شرح الحديث

(عن أم الفضل بنت الحارث) رضي الله تعالى عنها، أنها (قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته الغرب) وفي رواية أحمد جـ 6 ص 338 - : "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته متوشحًا في ثوب المغرب" .. (فقرأ المرسلات) أي قرأ فيها "سورة المرسلات"، (ما صلى بعدها صلاة) أي لم يُصَلِّ بعد تلك الصلاة إمامًا للناس (حتى قبض صلى الله عليه وسلم) بالبناء للمجهول، أي حتى مات.

فإن قلت: هذا الحديث يفيد أن آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بالناس هي المغرب، وقد ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها:"أن آخر صلاة صلاها هي الظهر"، فكيف يوفق بينهما؟

قلت:

يوفق بأن الصلاة التي حكتها أم الفضل كانت في بيته، كما بينته رواية المصنف هنا، والصلاة التي حكتها عائشة كانت في المسجد. والله أعلم.

فإن قيل: يعكر على هذا الجمع رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب في حديث أم الفضل بلفظ: "خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب

" الحديث. أخرجه الترمذي.

أجيب: بأن قولها: "خرج إلينا" أي من مكانه الذي كان راقدًا فيه

ص: 491

إلى من في البيت، فصلى بهم، فتلتئم الروايات

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

تنبيه:

حديث أم الفضل رضي الله عنها هذا صحيح.

وهو من أفراد الصنف رحمه الله، أخرجه هنا 64/ 986، وفي "الكبرى" 11/ 1057 بالإسناد المذكور. وأخرجه أحمد جـ 6 ص 338. والله تعالى أعلم.

تنبيه آخر:

قال الحافظ رحمه الله في "النكت الظراف": حديث أنس عن أم الفضل: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته المغرب

" إلخ. قلت: رواه أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِيُّ في "مسنده" عن موسى بن وَرْدَان، كما رواه النسائي عن عمرو بن منصور. وأخرجه البلاذُري عن الدوري.

وقال ابن أبي حاتم في "العلل" جـ 1 ص 84: سألت أبي وأبا زرعة، عن هذا الحديث؟ فقالا: هذا خطأ. قال أبو زرعة: إنما رواه الثوري، ومعتمر، عن حميد، عن أنس فقط. فدخل لموسى حديث في حديث، فيحتمل أنه كان عنده حديث عبد العزيز، قال: ذكر لي عن أم الفضل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بـ"المرسلات"، وكان إلى جانبه حميد، عن أنس، فأسبقه، قال: وقال أبي: يوضح هذا أن كاتب الليث حدثنا عن

(1)

راجع الفتح جـ 2 ص 492.

ص: 492

عبد العزيز الماجشون، عن حميد، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في ثوب واحد. وقال عبد العزيز: وذكر لي عن أم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بـ"المرسلات"، وهذا كان آخر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبض، فجعل موسى الحديث كله عن أم الفضل. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر في "النكت"، والذي في "علل ابن أبي حاتم" أن الذي سأل عنه ابن أبي حاتم أباه وأبا زرعة فأعَلاَّه ليس هو هذا الحديث، وإنما هو حديث رواه موسى بن داود، عن الماجشون، عن حميد، عن أنس، عن أم الفضل:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد". راجع العلل جـ 1 ص 84 - 85.

ومهما كان الأمر فالعلة في الإسناد فقط، فلا تقدح في المتن، فإنه ثابت عن أم الفضل رضي الله عنهما بطرق صحيحة، ومنها الآتي بعد هذا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

986 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُمِّهِ، "أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {الْمُرْسَلَاتِ} ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.

ص: 493

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت، من [8]، تقدم في 1/ 1.

3 -

(الزهري) محمد بن مسلم المدني الإمام الحافظ الحجة الثبت، أخرج له الأربعة، تقدم في 1/ 1.

4 -

(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه، من [3]، مات سنة 94 على الأصح، تقدم في 45/ 56.

5 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدم في 27/ 31.

6 -

(أم الفضل) رضي الله عنهما تقدمت في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، وأنهم مدنيون، سوى شيخه؛ فبغلاني، وسفيان؛ فكوفي، ثم مكي. وفيه رواية تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابية، ورواية الابن عن أمه. وفيه أحد الفقهاء السبعة: عبيد الله، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس، عن أمه) لبالة بنت الحارث رضي الله عنهم. قال في "الفتح": ويقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، والصحيح أنها

ص: 494

أخت عمر، زوج سعيد بن زيد، لما في "المناقب" من "صحيح البخاري" من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، قال:"لقد رأيتني، وعمر موثقي وأخته على الإسلام". واسمها فاطمة

(1)

.

(أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {الْمُرْسَلَاتِ}) ولفظ "الكبرى" في "التفسير" من طريق مالك: أن أم الفضل سمعته يقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]، فقالت: يا بني ذكّرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب". ونحوه في رواية الشيخين. زاد في رواية لمسلم من طريق صالح بن كيسان، عن الزهري: "ثم ما صلى بعدُ حتى قبضه الله عز وجل". والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أم الفضل رضي الله عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -64/ 986 - وفي "الكبرى" 11/ 1058 - عن قتيبة، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عنها رضي الله تعالى عنهم. وفي "التفسير" 11641 عن محمد بن سلمة،

(1)

راجع الفتح جـ 2 ص 492.

ص: 495

والحارث بن مسكين- كلاهما عن ابن القاسم، من مالك، عن ابن شهاب به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة. فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك به. وعن يحيى بن بُكَير، عن الليث، عن عُقَيل، عن الزهري له.

ومسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، كلاهما عن ابن عيينة- وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس- وعن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حُمَيد، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر - وعن عمرو الناقد، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح ابن كيسان- كلهم عن الزهري به.

وأبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك به. والترمذي فيه عن هناد، عن عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري به. وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وهشام بن عمار كلاهما عن ابن عيينة به.

وأخرجه الحميدي جـ 338، وأحمد جـ 6/ 338 و 340، وعبد بن حميد برقم 1585، والدارمي 1298، وابن خزيمة 519. وبالله تعالى التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 496

‌65 - الْقِرَاءَةُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {الطُّورِ}

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية القراءة في صلاة المغرب بسورة {الطُّورِ} أحيانًا.

987 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {الطُّورِ} ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور في الباب الماضي.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المجتهد الثبت الحجة، من [7]، مات سنة 179، تقدم في 7/ 7.

3 -

(الزهري) المذكور في السند الذي قبله.

4 -

(محمد بن جُبَير بن مطعم) بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ابن قصي، القرشي النوفلي، أبو سعيد المدني، أخو نافع بن جبير، ثقة عارف بالنسب من [3].

روى عن أبيه، وعمر، وابن عباس، ومعاوية، وعبد الله بن عدي ابن الحَمْرَاء. وروى عنه أولاده: عمر، وجبير، وسعيد،

ص: 497

وإبراهيم، وسعد بن إبراهيم، والزهري، وعمرو بن دينار، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وقال: قال محمد بن عمر: توفي في خلافة سليمان بن عبد الملك، وكان ثقة قليل الحديث. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن خراش: ثقة. وقال البخاري: نَسَبَهُ لي ابنُ أبي أويس، عن ابن إسحاق، قال: وكان أعلم قريش بأحاديثها، وقد كان أبوه من أنسب قريش لقريش، وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب عن أبي بكر الصديق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال خليفة بن خياط، وغيره: مات في خلافة عمر ابن عبد العزيز، وذكر ابن سعد أن أبا مالك الحميري قال: رأيت نافع بن جبير يوم مات أخوه قد ألقى رداءه عن ظهره، وهو يمشي. وهذا يدل على أن محمدًا لم يبق إلى خلافة عمر بن عبد العزيز، فإن أخاه نافعًا بقي بعده، ولم يدركها.

قال الحافظ: ولم يصح سماعه من عمر بن الخطاب، فإن الدارقطني نص على أن حديثه عن عثمان مرسل. انتهى

(1)

. أخرج له الجماعة.

5 -

(جبير بن مطعم) بن عديّ بن نوفل القرشي النوفلي، صحابي عارف بالإنساب، مات سنة 58 أو 59، أخرج له الجماعة تقدم

في 158/ 250.

(1)

تهذيب الكمال جـ 24 ص 573 - 575. تهذيب التهذيب جـ 9 ص 91 - 92.

ص: 498

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، وأنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه وإن كان بغلانيًا، إلا أنه

دخلها، وفيه رواية تابعي عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن محمد بن جبير بن مطعم) وفي رواية ابن خزيمة من طريق سفيان، عن الزهري:"حدثني محمد بن جبير" فصرح بالتحديث، (عن أبيه) جبير بن مطعم رضي الله عنه، أنه (قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {الطُّورِ} زاد البخاري في "الجهاد" من صحيحه من طريق محمد بن عمرو، عن الزهري:"وكان جاء في أسارى بدر"، ولابن حبان من طريق محمد بن عمرو، عن الزهري:"في فداء أهل بدر". وزاد الإسماعيلي من طريق معمر: "وهو يومئذ مشرك".

وللبخاري في "المغازي" من طريق معمر أيضًا في آخره، قال:"وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي". وللطبراني من رواية أسامة ابن زيد، عن الزهري نحوه، وزاد:"فأخذني من قراءته الكرب". ولسعيد بن منصور، عن هشيم، عن الزهري:"فكأنما صُدِع قلبي حين سمعت القرآن".

واستدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا في

ص: 499

حال الفسق؛ إذا أدأه في حال العدالة. قاله في "الفتح"

(1)

.

وإلى هذه المسألة أشار السيوطي رحمه الله في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَمَنْ بِكُفْرٍ أوْ صِبًا قَدْ حَمَلَا

أوْ فِسْقِهِ ثُمَّ رَوَى إِذْ كَمَلَا

يَقْبَلُهُ الْجُمْهُورُ والْمُشْتَهِرُ

لَاسِنَّ لِلحَمْلِ بَلِ الْمُعْتَبَرُ

تَمْيِيزُهُ أن يَفْهَمَ الْخِطَابَا

قَدْ ضَبَطُوا وَرَدّهُ الْجَوَابَا

والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 65/ 987، وفي "الكبرى" 12/ 1059 بالسند المذكور، وفي "التفسير"، 11528 - عن قتيبة، عن مالك، وعن

الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، من مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

(1)

جـ 2 ص 494.

ص: 500

أخرجه البخاري من عبد الله بن يوسف، عن مالك به. وعن الحميدي، من ابن عيينة، عن الزهري به.

وعن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري به.

ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، عن مالك به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، كلاهما عن ابن عيينة، عن مالك به. وعن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق به. وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري به.

وأبو داود فيه عن القعنبي عن مالك به. وابن ماجه عن محمد بن الصباح، عن ابن عيينة به.

وأخرجه (الحميدي) برقم 556، و (أحمد) جـ 4 ص 80 و 83 و 84 و 85، و (الدارمي) رقم 1299، و (ابن خزيمة) 514 و 1589. وبالله تعالى التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 501

‌66 - الْقِرَاءَةُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {حم الدخان}

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية القراءة بسورة "حم الدخان" في صلاة المغرب.

988 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، -وَذَكَرَ آخَرَ- قَالَا: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ حَدَّثَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، حَدَّثَهُ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِـ"حم الدُّخَانِ"".

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىُ) أبو يحيى المكي، ثقة، من [10]، مات سنة 256، أخرج له النسائي، وابن ماجه. تقدم في 11/ 11.

تنبيه:

"المقرئ" بالجر صفة لعبد الله بن يزيد، لا لمحمد، خلافَ ما ضُبِطَ بالقلم في نسخ "المجتبى" بالرفع صفةً لمحمد، فإنه غير صحيح، لأن المعروف بالإقراء هو عبد الله، فقد أقرأ الناس القرآن نيفًا وسبعين سنة.

ص: 502

قال محمد بن عاصم الأصبهاني: سمعت المقرئ -يعني عبد الله بن يزيد- يقول: أنا ما بين التسعين إلى المائة، وأقرأت القرآن بالبصرة ستًا وثلاثين سنة، وها هنا بمكة خمسًا وثلاثين سنة.

انظر ترجمته في "تت" جـ 6 ص 84. وأما محمد فلم يصفه أحد بكونه مقرئًا، فتنبه. والله تعالى أعلم.

2 -

(عبد الله بن يزيد) المقرئ، أبو عبد الرحمن المكي، بصري الأصل، ثقة فاضل، من [9]، مات سنة 213، أخرج له الجماعة. تقدم في 4/ 746.

3 -

(حَيْوَة) بن شُرَيح بن صفوان التُّجيِبي، أبو زرعة المصري، ثقة ثبت فقيه زاهد من [7]، مات سنة 158 أو 159، أخرج له الجماعة. تقدم في 17/ 478.

قال الجامع عفا الله عنه. (قوله: وذكر آخر) أي وذكر عبد الله ابن يزيد مع حيوة رجلًا آخر. وهو عبد الله بن لَهِيعَةَ، كما بينه الحُفاظ: المزي، وابن حجر، وابن رجب رحمهم الله تعالى.

فقد ذكر في "تهذيب الكمال"، و"تهذيب التهذيب" في ترجمة ابن لهيعة ما حاصله: روى له مسلم مقرونًا بعمرو بن الحارث، وروى له البخاري في "الفتن" من صحيحه عن المقرئ، عن حيوة، وغيره، عن أبي الأسود، قال:"قُطِع على أهل المدينة بَعْث"

الحديث. وروى في "الاعتصام"، وفي "تفسير سورة النساء"، وفي آخر الطلاق، وفي عدة مواضع هذا مقرونًا، ولا يسميه، وهو ابن لهيعة، لا شك فيه.

ص: 503

وروى النسائي أحاديث كثيرة من حديث ابن وهب وغيره، ويقول فيها عن عمرو بن الحارث، وذكر آخر، وعن فلان وذكر آخر، ونحو ذلك، وجاء كثير من ذلك في رواية غيره مبينًا أنه ابن لهيعة. انتهى

(1)

.

وذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح علل الترمذي" في ترجمة ابن لهيعة. ما نصه: خرّج حديثه مسلم مقرونًا بعمرو بن الحارث، وأما البخاري، والنسائي، فإذا ذكرا إسنادًا فيه ابن لهيعة وغيرُه سميا ذلك الغير، وكنيا عن اسم ابن لهيعة، ولم يسمياه. انتهى

(2)

.

فتبين بهذا أن المصنف رحمه الله تعالى إذا قال: حدثنا فلان وذكر آخر، أو نحو ذلك، يريد ابن لهيعة. فتفطن لهذه القاعدة، واجعلها نُصْبَ عينيك، تنتفع بها فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

4 -

(جعفر بن ربيعة) بن شُرَحْبيل بن حَسَنَةَ الكِنْديّ، أبو شُرَحبيل المصري، ثقة، من [5]، مات سنة 136، أخرج له الجماعة، تقدم في 22/ 173.

5 -

(عبد الرحمن بن هُرْمُز) الأعرج، أبو داود المدني، ثقة ثبت عالم، من [3]، مات سنة 117، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.

6 -

(معاوية بن عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب الهاشمي المدني، ثقة

(3)

، من [4].

(1)

تت جـ 5 ص 377. وتك جـ 15 ص 502 - 503.

(2)

شرح علل الترمذي جـ 2 ص 422.

(3)

قال عنه في "ت": مقبول. اهـ، وفيه نظر، فقد روى عنه جماعة، ووثقه العجلي، وابن حبان، والذهلي، ولم يتكلم أحد بجرحه، فالصواب أنه ثقة.

ص: 504

روى عن أبيه، ورافع بن خديج، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وعبيد الله بن أبي رافع. وعنه ابنه عبد الله، والأعرج، ويزيد بن الهاد، والزهري، وإبراهيم بن محمد، وإسحاق بن يحيى بن طلحة، والحسن بن زيد بن الحسن بن علي، وغيرهم.

قال العجلي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الذهبي في "الكاشف" جـ 3 ص 158: ثقة.

وذكر الزبير بن بكار: حدثني محمد بن إسحاق ابن جعفر، عن عمه محمد بن جعفر: أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أوصى إلى ابنه معاوية، وهو في مرض موته، وفي ولده من هو أسن منه، قال: فلم يزل معاوية يحت الذي قضاء دين أبيه، ويطلب فيه إلى أن قضاه، وقسم أموال أبيه بين ولده، ولم يستأثر عليهم بشيء، ويقال. إن الدَّيْنَ كان ألف ألف. ذكره البخاري في "اللباس" من صحيحه، وروى له النسائي حديثًا، عن أبيه، في "النهي عن المثلة"

(1)

، وابن ماجه آخر

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا في "تهذيب الكمال" و "تهذيب التهذيب" عند النسائي له حديث واحد في "المثلة". قلت: يزاد له حديث الباب، فيكون له عنه حديثان. والله تعالى أعلم.

7 -

(عبد الله بن عتبة بن مسعود) الهذلي، أبو عبد الله،

(1)

راجع "المجتبى" جـ 7 ص 238.

(2)

تهذيب الكمال جـ 28 ص 196 - 198. تهذيب التهذيب جـ 10 ص 212 - 213.

ص: 505

ويقال: أبو عبيد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن المدني، ويقال: الكوفي، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورآه، وهو خماسي، أو سُدَاسي

(1)

.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمه عبد الله بن مسعود، وعمر، وعمار، وعمر بن عبد الله بن الأرقم مكاتبة، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه ابناه: عبيد الله، وعون، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر، وأبو إسحاق السبيعي، وعامر الشعبي، وعبد الله بن معبد الزمّاني، ومحمد بن سيرين، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة رفيعًا كثير الحديث والفتيا فقيهًا. وقال العجلي: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يؤم

الثاس بالكوفة، مات في ولاية بشر بن مروان سنة (74).

وذكره العقيلي في الصحابة، وروى من طريق حُديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عنه:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي"

الحديث وقد وهم حديج فيه، والصواب أنه من رواية عبد الله، عن عمه عبد الله بن مسعود، وقد سبق ابن عبد البر لرد ذلك في "الاستيعاب".

وذكره ابن البَرْقي فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت له عنه رواية. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة، ممن ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأنا الفضل بن دُكَين، أنا ابن عيينة، عن الزهري أن عمر استعمل عبد الله بن عتبة على السوق

الحديث. قال محمد ابن عمر: مات في ولاية بشر على العراق، وكان ثقة رفيعًا إلى آخر

(1)

أي ابن خمس سنين، أو ست.

ص: 506

كلامه. وقال خليفة: مات سنة 73 أو 74 وأرخه ابن قانع سنة 73. أخرج له الجماعة سوى الترمذي

(1)

. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وأن الأوَّلَينِ مكيان، والثالث والرابع مصريان، والباقون مدنيون.

ومنها: أنه مسلسل بالإخبار والتحديث.

ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: جعفر، وعبد الرحمن بن هرمز، ومعاوية بن عبد الله، وعلى قول من قال: إن

عبد الله بن عتبة تابعي- يكونون أربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(أن عبد الله بن عتبة حدثه) أي معاوية بن عبد الله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الغرب بـ {حم} [الدخان: 1] الدّخان) أي بسورة تسمى بهذا الاسم، و"الدخان" يحتمل الجرَّ على البدلية، والنصب على أنه مفعول لفعل محذوف، تقديره "أعني"، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره:"هي الدخان".

ثم إنه يحتمل أن يكون قرأها في ركعتين، كما يأتي في الباب التالي في حديث عائشة رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف في

(1)

تهذيب الكمال جـ 15 ص 269 - 271. تهذيب التهذيب جـ 5 ص 311.

ص: 507

المغرب، فرقها في ركعتين". ويحتمل أنه قرأها في ركعة. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث

المسألة الأولى: حديث عبد الله بن عتبة رضي الله عنه هذا صحيح. وهو من أفراده، أخرجه هنا-66/ 988، وفي "الكبرى" 13/

1060 -

بالإسناد المذكور.

المسألة الثانية: إن قال قائل: إن عبد الله بن عتبة قال عنه الحافظ في التقريب: من كبار الثانية، فجعله تابعيًا، وكذا قال العجلي: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، فيكون حديثه مرسلًا، فكيف يصح؟.

قلت: الراجح عندي ما مشى عليه الحافظ في "الإصابة"؛ حيث ذكره في القسم الأول، وهو من وردت صحبته بطريق الرواية عنه، أو عن غيره، سواء كانت الطريقة صحيحة، أو حسنة، أو ضعيفة، أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة بأي طريق كان.

فعبد الله بن عتبة هذا قد أثبت الحفاظ له الصحبة، فَعَدّه البَرْقي، فيمن أدركه صلى الله عليه وسلم، وابن سعد فيمن ولد في عهده. وقال الحافظ المزي رحمه الله في ترجمته من "تهذيب الكماك" جـ 15 ص 269: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه، وهو خماسي، أو سداسي. انتهى. أي ابن خمس

ص: 508

سنين، أو ست. وقال الذهبي في "الكاشف" جـ 2 ص 107: من أبناء المهاجرين، له رؤية. انتهى.

وقال الحافظ في "الإصابة": كان صغيرًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حفظ عنه يسيرًا. قال أبو عمر: ذكره العقيلي في الصحابة، وخلط، وإنما هو تابعي. قلت

(1)

: المعروف أن أباه مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن البَرْقي فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه رواية. قال: وذكره ابن سعد فيمن ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم روى بسند صحيح إلى الزهري أن عمر استعمله على السوق. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ولهذا ذكرته في هذا القسم

(2)

لأن عمر لا يستعمل صغيرًا؛ لأنه مات بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة، وتسعة أشهر، فأقل ما يكون عبد الله أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ست سنين، فكان عمدة العُقَيلي في ذكره في "الصحابة"، وقد اتفقوا على ثقته. انتهى المقصود من "الإصابة". جـ 6 ص 152 - 153.

قال الجامع: فتبين بهذا أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان معه ست سنين على الأقل. فيقدم ما حققه الحافظ في "الإصابة" من ثبوت صحبته على ما ذكره في "ت" وغيره من أنه من ثقات التابعين؛ لأن الكتاب موضوع لتمييز الصحابة، فقصة تولية عمر رضي الله عنه الصحيحة أقوى دليل

(1)

القائل الحافظ ابن حجر.

(2)

أي القسم الأول الذي ذكر معناه قريبًا.

ص: 509

على ذلك، وقد تقدم قول الحافظ المزي رحمه الله: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خماسي، أو سداسي.

وقد ثبت عند أهل الحديث أن من روى قصة أدركها يكون متصلًا، قال السيوطي رحمه الله في "ألفية الحديث":

وَكلّ مَنْ أدْرَكَ مَاَ لَه رَوَى

مُتَّصِلٌ وَغَيْرُهُ قَطْعًا حَوَى

وقد اتضح بما سبق أن عبد الله بن عتبة أدرك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب {حم الدخان} ، فيكون متصلًا، فحديثه صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

تنبيه:

أورد الشيخ الألباني هذا الحديث في "ضعيف النسائي" ص 33، وقال: ضعيف الإسناد. اهـ.

قلت: لا أدري من أين جاء له ضعف الإسناد؟ فإنه صحيح، إلا أنه اختلف في صحبة عبد الله بن عتبة، كما عرفت، وهذا لا يقتضي

ضعف الإسناد. فليتنبه. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 510

‌67 - الْقِرَاءَةُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {المص} [الأعراف: 1]

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية القراءة بسورة {المص} [الأعراف: 1].

989 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ:"يَا أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ، أَتَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] وَ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} [الكوثر: 1]؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَحْلُوفَةٌ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِيهَا بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ، {المص (1)} [الأعراف: 1] ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن سلمة) المرادي الجَمَلِي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت، من [11]، مات سنة 248، أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 19/ 20.

2 -

(ابن وهب) عبد الله، القرشي مولاهم، أبو محمد المصري، ثقة حافظ عابد، من [9]، مات سنة 197 وله 72 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 63/ 79.

ص: 511

3 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري مولاهم، أبو أيوب المصري، ثقة فقيه حافظ، من [7]، مات قبل سنة 150، أخرج له الجماعة، تقدم في 63/ 79.

4 -

(أبو الأسود) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني نزيل مصر، يتيم عروة

(1)

، ثقة، من [6]، مات سنة بضع وثلاثين ومائة، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 746.

5 -

(عروة بن الزبير) بن العوام، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه من [3]، مات سنة 94، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 44.

6 -

(زيد بن ثابت) بن الضحاك الأنصاري النجاري، أبو سعيد، وأبو خارجة، الصحابي المشهور كاتب الوحي، مات سنة 45 أو 48 وقيل: بعد سنة 50، أخرج له الجماعة، تقدم في 122/ 179. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاري، ولا الترمذي.

ومنها: أنه مسلسل بالمصريين، سوى عروة وزيد فمدنيان.

(1)

قيل له: يتيم عروة لأن أباه أوصى به إلى عروة بن الزبير، وكان أبوه من مهاجرة الحبشة.

ص: 512

ومنها: أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن زيد بن ثابت) رضي الله عنه (أنه قال لمروان) هكذا وقع عند المصنف رحمه الله في هذه الرواية من طريق أبي الأسود، عن عروة، عن زيد بن ثابت، أنه قال لمروان

ووقع في الرواية التالية من طريق ابن أبي مليكة، أن عروة أخبره، أن مروان بن الحكم أخبره، أن زيد بن ثابت قال

وهو الذي في البخاري وغيره، فشيخ عروة في هذه الرواية هو زيد بن ثابت، وفي الرواية الآتية هو مروان بن الحكم، ولا تنافي بين الروايتين لإمكان الجمع بأن عروة سمعه من مروان عن زيد، ثم لقي زيدًا فأخبره به، ويؤيد هذا الجمع ما وقع عند الطحاوي في "شرح معاني الآثار" جـ 1 ص 211 - من التصريح بالإخبار بين عروة وزيد. والله تعالى أعلم.

