المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ١٣

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجزء الثالث عشر

دار آل بروم للنشر والتوزيع

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

شرح سنن النسائي

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ -2003 م

دار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)

ص: 4

‌82 - (بَابُ مَدِّ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ)

أي هذا باب تطويل الصوت بقراءة القرآن، والمراد به مد الصوت بالحرف الصالح للإطالة، لا كل حرف، فإن ذلك يكون لحنا، فتفطن.

قال الحافظ رحمه الله عند قول البخاري رحمه الله: [باب مدّ القراءة]-: ما نصه: المدُّ عند القراء على ضربين: أصلي، وهو إشباع الحرف الذي بعده ألف، أو واو، أو ياء، وغير أصلي، وهو ما إذا عَقَبَ

(1)

الحرفَ الذي هذه صفته همزةٌ، وهو متصل، ومنفصل، فالمتصل ما كان من نفس الكلمة، والمنفصل ما كان من كلمة أخرى، فالأول يؤتى فيه بالألف، والواو، والياء ممكنات من غير زيادة، والثاني يزاد في تمكين الألف، والواو، والياء زيادة على المدَّ الذي لا يمكن النطق بها إلا به من غير إسراف، والمذهب الأعدل أنه يمد كل حرف منها ضعفي ما كان يمده أوّلًا، وقد يزاد على ذلك قليلًا، وما أفرط فهو غير محمود، والمراد بالترجمة الضرب الأول. انتهى. وبالله تعالى التوفيق.

1014 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا، كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَ يَمُدُّ صَوْتَهَ مَدًّا).

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي، أبو حفص البصري، ثقة حافظ [10]، ت 249 (ع) تقدم 4/ 4.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهدي الإمام الحافظ الحجة البصري [9]، تقدم 42/ 49.

3 -

(جرير بن حازم) بن زيد بن عبد الله بن شجاع الأزدي، ثم العَتَكي، وقيل: الجَهْضَمي، أبو النضر البصري، والد وهب بن جرير، وابن أخي جرير بن زيد، ثقة، لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه [6].

روى عن أبي الطفيل، وأبي رجاء العطاري، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، وأيوب، وثابت، وغيرهم. وعنه الأعمش، وأيوب شيخاه، وابنه وهب، وحسين بن محمَّد، وابن المبارك، وابن وهب، ووكيع، وغيرهم.

(1)

يقال: عقَبَ زيد عَقْبا، من باب قتل: أتى بعده. أفاده في "المصباح".

ص: 5

قال قراد: قال لي شعبة: عليك بجرير بن حازم، فاسمع منه. وقال محمود بن غيلان، عن وهب بن جرير: كان شعبة يأتي أبي، فيسأله عن حديث الأعمش، فإذا حدثه قال: هكذا والله سمعته من الأعمش. وقال علي، عن ابن مهدي: جرير بن حازم أثبت عندي من قرة بن خالد. وقال أحمد بن سنان، عن ابن مهدي: جرير بن حازم اختلط، وكان له أولاد، أصحاب حديث، فلما أحسوا ذلك منه حجبوه، فلم يسمع أحد منه في حال اختلاطه شيئا. وقال أبو حاتم

(1)

: تغير قبل موته بسنة. وقال موسى بن إسماعيل؛ ما رأيت حماد بن سلمة يعظم أحدا تعظيمة جرير بن حازم. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة. وقال الدوري: سألت يحيى عن جرير بن حازم، وأبي الأشهب؟ فقال: جرير أحسن حديثا منه، وأسند. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين. جرير أمثل من أبي هلال، وكان صاحب كتاب. وقال عبد الله بن أحمد: سألت ابن معين عنه؟ فقال: ليس به بأس، فقلت: إنه يحدث عن قتادة عن أنس، أحاديث مناكير، فقال: ليس بشيء هو عن قتادة ضعيف. وقال وهب بن جرير: قرأ أبي على أبي عمرو بن العلاء، فقال له: أنت أفصح من معدّ. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال ابن عديّ: جرير ابن

حازم من أجلّة أهل البصرة ورُفَعاْئهم، وزيد بن درهم، والد حماد بن زيد اشتراه جرير ابن حازم، فأعتقه، وزوجه، فوُلد له حماد بن زيد، وقد حدث عن جرير من الكبار: أيوب السختياني، والليث بن سعد نسخة طويلة، وله أحاديث كثيرة عن مشايخه، وهو

مستقيم الحديث، صالح فيه، إلا روايته عن قتادة، فإنه يروي عنه أشياء لا يرويها غيره. قال الكَلاباذي: حكى عنه ابنه أنه قال: مات أنس، سنة (90) وأنا ابن خمس سنين، ومات جرير سنة (170) هكذا قال البخاري في "تاريخه" عن سليمان بن حرب وغيره.

وقد قيل: مات سنة (167) وقال مهنا عن أحمد: جرير كثير الغلط. وقال ابن حبان في "الثقات": كان يخطئ، لأن أكثر ما كان يحدث من حفظه، وكان شعبة يقول: ما رأيت أحفظ من رجلين، جرير بن حازم، وهشام الدستوائي. وقال الساجي: صدوق حدث

بأحاديث، وَهِمَ فيها، وهي مقلوبة، حدثني حسين، عن الأثرم: قال: قال أحمد: جرير بن حازم حدث بالوَهَم بمصر، ولم يحفظ

(2)

، وحدثني عبد الله بن خراش: ثنا صالح، عن علي بن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: أبو الأشهب أحب إليك، أم

(1)

وفي "تهذيب التهذيب": "وقال أبو نعيم"، فليحرّر.

(2)

قال الحافظ الذهبي رحمه الله: اغتفرت أوهامه في سعة ما روى، وقد ارتحل في الكهولة إلى مصر، وحمل الكثير، وحدث بها. اهـ "سير أعلام النبلاء" جـ 7 ص 100.

ص: 6

جرير بن حازم؟ قال: ما أقربهما، ولكن جرير أكبرهما، وكان يهم في الشيء، وكان يقول في حديث الضبع عن جابر، عن عمر، ثم صيره عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وحدثت عن عبد الله بن أحمد: حدثني أبي عن عفان، قال: راح أبو جُزَيّ نصر بن طريف إلى جرير يشفع لإنسان يحدثه، فقال جرير: ثنا قتادة، عن أنس، قال:"كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة". فقال أبو جزي: ما حدثناه قتادة إلا عن سعيد ابن أبي الحسن، قال أبي: القول قول أبي جزي، وأخطأ جرير. قال الساجي: وجرير ثقة. وقال الحسن بن علي الحلواني: ثنا عفان، ثنا جرير بن حازم: سمعت أبا فروة يقول: حدثني جار لي أنه خاصم إلى شريح، قال عفان: فحدثني غير واحد عن الأعصف، قال: سألت جريرا عن حديث أبي فروة هذا؟ فقال: حدثنيه الحسن بن عمارة. وذكر العقيلي من طريق عفان، قال: اجتمع جرير بن حازم، وحماد زيد، فجعل جرير يقول: سمعت محمدا يقول، وسمعت شريحا يقول، فقال له حماد: يا أبا النضر محمَّد، عن شريح. وقال الميموني، عن أحمد: كان حديثه عن قتادة غير حديث الناس، يوقف أشياء، ويسند أشياء، ثم أثنى عليه. وقال صالح صاحب سنة وفضل. وقال الأزدي: جرير صدوق، خرّج عنه بمصر أحاديث مقلوبة، ولم يكن بالحافظ، حمل رِشْدِين وغيره عنه مناكير، ووثقه أحمد بن صالح. وقال البزار في مسنده: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، إلا أنه اختلط في آخر عمره. وذكره ابن المديني في الطبقة الخامسة من أصحاب نافع، وقال ابن المديني: سمعت ابن مهدي يقول: جرير عندي أوثق من قرة ابن خالد. ونسبه يحيى الحماني إلى التدليس. أخرج له الجماعة.

(1)

له عند المصنف أحد وعشرون حديثًا.

4 -

(قتادة) بن دِعامة السدوسي البصري، ثقة ثبت [4]، تقدم 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك، أبو حمزة الأنصاري الصحابي الخادم رضي الله عنه، تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الستة الذين يروون عنهم بلا واسطة، وقد تقدموا قريبا (ومنها): أن فيه أنسا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى -2286 - حديثا، وهو آخر من

(1)

"تهذيب الكمال" ج 4 ص 524 - 530. "تهذيب التهذيب" ج 2 ص 69 - 72.

ص: 7

مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة -1 أو [2]، أو 93 - . والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن قتادة) بن دعامة السدوسي، أنه (قال: سألت أنسا) رضي الله عنه، هذه الرواية تُبَيِّنُ السائل المبهم في رواية البخاري من طريق همام، عن قتادة، قال:"سئل أنس"

بأنه قتادة الراوي (كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم)"كيف" في محل نص خبر "كان "مقدم وجوبا، وجملة "كان" في محل نصب مفعول "سأل"، معلق عنها العامل.

والمعنى على أي صفة كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكانت مدّا، أم كانت قصرا؟ (قال) أنس رضي الله عنه (كان يمد صوته مدًّا) ولفظ البخاري:"كان يمدّ مدًّا". أي كان يطيل صوته بالحروف الصالحة للإطالة، وهي كل حرف بعده ألف، أو واو، أو ياء، كما في قوله تعالى:{نُوحِيهَا} [هود: 49].

والمد المصطلح عليه عند القراء على ضربين: أصلي، وهو إشباع الحرف الذي بعده ألف، أو واو، أو ياء، وليس بعد كلَّ منها همَز، أو سكون، وهو المسمى بالمد الطبيعي.

والفرعي ما زيد فيه بعد الألف، والواو، والياء همز، أو سكون، كلفظ "جاء"، و"نستعين".

(1)

قال الإمام الشاطبي رحمه الله له في "حرز الأماني":

إِذَا أَلِفٌ أَوْ يَاءُ هَا بَعْدَ كَسْرَةِ

أَوُ الْوَاوُ عَنْ ضَمَّ لَقِي الْهَمْزَ طُوَلَا

قال أبو شامة رحمه الله: ومعنى "طول": مُدّ؛ لأن حرف المدَّ كلما طول ازداد مدّا، ثم قال: فإذا اتفق وجود همزة بعد أحد هذه الحروف طول ذلك المد، استعانة على النطق بالهمزة محققا، وبيانا لحرف المدَّ، خوفا من سقوطه عند الإسراع، لخفائه، وصعوبة الهمزة بعده، وهذا عام لجميع القراء إذا كان ذلك في كلمة واحدة، نص على ذلك جماعة من العلماء المصنفين في علم القراءة من المغاربة والمشارقة. انتهى.

(2)

وقال شمس الدين الجزري رحمه الله في "مقدمته":

وَالْمَدُّ لَازِمٌ وَوَاجِبٌ أَتَى

وَجَائِزٌ وَهْوَ وَقَصْرٌ ثَبَتَا

فَلَازِمٌ إِنْ جَاءَ بَعْدَ حَرْفِ مَدّ

سَاكِنُ حَالَينِ وَبِالطُولِ يُمَدْ

وَوَاجِبٌ إِنْ جَاءَ قَبْلَ هَمْزَةِ

مُتَصِلَا إِنْ جمُعَا في كِلْمَةِ

(1)

تقدم نحو هذا الكلام عن الحافظ في أول الباب.

(2)

"إبراز المعاني من حرز الأماني" ص 113.

ص: 8

وَجَائِزٌ إِذَا أَتَى مُنْفَصِلَا

أَوْ عَرَضَ السكُونُ وَقْفُا مُسْجَلَا

وتفاصيل ذلك يعلم من كتب القراءة.

والحكمة في المد في القراءة الاستعانة على تدبر المعاني، والتفكر فيها، وتذكير من يتذكر.

(1)

وفي رواية البخاري من طريق همام عن قتادة، قال: سئل أنس، كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مدًّا، ثم قرأ "بسم الله الرحمن الرحيم"، يمدّ ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم".

قال في "الفتح": قوله في الرواية الأولى: "كان يمد مدًّا" بّيَّنَ في الرواية الثانية المراد بقوله: "يمد بسم الله " الخ. يمد اللام التي قبل الهاء من الجلالة، والميم التي قبل النون من الرحمن، والحاء من الرحيم.

وقوله في الرواية الثانية: "كانت مدًّا"، أي كانت ذات مدّ. ووقع عند أبي نعيم من طريق أبي النعمان، عن جرير بن حازم في هذه الرواية:"كان يمد صوته مدا". وكذا أخرجه الإسماعيلي من ثلاثة طرق أخرى عن جرير بن حازم. وكذا أخرجه ابن أبي داود من وجه آخر عن جرير، وفي رواية له:"كان يمد قراءته". وأفاد أنه لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا جرير بن حازم، وهمام بن يحيى.

وقوله في الرواية الثانية: "يمد ببسم الله". كذا وقع بموحدة قبل الموحدة التي في "بسم الله "، كأنه حكى لفظ:"بسم الله"، كما حكى لفظ "الرحمن" في قوله:"ويمد بالرحمن". أو جعله كالكلمة الواحدة عَلَمًا لذلك.

(2)

ووقع عند أبي نعيم من طريق الحسن الحلواني، عن عمرو بن عاصم شيخ البخاري فيه:"يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم"، من غير موحدة في الثلاثة.

وأخرجه ابن، أبي داود عن يعقوب بن إسحاق، عن عمرو بن عاصم، عن همام، وجرير جميعًا عن قتادة، بلفظ:"يمد ببسم الله الرحمن الرحيم" بإثبات الموحدة في أوله أيضًا، وزاد في الإسناد جريرا مع همام في رواية عمرو بن عاصم.

وأخرج ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر {ق} فمر بهذا الحرف {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فمد {نَضِيدٌ} [ق 10]، وهو شاهد جيد لحديث أنس، وأصله عند مسلم، والترمذي، والنسائي من حديث قطبة نفسه.

(1)

"المنهل العذب المورود" جـ 8 ص 124 - 120.

(2)

هذا هو وجه الحكاية، أي إنما حكي لكونه كالكلمة الواحدة، فقوله:"أو جعله" الخ ليس وجها مستقلا، فكان الأولى في العبارة أن يقول: لأنه جعله كالكلمة الواحدة الخ. فتبصر. والله أعلم.

ص: 9

وفي هذا الحديث استحباب مد الصوت بالقراءة، وقد تقدم أن الحكمة فيه هو الاستعانة على التدبر في معاني القرآن، والتفكر فيها، وتذكير من يتذكر. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: استدل بعضهم بهذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" في الصلاة، ورام بذلك معارضة حديث أنس رضي الله أيضا المخرج في "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يقرؤها في الصلاة. وفي الاستدلال لذلك بحديث الباب نظر؛ لأنه لا يلزم من وصفه بأنه كان إذا قرأ البسملة يمد فيها أن يكون قرأ البسملة في أول الفاتحة في كل ركعة، ولأنه إنما ورد بصورة المثال، فلا تتعين البسملة، والعلم عند الله تعالى. قاله في "الفتح".

(1)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أحْرجه هنا -82/ 1014 - وفي "الكبرى" -29/ 1087 - بالسند المذكور.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "فضائل القرآن"(د) في الصلاة) كلاهما عن مسلم بن إبراهيم، عن جرير بن حازم، عن قتادة، عنه. (تم

(2)

) عن بندار، عن وهب بن جرير، عن أبيه به. (ق) في الصلاة عن محمَّد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن جرير به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

جـ 10 ص 112 - 113.

(2)

"تم" رمز للترمذيّ في "الشمائل".

ص: 10

‌83 - (تَزْيِين الْقُرْآنِ بِالصَّوْتِ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على استحباب تزيين القرآن بتحسين الصوت. والتزيين مصدر "زّينَ"، وإضافته إلى "القرآن" من إضافة المصدر إلى مفعوله، و"بالصوت" متعلق بالتزيين.

وفي نسخة: "تزيين القراءة بالصوت". والله تعالى أعلم بالصواب.

1015 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

علي بن حجر) السعدي المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9]، ت 244 تقدم 13/ 13.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الصبي الكوفي، ثقة صحيح الكتاب [8] تقدم 2/ 2.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران، ثقة حجة [5] تقدم 17/ 18.

4 -

(طلحة بن مصرف) بن عمرو بن كعب اليامي الكوفي، ثقة قارئ فاضل [5] ت 112 أو بعدها (ع) تقدم. 200/ 306.

5 -

(عبد الرحمن بن عَوْسجة) الهمداني الكوفي، ثقة [3]، قتل بالزاوية مع ابن الأشعث سنة (82)(بخ 4) تقدم 25/ 811.

6 -

(البراء) بن عازب الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، نزل الكوفة، ومات سنة (72)، تقدم 86/ 105. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين (ومنها): أن فيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض: الأعمش، عن طلحة، عن عبد الرحمن، وأن رواية الأعمش عن طلحة من رواية الأقران، فكلاهما من الطبقة الخامسة. والله تعالى أعلم.

ص: 11

شرح الحديث

(عن البراء) بن عازب رضي الله عنهما، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زينوا القرآن بأصواتكم) أي زينوا القرآن بتحسين أصواتكم عند القراءة، فإن الكلام الحسن يزداد حسنا وزينة بالصوت الحسن. ويؤيده ما رواه ابن نصر، والحاكم عن البراء رضي الله عنه أيضًا مرفوعًا:"حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا".

(1)

وروى أيضا من طريق علقمة، قال: كنت رجلًا قد أعطاني الله حسن صوت بالقرآن، فكان عبد الله بن مسعود يستقرئني، ويقول لي: اقرأ، فداك أبي وأمي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن حسن الصوت تزيين للقرآن".

(2)

والحديث يدل على تحسين التلاوة بالصوت. والحكمة في ذلك المبالغة في تدبر المعاني، والتفطن لما تضمنته الآيات من الأوامر، والنواهي، والوعد، والوعيد؛ لأن النفس ميّالة طبعا إلى استحسان الأصوات، وربما يتفرغ الفكر مع حسن الصوت عن الشوائب، فيكون الفكر مجتمعًا، وإذا اجتمع حصل المطلوب من الخشوع والخضوع.

وقال في "الفتح": ولا شك أن النفس تميل إلى سماع القرآن بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم؛ لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب، وإجراء الدمع. انتهى.

(3)

والمراد بتحسين الصوت هو التحسين الذي يبعث على الخشوع، لا أصوات ألحان الغناء واللَّهو التي تخرج عن حدّ القراءة، كما سيأتي تحقيق ذلك، إن شاء الله تعالى.

ورأى قوم أن الحديث مقلوب، والأصل: زينوا أصواتكم بالقرآن، وقالوا: إن القرآن أعظم من أن يحسن بالصوت، بل الصوت أحق أن يحسن بالقرآن.

قال الخطابي رحمه الله: هكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث، وزعموا أنه من باب المقلوب، كما قالوا: عرضتُ الناقةَ على الحوض، أي عرضت الحوض على الناقة، وكقولهم: إذا طلع الشِّعْرَى، واستوى العود على الحرباء، أي استوى الحِرْبَاء على العود، وكقول الشاعر:[من الطويل]

وَتَرْكَبُ خَيْلَا لَا هَوَادَةَ بَيْنَهَا

وَتَشْقَى الرَّمَاحُ بالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ

(4)

(1)

أخرجه الدارمي، وابن نصر في "الصلاة"، والحاكم في "المستدرك" من حديث البراء رضي الله تعالى عنه. وهو حديث صحيح. راجع "صحيح الجامع" للشيخ الألباني جـ 1 ص 601 رقم 3145.

(2)

حديث حسن أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. انظر "صحيح الجامع" ج 1 ص 601.

(3)

"فتح " جـ 10 ص 88.

(4)

الضياطرة: هم الضَّخَام الذين لا غَنَاء عندهم، الواحد ضَيْطار أفاده في "اللسان".

ص: 12

وإنما هو: تشقى الضياطرة بالرماح

وأخبرنا ابن الأعرابي، ثنا عباس الدوري، ثنا يحيى بن معين، ثنا أبو قَطَن، عن شعبة، قال: نهاني أيوب أن أحدث: "زينوا القرآن بأصواتكم". قلت: ورواه معمر، عن منصور، عن طلحة، فقدم الأصوات على القرآن، وهو الصحيح. أخبرناه محمَّد بن هاشم، حدثنا الدبري، عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن منصور، عن طلحة، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"زينوا أصواتكم بالقرآن". والمعنى اشْغَلُوا أصواتكم بالقرآن، والْهَجُوا بقراءته، واتخذه شِعارا لكم، وزينة. انتهى كلام الخطابي.

(1)

[قال الجامع عفا الله عنه]: الأرجح عندي إبقاء حديث الباب على ظاهره، كما فسره الأولون، كما هو صريح حديث البراء، وحديث ابن مسعود المذكوران آنفا، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسْنا"، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:"إن حسن الصوت تزيين للقرآن". صريحان في هذا المعنى.

وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الصوت الحسن، والتغني به في قراءة القرآن، كما يأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن"

وحديثه: "لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود عليه السلام". وكذلك في حديث عائشة رضي الله عنها، وغير ذلك، فهذه الخصوص ظاهرة واضحة الدلالة على أن المراد هو ظاهر معنى الحديث، ولا داعي لإخراجه عن ظاهر معناه بلا حجة نَيَّرَةِ.

وأما ما صححه الخطابي من أن الصواب في متن الحديث: "زينوا أصواتكم بالقرآن"، ثم أخرجه بسنده كذلك، فليس كما قال، فإن الحفاظ: الأعمش، وشعبة، ومحمد بن طلحة عند أحمدج 4 ص 285، ومنصورا -فيما رواه عنه الثوري عند أحمد أيضا جـ 4 ص 296 - أربعتهم عن طلحة اتفقوا على أنه:"زينوا القرآن بأصواتكم". فرواية الخطابي شاذة لا تصح. فتبصر بإنصاف،، ولا تتحير بالاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث البراء رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له.

(1)

"معالم السنن" ج 2 ص 137 - 138.

ص: 13

أخرجه هنا -83/ 1015 - وفي "الكبرى" 30/ 1088 - عن علي بن حجر، عن جرير، عن الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عنه. و 1016 و"الكبرى" 1089 - عن عمرو، عن يحيى، عن شعبة، عن طلحة به. وفي "فضائل القرآن " -38/ 8050 - عن علي بن حجر، عن جرير، عن الأعمش، وذكر آخر، عن طلحة به. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير به. (ق) في "الصلاة" عن بندار، عن يحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر، كلاهما عن شعبة به. وأخرجه (أحمد) 4/ 283 و 285 و 296 و 304. (الدارمي) رقم 3503 (البخاري) في "خلق أفعال

العباد" ص 33 و 34. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1016 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ".

قَالَ ابْنُ عَوْسَجَةَ: كُنْتُ نَسِيتُ هَذِهِ: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ". حَتَّى ذَكَّرَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ).

رجالَ هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس، ثقة حافظ [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة ثبت حجة [9]، تقدم 2/ 2.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة [7] تقدم 24/ 26.

والباقون تقدموا في السند الماضي. وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به.

وقوله: "قال ابن عوسجة" كنت نسيت هذه: "زينوا القرآن"، حتى ذكرني الضحاك ابن مزاحم.

معناه أنه كان سمع الحديث بطوله عن البراء، ثم نسي الجملة المذكورة من جملته، فذكّره الضحاك رحمه الله تعالى.

وقد أخرج الحديث أحمد رحمه الله تعالى في مسنده مطولًا: فقال: حدثنا يحيى، ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، قال: ثنا طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب، قال ابن جعفر: ثنا شعبة، قال: سمعت طلحة اليامي، قال: سمعت عبد الرحمن بن عوسجة، قال: سمعت البراء بن عازب، يحدث عن النبي

ص: 14

- صلى الله عليه وسلم قال: "من مَنَحَ مَنِيحةَ ورِق، أو هدّى زقاقا، أو سقى لبنا كان له عدل رقبة، -أو نسمة- ومن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرار كان له عدل رقبة -أو نسمة"- وكان يأتينا إذا قمنا إلى الصلاة، فيمسح صدورنا -أو عواتقنا- يقول:"لا تختلف صفوفكم، فتختلف قلوبكم"، وكان يقول:"إن الله، وملائكته يصلون على الصف الأَوَّل -أو الصفوف الأُوَل"، وقال:"زينوا القرآن بأصواتكم". كنت نسيتها، فذكرنيها الضحاك بن مزاحم. انتهى.

(1)

فتبين بهذا أن الذي نسيه ابن عوسجة "زينوا القرآن بأصواتكم" من جملة الحديث الطويل. والله تعالى أعلم. و"الضحاك بن مُزاحم": هو الهلالي، أبو القاسم، أو أبو محمَّد الخراساني، صدوق كثير الإرسال [5]، ت بعد المائة (4). يقال: إنه لم يثبت له سماع من أحد الصحابة رضي الله عنهم، وتذكيره لعبد الرحمن بن عوسجة هنا أنه كان يحدث بالحديث كاملا، فنسي بعضه، فذكره الضحاك ما كان سمعه منه سابقا، فتذكر، لا أن الضحاك سمعه من البراء، فحدثه به، وهذا لا يضر بصحة الحديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1017 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمَّد بن زُنبُور) بن أبي الأزهر، أبو صالح المكي، واسم زُنبور: جعفر، صدوق له أوهام [10]، ت في آخر سنة 248 (س) تقدم 73/ 90.

2 -

(ابن أبي حازم) عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، صدوق فقيه [8] ت 184 وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم 40/ 44.

3 -

(يزيد بن عبد الله) بن أسامة بن الهاد الليثى، أبو عبد الله المدني، ثقة مكثر [5] ت 139 (ع) تقدم 73/ 90.

4 -

(محمَّد بن إبراهيم) بن الحارث بن خالد التيمي، أبو عبد الله المدني، ثقة له أفراد [4]، ت 120 على الصحيح (ع) تقدم 60/ 75.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدني، ثقة فقيه مكثر [3]، ت 94 (ع)

(1)

"المسند" جـ 4 ص 304.

ص: 15

تقدم 1/ 1.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سيداسيات المصنف (ومنها): أن رجاله كلهم موثقون، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد هو به (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فمكي (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة (ومنها): أن فيه أبا هريرة رئيس المكثرين، روى -5374 - حديثا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أذن الله لشيء) بكسر الذال المعجمة، أي ما استمع الله عز وجل لشي مما يُسمَع (ما أنس لنبي) أي كاستماعه لنبي، فـ"ما" الأولى نافية، والثانية مصدرية، ونكر "نبيَّا" لأن المراد به الجنس. ووقع في رواية أبي ذرّ لصحيح البخاري:"للنبي" بالتعريف، قال في "الفتح": فإن كانت محفوظة فهي للجنس، ووهم من ظنها للعهد، وتوهم أن المراد نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم فقال: ما أذن للنبي صلى الله عليه وسلم وشرحه على ذلك. انتهى (حسن الصوت) بالجر صفة "نبي"(يتغنى بالقرآن) جملة فعلية في محل نصب حال من "نبي". أي يحسّن صوته به حال قراءته، أو هو بمعنى الجهر، فيكون قولهه:"يجهر به" تفسيرا له، أو بمعنى يلين، ويرقق صوته، ليجلب به إلى نفسه وإلى السامعين الحزن والبكاء، وينقطع به عن الخلق إلى الخالق عز وجل. أفاده السندي رحمه الله.

(1)

وسيأتي ذكر اختلاف العلماء في معنى التغني في المسائل إن شاء الله تعالى.

ووقع عند المصنف في "الفضائل"، وهي رواية عند البخاري أيضًا من طريق ابن شهاب، عن أبي سلمة:"أن يتغنى" بزيادة "أن".

قال في الفتح: وزعم ابن الجوزي أن الصواب حذف "أن"، وأن إثباتها وَهَم من بعض الرواة، لأنهم كانوا يروون بالمعنى، فربما ظن بعضهم المساواة، فوقع الخطأ، لأن الحديث لو كان بلفظ "أن" لكان من الإذن بكسر الهمزة، وسكون الذال بمعنى الإباحة والإطلاق، وليس ذلك مرادا هنا، وإنما هو من الأَذَن بفتحتين، وهو الاستماع. وقوله:"أَذِنَ": أي استمع.

(1)

"شرح السندي" جـ 2 ص 180.

ص: 16

والحاصل أن لفظ "أَذِنَ" بفتحة، ثم كسرة في الماضي، من باب تَعِب: مشترك بين الإطلاق والاستماع، تقول: أذنت آذَنُ بالمدّ، فإن أردت الإطلاق، فالمصدر بكسرة، ثم سكون، وإن أردت الاستماع فالمصدر بفتحتين، قال عديّ بن زيد:[من الرمل]:

أَيها الْقَلْبُ تَعَلَّلْ بِدَدَن

(1)

إِنَّ هَمِّي فِي سَمَاعِ وَأَذَنْ

أي في سماع، واستماع.

وقال القرطبي: أصل الأَذَنِ -بفتحتين- أن المستمع يميل بأذنه إلى جهة من يسمعه، وهذا المعنى في حق الله تعالى لا يراد به ظاهره، وإنما هو على سبيل التوسع على ما جرى به عرف المخاطب، والمراد به في حق الله تعالى إكرام القارئ، وإجزال ثوابه، لأن ذلك ثمرة الإصغاء. انتهى

(2)

[قال الجامع عفا الله عنه]: هذا الذي قاله القرطبي في المعنى المراد بالأذَن هنا أنه بمعنى الإكرام، وإجزال الثواب أراد به أن الكلام من باب المجاز، لا من باب الحقيقة، وهذا غير صحيح؛ لأنه يستلزم عدم إثبات صفة الأَذَن لله سبحانه وتعالى وقد أثبتها له هذا النص الصحيح، فالصواب إثباتها على حقيقتها اللائقة بجلاله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من ذلك تشبيهه بمخلوقاته؛ لأن صفاته سبحانه وتعالى لا تشبه صفات المخلوق، فلو لزم من إثباتها التشبيه للزم أيضًا في الإكرام، وإجزال المثوبة، اللذين أوّل بهما القرطبي؛ لأنهما يوصف بهما المخلوق أيضًا، فيقال: إن فلانا لما استحسن قراءة فلان أكرمه، وأجزل له العطاء، ونحو ذلك.

والحاصل أن إثبات الصفات الواردة في القرآن، والأحاديث الصحيحة بمعناها الحقيقي، لا المجازي، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى هو الحق الذي كان عليه سلف هذه الأمة، الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"خير القرون قرني"

الحديث. والله تعالى أعلم، وهو الهادي إلى الطريق الأقوم.

(يجهر به) جملة فعلية في محل نصب على الحال أيضًا، فتكون الحالان إما متداخلتين، أو مترادفتين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

الددن بفتحتين: اللَّهو واللعب.

(2)

"فتح" جـ 10 ص 84 - 85.