ومروان: هو ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو عبد الملك الأموي المدني، ولي الخلافة في آخر سنة 64، ومات سنة خمس في رمضان، وله 63 أو 61 سنة، لا يثبت له صحبة من الطبقة الثانية، تقدمت ترجمته في 118/ 163.

(يا أبا عبد الملك) كنية مروان (أتقرأ في المغرب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]) وفي الرواية التالية من طريق ابن أبي مليكة: "ما لي أراك تقرأ بقصار السور"، وفي رواية البخاري:"مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل"، (قال)

ص: 513

مروان (نعم. قال) زيد رضي الله عنه: (فمحلوفةً) أي قَسَمًا بالله، قال ابن منظور رحمه الله تعالى: ويقولون: مَحْلُوفَةً بالله ما قال ذلك. ينصبون على إضمار "يَحْلِفُ بالله مَحْلُوفَةً"، أي قَسَمًا. وَالمَحْلُوفَةُ: هو الْقَسَمُ. انتهى

(1)

.

فتقدير كلام زيد رضي الله عنه: أحلف مَحلُوفةً بالله، أي أقْسِمُ قَسَمًا به، فـ"محلوفة" منصوب بالفعل المقدر.

وفي رواية الطحاوي المتقدمة: "قال زيد: فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ

".

وأما ما وقع في نسخ "المجتبى" المطبوعة من ضبطه بالقلم بالرفع، فإن صحت الرواية به، يؤول على أنه مبتدأ سوغه عمله في المقدر: أي بالله، وخبره محذوف، أي حاصل، أي قسمي بالله حاصل وواقع.

وأما ما أشار إليه في هامش الهندية، وكذا في هامش طبعة "دار المعرفة" من أنه وقع في بعض النسخ بدل "فمحلوفة""فمخلوقة" بالقاف، فلا وجه له، بل هو تصحيف. والله تعالى أعلم.

(لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها) أي في المغرب (بأطول الطوليين) أي بأطول السورتين الطويلتين، فـ"الطولَيين" تثنية "الطولى"، وهي تأنيث "أطول".

ووقع عند البخاري في رواية الأكثر: "بطولى الطوليين"، وفي رواية

(1)

لسان العرب جـ 1 ص 963.

ص: 514

كريمة "بطُوْل" بضم الطاء، وسكون الواو، ووجهه الكرماني بأنه أطلق المصدر، وأَراد الوصف، أي كان يقرأ بمقدار طول الطوليين، قال الحافظ: وفيه نظر، لأنه يلزم منه أن يكون قرأ بقدر السورتين، وليس هو المراد، كما سنوضحه. وحكى الخطابي أنه ضبطه عن بعضهم بكسر الطاء، وفتح الواو، قال: وليس بشيء، لأن الطِّوَلَ: الحبل، ولا معنى له هنا، انتهى.

({المص} [الأعراف: 1]) في محل جر بدل من "أطول"، ويحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي "المص"، والنصب على أنه مفعول لفعل محذوف، أي أعني "المص".

هكذا وقع تفسير أطول الطوليين هنا في رواية أبي الأسود. وسيأتي في الرواية التالية من طريق ابن أبي مليكة أن هذا التفسير من عروة بن الزبير.

قال في "الفتح" ما حاصله: وفي رواية أبي داود: "قال: قلت: وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف". وبَيَّنَ النسائي في رواية له أن التفسير من قول عروة، ولفظه:"قال: قلت: يا أبا عبد الله" وهي كنية عروة "ما أطول الطوليين؟ قال: الأعراف". وفي رواية البيهقي: "قال: فقلت لعروة". وفي رواية الإسماعيلي: "قال ابن أبي مليكة. وما طولى الطوليين؟ "، زاد أبو داود: قال -يعني ابن جريج-: وسألت أنا ابن أبي مليكة؟ فقال لي من قِبَل نفسه: "المائدة"، و"الأعراف".

كذا رواه عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق. وللجوزقي من

ص: 515

طريق عبد الرحمن بن بشر، عن عبد الرزاق مثله، لكن قال:"الأنعام" بدل "المائدة". وكذا في رواية حجاج بن محمد، والصغاني. وعند أبي مسلم الكجي، عن أبي عاصم بدل "الأنعام""يونس". أخرجه الطبراني، وأبو نعيم في "المستخرج".

فحصل الاتفاق على تفسير "الطولى" بـ"الأعراف"، وفي تفسير الأخرى ثلاثة أقوال: المحفوظ منها "الأنعام". قال ابن بطال: "البقرة"

أطول السبع الطوال، فلو أرادها لقال: طولى الطوال، فلما لم يردها دلّ على أنه أراد "الأعراف" لأنها أطول السور بعد "البقرة".

وتعقب بأن "النساء" أطول من "الأعراف"، قال الحافظ: وليس هذا التعقيب بمرضيّ، لألْه اعتبر عدد الآيات، وعدد آيات "الأعراف" أكثر من عدد آيات "النساء" وغيرها من السبع بعد "البقرة"، والمتعقب اعتبر عدد الكلمات، لأن كلمات "النساء" تزيد على كلمات "الأعراف" بمائتي كلمة.

وقال ابن المنير: تسمية "الأعراف"، و"الأنعام" بالطوليين إنما هو لعرف فيهما، لا أنهما أطول من غيرهما والله أعلم.

واستدل بهذا الحديث على امتداد وقت المغرب، وعلى استحباب القراءة فيها بغير قصار المفصل

(1)

، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى. والله تعالى المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع الفتح جـ 2 ص 493 - 494.

ص: 516

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 67/ 989، وفي "الكبرى" 14/ 1061 بالسند المذكور. وفي 990 و"الكبرى" 1062 عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عروة، عن مروان بن الحكم، عنه. والله أعلم.

تنبيه:

قال الحافظ المزي رحمه الله بعد أن ذكر نحو ما تقدم ما نصه: ورواه محمد بن عبد الرحمن الطُّفَاوي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي أيوب. ورواه وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي أيوب، أو زيد بن ثابت. انتهى.

وكتب الحافظ في "النكت" على قوله: رواه ابن أبي مليكة عن عروة، عن مروان، عن زيد ما نصه. قلت أخرجه الطحاوي من طريق حيوة بن شريح، عن أبي الأسود، عن عروة: أخبرني زيد بن ثابت به. وصححه ابن القطان، وقال: كان عروة لا يعتمد على مروان حتى يستظهر عليه،

ص: 517

وقال: وهذا شبيه بحديثه، عنه

(1)

عن بسرة، ثم لقي بسرة.

قوله: ورواه وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن زيد، أو أبي أيوب. قلت: وكذا قال ابن أبي شيبة، عن عمدة بن سليمان، عن هشام. أخرجه البغوي عن أبي بكر، من وكيع وعبدة جميعًا. وأخرجه ابن خزيمة أيضًا من رواية أبي أسامة، ثم قال: وكذا قال وكيع، وشعيب بن إسحاق. ورواه محاضر، عن هشام، عن أبيه، من زيد وحده، ولم يشك. ورواه شعيب بن أبي حمزة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. انتهى ما في "النكت" ببعض تصرف

(2)

. وبالله تعالى التوفيق.

أخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي عاصم، عن ابن جريج به. وأبو داود فيه عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج به. وأخرجه (أحمد) جـ 5 ص 187 و 188 و 189 و (ابن خزيمة) برقم 517 و 515 و 516 و 541. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في بيان اختلاف أهل العلم في القراءة في المغرب:

قال الإمام الترمذي رحمه الله: وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: "أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل". وروي عن أبي بكر أنه قرأ في المغرب بقصار المفصل.

(1)

وقع في النكت "بحديث عبدة عنه، عن بسرة". والظاهر أنه تصحف من عروة إلى عبدة. فليحرر.

(2)

النكت الظراف من هامش تحفة الأشراف جـ 3 ص 223.

ص: 518

قال: وعلى هذا العمل عند أهل العلم، وبه يقول ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق

(1)

.

وقال الشافعي: وَذَكَرَ عن مالك أنه يَكرَه أن يقرأ في صلاة المغرب بالسور الطوال، نحو "الطور" و"المرسلات". قال الشافعي: لا أكره ذلك، بل أسْتَحِبُّ أن يقرأ بهذه السور في صلاة المغرب. انتهى

(2)

.

قال في "الفتح" وكذا نقله البغوي في "شرح السنة" عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهية في ذلك، ولا استحباب. وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة، بل وبغيرها.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: استمر العمل على تطويل القراءة في الصبح، وتقصيرها في المغرب.

والحق عندنا أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وثبتت مواظبته عليه فهو مستحب، وما لم تثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله عندي حسن جِدًّا. والله تعالى أعلم.

قال الحافظ رحمه الله: قلت: الأحاديث التي ذكرها البخاري رحمه الله في القراءة هنا ثلاثة مختلفة المقادير؛ لأن "الأعراف" من السبع

(1)

قال في تحفة الأحوذي: وبه يقول الحنفية. اهـ.

(2)

جامع الترمذي بنسخة تحفة الأحوذي جـ 2 ص 221.

ص: 519

الطول، و"الطور" من طوال المفصل، و"المرسلات" من أوساطه.

وفي ابن حبان من حديث ابن عمر أنه قرأ بهم في المغرب بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .

قال: ولم أر حديثًا مرفوعًا فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصل، إلا حديثًا في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على "الكافرون"، و"الإخلاص". ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة، إلا أنه معلول، قال الدارقطني: أخطأ فيه بعض رواته. وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعيد ابن سماك، وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب.

واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال:"ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان"، قال سليمان:"فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل"

الحديث. أخرجه النسائي

(1)

وصححه ابن خزيمة وغيره.

وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك. لكن في الاستدلال به نظر. نعم حديث رافع الذي تقدم في "المواقيت" أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب يدلس على تخفيف القراءة فيها.

(1)

تقدم برقم 61/ 982.

ص: 520

قال الجامع عفا الله عنه: لا نظر في الاستدلال بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور، فإنه دليل واضح على استحباب القراءة في الصبح بطوال المفصل، وفي العشاء بوسط المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل، وقد شَبَّهَ أبو هريرة رضي الله عنه صلاة ذلك الإمام بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن ذلك هو المستحب، لكن أحيانًا يقرأ في المغرب بالسورة الطويلة أيضًا كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

قال الحافظ رحمه الله: وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين.

وليس في حديث جبير بن مطعم دليل على أن ذلك تكرر منه.

وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك، لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد، ولكن لم يُرِدْ زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من "المرسلات"، لكونه كان في حال شدة مرضه، وهو مظنة التخفيف، وهو يرد على أبي داود ادِّعَاءَ نسخ التطويل، لأنه رَوَى عقب حديث زيد ابن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار. قال: وهذا

ص: 521

يدل على نسخ حديث زيد، ولم يبين وجه الدلالة، وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل يخلافه حمله على أنه اطلع على ناسخه، ولا يخفى بُعْدُ هذا العمل، وكيف تصح دعوى النسخ، وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها لهم قرأ بـ"المرسلات".

قال ابن خزيمة في صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب، وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إمامًا استحب له أن يخفف في القرآن كما تقدم. اهـ.

وهذا أولى من قوله القرطبي: ما ورد في مسلم وغيره من تطويل القراءة فيما استقر عليه التقصير أو عكسه فهو متروك.

وادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء من الأحاديث على تطويل القراءة، لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة، ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم، عن الزهري في حديث جبير بن مطعم بلفظ: فسمعته يقول: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 7]، قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هي هذه الآية خاصة. اهـ. وليس في السياق ما يقتضي قوله: "خاصة"، مع كون رواية هشيم عن الزهري بخصوصها مضعفة. بل جاء في روأيات أخرى ما يدل على أنه قرأ السورة كلها؛ فعند البخاري في التفسير:"سمعته يقرأ في المغرب بـ"الطور"، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، الآيات إلى قوله: {الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي يطير". ونحوه لقاسم بن

ص: 522

أصبغ. وفي رواية أسا مة، ومحمد بن عمرو: "سمعته يقرأ: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1، 2] ومثله لابن سعد، وزاد في أخرى: فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد.

ثم ادعى الطحاوي أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت، وكذا أبداه الخطابي احتمالًا، وفيه نظر؛ لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل- لما كان لإنكار زيد معنى.

وقد روى حديثَ زيدٍ هشامُ بن عروة عن أبيه عنه أنه قال لمروان: "إنك لتُخِفّ القراءة في الركعتين من المغرب، فوالله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعًا". أخرجه ابن خزيمة. واختلف على هشام في صحابيه، والمحفوظ عن عروة أنه زيد بن ثابت، وقال أكثر الرواة عن هشام: عن زيد بن ثابت، أو أبي أيوب، وقيل: عن عائشة. أخرجه النسائي مقتصرًا على المتن، دون القصة

(1)

.

واسندل به الخطابي وغيره على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق، وفيه نظر؛ لأن من قال: إن لها وقتًا واحدًا لم يحده بقراءة

معينة، بل قالوا: لا يجوز تأخيرها عن أول غروب الشمس، وله أن يمد القراءة فيها ولو غاب الشفق.

واستشكل المحب الطبري إطلاق هذا، وحمله الخطابي قبله على أنه

(1)

هو الحديث الآتي في الباب 991.

ص: 523

يوقع ركعة في أول الوقت، ويديم الباقي ولو غاب الشفق، ولا يخفى ما فيه؛ لأن تعمد إخراج بعض الصلاة عن الوقت ممنوع، ولو أجزأت فلا يحمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما تقدم عن الخطابي وغيره رحمهم الله من الاستدلال بالحديث على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق، هو الصواب، فإن الأحاديث صحت بتحديد وقت المغرب إلى، غروب الشفق، فيكون هذا الحديث أيضًا مما يؤيد تلك الأحاديث وقد تقدم بيان ذلك مستوفىً في "كتاب المواقيت" فإن شئت فارجع إليه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

990 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ:"مَا لِي أَرَاكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ السُّوَرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِيهَا بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا أَطْوَلُ الطُّولَيَيْنِ؟ قَالَ: "الأَعْرَافُ"".

(1)

راجع الفتح جـ 2 ص 495 - 496.

ص: 524

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة، من [10]، مات سنة 245، أخرج له مسلم، وأبو داود في "القدر"، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. تقدم في 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الهُجَيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت من [8]، مات سنة 186، أخرج له الجماعة. تقدم في 42/ 47.

3 -

(ابن جُرَيج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الأموي مولاهم المكي، ثقة ففيه فاضل يدلس ويرسل، من [6]، مات سنة

150، أخرج الجماعة. تقدم في 28/ 32.

4 -

(ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مُليكة، يقال: اسم أبي مليكة زُهَير التيمي المكي، أدرك ثلاثين صحابيًا، ثقة فقيه، من [3] مات سنة 117، أخرج له الجماعة. تقدم في 101/ 132.

والباقون تقدموا في السند الذي قبله. وكذا شرح الحديث. والمسائل المتعلقة به تقدمت هناك. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: قلت: يا أبا عبد الله

إلخ: القائل هو ابن أبي مليكة، وأبو عبد الله كنية عروة بن الزبير. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 525

991 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ،:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فيِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِـ"سُورَةِ الأَعْرَافِ"، فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ".

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(عمرو بن عثمان) بن سعيد بن كثير، أبو حفص الحمصي، صدوق، من [10]، مات سنة 250، أخرج له أبو داود، والنسائي وابن ماجه. تقدم في 21/ 535.

2 -

(بقية) بن الوليد، أبو يُحْمِد الحمصي، صدوق كثير التدليس عن "الضعفاء" من [8]، مات سنة 197، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة. تقدم في 45/ 592.

3 -

(أبو حيوة) شُرَيح بن يزيد الحضرمي الحمصي المؤذن، ثقة، من [9]، مات سنة 203، أخرج له أبو داود، والنسائي. تقدم في 16/ 896.

4 -

(ابن أبي حمزة) شعيمب بن أبي حمزة، دينار الأموي مولاهم، أبو بشر الحمصي، ثقة عابد، من [7]، مات سنة 162، أخرج

له الجماعة. تقدم في 69/ 85.

5 -

(هشام بن عروة) بن الزبير بن العوام، أبو المنذر المدني، ثقة

ص: 526

فقيه ربما دلس، من [5]، مات سنة 145، أخرج له الجماعة. تقدم في 49/ 61.

6 -

(عروة) بن الزبير تقدم قريبًا.

7 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5.

وشرح الحديث واضح. وفيه بيان لما تقدم من أنه قرأ الأعراف في المغرب؛ حيث بين فيه أنه قرأها في ركعتين. والله تعالى أعلم.

تنبيه:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا في إسناده اضطراب يأتي بيانه في التنبيه التالي.

وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى أخرجه هنا 67/ 991، وفي "الكبرى" 14/ 1063 بالسند المذكور.

تنبيه آخر:

قال الحافظ في "النكت الظراف" ما حاصله: هذا الحديثُ رواه عبدة ابن سليمان، وشعيب بن إسحاق، ووكيع، وأبو أسامة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن أبي أيوب أو زيد بن ثابت.

ورواه محاضر، عن هشام، عن أبيه، عن زيد بن ثابت جازمًا. ورواه الطفاوي، عن هشام، عن أبيه، عن أبي أيوب.

فهذا اختلاف شديد. وقد رواه أبو الأسود، عن عروة، عن زيد بن ثابت. ورواه الزهري، عن عروة، عن مروان، عن زيد بن ثابت.

ص: 527

فالظاهر أن قول من قال: عن زيد بن ثابت أرجح، وقد اعتمده البخاري. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم في كلام الحافظ رحمه الله في "الفتح" جـ 2 ص 496 ما نصه: واختلف على هشام في صحابيه، والمحفوظ عن عروة أنه زيد بن ثابت.

فتبين بهذا أن هذا الحديث مضطرب الإسناد، وأن الراجح كونه من مسند زيد بن ثابت، وهو الحديث الماضي، لا من مسند عائشة، ولا من مسند أبي أيوب رضي الله تعالى عنهم.

هذا كله بالنسبة لإسناده، وأما متنه فقد صح من حديث زيد بن ثابت عند ابن خزيمة في صحيحه جـ 1 ص 260، ولفظه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ فيهما بسورة الأعراف في الركعتين جميعا". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 528

‌68 - الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بعد المَغْرِبِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ما يُستَحبُّ أن يُقرأ به في الركعتين اللتين بعد صلاة المغرب.

992 -

أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْجَوَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ إِبْرَاهِيِمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:"رَمَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ مَرَّةً، يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1]، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] ".

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(الفضل بن سهل) بن إبراهيم الأعرج الحافظ، أبو العباس البغدادي، خراساني الأصل، صدوق، من [11].

قال عبدان الأهوازي: سمعت أبا داود يقول: أنا لا أحدث عنه، قلت: لم؟ قال: لأنه كان لا يفوته حديث جيد. وقال أحمد بن الحسين ابن إسحاق الصوفي: كان أحد الدَّوَاهِي. قال الخطيب: يعني في

ص: 529

الذكاء، والمعرفة، وجودة الأحاديث. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة 255، وفيها أرخه السرّاج، وزاد: في صفر، وله نيّف وسبعون سنة. أخرج له الجماعة سوى ابن ماجه

(1)

.

2 -

(أبو الْجَوَّاب) الأحوص بن جَوَّاب الضبي الكوفي، صدوق ربما وهم، من [9]، مات سنة 211، أخرج له مسلم، وأبو داود،

والترمذي والنسائي، تقدم في 102/ 135.

3 -

(عمار بن رزيق) الضبي، أو التميمي، أبو الأحوص الكوفي، لا بأس به، من [8]، مات سنة 159 أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 102/ 135.

4 -

(أبو إِسحاق) السبيعي، عمرو بن عبد الله الكوفي، ثقة عابد مدلس، اختلط بآخره، من [3]، مات سنة 129، أخرج له الجماعة، تقدم في 38/ 42.

5 -

(إِبراهيم بن مهاجر) بن جابر البجلي، أبو إسحاق الكوفي صدوق لين الحفظ، من [5].

روى عن طارق بن شهاب، وله رؤية، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبي الشعثاء، وأبي الأحوص، وغيرهم. وعنه شعبة، والثوري، ومسعر، وأبو الأحوص، وأبو عوانة، وغيرهم.

قال ابن المديني: له نحو أربعين حديثًا. وقال الثوري، وأحمد بن

(1)

"تهذيب الكمال" جـ 23 ص 223 - 226. تهذيب التهذيب جـ 8 ص 277 - 278.

ص: 530

حنبل: لا بأس به. وقال يحيى القطان: لم يكن بقوي. وقال أحمد: قال يحيى بن معين يومًا عند عبد الرحمن، وذكر إبراهيم بن مهاجر، وآخر

(1)

فقال: ضعيفان، فغضب عبد الرحمن، وكره ما قال. وقال عباس عن يحيى: ضعيف. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال النسائي في الكنى: ليس بالقوي في الحديث. وقال في موضع آخر: ليس به بأس.

وقال ابن عدي: هو عندي أصلح من إبراهيم الهَجَرِيّ، وحديثه يكتب في الضعفاء. وقال النسائي في "التمييز": ليس بالقوي. وقال ابن سعد: ثقة. وقال ابن حبان في "الضعفاء": هو كثير الخطأ. وقال الحاكم: قلت للدارقطني: فإبراهيم بن مهاجر؟ قال: ضعفوه، تكلم فيه يحيى بن سعيد وغيره، قلت: بحجة؟ قال: بلى، حدث بأحاديث لا يتابع عليها، وقد غمزه شعبة أيضًا، وقال غيره عن الدارقطني: يعتبر به، وقال يعقوب بن سفيان. له شرف، وفي حديثه لين.

وقال الساجي: صدوق، اختلفوا فيه. وقال أبو داود: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، هو، وحصين، وعطاء بن السائب، قريب بعضهم من بعض، ومحلهم عندنا محل الصدق يكتب حديثهم، ولا يحتج به. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟ قال: كانوا قومًا لا يحفظون، فيحدثون بما لا

(1)

هو إسماعيل السدي. اهـ من هامش "تهذيب التهذيب".

ص: 531

يحفظون، فيغلطون، ترى في أحاديثهم اضطرابًا ما شئت. أخرج له الجماعة، سوى البخاري

(1)

.

6 -

(مجاهد) بن جبر، أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة، إمام في التفسير وغيره، من [3]، مات سنة 101 ، وقيل غير ذلك، وله 83 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 27/ 31.

7 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه (قال: رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي نظرت إليه. يقال: رَمَقَهُ بعينه رَمْقًا، من باب قتل: أطال النظر إليه. قاله الفيومي

(2)

.

(عشرين مرة يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]) وفي رواية أحمد، والترمذي، وابن ماجه من طريق سفيان الثوري، عن أبي إسحاق: "رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا، فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]،

(1)

تهذيب التهذيب جـ 1 ص 167 - 168.

(2)

المصباح ص 239.

ص: 532

و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]". وفي رواية لأحمد من طريق إسرائيل: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب بضعًا وعشرين مرة، أو بضبع عشرة مرة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].

وفيه استحباب قراءة هاتين السورتين في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا صحيح، إن سلم من عنعنة أبي إسحاق، فإنه مدلس. والله تعالى أعلم.

تنبيه: وقع في إسناد هذا الحديث اختلاف؛ فروى الأحوص بن جواب، عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، كما عند المصنف.

وروى عبد الرزاق، وأبو أحمد الزبيري، كلاهما عن سفيان الثوري - ووكيعٌ، عن إسرائيل- كلاهما عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر، كما عند أحمد، والترمذي، وابن ماجه.

فخالف عمار بن رزيق سفيان الثوريَّ، وإسرائيل، فزاد في السند إبراهيم بن مهاجر بين أبي إسحاق، ومجاهد، فالظاهر ترجيح روايتهما على

ص: 533

روايته، لكونهما أحفظ منه، وأوثق.

والحاصل أن الحديث صحيح من روايتهما، لولا عنعنة أبي إسحاق. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -68/ 992، وفي "الكبرى" 15/ 1064 - بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه الترمذي في "الصلاة" عن محمود بن غيلان، وأبي عمار، كلاهما عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق،

عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وابن ماجه فيه عن أحمد بن سنان، ومحمد بن عُبَادَةَ الواسطيان، كلاهما عن أبي أحمد الزبيري به.

وأخرجه (أحمد) جـ 2 ص 24 و 35 و 58 و 94 و 95 و 99. والله تعالى ولي التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 534

‌69 - الْفَضْلُ فِي قِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على فضل سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

993 -

أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ، عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ فَعَلَ ذَلِكَ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ عز وجل، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُحِبُّهُ".

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(سليمان بن داود) بن حماد المَهْري، أبو الربيع المصري، ابن أخي رِشْدِين بن سَعْد، ثقة، من [11]، مات سنة 253، أخرج له أبو داود، والنسائي، تقدم في 63/ 79.

ص: 535

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري، ثقة حافظ عابد، من [9]، تقدم قبل باب.

3 -

(عمرو بن الحارث) المصري، ثقة حافظ، من [7]، تقدم قبل باب.

4 -

(سعيد بن أبي هلال) الليثي مولاهم، أبو العلاء المصري، قيل: مدني الأصل، وقيل: نشأ بها، صدوق من [6] مات بعد سنة 130 وقيل غير ذلك، أخرج له الجماعة، تقدم في 41/ 686.

5 -

(أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن) بن حارثة بن النعمان، ويقال: ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة الأنصاري النَّجَّاري

المدني، لقبه أبو الرجال، لأنه ولد له عشرة رجال، وكنيته أبو عبد الرحمن، ثقة، من [5].

كان جده حارثة من أهل بدر. روى عن أمه، وعوف بن الحارث بن الطفيل، وأنس بن مالك، وسالم بن عبد الله بن عمر، وجماعة. وعنه بنوه: حارثة، ومحمد الرحمن، ومالك، بنو أبي الرجال، وسعيد بن أبي هلال، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال أبو داود، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البخاري: هو ثبت، وابنه حارثة منكر الحديث. وقال عباس عن ابن معين: ثقة. وكذا وثقه أحمد ابن حنبل، وأبو حاتم الرازي. أخرج له الجماعة، سوى أبي داود، والترمذي.