ص: 17

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -83/ 1017 - 30/ 1090 - وفي "فضائل القرآن" -8052 - عن محمَّد ابن زُنبور المكي، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن عبد الله، عن محمَّد بن إبراهيم،

(1)

عن أبي سلمة، عنه، وفي -83/ 1018 - و"الكبرى" هنا -30/ 1091 - وفي "فضائل القرآن" 37/ 8048 - عن قتيبة، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة به. وفي "فضائل القرآن" -39/ 8053 - عن محمَّد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "فضائل القرآن" عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب به. وعن علي بن عبد الله، عن ابن عيينة، عن الزهري به. (م) في "الصلاة" عن عمرو الناقد، وزهير بن حرب، كلاهما عن ابن عيينة به. وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس- وعن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث- كلاهما عن ابن شهاب به. وعن بشر بن الحكم، عن عبد العزيز بن محمَّد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم به. وعن ابن أخي ابن وهب، عن عمه، عن عمرو بن مالك، وحيوة بن شريح، كلاهما عن ابن الهاد به. وعن الحكم بن موسى، عن هِقْل، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة به. وعن يحيى بن أيوب، وقتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، كلهم عن إسماعيل بن جعفر، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة به.

(د) في "الصلاة" عن سليمان بن داود المهري، عن ابن وهب، عن عمرو بن مالك، وحيوة، كلاهما عن ابن الهاد به.

وأخرجه (الحميدي) رقم 949 (وأحمد) 2/ 271 و 285 و 450 (والبخاري) في "خلق أفعال العباد" ص 32 (والدارمي) رقم 1496 و 3500 و 1499 و 3493 و 3494. والله تعالى أعلم.

(1)

هكذا قال في "تحفة الأشراف": إن المصنف أخرج الحديث في "فضائل القرآن" أيضًا بهذا السند، وأشار في هامش "المسند الجامع" إلى أن النسخة الخطية موافقة لما في "تحفة الأشراف". ولكن الموجود في النسخة المطبوعة من "الكبرى" في "فضائل القرآن" هكذا: "أخبرنا أبو صالح المكي، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. . . . . فليحرر.

ص: 18

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها) ما بوب له المصنف، وهو استحباب تزيين القرآن بالصوت الحسن (ومنها): استحباب الاستماع لقراءة قارئ حَسَن الصوت، وسيأتي نقل الإجماع على ذلك، إن شاء الله تعالى.

وقد أخرج ابن أبي داود من طريق ابن أبي مسجعة، قال:"كان عمر رضي الله عنه يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم".

(1)

(ومنها): إثبات صفة الأذَن -بفتحتين- بمعنى الاستماع لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، وأما ما قاله السندي وغير من أنه لما كان الاستماع على الله تعالى محالا، لأنه شأن من يختلف سماعه بكثرة التوجه، وقلته، وسماعُهُ تعالى لا يختلف قالوا: هذا كناية عن تقريب القارئ، وإجزال مثوبته. انتهى. فغير صحيح؛ لأن قولهم هذا مبني على معنى الاستماع الذي ينسب إلى المخلوق؛ لأنهم لم يفهموا معنى الاستماع إلا بالمعنى الذي ذكروه، وهذا خطأ، فإن الاستماع الذي يكون لله سبحانه وتعالى غير الاستماع الذي يكون للمخلوق، وإننا إذ نثبت لله تعالى صفاته العلية لا نثبتها بمعناها الذي يكون للمخلوق، وإنما نثبتها بالمعنى الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى. فتبصر بالإنصاف، ولا تتهَوَّر بالاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(ومنها): استحباب التغني بقراء القرآن بشرط أن لا يُخِلّ بقوانين الأداء، كما قرره أهل القراءة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسأله الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "يتغنى بالقرآن": قال سفيان بن عيينة رحمه الله: تفسيره: يستغني به. وإليه ميل البخاري رحمه الله. قال الحافظ رحمه الله: ويمكن أن يُستأنس له بما أخرجه أبو داود، وابن الضريس، وصححه أبو عوانة عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن أبي نهَيك، قال: لقيني سعد بن أبي وقاص، وأنا في السوق، فقال: تجار كسبة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن". وقد ارتضى أبو عبيد تفسير "يتغنى" بيستغني، وقال: إنه جائز في كلام العرب، وأنشد الأعشى:[من المتقارب]

وَكُنْتُ امْرَأً زَمَنَا بِالْعِرَاقِ

خَفِيفَ الْمُنَاخِ طَوِيلَ التَّغَنِّي

أي كثير الاستغناء. وقال المغيرة بن حَبْنَاء: [من الطويل]

كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ

وَنَحْنُ إِذَا مِتْنَا أَشَدُّ تَغَانِياَ

(1)

راجع "الفتح" جـ 10 ص 114.

ص: 19

قال: فعلى هذا يكون المعنى: من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا، فليس منا. أي ليس على طريقتنا. واحتج أبو عبيد أيضًا بقول ابن مسعود:"من قرأ سورة آل عمران، فهو غني". ونحو ذلك.

وقال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله: "يتغنى" على أربعة أقوال: (أحدها): تحسين الصوت. (والثاني): الاستغناء. (والثالث): التحزن. قاله الشافعي. (والرابع): التشاغل به، تقول العرب: تغنى بالمكان أقام به.

قال الحافظ: وفيه قول آخر، حكاه ابن الأنباري في "الزهر" قال: المراد به التلذذ، والاستحلاء له، كما يَسْتَلِذُّ أهل الطرب بالغناء، فأطلق عليه تغنيًا من حيث أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء، وهو كقول النابغة:[من الوافر]

بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا

(1)

مُفَجَّعَةً عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي

أطلق على صوتها غِنَاء، لأنه يطرب كما يطرب الغناء، وإن لم يكن غناء حقيقة، وهو كقولهم:"العمائم تيجان العرب". لكونها تقوم مقام التيجان.

وفيه قول آخر حسن، وهو أن يجعله هِجِّيرَاه، كما يجعل المسافر والفارغ هِجِّيراه الغناءَ، قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى، وإذا جلست في أفنيتها، وفي أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم القراءةَ مكانَ التغني.

ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدم، فإنه أراد بقوله:"طويل التغني" طول الإقامة، لا الاستغناء؛ لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء. يعني أنه كان ملازما لوطنه بين أهله، كانوا يتمدحون بذلك، كما قال حسان:[من الكامل]

أَوْلَادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمُ

قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفَضَّلِ

أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع، ولا يبرحون من أوطانهم، فيكون معنى الحديث: الحث على ملازمة القرآن، وأن لا يتعدى إلى غيره، وهو يؤول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاري من تخصيص الاستغناء، وأنه يستغني به عن غيره من الكتب.

وقيل: المراد: من لم يغنه القرآن، وينفعه في إيمانه، ويصدق بما فيه من وعد ووعيد. وقيل: معناه: من لم يرتح لقراءته وسماعه. وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه

(1)

"الهديل" بفتح، فكسر قيل: هو ذكر الحمام، أو فرخ الحمام، وقيل: غير ذلك. أفاده في "اللسان"، و"القاموس".

ص: 20

يحصل به الغنى دون الفقر، لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع، إذا أريد به الغني المعنوي، وهو غنى النفس، وهو القناعة، لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر، لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة، إلا إذا كان ذلك بالخاصية، وسياق الحديث يأبى العمل على ذلك، فإن فيه إشارة إلى الحث على تكلف ذلك، وفي توجيهه تكلف، كأنه قال: ليس منا من لم يتطلب الغنى بملازمة تلاوته.

قال الحافظ: وأما الذي نقله عن الشافعي، فلم أره صريحا عنه في تفسير الخبر، وإنما قال في "مختصر المزني": وأحب أن يقرأ حَدْرًا وتحزينا. انتهى. قال أهل اللغة: حَدَرْتُ القراءة: أدرجتها، ولم أمططها، وقرأ فلان تحزينا: إذا رقق صوته، وصيره كصوت الحزين.

وقد روى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه "أنه قرأ سورة، فحزنها شبه الرَّثْيِ". وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد، قال:"يتغنى به، يتحزن به، ويرقق به قلبه".

وذكر الطبري عن الشافعي أنه سئل عن تأويل ابن عيينة التغني بالاستغناء، فلم يرتضه، وقال: لو أراو الاستغناء لقال: لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت.

قال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة، وعبد الله بن المبارك، والنضر بن شميل، ويؤيده رواية عبد الأعلى، عن معمر، عن ابن شهاب في حديث الباب بلفظ "ما أذن لنبي في الترنم في القرآن". أخرجه الطبري، وعنده في رواية عبد الرزّاق، عن معمر:"ما أذن لنبي حسن الصوت". وهذا اللفظ عند مسلم من رواية محمَّد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة. وعند أبي داود، والطحاوي من رواية عمرو بن دينار، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"حسن الترنم بالقرآن". قال الطبري: "والترنم" لا يكون إلا بالصوت، إذا حسنه القارئ، وطرب به، قال. ولو كان معناه: الاستغناء لما كان لذكر الصوت، ولا لذكر الجهر معنى.

وأخرج ابن ماجه، والكجي، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث فَضالة بن عبيد رضي الله عنه مرفوعًا:"الله أشد أَذَنًا -أي استماعا- للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنَة إلى قينته". و"القينة": المغنية.

وروى ابن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه رفعه: "تعلموا القرآن، وغنُّوا به، وأفشوه". كذا وقع عنده، والمشهور عند غيره في الحديث:"وتغنوا به"، والمعروف في كلام العرب أن التغني: الترجيع بالصوت، كما قال حسان:[من البسيط]:

ص: 21

تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا كنْتَ قَائِلَهُ

إِنَّ الْغِنَاءَ بِهذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ

قال: ولا نعلم في كلام العرب "تغنى" بمعنى استغنى، ولا في أشعارهم، وبيت الأعشى لا حجة فيه؛ لأنه أراد طول الإقامة، ومنه قوله تعالى {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود: 95]. وقال: بيت المغيرة أيضًا لا حجة فيه؛ لأن التغاني تفاعل بين اثنين، وليس هو بمعنى "تغنى"، قال: وإنما يأتي "تغنى" من الغنى الذي هو ضد الفقر بمعنى تفعل، أي يظهر خلاف ما عنده، وهذا فاسد المعنى.

قال الحافظ: ويمكن أن يكون بمعنى تكلفه، أي تطلبه، وحمل نفسه عليه، ولو شق عليه، كما تقدم قريبا، ويؤيده حديث:"فإن لم تبكوا، فتباكوا". وهو في حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه عند أبي عوانة. وأما إنكاره أن يكون "تغنى" بمعنى "استغنى" في كلام العرب، فمردود، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد صح في حديث الخيل:"ورجلٌ ربطها تعففا وتغنيا"، وهذا من الاستغناء بلا ريب. والمراد به يطلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله:"تعففا".

وممن أنكر تفسير "يتغنى" بيستغني أيضا الإسماعيلي، فقال: الاستغناء إليه لا يحتاج إلى استماع؛ لأن الاستماع أمر خاص زائد على الاكتفاء به، وأيضًا فالاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة. ثم ساق من وجه آخر عن ابن عيينة، قال: يقولون: إذا رفع صوته، فقد تغنى.

قال الحافظ: قلت: الذي نقل عنه أنه بمعنى استغنى أتقن لحديثه. وقد نقل أبو داود عنه مثله ويمكن الجمع بينهما بأن تفسير "يستغني" من جهته، و"يرفع" عن غيره

(1)

.

وقال عمر بن شبة: ذكرت لأبي عاصم النبيل تفسير ابن عيينة، فقال: لم يصنع شيئًا، حدثني ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، قال:" كان داود عليه السلام يتغنى -يعني حين يقرأ- ويَبكي، ويُبكي". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن داود عليه السلام كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا، ويقرأ قراءة يَطرَب منها المحموم، وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة في برّ، ولا بحر إلا أنصتت له، واستيعت، وبكت".

وفي الجملة ما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع، وإن كانت ظواهر الإخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت، ويؤيده قوله:"يجهر به". فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غبره، ولا سيما إذا كان فقيها، وقد جزم الحَلِيمي بأنها من قول أبي هريرة. والعرب تقول: سمعت فلانا يتغنى بكذا،

(1)

يعني أن ابن عيينة فسر "يتغنى" بـ"يستغني" من عند نفسه، وفسره بـ"يرفع صوته" نقلا عن غيره.

ص: 22

أي يجهر به. وقال أبو عاصم: أخذ بيدي ابن جريج، فأوقفني على أشعب، فقال: غَنِّ ابنَ أخي ما بلغ من طمعك، فذكر قصة. فقوله: غنّ، أي أخبرني جهرا صريحا. ومنه قول ذي الرُّمَّة:[من الطويل]

أُحِبُّ الْمَكَانَ الْقَفْرَ من أَجْلِ أَنَّنِي

بِهِ أَتَغَنَّى بِاسْمِهَا غَيْرَ مُعْجِمِ

أي أجهر، ولا أكني.

والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة، وهو أنه يحسّن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن، مستغنيا به عن غيره من الإخبار، طالبا به غنى النفس، راجيا به غنى اليد. قال: وقد نظمت ذلك في بيتين:

تَغَنَّ بِالْقُرْآنِ حَسِّنْ بِهِ الصَّوْ

تَ حَزِينًا جَاهِرًا رَنِّمِ

وَاسْتَغْنِ عَنْ كتُبِ الألُى طَالِباَ

غِنَى يَدٍ وَالنَّفْسِ ثُمَّ الْزَمِ

انتهى ما في "الفتح" بتصرف يسير.

(1)

[قال الجامع عفا الله عنه]: عندي أن الأرجح في معنى: "يتغنى به" في هذا الحديث هو قول من فسره بتحسين الصوت، لكون ظواهر الأخبار تؤيده.

والحاصل أن ما دلت عليه ظواهر الأخبار، وكان واضحًا في استعمال العرب بدون خلاف، وهو كون "يتغنى" بمعنى يحسن صوته، أولى ما يفسر به هذا الحديث. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في بيان اختلاف أهل العلم في القراءة بالألحان:

قال في "الفتح": كان بين السلف اختلاف في جواز قراءة القرآن بالألحان، أما تحسين الصوت، وتقديم حسن الصوت على غيره، فلا نزاع في ذلك.

فحكى عبد الوهاب المالكي عن مالك تحريم القراءة بالألحان، وحكاه أبو الطيب الطبري، والماوردي، وابن حمدان الحنبلي عن جماعة من أهل العلم، وحكى ابن بطال، وعياض، والقرطبي من المالكية، والماوردي، والبندنيجي، والغزالي من الشافعية، وصاحب "الذخيرة" من الحنفية الكراهة، واختاره أبو يعلى، وابن عقيل من الحنابلة.

وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز، وهو المنصوص للشافعي، ونقله الطحاوي عن الحنفية. وقال الفوراني من الشافعية في "الإبانة": يجوز، بل يستحب، ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختلّ شيء من الحروف عن مخرجه، فلو

(1)

"فتح" جـ 10 ص 85 - 88.

ص: 23

تغير قال النووي في "التبيان": أجمعوا على تحريمه، ولفظه:

أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفا، أو أخفاه حَرُمَ، قال: وأما القراءة بالألحان، فقد نص الشافعي في موضع على كراهته، وقال في موضع آخر: لا بأس به، فقال أصحابه:

ليس على اختلاف قولين، بل على اختلاف حالين، فإن لم يخرج بالألحان عن المنهج القويم جاز، وإلا حرم. وحكى الماوردي عن الشافعي أن القراءة بالألحان إذا انتهت إلى إخراج بعض الألفاظ عن مخرجها حرم، وكذا حَكَى ابن حمدان الحنبلي في "الرعاية". وقال الغزالي، والبندنيجي، وصاحب "الذخيرة" من الحنفية: إن لم يُفرِط في التمطيط الذي يشوش النظم استُحِبَّ، وإلا فلا. وأغرب الرافعي، فحكى عن "أمالي السرخسي" أنه لا يضر التمطيط مطلقا، وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة، وهذا شذوذ، لا يعرّج عليه.

والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنًا، فليحسنه ما استطاع، كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح.

ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النَّغَم، فإن الحَسَنَ الصوتِ يزداد حُسْنًا بذلك، وإن خرج عنها أَثَّرَ ذلك في حسنه، وغيرُ الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يَفِ تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وُجِد من يراعيهما معا، فلا شك في أنه أرجح من غيره؛ لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت، ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء. والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

[قال الجامع عفا الله عنه]: هذا التفصيل حسن جدًّا، وحاصله أن القراءة بالألحان والأنغام الحسنة بشرط عدم الخروج عن قواعد القراءة مستحب، لأحاديث الباب، وغيرها، وإن اختل شرط من شروط الأداء، كأن يمد حرفا لا يستحق المد، أو تجاوز في الممدود من المقدار الذي وضعه القراء، أو زاد حرفا، أو نقص، أو أخفى ما يُظهر، أو عكس، أو أدغم ما لا يدغم، أو عكس، أو نحو ذلك فحرام. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

جـ 10 - ص 89.

ص: 24

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

1018 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَذِنَ اللَّهُ عز وجل لِشَيْءٍ يَعْنِي أَذَنَهُ لِنَبِيٍّ، يَتَغَنَّي بِالْقُرْآنِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10]، تقدم 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت [8]، تقدم 1/ 1.

((3)(الزهري) محمَّد بن مسلم المدني الإمام الحافظ الحجة [4] تقدم 1/ 1.

4 -

(5) تقدما في السند الماضي. وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به تقدّمت هناك. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "يعني أذنه". بفتحتين مصدر "أَذِنَ" بفتح، فكسر، كما قال في "الخلاصة":

وَفَعِلَ اللاَّزِمُ بَابُهُ فَعَلْ

كَفَرَحِ وَكجَوىَ وَكشَلَلْ

والعناية من بعض الرواة، أتى بها بيانا للمعنى المراد من قوله:"أَذِنَ"، حيث إنه يحتمل أن يكون بمعنى الإباحة، فأزال ذلك به. والله تعالى أعلم.

وقد تقدم أن المراد بقوله: "نبي" جنس النبي، وأما القرآن، فيحتمل أن يكون بمعنى القراءة، فيكون مصدرا، ويحتمل أن يكون بمعنى كلام الله مطلقا، فيكون بمعنى المقروء. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1019 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ قِرَاءَةَ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: "لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا، مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ عليه السلام").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سليمان بن داود) بن حماد المهري، أبو الربيع المصري، ثقة [11]، ت 253 (د س) تقدم 63/ 79.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد [9] ت 197 (ع) تقدم 63/ 79.

3 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب المصري، ثقة فقيه حافظ [7]، تقدّم في 63/ 79. والباقون تقدموا في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

ص: 25

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد هو به، وأبو داود (ومنها): أن النصف الأول منهم مصريون، والنصف الثاني مدنيون (ومنها): أنه مسلسل بالإخبار في أربعة مواضع، والعنعنة في موضع، والتحديث في موضع (ومنها) أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وأن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة، وأبا هريرة رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(أن أبي هريرة) رضي الله عنه (حدثه) أي أبا سلمة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع) بفتح همزة "أن" في المواضع كلها؛ لأنها سدت فيه مسد المفعول الثاني، والثالث لـ"أخبر"، لأنها تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، والأول هو الضمير المنصوب، قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":

وَكَأَرَى السَّابِقِ نَبَّا أَخْبَرَا

حَدَّثَ أَنْبَأَ كَذَاكَ خَبَّرَا

(قراءة أبي موسى) عبد الله بن قيس بن سُلَيم بن حَضَّار الأشعري، الصحابي الشهير، أمره عمر، ثم عثمان، وهو أحد الحَكَمَين بصفين، مات رضي الله عنه سنة (50) وقيل: بعدها، تقدمت ترجمته في 3/ 3.

(فقال: لقد أوتي) اللام هي الموَطِّئة للقسم، والجملة جواب القسم المقدر، والضمير المرفوع النائب عن الفاعل يعود إلى أبي موسى رضي الله عنه. وفي رواية عائشة التالية:"لقد أوتي هذا"، فاسم الإشارة هو النائب عن الفاعل، والمفعول الثاني قوله (مزمارا) أي والله لقد أُعطي أبو موسى مزمارا، أي صوتا حسنا شبيها بالمزمار.

و"المزمار" -بالكسر: آلة الزَّمْرِ، أي التغني. يقال: زَمَر يزمُرُ، من باب قتل، ويزمِر، من باب ضرب، زَمْرًا، وزَمِيرًا، وزَمَّرَ تَزْمِيرًا: إذا غنى في القَصبِ. أفاده في "ق".

والمراد أنه أعطي صوتا حسنًا في قراءة القرآن من أنواع الأصوات والنغمات الحسنة التي كانت لدود عليه السلام في قراءة الزبور.

قال في "النهاية": شَبَّهَ حسن صوته، وحلاوة نَغَمه بصوت المزمار. و"داود" هو النبي المشهور عليه السلام وإليه المنتهى في حسن الصوت بالقراءة، و"الآل" في قوله:"آل داود" مقحمة. قيل: معناه ها هنا الشخص. انتهى.

(1)

وقال الخطاب رحمه الله: قوله: "آل داود" يريد نفسه؛ لأنه لم ينقل أن أحدا من أولاد

(1)

"نهاية ابن الأثير" جـ 2 ص 312.

ص: 26

داود عليه السلام، ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي داود عليه السلام انتهى.

وقال في "الفتح": والمراد بالمزمار الصوت الحسن، وأصله الآلة، أطلق اسمه على الصوت للمشابهة. انتهى.

(1)

وأخرج البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" من طريق بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"يا أبا موسى، لقد أو تيت مزمارا من مزامير آل داود عليه السلام".

قال في "الفتح": كذا وقع عنده مختصرا من طريق بريد، وأخرجه مسلم من طريق طلحة بن يحيى، عن أبي بردة بلفظ:"لو رأيتني، وأنا أستمع قراءتك البارحة". . . الحديث. وأخرجه أبو يعلى من طريق سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، بزيادة فيه:"إن النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة مرّا بأبي موسى، وهو يقرأ في بيته، فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضيا، فلما أصبح أتى أبو موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا موسى مررت بك"، فذكر الحديث، فقال:"أما إني لو علمت بمكانك لحَبَّرته لك تحبيرا". ولابن سعد من حديث أنس رضي الله عنه بإسناد على شرط مسلم: "إن أبا موسى قام ليلة يصلي، فسمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم صوته -وكان حلو الصوت- فقمن يستمعن، فلما أصبح قيل له: فقال: لو علمت لحبّرته لهن تحبيرا". وللروياني من طريق مالك بن مغول، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه نحو سياق سعيد بن أبي بردة، وقال فيه:"لو علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءتي لحبرتها تحبيرا".

(2)

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.

[تنبيه]: قد اختلف في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على الزهري، فرواه عمرو بن الحارث، عنه عن أبي سلمة موصولا بذكر أبي هريرة رضي الله عنه. كما أخرجه المصنف هنا. وأخرجه الدارمي من طريق الزهري، عن أبي سلمة مرسلًا. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لأبي موسى -وكان حسن الصوت بالقرآن- لقد أوتي هذا من مزامير آل داود".

(1)

"فتح" جـ 10 ص 114 - 115.

(2)

"فتح" جـ 10 ص 113 - 114.

ص: 27

ورواه معمر، وسفيان، كلاهما عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنه -ا -. كما أخرجه المصنف بعد هذا.

وقال الليث: عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب مرسلًا.

ولأبى يعلى من طريق عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء رضي الله عنه:"سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى، فقال: كأن صوت هذا من مزامير آل داود". وأخرج ابن أبي داود من طريق أبي عثمان النهدي قال: دخلت دار أبي موسى الأشعري، فما سمعت صوت صَنْج، ولا بَرْبَط، ولا ناي أحسن من صوته. سنده صحيح، وهو في "الحلية" لأبي نعيم. و"الصنج" -بفتح المهملة، وسكون النون، بعدها جيم-: هو آلة تتخذ من نحاس، كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر. و"البربط " -بالموحدتين، بينهما راء ساكنة، ثم طاء مهملة، بوزن جعفر-: هو آلة تشبه العود، فارسي معرب. و"الناي":- بنون بغير همز، هو المزمار. انتهى.

(1)

[قال الجامع عفا الله عنه]: الظاهر أن الموصول في هذا هو الراجح، ولا يعلّ بالمرسل؛ لأن من وصله ثقات حفاظ، فمعهم زيادةٌ، وزيادة الثقة مقبولة، ولا سيما إذا كان حافظًا متقنا، مثل عمرو بن الحارث، ومعمر، وابن عيينة، وأما الاختلاف في كونه من حديث أبي هريرة، أو من حديث عائشة رضي الله عنهما فلا يضر، لإمكان الحمل على أنه مروي عنهما جميعا

(2)

. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية). في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -83/ 1019 - وفي "الكبرى" 30/ 1092 - بالسند المذكور.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ق) في "الصلاة" عن محمَّد بن يحيى، عن يزيد بن هارون، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فسمع قراءة رجل، فقال:"من هذا؟ " فقيل له؛ عبد الله بن قيس، فقال:"فقد أوتي هذا من مزامير آل داود". والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): استحباب استماع قراءة القارئ الحسن الصوت (ومنها): مدح الصوت الحسن (ومنها): جواز مدح الإنسان في وجهه، وما ورد من النهي محمول على إذا خيف عليه الافتتان بالعجب، ونحوه.

(1)

"فتح" جـ 10 ص 114 - 115.

(2)

وكذلك رواية البراء رضي الله عنه إن صح طريقها تؤول بمثل هذا. والله تعالى أعلم.

ص: 28

(ومنها): معجزة داود عليه السلام في حسن صوته، فقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن داود عليه السلام كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم". والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1020 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِرَاءَةَ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: "لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ عليه السلام").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبد الجبار بن العلاء بن عبد الجبار) العطار أبو بكر البصري، نزيل مكة، لا بأس به، من صغار [10] ت 248 (م ت س) تقدم 199/ 132.

2 -

(سفيان) و (3)(الزهري) تقدما قبل حديث.

4 -

(عروة) بن الزبير المدني الفقيه الثقة الثبت [3]، تقدم 40/ 44.

5 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو، ومسلم، والترمذي، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

وشرح الحديث تقدم في الذي قبله.

(تنييه): حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف أخرجه هنا -83/ 1020 - وفي "الكبرى" -30/ 1093 - عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عنه. وفي -1021 - و"الكبرى" -1094 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري به. وفي "فضائل القرآن" -38/ 8051 - عن محمَّد بن رافع، عن عبد الرزاق به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1021 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِرَاءَةَ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: "لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ عليه السلام").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي، المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت فقيه [10]،

ص: 29

تقدم 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ، تغير بآخره [9] ت 111 (ع) تقدم 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصري، ثم اليمني، ثقة ثبت [7] ت 154 (ع) تقدم 10/ 10.

والباقون تقدموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به قد تقدمت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1022 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَاتِهِ؟ قَالَتْ: مَا لَكُمْ، وَصَلَاتَهُ؟ ثُمَّ نَعَتَتْ قِرَاءَتَه، فَإِذَا هِيَ تَنْعَتُ قِرَاءَتَهُ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

قتيبة) بن سعيد الثقة الثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(الليث بن سعد) الإمام الحجة الثبت الفقيه المصري [7] تقدم 31/ 35.

3 -

(عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيكه) زهير بن عبد الله بن جُدْعان، التيمي المكي، ثقة فقيه أدرك ثلاثين صحابيا [3] ت 117 (ع) تقدم 101/ 132.

4 -

(يعلي بن مملك) بوزن جعفر المكي، مقبول [3].

روى عن أم سلمة، وأم الدرداء. وعنه ابن أبي مليكة. ذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له البخاري، في "الأدب المفرد"، وأصحاب السنن، إلا ابن ماجه، وله عند المصنف ثلاثة أحاديث.

5 -

(أم سلمة) هند بنت أبي أمية بن المغيرة، أم المؤمنين عز وجل، تقدمت 123/ 183. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن يعلي بن مملك) بوزن جعفر المكي (أنه سأل أم سلمة) عز وجل (عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلاته؟) أي تلاوته للقرآن، وعن كيفية صلاته في الليل، ففي رواية أحمد:"قال: سألت أم سلمة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، وقراءته؟ ". . . (قالت) أم سلمة عز وجل (ما لكم، وصلاته)"ما" استفهامية مبتدأ، والجار والمجرور خبره، والواو في "وصلاته" واو المعية، و"صلاته" بالنصب على المعية، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

ص: 30

يُنْصَبُ تَالِي الْوَاوِ مَفْعُولًا مَعَهْ

فِي نَحْوِ سِيرِي وَالطَّرِيقَ مُسْرِعَهْ

بِمَا مِنَ الْفِعْلِ وَشِبْهِهِ سَبَقْ

ذَا النَّصَبُ لَا بِالْوَاوِ فِي الْقَوْلِ الأَحَقّ

إلى أن قال:

وَالْعَطْفُ إِنْ يُمْكِنْ بِلَا ضُعْفٍ أَحَق

وَالنَّصْبُ مُخْتَارٌ لَدَى ضُعْفِ النَّسَقْ

وَالنَّصْبُ إِنْ لَمْ يَجُزِ الْعَطْفُ يَجِبْ

أَوِ اعْتَقِدْ إِضْمَارَ عَامِلٍ تُصِبْ

وتعين النصب لضعف العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار عند الجمهور، خلافا لابن مالك رحمه الله، كما قال في "الخلاصة":

وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفِ عَلَى

ضَمِيرِ خَفْضٍ لَازِمّا قَدْ جُعِلَا

وَلَيْسَ عِنْدِي لَازِمًا إِذْ قَدْ أَتَى

فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ الصَّحِيحِ مُثْبَتَا

وعند أبي داود: "فقالت: وما لكم، وصلاته" بالواو في الموضعين. قال الطيبي: "وما لكم" عطف على مقدر، أي مالكم وقراءته؟، ومالكم وصلاته؟ والواو في قوله:"وصلاته" بمعنى "مع"، أي ما تصنعون مع قراءته وصلاته. ذكرتها تحسرا، وتلهفا على ما تذكرت من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنها أنكرت السؤال على السائل. انتهى. وقال القاري: أو معناه: أي شيء يحصل لكم مع وصف قراءته، وصلاته؟ وأنتم لا تستطيعون أن تفعلوا مثله، ففيه نوع تعجيب، ونظيره قول عائشة عز وجل:"وأيكم يطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق". انتهى.

(1)

(ثم نعتت قراءته) أي وصفت، وبيّنت بال قوله، أو بالفعل بأن قرأت كقراءته صلى الله عليه وسلم ثم إن رواية المصنف رحمه الله تعالى هنا فيها اختصار هنا، حيث لم يذكر فيها نعتها صلاته صلى الله عليه وسلم وقد بينه فيما يأتي 13/ 1629، ولفظه:"فقالت: ما لكم، وصلاته، كان يصلي، ثم ينام قدرَ ما صلى، ثم يصلي قدرما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح".