ص: 536

6 -

(عمرة) بنت عبد الرحمن بن سعيد بن زُرَارة الأنصارية المدنية، ثقة، من [3]، ماتت قبل المائة، وقيل: بعدها، أخرج لها الجماعة، تقدمت في 134/ 203.

7 -

(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو، وأبو داود، وأبا الرجال، فما

أخرح له أبو داود، والترمذي، وأنهم مصريون إلى سعيد، والباقون مدنيون، وفيه رواية الابن عن أمه، وتابعي، عن تابعية، وفيه عائشة من المكثرين السبعة روت 2210 أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عمرة) زاد في رواية مسلم: "وكانت في حجر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم"(عن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا) لم يعرف اسمه (على سرية) أي جعله أميرًا على طائفة من الجيش. قال الفيومي رحمه الله: السَّريَّة: قِطعَةٌ من الجيش، فَعِيلَةٌ بمعنى فاعلة؛ لأنها تَسْرِي في خُفْيَة، والجمع سَرَايا، وسَرِيَّات، مَثل عَطِيَّة وَعطَايَا، وعَطِيَّات. انتهى

(1)

.

(فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم) أي حين يصلي بهم إمامًا

(1)

المصباح 275.

ص: 537

(فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]) أي يختم قراءته بقراءة هذه السورة.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدلّ على أنه كان يقرأ بغيرها، ثم يقرؤها في كل ركعة، وهذا هو الظاهر. ويحتمل أن يكون المراد أنه يختم بها آخر قراءته، فيختص بالركعة الأخيرة، وعلى الأول فيؤخذ منه جواز الجمع بين سورتين في ركعة. انتهى.

(فلما رجعوا) من غزوهم (ذكروا ذلك) أي ما يفعله أميرهم من ختم قراءته بهذه السورة (لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال) صلى الله عليه وسلم: (سلوه لأيّ شيء فعل ذلك؟ فسألوه) عن ذلك (فقال: لأنها صفة الرحمن عز وجل الجار والمجروو متعلق بمحذوف، دل عليه السؤال، أي إنما أفعل ذلك لأنها صفة الرحمن عز وجل.

و"الصِّفَةُ" من الوَصْف، مثل العِدَة من الوَعْدِ، والجمع صِفَات. يقال: وَصَفْتُه وَصْفًا، من باب وَعَدَ: نَعَتُّهُ بما فيه، ويقال: هو مأخوذ من قولهم: وَصَفَ الثوبُ الجسمَ: إذا أظهر حالَهُ، وبَيَّنَ هَيْئَته، ويقال: الصفة هي بالحال المنتقلة، والنعت بما كان في خَلْقٍ، أو خُلُق أفاده الفيومي

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن التين: إنما قال: إنها صفة الرحمن، لأن فيها أسماءه وصفاته، وأسماؤه مشتقة من صفاته. وقال غيره: يحتمل

(1)

المصباح ص 661.

ص: 538

أن يكون الصحابي المذكور، قال ذلك مستندًا لشيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، إما بطريق النصوصية، وإما بطريق الاستنباط.

وقد أخرج البيهقي في "كتاب الأسماء والصفات" بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: صف لنا ربك الذي تعبده، قأنزل الله عز وجل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إلى آخرها، فقال:"هذه صفة ربي عز وجل". وعن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فنزلت "سورة الإخلاص"

الحديث.

وهو عند ابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وصححه الحاكم. وفيه: أنه ليس شيء يولد إلا يموت، وليس شيء يموت إلا يورث، والله لا يموت، ولا يورث، ولم يكن له شبه ولا عدل، وليس كمثله شيء.

قال البيهقي: معنى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ليس كهو شيء. قاله أهل اللغة، قال: ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] يريد بالذي آمنتم به، وهي قراءة ابن عباس. قال: والكاف في قوله: "كمثله" للتأكيد، فنفى الله عنه المثلية بآكد ما يكون من النفي، وأنشد لورقة بن نوفل في زيد بن عمرو بن نفيل من أبيات:

وَدِينُكَ دِينٌ لَيْسَ دِينٌ كمِثْلِهِ

ص: 539

ثم أسند عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم: 27] يقول: ليس كمثله شيء، وفي قوله تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] هل تعلم له شبهًا أو مثلًا.

وفي حديث الباب حجة لمن أثبت أن لله صفة، وهو قول الجمهور.

وشذ ابن حزم، فقال: هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم، ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، فإن اعترضوا بحديث الباب، فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال، وفيه ضعف، قال: وعلى تقدير صحته، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، صفة الرحمن كما جاء في هذا الحديث، ولا يزاد عليه بخلاف الصفة التي يطلقونها، فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على جوهر أو عرض. كذا قال.

قال الحافظ: وسعيد متفق على الاحتجاج به، فلا يلتفت إليه في تضعيفه، وكلامه الأخير مردود باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 185].

وقال بعد أن ذكر منها عدة أسماء في "سورة الحشر": {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24]، والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات، ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته؛ لأنه إذا ثبت أنه حي مثلًا، فقد ثبت وصفه بصفة زائدة على الذات، وهي صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قال سبحانه وتعالى:

ص: 540

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)} [الصافات: 180] فنزه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع.

وقد قسم البيهقي وجماعة من أئمة السنة جميعَ الأسماء المذكورة في القرآن، وفي الأحاديث الصحيحة على قسمين:

أحدهما: صفات ذاته، وهي ما استحقه فيما لم يزل، ولا يزال.

والثاني: صفات فعله، وهي ما استحقه فيما لا يزال، دون الأزل، قال: ولا يجوز وصفه إلا بما دلّ عليه الكتاب والسحة الصحيحة الثابتة، أو أجْمِعَ عليه.

ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل، كالحياة، والقدرة، والعلم، والإراده، والسمع، والبصر، والكلام، من صفات ذاته، وكالخلق،

والرزق، والإحياء، والإماتة، والعفو، والعقوبة، من صفات فعله.

ومنه ما ثبت بنص الكتاب والسنة، كالوجه، واليد، والعين، من صفات ذاته، وكالاستواء، والنزول، والمجيء من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصفات له لثبوت الخبر بها على وجه ينفي التشبيه، فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته، ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه، ولا يحتاج في الفعل إلى مباشرة، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

ص: 541

وقال القرطبي رحمه الله في "المفهم": اشتملت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] على اسمين يتضمنان جميع أوصاف الكمال، وهما: الأحد، والصمد، فإنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، فإن الواحد والأحد -وإن رجعا إلى أصل واحد- فقد افترقا استعمالًا وعرفًا؛ فالوحدة راجعة إلى نفي التعدد والكثرة، والواحد أصل العدد من غير تعرض لنفي ما عداه، والأحد يثبت مدلوله، ويتعرض لنفي ما سواه، ولهذا يستعملونه في النفي، ويستعملون الواحد في الإثبات، ويقال: ما رأيت أحدًا، ورأيت واحدًا، فالأحد في أسماء الله تعالى مشعر بوجوده الخاص به الذي لا يشاركه فيه غيره، وأما الصمد فإنه يتضمن جميع أوصاف الكمال؛ لأن معناه الذي انتهى سؤدده بحيث يُصمَد إليه في الحوائج كلها، وهو لا يتم حقيقة إلا لله. انتهى.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "لأنها صفة الرحمن". يحتمل أن يكون مراده أن فيها ذكر صفة الرحمن، كما لو ذكر وصف، فعبر عن الذكر بأنه الوصف، وإن لم يكن نفس الوصف. ويحتمل غير ذلك، إلا أنه لا يختص ذلك بهذه السورة، لكن لعل تخصيصها بذلك لأنه ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى، فاختصت بذلك دون غيرها. انتهى

(1)

.

(1)

راجع الفتح جـ 15، ص 305 - 306.

ص: 542

(فأنا أحب أن أقرأ بها) أي أقرأ هذه السورة التي هي صفة الرحمن عز وجل (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله عز وجل يحبه)، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه؛ لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده.

وقد ذكر في "الفتح" اختلاف العلماء المتأخرين في معنى المحبة، أعرضت عن ذكرها هنا؛ لكونها أقوالًا مخالفة لما كان عليه السلف رحمهم الله، من إثبات صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح من أحاديثه، على ما جاءت به من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.

فالحق أن صفة المحبة ثابتة لله سبحانه وتعالى على حقيقتها على الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من إثباتها له على هذا الوجه تشبيهه بمخلوقاته، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، كما أنه لا يلزمنا ذلك حينما نثبت سائر صفات المولى سبحانه، كالسمع، والبصر، والكلام، والعلم، وسائر صفاته، سواءً بسواء، وكما لا يلزمنا أيضًا حينما نثبت له ذاته المقدسة، فإن إثبات الصفات فرع إثبات الذات. فافهم هذا وتحققه، فإنه مما زلَّت فيه أقدام كثير من المتأخرين ممن يشتغل بعلم الكلام. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. نسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم، بمنه وفضله العظيم.

ص: 543

وفي هذا الحديث بيان فضل سورة الإخلاص؛ حيث كان محبتها موجبًا لمحبة الله سبحانه وتعالى التي هي أمنية كل قاصد، ورغبة كل

راغب. اللهم ارزقنا حبك، وحب من ينفعنا حبه عندك، والعمل الذي يبلغنا حبك، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

وفيه أيضًا جواز الجمع بين سور متعددة غير الفاتحة، لأنه صلى الله عليه وسلم قرر الرجل على فعله، وبشره بما بشره به. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكرالمصنف له.

أخرجه هنا 69/ 993 و"الكبرى" 16/ 1065، وفي "عمل اليوم والليلة" 703 - بالسند المذكور. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "التوحيد" عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، من سعيد بن أبي هلال، عن أبي الرجال، عن أمه، عنها. ومسلم في "الصلاة" من أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي بن وهب، عن عمه به. والله تعالى أعلم بالصواب،

ص: 544

وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

994 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ". فَسَأَلْتُهُ: مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "الْجَنَّةُ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد، ثقة ثبت، من [10]. تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه المدني، من [7]. تقدم في 7/ 7.

3 -

(عبيد الله بن عبد الرحمن) والمشهور أنه عبد الله -مكبرًا-

(1)

ابن عبد الرحمن بن الحارث بن سعد بن أبي ذباب -بضم المعجمة- الدوسي المدني، ثقة، من [3]،

روى من أبيه، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وعبيد بن حنين. وعنه مجاهد بن جبر، ومالك، وسعيد بن أبي هلال، وأبو الحويرث

(1)

ويقال: هما اثنان. اهـ تت جـ 5 ص 292.

ص: 545

عبد الرحمن بن معاوية، وعكرمة بن إبراهيم. قال ابن معين: عبد الله ابن عبد الرحمن الذي روى عن عبيد بن حنين ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وفرق ابن أبي حاتم بإن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث ابن أبي ذباب، فذكر ترجمته، وقال في "باب عبيد الله": عبيدُ الله بنُ عبد الرحمن روى عن عبيد بن حنين، وعنه مالك، سئل أبي عنه؟ فقال: شيخ، وحديثه مستقيم. انتهى. أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي

(1)

.

4 -

(عُبيد بن حُنين) -بنونين مصغرًا- المدني أبو عبد الله، مولى آل زيد بن الخطاب، ويقال: مولى بني زُرَيق، ثقة قليل الحديث، من [3].

روى عن قتادة بن النعمان الظَّفَريّ، وأبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه سالم أبو النضر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو الزناد، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي ذُبَاب، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة وليس بكثير الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". له عند أبي داود حديث في النهي عن بيع السلعة حيث تباع. قال الواقدي وغيره: مات سنة 105 وهو ابن تسعين سنة. أخرج له الجماعة

(2)

(1)

تهذيب التهذيب جـ 5 ص 292.

(2)

تهذيب التهذيب جـ 7 ص 63.

ص: 546

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه. تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى عبيد الله بن عبد الرحمن، فانفرد به هو،

وأبو داود، والترمذي، وأنه مسلسل بالمدنيين، وفيه رواية الأقران؛ عبيد الله، عن عبيد بن حنين. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه قال:(أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع رجلًا يقرأ قل هو الله أحد) يعني أنه الواحد الوتر الذي لا شبيه له، ولا نظير، ولا صاحبة، ولا ولد، ولا شريك.

ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله

(1)

. (الله الصمد) قال أهل اللغة: الصمد: السيد الذي يُصمَد إليه في النوازل والحوائج. وقيل: الصمد: الدائم الباقي. وقيل. تفسيره ما بعده {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4،3] أي لم يكن له شبيه، ولا عَدْل، وليس كمثله شيء. وفيه تقديم وتأخير، وأصله: ولم يكن له أحد كفوًا، فقدم خبر "يكن" على اسمها، لينساق أواخر الآي على نظم واحد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:"لم يلد" كما وَلَدَت مريمُ، "ولم يولد" كما وُلِد

(1)

راجع تفسير ابن كثير جـ 4 ص 609.

ص: 547

عيسى، وعزير، وهو رد على النصارى، وعلى من قال: عزير ابن الله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] أي لم يكن له مثلًا أحد. انتهى

(1)

.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت) أي ثبتت واستقرت. وقال السندي رحمه الله: لا دلالة في الحديث على عموم الوجوب لكل قارئ، إلا بالنظر إلى أن الظاهر أن الوجوب جزاء لقراءته، فالظاهر عمومه لكل قارئ. والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

قال أبو هريرة رضي الله عنه (فسألته) وفي رواية لأحمد: "قالوا: يا رسول الله ما وجبت؟ "(ماذا يا رسول الله؟) أي ما هذا الشيء

الذي وجب؟ (قال:) صلى الله عليه وسلم (الجنة) خبر لمحذوف؛ لدلالة السؤال عليه، كما قال ابن مالك في "خلاصته".

وَحَذْف مَا يُعلَمُ جَائِزٌ كَمَا

تَقُولُ زَيْدٌ بَعْدَ مَنْ عِنْدَكُمَا

وَفِي جوَاب كَيْفَ زَيْدٌ قُلْ دَنِفْ

فَزَيْدٌ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ إِذْ عُرفْ

أي هي الجنة. وزاد أحمد في رواية له من طريق عثمان بن عمر، عن مالك جـ 2 ص 535 - 536: "فقال أبو هريرة: فأردت أن آتيه، فأبَشِّرَهُ، فآثرتُ الغداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفَرِقْتُ

(3)

أن يفوتني الغداء

(1)

راجع تفسير القرطبي جـ 20 ص 245 - 246.

(2)

شرح السندي جـ 2 ص 171.

(3)

من باب تَعِبَ: أي خِفْتُ.

ص: 548

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجعت إلى الرجل، فوجدته قد ذهب". وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 69/ 994، وفي "الكبرى" 16/ 1066، وفي "عمل اليوم والليلة" 174/ 10538 - بالسند المذكور. وفي "التفسير" 11715 عن قتيبة، والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم- كلاهما عن مالك به والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه الترمذي في "فضائل القرآن" عن أبي كريب، عن إسحاق بن سليمان الرازي، عن مالك بن أنس، عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن ابن حُنين مولى لآل زيد بن الخطاب، أو مولى زيد بن الخطاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه مالك في "الموطأ" 146، وأحمد 2/ 302 و 535. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 549

995 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً، يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1، 2 - تقدما في السند الماضي.

3 -

(عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة) الأنصاري المازني المدني، ثقة، من [6]، مات في خلافة

المنصور، أخرج له البخاري وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. تقدم في 14/ 644.

تنبيه:

قوله: "عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة". هذا هو المحفوظ، وكذا هو في الموطأ. ورواه أبو صفوان

الأموي، عن مالك، فقال:"عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه". أخرجه الدارقطني، وكذا أخرجه الإسماعيلي من

طريق ابن أبي عمر، عن أبيه، ومَعْن من طريق يحيى القطان، ثلاثتهم

ص: 550

عن مالك، وقال بعده:"إن الصواب" عبد الرحمن بن عبد الله" كما في الأصل، وكذا قال الدارقطني، وأخرجه النسائي أيضًا من وجه آخر عن إسماعيل بن جعفر، عن مالك كذلك، وقال بعده: "الصواب عبد الرحمن بن عبد الله".

وقد تقدم مثل هذا الاختلاف في حديث آخر عن مالك في "كتاب الأذان". قاله في "الفتح"

(1)

.

4 -

(عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) الأنصاري المدني، ثقة، من [3] أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن

ماجه. تقدم في 14/ 644.

5 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدم في 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا عبد الرحمن، وأباه، فما أخرج لهما مسلم،

والترمذي، وأنه مسلسل بالمدنيين، وفيه أبو سعيد الخدري، أحد المكثرين السبعة، روى 1170 حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله عنه (أن رجلًا سمع رجلًا)

(1)

جـ 10 ص 72.

ص: 551

القارئ هو قتادة بن النعمان. أخرج أحمد من طريق أبي الهيثم، عن أبي سعيد، قال:"بات قتادة بن النعمان يقرأ من الليل كله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لا يزيد عليها". الحديث. والذي سمعه لعله أبو سعيد راوي الحديث؛ لأنه أخوه لأمه، وكانا متجاورين. وبذلك جزم ابن عبد البرّ، فكأنه أبهم نفسه وأخاه. وقد أخرج الدارقطني من طريق إسحاق بن الطَّبَّاع عن مالك في هذا الحديث بلفظ:"إن لي جارًا يقوم بالليل، فما يقرأ إلا بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ". قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كون الرجل الذي سمع هو أبا سعيد الخدري يبعده ما أخرجه المصنف في "عمل اليوم والليلة" من طريق إسماعيل بن جعفر، من مالك بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: أخبرني قتادة بن النعمان أن رجلًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ من السحر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، لا يزيد عليها، فلما أصبح أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن فلانًا قام في الليل يقرأ من السحر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4] يرددها، لا يزيد عليها، كأنه يتقالّها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم؟ "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن".

فهذه الرواية تبعد أن يكون أبو سعيد الخدري هو الذي سمع، بل إنما أخبره بالقصة قتادة بن النعمان رضي الله عنهما. وأما الذي قرأ فلا يبعد

(1)

جـ 10 ص 73.

ص: 552

أن يكون هو قتادة بن النعمان، رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في محل نصب مفعول "يقرأ" محكي، (يرددها) أي يعيدها مرة بعد أخرى، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل "يقرأ". وفي رواية محمد بن جهضم:"يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] كلها يرددها".

(فلما أصبح جاء) ذلك الرجل الذي سمع القارئ يردد تلك السورة (إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له) أي ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما فعله الرجل من ترديد قراءة هذه السورة، متعجبًا من ذلك. وفي رواية البخاري:"وكأن الرجل يتقالّها"، أي يعتقد أنها قليلة.

والمراد أن ذلك الرجل تعجب من اقتصاره على تكرار هذه السورة القصيرة مع وجود سور طوال، فكان في نظره أن الأولى له أن يستكثر من قراءتها، لا أن يقتصر على تكرار هذه السورة القصيرة.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده) فيه إثبات اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله (إِنها) أي سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1](لتعدل) أي تساوي (ثلث القرآن")، اختلف أهل العلم في المعنى المراد به، فحمله بعضهم على ظاهره، فقال: هي ثلث باعتبار معاني القرآن؛ لأنه أحكام، وأخبار، وتوحيد، وقد اشتملت هي على القسم الثالث، فكانت ثلثًا بهذا الاعتبار.

ويُستَأنَسُ لهذا بما في رواية لمسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله

ص: 553

عنه مرفوعًا، قال:"إن الله جزّأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، جزءًا من أجزاء القرآن"

(1)

.

وقال القرطبي: اشتملت هذه السورة على اسمين من أسماء الله تعالى يتضمنان جميع أصناف الكمال، لم يوجدا في غيرها من السور، وهما: الأحد والصمد، لأنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال.

وبيان ذلك أن "الأحد" يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، و"الصمد" يشعر بجميع أوصاف الكمال؛ لأنه الذي انتهى إليه سؤدده، فكان مرجع الطلب منه وإليه، ولا يتم ذلك على وجه التحقيق إلا لمن حاز جميع خصال الكمال، وذلك لا يصلح إلا لله تعالى.

فلما اشتملت هذه السورة على معرفة الذات المقدسة كانت بالنسبة إلى تمام المعرفة بصفات الذات، وصفات الفعل ثلثًا. انتهى.

وقال غيره: تضمنت هذه السورة توجيه الاعتقاد، وصدق المعرفة، وما جب إثباته لله من الأحدية المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال المعنى، ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والنظير، وهذه مجامع التوحد الاعتقادي، ولذلك عادلت ثلث القرآن؛ لأن القرآن: خبر، وإنشاء، والإنشاء: أمر ونهي وإباحة، والخبر: خبر عن الخالق، وخبر

(1)

راجع صحيح مسلم بنسخة شرح النووي جـ 6 ص 94.

ص: 554

عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عن الله، وخلصت قارئها من الشرك الاعتقادي.

ومنهم من حمل المثلية على تحصيل الثواب، فقال: معنى كونها ثلث القرآن أن ثواب قراءتها يُحَصِّل للقارئ مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن. وقيل: مثله لغير تضعيف. قال الحافظ: وهي دعوى بغير دليل.

ويؤيد الإطلاق ما أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، مرفوعًا:"أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة"؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن".

ولمسلم أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احشدوا

(1)

فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن"، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: إني أرَى هذا خبر جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني قلت لكم: "سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن". ولأبي عبيد من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه:"من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فكأنما قرأ ثلث القرآن".

وإذا حمل ذلك على ظاهره فهل ذلك لثلث من القرآن معين، أو لأيّ ثلث فرض منه؟ فيه نظر، ويلزم على الثاني أن من قرأها ثلاثًا كان

(1)

أي اجتمعوا.

ص: 555

كمن قرأ ختمة كاملة. وقيل: المراد من عمل بما تضمنته من الإخلاص والتوحيد كان كمن قرأ ثلث القرآن.

وادعى بعضهم أن قوله: "تعدل ثلث القرآن" يختص بصاحب الواقعة، لأنه لما رددها في ليلته كان كمن قرأ ثلث القرآن بغير ترديد. قال القابسي: ولعل الرجل الذي جرى له ذلك لم يكن يحفظ غيرها، فلذلك استقل عمله، فقال له الشارع ذلك، ترغيبًا له في عمل الخير، وإن قلّ.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: من لم يتأول هذا الحديث أخلص ممن أجاب بالرأي.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنّ هذه التأويلات كلها مما لا يلتفت إليه، بل ما دل عليه ظاهر النص هو المراد كما أشار إليه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كلامه المذكور آنفًا، وحاصله إجراء ظاهر النص على مقتضاه، وعدم التكلف بالتأويل إلى ما لا يتناسب مع واضح معناه، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن تلاوةً وثوابًا، كما نصّ على ذلك من أمِرَ بالتبليغ والبيان. والله تعالى أعلم.

وفي هذا الحديث إثبات فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].

وقد قال بعض العلماء: إنها تضاهي كلمة التوحيد، لما اشتملت عليه من الجمل المثبتة والنافية مع زيادة تعليل، ومعنى النفي فيها أنه الخالق الرازق المعبود؛ لأنه ليس فوقه من يمنعه كالوالد، ولا من يساويه كالكفء، ولا من يعينه على ذلك كالولد.

ص: 556

وفيه أيضًا إلقاء العالم السائل على أصحابه، واستعمال اللفظ في غير ما يتبادر للفهم؛ لأن المتبادر من إطلاق ثلث القرآن أن المراد ثلث حجمه المكتوب مثلًا، وقد ظهر أن ذلك غير مراد. أفاده في "الفتح"

(1)

.

فائدة:

قال في "الفتح": أخرج الترمذي، والحاكم، وأبو الشيخ، من حديث ابن عباس رفعه:{إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] تعدل نصف القرآن، و"الكافرون" تعدل ربع القرآن". وأخرج الترمذي أيضًا، وابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، من طريق سلمة بن وردان، عن أنس رضي الله عنه: "أن "الكافرون"، و"النصر" تعدل كل منهما ربع القرآن، و {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل ربع القرآن". زاد ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ: "وآية الكرسي تعدل ربع القرآن". وهو حديث ضعيف، لضعف سلمة، وإن حسنه الترمذي، فلعله تساهل فيه لكونه من فضائل الأعمال، وكذا تصحيح الحاكم حديث ابن عباس، وفي سنده يمان بن المغيرة، وهو ضعيف عندهم. انتهى

(2)

. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

(1)

جـ 10 ص 74 - 75.

(2)

جـ 10 ص 75 - 76.

ص: 557

أخرجه هنا 69/ 995، وفي "الكبرى" 16/ 1067، وفي "عمل اليوم والليلة" 10534 - بالسند المذكور. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "فضائل القرآن" عن عبد الله بن يوسف، وفي "الأيمان والنذور" عن القعنبي، وفي "التوحيد" عن إسماعيل بن جعفر- ثلاثتهم عن مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عنه. وقال في موضعين: وقال أبو معمر -يعني إسماعيل بن إبراهيم- عن إسماعيل بن جعفر عن مالك، عن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي سعيد: حدثني أخي قتادة بن النعمان بهذا، وأبو داود في الصلاة عن القعنبي به.

وأخرجه مالك في "الموطأ" 146، وأحمد 3/ 23 و 35 و 43. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

996 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ امْرَأَةٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] ثُلُثُ الْقُرْآنِ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا أَعْرِفُ إِسْنَادًا أَطْوَلَ مِنْ هَذَا.

ص: 558

رجال هذا الإسناد: عشرة

1 -

(محمد بن بشار) بندار، أبو بكر البصري، ثقة ثبت من [10]، مات سنة 252، أخرج له الجماعة. تقدم في 24/ 27.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهدي الإمام الحافظ الحجة الثبت، من [9] مات سنة 198، أخرج له الجماعة. تقدم في 42/ 49.

3 -

(زائدة) بن قُدَامَة الثقفي، أبو الصلت الكوفي، ثقة ثبت سنين، من [7]، مات سنة 160، أخرج له الجماعة. تقدم في 74/ 91.

4 -

(منصور) بن المعتمر السلمي، أبو عتَّاب الكوفي، ثقة ثبت، من [5]، مات سنة 132، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.

5 -

(هلال بن يِسَاف

(1)

) الأشجعي مولاهم الكوفي، ثقة، من [3]، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة. تقدم في 39/ 43.

6 -

(ربيع بن خُثَيم

(2)

) بن عائذ بن عبد الله بن موهبة بن منقد بن نصر بن الحكم بن الحارث بن مالك بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أدّ ابن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الثوري، أبو يزيد الكوفي، ثقة عابد مخضرم، من [2].

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن ابن مسعود، وأبي أيوب

(1)

بكسر التحتانية، وقد تفتح، ويقال: إساف بالهمز.

(2)

في "ت" بضم المعجمة، وفتح المثلثة، ولكن في "صة" بفتح المعجمة، والمثلثة، بينهما ساكنة. اهـ من هامش "تت".

ص: 559

الأنصاري، وامرأة من الأنصار، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وعنه ابنه عمد الله، ومنذر الثوري، والشعبي، وهلال بن يساف، وإبراهيم النخعي، وبكر بن ماعز، وغيرهم.

قال عمرو بن مرة، عن الشعبي: كان من معادن الصدق. وقيل لأبي وائل: أيما أكبر، أنت، أو الربيع؟ قال: أنا أكبر منه سنًا، وهو أكبر مني عقلًا. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: لا يسأل عن مثله. وقال ابن حبان في "الثقات": أخباره في الزهد والعبادة أشهر من أن يحتاج إلى الإغراق في ذكرها، مات بعد قتل الحسين سنة 63، وأرخه ابن قانع (61) وقال العجلي: تابعي ثقة، وكان خيارًا.

قال الحافظ: وروى أحمد في الزهد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول للربيع: والله لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك. وزاد المزّيّ من غير عزو للزهد: وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين. وقال منذر الثوري: شهد مع علي صفِّين. وقال الشعبي: كان الربيع أشد أصحاب ابن مسعود ورَعًا، وقال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية، فأما الربيع فقيل له حين أصابه الفالح: لو تداويت؟ فقال: لقد علمت أن الدواء حق، ولكن ذكرت عادًا، وثمود، وأصحاب الرَّسِّ، وقرونًا بين ذلك كثيرًا كانت فيهم الأوجاع، وكانت لهم الأطباء، فما بقي المداوي ولا المداوَى. ومناقبه كثيرة جدًا. أخرج له الجماعة، سوى أبي داود، فأخرج له في "القدر"

(1)

.

(1)

"تك" جـ 9 ص 70 - 76. تت جـ 3 ص 242 - 243.

ص: 560

7 -

(عمرو بن ميمون) الأودي، أبو عبد الله، أو أبو يحيى الكوفي، ثقة عابد مخضرم مشهور من [2]، مات سنة 74، وقيل

بعدها، أخرج له الجماعة. تقدم في 192/ 307.

8 -

(ابن أبي ليلى) هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني، ثم الكوفي، ثقة من [2]، مات سنة 86، أخرج له الجماعة.

تقدم في 86/ 104.

9 -

(امرأة) في شرح السيوطي رحمه الله أنها امرأة أبي أيوب. اهـ. ولم أجد من ترجمها.

10 -

(أبو أيوب) خالد بن زيد بن كليب الأنصاري الصحابي المشهور رضي الله عنه تقدم في 20/ 20. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من عُشَاريات المصنف رحمه الله، وهو أنزل ما وقع له من الأسانيد، كما قال هو:"ما أعرف إسنادًا أطول من هذا".

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات مشهورون، غير المرأة، فلم أعرفها، إلا أن في شرح السيوطي: ما نصه: "والمرأة هي امرأة أبي أيوب". اهـ، ولم يذكر مستنده.

ومنها: أنهم من رجال الجماعة، غير ربيع بن خثيم، فما أخرج له أبو داود إلا في القدر.

ومنها: أن شيخه ممن اتفق الستة على الرواية عنهم دون

ص: 561

واسطة.

ومنها: أن فيه ستة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، أولهم منصور. قاله الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم.

وشرح الحديث واضح. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي أيوب رضي الله عنه هذا صحيح.

فإن قلت: في سنده مجهولة، فكيف يصح؟ قلت: يشهد له حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الماضي وغيره، فيصح بذلك. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 69/ 996 وفي "الكبرى" 16/ 1068، وفي "عمل اليوم والليلة" 173/ 10517 - بالسند المذكور.

و173/ 10526 عن أحمد بن سليمان، عن حسين الجعفي، عن زائدة به، وزاد فيه "ومن قال: لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كُنَّ له عَدْلَ عشر رِقَاب". و 173/ 10518 عن أبي بكر بن علي، عن عبيد الله بن

(1)

زهر الربى جـ 2 ص 172 - 173.

ص: 562

عمر القواريري، ويوسف بن مروان، كلاهما عن فضيل بن عياض، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن ميمون، عن ربيع بن خثيم، عن ابن أبي ليلى، مختصرًا.

و173/ 10519 عن زكريا بن يحيى، عن بشر بن الحكم، عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور، عن ربعي، عن عمرو بن ميمون، عن ابن أبي ليلى نحوه. و 173/ 10516 عن ابن المثنى، عن غندر، عن شعبة، عن منصور، عن هلال، عن ربيع بن خثيم، عن عمرو، عن امرأة به.

و173/ 10515 عن محمد بن قُدَامة، عن جرير، عن منصور، عن هلال، عن الربيع بن خثيم، عن امرأة من الأنصار به. و 173/ 10520 عن ابن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن هلال، عن الربيع، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما امرأة. و 173/ 10523 عن أحمد بن سليمان، عن يعلي بن عبيد، عن زكريا، عن الشعبي، عن ابن أبي ليلى، عن أبي أيوب به موقوفًا. و 173/ 10524 عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، عن إسحاق الأزرق، عن ابن عون، عن الشعبي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي أيوب قولَه.

و173/ 10514 عن هناد، عن أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن منذر، عن الربيع بن خثيم، قال: سمعت الأنصاري يقول، فذكره موقوفًا. و 173/ 10530 عن أحمد بن سليمان، عن جعفر بن عون، عن عمرو بن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة،

ص: 563

عن أبي أيوب رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه الترمذي في "فضائل القرآن" عن قتيبة، وبندار، كلاهما عن ابن مهدي، بسند الباب. وقال: حسن.

وأخرجه أحمد 5/ 418، وعبد بن حُميد برقم 222، والدارمي 3440. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 564

‌70 - الْقِرَاءَةُ فِي الْعِشَاءِ الآخِرَةِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]

ظاهر صنيع المصنف رحمه الله أنه أراد أن يجمع بين قصتي معاذ رضي الله عنه، ففي الرواية الماضية 63/ 984 - أنه صلى المغرب، وفي رواية الباب أنه صلى العشاء بالحمل على تعدد الواقعة، فمرة صلى المغرب، ومرة صلى العشاء، فلذلك استدل بكلتا الروايتين. لكن وقوع مثل هذه القضية مرتين بعيد، إلا أن يقال: يحتمل أنه وقع من معاذ مرتين، ثم رُفِعَ الواقعتان إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة. أفاده السندي رحمه الله تعالى

(1)

.

997 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَامَ مُعَاذٌ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، فَطَوَّلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ، أَيْنَ كُنْتَ عَنْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1] وَ {وَالضُّحَى (1)} [الضحى: 1] وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} [الانفطار: 1] ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن قُدَامة) المصيصي، ثقة، من [10]، مات

(1)

شرح السندي جـ 2 ص 172 - 173.

ص: 565

سنة 250 تقريبًا. أخرج له أبو داود، والنسائي. تقدم في 19/ 528.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي المصيصي، ثم الرازي، ثقة ثبت، من [8]، مات سنة 188، أخرج له الجماعة. تقدم في 2/ 2.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران، الإمام الحجة الثبت، من [5]، مات لسنة 147، أخرج له الجماعة. تقدم في 17/ 18.

4 -

(محارب بن دثار) السدوسي الكوفي، ثقة، إمام زاهد، من [4]، مات سنة 116، أخرج له الجماعة، تقدم في 16/ 652.

5 -

(جابر) بن محمد الله الأنصاري الصحابي الشهير رضي الله عنهما، تقدم في 31/ 35.

والحديث مضى مستوفى الشرح برقم 39/ 831، وكذا بيان المسائل المتعلقة به، فراجعه هناك تستفد. والله ولي التوفيق.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 566

‌71 - الْقِرَاءَةُ فِي الْعِشَاءِ الآخِرَةِ بِـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]

998 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: صَلَّى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ، فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ، فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَّا، فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ مُعَاذٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ، إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ، فَاقْرَأْ بِـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} [الشمس: 1] وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1] وَ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} [الليل: 1] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ".

رجال هذا الإسناد: أربعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد مضى قريبًا.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة الفقيه الثبت المصري، من [7]، مات سنة 175، أخرج له الجماعة. تقدم في 31/ 35.

3 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي، صدوق

ص: 567

يدلس، من [4]، مات سنة 126، أخرج له الجماعة. تقدم في 31/ 35.

4 -

(جابر) بن عبد الله رضي الله عنهما المذكور قبله.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو السبعون من رباعيات الكتاب

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة.

ومنها: أن شيخه بغلاني، نسبة إلى بَغْلان، وهي قرية من قرى بَلْخَ، وأنه ليس في الكتب الستة من يسمى بقتيبة غيره، وأن الليث مصري، وأبا الزبير مكي، وجابرًا مدني.

ومنها: أن صحابيه من المكثرين السبعة، روى، 1170 حديثًا. والله أعلم.

وشرح الحديث والمسائل المتعلقة به تقدمت مستوفاة برقم 39/ 831 فراجعها تستفد. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

999 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ

ص: 568

الْعِشَاءِ الآخِرَةِ بِـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} ، وَأَشْبَاهِهَا مِنَ السُّوَرِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(محمد بن علي بن الحسن بن شقيق) بن دينار المروزي، ثقة صاحب حديث، من [11]، مات سنة 250، أخرج له الترمذي

والنسائي. تقدم في 22/ 206.

2 -

(علي بن الحسن بن شقيق) أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة حافظ، من كبار [10]، مات سنة 215، وقيل غير ذلك، أخرج له الجماعة. تقدم في 22/ 906.

3 -

(الحسين بن واقد) المروزي، أبو عبد الله القاضي، ثقة له أوهام، من [7]، مات سنة 159، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة. تقدم في 5/ 463.

4 -

(عبد الله بن بريدة) بن الحصُيَب الأسلمي، أبو سهل المروزي قاضيها، ثقة، من [3]، مات سنة 105، أخرج له الجماعة. تقدم في 25/ 393.

5 -

(بريدة بن الحُصَيب)، أبو سهل الأسلمي، صحابي أسلم قبل بدر، مات سنة 63، أخرج له الجماعة. تقدم في 101/ 133. والله أعلم.

ص: 569

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو، وأبو داود.

ومنها: أنه مسلسل بالمراوزة

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة) قيدها بالآخرة احترازًا عن المغرب؛ لأنها تسمى العشاء أيضًا، كما تقدم في بابه، بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] أي بتمامها (وأشباهها من السور) أي بما يماثلها في عدد الآي من سور القرآن العظيم.

وفي هذا الحديث إستحباب قراءة سورة {وَالشَّمْسِ} وما أشبهها في صلاة العشاء.

قال الإمام الترمذي رحمه الله بعد أن أخرج حديث بريدة رضي الله عنه هذا ما نصه: وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه كان يقرأ في العشاء بسور أوساط المفصل، نحو سورة "المنافقون" وأشباهها. وروي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين أنهم قرءوا بأكثر من هذا وأقلّ، كأن الأمر عندهم والفتح في هذا. وأحسن شيء في ذلك ما روي عن

ص: 570

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، و {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} . انتهى

(1)

. والله تعالى ولي التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

جامع الترمذي بنسخة تحفة الأحوذي جـ 2 ص 225.

ص: 571

‌72 - الْقِرَاءَةِ فيها بِـ {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1]

أي هذا باب ذكر مشروعية القراءة في صلاة العشاء بعد "الفاتحة" بسورة {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] أحيانًا.

1000 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ فِيهَا بِـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1]

(1)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور أول الباب.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة المدني المجتهد، من [7]، تقدم في 7/ 7.

3 -

(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني، ثقة ثبت، من [5]، تقدم في 22/ 23.

(1)

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير عفا الله عنه: قد انتهيت بحمد الله تعالى من شرح الألف الأول من أحاديث "المجتبى"، وابتدأت في الألف الثاني يوم الخميس المبارك -13/ 8/ 1416 هـ، وذلك في حي الهنداوية بمكة المكرمة، زادها الله شرفًا وعزًا، وزادني بها إقامة وفوزا.

ص: 572

4 -

(عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي، ثقة رمي بالتشيع من [4]، مات سنة 116، أخرج له الجماعة، تقدم في 49/ 605.

5 -

(البراء بن عازب) الأنصاري رضي الله عنهما، تقدم في 86/ 105. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن البراء بن عازب) رضي الله عنهما، أنه (قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الَعتَمَة) وفي الرواية الآتية في الباب التالي من طريق شعبة أن ذلك كان في سفر. وفي رواية الإسماعيلي: "فصلى العشاء ركعتين".

و"العتمة" -بفتحات-: هي من الليل بعد غيبوبة الشفق إلى آخر الثلث الأول. قاله في "المصباح". والمراد به هنا صلاة العشاء الآخرة، (فقرأ فيها بـ {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1]) أي قرأ تمام السورة فيها، والمراد أنه قرأها في الركعة الأولى، كما بين في الرواية الآتية. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 573

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 72/ 1000، وفي الكبرى 19/ 1072 من قتيبة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عدي بن ثابت، عنه. وفي 73/ 1001، و"الكبرى" 20/ 1073 عن إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زريع، من شعبة، عن عدي بن ثابت به بنحوه. وفي "التفسير" عن قتيبة، عن الليث، ومالك، كلاهما عن يحيى الأنصاري به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي الوليد، وفي "التفسير" عن حجاج بن منهال - كلاهما عن شعبة، وفي "الصلاة" عن خلاد بن يحيى، وفي التوحيد عن أبي نعيم- كلاهما عن مسعر.

ومسلم في "الصلاة" عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، ومن قتيبة، عن ليث، عن يحيى بن سعيد- وعن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، من مسعر- ثلاثتهم عن عدي بن ثابت عنه بنحوه.

وأبو داود فيه عن حفص بن عمر، من شعبة به. والترمذي فيه عن

ص: 574

هناد بن السري، عن أبي معاوية، عن يحيى الأنصاري، بنحوه.

وابن ماجه فيه عن محمد بن الصباح، عن ابن عيينة، وعن عبد الله ابن عامر بن زُرَارة، عن يحيى بن أبي زائدة، كلاهما عن يحيى بن

سعيد، ومسعر بن كدام به. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 575

‌73 - القِراءَة في الرَّكْعَةِ الأولَى من صلاةِ العشاءِ الآخرةِ

1001 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى بِـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} .

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(إِسماعيل بن مسعود) الجحدري أبو مسعود البصري، ثقة، من [10]، مات سنة 248، أخرج له النسائي. تقدم في 42/ 47.

2 -

(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت، من [8]، مات سنة 182، أخرج له الجماعة. تقدم في 5/ 5.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت من [7]. تقدم في 24/ 26.

والباقيان تقدما في الباب الماضي، وكذا شرح الحديث والمسائل المتعلقة به تقدمت هناك. وبالله تعالى التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 576

‌74 - الرُّكُودُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على استحباب تطويل الركعتين الأوليين من الصلاة.

و"الرُّكُود": -بالضم مصدر رَكَدَ، من باب قَعَدَ: إذا سَكَنَ.

قال ابن منظور رحمه الله: رَكَدَ القوم يَرْكُدُون رُكُودًا: هَدَءُوا وسكنوا. ورَكَدَ الماءُ والريحُ والسفينةُ، والحَرُّ، والشمسُ: إذا قام قائم الظهيرة. وكل ثابت في مكانه فهو راكد. ومنه حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد، ثم يُتَوضَّأ منه". قال أبو عبيد: الراكد هو الدائم الساكن الذي لا يجري، يقال: ركد الماء رُكُودًا: إذا سكن.

ومنه حديث الصلاة في ركوعها، وسجودها، وركودها؛ هو السكون الذي يفصل بين حركاتها، كالقيام، والطمأنينة بعد الركوع، والقَعْدَة بين السجدتين، وفي التشهد. ومنه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:"أرْكُدُ بهم في الأوليين، وأحذف في الأخريين". أي أسكن، وأطيل القيام في الركعتين الأوليين من الصلاة الرباعية، وأخفف في الأخريين. انتهى كلام ابن منظور مختصرًا

(1)

.

(1)

"لسان العرب" جـ 3 ص 1716.

ص: 577

1002 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَوْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: "قَدْ شَكَاكَ النَّاسُ فِي كُلِّ شَيءٍ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَتَّئِدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ، وَمَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي البصري، ثقة حافظ، من [10]، مات سنة 249، أخرج له الجماعة. تقدم في 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان البصري، ثقة ثبت حجة، من [9]، مات سنة 198، أخرج له الجماعة. تقدم في 4/ 4.

3 -

(شعبة) بن الحجاج المذكور في السند الماضي.

4 -

(أبو عون) محمد بن عبيد الله الثقفي الكوفي الأعور، ثقة من [4].

روى عن أبيه، وأبي الزبير، وجابر بن سمرة، ومحمد بن حاطب الجمحي. وعنه الأعمش، وشعبة، والثوري، ومسعر، وغيرهم. وثقه

ص: 578

ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد، توفي في ولاية خالد على العراق، وكان ثقة، وله أحاديث. وقال أبو زرعة: حديثه عن سعيد مرسل. وقال ابن شاهين في "الثقات": هو أوثق من عبد الملك بن عمير. وقال ابن قانع، وغيره: مات سنة 116. أخرج له الجماعة، سوى ابن ماجه

(1)

.

5 -

(جابر بن سَمُرَة) بن جُنادة السُّوَائي الصحابي ابن الصحابي، نزيل الكوفة رضي الله عنهما، تقدم في 28/ 816.

6 -

(سعد بن أبي وقاص) مالك بن وُهَيب بن عبد مناف بن زهرة ابن كلاب الزهري، أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، وأولى من رمى بسهم في سبيل الله، مات بالعَقِيقِ سنة 55، وهو آخر من مات من العشرة، أخرج له الجماعة. تقدم في 96/ 121. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا أبا عون، فما أخرج له ابن ماجه، وأن الثلاثة الأولين بصريون، والباقون كوفيون.

ومنها: أن شيخه ممن اتفق أصحاب الأصول على الرواية عنهم دون واسطة.

ومنها: أنه مسلسل بالإخبار، والتحديث، والسماع.

(1)

تت جـ 9 ص 322.

ص: 579

ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي.

ومنها: أن صحابيه هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخر من مات منهم، وأول من رمى بسهم في سبيل الله. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(قال) أبو عون (سمعت جابر بن سمرة) رضي الله عنهما (يقول: قال عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (لسعد) ابن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو خال جابر بن سمرة الراوي عنه (قد شكاك الناس) أي بعضهم، ففيه تجوز، فهو من باب إطلاق الكل على البعض، فإن الذين شكوا سعدًا ليسوا كل أهل الكوفة، بل بعضهم، ففي الرواية التالية من رواية عبد الملك بن عمير، عن جابر:"وقع ناس من أهل الكوفة في سعد عند عمر"

وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر، قال:"كنت جالسًا عند عمر، إذ جاء أهل الكوفة يشكون إليه سعد بن أبي وقاص، حتى قالوا: إنه لا يحسن الصلاة". قال في "الفتح": وسُمي منهم عند سيف، والطبراني: الجراح ابن سنان، وقبيصة، وأربد، الأسديون، وذكر العسكري في الأوائل أن منهم الأشعث بن قيس.

وقد ساق البخاري رحمه الله في "صحيحه" القصة مطولة، فقال: "حدثنا موسى، قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله، واستعمل عليهم عمارًا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن

ص: 580

يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها؛ أصلي صلاة العشاء، فأركد في الأوليين، وأُخِفُّ في الأخريين، قال. ذاك الظن بك، يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلًا -أو رجالًا- إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يَدَعْ مسجدًا إلا وسأل عنه، وُيثنون عليه معروفًا، حتى دخل مسجدًا لبني عَبْس، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة، قال: أمَّا إذ نشدتنا، فإن سعدًا كان لا يسري بالسَّرِيَّة، ولا يَقسِم بالسَّوية، ولا يعدل في القَضِيَّة. قال سعد: أما والله لأدعونّ بثلاث، اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطِلْ فقره، وعَرّضْه بالفِتَن. قال: وكان بعدُ إذا سُئل؟ يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد،

قال عبد الملك: فأنا رأيته بعدُ قد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَرِ، وإنه ليتعرض للجَوَاري في الطرق يَغْمِزُهن". انتهى

(1)

.

وكان عمر أمّرَ سعد بن أبي وقاص على قتال الفرس في سنة 14، ففتح الله العراق على يديه، ثم اختط الكوفة سنة 17، واستمر عليها أميرًا إلى سنة 21، في قول خليفة بن خياط، وعند الطبري إلى سنة 20، فوقع له مع أهل الكوفة ما ذكر. فعزله عمر، واستعمل عمار بن ياسر على الصلاة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حُنَيف على

(1)

راجع صحيح البخاري جـ 2 ص 479 - 480. بنسخة الفتح.

ص: 581

مساحة الأرض

(1)

.

(في كل شيء حتى في الصلاة) الجار والمجرور الأول متعلق بـ"شكوا"، والثاني عطف عليه بـ"حتى".

وفيه أن جهات الشكوى كانت متعددة، ومنها قصة الصلاة. وذكر ابن سعد، وسيف، أنهم زعموا أنه حابى في بيع خمس باعه، وأنه صنع على داره بابًا مبوّبا من خشب، وقال السوق مجاورًا له، فكان يتأذى بأصواتهم، فزعموا أنه قال: لينقطع التصويت. وذكر سيف أنهم زعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج في السرايا. وقال الزبير بن بكار في "كتاب النسب": رفع أهل الكوفة عليه أشياء كشفها عمر، فوجدها باطلة. انتهى. ويقويه قول عمر رضي الله عنه في وصيته:"فإني لم أعزله من عجز، ولا خيانة".

وفي الرواية التالية: "فقالوا: والله ما يحسن يصلي".

(فقال سعد) رضي الله عنه: (أتئد في الأوليين) بفتح الهمزة، وتشديد التاء، بعدها همزة مكسورة، مضارع اتَّئَد. قال الأزهري: وقد اتَّأدَ يَتَّئدُ اتِّئِادًا: إذا تأنَّى في الأمر، وثلاثيه غير مستعمل، لا يقولون: وَأدَ يَئِدُ بمعنَى اتَّأد.

وَقال الليث: يقال: إيتَأدَ، وتَوأَّدَ، فإيتَأَدَ على "افتعل"، وَتوأَّدَ على تَفَعَّلَ، والأصل فيها الْوَأدُ، إلا أن يكون مقلوبا من "الأوْد" وهو الإثْقَالُ، فيقال: آدَنِي يَئُودُني: أي أثقلني، والتَّأوُّد منه، ويقال: تَأوَّدَتِ

(1)

راجع الفتح جـ 2 ص 481.

ص: 582

المرأة في قيامها: إذا تَثَنَّت لتثاقلها، ثم قالوا: تَوَأَّدَ، واتَّأدَ: إذا تَرَزَّنَ، وتَمَهَّلَ، والمقلوبات في كلام العرب كثيرة.

ومشَى وَئِيدًا: أي على تُؤدَة؛ قالت الزّبَّاءُ [من الرجز]:

مَا لِلْجمالِ مَشْيُها وَئِيدَا

أجَنْدَلًا يحمِلْنَ أمْ حَدِيداَ

واتَّأدَ في مشيه، وتَوَأَّدَ، وهو افتَعَلَ، وتَفَعَّلَ، من التُّؤَدَةِ، وأصل التاء في "اتّأد" واو. يقال: اتَّئِدْ في أمرك: أي تَثَبَّتْ. انتهى

(1)

.

وقال في "النهاية" اتَّئَدَ: إذا تأنى، وتَثَبَّتَ، ولم يَعْجَلْ، وأصل التاء فيها الواو. انتهى

(2)

.

وفي بعض نسخ "المجتبى"، وهو الذي في "الكبرى":"أمُدُّ في الأوليين" بدل "أتَّئد"، أي أزيد وأطول في الركعتين الأوليين. وفي

الرواية الآتية: "أركد في الأوليين": أي أسكن، وأطيل القيام. وقد تقدم في أول الباب تفسير "الركود". و"الأوليين" تثنية "الأولى"، وكذا "الأخريين" تثنية "الأخرى".

(وأحْذِف في الأخريين) أي أخفف، ولا أطيل القراءة، قال في "الفتح": والمراد بالحذف حذف التطويل، لا حذف أصل القراءة، فكأنه قال: أحذف الركود. انتهى.

(وما آلو) بهمزة ممدودة: أي لا أقصّر. يقال: ألَا يألو، ألْوًا، وأُلُوًّا، وأُلِيًّا، وَإِلِيًّا، وأَلَّى يُؤلِّي تَألِيَةً، وَأتَلَى: قَصَّرَ، وأبْطأ. قاله في

(1)

لسان العرب جـ 6 ص 4745 - 4746.

(2)

نهاية ابن الأثير جـ 1 ص 178.

ص: 583

"اللسان"

(1)

.

(ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي لا أقصر في كيفية الصلاة التي اقتديت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد فسر ذلك في الروايات الأخرى، ففي الرواية التالية لهذه الرواية:"فقال: أمّا أنا فأصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أخْرِم عنها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين". وفي رواية البخاري: "أمّا أنا والله، فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أَخْرمُ عنها، أصلي صلاة العشاء، فأركُدُ في الأوليين، وأخِفّ في الأخريين". وفيه استحباب تطويل الأوليين على الأخريين.

وقد تقدم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه "أنه كان يطول في الركعة الأولى، ويقصر في الثانية"، ويجمع بينهما بأن المراد هنا تطويلهما على الأخريين، لا التسوية فيما بينهما، وأن المراد بحديث أبي قتادة، تطويل الأولى على الثانية، فلا تعارض، والله تعالى أعلم.

وقال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله: استَدَلَّ بقوله: "أركد في الأوليين" مَنْ يرى تطويل الركعتين الأوليين على الأخريين في الصلوات كلها، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، حكاه في "المهذب"، وفي "الروضة": الأصح التسوية بينهما وبين الثالثة والرابعة، قال: والمختار تطويل أولى الفجر على الثانية وغيرها، وهو قول محمد بن الحسن،

(1)

جـ 1 ص 117.

ص: 584

والثوري، وأحمد بن حنبل، وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف: لا يطيل الركعة الأولى على الثانية، إلا في الفجر خاصة، وفي "شرح المهذب": لأصحابنا وجهان، أشهرهما لا يطول، والثاني: يستحب تطويل القراءة في الأولى قصدًا، وهو الصحيح المختار. واتفقوا عى كراهة إطالة الثانية على الأولى، إلا مالكًا، فإنه قال: لا بأس أن يطيل الثانية على الأولى؛ مستدلا بأنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بـ"سورة الأعلى"، وهي تسع عشرة آية، وفي الثانية بـ"الغاشية"، وهي ست وعشرون آية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أرجح الأقوال عندي قول من قال: يستحب تطويل الركعتين الأوليين على الأخريين، وتطويل الأولى على

الثانية في كل الصلوات، لصحة حديث سعد بن أبي وقاص، وأبي قتادة رضي الله تعالى عنهما في ذلك، وأما ما قاله مالك رحمه الله فيحمل على الندور. والله تعالى أعلم.

(قال) عمر رضي الله عنه عندما بيَّن له سعد رضي الله عنه كيفية صلاته (ذاك الظن بك) أي هذا الذي تقوله هو الذي كنا نظنه فيك.

وفي رواية البخاري: "ذاك الظن بك يا أبا إسحاق". ونحوه لمسلم، وفي رواية له:"ذاك الظن بك"، أو "ذاك ظني بك". بالشك. وزاد مِسْعَر عن عبد الملك، وأبي عون معا:"فقال سعد: أتعلمني الأعراب الصلاة". أخرجه مسلم. وفيه دلالة على أن الذين شكوه لم يكونوا من أهل العلم، وكأنهم ظنوا مشروعية التسوية بين الركعات، فأنكروا على سعد

(1)

عمدة القاري جـ 6 ص 9.

ص: 585

التفرقة، فيستفاد منه ذم القول بالرأي الذي لا يستند إلى أصل، وفيه أن القياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار.

وأبو إسحاق كنية سعد، كني بأكبر أولاده، وهذا تعظيم من عمر رضي الله عنهما له، وفيه دلالة على أنه لم تقدح فيه الشكوى عنده. قاله في الفتح

(1)

.

وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته.

حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 74/ 1002، وفي "الكبرى" 21/ 1074 - بالسند المذكور. وفي 1003 و"الكبرى" 1075 - عن حماد بن إسماعيل بن عُلَيّة، عن أبيه، عن داود الطائي، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، عنه بنحوه. والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "الصلاة" عن سليمان بن حرب، عن شعبة به.

وعن موسى بن إسماعيل، وأبي النعمان -فرقهما- كلاهما عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر به.

(1)

جـ 2 ص 483.

ص: 586

ومسلم فيه عن محمد بن المثنى، عن ابن مهدي، عن شعبة به. وعن أبي كريب، عن محمد بن بشر، عن مسعر، عن عبد الملك بن عمير، وأبي عون الثقفي به. وعن يحيى بن يحيى، عن هشيم- وعن قتيبة، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير- كلاهما عن عبد الملك بن عمير به.

وأبو داود فيه عن حفص بن عمر، عن شعبة به. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

اعلم: أن المراد بذكر الفوائد هنا هي الفوائدُ التي اشتمل عليها الحديث بطوله، لا خصوص سياق المصنف:

فمنها: ما بوّب له المصنف، وهو استحباب تطويل الركعتين الأوليين، وقد تقدم الكلام عليه.

ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدة اهتمامهم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يصلون كما رأوه صلى الله عليه وسلم يصلي.

ومنها: جواز عزل الإمام بعضَ عماله إذا شُكِيَ إليه، وإن لم يثبت عليه شيء، إذا اقتضت المصلحة ذلك.

قال مالك رحمه الله: قد عزل عمر سعدًا، وهو أعدل من يأتي بعده إلى يوم القيامة. قال في "الفتح": والذي يظهر أن عمر عزله حسمًا لمادة الفتنة، ففي رواية سيف:"قال عمر: لولا الاحتياط، وألاّ يتقى من أمير مثل سعد لما عزلته". وقيل: عزله إيثارًا لقربه منه لكونه من أهل

ص: 587

الشورى. وقيل: لأن مذهب عمر أنه لا يُستمَرُّ بالعامل أكثر من أربع سنين، وقال المازري: إختلفوا، هل يعزل القاضي بشكوى الواحد، أو الاثنين، أو لا يعزل حتى يجتمع الأكثر على الشكوى منه؟.

ومنها: استفسار العامل عما قيل فيه، والسؤال عمن شُكِيَ في موضع عمله، والاقتصار في المسألة على من يظن به الفضل، حيث سُئل عن سعد أهلُ المساجد فقط.

ومنها: أن السؤال عن عدالة الشاهد ونحوه يكون ممن يجاوره، وأن تعريض العدل للكشف عن حاله لا ينافي قبول شهادته في الحال.

ومنها: تكنية الرجل الجليل بكنيته، والاعتذار لمن سُمِعَ في حقه كلامٌ يسوءه.

ومنها: الفرق بين الافتراء الذي يقصد به السب، والافتراء الذي يقصد به دفع الضرر، فيعزر الأول دون الثاني، ويحتمل أن يكون سعد لم يطلب حقه منهم، أو عفا عنهم، واكتفى بالدعاء على الذي كشف قناعه في الافتراء عليه دون غيره، فإنه صار كالمنفرد بأذيته. وقد جاء في الخبر:"من دعا على ظالمه فقد انتصر". فلعله أراد الشفقة عليه بأن عجل له العقوبة في الدنيا، فانتصر لنفسه، وراعى حال من ظلمه لما كان فيه من وفور الديانة.

ويقال: "إنما دعا عليه لكونه انتهك حرمة من صحب صاحب الشريعة، وكأنه قد انتصر لصاحب الشريعة".

ومنها: جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه،

ص: 588

وليس هو مِن طلب وقوع المعصية، ولكن من حيث إنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته، ومن هذا القبيل مشروعية طلب الشهادة، وإن كانت تستلزم ظهور الكافر على المسلم، ومن الأول قول موسى صلى الله عليه وسلم:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] الآية.

ومنها: كرامة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حيث كان مجاب الدعوة، فقد كان معروفًا بإجابة الدعوة، روى الطبراني من طريق الشعبي، قال: قيل لسعد: متى أصبت الدعوة؟ قال: يوم بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم استجيب لسعد". وروى الترمذي، وابن حبان، والحاكم من طريق قيس بن أبي حازم، عن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم استجيب لسعد إذا دعاك".

ومنها: سلوك الورع في الدعاء، حيث قال سعد رضي الله عنه: "اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياء وسمعة

"

(1)

.

ومنها: جواز مدح الرجل الجليل في وجهه إذا لم يُخَفْ عليه فتنةٌ بإعجاب ونحوه، والنهي عن ذلك إنما هو لمن خيف عليه الفتنة، وقد جاءت أحاديث صحيحة كثيرة بالأمرين، فجمع العلماء بينهما بما ذُكِرَ، كما قاله النووي رحمه الله. انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1003 -

أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ

(1)

راجع الفتح جـ 2 ص 485 - 486. ونقل بتصرف، وزيادات.

(2)

شرح مسلم جـ 4 ص 176.

ص: 589

ابْنِ عُلَيَّةَ أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ دَاوُدَ الطَّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ:"وَقَعَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي سَعْدٍ عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(حماد بن إِسماعيل بن إِبراهيم ابن علية، أبو الحسن) البصري نزيل بغداد، ثقة، من [11].

روى عن أبيه، ووهب بن جرير بن حازم. وعنه مسلم، والنسائي، وعثمان بن خُرَّزاذ، ومحمد بن إسحاق الصَّغَاني، ويعقوب بن سفيان، ومحمد بن إسحاق السراج، وغيرهم. قال النسائي: بغدادي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال السراج: مات سنة 244. انفرد به مسلم، والمصنف

(1)

.

2 -

(إِسماعيل بن إِبراهيم ابن علية) الأسدي مولاهم، أبو بِشْر

(1)

"تت" جـ 3 ص 4.

ص: 590

البصري، ثقة حافظ، من [8]، مات سنة 193، أخرج له الجماعة. تقدم في 18/ 19.

فائدة: قوله: "ابن علية" صفة لإسماعيل، لا لإبراهيم، لأن "علية" اسم أم إسماعيل، ولذا تكتب همزة الوصل في "ابن"؛ لأن قاعدة حذفها أن يقع "ابن" بين علمين صفة للأول، ويكون الثاني أبًا له حقيقة، فحينئذ تحذف ألف "ابن"، ويحذف التنوين أيضًا من العلم الأول، نحو محمدُ بنُ عبد الله، فلو كان جَدَّه، أو أمَّه

(1)

، أو غير ذلك ثبتت الألف، والتنوين. انظر تفاصيل المسألة في "حاشية الخضري، على شرح ابن عقيل، لألفية ابن مالك" جـ 2 ص 74 - في باب "المنادى" عند قوله:

وَنَحْوَ زَيْدٍ ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ

نَحْوِ أزَيْدُ بْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ

3 -

(داود الطائي) هو ابن نُصيْر، أبو سليمان الكوفي، ثقة فقيه زاهد من [8].

روى عن عبد الملك بن عمير، وإسماعيل بن أبي خالد، وحميد الطويل، وسعد بن سعيد الأنصاري، وابن أبي ليلى، والأعمش، وغيرهم. وعنه عبد الله بن إدريس، وابن عيينة، وابن علية، ومصعب ابن المقدام، وإسحاق بن منصور السَّلُولي، ووكيع، وأبو نعيم، وغيرهم.

قال ابن المديني، عن ابن عيينة: كان داود ممن عَلِمَ وفَقِهَ، ثم أقبل على العبادة، وكان الثوري إذا ذكره قال: أبصر الطائي أمره.

(1)

ومنهم من يحذف مع الأم كالأب، وعلى هذا تحذف ألف ابن علية، فافهم.

ص: 591

وقال عطاء بن مسلم: كنا ندخل على داود الطائي، فلم يكن في بيته إلا بَارِيَّة

(1)

ولَبِنَة يضع رأسه عليها، وإجَّانَة

(2)

فيها خبز، ومطهرة يتوضأ منها، ومنها يشرب.

وقال الآجري عن أبي داود: دَفَنَ داودُ الطائي كتبه. وقال ابن معين: ثقة. وقال البخاري: مات بعد الثوري، قاله لي علي. وقال أبو

نعيم: مات سنة 160. وقال ابن نمير: مات سنة 165. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال محارب بن دثار: لو كان داود في الأم الماضية لقص الله علينا من خبره. انفرد به المصنف

(3)

.

تنبيه:

قوله: "الطائي": بفتح الطاء المهملة: نسبة إلى طيِّئ، واسمه جلهمة ابن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقيل: خرج من طيِّئ ثلاثة لا نظير لهم: حاتم في جوده، وداود في فقهه وزهده، وأبو تَمَّام في شعره. انتهى. الأنساب جـ 4 ص 35 - 40، اللباب جـ 2 ص 271 - 272.

4 -

(عبد الملك بن عمير) بن سُوَيد اللَّخْمي الفَرَسي الكوفي، ثقة فقيه، تغير حفظه، وربما دلس، من [3]، مات سنة 136 وله 103،

(1)

الباريّة بتشديد الياء: الحَصير. اهـ. المصباح ص 47.

(2)

بكسر الهمزة، وتشديد الجيم: إناء يغسل فيه الثياب، والجمع أجَاجيِن. اهـ. المصباح ص 6.

(3)

"تك" جـ 8 ص 455 - 461. "تت" جـ 3 ص 203.

ص: 592

أخرج له الجماعة، تقدم في 41/ 947.

5، 6 - تقدما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به قد مضى إيضاحها، فلا حاجة إلى إعادتها. ولنوضح هنا بعض ما لم يتقدم إيضاحه:

قوله: (الكوفة): بضم الكاف. قال ابن منظور رحمه الله: الكُوفة: الرَّمْلَةُ المجتمعة، وقيل الكوفة: الرملة ما كانت. وقيل: الكوفة الرملة الحَمْراء، وبها سميت الكوفة. وقال الأزهري، والليث: كُوفَانُ اسم أرض، وبها سميت الكوفة، وقال ابن سِيدَهْ: الكوفة بلد، سميت بذلك لأن سعدًا لَمّا أراد أن يبني الكوفة ارتادها لهم، وقال: تَكَوَّفُوا في هذا المكان، أي اجتمعوا فيه.

وقال المفضل: إنما قال. كَوِّفُوا هذا الرمل، أي نَحُّوه، وانزِلُوا، ومنه سميت الكوفة، وكُوفَان اسم الكوفة، قال اللحياني: وبها كانت تُدْعَى قبلُ، وقال الكسائي: كانت الكوفة تُدعَى كُوفَانَ. وكَوَّفَ القومُ أتَوا الكوفة. قال الشاعر [من بحر الطويل]:

إِذَا مَا رَأتْ يَومًا منَ النَّاسِ رَاكِبا

يُبَصِّرُ مِن جِيرَانِهَا وَيُكَوِّف

وكَوَّفْتُ تكويفًا: أي صرتُ إلى الكوفة، وتكوّفَ الرجلُ: أي تشبه بأهل الكوفة، أو انتسب إليهم، وتكوف الرملُ، والقومُ: أي استداروا. انتهى كلام ابن منظور

(1)

.

(1)

لسان العرب جـ 5 ص 3956.

ص: 593

وقوله: (ما يحسن) يحتمل أن يكون من "الإحسان" أو التحسين.

وقوله: (لا أخرم) من باب ضرب، أي لا أترك، ولا أنقص. وقوله:"أركد" من باب قتل، أي أسكن، وأطيل القيام.

وقوله: (أما أنا

) إلخ. "أما" هنا ليست للتفصيل، وإنما هي لمجرد التوكيد، فإن جمهور النحاة على أنها تأتي للتفصيل غالبا، وقد تأتي لغير تفصيل، نحو "أما بعد"، ومن قال بأنها للتفصيل دائمًا فقد تعسف، كما هو محقق في محله من كتب النحاة. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 594

‌75 - قِرَاءَةُ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ

1004 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:"إِنِّي لأَعْرِفُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ سُورَةً، فِي عَشْرِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلْقَمَةَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا عَلْقَمَةُ، فَسَأَلْنَاهُ؟ فَأَخْبَرَنَا بِهِنَّ".

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي ابن راهويه المروزي، ثم النيسابوري، الإمام الحافظ الحجة من [10]، مات سنة 238، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، تقدم في 2/ 2.

2 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي، أخو إسرائيل الكوفي نزيل الشام مرابطًا، ثقة مأمون، من [8]، مات سنة 187 وقيل: غير ذلك، أخرج له الجماعة، تقدم في 8/ 8.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت

ص: 595

فقيه، يدلس، من [5]، مات سنة 147، أخرج له الجماعة، تقدم في 17/ 18.

4 -

(شقيق) بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي، ثقة مخضرم من [2]، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.

5 -

(عبد الله) بن مسعود الهذلي الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم في 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزي، ثم نزيل نيسابور.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قال: إِني لأعرف النظائر) أي السور المتماثلة في المعاني، كالموعظة، أو الحكم، أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي، لما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العد، حتى اعتبرتها، فلم أجد فيها شيئًا متساويًا. انتهى

(1)

.

(1)

فتح جـ 2 ص 508.

ص: 596

وسبب قول ابن مسعود رضي الله عنه هذا، ما بُيِّنَ في رواية عمرو ابن مرة، قال:"سمعت أبا وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: "قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هَذًّا كَهذِّ الشِّعْر، لقد عرفت النظائر"

(1)

.

وعند مسلم في "صحيحه" من طريق وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: جاء رجل، يقال له: نَهِيك بن سنَان إلى عبد الله، فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف تقرأ هذا الحرف، ألفًا تجده، أم ياءً، {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15]، أو "ياسن"؟ قال: فقال عبد الله: "وكلَّ القرآن قد أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله؟ هذًّا كهذِّ الشعر، إن أقوامًا يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب، فَرَسَخَ فيه نَفَعَ، وإن أفضل الصلاة الركوعُ والسجود، إني أعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، سورتين في ركعة"

(2)

.

(التي كان يقرأ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي الرواية التالية:"يقرن بينهن" بالنون بدل الهمزة، وهو من باب قتل، وضرب، أي يجمع بينهن في القراءة (عشرين سورة في عشر ركعات) بنصب "عشرين" على أنه مفعول لمحذوف دلَّ عليه ما قبله، أي يقرأ عشرين. و"سورة" منصوب على التمييز. والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر.

(1)

هذا لفظ البخاري في صحيحه، ويأتي للمصنف بعد هذا بلفظ قريب منه.

(2)

صحيح مسلم جـ 6 ص 104 - 105، بنسخة شرح النووي.

ص: 597

وفي رواية عمرو بن مرة الآتية: "فذكر عشرين سورة من المفصل؛ سورتين، سورتين في كل ركعة". وفي رواية مسروق الآتية أيضًا: "كان يقرن النظائر، عشرين سورة من المفصل، من آل حم".

(ثم أخذ) أي ابن مسعود رضي الله عنه (بيد علقمة، فدخل) منزله (ثم خرج إلينا علقمة، فسألناه) أي سألنا علقمة عن النظائر

التي أشار إليها ابن مسعود (فأخبرنا بهن) أي بتلك النظائر.

وفي رواية لابن خريمة: أن علقمة سأل ابن مسعود عنها، فأخبرهم بها، ولفظه. "فدخل علقمة، فسأله، ثم خرج إلينا، فقال: عشرون

سورة من أول "المفصل" في تأليف عبد الله". وفي رواية مسلم المذكورة: "ثم قام عبد الله، فدخل علقمة في إثره، ثم خرج، فقال: قد أخبرني بها".

تنبيه:

لم يقع عند المصنف، ولا عند الشيخين تفسير تلك النظائر العشرين، وقد وقع في رواية أبي داود من طريق أبي إسحاق، عن علقمة والأسود، قالا: أتى ابن مسعود رجلٌ، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: اهَذًّا كهذّا الشِّعْر، وَنثْرًا كَنثْرِ الدَّقَل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرن بين النظائر، السورتين في ركعة:"الرحمن"، و"النجم" في ركعة، و "اقتربت"، و "الحاقة" في ركعة، و "الطور"، و "الذاريات" في ركعة، و "إذا وقعت"، و "نون" في ركعة، و "سأل سائل"، و "النازعات"

ص: 598

في ركعة، و "ويل للمطففين"، و "عبس" في ركعة، و "المدثر"، و "المزمل" في ركعة، و "هل أتى"، و "لا أقسم بيوم القيامة" في ركعة، و "عم يتساءلون"، و "المرسلات" في ركعة، و "الدخان"، و "إذا الشمس كورت"

(1)

في ركعة. قال أبو داود رحمه الله: هذا تأليف ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

وعند ابن خزيمة في صحيحه: قال الأعمش: وهي عشرون سورة على تأليف عبد الله، أولهن "الرحمن"، وآخرهن "الدخان":"الرحمن" و "النجم"، و "الذاريات"، و "الطور"، هذه النظائر، و "اقتربت"، و "الحاقة"، و "الواقعة"، و "ن"، و "النازعات"، و "سأل سائل"، و "المدثر"، و "المزمل"، و "ويل للمطففين"، و "عبس"، و "لا أقسم"، و "هل أتى"، و "المرسلات"، و "عم يتساءلون"، و "إذا الشمس كورت"، و "الدخان". انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": وقع في "فضائل القرآن" من رواية واصل، عن أبي وائل:"ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم"، وَبَيَّنَ في رواية أبي حمزة عن الأعمش أن قوله:"عشرين سورة" إنما

(1)

هكذا نسخة أبي داود التي بين يدي، والذي في "الفتح"، وعمدة القاري نقلًا عن أبي داود: و"إذا الشمس كورت"، و"الدخان" بتأخير "الدخان"، وهو الموافق لما في صحيح ابن خزيمة. والله تعالى أعلم.

(2)

راجع سنن أبي داود جـ 2 ص 56. رقم 1396.

(3)

صحيح ابن خزيمة جـ 1 ص 269 - 270.

ص: 599

سمعه أبو وائل من علقمة، عن عبد الله، ولفظه: فقام عبد الله، ودخل علقمة معه، ثم خرج علقمة، فسألناه؟ فقال: عشرون سورة من المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن "حم الدخان"، و"عم يتساءلون". ولابن خزيمة من طريق أبي خالد الأحمر، عن الأعمش، مثله، وزاد فيه: فقال الأعمش: أولهن "الرحمن"، وآخرهن "الدخان"، ثم سردها، وكذلك سردها أبو إسحاق، عن علقمة والأسود، عن عبد الله فيما أخرجه أبو داود متصلًا بالحديث بعد قوله: كان يقرأ النظائر، السورتين في ركعة:"الرحمن"، و"النجم" في ركعة. . . إلى آخر ما تقدم، ثم قال: هذا لفظ أبي داود، والآخر مثله، إلا أنه لم يقل:"في ركعة" في شيء منها، وذكر السورة الرابعة قبل الثالثة، والعاشرة قبل التاسعة، ولم يخالفه في الاقتران، وقد سردها أيضًا محمد بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي وائل، أخرجه الطبراني، لكن قدم وأخر في بعض، وحذف بعضها، ومحمد ضعيف.

وعُرِفَ بهذا أن قوله في رواية واصل: "وسورتين من آل حم" مشكل؛ لأن الروايات لم تختلف أنه ليس في العشرين من "الحواميم" غير "الدخان"، فيحمل على التغليب، أو فيه حذف، كأنه قال: وسورتين إحداهما من "آل حم"، وكذا قوله في رواية حمزة:"آخرهن حم "الدخان"، و"عم يتساءلون"" مشكل؛ لأن "حم الدخان" آخرهن في جميع الروايات، وأما "عم" فهي في رواية أبي خالد السابعة عشرة، وفي رواية أبي إسحاق الثامنة عشرة، فكأن فيه تجوزًا، لأن "عم" وقعت

ص: 600

في الركعتين الأخيرتين في الجملة.

ويتبين بهذا أن في قوله: في حديث الباب: "عشرون سورة من المفصل" تجوزًا، لأن "الدخان" ليست منه، ولذلك فصلها من المفصل في رواية واصل، نعم يصح ذلك على أحد الآراء في حد "المفصل"، كما تقدم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

وقال في موضع آخر: والجمع بينهما

(2)

أن الثاني عشرة غير سورة "الدخان" والتي معها، وإطلاق "المفصل" على الجميع تغليب، وإلا فـ"الدخان" ليست من المفصل على المرجح، لكن يحتمل أن يكون تأليف ابن مسعود على خلاف تأليف غيره، فإن في آخر رواية الأعمش على تأليف ابن مسعود آخرهن "حم الدخان"، و"عم". فعلى هذا لا تغليب. انتهى

(3)

. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 75/ 1004 - وفي "الكبرى" 22/ 1076 بالسند المذكور. وفي 1005، و"الكبرى" 1077 - عن إسماعيل بن مسعود،

(1)

جـ 2 ص 509.

(2)

يعني بين رواية "ثماني عشرة"، ورواية "عشرين سورة".

(3)

فتح جـ 10 ص 110.

ص: 601

عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي وائل، عنه. وفي 1006، و"الكبرى" 1078 - عن عمرو بن منصور، عن عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن يحيى بن وَثَّاب، عن مسروق، عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "الصلاة" عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة به. وفي "فضائل القرآن" عن عبدان، عن أبي حمزة السكري، عن الأعمش به. وعن أبي النعمان، عن مهدي بن ميمون، عن واصل الأحدب، عن شقيق به.

ومسلم في "الصلاة" عن شيبان بن فروخ، عن مهدي به مطولًا. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن وكيع- ومن أبي كريب، عن أبي معاوية- وعن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، كلهم عن الأعمش به. وعن محمد بن المثنى، ومحمد ابن بشار، كلاهما عن غندر، عن شعبة به. وعن عَبد بن حُمَيد، عن حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن منصور، عن شقيق به.

وأبو داود فيه عن عباد بن موسى، عن إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل به.

والترمذي فيه عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة به.

وأخرجه أحمد 1/ 380 و 412 و 417 و 418 و 421 و 427 و 436. وابن خزيمة برقم 538. والله تعالى أعلم.

ص: 602

المسألة الرابعة: في فوائده

(1)

:

منها: ما بوب له المصنف رحمه الله، وهو جواز قراءة سورتين غير الفاتحة في ركعة. وقد روى أبو داود، وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن شقيق، قال:"سألت عائشة، أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين السور؟ قالت: نعم من المفصل".

ولا يخالف هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين "البقرة" وغيرها من الطوال، لأنه يحمل على النادر.