ولفظه في 13/ 1628 - من طريق حجاج الأعور، عن ابن جريج، فقالت:"كان يصلي العتمة، ثم يسبح، ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل، ثم ينصرف، فيرقد مثل ما صلى، ثم يستيقظ من نومه ذلك، فيصلي مثل ما نام، وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح".

وقوله: "ثم نعتت قراءته". أي وصفتها، يقال: نعت الرجل صاحبه، من باب نَفَعَ: وصفه. قاله في "المصباح"

(2)

وقال ابن الأثير: النعت وصف الشيء بما فيه من حُسْن،

(1)

"المرقاة" جـ 3 ص 283.

(2)

ص 612.

ص: 31

ولا يقال: في القَبِيح إلا أن يتكلف متكلف، فيقولَ نَعْتَ سَوْءٍ، والوصف، يقال: في الْحَسَن والقبيح. انتهى

(1)

.

(فإذا هي تنعت قرأءة مفسّرة، حرفا حرفا) اختلف النحاة في هذه الفاء، فقيل: زائدة لازمة. وقيل: عاطفة. وقيل: هي للسببية المحضة، كفاء الجواب. قاله ابن هشام الأنصاري

(2)

.

و"إذا" للمفاجأة، وهي مختصة بالجمل الاسمية، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال، لا الاستقبال، وهي حرف، وقيل: ظرف مكان، وقيل: ظرف زمان.

(3)

.

وقوله: "قراءة" بالنصب مفعول "تنعت"، وقوله:"مفسّرة" بصيغة اسم المفعول صفة لـ"قراءة"، ويحتمل أن يكون بصيغة اسم الفاعل حالا من الفاعل، أي حال كونها مبيِّنَة قراءته صلى الله عليه وسلم. وقوله:"حرفا حرفا"، قال أبو البقاء: نصبهما على الحال، أي مرتلة، نحو: أدخلتهم رجلا رجلا، أي مُفرَدَين.

قال القاري رحمه الله: "حرفا حرفا": أي مرتلة، ومجوّدة، ومميزة، غير مخالطة، أو المراد بالحرف الجملةُ المفيدة، فتفيد مراعاة الوقوف بعد تبيين الحروف. قال ميرك: وهذا يحتمل وجهين: (أحدهما): أن تقول: قراءته كيت وكيت. (وثانيهما): أن تقرأ مرتلة مبينة كقراءته صلى الله عليه وسلم، ونحوه قولهم: وجهُها يَصِف الجمال، ومن قوله تعالى:{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 62] انتهى.

(4)

.

[قال الجامع عفا الله عنه]: الاحتمال الثاني هو الذي يدلّ عليه ظاهر النص، ويؤيده ما يأتي من حديث ابن أبي مليكة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنها "سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقراءة قراءة ترسلت فيها".

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا صحيح.

(1)

"النهاية في غريب الحديث" جـ 5 ص 75.

(2)

"مغني اللبيب" جـ1 ص 143. بنسخة حاشية الأمير.

(3)

"مغني اللبيب" جـ 1 ص 80.

(4)

"مرقاة المفاتيح" جـ 1 ص 283.

ص: 32

[فإن قيل]: كيف يصح، وفي سنده يعلي بن مملك، وهو مجهول الحال، لأنه لم يرو عنه غير ابن أبي مليكة، كما تقدم في ترجمته؟.

[أجيب]: بأنه وثقه ابن حبان، وصحح ابن خزيمة حديثه هذا، وله شواهد:

(منها): ما تقدم للمصنف -82/ 1014 - من حديث أنس رضي الله عنه لما سأله قتادة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يمد صوته مدًّا.

(ومنها): ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه"، عن قتادة، قال:"سئل أنس كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مدّا، ثم قرأ "بسم الله الرحمن الرحيم"، يمد "بسم الله"، ويمد "بالرحمن"، ويمد "بالرحيم".

(ومنها): ما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" بسند صحيح، قال: حدثنا وكيع، عن نافع بن عمر، وأبو عامر: ثنا نافع، عن ابن أبي مليكة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو عامر: قال نافع: أراها حفصة أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إنكم لا تستطيعونها، قال: فقيل لها: أخبرينا بها، قال: فقرأت قراءة، ترسلت فيها، قال: أبو عامر: قال نافع: فحكى لنا ابن أبي مليكة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ثم قطع {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قطع {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

(1)

.

(ومنها): ما أخرجه ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر {ق} فمر بهذا الحرف {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فمدّ {نَضِيدٌ} . ذكره في "الفتح".

(2)

وهذه شواهد صحاح، يصح بها حديث يعلى بن مملك.

والحاصل أن حديث أم سلمة رضي الله عنها صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قد ضعف الشيخ الألباني رواية المصنف، هذه

(3)

وصحح رواية ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة، بإسقاط يعلى، وردّ على الترمذي، حيث أعله بالانقطاع.

(4)

[قال الجامع عفا الله عنه]: عندي أن هذا غير صحيح، بل الصواب ما قاله الترمذي، فإنه رحمه الله قال بعد إخراج الحديث من طريق يحيى بن سعيد الأموي: ما نصّه: هكذا

(1)

راجع "المسند" جـ 6 ص 288.

(2)

جـ 10 هـ 112.

(3)

انظر "ضعيف النسائي" ص 34.

(4)

انظر "الإرواء" جـ 2 ص61.

ص: 33

روى يحيى بن سعيد الأموي، وغيره عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة، وليس إسناده بمتصل، لأن الليث بن سعد روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكة، عن يعلي بن مملك، عن أم سلمة، وحديث الليث أصح. انتهى.

(1)

.

قلت: فالراجح رواية الليث؛ لأن ابن جريج مدلس، وقد رواه بالعنعنة، فأسقط منه يعلي بن مملك، ومما يدلّ على تدليسه أنه رواه أيضًا موافقا لرواية الليث، بذكر يعلى، مصرحا بالإخبار.

فقد أخرج الحديث أحمد في "مسنده"، فقال: حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، قال: قال عبد الله بن أبي مليكة: أخبرني يعلي بن مملك، أنه سأل أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. . . الحديث، فقد صرح ابن جريج في هذه الرواية بالإخبار بين ابن أبي مليكة، ويعلى، فتبين أن الرواية الأولى التي فيها العنعنة وقع فيها التدليس، كما أشار إليه الترمذي رحمه الله تعالى. وسيأتي للمصنّف أيضًا 13/ 1628 من رواية حجاج الأعور، عن ابن جريج، عن أبيه، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، فزاد:"عن أبيه"، وهذا اضطراب منه، فلا تصحّ روايته.

والحاصل أن الرواية الصحيحة هي رواية الليث التي أوردها المصنف في هذا الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -83/ 1022 - وفي "الكبرى" 30/ 1095 - وفي "فضائل القرآن" -41/ 8056 - عن قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن ابن أبي مليكة، عن يعلي بن مملك، عنها. وفي 13/ 1629 - 21/ 1324 - عن هارون بن عبد الله، عن حجاج الأعور، عن ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة به. فزاد "عن أبيه". والله أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن يزيد بن خالد بن موهب، عن الليث به. (ت) في "فضائل القرآن" عن قتيبة، عن الليث بن سعد به.

وأخرجه أحمد 6/ 294 و 297 و 300 و 308 (والبخاري في "خلق أفعال العباد") 23 (وابن خزيمة) رقم 1158. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): استحباب التأني في القراءة، وعدم الإسراع فيها، لأن ذلك زينة للقرآن، وبه

(1)

جامع الترمذي جـ 5 ص 185.

ص: 34

يتمكن القارئ، والمستمع له من التدبر، والتفكر في معاني القرآن، وذلك هو المقصود الأعظم من التلاوة (ومنها): ما كان عليه السلف من السؤال عن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، والقراءة، وغير ذلك ليقتدوا به (ومنها): استحباب الوقوف على رؤس الآي، ففي بعض طرق حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا:"كان إذا قرأ قطع آية، آية، يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ثم يقف، ثم يقول.، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف". . .الحديث.

قال أبو عمرو الداني رحمه الله في باب تفسير الوقف الحسن:-5/ 2: ومما ينبغي له أن يُقطع عليه رؤوس الآي، لأنهن في أنفسهن مقاطع، وأكثر ما يوجد التام فيهن لاقتضائهن تمام الجمل، واستبقاء أكثرهن انقضاء القصص.

وقد كان جماعة من الأئمة والقراء الماضين يستحبون القطع عليهن، وإن تعلق كلام بعضهن ببعض، لما ذكرنا من كونهن مقاطع، ولسن بمشبهات لما كان الكلام التام في أنفسهن دون نهاياتهن.

ثم روى عن اليزيد، عن أبي عمرو رحمه الله أنه كان يسكت على رأس كل آية، فكان يقول: إنه أحب إلى إذا كان آية أن يسكت عندها. وقد وردت السنة أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند استعماله التقطيع"، ثم ساق هذا الحديث. انتهى.

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ولما أنهى المصنف رحمه الله تعالى إيراد أحاديث تكبيرة الإحرام، والاستفتاح، والقراءة، وهي من -876 - إلى 1022 - وجملتها -146 - حديثا شرع يذكر أحاديث الركوع، فقال:

‌84 - (بَابُ التَّكْبِيرِ لِلرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية التكبير لأجل الركوع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الركوع" بالضم: الخُضُوع. يقال: ركع يركع-

(1)

راجع "إرواء الغليل" ج 2 ص 62.

ص: 35

بفتح العين فيهما -رَكْعًا -بفتح، فسكون- ورُكوعا -بالضم-: طَأْطَأَ رأسه، وكلُّ قومة يتلوها الركوع والسجدتان من الصلوات، فهي ركعة. ويقال: رَكَعَ المصلي رَكْعَةَ، ورَكْعَتَين، وثلاث رَكَعَات، وأما الركوع، فهو أن يخفض المصلي بعد القومة التي فيها القراءة حتى يطمئن ظهره راكعا، قال لبيد:

أَدِبٌ كَأَنِّي كُلّمَا قُمْتُ رَاكِعُ

فالراكع الْمُنحَنِي في قول لبيد. وكل شيء يَنْكَبُّ لوجهه، فتمسُّ ركبته الأرضَ، أو لا تمسها بعد أن يخفض رأسه، فهو راكع، وجمعه: رُكَعٌ، ورُكُوع.

وفي حديث عليّ رضي الله عنه قال: "نُهِيتُ أن أقرأ، وأنا راكع، أو ساجد". قال الخطابي رحمه الله: لما كان الركوع والسجود -وهما غاية الذل والخضوع- مخصوصين بالذكر والتسبيح نهاه عن القراءة فيهما، كأنه كرِهَ أن يجمع بين كلام الله صلى الله عليه وسلم وكلام الناس في موطن واحد، فيكونان على السواء في المحلّ والمَوْقِعِ.

وكانت العرب في الجاهلية تسمِّي الحَنِيفَ راكعا، إذَا لم يعبد الأوثان، وتقول: ركع إلى الله، ومنه قول الشاعر:

إِلَى رَبهِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ رَاكِعُ

ويقال: ركع الرجل: إذا افتقر بعد غِنًى، وانحطّت حالُه، قال الشاعر:[من الخفيف]

لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ

كَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ

أراد: لا تهينَنْ، فجعل النون ألفا ساكنة، فاستقبلها ساكن آخر، فسقطت.

والركوع: الانحناء، ومنه ركوع الصلاة، وركع الشيخ: انحنى من الْكِبَر، والركعة: الهُوِيّ في الأرض لغة يمانية. قال ابن بَرِّيّ: ويقال: ركع: أي كبا وعَثَرَ، قال الشاعر:[من الوافر]

وَأَفْلَتَ حَاجِبٌ فَوْتَ الْعَوَالي

عَلَى شَفاءَ تَرْكَعُ فِي الظِّرَابِ

انتهى "لسان العرب" بتصرف

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

1023 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حِينَ اسْتَخْلَفَهُ مَرْوَانُ عَلَى الْمَدِينَةِ، كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ

(1)

جـ 3 ص 1719 - 1720. طبعة دار المعارف.

ص: 36

مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ، وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم").

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزي، ثقة [10]، ت 240 (ت س) تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) أبو عبد الرحمن المروزي الإمام الثبت الحجة [8]، ت 181 (ع) تقدم 32/ 36.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيلي، أبو يزيد، ثقة، من كبار [7]، ت 159 (ع) تقدم 9/ 9. والباقون تقدموا في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات نُبَلاء، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والترمذي، وأن شيخه، وابن المبارك مروزيان، ويونس أيلي، والباقون مدنيون (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي (ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وأبا هريرة رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف، كذا رواه يونس:"عن أبي سلمة"، وكذا هو عند البخاري من رواية مالك، وعند السرّاج من رواية معمر كلهم عن الزهري، عن أبي سلمة. وقال عُقيل عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه. وتابعه ابن جريج، عن ابن شهاب، عند مسلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ليس هذا اختلافا قادحا، بل الحديث عند ابن شهاب عنهما معا، كما رواه البخاري من رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر

الحديث. أفاده الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

(أن أبا هريرة حين استخلفه) أي جعله خليفة له في الصلاة (مروان) بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو عبد الملك الأموي المدني، ولي الخلافة في آخر سنة (64) ومات

(1)

راجع "فتح" جـ 2 ص 525 - 526.

ص: 37

في رمضان سنة (65) وله ثلاث، أو إحدى وستون سنة، ولا تثبت له صحبة

(1)

(على المدينة) النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، والظاهر أن استخلاف أبي هريرة رضي الله عنه كان حينما كان مروان أميرا على المدينة؛ لأنه كان أمير معاوية رضي الله عنه عليها (كان إذا قام إلى الصلاة) فيه التكبير قائما، وهو بالاتفاق في حق القادر (المكتوبة) أي المفروضة، التي كتبها الله صلى الله عليه وسلم على عباده، وليس هذا خاصا بالمكتوبة فقط، بل النافلة كذلك، وقد ثبت في رواية البخاري النص عليه، ولفظه من طريق شعيب بن أبي حمزة:"أن أبا هريرة كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها، في رمضان وغيره، فيكبر حين يقوم". . . (كبر) أي قال: "الله أكبر"، وهذا التكبير للدخول في الصلاة فرض عند الجمهور، كما تقدم الكلام عليه في محله (ثم يكبر حين يركع) قال النووي رحمه الله: فيه دليل على مقارنة التكبير للحركة، وبَسْطِهِ عليها، فيبدأ بالتكبير حين يشرع في الانتقال إلى الركوع، ويمده حتى يصل إلى حد الركوع انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ودلالة هذا اللفظ على البسط الذي ذكره غير ظاهرة. انتهى.

وعبارة النوويّ رحمه الله في "شرح مسلم" عند قوله: يكبر حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع، ويكبر حين يقوم من المثنى": هذا دليل على مقارنة التكبير لهذه الحركات، وبسطه عليها، فيبدأ حين يشرع في الانتقال إلى الركوع، ويمده حتى يصل حد الراكعين، ثم يشرع في تسبيح الركوع، ويبدأ بالتكبير حين يشرع في الهُوِيّ إلى السجود، ويمده حتى يضع جبهته على الأرض، ثم يشرع في تسبيح السجود، ويبدأ في قوله:"سمع الله لمن حمده" حين يشرع في الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع في ذكر الانتقال، وهو ربنا ولك الحمد إلى آخره، ويشرع في التكبير للقيام من التشهد الأول حين يشرع في الانتقال، ويمده حتى ينتصب قائما. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(2)

.

[قال الجامع عفا الله عنه]: هذا الذي قاله النووي رحمه الله من أنه يمد التكبير حتى تتم الحركة، ليس في حديث الباب ما يدلّ عليه، كما أشار إليه الحافظ -رحمه الله تعالى- في كلامه السابق، وإنما يدلّ على أن التكبير يقارن هذه الانتقالات، فيستحب أن ينتقل من ركن إلى آخر مصاحبا للتكبير من أوله، وأَمَّا أن يمده حتى يصل إلى الركن الذي يليه فمما لا يدلّ عليه الحديث، فتبصر. والله تعالى أعلم.

وقال العلامة الصنعاني رحمه الله: ظاهر قوله: يكبر حين كذا، وحين كذا أن التكبير

(1)

"ت" ص 332.

(2)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 99.

ص: 38

يقارن هذه الحركات، فيشرع في التكبير عند ابتدائه للركن. وأما القول بأنه يمد التكبير حتى يتم الحركة، فلا وجه له، بل يأتي باللفظ من غير زيادة على أدائه، ولا نقصان عنه. انتهى.

وقال صاحب "المنهل" رحمه الله: وعلى تسليم ما قاله النووي في مد التكبير إلى انتهاء حركات الانتقال، فينبغي للمصلي أن يسرع بحركات الانتقال، ويراعي عدم مدّ لفظ الجلالة أزيد من حركتين، فإنه مدّ طبيعي. وقد اتفق القراء على أنه لا يجوز مدّه أزيد

من حركتين، خلافا لما يفعله بعضهم من مبالغتهم في هذا المدّ إلى ست حركات، أو أكثر. انتهى.

(1)

.

[قال الجامع عفا الله عنه]: وفيما قاله صاحب "المنهل" من الإسراع في الانتقالات نظر، فإن الإسراع أيضًا مخالف للسنة، لأن السنة في الانتقالات وغيرها كونها على سكون وطمأنينة، كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة، فالإسراع المخل بالسنة مكروه، بل ربما يؤدي إلى بطلان الصلاة، كما ثبت ذلك في حديث المسيء صلاته، فليتنبه. والله تعالى أعلم.

(فإذا رفع رأسه من الركعة) بفتح الراء مصدر رَكَعَ، كما تقدم، فالمراد هنا المعنى المصدريّ الحقيقي، وهو الانحناء المعروف، وهو الركوع، لا المعنى المجازي الذي يطلق على جميع أفعال الركعة الواحدة من الصلاة.

(قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) وفي الرواية الآتية -90/ 1150 - من رواية الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن: "ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول، وهو قائم. ربنا ولك الحمد". فدلّ على أن التسميع ذكر النهوض، وأن التحميد ذكر الاعتدال، وفيه أن الإمام يجمع بينهما، خلافا لمالك؛ لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الموصوفة محمولة على حال الإمامة، لكون ذلك هو الأكثر الأغلب من أحواله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي البحث عن ذلك في محله، وكذلك شرح قوله:"سمع الله لمن حمده" الخ يأتي هناك إن شاء الله تعالى.

(ثم يكبر حين يهوي) بفتح الياء مضارع هَوَى: أي يسقط، ويهبط. يقال: هَوَى يهوِي، من باب ضَرَبَ، هُوِيًّا -بضم الهاء، وفتحها- وزاد ابن القُوطِيَّة:"هَوَاءَ" بالمد: سقط من أعلى إلى أسفل، قاله أبو زيد وغيره، قال الشاعر:[من الوافر]:

هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ

يُروَى -بالفتح، والضم- واقتصر الأزهري على الفتح. وهَوَى يهوِي أيضا هُوِيًّا-

(1)

"المنهل العذب المورود" جـ 5 ص 272.

ص: 39

بالضم- لا غير: إذا ارتفع. قاله في "المصباح"

(1)

أي فهو من الأضداد، والمراد به هنا المعنى الأول.

(ساجدًا) حال من فاعل "يهوي". وفيه أن التكبير ذكر الهُويّ، فيبتدىء به حين يشرع في الهويّ بعد الاعتدال.

(ثم يمكبر حين يقوم من الثنتين بعد التشهد) أي الركعتين الأوليين اللتين بعد التشهد الأول. وفيه أنه يَشْرَعُ في التكبير من حين ابتداء القيام إلى الثالثة بعد التشهد الأول، خلافا لمن قال: إنه لا يكبر حتى يستوي قائما.

(2)

(يفعل ذلك) أي المذكور من الأذكار (حتى يفضي صلاته) أي يتمها، يقال: قَضَى فلان صلاتَه، يَقضِي، قَضَاءً، وقَضِيَّةً: إذا فرغ منها. أفاده في "اللسان".

(فإذا قضى صلَاتهُ، وسلم أقبل على أهل المسجد) أي توجه إليهم (فقال: والذي نفسي بيده) فيه القسم بيد الله عز وجل؛ لأن اليد صفة من صفات الله تعالى التي أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة، فهي صفة ثابتة على ما يليق بجلاله، بدون تأويلها إلى القدرة، كما يقول به بعض الناس (إني لأشبهكم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم) جملة "إن" جواب القسم، و"صلاةً" منصوب على التمييز.

زاد في الرواية الآتية 94/ 1155 - من طريق معمر عن الزهري: "ما زالت هذه صلاته حتى فارق الدنيا". ووافقه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري.

قال أبو داود في "سننه" بعد أن أخرج الحديث من طريق شعيب بت أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي آخره:"والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبَهًا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا": ما نصه: هذا الكلام الأخير -يعني قوله: "ما زالت هذه صلاته" الخ-. يجعله مالك، والزبيدي، وغيرهما عن الزهري، عن علي بن الحسين. ووافق عبدُ الأعلى، عن معمر شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. انتهى.

يعني أن قوله: "إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا" جعله مالك، والزبيدي، وغيرهما عن الزهري، عن علي بن حسين مرسلا.

ولفظ "الموطإ": "حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الصلاة كلما خفض، ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله صلى الله عليه وسلم".

(1)

ص 643.

(2)

قاله في "الفتح" جـ 2 ص 550.

ص: 40

قال ابن عبد البرّ رحمه الله: لا أعلم خلافا بين رواة "الموطإ" في إرسال هذا الحديث. انتهى.

وجعله شعيب بن أبي حمزة، ووافقه عليه عبد الأعلي بن عبد الأعلى، عن معمر، كلاهما عن الزهري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، موصولا.

[قال الجامع عفا الله عنه]: مثل هذا الاختلاف لا يضر، لأنه يحمل على أن الزهري روى الحديث بالطريقين جميعا، طريق علي بن الحسين، وهي مرسلة، وطريق أبي بكر ابن عبد الرحمن، وأبى سلمة بن عبد الرحمن، وهي موصولة بذكر أبي هريرة رضي الله عنه.

ويؤيد صحة الطريقة الموصولة ما يأتي للمصنف رحمه الله تعالى -90/ 1150 - من طريق الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول، وهو قائم: ربنا لك الحمد ثم يكبر حين يهوي ساجدا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس".

فهذا صريح في أن الصفة المذكورة في هذا الحديث كلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث.

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -84/ 1023 - وفي "الكبرى" -31/ 1096 - عن سويد بن نصر، عن عبد الله ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عنه. وفي 94/ 1155 - و"الكبرى" 91/ 741 - عن قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب به، مختصرا بلفظ:"أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يصلي بهم، فيكبر كلما خفض، ورفع، فإذا انصرف قال: والله إني لأشبهم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي 94/ 1156 - و"الكبرى" -91/ 742 - عن نصر بن علي، وسوَّار بن عبد الله، كلاهما عن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي سلمة، كلاهما عنه. وفي -21/ 1060 - و"الكبرى" -20/ 647 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر،

ص: 41

عن الزهري، عن أبي سلمة به، مختصرا، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللَّهم ربنا لك الحمد". وفي -90/ 11550 - و"الكبرى" -87/ 736 - عن محمَّد ابن رافع عن حُجَين بن المثنى، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عنه، بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر

وتقدم تمامه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة به. وعن عبد الله ابن يوسف، عن مالك به. وعن يحيى بن بكير، عن الليث به. (م) فيه عن يحيي بن يحيي، عن مالك به. وعن حرمله بن يحيي، عن ابن وهب، عن يونس به. وعن محمَّد ابن مِهْران الرازي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة به. وعن محمَّد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن به. وعن محمَّد بن رافع عن حجين به. (د) فيه عن عمر وابن عثمان، عن أبيه، وبقية، كلاهما عن شعيب بن أبي حمزة به. (ت) فيه عن عبد الله ابن مُنِير، عن علي بن الحسين، عن ابن المبارك، عن ابن جريج به.

وأخرجه مالك في "الموطإ" 70 و (أحمد) 2/ 270 و 270 و 502. و 527 و 4543 (والدارمي) رقم 1251 (وابن خزيمة) رقم 578 و 579 و 611 أو 624. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية التكبير للركوع، وهو مستحب عند جمهور أهل العلم، وأوجبه بعضهم، وسيأتي ترجيحه، إن شاء الله تعالى (ومنها): أن فيه إثبات التكبير في كل خفض ورفع، إلا في رفعه من الركوع، فإنه يقول:"سمع الله لمن حمده"، قال النووي رحمه الله:وهذا مجمع عليه اليوم، ومن الأعصار المتقدمة، وقد كان فيه خلاف في زمن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان بعضهم لا يرى التكبير إلا للإحرام، وبعضهم يزيد عليه بعض ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكان هؤلاء لم يبغلهم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: إني لأشبهم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقرّ العمل على ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، ففي كل صلاة ثنائية إحدى عشرة تكبيرة، وهي تكبيرة الإحرام، وخمس في كل ركعة، وفي الثلاثية سبع عشرة، وهي تكبيرة الإحرام، وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وخمس في كل ركعة، وفي الرباعية ثنتان وعشرون تكبيرة، ففي المكتوبات الخمس أربع وتسعون تكبيرة.

ص: 42

(ومنها): أن الذكر المشروع في الرفع من الركوع هو أن يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، وسيأتي تحقيق الخلاف بين أهل العلم هل يستوي فيه الإمام، والمأموم، والمنفرد، أم لا؟ في محله إن شاء الله تعالى.

(ومنها): أنه يَشرَع في التكبير حين يَشرع في القيام من التشهد الأول، وهو مذهب العلماء كافّة، إلا ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وبه قال مالك: أنه لا يكبر للقيام من الركعتين حتى يستوي قائما، ودليل الجمهور ظاهر هذا الحديث.

(1)

.

(ومنها): إظهار السنة التي أهملها الناس، تعليما للجاهل، وتنبيها للعالم بها الناسي لها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في بيان مذاهب العلماء في حكم التكبير للركوع، وفي كل خفض ورفع:

(قال النووي رحمه الله: (واعلم): أن تكبيرة الإحرام واجبة، وما عداها سنة، لو تركه صحت صلاته، لكن فاتته الفضيلة، وموافقة السنة، هذا مذهب العلماء كافة، إلا أحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين عنه أن جميع التكبيرات واجبة. ودليل الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمَ الأعرابي الصلاة، فعلمه وأجباتها، فذكر منها تكبيرة الإحرام، ولم يذكر ما زاد، وهذا موضع البيان، ووقته، ولا يجوز التأخير عنه انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى.

(2)

.

[قال الجامع عفا الله عنه]: سيأتي ما في كلام النوويّ هذا قريبا، إن شاء الله تعالى. وقد حكى الترمذي رحمه الله مشروعية التكبير في كل خفض ورفع عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، قال: وعليه عامة الفقهاء والعلماء.

وحكاه ابن المنذر رحمه الله عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطّاب، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وقيس ابن عباد، والشعبي، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وسعيد بن عبد العزيز، وعامة أهل العلم رضي الله عنهم.

وقال البغوي في "شرح السنة": اتفقت الأمة على هذه التكبيرات. وقال ابن سيد الناس؛ وقال آخرون: لا يشرع إلا تكبيرة الإحرام فقط، يُحكَى ذلك عن عمر بن الخطاب، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، ونقله ابن المنذر عن القاسم بن محمَّد، وسالم بن عبد الله بن عمر. ونقله ابن بطال عن جماعة أيضًا: منهم معاوية بن أبي سفيان، وابن سيرين.

(1)

انظر "شرح مسلم" جـ 4 ص 98 - 99.

(2)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 98 - 99.

ص: 43

قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله: قال قوم من أهل العلم: إن التكبير ليس بسنة إلا في الجماعة، وأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر. وقال أحمد: أحب إلى أن يكبر إذا صلى وحده في الفرض، وأما التطوع فلا.

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده. واستدل من قال بعدم مشروعية التكبير كذلك بما أخرجه أحمد، وأبو داود عن ابن أبزى، عن أبيه رضي الله عنه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا يتم التكبير. وفي لفظ لأحمد:"إذا خفض، ورفع". وفي رواية: "فكان لا يكبر إذا خفض "يعني بين السجدتين. وفي إسناده الحسن بن عمران، قال أبو زرعة: شيخ، ووثقه ابن حبان. وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب": والحديث معلول، قال أبو داود الطيالسي، والبخاري: لا يصح، ونقل البخاري عن الطيالسي أنه قال: هذا باطل، وقال الطبري في تهذيب الآثار: الحسن مجهول. انتهى

(1)

. فمثل هذا الضعيف لا يصلح لمعارضة أحاديث الباب لكثرتها، وصحتها، وكونها مثبتة، ومشتملة على الزيادة. فأقل أحوال الأحادي؛ الواردة في هذا الباب، أن تدلّ على سنية التكبير في كل خفض ورفع. أفاده الشوكاني رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل إنها تدلّ على وجوب التكبير، كما سيأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى.

وقد روى أحمد عن عمران بن حصين أن أول من ترك التكبير عثمان رضي الله عنه حين كبر، وضعف صوته. وهذا يحتمل أنه ترك الجهر. وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أول من ترك التكبير معاوية رضي الله عنه. وروى أبو عبيد أن أول من تركه زياد.

وهذه الروايات غير متنافية لأن زيادا تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان، وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء.

وحكى الطحاوي أن بني أمية كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع، وما هذه بأول سنة تركوها.

وقد اختلف القائلون بمشروعية التكبير، فذهب جمهورهم إلى أنه مندوب فيما عدا تكبيرة الإحرام، وقال أحمد في رواية عنه، وبعض أهل الظاهر: إنه يجب كله.

واحتج الجمهور على الندبية بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسيء صلاته، ولو كان واجبا لعلمه

(3)

.

(1)

"تهذيب التهذيب" جـ 2 ص 313.

(2)

"نيل الأوطار" جـ 2 ص 278 - 279.

(3)

"نيل الأوطار" جـ 2 ص 278 - 279.

ص: 44

[قال الجامع عفا الله عنه]: في الاستدلال بهذا نظر لا يَخْفَى؛ لأن هذا الحديث ثبت فيه أنه صلى الله عليه وسلم علم المسيء صلاته أذكار الانتقالات.

فقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: "إنه لا يتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء -يعني مواضعه- ثم يكبر، ويحمد الله صلى الله عليه وسلم، ويثني عليه، ويقرأ بما تيسر من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائما، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى يطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه، فيكبر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته"

(1)

.

فقد ثبت بهذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم علم المسيء صلاته تكبير الركوع وغيره، فبطل الاستدلال به.

واستدلوا أيضًا بحديث ابن أبزى، فإنه يدل على عدم الوجوب؛ لأن تركه صلى الله عليه وسلم له في بعض الحالات لبيان الجواز، والإشعار بعدم الوجوب.

[قال الجامع]: قد عرفت ما فيه من الضعف، فلا يصح الاستدلال به، ولا معارضة الأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب به.

فتبين بهذا أن أدلة القائلين بالوجوب قوية، لكثرتها، وصحتها، وعدم المعارض لها:

(فمنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكرو في هذا الباب. (ومنها): حديث المسيء صلاته المذكور آنفا، فإنه نص صريح في عدم صحة الصلاة بغير تكبيرات الانتقالات.

(ومنها): حديث وائل الحضرمي رضي الله عنه: "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يرفع يديه مع التكبير، ويكبر كلما خفض، وكلما رفع، ويسلم عن يمينه، وعن يساره". أخرجه أحمد، والدارمي، والسرَّاج، والطيالسي بسند حسن

(2)

.

(ومنها): حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل رفع، وخفض، وقيام، وقعود .. الحديث. وسيأتي للمصنف رقم 83/ 1142 - ورواه أحمد، والترمذي، وصححه. وغير ذلك من الأحاديث المتقدمة في أوائل "كتاب الافتتاح"، ويأتي بعضها في أبواب السجود، إن شاء الله تعالى. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي".

(1)

"سنن أبي داود" جـ 1 ص 226 - 227.

(2)

راجع "الإراواء" جـ 2 ص 36.

ص: 45

والحاصل أن القول بوجوب تكبيرات الانتقالات هو الراجح، لقوة دليله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌85 - (رَفْعُ الْيَدَيْنِ لِلرُّكوعِ حِذَاءَ فُرُوعِ الأُذُنَيْنِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية رفع اليدين لأجل الركوع حِذَاءَ فروع الأذنين.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحذاء" -بكسر المهملة، بعدها ذال معجمة: المُقَابِلُ، وهو منصوب على الظرفية متعلق بـ"رفع". والله تعالى أعلم بالصواب.

1024 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، حَتَّى بَلَغَتَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(علي بن حُجْر) السعدي المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9]، ت 244 تقدم 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن إبراهيم ابن علية البصري، ثقة حافظ [8] تقدم 18/ 19.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة البصري، ثقة ثبت يدلس، واختلط [6]، تقدم 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة ثبت مدلس [4] تقدم 30/ 34.

5 -

(نصر بن عاصم الليثي) البصري، ثقة [3] تقدم 4/ 880.

6 -

(مالك بن الحويرث) الليثي، صحابي نزل البصرة، مات رضي الله عنه 74 - تقدم 7/ 634.

ولطائف الإسناد، وشرح الحديث، والمسائل المتعلقة به تقدّمت في-4/ 88. ومحل استدلال المصنف رحمه الله تعالى للترجمة قوله:"حتى بلغتا فروع أذنيه". وقد تقدم في الباب المذكور أنه قال: "رفع يديه حين يكبر حيال أذنيه"، أي مقابلَهُما،

ص: 46

وتقدم وجه الجمع بين الروايتين يحمل الاختلاف على اختلاف الأوقات، أو على ما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه رفع يديه بحيث تحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه كفيه

(1)

. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌86 - (بَابُ رَفْع الْيَدَيْنِ لِلرُّكُوعِ حِذَاءَ الْمَنْكِبَيْنِ)

وفي نسخة: "حَذْوَ المنكبين"، وهو بمعناه.

1025 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت [10]، تقدم 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحافظ الحجة الثبت [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(الزهري) محمَّد بن مسلم المدني الإمام الحجة الثبت [4] تقدم 1/ 1.

4 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر العدوي المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 23/ 490.

5 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدم 12/ 12.

ولطائف الإسناد، وشرح الحديث، والمسائل المتعلقة به قد تقدّمت مستوفاة في 1/ 876. فلتراجعها تستفد. والله تعالى ولي التوفيق.

ومحل استدلال المصنف رحمه الله تعالى على الترجمة من الحدي ث واضح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

لكن في هذا الجمع نظر لا يخفى، فالجمع الأول هو الحق كما تقدم تحقيقه في الباب المذكور.

ص: 47

‌87 - (تَرْك ذَلكَ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز ترك رفع اليدين للركوع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد احتج بحديث الباب الحنفية، وبعض أهل العلم، فقالوا بعدم مشروعية رفع اليدين في الصلاة، إلا في الافتتاح، لكن الاحتجاج به غير صحيح؛ لعدم صحته، وكذلك الأحاديث المروية في هذا الباب. وعلى تقدير صحتها، فتحمل على بيان الجواز، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسائل، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

1026 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَقَامَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ لَمْ يُعِدْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سويد بن نصر)

2 -

(عبد الله بن المبارك) تقدما قبل بابين.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الكوفي الإمام الحجة الثبت [7] تقدم 33/ 37.

4 -

(عاصم بن كليب) بن شهاب الْجَرْمِيّ الكوفي، صدوق رمي بالإرجاء [5] تقدم 11/ 889.

5 -

(عبد الرحمن بن الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة [3] ت 99 (ع) تقدم 38/ 42.

6 -

(علقمة) بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد [2]، ت بعد 60 وقيل: بعد 70 تقدم 61/ 77.

7 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، تقدم 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو والترمذي، وأنهم كوفيون، سوى شيخه، وابن المبارك، فمروزيان (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض (ومنها): أن فيه عبد الله مطلقا، وهو عند الكوفيين ابن مسعود رضي الله عنه، وقد تقدم بيان

(1)

وفي نسخة: "أنبأنا".

ص: 48

الضابط في ذلك غير مرة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قال: ألا)"ألا" هنا للعرض، أو للتحضيض، والفرق بينهما أن العرض حثّ بلين، والتحضيض حث بإزعاج (أخبركم) أي أعلمكم (بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي بكيفيتها. وفي رواية أبي داود:"ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم"(قال) أي علقمة (فقام، فرفع يديه) الفاء الأولى للتفصيل، والثانية للتعقيب، أي رفع يديه عقب قيامه (أول مرة) منصوب على الظرفية متعلق بـ"رفع"(ثم لم يعد) يحتمل أن يكون بفتح الياء، وضم العين، من العَودة: بمعنى الرجوع، أي لم يرجع ابن مسعود رضي الله عنه لرفع يديه مرة أخرى. ويحتمل أن يكون بضم الياء، وكسر العين، من الإعادة رباعيا. ومفعوله محذوف، أي لم يُعد رفعَ يديه مرة أخرى. وفي بعض نسخ "المجتبى":"ثم لم يرفع". وهو الذي في "الكبرى". ولفظ أبي داود: "قال: فصلى، فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة".

والحديث حجة لمن قال بعدم رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع منه. وسيأتي ما فيه قريبا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن مسعود رضي الله عنه ضعفه الجمهور، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حزم، والعلامة أحمد محمَّد شاكر، والشيخ الألباني،

(1)

والراجح ما ذهب إليه الجمهور، فإن الحديث معلول، كما سيأتي بيانه في كلام الأئمة، إن شاء الله تعالى.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -87/ 1026 - وفي "الكبرى" -34/ 1099 - عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن الثوري، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عنه. وفي -20/ 1058 - و"الكبرى" -19/ 645 - عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

(1)

انظر ما كتبه العلامة أحمد شاكر على الترمذي جـ 2 ص41. وكذا "صحيح النسائي" للشيخ الألباني جـ 1 ص 220.

ص: 49

أخرجه (د) في "الصلاة" عن عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع- وعن الحسن بن علي، عن معاوية- وخالد بن عمرو- وأبي حذيفة- أربعتهم عن الثوري به. (ت) فيه عن هناد ابن السري، عن وكيع به.

وأخرجه (أحمد) 1/ 388 و 441. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في بيان ما قاله الأئمة الحفاظ في هذا الحديث:

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "جزء رفع اليدين": ويُروى عن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، ولم يرفع يديه إلا مرة".

وقال أحمد بن حنبل، عن يحيى بن آدم: نظرت في كتاب عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب، ليس فيه:"ثم لم يعد". فهذا أصح؛ لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم؛ لأن الرجل يحدث بشيء، ثم يرجع إلى الكتاب، فيكون كما في الكتاب.

حدثنا الحسن بن الربيع، ثنا ابن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن عبدالرحمن بن الأسود، ثنا علقمة، أن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، فقام، فكبر، ورفع يديه، ثم ركع، فطبق يديه، فجعلهما بين ركبتيه، فبلغ ذلك سعدا، فقال: صدق أخي، ألا بل قد كنا نفعل ذلك في أول الإسلام، ثم أمرنا بهذا.

قال البخاري: هذا هو المحفوظ عند أهل النظر من حديث عبد الله بن مسعود. انتهى كلام البخاري رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم في "علل الحديث" جـ 1 ص 96: سألت أبي عن حديث رواه سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قام: فكبر، فرفع يديه، ثم لم يعد؟ فقال أبي: هذا خطأ، يقال: وهم الثوري، وروى هذا الحديث عن عاصم جماعة، فقالوا كلهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح، فرفع يديه، ثم ركع، فطبق، وجعلها بين ركبتيه، ولم يقل أحد ما روى الثوري. انتهى كلام ابن أبي حاتم.

وقال الحافظ رحمه الله في "التلخيص الحبير": حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لأصلين بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه به. ورواه ابن عدي، والدارقطني، والبيهقي من

(1)

"جزء رفع اليدين" ص 86 - 91.

ص: 50

حديث محمَّد بن جابر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلم يرفعوا أيديهم إلا عند استفتاح الصلاة".

وهذا الحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن حزم. وقال ابن المبارك: لم يثبت عندي. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: هذا حديث خطأ. وقال أحمد بن حنبل، وشيخه يحيي بن آدم: هو ضعيف، نقله البخاري عنهما، وتابعهما على ذلك. وقال أبو داود: ليس هو بصحيح. وقال الدارقطني: لم يثبت. وقال ابن حبان في الصلاة: هذا أحسن خبر روي لأهل الكوفة في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه؛ لأن له عللا تبطله.

وهؤلاء الأئمة إنما طعنوا كلهم في طريق عاصم بن كليب الأولى، وأما طريق محمد ابن جابر، فذكرها ابن الجوزي في "الموضوعات"، وقال عن أحمد: محمدُ بنُ جابر لا شيء، ولا يحدث عنه إلا من هو شرّ منه. قال الحافظ: وقد بينت في "المدرج" حال هذا الخبر بأوضح من هذا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

[قال الجامع عفا الله عنه]: قد تبين بما ذكر من أقوال هؤلاء الأئمة أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا غير صحيح، لأمور:

(الأول): اتفاق جمهور هؤلاء الأئمة على خطإ تلك الزيادة.

(الثانية): عدم وجودها في كتاب عاصم بن كليب، والكتاب أضبط من الحفظ، كما بينه الإمام أحمد عن شيخه يحيي بن آدم.

(الثالث): مخالفة عبد الله بن إدريس للثوري فيه، وقد وافق ابنَ إدريس جماعة، كما قال أبو حاتم وغيره. (الرابع): الكلام في عاصم بن كليب، فقد قال فيه ابن المديني: لا يحتج به إذا انفرد، كما في "تهذيب التهذيب" جـ 5 ص 56. وهو قد تفرد بهذا الحديث، ولا متابع له فيه، فهذه جملة الأمور التي عللوا بها هذا الحديث. والله أعلم.

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: في "التمهيد": أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا مرة في أول شيء، فهو حديث انفرد به عاصم بن كليب، واختلف عليه في ألفاظه، وقد ضعف الحديث أحمد بن حنبل، وعَلَّلَه، ورمى به.

وأخرج أيضًا بسنده عن محمَّد بن وضاح، أنه قال: الأحاديث التي تروى عن النبي

(1)

"التلخيص الحبير" 1/ 222 - 223.

ص: 51

- صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين: "ثم لا يعود" ضعيفة كلها. انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله تعالى باختصار

(1)

.

والحاصل أن هذا الحديث ضعيف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في بيان مذاهب العلماء في رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام: قال الإمام النوويّ رحمه الله تعالى في كتابه "المجموع شرح المهذب" جـ 3 ص 399 - 406 - : (اعلم): أن هذه المسألة مهمة جدّا، فإن كل مسلم يحتاج إليها في كل يوم مرات متكاثرات، لا سيما طالب الآخرة، ومكثر الصلاة، ولهذا اعتنى العلماء بها اعتناء أشد اعتناء، حتى صنف الإمام أبو عبد الله البخاري كتابا كبيرا في إثبات الرفع في هذين الموضعين، والإنكار الشديد على من خالف ذلك فهو كتاب نفيس.

(اعلم): أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام سنة بإجماع من يعتدّ به، وفيه شيء ذكرناه في موضعه.

وأما رفعهما في تكبيرة الركوع، وفي الرفع منه، فمذهبنا أنه سنة فيهما، وبه قال أكثر العلماء، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، حكاه الترمذي عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وابن الزبير، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وعن جماعة من التابعين، منهم: طاوس، وعطاء، ومجاهد، والحسن، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن جبير، ونافع، وغيرهم، وعن ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق

(2)

.

وقال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإن من السنة أن يرفع المرء يديه إذا افتتح الصلاة.

واختلفوا في رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع، فقالت طائفة: يرفع المصلي يديه إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، روي هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن التابعين، ومن بعدهم. روينا ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وابن الزبير، وأنس بن مالك. وقال الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم إذا كبروا، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا رؤوسهم من الركوع، كأنها المراوح.

وروي ذلك عن الحسن البصري، وابن سيرين، وعطاء، وطاوس، ومجاهد،

(1)

"التمهيد" جـ 9 ص 219 - 221.

(2)

"المجموع" جـ 3 ص 399.

ص: 52

ونافع، وابن أبي نجيح، وقتادة، والحسن بن مسلم، والقاسم بن محمَّد، ومكحول، وعبد الله بن دينار، وسالم، ونافع، وابن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن أبي عديّ، ومعاذ بن معاذ العنبري، وعبد الوهاب الثقفي، وصفوان بن عيسى، وروح بن عبادة، وعمربن علي بن مقدام

(1)

، وعبد الملك ابن الصباح، وزهير بن نعيم، البابي

(2)

، وحماد بن مسعدة، وأزهر السمان، وأبي داود الطيالسي، وعثمان بن عمر البكراوي، ووهب ابن جرير بن حازم، وبهز، والمعلي بن أسد، وأبي قتيبة، وأبي عبد الرحمن المقرئ، ويحيى بن حماد، ويحيى بن أبي الحجاج المنقري، وأيوب بن المتوكل، ويعقوب بن إسحاق المقرئ، وعبيد الله بن عمر القواريري، وسليمان بن حرب، وأبي الوليد الطيالسي، وعمر بن عون الواسطي، والحميدي، ومسدد، وعلي بن المديني.

وحكى يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن مالك أنه سئل هل يرفع يديه في الركوع في الصلاة؟ قال: نعم، فقيل: وبعد أن يرفع رأسه من الركوع؟ قال: نعم. قال: وهذا في سنة خمس وسبعين. قال يونس: وهي آخر سنة فارق فيها ابن وهب مالكا.

وقال الأوزاعي: الذي بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما عليه أهل الحجاز، والشام، والبصرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر لافتتاح الصلاة، ويرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، إلا أهل الكوفة، فإنهم خالفوا في ذلك.

وممن قال بمثل ما ذكرناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين: الليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(3)

.

وقال الإمام أبو عبد الله البخاري: يُرْوَى هذا الرفعُ عن سعبة عشر نفسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو قتادة الأنصاري، وأبو أسيد الساعدي البدري، ومحمد بن مسلم البدري، وسهل بن سعد، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأنس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، ووائل بن حجر، ومالك بن

(1)

هكذا نسخة "الأوسط"، "عمر بن علي بن مقدام". ولعل الصواب "عمر بن علي بن عطاء بن مُقَدَّم". فليحرر.

(2)

نسبة إلى باب الأبواب، موضع بالثغور، وهي مدينة دربند المعروفة.، انتهى "الأنساب" جـ 1ص 244. و"اللباب" جـ 1 ص 102.

(3)

"الأوسط" جـ 3 ص 137 - 147.

ص: 53

الحويرث، وأبو موسى الأشعري، وأبو حميد الساعدي رضي الله عنهم.

قال: وقال الحسن، وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم، فلم يستثن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال البخاري: ولم يثبت عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يرفع يديه، قال: وروينا الرفع أيضًا عن عدة من علماء أهل مكة، وأهل الحجاز، وأهل العراق، والشام، والبصرة، واليمن، وعدة من أهل خراسان، منهم: سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، والقاسم بن محمَّد، وسالم بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز، والنعمان بن أبي عياش، والحسن، وابن سيرين، وطاوس، ومكحول، وعبد الله بن دينار، ونافع، وعبيد الله بن عمر، والحسن بن مسلم، وقيس بن سعد، وعدة كثيرة.

وكذلك يروى عن أم الدرداء رضي الله عنها أنها كانت ترفع يديها. وكان ابن المبارك يرفع يديه، وكذلك عامة أصحابه، منهم: علي بن حسين، وعبد الله بن عمر، ويحيى بن يحيي. ومحدثي أهل بخارى، منهم عيسى بن موسى، وكعب بن سعيد، ومحمد بن سلام، وعبد الله بن محمَّد المسندي، وعدة ممن لا يحصى، لا اختلاف بين من وصفنا من أهل العلم، وكان عبد الله بن الزبير -يعني الحميدي شيخه- وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم يثبتون هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرونها حقا، وهؤلاء أهل العلم من أهل زمانهم. هذا كلام البخاري

(1)

.

ونقله البيهقي عن هؤلاء الصحابة المذكورين، قال: وروينا عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطّاب، وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وعقبة بن عامر، وعبد الله ابن جابر البياضي الصحابيي رضي الله عنهم. ثم رواه عن هؤلاء التابعين الذين ذكرهم البخاري، قال: وروينا أيضًا عن أبي قلابة، وأبي الزبير، ومالك، والأوزاعي، والليث، وابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن المبارك، ويحيى بن يحيي، وعدة كثيرة من أهل الآثار بالبلدان، فهؤلاء هم أئمة الإسلام شرقا وغربا في كل عصر

(2)

.

(قال الجامع عفا الله عنه): أما حجج الجمهور لمشروعية رفع اليدين في هذه المواضع فأحاديث كثيرة صحيحة، تقدم بعضها في أوائل "كتاب الافتتاح"، فلا حاجة إلى سردها، فإن شهرتها تغني عن ذلك. وإنما الحاجة في ذكر أدلة القائلين بعدم

(1)

"جزء رفع اليدين" ص 16 - 30 بنسخة تحقيق الشيخ أبي محمَّد بديع الدين السندي.

(2)

انظر "المجموع" برقم ص 399 - 400.

ص: 54

المشروعية، ومناقشتها، على ما حققه المنصفون ممن لم يتأثر بالتعصب المذهبي، فأذكر ذلك هنا بعون الله صلى الله عليه وسلم، فأقول:

ذكر مذهب القائلين بعدم مشروعية الرفع إلا في تكبيرة الإحرام، ومناقشة أدلتهم:

قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى بعد إخراج حديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب: ما نصّه: وبه يقول غير واحد من أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وهو قول سفيان، وأهل الكوفة. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى، وسائر أصحاب الرأي: لا يرفع يديه في الصلاة إلا لتكبيرة الإحرام، وهي أشهر الروايات عن مالك.

وأما القائلون بعدم المشروعية، فاحتجوا على ذلك بحديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب، وقد عرفت ما فيه.

واحتجوا أيضا بحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما عند أبي داود، والدارقطني بلفظ:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه، ثم لم يعد". وهو من رواية يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه.

وقد اتفق الحفاظ أن قوله: "ثم لم يعد" مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد. وقد رواه بدون ذلك شعبة، والثوري، وخالد الطحان، وزهير، وغيرهم من الحفاظ. وقال الحميدي: إنما روى هذه الزيادة يزيد، ويزيد يزيد. وقال عثمان الدارمي عن أحمد بن حنبل: لا يصح، وكذا ضعفه البخاري، وأحمد، ويحيى، والدارمي، والحميدي، وغير واحد.

قال يحيي بن محمَّد بن يحيي: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: هذا حديث واهٍ، وكان يزيد يحدث به بُرهَةً من دهره لا يقول فيه:"ثم لا يعود"، فلما لقنوه

(1)

تلقن، وكان يذكرها. وقال البيهقي: رواه محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، واختلف عليه فيه، فقيل: عن أخيه عيسى، عن أبيهما، وقيل: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، وقيل: عن يزيد بن أبي زياد. قال عثمان الدارمي: لم يروه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أحد أقوى من يزيد بن أبي زياد. وقال البزار: لا يصح قوله في الحديث: "ثم لا يعود". وروى الدارقطني من طريق علي بن عاصم، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن يزيد بن أبي زياد هذا الحديث، قال علي بن عاصم: فقدمت الكوفة، فلقيت يزيد ابن أبي زياد، فحدثني به، وليس فيه؛ "ثم لا يعود"، فقلت له: إن ابن أبي ليلى حدثني

(1)

يعني أهل الكوفة.

ص: 55

عنك، وفيه "ثم لا يعود"، قال: لا أحفظ هذا. وقال ابن حزم: إن صح حديث يزيد دلّ على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، فلا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر، وغيره

(1)

.

واحتجوا أيضًا بأحاديث أخرى:

(منها): ما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يعود". رواه البيهقي في "الخلافيات"، وهو مقلوب موضوع.

(ومنها): ما روي عن أنس رضي الله عنه: "من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له". رواه الحاكم في "المدخل"، وقال: إنه موضوع. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. رواه ابن الجوزي في "الموضوعات"، وسبقه بذلك الجوزقاني.

(منها): ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع، ثم صار إلى افتتاح الصلاة، وترك ما سوى ذلك". قال ابن الجوزي في "التحقيق": هذا الحديث لا أصل له، ولا يعرف من رواه، والصحيح عن ابن عباس خلافه. وعن ابن الزبير رضي الله عنهما نحوه. قال ابن الجوزي: لا أصل له، ولا يعرف من رواه، والصحيح عن ابن الزبير خلافه. وقال ابن الجوزي: وما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث ليعارض بها الأحاديث الثابتة

(2)

.

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: ولا يخفى على المنصف أن هذه الحجج التي أوردوها منها ما هو متفق علهى ضعفه، وهو ما عدا حديث ابن مسعود منها كما بينا، ومنها ما هو مختلف فيه، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما قدمنا من تحسين الترمذي، وتصحيح ابن حزم له، ولكن أين يقع هذا التحسين، والتصحيح من قدح هؤلاء الأئمة الأكابر فيه، غاية الأمر، ونهايته أن يكون ذلك الاختلاف موجبا لسقوط الاستدلال به، ثم لو سلمنا صحة حديث ابن مسعود، ولم نعتبر بقدح أولئك الأئمة فيه فليس بينه وبين الأحاديث المثبتة للرفع في الركوع، والاعتدال منه تعارض؛ لأنها متضمنة للزيادة التي لا منافاة بينها وبين المزيد، وهي مقبولة بالإجماع، لا سيما وقد نقلها جماعة من الصحابة، واتفق على إخراجها الجماعة:

فمن جملة من رواها ابن عمر كما تقدم، وعمر كما أخرجه البيهقي، وابن أبي حاتم، وعلي، كما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، ووائل بن حجر، كما عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه. ومالك بن الحويرث، عند

(1)

"التلخيص الحبير" ج 1 ص 221 - 222.

(2)

المصدر المذكور.

ص: 56

الشيخين، وأنس بن مالك عند ابن ماجه. وأبو هريرة، كما عند أبي داود، وابن ماجه. وأبو أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، عند ابن ماجه. وأبو موسى الأشعري عند الدارقطني، وجابر عند ابن ماجه، وعمير الليثي عند ابن ماجه أيضا، وابن عباس عند ابن ماجه أيضا، وله طرق أخرى عند أبي داود، فهؤلاء أربعة عشر من الصحابة، ومعهم أبو حميد الساعدي في عشرة من الصحابة، كما سيأتي، فيكون الجميع خمسة وعشرين، أو اثنين وعشرين، إن كان أبو أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة من العشرة المشار إليهم في رواية أبي حميد، كما في بعض الروايات.

فهل رأيتَ أعجب من معارضة رواية مثل هؤلاء الجماعة بمثل حديث ابن مسعود السابق مع طعن أكثر الأئمة المعتبرين فيه، ومع وجود مانع عن القول بالمعارضة، وهو تضمن رواية الجمهور للزيادة، كما تقدم. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى بتصرف

(1)

.

وقال العلامة المباركفوري رحمه الله تعالى بعد ذكر نحو ما تقدم: ما نصّه: فثبت بهذا كله أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه ليس بصحيح، ولا بحسن، بل ضعيف، لا يقوم بمثله حجة. وأما تحسين الترمذي له فلا اعتماد عليه لما فيه من التساهل. وأما تصحيح ابن حزم، فالظاهر أنه من جهة السند، ومن المعلوم أن صحة السند لا تستلزم صحة المتن، على أن تصحيح ابن حزم لا اعتماد عليه أيضا في جنب تضعيف هؤلاء الحفاظ النقاد، فالاستدلال بهذا الحديث الضعيف على ترك رفع اليدين، ونسخه في غير الافتتاح ليس بصحيح. ولو تنزلنا، وسلمنا أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا صحيح، أو حسن، فالظاهر أن ابن مسعود رضي الله عنه قد نسيه، كما قد ينسى أمورا كثيرة.

قال الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" نقلا عن صاحب "التنقيح": ليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يستغرب، فقد نسي ابن مسعود من القرآن ما لم يختلف المسلمون فيه بعدُ، وهما المعوذتان. ونسي ما اتفق العلماء على نسخه، كالتطبيق. ونسي كيف قيام الاثنين خلف الإمام؟. ونسي ما لم يختلف العلماء فيه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر في وقتها. ونسي كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة. ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود. ونسي كيف كان يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} [الليل: 3].

وإذا جاز على ابن مسعود رضي الله عنه أن ينسى مثل هذا في الصلاة كيف لا يجوز مثله في

(1)

"نيل الأوطار" جـ 2 ص 210 - 211.

ص: 57

رفع اليدين. انتهى.

[قال الجامع عفا الله عنه]: في دعوى نسيان بعض ما ذكر نظر، لا يخفى. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال المباركفوري رحمه الله: ولو سلم أن ابن مسعود لم ينس في ذلك، فأحاديث رفع اليدين في المواضع الثلاثة مقدمَة على حديث ابن مسعود، لأنها قد جاءت عن عدد كثير من الصحابة رضي الله عنهم حتى قال السيوطي رحمه الله: إن حديث الرفع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال العيني رحمه الله في شرح البخاري: إن من جمله أسباب الترجيح كثرة عدد الرواة، وشهرة المروي، حتى إذا كان أحد الخبرين يرويه واحد، والآخر يرويه اثنان، فالذي يرويه اثنان أولى بالعمل به. انتهى.

وقال الحافظ الحازمي في "كتاب الاعتبار": ومما يرجح به أحد الحد يثين على الآخر كثرة العدد في أحد الجانبين، وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم، وهو التواتر انتهى.

ثم حديث ابن مسعود لا يدل على نسخ رفع اليدين في غير الافتتاح، بل إنما يدل على عدم وجوبه، كما قال ابن حزم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث البراء رضي الله عنه المتقدم.

هذا كله على تقدير التنزل، وإلا فحديث ابن مسعود ضعيف، لا تقوم به حجة كما عرفت.

وقال أيضا

(1)

: واستدلوا أيضا -يعني القائلين بعدم الرفع- بأثر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، رواه الطحاوي، وأبو بكر بن أبي شيبة عن الأسود، قال: رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يعود.

قلت

(2)

: فيه أن هذا الأثر بهذا اللفظ غير محفوظ. قال الحافظ ابن حجر في "الدراية": قال البيهقي، عن الحاكم: رواه الحسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر ابن عليّ بلفظ:"كان يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يعود". وقد رواه الثوري، عن الزبير بن عديّ، بلفظ:"كان يرفع يديه في التكبير"، ليس فيه "ثم لا يعود". وقد رواه الثوري، وهو المحفوظ.

(3)

انتهى.

(1)

أي العلامة المباركفوري رحمه الله.

(2)

القائل المباركفوري رحمه الله.

(3)

هكذا في نسخة "الدراية" جـ 1 ص 152 "وقد رواه الثوري" الخ. ولعل الصواب: وما رواه الثوري هو المحفوظ. والله تعالى أعلم.

ص: 58

ثم هذا الأثر يعارضه رواية طاوس، عن ابن عمر أن عمر كان يرفع يديه في الركوع، وعند الرفع منه.

قال الزيلعي في "نصب الراية": واعترضه الحاكم بأن هذه الرواية شاذة، لا يقوم بها الحجة، فلا تُعَارَض بها الإخبار الصحيحة عن طاوس بن كيسان، عن ابن عمر: أن عمر كان يرفع يديه في الركوع، وعند الرفع منه انتهى. وقال الحافظ في "الدراية": ويعارضه رواية طاوس، عن ابن عمر: كان

(1)

يرفع يديه في التكبير، وعند الرفع منه انتهى.

واستدلوا أيضا بأثر علي رضي الله عنه، رواه الطحاوي، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن عاصم بن كليب، عن أبيه أن عليا كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يرفع بعدُ. قال الزيلعي: هو أثر صحيح. وقال العيني في "عمدة القاري": إسناد عاصم بن كليب صحيح على شرط مسلم.

قلت

(2)

: أثر علي رضي الله عنه هذا ليس بصحيح، وإن قال الزيلعي: هو أثر صحيح. وقال العيني: إسناده صحيح على شرط مسلم.

قال الإمام البخاري في "جزء رفع اليدين": قال عبد الرحمن بن مهدي: ذكرت للثوري حديث النهشلي، عن عاصم بن كليب، فأنكره. انتهى.

وانفرد بهذا الأثر عاصم بن كليب، قال الذهبي في "الميزان": كان من العباد الأولياء، لكنه مرجىء، وثقه يحيي بن معين، وغيره، وقال ابن المديني: لا يحتج بما انفرد به. انتهى.

(3)

ولو سلم أن أثر علي هذا صحيح، فهو لايدل على النسخ كما زعم الطحاوي وغيره. قال صاحب "التعليق الممجد" من العلماء الحنفية: ذكر الطحاوي بعد روايته عن علي: لم يكن علي ليرى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم يترك إلا وقد ثبت عنه نسخه. انتهى: وفيه نظر، فقد يجوز أن يكون ترك علي، وكذا ترك ابن مسعود، وترك غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم إن ثبت عنهم لأنهم لم يروا الرفع سنة مؤكدة، يلزم الأخذ بها، ولا ينحصر ذلك في النسخ، بل لا يجترأ بنسخ أمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد حسن الظن بالصحابي، مع إمكان الجمع بين فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله. انتهى كلام "صاحب التعليق الممجد".

واستدلوأ أيضا بأثر ابن عمر رواه الطحاوي، وأبو بكر بن أبي شيبة، والبيهقي في

(1)

الضمير في "كان" لعمر رضي الله عنه، أي قال ابن عمر: كان عمر يرفع الخ.

(2)

القائل المباركفوري.

(3)

"ميزان الاعتدال" جـ 2 ص 356.