وقال القاضي عياض رحمه الله: في حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا ما يدلّ على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبًا، وأما تطويله فإنما كان في التدبر والترتيل، وما ورد من قراءة البقرة وغيرها في ركعة، فكان نادرًا. قال الحافظ رحمه الله: لكن ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على المواظبة، بل فيه أنه كان يقرن بين هذه السور المعينات إذا قرأ من المفصل.

ومنها: أن فيه موافقة لقول عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم أن صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل كانت عشر ركعات غير الوتر.

ومنها: كراهة الإفراط في سرعة التلاوة، والإنكار على من يَهُذُّ القرآن هَذًّا، لأن ذلك ينافي المطلوب من التدبر والتفكر في معاني

القرآن، قال في "الفتح": ولا خلاف في جواز السرد بدون تدبر، لكن

(1)

والمراد فوائد الحديث من حيث هو، لا خصوص سياق الصنف، كما سبق نظيره في الباب الماضي.

ص: 603

القراءة بالتدبر أعظم أجرًا. انتهى

(1)

. وقال النووي رحمه الله: وفيه النهي عن الهَذّ، والحث على الترتيل والتدبر، وبه قال جمهور العلماء، قال القاضي: وأباحت طائفةٌ قليلةٌ الهَذَّ. انتهى.

ومنها: جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها، لأن بعض هذه السور أطول من التي قبلها.

ومنها: أن فيه ما يقوي قول من قال: إن تأليف السور كان عن اجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم، لأن تأليف عبد الله المذكور مغاير لتأليف مصحف عثمان رضي الله عنه.

قال في "الفتح": قال ابن بطال: لا نعلم أحدًا قال بوجوب ترتيب السور في القراءة، لا داخل الصلاة، ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ "الكهف" قبل "البقرة"، و"الحج" قبل "الكهف" مثلًا. وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوسًا، فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها، وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر، مبالغة في حفظها، وتذليلًا للسانه في سردها، فمنع السلف ذلك في القرآن، فهو حرام فيه.

وقال القاضي عياض في شرح حديث حذيفة رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاته في الليل بسورة "النساء" قبل "آل عمران": هو كذلك في مصحف أبَيّ بن كعب، وفيه حجة لمن يقول: إن ترتيب السور

(1)

فتح جـ 2 ص 508 - 509.

ص: 604

اجتهاد، وليس بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول جمهور العلماء، واختاره القاضي الباقلاني، قال: وترتيب السور ليس بواجب في التلاوة، ولا في الصلاة، ولا في الدرس، ولا في التعليم، فلذلك اختلفت المصاحف، فلما كتب مصحف عثمان رتبوه على ما هو عليه الآن، فلذلك اختلف ترتيب مصاحف الصحابة. ثم ذكر نحو كلام ابن بطال، ثم قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيف من الله تعالى، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. انتهى. المقصود من "الفتح"

(1)

. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1005 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ، قَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ، سُورَتَيْنِ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.

(1)

جـ 10 ص 48.

ص: 605

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(إِسماعيل بن مسعود) الجَحْدَرِيّ البصري، ثقة من [10]، تقدم في قبل باب.

2 -

(خالد) بن الحارث الهُجَيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، من [8]، تقدم في 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة، تقدم في 24/ 26.

4 -

(عمرو بن مُرَّة) بن عبد الله بن طارق الجَمَلِيّ، أبو عبد الله الكوفي الأعمى، ثقة عابد، لا يدلس، ورمي بالإرجاء من [5]، مات

سنة 118، أخرج له الجماعة، تقدم في 171/ 265.

5، 6 - تقدما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به قد تقدمت هناك، ولنوضح هنا بعض ما يستشكل:

قوله: "رجل" تقدم أنه نَهِيك بن سنان البجلي.

وقوله: "المفصل" بصيغة اسم الفعول، اختلف في أوله، فقيل: من "القتال"، وقيل: من "الحجرات"، وقيل: من "ق". وسمي مفصلًا

لقصر سوره، وقرب انفصال بعضهن من بعض.

قال العلماء رحمهم الله: أول القرآن السبع الطوال، ثم ذوات المئين، وهو ما كان في السور منها مائة آية ونحوها، ثم المثاني، ثم المفصل. ذكره النووي رحمه الله في شرح مسلم

(1)

.

(1)

جـ 6 ص 106 - 107.

ص: 606

وقوله: (هَذًّا كهَذِّ الشعر) بفتح الهاء، وتشديد الذال المعجمة، أي سردًا وإفراطًا في السرعة، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق لعامل محذوف، أي أتهُذُّهُ هَذًّا. قال الفيومي: الهَذّ: سرعة القطع، وهَذَّ قراءته هَذّا، وهو من باب قتل: أسرع فيها. انتهى

(1)

.

والكلام بتقدير أداة الاستفهام، وقد وقع التصريح بها في رواية لمسلم، والاستفهام للإنكار، أي أتسرع في قراءة القرآن كإسراعك في إنشاد الشعر؟! وإنما قال ذلك لأن تلك الصفة عادتهم في إنشاد الشعر

(2)

.

وقوله: (يقرن) بضم الراء، وكسرها، من بابي قتل، وضرب: أي يجمع بينهن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،

وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1006 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنِّي قَرَأْتُ اللَّيْلَةَ "الْمُفَصَّلَ" فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

المصباح ص 636.

(2)

راجع الفتح جـ 2 ص 508.

ص: 607

كَانَ يَقْرَأُ النَّظَائِرَ؛ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ "الْمُفَصَّلِ"، مِنْ "آلِ حم".

رجال هذا الإسناد: سبعة

1 -

(عمرو بن منصور) النسائي، ثقة ثبت، من [11]، انفرد به النسائي، تقدم في 108/ 147.

2 -

(عبد الله بن رجاء) بن عُمَر، ويقال: ابن المثنى، الغُدَاني، أبو عُمَر، ويقال: أبو عَمْرو البصري، صدوق يهم قليلًا، من [9].

روى من عكرمة بن عمار، وإسرائيل، وحرب بن شداد، وشعبة، والمسعودي، وغيرهم.

قال عثمان الدارمي، عن ابن معين: كان شيخًا صدوقًا، لا بأس به. وقال هاشم بن مرثد، عن ابن معين: كثير التصحيف، وليس به بأس. وقال عمرو بن علي: صدوق كثير الغلط والتصحيف ليس بحجة. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه؟ فجعل يثني عليه. وقال: حسن الحديث عن إسرائيل. وقال أبو حاتم: كان ثقة رِضًى. وقال ابن المديني: اجتمع أهل البصرة على عدالة رجلين، أبي عُمَر الحَوْضي، وعبد الله بن رجاء.

وقال النسائي: عبد الله بن رجاء المكي، والبصري ليس بهما بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو القاسم اللالكائي: مات سنة (219)، وقال محمد بن عبد الله الحضرمي: مات سنة (220). وقال

ص: 608

محمد بن المثنى: مات في آخر ذي الحجة سنة (219). وحكاه الكلاباذي أيضًا عن غيره. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وقال الدوري عن ابن معين: ليس من أصحاب الحديث. وفي "الزهرة": روى عنه البخاري خمسة عشر حديثًا. أخرج له البخاري، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والنسائي، وابن ماجه

(1)

.

3 -

(إِسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني، أبو يوسف الكوفي، أخو يونس، وهو الأكبر، ثقة تكلم فيه بلا حجة،

من [7].

روى عن جده، وزياد بن عِلَاقة، وزيد بن جبير، وعاصم بن بهدلة، وعاصم الأحول، وسماك بن حرب، والأعمش، وغيرهم، وعنه ابنه مهدي، وأبو أحمد الزبيري، والنضر بن شميل، وعبد الرزاق، ووكيع، وغيرهم.

قال ابن مهدي، عن عيسى بن يونس: قال لي إسرائيل: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة من القرآن. وقال علي بن المديني، عن يحيى القطان: إسرائيل فوق أبي بكر بن عياش. وقال حرب، عن أحمد بن حنبل: كان شيخًا ثقة، وجعل يَعجَب من حفظه. وقال صالح ابن أحمد، عن أبيه: إسرائيل عن أبي إسحاق فيه لين، سمع منه بآخره. وقال أبو طالب: سئل أحمد، أيما أثبت شريك، أو إسرائيل؟ قال: إسرائيل كان يؤدي ما سمع، كان أثبت من شريك، قلت: مَنْ أحَبُّ

(1)

تك جـ 14 ص 495 - 500، تت جـ 5 ص 209 - 210.

ص: 609

إليك، يونس، أو إسرائيل في أبي إسحاق؟ قال: إسرائيل، لأنه كان صاحب كتاب. وقال أبو داود: قلت: لأحمد بن حنبل: إسرائيل إذا انفرد بحديث، يحتج به؟ قال: إسرائيل ثبت الحديث، كان يحيى -يعني القطان- يحمل عليه في حال أبي يحيى القتات، وقال: روى عنه مناكير، قال أحمد: ما حدث عنه يحيى فليس بشيء. وقال الدُّوري عن ابن معين: سئل يحيى بن معين، عن إسرائيل؟ فقال: قال يحيى بن آدم: كنا نكتب عنده من حفظه، قال يحيى: كان إسرائيل لا يحفظ، ثم حفظ بعدُ، وقال أيضًا: إسرائيل أثبت في أبي إسحاق من شيبان، وقال أيضًا: إسرائيل أثبت حديثًا من شريك.

وقال أبو حاتم: ثقة صدوق من أتقن أصحاب أبي إسحاق. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: صالح الحديث، وفي

حديثه لين، وقال في موضع آخر: ثقة صدوق، وليس في الحديث بالقوي، ولا بالساقط.

وقال عيسى بن يونس: كان أصحابنا، سفيان، وشريك، وعدّ قومًا إذا اختلفوا في حديث أبي إسحاق يجيئون إلى أبي، فيقول: اذهبوا إلى ابني إسرائيل فهو أروى عنه مني، وأتقن لها مني، هو كان قائد جده. وقال شبابة بن سوّار: قلت ليونس بن أبي إسحاق: أمْلِ عليَّ حديث أبيك، قال: اكتب عن ابني إسرائيل، فإن أبي أملاه عليه. وقال محمد ابن الحسين بن أبي الْحُنَين: سمعت أبا نعيم، سئل أيهما أثبت، إسرائيل، أو أبو عوانة؟ فقال: إسرائيل. وقال أبو داود: إسرائيل أصح

ص: 610

حديثًا من شريك. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال محمد بن عبد الله ابن نمير: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، وحدث عنه الناس حديثًا كثيرًا، ومنهم من يستضعفه. وقال ابن معين: زكرياء، وزهير، وإسرائيل حديثهم في أبي إسحاق قريب من السواء، إنما أصحاب أبي إسحاق، سفيان، وشعبة.

وقال حجاج الأعور: قلنا لشعبة: حدثنا حديث أبي إسحاق، قال: سلوا عنها إسرائيل، فإنه أثبت فيها مني. وقال ابن مهدي: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوري. وقال أبو عيسى الترمذي: إسرائيل ثبت في أبي إسحاق، حدثني محمد بن المثنى: سمعت ابن مهدي يقول: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل، لأنه كان يأتي به أتم.

وقال ابن عدي: هو ممن يحتج به. وذكره ابن حبان في الثقات. وروى ابن البراء عن علي بن المديني: إسرائيل ضعيف.

قال الحافظ: وأطلق ابن حزم ضعف إسرائيل، وَرَدَّ به أحاديث من حديثه، فما صنع شيئًا.

وقال عثمان ابن أبي شيبة، عن عمد الرحمن بن مهدي: إسرائيل لص يسرق الحديث. وقال دُبَيس بن حُميَد: ولد سنة (100) ومات سنة (161)، وقال أبو نعيم وغيره: مات سنة (160) وقال خليفة، وابن سعد: مات سنة (162). روى له الجماعة

(1)

.

(1)

"تك" جـ 2 ص 515 - 524. "تت" جـ 1 ص 261 - 263.

ص: 611

4 -

(أبو حَصِين

(1)

) عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي، الكوفي، ثقة ثبت سُنِّيّ، ربما دلس، من [4]، مات سنة 127، أخرج له الجماعة، تقدم في 102/ 152.

5 -

(يحيى بن وَثَّاب) -بتشديد المثلثة- الأسدي مولاهم، الكوفي المقرئ، ثقة عابد، من [4].

روى عن ابن عمر، وابن عباس، وزِرّ بن حُبَيش، وعلقمة، ومسروق، وغيرهم. وعنه أبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، وأبو حَصِين الأسدي، والأعمش، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش: كان يحيى بن وثاب من أحسن الناس قراءة، وربما اشتهيت أن أقَبِّل رَأسه من حسن قراءته، وكان إذا قرأ لا يُسمع في المسجد حركةٌ، وكأن ليس في المسجد أحد. وقال عطاء بن مسلم الحلبي، عن الأعمش: كنت إذا رأيت يحيى بن وثاب قد جاء قلت: هذا قد وقف للحساب، يقول: أي رب أذنبت كذا، أذنبت كذا، فعفوت عني، فلا أعود، فأقول: هذا كل يوم يوقف للحساب.

وقال أبو محمد بن حيان الأصبهاني. يقال: كان وثاب من أهل قاسان، فوقع إلى ابن عباس، فأقام معه، فاستأذنه في الرجوع إلى قاسان، فأذن له، فرحل مع ابنه يحيى، فلما بلغ الكوفة قال له ابنه

(1)

بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين.

ص: 612

يحيى: إني مؤثر حظ العلم على حظ المال، فأعطني الإذن في المقام، فأذن له، فأقام في الكوفة، فصار إمامًا، وله أحاديث كثيرة، ورُوي عن أبي عمرو بن العلاء، عن نهشل الإيادي، عن أبيه، قال: خرجت مع أبي موسى الأشعري إلى أصبهان، فبعث سراياه إلى قاسان، ففتحها، وسبى أهلها، فكان منهم يزدويه بن ماهويه فتى من أبناء أشرافها، فصار إلى ابن عباس، فسماه وَثّابًا، وهو والد يحيى إمام أهل الكوفة في القرآن.

وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وكان مقرئ أهل الكوفة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث صاحب قرآن. وقال ابن معين، وأبو

زرعة: ثقة. وقال عمرو بن علي، وغيره: مات سنة (103) روى له الجماعة سوى أبي داود

(1)

.

6 -

(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهَمْدَاني الوادعي، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم، من [2]، مات سنة 62 أو

63، أخرج له الجماعة، تقدم في 90/ 112.

7 -

تقدم في الذي قبله. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم كوفيون، سوى شيخه، فنسائي، وعبد الله بن رجاء، فبصري، وفيه

ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض. والله أعلم.

(1)

"تك" جـ 32 ص 26 - 29. "تت" جـ 11 ص 294 - 295.

ص: 613

وأما شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به فتقدم تمام البحث عنها في الحديث الأول. فراجعها تستفد. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (عشرين سورة) بالنصب بدل من "النظائر". وقوله: (من آل حم) أي من السور التي أولها "حم"، كقولك: فلان من آل فلان، وقال القاضي عياض رحمه الله: ويجوز أن يكون المراد "حم" نفسها، كما في الحديث:"من مزامير آل داود"، أي داود نفسه. انتهى

(1)

.

وظاهر رواية المصنف تدل على أن "حم" من "المفصل"، وهو على تأليف ابن مسعود رضي الله عنه، كما تقدم الكلام عليه، فلا إشكال.

وأشار في هامش الهندية إلى أنه وقع في بعض النسخ: "وآل حم" بالعطف، وهو ظاهر. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

شرح مسلم للنووي رحمه الله تعالى.

ص: 614

‌76 - قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّورَةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز قراءة بعض السورة الواحدة في الصلاة، وهو قول الجمهور، ونقل عن مالك رحمه الله

كراهته، وفي استدلال المصنف على الجواز بحديث الباب نظر سيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.

1007 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ حَدِيثًا، رَفَعَهُ إِلَى ابْنِ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ، فَصَلَّى فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ، فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ "الْمُؤْمِنِينَ"، فَلَمَّا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى، أَوْ عِيسَى عليهما السلام أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ.

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة، من [10]، تقدم في 5/ 5.

ص: 615

تنبيه:

وقع في بعض نسخ "المجتبى""محمد بن علي" بدلًا من "محمد بن عبد الأعلى"، وهو خطأ، والصواب ما هنا، وهو الذي في النسخة الهندية ص 156

(1)

و"الكبرى" جـ 1 ص 345، و"تحفة الأشراف" جـ 4 ص 346. فتنبه.

2 -

(خالد) بن الحارث الهجيمي البصري، ثقة ثبت، من [8]، تقدم في 42/ 47.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة فقيه من [6]، تقدم في 28/ 32.

4 -

(محمد بن عباد) بن جعفر بن رفاعة بن أمية بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي المكي، ثقة، من [3]، تقدم في 25/ 776.

5 -

(ابن سفيان) هو عبد الله بن سفيان المخزومي، ثقة، من [4]، تقدم في 25/ 776.

6 -

(عبد الله بن السائب) بن أبي السائب، واسمه صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، أبو عبد الرحمن المخزومي المكي، له ولأبيه صحبة، كان قارئ أهل مكة، مات سنة بضع وستين، أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، تقدم في 25/ 776.

(1)

وقد أشار في هامشها إلى وجود نسخة فيها "محمد بن علي".

ص: 616

تنبيه:

اختُلِفَ على ابن جريج في إسناد هذا الحديث، فقال ابن عيينة عنه، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن السائب. أخرجه ابن ماجه، وقال أبو عاصم عنه عن محمد بن عباد، عن أبي سلمة بن سفيان، أو سفيان ابن أبي سلمة. وكأن البخاري لهذا الاختلاف علقه في صحيحه بصيغة التمريض، فقال:"ويذكر عن عبد الله بن السائب: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "المؤمنون"

الحديث". لكن الصحيح أن هذا الاختلاف لا يضر، فقد أخرجه مسلم عن هارون بن عبد الله، عن حجاج بن محمد الأعور - وعن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق -.

وأخرجه أبو داود عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق- وأبي عاصم - ثلاثتهم عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي سلمة بن سفيان، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن المسيب العابدي، ثلاثتهم، عن عبد الله بن السائب رضي الله عنهما.

وأخرجه الصنف عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد، من ابن سفيان، عنه.

فقد اتفق حجاج الأعور، وعبد الرزاق، وأبو عاصم، وخالد بن الحارث على أنه عن ابن جريج، عن محمد بن عباد، فلا يضرهم مخالفة ابن عيينة فيه.

والحاصل أن الحديث مما تقوم به الحجة، ولذلك أخرجه مسلم في "صحيحه".

ص: 617

على أنه يحتمل أن يكون لابن جريج في هذا الحديث إسنادان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

شرح الحديث

(قال) ابن جريج: (أخبرني محمد بن عباد حديثًا رفعه إِلى ابن سفيان) ، أي أسنده إليه، وقد وقع عند مسلم التصريح بسماع محمد بن عباد عن ابن سفيان، ولفظه:"قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر، يقول: أخبرني أبو سلمة بن سفيان، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن المسيب العابدي، عن عبد الله بن السائب. . .". والله تعالى أعلم.

تنبيه:

وقع في بعض النسخ: "إلى سفيان" بدلًا من "ابن سفيان"، وهو خطأ. فتنبه.

(عن عبد الله بن السائب) رضي الله عنهما أنه (قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فصلى)، وَقَد بَينَ في رواية مسلم أن تلك الصلاة هي الصبح، ولفظه:"صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين". . . (في قبل الكعبة) أي مقابل بابها، قال الفيومي: والقُبُل -بضمتين- من كل شيء خلاف دُبُره، قيل: سمي قُبُلًا لأن صاحبه يقابل به غيره، ومنه القبْلة لأن المصلي يقابلها، وكل شيء جعلته تلقاء وجهك، فقد استقبلته. انتهى

(1)

.

(1)

المصباح ص 488.

ص: 618

(فخلع نعليه) فيه جواز الصلاة بدون النعلين، وأن الأمر الوارد بالصلاة في النعلين، وهو ما أخرجه الطبراني من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعًا:"صلوا في نعالكم، ولا تشبهوا باليهود".

(1)

محمول على الاستحباب (فوضعهما عن يساره) فيه أن المصلي إذا لم يُصَلِّ بنعليه يجعلهما عن يساره، إذا لم يكن عن يساره أحد، وإلا فليضعهما بين رجليه، لئلا يؤدي غيره، وقد تقدم ذكر الأحاديث الواردة في ذلك في شرح الحديث 25/ 776.

(فافتتح بسورة "المؤمنين") وفي بعض النسخ: فاستفتح سورة "المؤمنين". أي ابتدأ قراءة "سورة المؤمنين"، والمراد أنه قرأ بها بعد الفاتحة، وإنما لم يذكره لكونه معلومًا عندهم (فلما جاء ذكر موسى، أو عيسى عليهما السلام بالشك، وفي الهندية:"وعيسى" بالواو بدل "أو"، ولفظ مسلم: حتى جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى "محمد بن عباد يشك، أو اختلفوا عليه" أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سلعة، فركع، وعبد الله بن السائب حاضر ذلك.

(أخذته سعلة) بفتح أوله من السُّعَال، ويجوز الضم، وقال النووي: بالفتح. وقال العيني: بفتح السين، وضمها. والذي في كتب اللغة: أن السُّعْلَة بالضم. ففي "القاموس": سَعَلَ، كنصر، سُعالًا، وسُعْلَة، بضمهما، وهي حركة تَدْفع بها الطبيعةُ أذَىً عن الرِّئَةِ والأعضاء

(1)

حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير للشيخ الألباني جـ 2 ص 707.

ص: 619

التي تتصل بها. اهـ

(1)

. وقال في "المصباح": سَعَلَ يسعُل، من باب قتل، سُعْلة بالضم، والسُّعال اسم منه. اهـ.

وعند ابن ماجه: فلما بلغ ذكر عيسى وأمه، أخذته سعلة، أو قال:"شهقة"، وفي رواية:"شَرْقة" بمعجمة وقاف. قال السندي رحمه الله: قيل: أخذته بسبب البكاء. انتهى

(2)

.

(فركع) وفي رواية لمسلم من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج:"فحذَفَ، فركع". أي ترك القراءة، وفسره بعضهم برمي النُّخَامة الناشئة عن السعلة، والأول أظهر، لقوله:"فركع"، ولو كان أزال ما عاقه عن القراءة لتمادى فيها. وفي هذا الحديث: ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز قراءة بعض السورة، قال النووي رحمه الله: وهذا جائز بلا خلاف، ولا كراهة فيه إن كان القطع لعذر، وإن لم يكن له عذر، فلا كراهة فيه أيضًا، ولكنه خلاف الأولى، هذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وبه قال مالك رحمه الله في رواية عنه، والمشهور عنه كراهته. انتهى

(3)

.

تنبيه:

حديث الباب قد تقدم الكلام على مسائله برقم 25/ 776 - بما أغنى عن إعادته هنا، فلنذكر هنا ما لم يسبق له ذكر:

(1)

ق ص 1311.

(2)

شرح السندي جـ 2 ص 176.

(3)

شرح مسلم جـ 4 ص 177 - 178.

ص: 620

(الأول): أنه استدل المصنف وغيره بهذا الحديث على جواز الاقتصار على بعض السورة، لكن فيه نظر؛ لأن تركه صلى الله عليه وسلم القراءة هنا للضرورة، لأجل السعلة، فلا يتم الاستدلال به للترك حالة الاختيار. فكان الأولى له الاستدلال بما تقدم له -67/ 991 - من قراءته صلى الله عليه وسلم سورة الأعراف في المغرب في ركعتين، ففيها القراءة بالأول وبالأخير دون ضرورة. وبما تقدم له أيضًا -38/ 944 - من القراءة صلى الله عليه وسلم في ركعتي الفجر، في الأولى آية "البقرة" {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] الآية، وفي الثانية آية "آل عمران" {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] ولا فرق في ذلك بن النافلة والفريضة.

وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمَّ الصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة، فقرأها في الركعتين. قال في "الفتح": وهذا إجماع منهم.

وروى محمد بن عبد السلام الخُشَني

(1)

من طريق الحسن البصري، قال:"غزونا خراسان، ومعنا ثلاثمائة من الصحابة، فكان الرجل منهم يصلي بنا، فيقرأ الآيات من السورة، ثم يركع". أخرجه ابن حزم محتجًا به.

وروى الدارقطني بإسناد قوي من ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ "الفاتحة"، وآية من "البقرة" في ركعة. انتهى

(2)

.

(1)

بضم الخاء المعجمة، وفتح الشين المعجمة، ثم نون.

(2)

فتح جـ 2 ص 504 - 505.

ص: 621

الثاني: أنه احتج به بعضهم على جواز قراءة بعض آية، أخذًا من قوله:"حتى جاء ذكر موسى، وهارون، أو ذكر عيسى" لأن كلًا من الموضعين يقع في وسط آية. وفيه أن ذلك للضرورة. نعم الكراهة -كما قال في "الفتح"- لا تثبت إلا بدليل، ولا دليل على الكراهة. والله أعلم.

الثالث: أنه استدل به أيضًا على أن السعال لا يبطل الصلاة، وهو واضح فيما إذا غلبه، وقال الرافعي رحمه الله في "شرح المسند": قد يستدل به على أن "سورة المؤمنين" مكية، وهو قول الأكثر، قال: ولمن خالف أن يقول: يحتمل أن يكون قوله: "بمكة"، أي في الفتح، أو حجة الوداع.

قال الجامع عفا الله عنه: كونه في فتح مكة هو المتعين، لرواية المصنف في الباب. والله تعالى أعلم.

الرابع: أنه استدل به أيضًا على أن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال والتنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما يستحب فيه تطويلها

(1)

. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

(1)

المصدر السابق.

ص: 622

‌77 - تَعَوُّذُ الْقَارِىءِ إذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على استحباب تعوذ القارئ في الصلاة أو غيرها إذا مر بآية فيها ذكر العذاب.