ص: 59

"المعرفة" عن مجاهد، قال: صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة.

قلت: أثر ابن عمر هذا ضعيف من وجوه:

(الأول): أن في سنده أبا بكر بن عياش، وكان تغير حفظه بآخره. (والثاني): أنه شاذ، فإن مجاهدا خالف أصحاب ابن عمر، وهم ثقات، حفاظ. (والثالث): أن إمام هذا الشأن يحيي بن معين قال: حديث أبي بكر، عن حصين، إنما هو توهم منه، لا أصل له. قال الإمام البخاري في "جزء رفع اليدين": ويروى عن أبي بكر بن عياش، عن حصين، عن مجاهد أنه لم ير ابن عمر رفع يديه إلا في أول التكبير، وروى عنه أهل العلم أنه لم يحفظ عن ابن عمر، إلا أن يكون سها، ألا ترى أن ابن عمر كان يرمي من لا يرفع يديه بالحصى، فكيف يترك ابن عمر شيئًا يأمر به غيره، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله. قال البخاري: قال يحيى بن معين: حديث أبي بكر، عن حصين إنما هو توهم منه، لا أصل له. انتهى مختصرا.

وقال البيهقي في "كتاب المعرفة": حديث أبي بكر بن عياش هذا أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، فذكره بسنده، ثم أسند عن البخاري أنه قال: أبو بكر بن عياش اخلتط بآخره، وقد رواه الربيع، والليث، وطاوس، وسالم، ونافع، وأبو الزبير، ومحارب بن دثار، وغيرهم، قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبر، وإذا رفع، وكان يرويه أبو بكر قديما عن حصين، عن إبراهيم، عن ابن مسعود مرسلا موقوفا: أن ابن مسعود كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يرفعها بعدُ. وهذا هو المحفوظ عن أبي بكر بن عياش، والأول خطأ فاحش، لمخالفته الثقات من أصحاب ابن عمر. قال الحاكم: كان أبو بكر بن عياش من الحفاظ المتقنين، ثم اختلط حين

(1)

ساء حفظه، فروى ما خولف فيه، فكيف يجوز دعوى نسخ حديث ابن عمر بمثل هذا الحديث الضعيف، أو نقول: إنه ترك مرة للجواز، إذ لا يقول بوجوبه. ففعله يدلّ على أنه سنة مؤكدة، وتركه يدلّ على أنه أمر غير واجب. انتهى. كذا في "نصب الراية"

(2)

.

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": وأما الحنفية، فعولوا على رواية مجاهد أنه صلى خلف ابن عمر، فلم يره يفعل ذلك، وأجيبوا بالطعن في إسناده؛ لأن أبا بكر بن عياش راويه ساء حفظه بآخره، وعلى تقدير صحته، فقد أثبت ذلك سالم، ونافع،

(1)

هكذا نسخة "تحفة الأحوذي"، وفي "نصب الراية": ثم اختلط حين نسي حفظه. اهـ قلت: لعل الصواب: حتى ساء حفظه. والله أعلم.

(2)

جـ 1 ص 409.

ص: 60

وغيرهما، والعدد الكثير أولى من واحد، لا سيما وهم مثبتون، وهو ناف، مع أن الجمع بين الروايتين ممكن، وهو أنه لم يره واجبا، ففعله تارة، وتركه أخرى. انتهى كلام الحافظ.

وقال الفاضل اللكنوي في تعليقه على "موطإ محمَّد": المشهور في كتب أصول أصحابنا: إن مجاهدا قال: صحبت ابن عمر عشر سنين، فلم أره يرفع يديه إلا مرة، وقالوا: قد روى ابن عمر حديث الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركه، والصحابي الراوي إذا ترك مرويّا ظاهرا في معناه غير محتمل للتأويل يسقط الاحتجاج بالمروي، وقد روى الطحاوي من حديث أبي بكر بن عياش، عن حصين، عن مجاهد أنه قال: صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة، ثم قال: فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم قد ترك هو الرفعَ بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخه، وها هنا أبحاث:

(الأول): مطالبة إسناد ما نقلوه عن مجاهد من أنه صحب ابن عمر عشر سنين، ولم يره فيها يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى.

(والثاني): المعارضة بخبر طاوس وغيره من الثقات أنهم رأوا ابن عمر يرفع.

(والثالث): أن في طريق الطحاوي أبا بكر بن عياش، وهو متكلم فيه، لا توازي روايته رواية غيره من الثقات.

قال البيهقي في "كتاب المعرفة" بعد ما أخرج حديث مجاهد من طريق ابن عياش: قال البخاري: أبو بكر بن عياش اختلط بآخره، وقد رواه الربيع، وليث، وطاوس، وسالم، ونافع، وأبو الزبير، ومحارب بن دثار، وغيرهم، قالوا؛ رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبر، وإذا رفع. ثم ذكر كلام البيهقي إلى آخر ما نقلته فيما تقدم، ثم قال:(فإن قلت) آخذا من شرح "معاني الآثار": إنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رآه طاوس قبل أن تقوم الحجة بنسخه، ثم لما ثبتت الحجة بنسخه عنده تركه، وفعل ما ذكره مجاهد.

(قلتُ): هذا مما لا تقوم به الحجة، فإن لقائل أن يعارض، ويقول: يجوز أن يكون فعل ابن عمر ما رواه مجاهد قبل أن تقوم الحجة بلزوم الرفع، ثم لما ثبت عنده التزم الرفع. على أن احتمال النسخ احتمال من غير دليل، فلا يسمع.

[فإن قال قائل]: الدليل هو خلاف الراوي مرويه.

[قلنا]: لا يوجب ذلك النسخ، كما مر.

(والرابع): وهو أحسنها أنا سلمنا ثبوت الترك عن ابن عمر، لكن يجوز أن يكون

ص: 61

تركه لبيان الجواز، أو لعدم رؤية الرفع سنة لا زمة، فلا يقدح ذلك في ثبوت الرفع عنه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(والخامس): أن ترك الراوي مرويه إنما يكون مسقطا للاحتجاج عند الحنفية إذا كان خلافه بيقين، كما هو مصرح في كتبهم، وها هنا ليس كذلك، لجواز أن يكون الرفع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله ابن عمر على العزيمة، وترك أحيانا بيانا للرخصة، فليس تركه خلافا لروايته بيقين. انتهى ما في "التعليق الممجد"

(1)

.

واستدلوا أيضًا بحديث جابر بن سمرة رضي الله عنها، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما لي أراكم رافعي أيديكم، كأنها أذناب خيل شُمْس، اسكنوا في الصلاة". رواه مسلم.

والجواب أنه لا دليل فيه على منع الرفع على الهيئة المخصوصة في المواضع المخصوصة، وهو الركوع، والرفع منه؛ لأنه مختصر من حديث طويل، وبيان ذلك أن مسلما رواه أيضا من حديث جابر بن سمرة، قال: كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيديه إلى الجانبين، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم:"على مَ تُومِئُون بأيديكم، كأنها أذناب خيل شمس؟ إنما كان يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من عن يمينه، ومن عن شماله". وفي رواية: "إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه، ولا يومي بيديه". وقال ابن حبان: "ذكر الخبر المتقصي للقصة المختصرة المتقدمة بأن القوم إنما أمروا بالسكون في الصلاة عند الإشارة بالتسليم دون الرفع الثابت عند الركوع"، ثم رواه كنحو رواية مسلم. قال البخاري من احتج بحديث جابر بن سمرة على منع الرفع عند الركوع، فليس له حظ من العلم، هذا مشهور، لا خلاف فيه أنه إنما كان في حال التشهد. كذا في "التلخيص الحبير"

(2)

.

وقال الزيلعي في "نصب الراية" بعد ذكر حديث جابر بن سمرة المختصر المذكور: ما ملخصه: واعترضه البخاري في كتابه الذي وضعه في رفع اليدين، فقال: وأما احتجاج بعض من لا يعلم بحديث تميم بن طَرَفَة، عن جابر بن سمرة، فذكر حديثه المختصر، وقال: وهذا إنما كان في التشهد، لا في القيام، ففسره رواية عبد الله بن القبطية، قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه الطويل المذكور، ثم قال البخاري، ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات العيد أيضا منهيا عنه؛ لأنه لم يستثن رفعا دون رفع، بل أطلق. انتهى.

(1)

راجع "التعليق الممجد على موطأ محمَّد" جـ 1 ص 382 - 399.

(2)

جـ 1 ص 221.

ص: 62

قال الزيلعي: ولقائل أن يقول: إنهما حديثان، لا يفسر أحدهما بالآخر، كما جاء في لفظ الحديث الأول:"اسكنوا في الصلاة"، والذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له: اسكن في الصلاة، إنما يقال ذلك لمن يرفع يديه في أثناء الصلاة، وهو حالة الركوع،

والسجود، ونحو ذلك، هذا هو الظاهر، والراوي روى هذا في وقعت، كما شاهده، وروى الآخر في وقت آخر، كما شاهده، وليس في ذلك بُعْدٌ. انتهى

(1)

.

قال المباركفوري: لم يُجِب الزيلعي عن قول البخاري: ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات العيد أيضا منهيا عنه. فما هو جوابه عنه، فهو جوابنا عن الرفع عند الركوع، والرفع منه.

وأما قوله: والذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له: اسكن في الصلاة، فهو ممنوع، بل الذي يرفع يديه قبل الفراغ، والانصراف من الصلاة، وإن كان حال التسليم الأول والثاني يقال له: اسكن في الصلاة، فإن الفراغ والانصراف منها إنما يكون بالفراغ من التسليم الثاني، فما لم يفرغ من التسليم الثاني هو في الصلاة. انتهى المقصود من كلام المباركفوري رحمه الله تعالى.

(2)

قال العلامة اللكنوي رحمه الله عند قوله محمَّد بن الحسن: "وفي ذلك آثار كثيرة". أي في عدم رفع اليدين إلا مرة آثار كثيرة عن جماعة من الصحابة:

منهم: ابن عمر، وعلي، وابن مسعود، وقد تقدم الكلام على أثرهم.

ومنهم: أبو سعيد الخدري، أخرج البيهقي عن سوّار بن مصعب، عن عطية العوفي أن أبا سعيد الخدري، وابن عمر رضي الله عنهم كانا يرفعان أيديهما أولّ ما يكبران، ثم لا يعودان، وأعله البيهقي بأن عطية سيء الحال، وسوّار أسوأ منه. قال البخاري: سوار منكر الحديث. وعن ابن معين: غير محتج به.

ويخالف هذا الأثر ما أخرجه البيهقي عن ليث، عن عطاء، قال: رأيت جابر بن عبد الله، وابن عمر، وأبا سعيد، وابن عباس، وابن الزبير، وأبا هريرة رضي الله عنهم يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا. وفيه ليث ابن أبي سليم مختلف فيه.

وأخرج أيضًا عن سعيد بن المسيّب، قال: رأيت عمر يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. وفي سنده من استُضعف.

ومنهم: عبد الله بن الزبير، كما حكاه صاحب "النهاية" وغيره من شراح "الهداية" أنه

(1)

جـ 1 ص 393.

(2)

راجع "تحفة الأحوذي" جـ 2 ص 104 - 113.

ص: 63

رأى رجلا يرفع يديه في الصلاة عند الركوع، وعند الرفع منه، فقال له: لا تفعل، فإن هذا شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه، لكن هذا الأثر لم يجده المخرجون مسندا في كتب الحديث، مع أنه أخرج البخاري في رسالة "رفع اليدين" عن عبد الله بن الزبير أنه كان يرفع يديه عند الخفض والرفع، وكذا أخرجه عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وجابر، وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم أنهم كانوا يرفعون أيديهم.

وأخرج البيهقي عن الحسين، قال: سألت طاوسًا عن رفع اليدين في الصلاة؟ فقال: رأيت عبد الله بن عباس، وابنَ الزبير، وابنَ عمر يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا سجدوا.

وأخرج أيضا عن عبد الرزاق، قال: ما رأيت أحسن صلاة من ابن جريج، رأيته يرفع يديه إذا افتتح، وإذا ركع، وإذا رفع، وأخذ ابن جريج صلاته عن عطاء بن أبي رباح، وأخذ عطاء، عن عبد الله بن الزبير، وأخذ ابن الزبير، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ومنهم: ابن عباس حكى عنه بعض أصحابنا -يعني الحنفية- أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه كلما ركلع، وكلما رفع، ثم صار إلى افتتاح الصلاة، وترك ما سوى ذلك. لكنه أثر لم يثبته المحدثون، والثابت عندهم خلافه. قال ابن الجوزي في "التحقيق" بعد ذكر ما حكاه أصحابنا، عن ابن عباس، وابن الزبير: هذان الحديثان لا يرفان أصلا، وإنما المحفوظ عنهما خلاف ذلك، فقد أخرج أبو داود عن ميمون أنه رأى ابن الزبير يشير بكفيه حين يقوم، وحين يركع، وحين يسجد، وحين ينهض للقيام، فانطلقت إلى ابن عباس، فقلت: إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحدا يصليها، فوصفت له، فقال: إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتد بصلاة عبد الله بن الزبير. انتهى.

ورده العيني بأن قوله: لا يعرفان. لا يستلزم عدم معرفة أصحابنا هذا، ودعوى النافي ليست بحجة على المثبت، وأصحابنا أيضًا ثقات، لا يرون الاحتجاج بما لم يثبت عندهم صحته. انتهى.

قال اللكنوي رحمه الله: وفيه نظر ظاهر، فإنه ما لم يوجد سند أثر ابن عباس، وابن الزبير في كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة كيف يعتبر به بمجرد حسن الظن بالناقلين، مع ثبوت خلافه عنهما بالأسانيد العديدة.

ومنهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه أخرجه الدارقطني، وابن عدي عن محمَّد بن جابر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبرااهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلم يرفعوا أيديهم إلا عند استفتاح الصلاة. وفيه

ص: 64

محمَّد بن جابر، متكلم فيه، ويخالفه ما أخرجه أبو داود عن ميمون، كما مر نقلا عن "التحقيق".

ومنهم: العشرة المبشرون رضي الله عنهم، كما حكى بعض أصحابنا، عن ابن عباس أنه قال: لم يكن العشرة المبشرون رضي الله عنهم يرفعون أيديهم إلا عند الافتتاح. ذكره الشيخ عبد الحق الدهلوي في "شرح سفر السعادة"، ولا عبرة بهذا الأثر ما لم يوجد سنده عند مهرة الفن، مع ثبوت خلافه في كتب الحديث.

ثم ذكر حديث ابن مسعود الذي أخرجه النسائي في الباب، وحديث البراء الذي أخرجه أبو داود، وقد تقدم، ثم قال: وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر، وعباد بن الزبير مثله، قال: وللمحدثين على طرق هذه الأخبار كلمات تدل على عدم صحتها، لكن لا يخفى على الماهر أن طرق حديث ابن مسعود تبلغ درجة الحسن.

والقدر المتحقق في هذا الباب هو ثبوت الرفعِ، وتركِهِ كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رواة الرفع من الصحابة جم غَفِير، ورواة الترك جماعة قليلة، مع عدم صحة الطرق عنهم إلا عن ابن مسعود، وكذلك ثبت الترك عن ابن مسعود، وأصحابه بأسانيد محتجة بها، فإذن نختار أن الرفع ليس بسنة مؤكدة يلام تاركها إلا أن ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر وأرجح. وأما دعوى نسخه كما صدر عن الطحاوي، مغترًّا بحسن الظن بالصحابة التاركين، وابن الهمام والعيني، وغيرهم من أصحابنا، فليست بمبرهن عليها بما يشفي العليل، ويُروي الغليل. انتهى كلام الفاضل اللكنوي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قرره الفاضل اللكنوي رحمه الله مع تعصب كثير ممن له قدم في الحديث، كالطحاوي، وابن الهمام، والعيني إنصاف منه رحمه الله، وإعطاء لكل ذي حق حقه، فجزاه الله عن السنة خير الجزاء.

وهكذا يجب على من فُتح له شيء من العلم أن ينصر السنة مهما أداه ذلك إلى مخالفة من هو أحب الناس إليه؛ لأن السنة أعلى من رأي كل ذي مذهب، وأحق بالتبع من أثر كل مَن ذَهَب.

غير أن قوله: والقدر المحقق في هذا الباب هو ثبوت الرفع وتركه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نظر، إذ الذي لا شك في ثبوته هو الرفع فقط، وأما الترك، فمحل شك، ولا سيما، وقد اعترف هو بضعفها، غير حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد تقدم بيان ما قاله الأئمة الحفاظ، أئمة هذا الشأن في حديث ابن مسعود رضي الله عنه من الضعف.

(1)

"التعليق الممجد" جـ 1 ص 385 - 388.

ص: 65

والحاصل أن رفع اليدين في المواضع الثلاثة، قد صح من غير شك بالأحاديث الصحاح المرفوعة، والآثار الثابتة الموقوفة، وسيأتي أيضا ثبوت الرفع أيضا في القيام من التشهد الأول، وكذا تصحيح حديث الرفع عند الرفع من السجود في بابه، إن شاء الله تعالى. وأما أدلة عدم الرفع، فلا يصح شيء منها، غير حديث ابن مسعود المذكور في الباب، فقد حسنه بعضهم، وصححه بعضهم، وضعفه جمهور أهل الحديث، وهو الراجح، كما تقدم تحقيق هذا كله، وعلى تقدير ثبوته فيحمل على بيان الجواز؛ جمعًا بين الأدلّة. والله تعالى أعلم.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ورَوَى رَفْعَ اليدين عنه في هذه المواطن الثلاثة نحوٌ من ثلاثين نفسا، واتفق على روايتها العشرةُ، ولم يثبت عنه خلاف ذلك البتة، بل كان ذلك هديَه دائما إلى أن فارق الدنيا، ولم يصح عنه حديث البراء:"ثم لا يعود"، بل هي من زيادة يزيد بن أبي زياد، فليس ترك ابن مسعود الرفعَ مما يُقَدَّمُ على هديه المعلوم، فقد تُرِكَ من فعل ابن مسعود في الصلاة أشياءُ، ليس مُعَارِضها مقاربا، ولا مُدانيا للرفع، فقد تُرِك من فعله التطبيقُ، والافتراشُ في السجود، ووقوفه إماما بين الاثنين في وسطهما، دون التقدم عليهما، وصلاته الفرض في البيت بأصحابه بغير أذان، ولا إقامة لأجل تأخير الأمراء، وأين الأحاديث في خلاف ذلك من الأحاديث التي في الرفع كثرةً، وصحةً، وصراحةً، وعملًا؟. وبالله التوفيق. انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إنما أطلت الكلام في هذا المحل لبيان أن حجج القائلين بعدم الرفع غيرُ صالحة للتمسك بها، والاعتماد عليها، وللكشف عن محاولة بعض من انتسب إلى الحديث، كالطحاوي، وابن الهمام، والعيني لرد الأحاديث الصحاح التي اتفق على صحتها أئمة السنة، وهُدَاةُ الأمة، بمثل هذه الأحاديث الضعاف، والآثار الواهية، ويبدو على بعضهم التعصب للمذهب، ومن المححر المستطير أن هؤلاء يثق بهم العوام من المقلدين أكثر من وثوقهم بقوله البخاري، ومسلم، وأمثالهما، من أهل الحديث.

فقد بلغني عن بعض من ينتسب إلى العلم منهم أنه قال: كل حديث لا يعرفه كمال ابن الهمام لا يعتمد عليه، أو كلاما قريبا من هذا المعنى. فإنا لله، وإنا إليه راجعون.

(1)

"زاد المعاد في هدى خير العباد" جـ 1 ص 218 - 219.

ص: 66

وبالجملة فالواجب على المسلم الحريص على دينه اتباع ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك ما لم يصحّ، أو شُكّ في صحّته، ولا سيما إذا عارضه ما هو أقوى، وأصحّ، وأرجح منه، فالخير كلّ الخير في اتباع ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم، وتقديمه على كل قوله خالفه، أيا كان المخالف، فهو صلى الله عليه وسلم الحكم بين الأمة، والمرجع في كلّ مدلهمّة، وضمن الله تعالى الهداية لمن تبعه، والضلال لمن خالفه، قال الله صلى الله عليه وسلم:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية [النور: 54]، وقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. اللَّهم أرانا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌88 - (إِقَامَةُ الصُّلْبِ فِي الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب إقامة الصلب في الركوع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: معنى "إقامة الصلب": تعديله، وتسويته.

و"الصلب" -بضم، فسكون، وتضم لامه أيضا للإتباع، وبالتحريك-: عظم من لدن الكاهل إلى العَجْب، كالصالِبِ، جمعه أَصلُبٌ، وأَصلَاب، وصلَبَةٌ. قاله في "القاموس"

(1)

، و"المصباح"

(2)

.

ونحوه في "اللسان"، وقال أيضًا: والصُّلْب من الظهر، وكل شيء من الظهر فيه فَقَار، فذلك الصُّلْب، والصَّلَب بالتحريك لغة فيه، قال العَجَّاج يصف امرأةً:[من الرجز]

رَيَّا الْعِظَامِ فَخْمَةُ المُخَدَّمِ

فِي صَلَبِ مِثْلِ الْعِنَانِ الْمُؤْدَمِ

(1)

ص 135. طبعة مؤسسة الرسالة.

(2)

ص 345.

ص: 67

إِلَى سَوَأءِ قَطَنٍ مُؤَكَّمِ

(1)

والله تعالى أعلم بالصواب.

1027 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ، لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت [10]، ت240 (ع) تقدم 1/ 1.

2 -

(الفُضَيل) بن عياض بن مسعود التيمي، أبو علي الزاهد المشهور، أصله من خراسان، وسكن مكة، ثقة عابد إمام [8] ت 187 وقيل: قبلها (خ م د ت س) تقدم 21/ 388.

[تنبيه]: وقع في بعض نسخ "المجتبى": "حدثنا الفضل" بالتكبير، بدل "الفضيل" بالتصغير، وهو غلط فاحش، والصواب "الفضيل" مصغّرًا، كما في "تحفة الأشراف" 7/ 334. فتنبه، والله تعالى أعلم.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْران الكاهلي مولاهم، أبو محمَّد الكوفي، ثقة ثبت يدلس [5]، ت 147 (ع) تقدم 17/ 18.

4 -

(عُمَارة بن عُمَير) التيمي، كوفي ثبت [4]، ت بعد المائة، وقيل" قبلها بسنتين (ع) تقدم 49/ 608.

5 -

(أبو مَعْمَر) عبد الله بن سَخْبَرَة الأزدي الكوفي، ثقة [2]، ت في إمارة عبيد الله بن زياد (ع) تقدم 23/ 807.

6 -

(أبو مسعود) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري الصحابي الشهير رضي الله عنه مات قبل (40) أو بعدها (ع) تقدم 6/ 494. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى الفضيل، فما أخرج له ابن ماجه، وأنهم كوفيون، سوى شيخه، فبغلاني، والفضيل، فخراساني، نزيل مكة (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض؛ الأعمش، وعمارة، وأبو معمر. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

"لسان" جـ 4 ص 2475 - 2476.

ص: 68

شرح الحديث

(عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزىء صلاة) ببناء الفعل للفاعل، و"صلاة" بالرفع فاعله. وهو من الإجزاء رباعيا، ويحتمل أن يكون من الجزاء، ثلاثيا. أي تكفي، ولا تسقط القضاء.

قال الفيومي رحمه الله: جزى الأمرُ يَجزي، جَزَاءَ، مثلُ قَضَى يَقضِي قَضاءً وزنا ومعنى، وفي التنزيل:{يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الآية [البقرة: 48] وفي الدعاء: "جزاه الله خيرا"، أي قضاه له، وأثابه عليه، وقد يُستعمل "أجزأ" بالألف والهمزِ بمعنى، جَزَى، ونقلهما الأخفش بمعنى واحد، فقال: الثلاثي من غير همز لغة الحجاز، والرباعي المهموز لغة تميم، وجازيته بذَنْبه: عاقبته عليه، وجزيت الدين: قضيته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بُرْدَة بن نِيَار رضي الله عنه لما أمره أن يُضَحِّيَ بِجَذَعَة من المَعْزِ:"تَجزِي عنك، ولن تَجزِيَ عن أحد بعدك". قال الأصمعي: أي ولن تقضي، وأجزأت الشاة بالهمز: بمعنى قضت، لغةٌ حكاها ابن القَطَّاع.

وأما أجزأ بالألف، والهمز، فبمعنى أغنى. قال الأزهري: والفقهاء يقولون فيه: أجزى من غير همز، ولم أجده لأحد من أئمة اللغة، ولكن إِنْ هُمِزَ أجزأ، فهو بمعنى كَفَى. هذالفظه.

وفيه نظر؛ لأنه إن أراد امتناع التسهيل، فقد توقف في موضع التوقف، فإن تسهيل همزة الطَّرَفِ في الفعل المزيد، وتسهيلَ الهمزة الساكنة قياسي، فيقال: أرجأتُ الأمرَ، وأرجيته، وأنسأت، وأنسيت، وأخطأت، وأخطيت، وأشطأ الزرعُ: إذا أخرجَ شطأه، وأشطى، وتوضأت، وتوضيت، وأجزأتُ السكينَ: إذا جعلت له نِصابًا، وأجزيته، وهو كثير، فالفقهاء جرى على ألسنتهم التخفيف.

وإن أراد الامتناع من وقوع أجزأ موقع جزى، فقد نقلهما الأخفش لغتين، كيف؟ وقد نص النحاة على أن الفعلين إذا تقارب معناهما جاز وضع أحدهما موضع الآخر، وفي هذا مَقْنَع لو لم يوجد نقل. وأجزأ الشيءُ مَجْزَأَ غيرِهِ: كفى، وأغنى عنه، واجتزأتُ بالشيء: اكتفيتُ. انتهى كلام الفيومي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: المراد بالإجزاء هنا: الإغناء عن الإعادة مرة ثانية. يعني أن الصلاة التي لي يوجد فيها إقامة الصلب لم تُغنِ، ولم تَكفِ عن إعادتها مرة ثانية؛ لأنها لم تصح. والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح" المنير ص 100.

ص: 69

(لا يقيم) أي لا يعَدِّل، ولا يسوِّي، والمراد به عدم الطمأنينة (الرجل) بالرفع على الفاعلية، والجملة في محل الرفع صفة لـ"صلاة"(فيها) متعلق بـ"يقيم"، أي في الصلاة (صلبه) أي ظهره، وتقدم ضبطه، ومعنا أول الباب (في الركوع والسجود) متعلق بـ"يقيم" أيضًا. أي لا يطمئن في حال الركوع، والسجود.

وفيه وجوب الطمأنينة في الركوع، والسجود، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله، وخالف في ذلك أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن رحمهما الله، وخالفهما أبو رحمه الله يوسفُ، فقال بوجوبه. وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته؛

حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -88/ 1027 - وفي "الكبرى" -35/ 1100 - عن قتيبة، عن الفضيل بن عياض، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عنه. وفي 54/ 1111 - و"الكبرى" 53/ 699 - عن علي بن خشرم، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش به. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن حفص بن عمر النَّمَرِيّ، عن شعبة، عن الأعمش به. (ق) فيه عن علي بن محمَّد، وعمرو بن عبد الله، كلاهما عن وكيع، عن الأعمش به. (ت) فيه عن أحمد بن منيع، عن أبي معاوية، عن الأعمش به.

وأخرجه (الحميدي) برقم 454 (وأحمد) -4/ 119 و 122 (والدارمي) رقم 1333 (وابن خزيمة) رقم 591 و 666 (والدارقطني) 1/ 348. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): دلّ الحديث على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وعليه جمهور أهل العلم، وهو المذهب الحق، وخالف في ذلك بعضهم:

قال النوويّ رحمه الله: وتجب الطمأنينة في الركوع، والسجود، والاعتدال من الركوع، والجلوس بين السجدتين، وبهذا كله قال مالك، وأحمد، وداود. وقال أبو حنيفة: يكفيه في الركوع أدنى انحناء، ولا تجب الطمأنينة في شيء من هذه الأركان

(1)

.

(1)

قال صاحب "السعاية" بعد ذكر عبارات كتب الحنفية في هذا الباب: ما لفظه: وجملة المرام في =

ص: 70

واحتج له بقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، والانخفاض، والانحاء قد أتى به

(1)

.

واحتج الجمهور بحديث الباب، قال الترمذي رحمه الله بعد إخراجه حديث الباب: ما نصّه: والعملُ على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود. وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فصلاته فاسدة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود". انتهى كلام الترمذي رحمه الله تعالى

(2)

.

واحتجوا أيضا بحديث حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلًا لا يتم الركوع والسجود، فقال: ما صليت، ولو من من على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم". رواه البخاري.

واحتجوا أيضا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المسيء صلاته: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". متفق عليه، وتقدم للمصنف في-7/ 884.

فإن هذا الحديث لبيان أقل الواجبات، كما سبق التنبيه عليه. ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ارجع، فصل، فإنك لم تصل". فإنه صريح في كون التعديل من الأركان بحيث إن فوته يُفَوِّت أصل الصلاة، وإلا لم يقل:"لم تصل". والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال العلامة المباركفوري رحمه الله تعالى: وأجاب الحنفية عن الاستدلال بحديث المسيء صلاته بوجوه كلها مخدوشة:

(منها): ما قالوا: إن آخر حديث المسيء صلاته يدلّ على عدم فرضية التعديل، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"وما نقصت من ذلك، فإنما نقصته من صلاتك". فلو كان ترك التعديل مفسدا

= هذا المقام أن الركوع والسجود ركنان اتفاقا، وإنما الخلاف في اطمئنانهما، فعند الشافعي، وأبي يوسف فرض، وعند محمَّد وأبي حنيفة فرض على ما نقله الطحاوي، وسنة على تخريج الجرجاني، واجب على تخريج الكرخي، وهو الذي نقله جمع عظيم عنهما، وعليه المتون، والقومة والجلسة، والاطمأنان فيهما كل منها فرض أيضا عند أبي يوسف والشافعي، سنة عند أبي حنيفة ومحمد على ما ذكره القدماء، واجب على ما حققه المتأخرون، ومقتضى القاعدة المشهورة أن تكون القومة والجلسة واجبتين، والاطمأنان فيهما سنة، لكن لا عبرة بها بعد تحقيق الحق. انتهى كلامه، منقولا من "تحفة الأحوذي" جـ 2 ص 125 - 126.

(1)

"المجموع" جـ 3 ص 410.

(2)

"الجامع" جـ 2 ص 125 بنسخة "تحفة الأحوذي".

ص: 71

لما سماه صلاة، كما لو ترك الركوع والسجود.

ورده العيني في "البناية" بأن للخصم أن يقول: إنما سماه صلاة بحسب زعم المصلي، كما تدل عليه الإضافة، على أنه ورد في بعض الروايات:"وما نقصت شيئًا من هذا"، أي مما ذكر سابقا، ومنه الركوع والسجود أيضا، فيلزم أن تسمى ما لا ركوع ولا سجود فيها صلاة أيضا بعين التقرير المذكور، وإذ ليس، فليس. انتهى.

(ومنها): ما قالوا: إن هذا الحديث لا يدلّ على فرضية التعديل، بل على عدم فرضيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأعرابي حين فرغ من صلاته، ولو كان ما تركه ركنا لفسدت صلاته، فكان المضي بعد ذلك من الأعرابي عبثا، ولا يحل له صلى الله عليه وسلم أن يتركه، فكان تركه دلالة منه أن صلاته جائزة، إلا أنه ترك الإكمال، فأمره بالإعادة، زجرا له عن هذه العادة.

ورده العيني في "البناية" أيضا بأن للخصم أن يقول: كانت صلاته فاسدة، ولذا أمره بالإعادة، وقال:"لم تصل"، وإنما تركه عليه؛ لأنه ربما يهتدي إلى الصلاة الصحيحة، ولم ينكر عليه، لأنه كان من أهل البادية، كما تدل عليه رواية الترمذي:"إذ جاءه رجل كالبدوي"، من المعلوم أن أهل البادية لهم جفاء وغلظة، فلو أمره ابتداء لكان يقع في خاطره شيء، وكان المقام مقام تعليم، وبالجملة لا دلالة لعدم إنكاره صلى الله عليه وسلم صلاته ابتداء، وأمره بالإعادة على ما ادعوه. انتهى.

(ومنها): ما قالوا: إن الله تعالى أمرنا بالركوع والسجود بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، والركوع والسجود لفظ خاص، معناه معلوم، فالركوع هو الانحناء، والسجود هو الانخفاض، فمطلق الميلان عن الاستواء، ووضع الجبهة على الأرض فرض بالآية المذكورة، وفرضية التعديل الثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم:"فإنك لم تصل"، وكذا فرضية القومة، والجلسة بحديث:"لا تجزئ صلاة، لا يقيم الرجل فيها ظهره في الركوع والسجود"، وأمثاله إن ألحقت بالقرآن على سبيل البيان فهو ليس بصحيح؛ لأن البيان إنما يكون للمجمل، ولا إجمال في الركوع والسجود، وإن ألحقت على سبيل التغيير لإطلاق القرآن، فهو ليس بجائز أيضًا؛ لأن نسخ إطلاق القرآن بأخبار الآحاد لا يجوز، كما حققه الأصوليون، ولما لم يجز إلحاق ما ثبت بهذه الأخبار بالثابت بالقرآن، ولم يمكن ترك أخبار الآحاد بالكلية أيضًا، فقلنا ما ثبت بالقطعي، وهو مطلق الركوع والسجود فرض، وما ثبت بهذه الأخبار الظنية الثبوت واجب.

والجواب أن المراد بالركوع والسجود في الآية المذكورة معناهما الشرعي، وهو غير معلوم، فهو محتاج إلى البيان، فهذه الأخبار أُلحقت بالقرآن على سبيل البيان، ولا

ص: 72

إشكال. وقد صرح العلماء الحنفية أن معناهما الشرعي هو المراد عند أبي يوسف رحمه الله، وأن هذه الأخبار قد ألحقت بالقرآن على سبيل البيان عنده.

(واعلم): أن أبا يوسف رحمه الله شريك لأبي حنيفة ومحمد في القاعدة الأصولية المذكورة، ويجريها في مواضع كثيرة، ومع هذا فهو قائل بفرضية التعديل، فيرد عليه إشكال عسير، وهو أنه كيف ينسخ إطلاق الكتاب ها هنا بخبر الآحاد، ويجعل التعديل فرضا، وقد ذكر العلماء الحنفية في دفع هذا الإشكال ما نقله ابن عابدين في حواشي "البحر" عن بعض المحققين من أن المراد بالركوع والسجود في الآية عندهما معناه اللغوي، وهو معلوم لا يحتاج إلى البيان، فلو قلنا بافتراض التعديل تلزم الزيادة على النص بخبر الآحاد، وعند أبي يوسف معناهما الشرعي، وهو غير معلوم، فيحتاج إلى البيان. انتهى.

(ثم اعلم): أن حمل لفظ الركوع، ولفظ السجود في الآية المذكورة على معناهما الشرعي هو المتعين؛ لأنه قد تقرر أن أمثال هذه الألفاظ في النصوص يجب حملها على معانيها الشرعية إلا أن يمنع مانع، ولا مانع ها هنا.

وحاصل الكلام أن القول بأن تعديل الأركان فرض هو الراجح المعول عليه. والله تعالى أعلم. انتهى كلام المباركفوري رحمه الله تعالى

(1)

. وهو تقرير حسن جدًّا. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): أنه قد تبيّن مما ذكر في المسألة السابقة أن شبهة عدم إيجاب الحنفية غير أبي يوسف تعديلَ الأركان هو زعمهم أن إيجابه يكون زيادة على الكتاب بخبر الواحد، وهو لا يجوز، وهذه قاعدة تسبب عنها رفضهم كثيرا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا اختلاف في صحتها، كالأحاديث المخرجة في "الصحيحين" وغيرهما، وبسبب هذا دخل ضرر عظيم في الدين حيث دخل في قلوب المقلدة توهين قدر السنن الصحاح التي أوجب الله صلى الله عليه وسلم اتباعها، والردَّ إليها عند التنازع، ومن الغريب أنهم لا يَثْبُتُون على هذه القاعدة، بل تراهم ينقضونها في عدة قضايا، ويتعللون لذلك بعلل واهية، لا تروج عند النقد والتنقير، ولا يسلمها من هو بالأمور بصير.

ولقد تصدى لتفنيد هذه الشبهة الداحضة، وهدم أساسها الواهية الإمام المحقق، والجِهْبِذ المدقق العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم النافع "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، فأسهب وأعاد، وأجاد وأفاد، أحببت إيراد محل الحاجة منه هنا

(1)

"تحفة الأحوذي بشرح الترمذي" جـ 2 ص 126 - 128.

ص: 73

ليكون مسك الختام لما بحثناه في المسألة السابقة، ولنحيل إليه في كل موضع يَوُدُّون فيه الأحاديث الصحيحة بهذه الشبهة الباطلة.

قال رحمه الله تعالى:

(المثال الرابع عشر): ردُّ المحكم الصريح الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا من وجوب الطمأنينة، وتوقف إجزاء الصلاة، وصحتها عليها، كقوله:"لا تجزئ صلاة، لا يقيم الرجل فيها صلبه في ركوعه وسجوده". وقوله لمن تركها: "صل فإنك لم تصل". وقوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا"، فنفى إجزاءها بدون الطمأنينة، ونفى مسماها الشرعي بدونها، وأمر بالإتيان بها، فرد هذا المحكم الصريح بالمتشابه من قوله:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77].

(المثال الخامس عشر): رد المحكم الصريح من تعيين التكبير للدخول في الصلاة بقوله: "إذا قمت إلى الصلاة، فكبر"، وقوله:"تحريمها التكبير"، وقوله:"لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر"، وهي نصوص في غاية الصحة، فردت بالمتشابه من قوله:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15].

(المثال السادس عشر): رد النصوص المحكمة الصريحة الصحيحة في تعيين قراءة "فاتحة الكتاب" فرضا، بالمتشابه من قوله:{فاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، وليس ذلك في الصلاة، وإنما هو بدل عن قيام الليل، وبقوله للأعرإبي:"ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن"، وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة، وأن يكون الأعرابي لا يحسنها، وأن يكون لم يسىء في قراءتها، فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن، وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها، فهو متشابه، يحتمل هذه الوجوه، فلا يترك له المحكم الصريح.

(المثال السابع عشر): رد المحكم الصريح من توقف الخروج من الصلاة على التسليم، كما في:"تحليلها التسليم"، وقوله:"إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه، مِنْ عن يمينه، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله"، فأخبر أنه لا يكفي غير ذلك، فرد بالمتشابه من قول ابن مسعود:"فإذا قلت هذا، فقد قضيت صلاتك"، وبالمتشابه من عدم أمره صلى الله عليه وسلم للأعرابي بالسلام.

(المثال الثامن عشر): رد المحكم الصريح في اشتراط النية لعبادة الوضوء والغسل، كما في قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [الآية سورة البينة: آية 5]. وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، وهذا لم ينو رفع الحدث، فلا يكون له

ص: 74

بالنص، فردوا هذا بالمتشابه من قوله:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6]، ولم يأمر بالنية: قالوا: فلو أوجبناها بالسنة لكان زيادة على نص القرآن، فيكون نسخا، والسنة لا تنسخ القرآن، فهذه ثلاث مقدمات:

(إحداها): أن القرآن لم يوجب النية.

(الثانية): أن إيجاب السنة لها نسخ للقرآن.

(الثالثة): أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز. وبنوا على هذه المقدمات إسقاط كثير مما صرحت السنة بإيجابه، كقراءة الفاتحة، والطمأنينة، وتعيين التكبير للدخول في الصلاة، والتسليم للخروج منها.

ولا يتصور صدق المقدمات الثلاث في موضع واحد أصلا، بل إما أن تكون كلها كاذبة، أو بعضها.

فأما آية الوضوء فالقرآن قد نبه على أنه لم يكتف من طاعات عباده إلا بما أخلصوا له فيه الدين، فمن لم ينو التقرب إليه جملة لم يكن ما أتى به طاعة البتة، فلا يكون معتدا به، مع أن قوله:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إنما يفهم المخاطب منه غسل الوجه، وما بعده لأجل الصلاة، كما يفهم من قوله: إذا واجهت الأمير فترجّلْ، وإذا دخل الشتاء، فاشتر الفَرْوَ، ونحو ذلك، فإن لم يكن القرآن قد دلّ على النية، ودلت عليها السنة لم يكن وجوبها ناسخا للقرآن، وإن كان زائدا عليه، ولو كان كل ما أوجبته السنة، ولم يوجبه القرآن نسخا له لبطلت أكثر سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودُفِع في صدورها، وأعجازها، وقال القائل: هذه زيادة على ما في كتاب الله، فلا تُقبَل، ولا يعمل بها، وهذا بعينه هو الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيقع، وحذّر منه، كما في "السنن" من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه، ألا يوشك رجل شَبْعانُ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال، فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام، فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة مال المعاهد".

وفي لفظ: "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته، فيحدَّثُ عني بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله".

قال الترمذي: حديث حسن، وقال البيهقي: إسناده صحيح.

وقال صالح بن موسى، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما:

ص: 75

كتاب الله، وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

(1)

فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما، ويرد أحدهما بالآخر، بل سكوته عما نطق به، ولا يمكن أحدا يطرد ذلك، ولا الذين أصلوا هذا الأصل، بل قد نقضوه في أكثر من ثلاثمائة موضع، منها ما هو مُجمَع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه.

مبحث مهم في بيان أوجه السنة مع القرآن:

قال رحمه الله تعالى: والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:

(أحدها): أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة، وتضافرها.

(الثاني): أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، وتفسيرا له.

(الثالث): أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه، أو محرَّمةً لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام.

فلا تُعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها زائدا على القرآن، فهو تشريع مبتدَأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديما لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم، لم تكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب إلا فيما وافق القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقال الله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

وكيف يمكن أحدا من أهل العلم أن لا يقبل حديثا زائدا على كتاب الله؟، فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها، وعلى خالتها، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب، ولا حديث خيار الشرط، ولا أحاديث الشفعة، ولا أحاديث الرهن في الحضر، مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا حديث ميراث الجدة، ولا حديث تخيير الأمة إذا عتقت تحت زوجها، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة، ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة.

فهلاّ قلتم: إنها نسخ للقرآن، وهو لا يُنسَخ بالسنة، وكيف أوجبتم الوتر، مع أنه زيادة محضة على القرآن بخبر مختلف فيه؟. وكيف زدتم على كتاب الله، فجوزتم الوضوء بنبيذ التمر بخبر ضعيف؟. وكيف زدتم على كتاب الله، فشرطتم في الصداق

(1)

حديث صحيح، أخرجه الحاكم في "مستدركه" جـ 1 ص 93.

ص: 76

أن يكون أقله عشرة دراهم بخبر لا يصح البتة، وهو زيادة محضة على القرآن؟.

وقد أخذ الناس بحديث: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"، وهو زائد على القرآن. وأخذوا بحديث توريثه صلى الله عليه وسلم بنت الابن السدس مع البنت، وهو زائد على ما في القرآن، وأخذ الناس كلهم بحديث استبراء الْمَسْبِيَّة بحيضة، وهو زائد على ما في كتاب الله، وأخذوا بحديث:"من قتل قتيلا، فله سلبه"، وهو زائد على ما في كتاب الله من قسمة الغنائم. وأخذوا كلهم بقضائه صلى الله عليه وسلم الزائد على ما في القرآن من أن أعيان بني الأبوين يتوارثون، دون بني العلاّت

(1)

، وأَنَّ الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه، دون أخيه لأبيه، ولو تتبعنا هذا لطال جدًّا.

فسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلّ في صدورنا، وأعظم، وأفرض علينا أن لا نقبلها إذا كانت زائدة على ما في القرآن، بل على الرأس والعينين.

وكذلك فرض على الأمة الأخذ بحديث القضاء بالشاهد واليمين، وإن كان زائدا على ما في القرآن. وقد أخذ به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمهور التابعين، والأئمة.

والعجب ممن يرده لأنه زائد على ما في كتاب الله، ثم يقضي بالنكول، ومعاقد القُمُط

(2)

، ووجوه الَاجُرّ في الحائط، وليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأخذتم أنتم، وجمهور الأمة بحديث:"لا يقاد الوالد بالولد" مع ضعفه، وهو زائد على ما في القرآن. وأخذتم أنتم والناس بحديث أخذ الجزية من المجوس، وهو زائد على ما في القرآن. وأخذتم مع سائر الناس بقطع رِجْل السارق في المرّة الثانية، مع زيادته على ما في القرآن. وأخذتم أنتم والناس بحديث النهي عن الاقتصاص من الجرح قبل الاندِمَال، وهو زائد على ما في القرآن. وأخذت الأمةُ بأحاديث الحضانة، وليست في القرآن. وأخذتم أنتم والجمهور باعتداد المتوفى عنها في منزلها، وهو زائد على ما في القرآن. وأخذتم مع الناس بأحاديث البلوغ بالسن والإنبات، وهي زائد على ما في القرآن، إذ ليس فيه إلا الاحتلام. وأخذتم مع الناس بحديث:"الخراجُ بالضمان". مع ضعفه، وهو زائد على ما في القرآن، وأضعاف أضعاف ما ذكرنا.

بل أحكام السنة التى ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها، فلو ساغ

(1)

بنو العلات: بنو أمهات شتى من رجل واحد.

(2)

قال في "المصباح": جمع قماط، مثل كتاب وكتب، ومن كلام الشافعي: معاقد القُمُط. وتحاكم رجلان إلى القاضي شريح في خص تنازعاه، فقضى للذي إليه القُمُطُ، وهي الشُّرُطُ، جمع شَرِيط، وهو ما يُعمل من لِيف، وخُوص، وقيل: القُمُطُ: الخُشُب التي تكون على ظاهر الخص، أو باطنه، يشد إليها حَرَادِيّ القصب، أو رؤوسه. انتهى. ص 516.

ص: 77

لنا ردّ كل سنة زائدة كانت

(1)

على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها إلا سنة دلّ عليها القرآن، وهذا هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع، ولابد متن وقوع خبره.

[فإن قيل]: السنن الزائدة على ما دلّ عليه القرآن تارة تكون بيانا له، وتارة تكون مُنشِئة لحكم لم يتعرض القرآن له، وتارة تكون مغيرة لحكمه، وليس نزاعنا في القسمين الأولين، فإنهما حجة باتفاق، ولكن النزاع في القسم الثالث، وهو الذي ترجمته بـ"مسألة

الزيادة على النص".

وقد ذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي، وجماعة كثيرة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنها نسخ، ومن ها هنا جعلوا إيجاب التغريب مع الجلد نسخا، كما لو زاد عشرين سوطا على الثمانين في حد القذف.

وذهب أبو بكر الرازي إلى أن الزيادة إن وردت بعد استقرار حكم النص منفردة عنه، كانت ناسخة، وإن وردت متصلة بالنص قبل استقرار حكمه لم تكن ناسخة، وإن وردت، ولا يعلم تاريخها، فإن وردت من جهة يثبت النص بمثلها، فإن شهدت الأصول من عمل السلف، أو النظر على ثبوتهما معا أثبتناهما، وإن شهدت بالنص منفردا عنها أثبتناه دونها، وإن لم يكن في الأصول دلاله على أحدهما، فالوأجب أن يحكم بورودهما معا، ويكونان بمنزلة الخاص والعام، وإذا لم يعلم تاريخهما، ولم يكن في الأصول دلالة على وجوب القضاء بأحدهما على الآخر، فإنهما يستعملان معًا، وإن كان ورود النص من جهة توجب العلم كالكتاب والخبر المستفيض، وورود الزيادة من جهة أخبار الآحاد لم يجز إلحاقها بالنص، ولا العمل بها.

وذهب أصحابنا -يعني الحنابلة- إلى أن الزيادة إن غيرت حكم المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث إنه لو فعل على حدِّ ما كان يفعل قبلها لم يكن معتدا به، بل يجب استئنافه كان نسخا، نحو ضم ركعة إلى ركعتي الفجر، وإن لم يغير حكم المزيد عليه بحيث لو فعل على حدَّ ما كان يفعل قبلها كان معتدا به، ولا يجب استئنافه لم يكن نسخا، ولم يجعلوا إيجاب التغيير مع الجلد نسخا، وإيجاب عشرين جلدة مع الثمانين نسخا، وكذلك إيجاب شرط منفصل عن العبادة لا يكون نسخا، كإيجاب الوضوء بعد فرض الصلاة، ولم يختلفوا أن إيجاب زيادة عبادة على عبادة، كإيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة لا يكون نسخا، ولم يختلفوا أيضا أن إيجاب صلاة سادسة على الصلوات الخمس لا يكون نسخا.

(1)

هكذا نسخة الأصل، ولعل الصواب إسقاط لفظة "كانت". والله تعالى أعلم.

ص: 78

فالكلام معكم في الزيادة المغيرة في ثلاثة مواضع، في المعنى، والاسم، والحكم.

أما المعنى: فإنها تفيد معنى النسخ، لأنه إزالة، والزيادة تزيل حكم الاعتداد بالمزيد عليه، وتوجب استئنافه بدونها، وتخرجه عن كونه جميع الواجب، وتجعله بعضه، وتوجب التأثيم على المقتصر عليه بعد أن لم يكن آثما، وهذا معنى النسخ، وعليه ترتب الاسم، فإنه تابع للمعنى، فإن الكلام في زيادة شرعية مغيرة للحكم الشرعي بدليل شرعي، متراخ عن المزيد عليه، فإن اختل وصف من هذه الأوصاف لم يكن نسخا، فإن لم تغير حكمًا شرعيا، بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخا، كإيجاب عبادة بعد أخرى، وإن كانت الزيادة مقارنة للمزيد عليه، لم تكن نسخا وإن غيرته، بل تكون تقييدا، أو تخصيصا.

وأما الحكم، فإن كان النص المزيد عليه ثابتا بالكتاب، أو السنة المتواترة لم يقبل خبر الواحد بالزيادة عليه، وإن كان ثابتا بخبر الواحد قبلت الزيادة، فإن اتفقت الأمة على قبول خبر الواحد في القسم الأول علمنا أنه ورد مقارنا للمزيد عليه، فيكون تخصيصا، لا نسخا.

قالوا: وإنما لم يقبل خبر الواحد بالزيادة على النص؛ لأن الزيادة لو كانت موجودة معه لنقلها إلينا مَنْ نقل النص، إذ غير جائز أن يكون المراد إثبات النص معقودا بالزيادة، فيقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على إبلاغ النص منفردا عنها، فواجب إذًا أن يذكرها معه، ولو ذكرها لنقلها إلينا من نقل النص، فإن كان النص مذكورا في القرآن، والزيادة واردة من جهة السنة، فغير جائز أن يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة الحكم المنزل في القرآن، دون أن يعقبها بذكر الزيادة؛ لأن حصول الفراغ من النص الذي يمكننا استعماله بنفسه يلزمنا اعتقاد مقتضاه من حكمه، كقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فإن كان الحد هو الجلد والتغريب، فغير جائز أن يتلو النبي صلى الله عليه وسلم الآية على الناس عارية من ذكر النفي عقبها؛ لأن سكوته عن ذكر الزيادة معها يلزمنا اعتقاد موجبها، وأن الجلد هو كمال الحد، فلو كان معه تغريب لكان بعضَ الحد، لا كماله، فإذا أخلى التلاوة من النفي عقبها فقد أراد منا اعتقاد أن الجلد المذكور في الآية هو تمام الحد وكماله، فغير جائز إلحاق الزيادة معه، إلا على وجه النسخ، ولهذا كان قوله:"واغْدُ يا أُنَيس على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها"، ناسخا لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"الثيب بالثيّب جلد مائة، والرجم"، وكذلك لَمَّا رجم ماعزًا، ولم يجلده كذلك يجب أن يكون قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، ناسخا لحكم التغريب في قوله:"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام".

ص: 79

والمقصود أن هذه الزيادة لو كانت ثابتة مع النص لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عقب التلاوة، ولنقلها إلينا من نقل المزيد عليه، إذ غير جائز عليهم أن يعلموا أن الحد مجموع الأمرين، وينقلوا بعضه، دون بعض، وقد سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الأمرين، فامتنع حينئذ العمل بالزيادة إلا من الجهة التي ورد منها الأصل، فإذا وردت من جهة الآحاد، فإن كانت قبل النص، فقد نسخها النص المطلق عاريا من ذكرها، وإن كانت بعده، فهذا يوجب نسخ الآية بخبر الواحد، وهو ممتنع، فإن كان المزيد عليه ثابتا بخبر الواحد جاز إلحاق الزيادة بخبر الواحد على الوجه الذي يجوز نسخه به، فإن كانت واردة مع النص في خطاب واحد لم تكن نسخا، وكانت بيانا.

فالجواب من وجوه:

(أحدها): أنكم أول من نقض هذا الأصل الذي أصلتموه، فإنكم قبلتم خبر الوضوء بنبيذ التمر، وهو زائد على ما في كتاب الله، مغير لحكمه، فإن الله سبحانه وتعالى جعل حكم عادم الماء التيمم، والخبر يقتضي أن يكون حكمه الوضوء بالنبيذ، فهذه الزيادة بهذا الخبر الذي لا يثبت رافعة لحكم شرعي، غير مقارنة له، ولا مقاومة بوجه.

وقبلتم خبر الأمر بالوتر مع رفعه لحكم شرعي، وهو اعتقاد كون الصلوات الخمس هي جميع الواجب، ورفع التأثيم بالاقتصار عليها، وإجزاء الإتيان في التعبد بفريضة الصلاة، والذي قال هذه الزيادةَ هو الذي قال سائرَ الأحاديث الزائدة على ما في القرآن،

والذي نقلها إلينا هو الذي نقل تلك بعينه، أو أوثق منه، أو نظيره، والذي فرض علينا طاعة رسوله، وقبول قوله في تلك الزيادة هو الذي فرض علينا طاعته، وقبول قوله في هذه، والذي قال لنا:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، هو الذي شرع لنا هذه

الزيادة على لسانه، والله عز وجل ولّاه منصب التشريع عنه ابتداء، كما ولاه منصب البيان لِما أراده بكلامه، بل كلامه كله بيان عن الله، والزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجه من الوجوه، بل كان السلف الصالح الطيب إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديقه في القرآن، ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدًا؛ إن هذا زيادة على القرآن، فلا نقبله، ولا نسمعه، ولا نعمل به.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم أجلُّ في صدورهم، وسنته أعظم عندهم من ذلك وأكبر، ولا فرق أصلا بين مجيء السنة بعدد الطواف، وعدد ركعات الصلاة، ومجيئها بفرض الطمأنينة، وتعين الفاتحة والنية، فإن الجميع بيان لمراد الله أنه أوجب هذه العبادة على عباده على الوجه هذا.

فهذا هو الوجه المراد، فجاءت السنة بيانا للمراد في جميع وجوهها، حتى في التشريع

ص: 80

المبتدإ، فإنها بيان لمراد الله من عموم الأمر بطاعته، وطاعة رسول صلى الله عليه وسلم، فلا فرق بين بيان هذا المراد، وبين بيان المراد من الصلاة والزكاة والحج والطواف وغيرها، بل هذا بيان المراد من شيء، وذاك بيان المراد من أعم منه.

فالتغريب بيان محض للمراد من قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن التغريب بيان لهذا السبيل المذكور في القرآن، فكيف يجوز رده بأنه مخالف للقرآن معارض له.

ويقال: لو قلبناه لأبطلنا به حكم القرآن، وهل هذا إلا قلب للحقائق، فإن حكم القرآن العام والخاص يوجب علينا قبوله فرضا، لا يسعنا مخالفته، فلو خالفناه لخالفنا القرآن، ولخرجنا عن حكمه ولابد، ولكان في ذلك مخالفة للقرآن والحديث معًا.

يوضحه (الوجه الثاني): أن الله تعالى نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم منصب المبلغ المبين عنه، فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن الله أن هذا شرعه ودينه، ولا فرق بين ما يبلغه عنه من كلامه المتلوّ، ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا.

يوضحه (الثالث): أن الله تعالى أمرنا بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، وجاء البيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقادير ذلك، وصفاته، وشروطه، فوجب على الأمة قبوله، إذ هو تفصيل لما أمر الله به، كما يجب علينا قبول الأصل المفصل، وهكذا أمر الله تعالى بطاعته، وطاعة رسوله، فإذا أمر الرسول بأمر كان تفصيلا، وبيانا للطاعة المأمور بها، وكان فوض قبوله كفرض قبول الأصل المفصل، ولا فرق بينهما.

يوضحه (الوجه الرابع): أن البيان من النبي صلى الله عليه وسلم أقسام:

(أحدها): بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيا.

(الثاني): بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك، كما بين أن الظلم المذكور في قوله:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] هو الشرك، وأن الحساب اليسير هو العرض، وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض النهار، وسواد الليل، وأن الذي رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هو جبريل، كما فسر قوله:{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] أنه طلوع الشمس من مغربها، وكما فسر قوله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم: 24] بأنها النخلة، وكما فسر قوله:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] أن ذلك في القبر حين يسأل مَنْ ربك؟، وما دينك؟. وكما فسر الرعد بأنه ملك من الملائكة

ص: 81

موكل بالسحاب. وكما فسر اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم، ورهبانهم أربابا من دون الله بأن ذلك باستحلال ما أحلوه من الحرام، وتحريم ما حرموه عليهم من الحلال، وكما فسر القوة التي أمر الله أن نعِدّها لأعدائه بالرمي، وكما فسر قوله:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بأنه ما يُجزى به العبد في الدنيا من النصب والهم والخوف واللأواء، وكما فسر الزيادة بأنه النظر إلى وجه الله الكريم، وكما فسر الدعاء في قوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، بأنه العبادة، وكما فسر إدبار النجوم بأنه الركعتان قبل الفجر، وإدبار السجود بالركعتين بعد المغرب، ونظائر هذا.

(الثالث): بيانه بالفعل، كما بين أوقات الصلوات للسائل بفعله.

(الرابع): بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن، فنزل القرآن ببيانها، كما سئل عن قذف الزوجة، فجاء القرآن باللعان، ونظائره.

(الخامس): بيان ما سئل عنه بالوحي، وإن لم يكن قرآنا، كما سئل عن رجل أحرم في جُبَّة بعد ما تَضَمَّخَ بالْخَلُوق، فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة، ويغسل أثر الْخَلُوق.

(السادس): بيانه للأحكام بالسنة ابتداء من غير سؤال، كما حرم عليهم لحوم الْحُمُر، والمتعة، وصيد المدينة، ونكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأمثال ذلك.

(السابع): بيانه جوازَ الشيء بفعله هو له، وعدم نهيهم عن التأسي به.

(الثامن): بيانه جوازَ الشيء بإقراره لهم على فعله، وهو يشاهده، أو يَعلَمُهُم يفعلونه.

(التاسع): بيانه إباحةَ الشيءِ عفوًا بالسكوت عن تحريمه، وإن لم يأذن فيه نطقًا.

(العاشر): أن يحكم القرآن بإيجاب شيء، أو تحريمه، أو إباحته، ويكون لذلك الحكم شروط، وموانع، وقيود، وأوقات مخصوصة، وأحوال، وأوصاف، فيحيل الرب سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيانه، كقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، فالحِلُّ موقوف على شروط النكاح، وانتفاء موانعه، وحضور وقته، وأهلية المحل، فإذا جاءت السنة ببيان ذلك كله لم يكن شيء منه زائدًا على النص، فيكونَ نسخا له، وإن كان رفعا لظاهر إطلاقه.

فهكذا كل حكم منه صلى الله عليه وسلم زائدًا على القرآن هذا سبيله سواءً بسواءٍ، وقد قال الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، ثم جاءت السنة بأن القاتل، والكافر، والرقيق لا يرث، ولم يكن نسخا للقرآن مع أنه زائد عليه قطعا، أعني في موجبات الميراث، فإن القرآن أوجبه بالولادة وحدها، فزادت السنة مع وصف الولادة اتحاد الدين، وعدم الرقّ والقتل.

ص: 82

فهلّا قلتم: إن هذا زيادة على النص، فيكون نسخا، والقرآن لا يُنسَخُ بالسنة، كما قلتم ذلك في كل موضع تركتم فيه الحديث؛ لأنه زائد على القرآن.

(الوجه الخامس): أن تسميتكم للزيادة المذكورة نسخا لا توجب، بل لا تجُوِّزُ مُخالَفتَهَا، فإن تسمية ذلك نسخا اصطلاح منكم، والأسماء المتواضع عليها التابعة للاصطلاح منكم لا توجب رفع أحكام النصوص، فأين سمَّى الله ورسوله ذلك نسخا، وأين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم حديثي زائدًا على ما في كتاب الله فردوه، ولا تقبلوه، فإنه يكون نسخا لكتاب الله؟ وأين قال الله: إذا قال رسولي قولا زائدا على القرآن، فلا تقبلوه، ولا تعملو به، ورُدُّوه؟، وكيف يسوغ رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقواعدَ قَعَّدتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.

(الوجه السادس): أن يقال: ما تعنون بالنسخ الذي تضمنته الزيادة بزعمكم؟ أتعنون أن حكم المزيد عليه من الإيجاب والتحريم والإباحة بطل بالكلية؟ أم تعنون به تغير وصفه بزيادة شيء عليه من شرط، أو قيد، أو حال، أو مانع، أو ما هو أعم من ذلك؟. فإن عنيتم الأول، فلا ريب أن الزيادة لا تتضمن ذلك، فلا تكون ناسخة، وإن عنيتم الثاني، فهو حق، ولكن لا يلزم منها بطلان حكم المزيد عليه، ولا رفعه، ولا معارضته، بل غايتها مع المزيد عليه كالشروط، والموانع، والقيود، والمخصصات، وشيء من ذلك لا يكون نسخا يوجب إبطال الأول، ورفعه رأسا.