ومعنى تَعَوُّذِ القارئ: التجاؤُه إلى الله تعالى. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: العَوْذُ: الالتجاء إلى الغير، والتعلق به. انتهى

(1)

. وفي "اللسان": عاذَ يَعُوذ عَوْذًا، وعِيَاذًا، ومَعَاذًا: لاذ به. ولجأ إليه، واعتصم. انتهى

(2)

.

و"العذاب" قال الراغب: هو الإيجاع الشديد، وقد عذّبه تعذيبًا: أكثرَ حبسَهُ في العذاب. واختُلِف في أصله، فقال بعضه: هو من قولهم: عَذَبَ الرجلُ: إذا ترك المَأكَلَ والنوم، فهو عاذِبٌ، وعَذُوبٌ، فالتعذيب في الأصل هو حمل الإنسان أن يَعْذِبَ، أي يَجُوعَ، ويَسْهَرَ. وقيل: أصله من العَذْبِ، فَعذّبْتُهُ، أي أزلتُ عَذْبَ حيَاته، علي بناء مَرَّضتُهُ، وقَذَّيْتُهُ. وقيل: أصل التعذيب إكثار الضرب بِعَذَبَة السوط، أي طَرَفها، وقد قال أهل اللغة: التعذيب هو الضرب. وقيل: هو من قولهم: ماء عَذَبٌ: إذا كان فيه قَذىً وكَدَرٌ، فيكون عَذَّبْتُهُ كقولك: كدّرت عَيْشَهُ، وزَلَّقت حياته. انتهى

(3)

.

(1)

مفردات ألفاظ القرآن ص 594 - 595.

(2)

جـ 4 ص 3162.

(3)

مفردات ألفاظ القرآن ص 554 - 555.

ص: 623

تنبيه:

أخرج المصنف رحمه الله تعالى حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه المذكور في هذا الباب في عدة أبواب بأسانيد مختلفة، يستنبط منه الأحكام المناسبة لكل باب، فأخرجه في 77/ 1008 و 78/ 1009 و 9/ 1046 و 74/ 133 أو 25/ 1664. وسأتكلم في كل موضع بما تدعو إليه الحاجة إن شاء الله تعالى.

1008 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ الأَحْنَفِ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ صَلَّى إِلَى جَنْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَرَأَ، فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ، وَقَفَ، وَتَعَوَّذَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ، وَقَفَ، فَدَعَا، وَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"، وَفِي سُجُودِهِ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى".

رجال هذا الإسناد: عشرة

1 -

(محمد بن بشار) بُنْدَار، أبو بكر البصري، ثقة حافظ، من [10]، تقدم في 24/ 27.

ص: 624

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام الحافظ الحجة، من [9]، تقدم في 2/ 2.

3 -

(عبد الرحمن) بن مهدي الإمام الحافظ الحجة، من [9]، تقدم في 42/ 49.

4 -

(ابن أبي عدي) محمد بن إبراهيم بن أبي عدي البصري، أبو عمرو البصري، ثقة، من [9]، تقدم في 122/ 175.

5 -

(شعبة) بن الحجاج تقدم في الباب الماضي.

6 -

(سليمان) بن مهران الأعمش، تقدم في الباب الماضي أيضًا.

7 -

(سعد بن عُبَيدة) السلمي، أبو حمزة الكوفي، خَتَن أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ على ابنته، ثقة، من [3].

روى عن المغيرة بن شعبة، وابن عمر، والبراء بن عازب، والمستورد بن الأحنف، وأبي عبد الرحمن السُّلَميّ، وغيرهم. وعنه الأعمش، ومنصور، والحكم بن عتيبة، وفطر بن خليفة، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: كان يرى رأي الخوارج ثم تركه، يُكتَب حديثُهُ، وقال الكَلَاباذي: مات في ولاية عُمَر ابن هُبَيرة على العراق، وكذا قال ابن سعد، وقال: كان ثقة كثير الحديث، وكذا أرخه ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: تابعي ثقة. روى له الجماعة

(1)

.

(1)

"تك" جـ 10 ص 290 - 292. "تت" جـ 3 ص 478.

ص: 625

8 -

(الْمُسْتَورِد

(1)

بن الأحنف) الكوفي، ثقة، من [3].

روى عن حذيفة، وابن مسعود، ومعقل بن عامر، وصلة بن زفر. وعنه سعد بن عبيدة، وعلقمة بن مرثد وسلمة بن كهيل، وأبو حصين الأسدي. قال ابن المديني: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة: كان ثقة، وله أحاديث. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. روى له الجماعة

(2)

.

9 -

(صِلَة بن زُفَر

(3)

) العبسي، أبو العلاء، ويقال: أبو بكر الكوفي تابعي كبير ثقة جليل، من [2].

روى من عمار بن ياسر، وحذيفة، وابن مسعود، وعلي، وابن عباس. وعنه أبو وائل، وهو أكبر منه، وربعي ابن حِرَاش، وهو من أقرانه، والمستورد بن الأحنف، وأبو إسحاق السبيعي، وأيوب السختياني، وغيرهم.

قال ابن خراش: كوفي ثقة. وقال الخطيب: كان ثقة. وقال شعبة: قلب صِلَةَ من ذهب. يعني أنه منور كالذهب. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال خليفة: مات في ولاية مصعب بن الزبير. وكذا قال ابن سعد، وزاد:"وكان ثقة، وله أحاديث". وقال إسحاق بن منصور،

(1)

بصيغة اسم الفاعل.

(2)

"تت" جـ 10 ص 106.

(3)

بكسر الصاد المهملة، وفتح اللام، و"زفر" بضم الزاي المعجمة، وفتح الفاء "والعبسي" بالموحدة. اهـ ت ص 153.

ص: 626

عن ابن معين. ثقة. ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير، وابن صالح- يعني العجلي. روى له الجماعة

(1)

.

10 -

(حذيفة) بن اليمان، واسم اليمان حُسَيل، ويقال: حِسْل العبسي، حليف الأنصار، صحابي شهير، من السابقين، وأبوه صحابي أيضًا، رضي الله عنهما، تقدم في 2/ 2. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من ثمانيات المصنف رحمه الله.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة.

ومنها: أن الخمسة الأولين بصريون، والخمسة الآخرين كوفيون.

وممها: أن فيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، الأعمش، عن سعد، عن المستورد، عن صلة.

ومنها: أن شيخه ممن اتفق الجماعة على الرواية عنهم دون واسطة والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن حذيفة) بن اليمان رضي الله عنهما (أنه صلى إِلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة) أي ليلة من الليالي، فالتنوين للتنكير (فقرأ) وفي الرواية الآتية -74/ 1133 من طريق جرير، عن الأعمش:"صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فاستفتح بسورة "البقرة"

(فكان إِذا مر

(1)

"تت" جـ 4 ص 437.

ص: 627

بآية عذاب) أي بآية تذكر فيها النار، أو الوعيد (وقف) عند تلك الآية (وتعوذ) أي اعتصم بالله تعالى من عذابه. يقال: استعذت بالله، وعُذْتُ له مَعَاذًا، وعِيَاذًا: اعتصمت به. قاله في "المصباح

(1)

.

(وإذا مر بآية رحمة) أي بآية تذكر فيها الرحمة، أو الجنة، أو الوعد (وقف، فدعا) أي سأل الله تعالى أن يعطيه إياها. وفي الرواية الآتية 25/ 1664 - من طريق عبد الله بن نمير، عن الأعمش:"إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"

(وكان) صلى الله عليه وسلم (يقول في) حال (ركوعه: (سبحان ربي العظيم"، و) يقول (في) حال (سجوده: "سبحان ربي الأعلى") سيأتي الكلام على هذا في مبحث الركوع -9/ 1046 - والسجود -74/ 1133 - إن شاء الله تعالى. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 77/ 1008، وفي "الكبرى" 24/ 1080 - بالإسناد

(1)

ص 437.

ص: 628

المذكور. وفي 78/ 1009، والكبرى 25/ 1081 - عن محمد بن آدم، عن حفص بن غياث، وفي 9/ 1046، والكبرى 10/ 634 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي معاوية، وفي 74/ 1133، و"الكبرى" 71/ 719 - عن إسحاق بن إبراهيم، من جرير، وفي 25/ 1664 - عن الحسين بن منصور، عن عبد الله بن نمير- أربعتهم عن الأعمش به. و 78/ 1009 عن محمد بن آدم، عن حفص بن غياث، و 25/ 1665 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن محمد المروزي- كلاهما عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن طلحة بن يزيد، عن حذيفة رضي الله عنه.

قال أبو عبد الرحمن: هذا الحديث عندي مرسل، وطلحة بن يزيد لا أعلمه سمع من حذيفة شيئًا، وغير العلاء بن المسيب قال في هذا الحديث: عن طلحة، عن رجل، عن حذيفة. انتهى. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله ابن نمير، وأبي معاوية به. وعن زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير به. وعن محمد بن نمير، عن أبيه به.

وأبو داود فيه عن حفص بن عمر، عن شعبة به.

والترمذي فيه عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة به. وعن محمد بن بشار، عن ابن مهدي به.

ص: 629

وابن ماجه فيه عن علي بن محمد، عن حفص بن غياث، وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش به.

وأخرجه أحمد 5/ 382 و 384 و 394 و 397. والدارمي برقم 1312.

وابن خزيمة 543 و 660 و 603 و 604 و 668 و 669 و 684. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في استحباب التعوذ ونحوه للقارئ إذا مر بآية العذاب ونحوها مطلقًا:

قال النووي رحمه الله تعالى: قال الشافعي وأصحابنا: يسن للقارئ في الصلاة وخارجها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة، أو بآية عذاب أن يستعيذ به من العذاب، أو بآية تسبيح أن يسبح، يستحب ذلك للإمام، والمأموم، والمنفرد، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف، ومن بعدهم. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكره السؤال عند آية الرحمة، والاستعاذة في الصلاة. انتهى. كلام النووي رحمه الله مختصرًا

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لكن المعروف عند الحنفية أن الكراهة في الفريضة فقط، لا في النافلة. فليتنبه.

(1)

المجموع جـ 4 ص 66 - 67

ص: 630

وقال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله: ويستحب لكل مصل إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله عز وجل من النار. ثم أخرج بسنده حديث حذيفة رضي الله عنه المذكور في الباب، وأخرج بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها، أنها مرت بهذه الآية:{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، فقالت: مُنَّ علي، وقني عذاب السموم. وأخرج أيضًا عن عبد خير، قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ في صلاة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، فقال: سبحان ربي الأعلى.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنه قرأ في الجمعة:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، فقال: سبحان ربي الأعلى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان إذا قرأ:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] قال: اللهم بلى، وإذا قال:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: سبحان ربي الأعلى. وعن علقمة أنه قرأ {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] فقال: رب زدني علمًا.

وعن حُجْر المدَرِيّ

(1)

أنه كان يصلي، فإذا قرأ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 59،58] قال: بل أنت رب. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله باختصار

(2)

.

(1)

بفتح الميم، والدال المهملة، وهو حجر بن قيس الهمداني اليمني، تابعي ثقة. اهـ، من تعليق أحمد شاكر رحمه الله على المحلى. جـ 4 ص 119.

(2)

المحلَّى جـ 4 ص 117 - 119.

ص: 631

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى عند قوله: "فقرأها مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"، ما نصه: فيه استحباب الترسل، والتسبيح عند المرور بآية فيها تسبيح، والسؤال عند قراءة آية فيها سؤال، والتعوذ عند تلاوة آية فيها تعوذ. فالظاهر استحباب هذه الأمور لكل قارئ من غير فرق بين المصلي وغيره، وبين الإمام والنفرد والمأموم، وإلى ذلك ذهبت الشافعية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر صنيع المصنف رحمه الله أنه يوافق مذهب الجمهور القائلين باستحباب هذه الأمور لكل مصل، حيث أطلق الترجمة، ولم يقيدها بالنافلة. وهذا هو المذهب الراجح عندي، وليس لمن قال بالكراهة في الفريضة دليل، وأما عدم كونه صلى الله عليه وسلم لا يفعلها في الفريضة فلأنه كان يصلي إمامًا، فيخشى من التطويل، وهكذا ينبغي للإمام إذا خشي التطويل أن لا يفعلها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

نيل الأوطار جـ 2 ص 266.

ص: 632

‌78 - مَسْأَلَةِ الْقَارِئِ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب سؤال القارئ إذا مر بآية فيها ذكر رحمة. فـ "المسألة" بمعنى السؤال مصدر ميمي لـ "سأل".

1009 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَالأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ الأَحْنَفِ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ "الْبَقَرَةَ"، وَ"آلَ عِمْرَانَ"، وَ"النِّسَاءَ" فِي رَكْعَةٍ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلاَّ سَأَلَ، وَلَا بِآيَةِ عَذَابٍ إِلاَّ اسْتَجَارَ".

رجال هذا الإسناد: عشرة

1 -

(محمد بن آدم) بن سليمان الجُهني المِصّيصِيّ، صدوق من [10].

روى عن ابن المبارك، وحفص بن غياث، وأبي خالد الأحمر، وغيرهم. وعنه أبو داود، والنسائي، وأبو حاتم، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: صدوق، لا

ص: 633

بأس له. وقال مسلمة في "الصلة". ثقة. وقال ابن عساكر: مات سنة (250) انفرد به أبو داود، والمصنف

(1)

.

2 -

(حفص بن غياث) بن طلق بن معاوية النخعي، أبو عمر الكوفي القاضي، ثقة فقيه تغير حفظه قليلًا في الآخر، من [8]، مات سنة 194 - أو 195 - ، أخرج له الجماعة، تقدم في 86/ 105.

3 -

(العلاء بن المسيب) بن رافع الأسدي الكاهلي، ويقال: الثعلبي الكوفي، ثقة ربما وهم

(2)

، من [6].

روى عن أبيه، وعكرمة، وعطاء، وعمرو بن مرة، وغيرهم. وعنه حفص بن غياث، ومحمد الواحد بن زياد، وزهير بن معاوية،

وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقة مأمون. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن عمار: ثقة يحتج بحديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: ثقة، وأبوه من خيار التابعين. وقال يعقوب بن سفيان: كوفي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الحاكم: له أوهام في الإسناد والمتن. وقال الأزدي. في بعض حديثه نظر، وتعقبه النباتي بأنه كان يجب أن يذكر ما فيه النظر. وفي الميزان: قال بعضهم: كان يهم كثيرًا، وهو قول لا يعبأ به. أخرج له الجماعة، إلا الترمذي

(3)

.

(1)

راجع "تت" جـ 9 ص 34 - 35.

(2)

هكذا قال في "ت": ربما وهم، لكن فيه نظر لما يتبين فيما بعدُ من رد المحققين على من زعم ذلك. فتبصر. والله أعلم.

(3)

"تت" جـ 8 ص 192 - 193.

ص: 634

4 -

(عمرو بن مرة) الجَمَلِيّ الكوفي، ثقة عابد، من [5]، تقدم قبل بابين.

5 -

(طلحة بن يزيد) الأيلي، أبو حمزة مولى قَرَظَة بن كعب الأنصار، نزيل الكوفة، وثقه النسائي، من [3].

روى عن حذيفة، وقيل: عن رجل، عنه، وعن زيد بن أرقم. وعنه عمرو بن مرة. قال ابن معين: لم يرو عنه غيره. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال النسائي لما خرج حديثه، عن رجل، عن حذيفة في "صلاة الليل": هذا الرجل يشبه أن يكون أصله

(1)

وطلحة هذا ثقة. أخرج له الجماعة سوى مسلم.

والباقون تقدموا في السند الماضي. وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به، فلا حاجة إلى إعادتها، بل أوَضِّح بعض ما يُحتاج إليه هنا، فأقول:

قوله: "والأعمش" بالجر عطفًا على قوله: "العلاء بن المسيب"، فحفص بن غياث له في هذا الحديث، إسنادان:

أحدهما: عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن طلحة بن يزيد، عن حذيفة رضي الله عنه.

(1)

هكذا بياض في تهذيب التهذيب بعد لفظة "أصله"، وأظنه محرفًا، والصواب ما في "السنن الكبرى" للمصنف، ولفظه:"هذا الرجل يشبه أن يكون صلة بن زفر". لكن قوله: "وطلحة هذا ثقة" لم أجده في كلام المصنف. والله تعالى أعلم.

ص: 635

والثاني: من الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن المستورد بن الأحنف، عن صلة بن زفر، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم.

وإنما ذكر المصنف رحمه الله الإسناد الثاني تقوية للأول، لأن طلحة يقال: ما سمع هذا الحديث من حذيفة، كما سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى برقم 25/ 1665 - وسيأتي الكلام عليه هناك، إن شاء الله تعالى.

وقوله: (قرأ "البقرة"، و"آل عمران"، و"النساء" في ركعة). قال القاضي عياض رحمه الله: فيه دليل لمن يقول: إن ترتيب السور

اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف، وإنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم بل وَكَلَه إلى أمته بعده، قال: وهذا قول مالك، وجمهور العلماء، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، قال ابن الباقلاني: هو أصح القولين مع احتمالهما، قال: والذي نقوله: إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة، ولا في الصلاة، ولا في الدرس، ولا في التلقين والتعليم، وإنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نص، ولا حد تحرُمُ مخالفته، ولذلك اختلف ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان، قال: واستجاز النبي صلى الله عليه وسلم والأمة بعده في جميع الأعصار ترك ترتيب السور في الصلاة والدرس والتلقين.

قال: وأما على قول من يقول من أهل العلم: إن ذلك بتوقيف

ص: 636

من النبي صلى الله عليه وسلم حدده لهم كما استقر في مصحف عثمان، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير، فيتأول قراءته صلى الله عليه وسلم "النساء" أوّلًا، ثم "آل عمران" هنا على أنه كان قبل التوقيف والترتيب، وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبَيّ رضي الله عنه.

قال: ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة، ولمن يتلو في غير صلاة، قال: وقد أباحه بعضهم، وتأول نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسًا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله تعالى على ما هي عليه الآن في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى منقولًا من شرح النووي على "صحيح مسلم"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي قول من قال: إن ترتيب السور على ما هي عليه الآن كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو "المجمع عليه في ترتيب الآيات، فلا فرق بينهما في ذلك، وأما ما ثبت من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم "النساء" قبل "آل عمران" ونحو ذلك فيحمل على بيان الجواز، وأن الترتيب غير لازم في القراءة، بل في الرسم والكتابة فقط، فيجوز أن يقرأ بالسورة قبل التي قبلها، أو يُحْمَلُ على أن ذلك كان قبل أن يُوحَى إليه يالترتيب، وأما اختلاف مصاحف الصحابة رضي الله عنهم في ترتيبها، فيحمل على عدم وصول العلم إليهم بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

شرح مسلم جـ 6 ص 61 - 62.

ص: 637

بالترتيب. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 638

‌79 - تَرْدِيدُ الآيَةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على جواز ترديد الآية الواحدة في الصلاة. و"الترديد": مصدر ردّد الشيءَ: إذا كرره.

1010 -

أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُدَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي جَسْرَةُ بِنْتُ دَجَاجَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَصْبَحَ بِآيَةٍ، وَالآيَةُ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(نوح بن حبيب) القُوْمَسِي الْبَذَشِيّ

(1)

أبو محمد، ثقة سنين من [10].

(1)

"القومسي":- بضم القاف، وسكون الواو، آخره مهملة: نسبة إلى قومس، وهي من بسطام إلى سِمْنَان. اهـ لب جـ 2 ص 192. و"البذشي" بفتح الموحدة، بعدها معجمة: نسبة إلى بَذَش قرية على فرسخين من بسطام. اهـ لب جـ1 ص 110

اهـ ت.

ص: 639

روى عن يحيى القطان، وعبد الله بن إدريس، وحفص بن غياث، وغيرهم.

وعنه أبو داود، والنسائي، وأبو حاتم، وأبو زرعة الدمشقي، وموسى بن هارون، وغيرهم. قال الْمَرُّوِذّي عن أحمد: إن الخير عليه

لبَيِّنٌ، قلت: أكتب عنه؟ قال: نعم. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به.

وقال أحمد بن سيَّار المروزي: كانت ثقة صاحب سنة وجماعة. وقال الخطيب: كان ثقة. وذكره ابن حبالت في الثقات. وقال مسلمة بن قاسم: ثقة. مات في رجب سنة (242) وفيها أرخه جماعة. انفرد به أبو داود، والمصنف

(1)

.

2 -

(يحيى بن سعيد القطان) أبو سعيد البصري الإمام الحافظ الحجة، من [9]، تقدم في 2/ 2.

3 -

(قُدَامَة بن عبد الله) بن عبدة، ويقال: ابن عبد البكري العامري الذهلي، أبو رَوح الكوفي، قيل: إنه فُلَيت العامري، مقبول،

من [6].

روى عن جسرة بنت دجاجة. وعنه إسماعيل بن أبي خالد، والثوري، وابن المبارك، ويحيى القطان، وغيرهم. ذكره ابن حبان في

"الثقات". وقال ابن ماكولا: فُلَيْتُ العامري، عن جسرة بنت دجاجة،

(1)

راجع تت جـ 10 ص 481 - 482.

ص: 640

اسمه قُدامة بن عبد الله، وقد سبقه إليه الدارقطني، وفرق بينه وبين فُليت بن خليفة الذي يكنى أبا حسان، وذكر ابن أبي خيثمة أن سفيان الثوري كان يسمي قُدامة بن عبد الله العامري فُلَيْتًا. انفرد به المصنف، وابن ماجه، وليس له عند ابن ماجه غير حديث الباب

(1)

.

4 -

(جَسْرَة بنت دَجَاجة

(2)

) العامرية الكوفية، موثقة، من [3]، ويقال: إن لها إدراكًا.

روت عن أبي ذرّ، وعلي، وعائشة، وأم سلمة. وعنها قُدامة بن عبد الله العامري، وأفلت بن خليفة، ومحدوج الذهلي، وعمر بن عمير بن محدوج. قال العجلي: ثقة تابعية، وذكرها ابن حبان في "الثقات". وذكرها أبو نعيم في الصحابة. وقال البخاري: عند جسرة عجائب. قال أبو الحسن القطان: هذا القول لا يكفي لمن يسقط ما روت، كأنه يعرض بابن حزم، لأنه زعم أن حديثها باطل. أخرج لها أبو داود، والمصنف، وابن ماجه

(3)

.

(1)

"تهذيب الكمال" جـ 23 ص 547 - 549. تهذيب التهذيب جـ 8 ص 364.

(2)

"جسرة" بفتح الجيم، وسكون السين المهملة، و"دجاجة" بفتح الدال المهملة، وجيمين، كما قاله السيوطي. وكما هو مضبوط ضبط قلم في "ق". وقال السندي: والمعروف أنها بالفتح في الحيوان، وبالكسر في الإنسان، وهو المضبوط في بعض النسخ المصححة. والله أعلم. اهـ.

قال الجامع: وهذا الذي قاله من أن المعروف بالفتح في الحيوان، وبالكسر في الإنسان. لم أره لغيره. والله أعلم.

(3)

راجع تهذيب التهذيب جـ 12 ص 406.

ص: 641

5 -

(أبو ذرّ) جندب بن جُنادهّ رضي الله تعالى عنه، تقدم في 203/ 322. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(قالت) جَسْرَةُ بنتُ دَجَاجَةَ (سمعت أبا ذرّ) رضي الله عنه (يقول: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبح) قال السندي: كذا في بعض النسخ المصححة، أي إلى أن دخل وقت الصبح، وفي بعض النسخ:"حتى إذا أصبح". وعلى هذا فجواب "إذا" مقدر، أي ترك الآية. انتهى

(1)

(لآية) آي بآية واحدة. زاد ابن ماجه: "يرددها". وفي رواية لأحمد من طريق محمد بن فضيل، عن فليت العامري، عن جسرة، عن أبي ذرّ:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقرأ بآية حتى أصبح يركع، ويسجد بها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "[المائدة: 118].

وقد ساقه أحمد رحمه الله مطولًا، قال: حدثنا يحيى، ثنا قدامة ابن عبد الله، حدثتني جسرة بنت دجاجة. أنها انطلقت معتمرة، فانتهت إلى الرَّبذَة، فسمعت أبا ذرّ يقول: "قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون، فلما رأى قيامهم، وتخلفهم انصرف إلى رَحْله، فلما رأى القومَ قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى، فجئت فقمت خلفه، فأومأ إليَّ بيمينه، فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود، فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله،

(1)

شرح السندي جـ 2 ص 178.

ص: 642

فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا، يصلي كل رجل منا بنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلوه، فقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة، فبعد أن أصبحنا أومأتُ إلى عبد الله ابن مسعود، أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟، فقال ابن مسعود بيده: لا أسألُهُ عن شيء حتى يُحْدثَ إليَّ، فقلت: بأبي أنت وأمي، قمت بآية من القرآن، ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا وَجَدْنا عليه، قال:"دعوت لأمتي"، قال: فماذا أجبتَ؟ أو فماذا رُدّ عليك؟ قال: "أجبتُ بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعةً تركوا الصلاة". قال: أفلا أبشر الناس؟ قال: "بلى"، فانطلقت مُعْنِقًا قريبًا من قَذْفَة بحجر، فقال عمر: يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناَس بهذا نَكلُوا عن العبادة، فنادى أن ارجع، فرجع، وتلك الآية:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] "

(1)

.

(والآية) التي أصبح يرددها هي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].

و"الآية" مبتدأ، وقوله:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} الآية خبر محكي، ويحتمل العكس، والأول أولى.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى

(1)

المسند جـ 5 ص 170.

ص: 643

رسوله صلى الله عليه وسلم وجعلوا لله نِدًّا، وصاحبة، وولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. وهذه الآية لها شأن عظيم، ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى أصبح يرددها. انتهى

(1)

.

وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] شرط، وجوابه {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] مثله. واختُلِفَ في تأويله: فقيل: قاله على وجه الاستعطاف لهم، والرأفة بهم، كَما يُستَعطَف السيدُ لعبده؛ ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك. وقيل: قاله على وجه التسليم لأمره، والاستجارة من عذابه، وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر. وقيل: الهاء والميم في {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} لمن مات منهم على الكفر، والهاء والميم في {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} لمن تاب منهم قبل الموت، وهذا حسن.

وأما قول من قال: إن عيسي صلى الله عليه وسلم لم يعلم أن الكافر لا يغفر له، فقولٌ مجترئ على كتاب الله عز وجل؛ لأن الإخبار من الله عز وجل لا تنسخ. وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي، وعملوا بعده بما لم يأمرهم به. إلا أنهم على عَمُود دينه، فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي.

وقال. {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره، والتفويض لحكمه،

(1)

تفسير ابن كثير جـ 2 ص 125.

ص: 644

ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على تركه، وذلك مستحيل، فالتقدير: إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا، وتعذبهم، فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى توحيدك، وطاعتك، فتغفر لهم، فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله، تضل من تشاء، وتهدي من تشاء.

وقد قرأ جماعة: "فإنك أنت الغفور الرحيم"، وليست من المصحف. ذكره القاضي عياض في كتاب "الشفا".

وقال أبو بكر الأنباري: وقد طعن علي القرآن من قال: إن قوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ليس بمشاكل لقوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لأن الذي يشاكل المغفرة "فإنك أنت الغفور الرحيم".

والجواب: أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله، ومتى نُقِل إلى الذي نقله إليه ضَعُفَ معناه؛ فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني، فلا يكون له بالشرط الأول تعلق، وهو على ما أنزله الله عز وجل، واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما، أولهما وآخرهما، إذ تلخيصه: إن تعذبهم، فإنك أنت العزيز الحكيم، وإن تغفر لهم، فإنك أنت العزيز الحكيم، في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران، فكان "العزيز الحكيم" أليق بهذا المكان لعمومه، فإنه يجمع الشرطين، ولم يصلح "الغفور الرحيم"، إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله "العزيز الحكيم"، وما شهد لتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها،

ص: 645

والشرطين المذكورين أولى، وأثبت معنىً في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض.

خَرَّجَ مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]. وقال عيسى صلى الله عليه وسلم: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فرفع يديه، وقال:"اللهم أمتي أمتي"، وبكى، فقال الله عز وجل:"يا جبريل اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ " فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال: -وهو أعلم- فقال الله: "يا جبريل اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك"

(1)

.

وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه: إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم، وإن تغفر لهم فإنهم عبادك. ووجه الكلام على نَسَقِه أولى، لما بيناه. وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى

(2)

. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان وعليه التكلان.

(1)

صحيح مسلم جـ 1 ص 132.

(2)

راجع تفسير القرطبي جـ 6 ص 377 - 379.

ص: 646

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه هذا حسن.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر الصنف له:

أخرجه هنا 79/ 1010، وفي "الكبرى" 26/ 1083 - بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه ابن ماجه في "الصلاة" من بكر بن خلف أبي بشر، عن يحيى القطان، بسند المصنف.

وأخرجه أحمد 5/ 156 و 170 و 177 و 149. وبالله تعالى التوفيق.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوب له المصنف، وهو جواز ترديد آية واحدة في الصلاة للتدبر والاتعاظ، والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى بما تتضمنه من

المعاني.

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادة حتى يستغرق الليل كله بآية واحدة يتدبر فيما اشتملت عليه من المعاني.

ص: 647

ومنها: ما كان عليه من الشفقة لأمته، والدعاء لهم بالغفرة العامة الشاملة للمطيع والعاصي من المؤمنين منهم، كما قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

ومنها: ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى من المكانة العليا، والدرجة الزلفى، حيث إنه تعالى وعده أن يرضيه في أمته، ويعطيه سؤله، ولا يسوءه فيهم، كما قال تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]. والله تعالى ولي التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 648

‌80 - قَوْلُهُ عز وجل: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على بيان سبب نزول، وتوضيح مَعنىَ قوله تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] الآية.

ومناسبة ذكر هذا الباب هنا من حيث إن فيه بيان كيفية القراءة من حيث رفعُ الصوت، وإخفاؤه، فيستفاد منه أنه ينبغي للإمام أن يجهر في القراءة الجهرية جهرًا وسطًا بحيث يسمعه المؤتمون به، ولا يرفع صوته رفعًا بليغًا بحيث يترتب عليه مفسدة والله تعالى أعلم.

1011 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ، وَهُوَ ابْنُ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ، -وَقَالَ ابْنُ مَنِيعٍ-: يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا سَمِعُوا صَوْتَهُ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} [الإسراء: 110] أَيْ بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعُ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلَا

ص: 649

تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلَا يَسْمَعُوا، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(أحمد بن منيع) بن عبد الرحمن، أبو جعفر البغوي، نزيل بغداد الاسم، ابن عم إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن البغوي، وجد أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي لأمه، ثقة حافظ من [10].

روى عن ابن عيينة، وابن علية، وهشيم، وغيرهم. وعنه الجماعة، لكن البخاري بواسطة، وابن خزيمة، وغيرهم.

قال النسائي، وصالح جزرة: ثقة. وقال أبو القاسم البغوي: أخِبْرتُ عن جدي، أنه قال: أنا أختم منذ أربعين سنة، أو نحو ذلك في كل ثلاث، قال: ومات سنة (244) لأيام بقيت من شوال، وكان مولده سنة (160)، وقال غير أبي القاسم: مات سنة (3) وذكر ابن حبان وفاته كأبي القاسم. وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي، وأبو زرعة، ونقل عنهما أن كنيته أبو عبد الله، وقال أبي: هو صدوق. وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال مسلمة بن قاسم، وهبة الله السجزي: ثقة. وقال البغوي: كان جدي من الأبدال، وما خلف لبنة في لبنة، ولقد بعنا جميع ما يملك سوى كتبه بأربعة وعشرين درهمًا. وقال الخليلي: يقرب من أحمد بن حنبل وأقرانه في العلم، ووثقه ابن عساكر، والذهبي. وقد روى عنه البخاري خارج "الصحيح". أخرج له الجماعة

(1)

.

(1)

"تهذيب الكمال" جـ 1 ص 495 - 497. تهذيب التهذيب جـ 1 ص 84 - 85.

ص: 650

2 -

(يعقوب بن إِبراهيم الدورقي) أبو يوسف البغدادي، ثقة، من [10]، مات سنة 252، أخرج له الجماعة، تقدم في 21/ 22.

3 -

(هُشَيم بن بَشِير)، أبو معاوية الواسطي، ثقة ثبت يدلس من [7]، مات سنة 183، أخرج له الجماعة، تقدم في 88/ 109.

4 -

(أبو بشر جعفر بن أبي وحشية، وهو ابن إِياس) ثقة، من أثبت الناس في سعيد بن جبير من [5]، ت 125، أخرج له الجماعة، تقدم في 13/ 520.

5 -

(سعيد بن جبير) الأسدي الوالبي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه من [3]، مات سنة 95، أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 436.

6 -

(ابن عباس) رضي الله عنهما، تقدم في 27/ 31.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة.

ومنها: أن شيخه بغداديان، وهشيم، وجعفر واسطيان، وسعيد كوفي، وابن عباس مدني، بصري، طائفي.

ومنها: أن شيخه يعقوب أحد المشايخ التسعة الذين اتفق أصحاب الأصول الستة على الرواية عنهم بلا واسطة، وهم المجموعون في قولي:

اشْتَرَكَ الأئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

النَّاقِدِينَ الْحَافِظِينَ الْبَرَرهْ

أولَئِكَ الأشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌ والسَّرِي

ص: 651

وَابْنُ الْعَلاِء وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا

ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي؛ جعفر، عن سعيد.

ومنها: أن فيه ابن عباس أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، وقد تقدم غير مرة. وبالله تعالى التوفيق.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، كذا وصله هشيم بذكر ابن عباس، وأرسله شعبة، كما أخرجه الترمذي من طريق الطيالسي، عن شعبة، وهشيم مفصلًا. قاله في الفتح

(1)

.

(في قوله عز وجل أي في بيان سبب نزول وتوضيح معنى قوله عز وجل. {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قال) أي ابن عباس رضي الله عنهما: (نزلت) أي هذه الآية (ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة) أي متستر عن المشركين لئلا يعتدوا عليه، يعني في أول الإسلام.

والجملة الاسمية في محل نصب على الحال من فاعل "نزلت"، والرابط الواو.

ووقع في بعض النسخ "مختفي" بالياء، والصواب ما هنا، لأنه

(1)

جـ 9 ص 323.

ص: 652

منون، فتسقط الياء لالتقائها مع التنوين. فتنبه. والله أعلم.

(فكان) وفي بعض النسخ: "وكان" بالواو (إِذ صلى بأصحابه رفع صوته) ليتدبروه، ويأخذوه عنه.

وفي رواية الطبري من وجه آخر عن ابن عباس: "فكان إذا صلى بأصحابه، وأسمع المشركين، فآذوه". وفسرت رواية الباب الأذى، حيث قال:"سبوا القرآن". وللطبري من وجه آخر عن سعيد بن جبير: "فقالوا له: لا تجهر، فتؤذي آلهتنا، فنهجو إلهك". ومن طريق داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن، وهو يصلي تفرقوا

(1)

عنه وأبوا أن يستمعوا منه، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو، وهو يصلي، استرق السمع دونهم، فَرَقًا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهبَ خشيةَ أذاهم، فلم يستمع، فإذا خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته لم يسمع الذين يستمعون من قراءته، فنزلت"

(2)

.

(وقال ابن منيع: ويجهر بالقرآن) أي قال أحمد بن منيع في روايته: "يجهر بالقرآن" بدلًا من قول يعقوب: "رفع صوته". يعني أن

قوله: "رفع صوته" من لفظ شيخه يعقوب، وأما لفظ شيخه ابن منيع: فهو "يجهر بالقرآن".

(1)

الضمير للصحابة، أي تفرقوا خوفًا من أذى المشركين.

(2)

راجع تفسير الطبري جـ 15 ص 185.

ص: 653

ومعنى قوله: "بالقرآن"، أي بقراءة القرآن، فهو على حذف مضاف، ويحتمل أن يراد بـ"القرآن" معناه المصدري، أي بالقراءة، فلا

حاجة إلى تقدير مضاف. والله تعالى أعلم.

(وكان المشركون إِذا سمعوا صوته) صلى الله عليه وسلم (سبوا القرآن)، قال الراغب: السب: الشتمُ الوَجِيعُ (ومن أنزله) وهو الله تعالى {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} [الفرقان: 6].

قال الراغب: وسبهم لله ليس على أنهم يسبونه صريحًا، ولكن يخوضون في ذكره، فيذكرونه بما لا يليق به، ويتمادون في ذلك بالمجادلة، فيزدادون في ذكره بما تنزه تعالى عنه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا مانع من أن يكون سبهم صريحًا، فإنهم جُرَآءُ على الله تعالى، فلا يُستَبْعَدُ أن يصرحوا بسبه، والحاصل أنهم يسبونه بما استطاعوا من صريح، أو كناية. والله تعالى أعلم.

(ومن جاء به) هو النبي صلى الله عليه وسلم، أو الملك الذي جاء به إليه من ربه تبارك وتعالى (فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي بقراءتك) تفسير من ابن عباس رضي الله عنهما. وقال السندي رحمه الله: {وَلَا تَجْهَرْ} أي كل الجهر بقرينة الأمر بالتوسط، وقد يقال: مقتضى الآية أن الجهر هو الإعلان البالغ حَدَّه. فليتأمل. انتهى

(2)

.

(1)

مفردات القرآن ص 391.

(2)

شرح السندي جـ 2 ص 178.

ص: 654

وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر، لأن الصلاة تشتمل على قراءة، وركوع، وسجود، فهي من جملة أجزائها، فعبر بالجزء عن الجملة، وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز، وهو كثير، ومنه الحديث الصحيح:"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي" أي قراءة الفاتحة، كما تقدم. انتهى

(1)

.

(فيسمع الشركون) بالثصب بـ"أن" مضمرة وجوبًا بعد الفاء المجاب بها طَلَبٌ مَحضٌ، وهو النهي في قوله:{وَلَا تَجْهَرْ} ، كما قال

ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوابِ نَفيٍ أو طَلَبْ

مَحْضَينِ "أن"وَسَتْرهُ حَتْمٌ نَصَبْ

ومفعول "يسمع" محذوف، تقديره: قِرَاءَتَكَ (فيسبوا القرآن) عطف على "يسمع" فهو منصوب يحذف نون الرفع {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} الضمير للقراءة، أي لا تسر بقراءتك، يقال: خَفَتَ الصوتُ من بابي ضرب، وجلس: إذا سكن، ويعدى بالباء، فيقال. خَفَتَ الرجلُ بصوته: إذا لم يرفعه، وخافت بقراءته مُخافَتَةً: إذا لم يرفع صوته بها. أفاده في "المصباح"، و"المختار". وفي "السمين": والمخافتة: المسارّة بحيث لا يسمع الكلام، وضربته حتى خَفَتَ: أي لم يسمع له صوت.

(1)

تفسير القرطبي جـ 10 ص 344.

ص: 655

انتهى

(1)

.

(عن أصحابك، فلا يسمعوا) أي قراءتك ({وَابْتَغِ}) أي اطلب ({بَيْنَ ذَلِكَ}) أي بين الجهر والمخافتة ({سَبِيلًا}) أي طريقًا وسطًا. وحاصل المعنى أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطلب بين ما ذكر من الجهر والمخافتة، ما يحصل به الأمران جميعًا، وهو عدم الإخلال بسماع الحاضرين، والاحتراز عن سب أعداء الدين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

تنبيه:

هذا الذي ذكر في حديث ابن عباس رضي الله عنهما هنا في سبب نزول هذه الآية الكريمة هو أرجح الأقوال في ذلك، وفيه أقوال أخرى، ذكرها القرطبي رحمه الله تعالى:

منها: ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: نزلت في الدعاء.

ومنها: قول ابن سيرين رحمه الله: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم، فنزلت الآية في ذلك.

ومنها: ما روي عن ابن سيرين أيضًا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسرّ قراءته، وكان عمر رضي الله عنه يجهر بها، فقيل لهما: في ذلك؟ فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي إليه، وقال عمر: أنا

(1)

راجع حاشية الجمل على الجلالين جـ 2 ص 667 - 668.

ص: 656

أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر: ارفع قليلًا، وديل لعمر: اخفض أنت قليلًا. ذكره الطبري وغيره.

ومنها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا أن معناها: ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل. ذكره يحيى بن سلام، وغيره.

ومنها: قول الحسن: يقول الله تعالى: لا ترائي بصلاتك، تُحسِنُها في العلانية، ولا تُسِئْها في السرّ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تُصَلِّ مرائيًا للناس، ولا تدعها مخافة الناس. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فجملة الأقوال ستة، وقد تقدم أن أولها هو الأرجح، على أن بعضها لا ينافي أن يراد بالآية أيضًا. فتأمل. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 80/ 1011، وفي "الكبرى" 27/ 1084 - عن يعقوب ابن إبراهيم، وأحمد بن منيع، كلاهما عن هشيم، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عنه. وفي "التفسير" 11300 - عن يعقوب وحده

(1)

جـ 10 ص 343 - 344.

ص: 657

به. وفي 1012، و"الكبرى" 1085 - عن محمد بن قُدامة، من جرير، عن الأعمش، من جعفر به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري في "التفسير" عن يعقوب بن إبراهيم، وفي "التوحيد" عن حجاج بن منهال، ومسدد، وعمرو بن زرارة - كلهم عن

هشيم به.

ومسلم في "الصلاة" عن محمد بن الصباح، وعمرو الناقد - كلاهما عن هشيم به.

والترمذي في "التفسير" عن أحمد بن منيع به. وعن عبد بن حميد، عن سليمان بن داود الطيالسي، عن هشيم به. وعن عبد بن حُميَد، عن سليمان بن داود، عن شعبة، عن جعفر به. ولم يذكر ابن عباس. وقال: حسن صحيح. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى، حيث أورده في كتاب الصلاة، في أبواب القراءة، وهو أنه ينبغي للقارئ أن يكون رفعه لصوته وسطًا بحيث لا يحصل منه أيّ ضررٍ، لا له، ولا لمن يستمع منه.

ومنها. ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في بداية أمره من إيذاء قومه له، حتى كان يعبد ربه مختفيًا، ولكنه يواصل في الدعوة إلى الله تعالى حتى أتاه نصره تعالى، وكذلك ينبغي للداعي أن يأخذ أسباب الوقاية عن أعدائه،

ص: 658

ويدعو ما استطاع، ويصبر عليهم حتى يأتيه النصر من الله تعالى.

ومنها: ما كان عليه المشركون من شدة عنادهم، وهجرهم للحق، ومبارزتهم له بكل قُواهم، ولكنّ الله غالبٌ على أمره، فحفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، ونصر دينه، ورفع قدر كتابه.

ومنها: أنه يجب على الداعي في حال الدعوة أن يبتعد عن كل ما يؤدب إلى الطعن في الله، أو في كتابه، أو في نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن تكون دعوته بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يجهر، ولا يعلن في مجتمع الجهلاء ما يدعوهم إلى أن يتجرءوا على الله تعالى، أو على رسوله صلى الله عليه وسلم أو كتابه، أو دينه بالسب والطعن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1012 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا سَمِعُوا صَوْتَهُ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْفِضُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، مَا كَانَ يَسْمَعُهُ أَصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ

ص: 659

ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(محدمد بن قُدَامة) المصيصي، ثقة، من [10]، تقدم في 19/ 528.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي، قاضي الري، ثقة ثبت، من [8]، تقدم في 2/ 2.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الحافظ الحجة، من [5]، تقدم في 17/ 18.

والباقون تقدموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به. وبالله تعالى التوفيق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 660

‌81 - بَابُ رفْعِ الصَّوت بالْقُرْآن

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية رفع الصوت بقراءة القرآن.

1013 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي.

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(يعقوب بن إِبراهيم الدورقي) تقدم في الباب الماضي.

2 -

(وكيع) بن الجَرَّاح الرُّؤاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد من كبار [9]، مات سنة 197، تقدم في 23/ 25.

3 -

(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهَير الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، من [7]، مات سنة 153 أو 155، أخرج له الجماعة، تقدم في 8/ 8.

4 -

(أبو العلاء) هلال بن خَبَّاب -بمعجمة، وموحدتين- العبدي مولاهم البصري، مولى زيد بن صُوحان، سكن المدائن، ومات بها، صدوق تغير بآخره، من [5].

ص: 661

روى عن أبي جحيفة، ويحيى بن جَعْدَة، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغيرهم. وعنه مِسْعَر، والثوري، وهشيم، وأبو عوانة، وآخرون.

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: شيخ ثقة. وقال ابن أبي خيثمة، وغيره، من ابن معين: ثقة، وليس بينه وبين يونس بن خباب قرابة. وقال عبد الله بن أحمد الدورقي، عن ابن معين: هلال بن خباب، وصالح بن خباب أخوان ثقتان. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن هلال بن خباب، كان ينزل المدائن ثقة، إلا أنه تغير، عَمِلَ فيه السنُّ. وقال أبو بكر بن أبي الأسود، عن يحيى بن سعيد القطان: أتيت هلال بن خباب، وكان قد تغير قبل موته.

وقال إبراهيم بن الجنيد: سألت ابن معين عن هلال بن خباب، وقلت: إن يحيى القطان يزعم أنه تغير قبل أن يموت، واختلط؟، فقال يحيى: لا، ما اختلط، ولا تغير، قلت ليحيى: فثقة هو؟ قال: ثقة مأمون. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، ويخالف، وذكره أيضًا في "الضعفاء" وقال: اختلط في آخر عمره، فكان يحدث بالشيء على التوهم، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، وأما فيما وافق الثقات، فإن احتج به محتج أرجو ألا يُحْرَجَ في فعله ذلك. وقال ابن عمار الموصلي، والمفضل بن غسان الغَلَابي: ثقة، زاد ابن عمار:"وأخوه يونس ضعيف". قال الخطيب: وَهِمَ ابنُ عمار، ولا نعلم بين

ص: 662

هلال ويونس نسبة، قال الخطيب: وزعم الجُوزجاني: أن هلال بن خباب، ويونس بن خباب، وصالح بن خباب إخوة، وَوَهِمَ في ذلك أيضًا. وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس له. وقال ابن سعد: مات في آخر سنة أربع وأربعين ومائة. وقال الساجي، والعقيلي: في حديثه وَهَم، وتغير آخرَهُ، وقال الحاكم أبو أحمد: تغير بآخره. روى له الأربعة

(1)

.

5 -

(يحيى بن جَعْدَة) بن هُبَيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، ثقة، وقد أرسل من ابن

مسعود ونحوه، من [3].

روى عن جدته أم أبيه أم هانئ، وعن أبي الدرداء، وزيد بن أرقم، وخباب بن الأرتّ، وابن مسعود، وأبي هريرة، وكعب بن عجرة،

وغيرهم. وعنه هلال بن خباب، وعمرو بن دينار، ومجاهد، وغيرهم. قال أبو حاتم، والنسائي. ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال العلاء: لم يدرك ابن مسعود، وقال أبو حاتم: لم يلقه. وقال علي بن المديني: لم يسمع من أبي الدرداء. أخرج له أبو داود، والترمذي في "الشمائل"، والمصنف، وابن ماجه

(2)

.

6 -

(أم هانئ) بنت أبي طالب الهاشمية،، اسمها فاختة، وقيل: هند، لها صحبة، وأحاديث، ماتت في خلافة معاوية رضي الله عنهما،

(1)

تهذيب الكمال جـ 30 ص 330 - 333. تهذيب التهذيب جـ 11 ص 77 - 78.

(2)

تهذيب الكمال جـ 31 ص 253 - 254. تهذيب التهذيب جـ 11 ص 193 - 194.

ص: 663

تقدمت في 143/ 225. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا أبا العلاء، فما أخرج له الشيخان، ويحيى بن جَعْدة، فما أخرج له

الشيخان، والترمذي في "الجامع".

ومنها: أن شيخه هو أحد مشايخ الأئمةِ الستةِ أصحابِ الأصول دون واسطة، كما تقدم في الباب الماضي.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الراوي عن جدته. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أم هانئ) رضي الله عنها، أنها (قالت: كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية أحمد، وابن ماجه:"بالليل". وفي رواية لأحمد من طريق عبد الصمد، عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب، قال: نزلت أنا ومجاهد على يحيى بن جعدة بن أم هانئ، فحدثنا عن أم هانئ، قالت:"أنا أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، وأنا على عريشي هذا، وهو عند الكعبة"(وأنا على عريشي) أي على سريري. قال الفيومي رحمه الله: "العَرْشُ": السرير، وعرش البيت سقفه، والعَرْش أيضًا شِبْهُ بيتٍ من جريد، يُجعَل فوقه الثُّمَامُ، والجمع عُرُوش،

ص: 664

مثل فَلْس وفلوس، والْعَريِش متله، وجمعه عُرُش بضمتين، مثل بَرِيد وبُرُد.

وعلى الثاني: "تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفلان كافر، بالعُرُش"، لأن بيوت مكة كانت عِيدَانًا، تُنصَبُ، ويظلل عليها.

وعلى الأول: "وكان ابن عمر يقطع التلبية إذا رأى عُرُوش مكة"، يعني البيوت، وعَرِيش الْكَرْمِ، ما يُعمَل مرتفعًا، يمتد عليه الكرم،

والجمع عَرائش، وعَرَّشْتُه بالتثقيل: عَمِلتُ له عَرِيشًا، والْعَرِيشةُ بالهاء: الهَوْدَجُ، والجمع عَرَائش. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: المناسب هنا من معنى العريش، هو السرير. والمعنى أن أم هانئ رضي الله عنها كانت تسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي على سريرها في بيتها، وهو يقرأ عند الكعبة بالليل، وهذا يدل على أنه كان يجهر في القراءة.

والظاهر أن ذلك كان في فتح مكة، ويحتمل أن يكون في حجة الوداع. والله تعالي أعلم.

وفيه دلالة على ما ترجم له المصنف، وهو استحباب رفع الصوت بقراءة القرآن، وهو محمول على النوافل، وأما الفرائض، فإنما يرفع صوته فيها في الفجر، وأوليي العشاءين، والجمعة، ونحوها. والله تعالى أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.

(1)

المصباح ص 402.

ص: 665

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أم هانئ رضي الله عنها هذا حسن.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 81/ 1013، وفي "الكبرى" 28/ 1086 - عن يعقوب ابن إبراهيم، عن وكيع، عن مسعر، عن أبي العلاء هلال بن خباب، عن يحيى بن جعدة، عنها، والله أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه الترمذي في "الشمائل" عن محمد بن غيلان، عن وكيع، به. وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع به.

وأخرجه أحمد 6/ 341 و 343 و 424.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].

ص: 666

اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد،

كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

السلام على النبي، ورحمة الله، وبركاته.

"سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، أستغفرك، وأتوب إليك".

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الولّوي نزيل مكة عفا الله عنه، وعن والديه، ومشايخه:

هذا آخر الجزء الثاني عشر من شرح سنن النسائي المسمى [ذخِيرةَ العُقْبى في شرح المجتبى] أو [غايةَ المنى في شرح المجتنى].

ختمته بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة المباركة -21/ 8/ 1416 هـ الموافق 12 يناير/ 1996 م.

وكان ذلك بمكة المكرمة، زادها الله شرفًا وعزًا، وزادني بها إقامة وفوزًا، بالمحلة المسماة بحي الهنداوية.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ونافعًا لي، ولكل من تلقاه لقلب سليم، إنه سبحانه بعباده رءوف رحيم.

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزءُ الثالث عشرَ مفتتحًا -82/ 1014 - بـ[باب مدّ الصوت بالقراءة].

ص: 667