وإذا كان نسخا بالمعنى العامّ الذي يسميه السلف نسخا، وهو رفع الظاهر بتخصيص، أو تقييد، أو شرط، أو مانع، فهذا كثير من السلف يسميه نسخا، حتى سمى الاستثناء نسخا، فإن أردتم هذا المعنى، فلا مُشاحَّةَ في الاسم، ولكن ذلك لا يسوغ ردَّ السنن الناسخة للقرآن بهذا المعنى، ولا ينكر أحد نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى، بل هو متفق عليه بين الناس، وإنما تنازعوا في جواز نسخه بالسنة النسخَ الخاصَّ الذي هو رفع أصل الحكم وجملته بحيمث يبقى بمنزلة ما لم يشرع البتة.

وإن أردتم بالنسخ ما هو أعم من القسمين، وهو رفع الحكم بجملته تارة، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه، وزيادة شرط أو مانع تارة كنتم قد أدرجتم في كلامكم قسمين: مقبولا، ومردودًا، كما تبيّن، فليس الشأن في الألفاظ، فسموا الزيادة ما شئتم، فإبطال السنن بهذا الاسم مما لا سبيل إليه.

يوضحه (الوجه السابع): أن الزيادة لو كانت ناسخة لما جاز اقترانها بالمزيد؛ لأن الناسخ لا يقارن المنسوخ، وقد جوزتم اقترانها به، وقلتم: تكون بيانا، أو تخصيصا، فهلا كان حكمها مع التأخير كذلك، والبيان لا يجب اقترانه بالمبين، بل يجوز تأخيره

ص: 83

إلى وقت حضور العمل، وما ذكرتموه من إيهام اعتقاد خلاف الحق، فهو منتقض بجواز، بل وجوب تأخير الناسخ، وعدم الإشعار بأنه سينسخه، ولا محذور في اعتقاد موجب النص ما لم يأت ما يرفعه، أو يرفع ظاهره، فحينئذ يعتقد موجبه كذلك، فكان كل من الاعتقادين في وقته هو المأمور به، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

يوضحه (الوجه الثامن): أن المكلف إنما يعتقده على إطلاقه وعمومه مقيدا بعدم ورود ما يرفع ظاهره، كما يعتقد المنسوخ مؤبدا اعتقادا مقيدا بعدم ورود ما يبطله، وهذا هو الواجب عليه الذي لا يمكنه سواه.

(الوجه التاسع): أن إيجاب الشرط الملحق بالعبادة بعدها لا يكون نسخا، وإن تضمن رفع الإجزاء بدونه، كما صرح بذلك بعض أصحابكم، وهو الحق، فكذلك إيجاب كل زيادة، بل أولى أن لا تكون نسخا، فإن إيجاب الشرط يرفع إجزاء المشروط عن نفسه، وعن غيره، وإيجاب الزيادة إنما يرفع إجزاء المزيد عن نفسه خاصة.

(الوجه العاشر): أن الناس متفقون على أن إيجاب عبادة مستقلة بعد الثانية لا يكون نسخا، وذلك أن الأحكام لم تشرع جملة واحدة، وإنما شرعها أحكم الحاكمين شيئًا بعد شيء، وكل منها زائد على ما قبله، وكان ما قبله جميع الواجب، والإثم محطوط عمن اقتصر عليه، وبالزيادة تغير هذان الحكمان، فلم يبق الأول جميع الواجب، ولم يُحَطّ الإثم عمن اقتصر عليه، ومع ذلك فليس الزائد ناسخا للمزيد عليه، إذ حكمه من الوجوب وغيره باق، فهذه الزيادة المتعلقة بالمزيد لا تكون نسخا له، حيث لم ترفع حكمه، بل هو باق على حكمه، وقد ضُمَّ إليه غيرُهُ.

يوضحه (الوجه الحادي عشر): أن الزيادة إن رفعت حكمًا خطابيا كانت نسخًا، وزيادة التغريب، وشروط الحكم، وموانعه

(1)

لا ترفع حكم الخطاب، وإن رفع حكم الاستصحاب.

يوضحه (الوجه الثاني عشر): أن ما ذكروه من كون الأول جميع الواجب، وكونه مجزئا وحده، وكون الإثم محطوطا عمن اقتصر عليه إنما هو من أحكام البراءة الأصلية، فهو حكم استصحابي، لم نستفده من لفظ الأمر الأول، ولا أريدَ به، فإن معنى كون العبادة مجزئة أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها، وحط الذم عن فاعلها: معناه أنه قد خرج من عهدة الأمر، فلا يلحقه ذمّ، والزيادة -وإن رفعت هذه الأحكام- لم ترفع حكمًا دلّ عليه لفظ المزيد.

(1)

هنا يوجد في النسخة كلمة: "وحراحق"، ولم يظهر لي معناها. وكتب بهامشها ما لفظه:"هكذا بكل نسخة".

ص: 84

يوضحه (الوجه الثالث عشر): أن تخصيص القرآن بالسنة جائز، كما أجمعت الأمة على تخصيص قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها"

(1)

، وعموم قوله: تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر"

(2)

، وعموم قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع في ثَمَر، ولا كَثَر"

(3)

ونظائر ذلك كثير، فإذا جاز التخصيص، وهو رفع بعض ما تناوله اللفظ، وهو نقصان من معناه، فلأن تجوز الزيادة التي لا تتضمن رفع شيء من مدلوله، ولا نقصانه بطريق الأولى والأحرى.

(الوجه الرابع عشر): أن الزيادة لا توجب رفع المزيد لغة، ولا شرعا، ولا عرفا، ولا عقل، ولا تقول العقلاء لمن ازداد خيره، أو ماله، أو جاهه، أو علمه، أو ولده: إنه قد ارتفع شيء مما في الكيس.

(الوجه الخامس عشر) أن الزيادة قررت حكم المزيد، وزادته بيانا وتأكيدا، فهي كزيادة العلم والهدى والإيمان، قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقال:{وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، وقال:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]، فكذلك زيادة الواجب على الواجب إنما يزيد قوة وتأكيدا وثبوتا، فإن كانت متصلة به اتصال الجزاء والشرط كان ذلك أقوى له، وأثبت، وآكد، ولا ريب أن هذا أقرب إلى المعقول والمنقول والفطرة من جعل الزيادة مبطلة للمزيد عليه، ناسخة له.

(الوجه السادس عشر): أن الزيادة لم تتضمن النهي عن المزيد، ولا المنع منه، وذلك حقيقة النسخ، وإذا انتفت حقيقة النسخ استحال ثبوته.

(الوجه السابع عشر): أنه لابد في النسخ من تنافي الناسخ والمنسوخ، وامتناع اجتماعهما، والزيادة غير منافية للمزيد عليه، ولا اجتماعهما ممتنع.

(الوجه الثامن عشر): أن الزيادة لو كانت نسخا لكانت إما نسخا بانفرادها عن المزيد، أو بانضمامها إليه، والقسمان محال، فلا يكون نسخا:

أما الأولى فظاهر، فلأنها لا حكم لها بمفردها البتة، فإنها متابعة للمزيد عليه في حكمه.

(1)

أخرجه الجماعة.

(2)

أخرجه الجماعة.

(3)

صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان. والكَثَر بفتحتين-: الجُمَّار.

ص: 85

وأما الثاني فكذلك أيضا؛ لأنها إذا كانت ناسخة بانضمامها إلى المزيد، كان الشيء ناسخا لنفسه، ومبطلا لحقيقته، وهذا غير معقول.

وأجاب بعضهم عن هذا بأن النسخ يقع على حكم الفعل دون نفسه وصورته، وهذا الجواب لا يُجدي عليهم شيئًا، والإلزام قائم بعينه، فإنه يوجب أن يكون المزيد عليه قد نسخ حكم نفسه، وجعل نفسه إذا انفرد عن الزيادة غير مجزىء لعد أن كان مجزئا.

(الوجه التاسع عشر): أن النقصان من العبادة لا يكون نسخا لما بقي منها، فكذلك الزيادة عليها لا تكون نسخا لها، بل أولى لما تقدم.

(الوجه العشرون): أن نسخ الزيادة للمزيد عليه، إما أن يكون نسخا لوجوبه، أو لإجزائه، أو لعدم وجوب غيره، أو لأمر رابع، وهذا كزيادة التغريب مثلا على المائة جلدة، لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوبها، فإن الوجوب بحاله، ولا لإجزائها؛ لأنها مجزئة عن نفسها، ولا لعدم وجوب الزائد، لأنه رفع لحكم عقلي، وهو البراءة الأصلية، فلو كان رفعها نسخا كان كلما أوجب الله شيئًا بعد الشهادتين، قد نسخ به ما قبله، والأمر الرابع غير متصور، ولا معقول، فلا يحكم عليه.

[فإن قيل]: بل ها هنا أمر رابع معقول، وهو الاقتصار على الأول، فإنه نسخ بالزيادة، وهذا غير الأقسام الثلاثة.

[فالجواب]: أنه لا معنى للاقتصار غيرُ عدم وجوب غيره، وكونه جميع الواجب، وهذا هو القسم الثالث بعينه، غَيَّرْتُم التعبير عنه، وكسوتموه عبارة أخرى.

(الوجه الحادي والعشرون): أن الناسخ والمنسوخ لابد أن يتواردا على محل واحد يقتضي المنسوخ ثبوته، والناسخ رفعه، أو بالعكس، وهذا غير متحقق في الزيادة على النص.

(الوجه الثاني والعشرون): أن كل واحد من الزائد والمزيد عليه دليل قائم بنفسه، مستقل بإفادة حكمه، وقد أمكن العمل بالدليلين، فلا يجوز إلغاء أحدهما، وإبطاله، وإلقاء الحرب بينه وبين شقيقه وصاحبه، فإن كل ما جاء من عند الله فهو حق، يجب اتباعه، والعمل به، ولا يجوز إلغاؤه، وإبطاله إلا حيث أبطله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بنص آخر ناسخ له، لا يمكن الجمع بينه وبين المنسوخ، وهذا -بحمد الله- منتف في مسألتنا، فإن العمل بالدليلين ممكن، ولا تعارض بينهما، ولا تناقض بوجه، فلا يسوغ لنا إلغاء ما اعتبره الله صلى الله عليه وسلم ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما لا يسوغ لنا اعتبار ما ألغاه، وبالله تعالى التوفيق.

(الوجه الثالث والعشرون): أنه إن كان القضاء بالشاهد واليمين ناسخا للقرآن، وإثبات التغريب ناسخا للقرآن، فالوضوء بالنبيذ أيضًا ناسخ للقرآن، ولا فرق بينهما

ص: 86

البتة، بل القضاء بالنكول، ومعاقد القُمُط يكون ناسخا للقرآن، وحينئذ فنسخ كتاب الله بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها أولى من نسخه بالرأي والقياس، والحديث الذي لا يثبت. وإن لم يكن ناسخا للقرآن لم يكن هذا ناسخا له، وأما أن يكون هذا نسخا، وذاك ليس بنسخ، فتحكم باطل، وتفريق بين متماثلين.

(الوجه الرابع والعشرون): أن ما خالفتموه من الأحاديث التي زعمتم أنها زيادة على نص القرآن، إن كانت نستلزم نسخه، فقطع رجل السارق في المرة الثانية نسخ، لأنه زيادة على القرآن، وإن لم يكن هذا نسخا، فليس ذلك نسخا.

(الوجه الخامس والعشرون): إنكم قلتم: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم، وذلك زيادة على ما في القرآن، فإن الله صلى الله عليه وسلم أباح استحلال البُضْع بكل ما يسمى مالا، وذلك يتناول القليل والكثير، فزدتم على القرآن بقياس في غاية الضعف، وبخبر في غاية البطلان، فإن جاز نسخ القرآن بذلك، فلم لا يجوز نسخه بالسنة الصحيحة الصريحة، وإن كان هذا ليس بنسخ لم يكن الآخر نسخًا.

(الوجه السادس والعشرون): إنكم أوجبتم الطهارة للطواف بقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة"، وذلك زيادة على القرآن، فإن الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالطواف، ولم يأمر بالطهارة، فكيف لم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن، وجعلتم القضاء بالشاهد واليمين، والتغريب في حد الزنا نسخا للقرآن.

(الوجه السابع والعشرون): إنكم مع الناس أوجبتم الاستبراء في جواز وطء المَسْبيّة بحديث ورد زائد على كتاب الله، ولم تجعلوا ذلك نسخا له، وهو الصواب بلا شك، فهلّا فعلتم ذلك في سائر الأحاديث الزائدة على القرآن.

(الوجه الثامن والعشرون): إنكم وافقتم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها بخبر الواحد، وهو زائد على ما في كتاب الله تعالى قطعا، ولم يكن ذلك نسخا، فهلا فعلتم ذلك في خبر القضاء بالشاهد واليمين، والتغريب، ولم تعدوه نسخا، وكل ما تقولونه في محل الوفاق يقوله لكم منازعوكم في محل النزاع حرفا بحرف.

(الوجه التاسع والعشرون): أنكم قلتم: لا يفطر المسافر، ولا يقصر في أقل من ثلاثة أيام، والله سبحانه وتعالى قال:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وهذا يتناول الثلاثة، وما دونها، فأخذتم بقياس ضعيف، أو أثر لا يثبت في التحديد بالثلاث، وهو زيادة على القرآن، ولم تجعلوا ذلك نسخا، فكذلك الباقي.

ص: 87

(الوجه الثلاثون): أنكم منعتم قطع من سرق ما يُسرع إليه الفسادُ من الأموال، مع أنه سارق حقيقة، ولغة، وشرعا، لقوله؛ "لا قطع في ثمر، ولا كَثَرَ"، ولم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن، وهو زائد عليه.

(الوجه الحادي والثلاثون): إنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على العمامة، وقلتم: إنها زائدة على نص الكتاب، فتكودن ناسخة له، فلا تقبل، ثم ناقضتم، فأخذتم بأحاديث المسح على الخفين، وهي زائدة على القرآن، ولا فرق بينهما، واعتذرتم بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة، بخلاف المسح على العمامة، وهو اعتذار فاسد، فإن من له اطلاع على الحديث لا يشك في شهرة كل منهما، وتعدد طرقها، واختلاف مخارجها، وثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا.

(الوجه الثاني والثلاثون): إنكم قبلتم شهادة المرأة الواحدة على الرضاع والولادة، وعيوب النساء، مع أنه زائد على ما في القرآن، ولم يصح الحديث به صحته بالشاهد واليمين، ورددتم هذا ونحوه بأنه زائد على القرآن.

(الوجه الثالث): إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لا يُحَرِّم أقلُّ من خمس رضعات، ولا تحُرِّمُ الرضعة، والرضعتان، وقلتم: هي زائدة على القرآن، ثم أخذتم بخبر لا يصح بوجه مّا في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم، أو ما يساويها، ولم تَرَوْه زيادة على القرآن، وقلتم: هذا بيان للفظ السارق، فإنه مجمل، والرسول صلى الله عليه وسلم بينه بقوله:"لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم".

فيا للعجب كيف كان هذا بيانا، ولم يكن حديث التحريم بخمس رضعات بيانا لمجمل قوله:{وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23]، ولا تأتون بعذر في آية القطع، إلا كان مثله، أو أولى منه في آية الرضاع سواءً بسواءٍ.

(الوجه الرابع والثلاثون): إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الجوربين، وقلتم: هي زائدة على القرآن، وجوزتم الوضوء بالخمر المحرمة من نبيذ التمر المسكر بخبر لا يثبت، وهو بخلاف القرآن.

(الوجه الخامس والثلاثون): إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم عن الميت، والحج عنه، وقلتم: هو زائد على قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ثم جوزتم أن تُعمَل أعمالُ الحج كلها عن المغمى عليه، ولم تروه زائدا على قوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وأخذتم بالسنة الصحيحة، وأصبتم في حمل العاقلة الدية عن القاتل خطأ، ولم تقولوا: هو زائد على قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]، واعتذاركم

ص: 88

بأن الإجماع ألجأكم إلى ذلك لا يفيد؛ لأن عثمان الْبَتِّي، وهو من فقهاء التابعين يرى أن الدية على القاتل، وليس على العاقلة منها شيء، ثم هذا حجة عليكم أن تجُمِعَ الأمةُ على الأخذ بالخبر، وإن كان زائدا على القرآن.

(الوجه السادس والثلاثون): إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اشتراط المحرم أن يحل حيث حبس، وقلتم: هو زائد على القرآن، فإن الله أمر بإتمام الحج والعمرة، والإحلال خلاف الإتمام، ثم أخذتم، وأصبتم بحديث تحريم لبن الفحل، وهو زائد على ما في القرآن قطعا.

(الوجه السابع والثلاثون): ردكم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوضوء من مس الفرج، وأكل لحوم الإبل، وقلتم: ذلك زيادة على القرآن؛ لأن الله تعالى إنما ذكر الغائط، ثم أخذتم بحديث ضعيف في إيجاب الوضوء من القهقهة، وخبر ضعيف في إيجابه من القيء، ولم يكن ذاك زائدا على ما في القرآن، إذ هو قول متبوعكم.

فمن العجب إذا قال من قلدتموه قولًا زائدا على ما في القرآن قبلتموه، وقلتم: ما قاله إلا بدليل، وسهل عليكم مخالفة ظاهر القرآن حينئذ، وإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا زائدا على ما في القرآن قلتم. هذا زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ بالسنة، فلم تأخذوا به، واستعصيتم خلاف ظاهر القرآن، فهان خلافه إذا وافق قول من قلدتموه، وصعب خلافه إذا وافق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

(الوجه الثامن والثلاثون): إنكم أخذتم بخبر ضعيف، لا يثبت في إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل من الجنابة، ولم تروه زائدًا على القرآن، ورددتم السنة الصحيحة الصريحة في أمر المتوضىء بالاستنشاق، وقلتم: هو زائد على القرآن، فهاتوا لنا الفرق بين ما يقبل من السنن الصحيحة، وما يرد منها، فإما أن تقبلوها كلها، وإن زادت على ما القرآن، وإما أن تردوها كلها، إذا كانت زائدة على ما في القرآن، وأما التحكم في قبول ما شئتم منها، ورد ما شئتم منها، فمما لم يأذن به الله، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن نشْهِدُ اللهَ شهادة يسألنا عنها يوم نلقاه أنا لا نرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة واحدة صحيحة أبدا، إلا بسنة صحيحة مثلها، نعلم أنها ناسخة لها.

(الوجه التاسع والثلاثون): إنكم رددتم السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسم للبكر سبعا، يفضلها بها على من عنده من النساء، وللثيب ثلاثا، إذا أعرس بهما، وقلتم؛ هذا زائد على العدل المأمور به في القرآن، ومخالف له، فلو قبلنا كنا قد نسخنا به القرآن، ثم أخذتم بقياس فاسد واهٍ، لا يصح في جواز نكاح الأمة لواجد الطَّوْل غير خائف العَنَت، وإذا لم تكن تحته حرة، وهو خلاف ظاهر القرآن، وزائد عليه قطعا.

ص: 89

(الوجه الأربعون): ردكم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط نفقة المبتوتة وسكناها، وقلتم: هو مخالف للقرآن، فلو قبلناه كان نسخا للقرآن به، ثم أخذتم بخبر ضعيف، لا يصح أن عدة الأمة قُرآنِ، وطلاقها طلقتان، مع كونه زائدا على ما في القرآن قطعا.

(الوجه الحادي والأربعون): ردكم السنة الثابتة عق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تخيير ولي الدم بين الدية، أو القَوَد، أو العفو، بقولكم: إنها زائدة على ما في القرآن، ثم أخذتم بقياس من أفسد القياس أنه لو ضربه بأعظم دَبُّوسٍ

(1)

يوجد حتى يَنثُرَ دماغه على الأرض، فلا قود عليه، ولم تَرَوْا ذلك مخالفا لظاهر القرآن، والله تعالى يقول:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، ويقول:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

(الوجه الثالث والأربعون): إنكم أخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه: "لا جمعة، إلا في مصر جامع"

(2)

، وهو مخالف لظاهر القرآن قطعا، وزائد عليه، ورددتم الخبر الصحيح الذي لا شك في صحته عند أحد من أهل العلم في أن كل بَيَّعَين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في وجوب الوفاء بالعقد.

(الوجه الرابع والأربعون): إنكم أخذتم بخبر ضعيف: "لا تقطع الأيدي في الغزو"، وهو زائد على القرآن، وعَدَّيتموه إلى سقوط الحدود عمن فعل أسبابها في دار الحرب، وتركتم الخبر الصحيح الذي لا ريب في صحته في المصرّاة، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن من عدة أوجه.

(الوجه الخامس والأربعون): إنكم أخذتم بخبر ضعيف، بل باطل في أنه لا يؤكل الطافي من السمك، وهو خلاف القرآن، إذ يقول تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]، فصيده ما صِيدَ منه حيا، وطعامه قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو ما مات فيه، صح ذلك عن الصديق، وابن عباس، وغيرهما رضي الله عنهم، ثم تركتم الخبر الصحيح المصرح بأن ميتته حلال، مع موافقته لظاهر القرآن.

(الوجه السادس والأربعون): إنكم أخذتم، وأصبتم بحديث تحريم كل ذي ناب من السباع، وذي مِخْلَب من الطير، وهو زائد على ما في القرآن، ولم تروه ناسخا، ثم تركتم حديث حل لحوم الخيل الصحيح الصريح، وقلتم: هو مخالف لما في القرآن، زائد عليه، وليس كذلك.

(1)

"الدّبُّوس" كتَنُّور، واحد الدبابيس: المقامع. اهـ "ق".

(2)

ضعيف مرفوعا، وإنما هو من قول علي رضي الله عنه. انظر "إتمام الدراية" ج 1 ص 214.

ص: 90

(الوجه السابع والأربعون): إنكم أخذتم بحديث المنع من توريث القاتل، مع أنه زائد على القرآن، وحديث عدم القود على قاتل ولده، وهو زائد على ما في القرآن مع أن الحديثين ليسا في الصحة بذاك، وتركتم الأخذ بحديث إعتاق النبي صلى الله عليه وسلم لصفية، وجعل عتقها صداقها، فصارت بذلك زوجة، وقلتم: هذا خلاف ظاهر القرآن، والحديث في غاية الصحة.

(الوجه الثامن والأربعون): إنكم أخذتم بالحديث الضعيف الزائد على ما في القرآن، وهو:"كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه"، فقلتم: هذا يدل على وقوع طلاق المكره والسكران، وتركتم السنة الصحيحة التي لا ريب في صحتها فيمن وجد متاعه بعينه عند رجل، قد أفلس، فهو أحق به، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، والعجب أن ظاهر القرآن والحديث متوافقان متطابقان، فإن منع البائع من الوصول إلى الثمن، وإلى عين ماله إطعام له بالباطل الغرماءَ، فخالفتم ظاهر القرآن مع السنة الصحيحة الصريحة.

(الوجه التاسع والأربعون): إنكم أخذتم بالحديث الضعيف، وهو:"من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، ولم تقولوا: هو زائد على القرآن في قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وتركتم الحديث الصحيح في بقاء الإحرام بعد الموت، وأنه لا ينقطع به، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وخلاف ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع منه عمله، إلا من ثلاث".

(الوجه الخمسون): رد السنة الثابتة عن وسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الموالاة، حيث أمر الذي تركَ لُمعة من قدمه بأن يعيد الوضوء والصلاة

(1)

، وقالوا: هو زائد على كتاب الله، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على كقال الله في أن أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة.

(الوجه الحادي والخمسون): رد الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لا نكاح إلا بولي، وأنّ مَنْ أنكحت نفسها، فنكاحها باطل، وقالوا: هو زائد على ما في كتاب الله، فإن الله تعالى يقول:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] وقال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [القبرة:234]، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعًا في اشتراط الشهادة في صحة النكاح،

(1)

حديث صحيح أخرجه أبو داود.

ص: 91

والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله: "لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل"، ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي، ولا عدالة الشاهدين، فهذا طرف من بيان تناقض مَنْ ردَّ السننَ بكونها زائدة على القرآن، فتكون ناسخة، فلا تقبل.

(الوجه الثاني والخمسون): إنكم تُجوّزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان: أحدهما: أنه باطل مناف للدين. والثاني: أنه صحيح مؤخر عن الكتاب والسنة، فهو في المرتبة الأخيرة، ولا تختلفون في جواز إثبات حكم زائد على القرآن به، فهلّا قلتم: إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس.

[فإن قيل]: قد دلّ القرآن على صحة القياس، واعتباره، وإثبات الأحكام به، فما خرجنا عن موجب القرآن، ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دلنا عليه القرآن.

[قيل]: فهلّا قلتم مثل هذا في السنة الزائدة على القرآن، وكان قولكم ذلك في السنة أسعد، وأصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين، وعُرْضةٌ للخطأ، بخلاف قول من ضُمِنَتْ لنا العصمة في قوله، وفرض الله علينا اتباعه وطاعته.

[فإن قيل]: القياس بيان لمراد الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص، وأنه أريد بها إثبات الحكم في المذكور في نظيره، وليس ذلك زائدا على القرآن، بل تفسير له، وتبيين.

[قيل]: فهلا قلتم: إن السنة بيان لمراد الله سبحانه وتعالى من القرآن تفصيلا لما أجمله، وتبيينا لما سكت عنه، وتفسيرا لما أبهمه، فإن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل والإحسان والبر والتقوى، ونهى عن الظلم والفوحش والعدوان والإثم، وأباح لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، فكل ما جاءت به السنة، فإنها تفصيل لهذا المأمور به، والمنهي عنه، والذي أَحَلَّ لنا هو الذي حَرَّمَ علينا. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى.

(1)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد دافع هذا الإمام رحمه الله تعالى عن السنة دفاعا لا نظير له، وبَيَّنَ تناقضات القائلين بعدم قبول السنة الصحيحة إذا كانت زائدة على الكتاب بدعوى أن ذلك يؤدي إلى النسخ، حيث إنهم يقبلونها إذا وافقت قول إمامهم، ويلتمسون لها مخارج، وتأويلات لا رَوَاج لها عند النقد، والتحقيق، فلقد كشف رحمه الله عَوَارَهُم، وأبان خللهم، وفَنَّدَ أباطيلهم بما لا تجده في كتاب غيره، فجزاه الله تعالى عن السنة أحسن الجزاء.

(1)

"إعلام الموقعين عن رب العالمين" جـ 2 ص 319 - 347.

ص: 92

وإنما نقلت كلامه بطوله لما فيه من الفوائد الحسان، وليمكنني الإحالةُ إليه في كل موضع يخالفون فيه السنة، ويدفعونها، ويدافعون عن مذهبهم، فيتيسر الرجوع إليه، والوقوف عليه، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق، وهو أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌89 - الاعْتِدالُ فِي الرُّكُوعِ

أي هذا باب ذكر الحديث؛ الدَّالّ على مشروعية الاعتدال في حال الركوع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الاعتدال": مصدر اعتدل: إذا استقام. والمراد به هنا: استواء الظهر والعنق، فلا يرفع رأسه، ولا يطأطئه، بل يجعله متساويا مع ظهره. والله تعالى أعلم بالصواب.

1028 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "اعْتَدِلُوا فِي الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ، كَالْكَلْبِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سويد بن نصر) أبو الفضل، لقبه الشَّاهْ، المروزي، راوية ابن المبارك، ثقة [10]، ت 240 (ت س) تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) الحنظلي المروزي الإمام الحافظ الحجة الثبت [8]، ت 181 (ع) تقدم 32/ 36.

3 -

(سعيد بن أبي عروبة) مهران أبو النضر البصري، ثقة ثبت اختلط بآخره [6] ت 156 (ع) تقدم 34/ 38.

4 -

(حماد بن سلمة) بن دينار أبو سلمة البصري، ثقة عابد، تغير حفظه في آخره، من كبار 8 - ت 167 (ع) تقدم 181/ 288.

5 -

(قتادة) بن دعامة، السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، رأس الطبقة [4] ت سنة بضع عشرة ومائة (ع) تقدم 30/ 34.

6 -

(أنس) بن مالك بن النضر الأنصاري الصحابي الشهي رضي الله عنه تقدم 6/ 6.

ص: 93

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والترمذي، وأنهم بصريون، سوى شيخه، وابن المبارك، فمروزيان (ومنها): أنه يُقَدَّر قبل قولهه: "عن قتادة" لفظ "كلاهما"، فيقال؛ كلاهما عن قتادة، يعني أن كلا من سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة يرويان هذا الحديث عن قتادة (ومنها): أن فيه أنسا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى -2286 - حديثا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، مات سنة 1 أو 2 أو 93 - والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه، وفي الرواية الآتية 53/ 1110 من طريق شعبة، عن قتادة التصريح بسماع قتادة، عن أنس رضي الله عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: اعتدلوا في الركوع) أي توسطوا فيه بين الارتفاع والانخفاض، وقد تقدم في أول الباب أن المراد به استواء الظهر والعنق (و) اعتدلوا في (السجود) أي استووا فيه بوضع الكفين على الأرض، ورفع المرفقين عنها، والبطن عن الفخذين. أفاده الطيبي.

وقال في "الفتح": قوله: "اعتدلوا في السجود": أي كونوا متوسطين بين الافتراش والقبض. وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: لعل المراد بالاعتدال هنا وضع هيئة السجود على وفق الأمر؛ لأن الاعتدال الحسي المطلوب في الركوع لا يتأتى هنا، فإنه هناك استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي. قال: وقد ذكر الْحُكم هنا مقرونا بعلته، فإن التشبه بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصلاة. انتهى. والهيئة المنهي عنها أيضا مشعرة بالتهاون، وقلة الاعتناء بالصلاة. انتهى

(1)

.

(ولا يبسط)"لا" ناهية، والفعل مجزوم بها، وهو من باب نصر (أحدكم) بالرفع على الفاعلية (ذراعيه) بالنصب على المفعولية (كالكلب) أي مثل بسط الكلب، وهو وضع المرفقين مع الكفين على الأرض. وشبهه بالكلب للتنفير عنه. قال القرطبي رحمه الله: لا شك في كراهة هذه الهيئات، ولا في استحباب نقيضها.

والحكمة في النهي عن ذلك أن رفع ذراعيه عن الأرض أقرب إلى التواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة، والأنف من الأرض في السجود، وأبعد عن هيئات الكسالى، فإن الباسط يشعر حاله بالتهاون بالصلاة، وقلة الاعتناء بها

(2)

. والله سبحانه وتعالى أعلم

(1)

"فتح" جـ 2 ص 563.

(2)

راجع "المنهل" ج 5 ص 348.

ص: 94

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -89/ 1028 - وفي "الكبرى" -36/ 1101 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، كلاهما عن قتادة، عنه. وفي 53/ 1110 - و"الكبرى" -52/ 698 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد به بلفظ؛ "أتمّوا الركوع والسجود، فو الله إني لأراكم من خلف ظهري في ركوعكم، وسجودكم". وعن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث الْهُجَيمي، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسا به. وفي 140/ 1103، و"الكبرى" 48/ 690 عن إسحاق بن إبراهيم، عن يزيد بن هارون، عن أبي العلاء، عن قتادة، عنه، بلفظ:"لا يفترش أحدكم ذراعيه في السجود افتراش الكلب". والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن محمَّد بن بشار، عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة به. (م) فيه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن وكيع- وعن محمَّد بن المثنى، وابن بشار، كلاهما عن محمَّد بن جعفر- وعن يحيي بن حبيب، عن خالد بن الحارث- ثلاثتهم عن شعبة به. (د) فيه عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة به. (ت) فيه عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة به. (ق) فيه عن نصر بن علي، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، به.

وأخرجه (أحمد) 3/ 115 و 177 و 179 و 202 و 274 و 291 و 191 و 214 و 109 و 231 (والدارمي) برقم 1328. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو الاعتد الذي الركوع، ومعناه استواء الظهر والعنق، والظاهر أن الأمر للوجوب، إذ لا صارف له. (ومنها): الاعتدال في السجود، والظاهر أن الأمر فيه أيضا للوجوب، لكن ذكر بعضهم فيه صارفا عن الوجوب، وسيأتي ما فيه في [باب الاعتدال في السجود] 53/ 1110 إن شاء الله تعالى. (ومنها): النهي عن مشابهة الكلب في بسط الذراعين في السجود، وقد تقدم قريبا حكمة النهي عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 95

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

‌90 - (بَابُ التَّطْبِيقِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية التطبيق في الصلاة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا هو الذي في النسخة "الهنديّة"، وأما ما وقع في النسخة المطبوعة في المطبعة الميمنية بمصر سنة (1312) من كتابة الترجمة بلفظ:"كتاب التطبيق"، وهو الذي وقع في "الكبرى" أيضًا، وجرى عليه أصحاب الترقيمات، مثل "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبويّ، و"مفتاح كنوز السنة"، و"تيسير المنفعة بكتابي مفتاح كنوز السنة، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبويّ" فمما لا وجه له؛ لأن التطبيق ليس أنواعا حتى يعنون له بـ"كتاب" يتنوع إلى أبواب، فالمناسب أن يُترجم له بـ"باب"، ويُجعل تابعًا للكتاب السابق، فتأمل، والله تعالى أعلم.

و"التطبيق": مصدر طَبَّقَ: قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: هو أن يجمع بين أصابع يديه، ويجعلهما بين ركبتيه في الركوع والتشهّد. انتهى

(1)

.

وقال في "مختار الصحاح": التطبيقُ في الصلاة: جعلُ اليدين بين الفخذين. انتهى

(2)

.

وحاصل المعنى الذي تفيده مجموع الروايات: أن التطبيق هو جمع الكفين، وتشبيك أصابعهما، حتى تختلف، ثم وضعهما بين الركبتين في حالة الركوع. والله تعالى أعلم بالصواب.

1029 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَصَلَّى هَؤُلَاءِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، فَأَمَّهُمَا، وَقَامَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ، قَالَ: إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَاصْنَعُوا هَكَذَا، وَإِذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَفْرِشْ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، فَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اخْتِلَافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدَري، البصري، ثقة [10]، تقدم 42/ 47.

(1)

"النهاية" 3/ 114.

(2)

مختار الصحاح ص 163.

ص: 96

2 -

(خالد بن الحارث) الهُجَيميّ، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصري [7]، تقدم 24/ 26.

4 -

(سليمان) بن مهران الأعمش الإمام الحافظ الحجة الكوفي [5]، تقدم 17/ 18.

5 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعي الفقيه الكوفي، ثقة حجة [5]، تقدم 29/ 33.

6 -

(علقمة) بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد [2]، تقدم 61/ 77.

7 -

(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي مخضرم ثقة مكثر فقيه [2] تقدم 29/ 33.

8 -

(عبد الله) بن مسعود الهذلي الصحابي الشهير رضي الله عنه تقدم 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد انفرد هو به (ومنها): أن الثلاثة الأولين بصريون، والباقون كوفيون (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، والأسود كليهما (ومنها): أن فيه عبد الله مهملا، وقد تقدم غير مرة أنه إذا أطلقه أهل الكوفة، فهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن سليمان) الأعمش، أنه (قال: سمعت إبراهيم) أي النخعي (يحدث) جملة في محل نصب على الحال، وقيل: مفعول ثان لـ"سمع"؛ لأنها من أخوات "ظن"(عن علقمة) بن قيس النخعي (والأسود) ابن يزيد بن قيس النخعي، وهو ابن أخي علقمة (أنهما كانا مع عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه (في بيته) أي بيت عبد الله صلى الله عليه وسلم (فقال: أصلى هؤلاء) يعني الأمير، والذين يتبعونه، وفيه إشارة إلى إنكار تأخيرهم الصلاة (قلنا: نعم) أي صلوا، وفيه مخالفة لما تقدم في 27/ 719 - من طريق عيسى بن يونس، عن الأعمش، ففيه:"قلنا: لا"، فيحتمل أن الواقعة كانت مرتين، أو أرادا بقولهما: نعم بعض من صلى مراعاة لأول الوقت، وبقولهما:"لا" الذين أخروا متابعة للأمير. والله تعالى أعلم.

(فأمهما) أي صلى ابن مسعود بعلقمة، والأسود إماما، وقد تقدم في شرح الحديث -799 - أن الصلاة التي صلى بهما هي الظهر (وقام بينهما) أي توسط في القيام للصلاة

ص: 97

بين علقمة، والأسود، وفي الرواية السابقة -37/ 719 - :"فذهبنا لنقوم خلفه، فجعل أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله". وهذا مذهب ابن مسعود رضي الله عنه، وقد خالفه فيه جمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم إلى الآن، فقالوا: إذا كان مع الإمام رجلان، وقفا وراءه صفا، وتقدم عليهما، وقد تقدم تحقيق هذا بأدلته في 18/ 799 - .

(بغير أذان، ولا إقامة) وهذا أيضا مذهبه رضي الله عنه وبعض السلف من أصحابه، وغيرهم أنه لا يشرع الأذان، ولا الإقامة لمن صلى وحده ممن لم يصل في مسجد الجماعة، وتقدم في 37/ 719 - أن الراجح مشروعيتهما لكل مصل.

(قال) أي ابن مسعود رضي الله عنه (إذا كنتم ثلاثة، فاصنعوا هكذا) يعني القيام مع الإمام صفا واحدا (وإذا كنتم أكثر من ذلك، فليؤمكم أحدكم) أي ليتقدم أحدكم عليكم إماما، وصفوا أنتم وراءه. وفي رواية مسلم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش:"وإذا كنتم ثلاثة، فصلوا جميعًا، وإذا كنتم أكثر من ذلك، فليؤمكم أحدكم". (وليَفرش) بفتح الياء، يقال: فَرَشْت البساطَ، وغيرَهُ، فَرْشًا، من باب قتل، وفي لغة من باب ضَرَب: إذا بَسَطه. قاله في "المصباح". وقال السندي في شرحه: من "أفرش"، يعني أنه بضم الياء رباعيا، أي ليجعلهما كالفراش. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ولا أظنه يصح رباعيا بالمعنى المناسب هنا، فتأمل. والله تعالى أعلم.

(كفيه على فخذيه) الظاهر أنه أراد بالكفين هنا الذراعين، يبين ذلك ما في رواية مسلم:"وإذا ركع أحدكم، فليَفْرش ذراعيه على فخذيه، ولْيَجنَأ، وليطبق بين كفيه، فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراهم". ومعنى قوله: "فليجنأ" -بفتح الياء، وسكون الجيم، آخره همزة-: لينعَطِفْ.

(فكأنما انظر إلى اختلاف أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم)"كأنما" لتشبيه الحالة، وشدة حضورها في ذهنه بحالة رؤيته لها بحاسة البصر، تنبيها على تحقق الأمر، ووقوعه.

وهذا الكلام يتعلق بالتطبيق، ففي رواية المصنف اختصار، كما بينته رواية مسلم المذكورة: "وليطبق بين كفيه، فلكأني الخ.

هذا الذي ذكرته من شرح هذا الموضع هو الموافق لما في سائر الروايات، وقد شرحه السندي بما هو بعيد عن المعنى المراد، فَعَدَل، لكنه ذكر أخيرا ما ذكرته، فَعَدَّل. انظر شرحه جـ 2 ص 184. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه. حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم. وقد تقدم بيان ما يتعلق به من المسائل في 37/ 719 و 799/ 18 - بما فيه الكفاية،

ص: 98

وسأذكر ما يتعلق بحكم التطبيق في الباب التالي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1030 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَمْرٌو -وَهُوَ ابْنُ أَبِي قَيْسٍ

(1)

- عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، وَعَلْقَمَةَ، قَالَا: صَلَّيْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي بَيْتِهِ، فَقَامَ بَيْنَنَا، فَوَضَعْنَا

(2)

أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا، فَنَزَعَهَا

(3)

، فَخَالَفَ بَيْنَ أَصَابِعِنَا، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

(أحمد عن سعيد) بن إبراهيم الرباطي، أبو عبد الله الأشقر المروزي، نزيل نيسابور، ثقة حافظ [11].

روى عن أبي أحمد الزبيري، وأبي داود الطيالسي، والنضر بن شُمَيل، ووهب بن جرير، وغيرهم. وعنه الجماعة، سوى ابن ماجهُ، وابنُ خزيمة، والسراجُ، وغيرُهم.

قال النسائي: ثقة. وقال ابن خراش: ثقة ثقة. وقال الخطيب: ورد بغداد في أيام أحمد، وجالس بها العلماء، وذاكرهم، وكان ثقة فهما عالمًا فاضلا. وقال أبو حاتم الرازي: أدركته، ولم أكتب عنه، وكتب إلى بأحاديث، وكان يتولى على الرباطات. وقال الخليلي في "الإرشاد": ثقة عالم حافظ متقن. وقال أبو علي الحافظ: كان والله من الأئمة المقتدى بهم. وقال محمَّد بن عبد السلام: لم أر بعد إسحاق بن إبراهيم مثله. مات سنة (245) وقيل: سنة (246) في المحرم بقُومَس. روى عنه الجماعة، سوى ابن ماجه

(4)

وله عند المصنف عشرة أحاديث ..

[تنبيه]: قوله: "الرباطي" بكسر الراء المهملة، بعدها موحدة: نسبة إلى موضع رباط الخيل، وملازمة أصحابها الثغر لحفظه من عدو الإسلام، فيقال لفاعل ذلك مرابط. قاله في "اللباب".

(5)

2 -

(عبد الرحمن بن عبد الله) بن سعد بن عثمان الدَّشْتَكِيّ، أبو محمَّد المقرئ الرازي، ثقة [10].

روى عن أبيه، وأبي خيثمة، وعمرو بن أبي قيس، وإبراهيم بن طهمان، وغيرهم.

(1)

سقط من بعض النسخ قوله: "وهو ابن أبي قيس".

(2)

وفي بعض النسخ: "فوضعنا -يعني أيدينا-".

(3)

وفي بعض النسخ: "فنزعهما".

(4)

"تهذيب التهذيب" جـ 1 ص 30.

(5)

"اللباب" جـ 2 ص 14 و"الأنساب" جـ 3 ص 39 - 41.

ص: 99

وعنه ابناه أحمد، وعبد الله، وأحمد بن سعيد الرباطي، وأحمد بن أبي سُرَيج، وغيرهم. ورآه أبو حاتم، وسمع كلامه، وسئل عنه؟ فقال: صدوق، كان رجلًا صالحا. وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: هو وعمرو بن أبي قيس لا بأس بهما، قلت: ثقتان؟ قال: ثقتان. وقال محمَّد بن سعيد بن سابق: لو خالفني، وأنا أحفظ سماعي، لتركت حفظي لحفظه. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وعلق له البخاري في آخر "جزء القراءة خلف الإمام".

(1)

وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث فقط: هذا، وحديث رقم 1730و 2852.

[تنبيه]: "الدشتكي" بفتح الدال المهملة، وسكون الشين المعجمة، وفتح التاء المثناة: نسبة إلى دَشْتَك قرية بالريّ، ومحلة باستراباذ. قاله في "لب اللباب".

(2)

3 -

(عمرو بن أبي قيس) الأزرق الكوفي، نزيل الري، صدوق، له أوهام [8]. روى عن أبي إسحاق السبيعي، ومنصور بن المعتمر، والمنهال بن عمرو، وأيوب السختياني، والزبير بن عدي، وغيرهم. وعنه عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، وحَكَّام بن سَلْم، ومحمد بن سعيد بن سابق، وغيرهم. قال عبد الصمد بن عبد العزيز المقرئ: دخل الرازيون على الثوري، فسألوه الحديث؟ فقال: أليس عندكم ذلك الأزرق -يعني عمرو بن أبي قيس- وقال الآجري، عن أبي داود في حديثه خطأ، وقال في موضع آخر: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: لا بأس به، كان يهم في الحديث قليلًا. وقال أبو بكر البزار في "السنن": مستقيم الحديث. أخرج له الأربعة، وعلق له البخاري.

(3)

وله عند المصنف حديثان فقط: هذا، وحديث رقم 2852.

4 -

(الزبير بن عديّ) الهمداني اليامي، أبو عليّ الكوفي، ولي قضاء الري، ثقة [5] ت 131 (ع) تقدم 1/ 451.

والباقون تقدموا في السند الماضي. وكذا شرح الحديث.

وقوله: "فنزعها" ظاهره أنه فعل ذلك، وهو يصلي.

وقوله: "فخالف بين أصابعنا"، أي بالتشبيك، وهو معنى التطبيق.

وقوله: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله". يعني التطبيق الذي عبر عنه بالمخالفة بين الأصابع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"تهذيب التهذيب" جـ 6 ص 207.

(2)

جـ 1 ص 320.

(3)

"تهذيب التهذيب" جـ 8 ص 93 - 94.

ص: 100

1031 -

(أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، فَقَامَ، فَكَبَّرَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَرَكَعَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعْدًا، فَقَالَ: صَدَقَ أَخِي، قَدْ كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا، ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا -يَعْنِى الإِمْسَاكَ بِالرُّكَبِ-).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(نوح بن حبيب) القُومَسِيّ، أبو محمَّد البَذَشِي، ثقة سنن [10]، ت 242 (د س) تقدم 79/ 1010.

2 -

(ابن إدريس) هو عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي، أبو محمَّد الكوفي، ثقة فقيه عابد [8]، ت 192 (ع) تقدم 85/ 102.

3 -

(عاصم بن كُلَيب) بن شهاب الجرمي الكوفي، صدوق رمي بالإرجاء [5](خت م 4) تقدم 11/ 889.

والباقون تقدموا قريبا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله (ومنها): أن رجاله موثقون، وأنهم من رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو وأبو داود (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فقومسي، -بضم القاف- نسبة إلى قومس، وهي من بِسطام إلى سِمْنَان، ويقال له أيضًا: بَذَشِيّ -بفتحتين نسبة إلى بذش قرية على فرسخين من بسطام (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: عاصم، عن عبد الرحمن، عن علقمة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة) أي كيفيتها (فقام، فكبر) الفاء فيهما تفسيرية، فالجملة المعطوفة تفسير لقوله: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلما أراد) رضي الله عنه (أن يركع طبّق يديه بين ركبيته) أي جمع بين كفيه، وشبك بين أصابع يديه، فجعلهما بين ركبتيه (وركع، فبلغ ذلك سعدا) أي بلغ ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه من تعليمه صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة على الوجه الذي ذكره سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وفيه التطبيق، قاسم الإشارة فاعل "بلغ"، و"سعدا" مفعوله (فقال) أي سعد رضي الله عنه (صدق أخي) يريد ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا تصديق من سعد لابن مسعود رضي الله عنهما فيما ذكره من التعليم (قد كنا نفعل هذا) أي الذي ذكره ابن مسعود رضي الله عنه من التطبيق في حال الركوع

ص: 101

(ثم أمرنا بهذا -يعني الإمساك بالركب) يعني أن التطبيق قد كنا نفعله في أول الأمر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، إلا أنه نسخ، وأمرنا بأخذ الركبتين باليدين.

وفيه أن التطبيق كان من سنة الصلاة -كما قال ابن مسعود رضي الله عنه- ثم نسخ بإمساك الركبتين باليدين، إلا أن ابن مسعود لم يبلغه ذلك، فلذلك كان يعلم أصحابه التطبيق. وسيأتي البحث في نسخه في الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -90/ 1031 - و"الكبرى" -1/ 620 - عن نوح بن حبيب، عن عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عنه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه

(1)

(د) في "الصلاة" عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس به. وأخرجه (أحمد) 1/ 418 (وابن خزيمة) برقم 595. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌91 - (نَسْخُ ذَلِكَ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أن التطبيق المذكور في الباب السابق كان مشروعا، ثم نسخ.

(1)

ذكر في "المنهل العذب المورود" جـ 5 ص 153 - أن مسلما أخرجه، وكذا رمز له الشيخ الألباني في "صحيح النسائي" جـ 1 ص 222 وهو خطأ، فإنه من أفراد أبي داود، والمصنف، فتنبه.

ص: 102

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "النسخ" -بفتح، فسكون-: لغةً الرفعُ، والإزالة، ومنه نسخت الشمس الظلّ، والريحُ الأثرَ، وهو أصل معناه الاصطلاحي، ويطلق النسخ لغة أيضًا على النقل، والتحويل، ومنه تناسخ المواريث، واصطلاحا: رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متراخ عنه. وقيل: بيان لانقضاء زمن الحكم الأول.

قال الحافظ السيوطي رحمه الله في "ألفية المصطلح":

النَّسْخُ رَفْغ أَوْ بَيَانٌ وَالصَّوَابْ

فِي الْحَدَّ رَفْعُ حُكْمِ شَرْعٍ بِخِطَابْ

وقال صاحب "مراقي السعود" رحمه الله تعالى:

رَفْعٌ لِحُكْمِ أَوْ بَيَانُ الزَّمَنِ

بِمُحْكَمِ الْقُرْاَنِ أَوْ بِالسُّنَنِ

فَلَمْ يَكُنْ بِالْعَقْلِ أَوْ مُجرَّدِ

الاجْمَاعِ بَلْ يُنْمَى إِلَى الْمُسْتَنَدِ

وَمَنْعُ نَسْخِ النَّصَّ بِالقِيَاسِ

هُوَ الَذِي ارْتَضَاهُ بَعْضُ النَّاسِ

والله تعالى أعلم بالصواب.

1032 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، وَجَعَلْتُ يَدَيَّ بَيْنَ رُكْبَتَيَّ، فَقَالَ لِي: اضْرِبْ بِكَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، قَالَ: ثُمَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَضَرَبَ يَدِي، وَقَالَ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ هَذَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضْرِبَ بِالأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد، ثقة ثبت [10]، ت 240 (ع) تقدم 1/ 1.

2 -

(أبو عوانة) وضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي، ثقة ثبت [7]، ت 175 (ع) تقدم 41/ 46.

3 -

(أبو يعفور) بفتح التحتانية، وبالفاء، وآخره راء، وهو الأكبر، واسمه وَقدَان بفتح الواو، وسكون القاف، ويقال: واقد، العبدي الكوفي، مشهور بكنيته، ثقة [4].

أدرك المغيرة بن شعبة، وروى عن ابن عمر، وابن أبي أوفى، وأنس، وعرفجة بن شريح، ومصعب بن سعد، وغيرهم. وعنه ابنه يونس، وإسرائيل، وزائدة، والثوري، وشعبة، وأبو الأحوص، وأبو عوانة، وابن عيينة، وغيرهم. قال أبو طالب، عن أحمد: أبو يعفور الكبير اسمه وَقْدان، ويقال: واقد، كوفي ثقة. وقال ابن معين، وعلي ابن المديني: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وذكر ابن حبان في "الثقات"، يقال: مات سنة (120) انتهى. قال الحافظ: بل بعدها بسنتين؛ لأن ابن عيينة سمع منه، وكان ابتداء طلبه بعد العشرين. وذكر مسلم في "الطبقات" اسمه واقد، ولقبه وقدان. انتهى.

ص: 103

أخرج له الجماعة.

(1)

وله عند المصنف ثلاثة أحاديث فقط: هذا، وحديث أكل الجراد برقم 4356 و 4357. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح": أبو يعفور هو الأكبر، كما جزم به المزي، وهو مقتضى صنيع ابن عبد البر، وصرح الدارمي في روايته من طريق إسرائيل عن أبي يعفور بأنه العبدي، والعبدي هو الأكبر بلا نزاع، وذكر النووي في "شرح مسلم" أنه الأصغر، وتعقب. انتهى.

(2)

قال الجامع عفا الله عنه: أبو يعفور الأصغر اسمه عبد الرحمن بن عُبيد بن نِسْطَاس الكوفي، ثقة [5]، (ع).

[تنبيه آخر]: الظاهر أن "يعفور" غير منصرف؛ لأن فيه العلمية، ووزن الفعل، كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة":

كَذَاكَ ذُو وَزْنِ يَخُصُّ الْفِعْلَا

أَوْ غَالِبِ كَأَحمَدٍ وَيَعْلَى

لكن الموجود في كتب الحديث بضبط القلم صرفه، ولم أر أحدا من شراح الحديث تعرض لهذا البحث. والله تعالى أعلم.

4 -

(مصعب بن سعد) بن أبي وقاص القرشي الزهري، أبو زُرَارة المدني، والد زُرَارة بن مصعب، ثقة [3].

روى عن أبيه، وعلي، وطلحة، وعكرمة بن أبي جهل، وعديّ بن حاتم، وابن عمر، وغيرهم. وعنه

عاصم بن بهدلة،، والزبير بن عديّ، والحكم بن عتيبة، وسفيان بن دينار التمّار، وعمرو بن مرة، وغطيف بن أعين، وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال البخاري في "الصغير": لم يسمع من عكرمة بن أبي جهل. وقال البيهقي في "المدخل": حديثه عن عثمان منقطع. قال الحافظُ رحمه الله: ووقفت في "كتاب المصاحف" لابن أبي داود على ما يدلّ على صحة سماعه منه. قال عمرو بن علي، وغير واحد: مات سنة (103). أخرج له الجماعة.

(3)

وله عند المصنف اثنا عشر حديثًا.

5 -

(سعد) بن أبي وقاص وُهَيب الزهري، أحد العشرة رضي الله عنهم تقدم 96/ 121. والله تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب التهذيب" جـ 11 ص 123.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 527.

(3)

"تهذيب الكمال" جـ 28 ص 24 - 26. "تهذيب التهذيب" جـ 10 ص160.

ص: 104

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، (ومنها): أن قتيبة بغلاني، وأبا عوانة واسطي، والباقون مدنيون (ومنها): أن فيه روايةَ تابعي، عن تابعي، وروايةَ الابن عن أبيه، (ومنها): أن صحابيه أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، وأنه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وآخر من مات من العشرة، مات رضي الله عنه سنة (55) على الصحيح. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن مصعب بن سعد) بن أبي وقاص، أنه (قال: صليت إلى جنب أبي) قال ابن منظور رحمه الله: الْجَنْب -بفتح، فسكون-، والْجَنَبَة -محركةً-، والجانب: شِقُّ الإنسان وغيره. تقول: قعدتُ إلى جنب فلان، وإلى جانبه، بمعنى، والجمع جُنُوب، وجَوَانِب، وجَنَاب، والأخيرة نادرة. انتهى.

(1)

(وجعلت يديّ) بصيغة التثنية، وأراد باليدين الكفين، من باب إطلاق الكل، وإرادة الجزء (بين ركبتي) بصيغة التثنية أيضًا، والمراد أنه طبّق بين كفيه، فجعلهما بين ركبتيه، كما فسرته رواية البخاري، من طريق شعبة عن أبي يعفور، ولفظه:"صليت إلى جنب أبي، فطبقت بين كفيّ، ثم وضعتهما بين فخذيّ"

وفي رواية الدارمي من طريق إسرائيل، عن أبي يعفور:"كان بنو عبد الله بن مسعود إذا ركعوا جعلوا أيديهم بين أفخاذهم، فصليت إلى جنب أبي، فضرب يدي"

الحديث.

فأفادت هذه الرواية مستند مصعب في فعل ذلك، وأولاد ابن مسعود أخذوه عن أبيهم.

(2)

(فقال لي: اضرب يكفيك على ركبتيك) أي اجعل كفيك على ركبتيك (قال) مصعب (ثم فعلت ذلك) يعني تطبيق اليدين، وجعلهما بين الركبتين (مرة أُخرى) منصوب على الظرفية متعلق بـ"فعلت" (فضرب يديّ) يعني أن أباه ضرب يديه تأديباله (وقال: إنا قد نهينا عن هذا) أي عن التطبيق، والفعل مبني للمجهول، وقوله (وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب) أي نضع أكفنا على ركبنا.

و"الأكف" -بفتح الهمزة، وضم الكاف، وتشديد الفاء-: جمع كَفّ، كفلس،

(1)

"لسان" جـ 1 ص691

(2)

"فتح" جـ 2 ص 527.

ص: 105

وأفلس، ويجمع على كُفُوف بضم الكاف، كفلوس، قال الأزهري: الكف: الراحة مع الأصابع، سميت بذلك لأنها تكف الأذى عن البدن. انتهى وهي مؤنثة على المشهور.

(1)

و"الرُّكَبُ" -بضم، ففتح- جمع ركبة، كغرْفة وغُرَف. قال المجد رحمه الله: الرُّكبَة -بالضم- مَوْصِل ما بين أسافل أطراف الفخذ، وأعالي الساق، أو موضع الوَظِيف

(2)

والذراع، أو مَرْفِق الذراع من كلّ شيء. انتهى باختصار.

(3)

وهذا الحديث يدل على نسخ التطبيق، بناء على أن المراد بالآمر والناهي في ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الصيغة مختلف فيها، والراجح أن حكمها الرفع، وهو -كما قال الحافظ- مقتضى تصرف البخاري، وكذا مسلم، إذ أخرج الحديث في "صحيحه".

قال السيوطي رحمه الله الله في "ألفية الحديث":

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي

كذَا "أُمرْنَا" وَكذَا "كُنا نَرَى

في عَهْدهِ" أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى

ثَالِثُهَا إِنْ كَانَ لَا يَخْفَى وَفِي

تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي

[تنبيه]: ظاهر الأمر، والنهي يدلان على أن التطبيق غير جائز، وأن الواجب هو أخذ الركبتين؛ لأنه لا صارف لظاهرهما.

قال الإمام ابن خزيمة في "صحيحه": [باب ذكر البيان أن التطبيق غير جائز بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضع اليدين على الركبتين، وأن التطبيق منهي عنه، لا أن هذا من فعل المباح، فيجوز التطبيق، ووضع اليدين على الركبتين جميعا، كما ذكرنا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة في الصلوات، واختلافهم في السور التي كان يقرأ فيها صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وكاختلافهم في عدد غسل النبي صلى الله عليه وسلم أعضاء الوضوء، وكل ذلك مباح، فأما التطبيق في الركوع، فمنسوخ منهي عنه، والسنة وضع اليدين على الركبتين]. انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله تعالى

(4)

.

واعترضه الحافظ في "الفتح"، فقال: وفيه نظر، لاحتمال حمل النهي على الكراهة، فقد روى ابن أبي شيبة من طريق عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه، قال: إذا ركعت،

(1)

راجع "المصباح" ص 535 - 536.

(2)

الوَظِيف: مستدقّ الذّراع والساق. اهـ "ق".

(3)

"القاموس المحيط" ص 117.

(4)

"صحيح ابن خزيمة" جـ 1 ص 301 - 302.

ص: 106

فإن شئت قلت هكذا -يعني وضعت يديك على ركبتيك- وإن شئت طبقت. وإسناده حسن. وهو ظاهر في أنه كان يرى التخيير، فإما أنه لم يبلغه النهي، وإما حمله على كراهة التنزيه. ويدل على أنه ليس بحرام كون عمر وغيره ممن أنكرن لم يأمر من فعله بالإعادة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن اعتراض الحافظ غير صحيح؛ لأن ابن خزيمة رحمه الله احتج بظاهر النهي المرفوع، فلا يعترض عليه إلا بما هو مرفوع، فالاعتراض بقوله علي رضي الله عنه غير صحيح؛ لأنه موقوف، والموقوف لا يعارض المرفوع. ولأنه من البعيد أن يعلم علي رضي الله عنه عنه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التطبيق، ثم يخير هو بينه، وبين الوضع على الركبتين المأمور به على حدّ سواء، هذا من البعد بمكان.

وأما أثر عمر رضي الله عنه، وغيره فإن عدم نقل الأمر بالإعادة لا يستلزم عدم الأمر، ولو سلمنا، فهو رأيهم، فلا يعارض المرفوع.

والحاصل أن ما قاله ابن خزيمة رحمه الله من عدم جواز التطبيق هو الظاهر، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -19/ 1032 - وفي "الكبرى" 2/ 621 - عن قتيبة عن أبي عوانة، عن أبي يعفور العبدي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه. وفي 1033 - و"الكبرى" -622 - عن عمرو بن علي، عن يحيي بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الزبير بن عليّ، عن مصعب به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن أبي الوليد، عن شعبة، عن أبي يعفور، به. (م) فيه عن قتيبة، وأبي كامل الجحدري، كلاهما عن أبي عوانة- وعن خلف بن هشام، عن أبي الأحوص- وعن ابن أبي عمر، عن ابن عيينة- ثلاثتهم عن أبي يعفور به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع- وعن الحكم بن موسى، عن عيسى بن يونس- كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد به. (د) فيه عن حفص بن عمر، عن شعبة به. (ت) فيه عن

(1)

"فتح" جـ 2 ص 528.

ص: 107

قتيبة به. (ق) فيه عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن محمَّد بن بشر، عن إسماعيل به.

وأخرجه (الحميدي) برقم 79 (والدارمي) 1308 و 1309 (وأحمد) 1/ 81 و 182 (وابن خزيمة) برقم 596. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو نسخ التطبيق، وسيأتي الكلام عليه في المسألة التالية (ومنها): أن التطبيق كان أولا مأمورا به، ثم ترك (ومنها): جواز النسخ في الشريعة، ووقوعه (ومنها): الأمر بوضع اليدين على الركبتين، وتقدم أن الراجح فيه كونه للوجوب (ومنها): تعليم الجاهل بسنة الصلاة، وهو فيها، ففي رواية مسلم ما يدل على أن ضرب سعد رضي الله عنه كان وهو يصلي، ولفظه:"فضرب يديّ، فلما صلى قال: قد كنا نفعل هذا، ثم أمرنا أن نرفع إلى الركب"(ومنها): إزالة المنكر باليد، فإن سعد رضي الله عنه ضرب يدي ابنه، لمخالفته الأمر، عملا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". أخرجه مسلم، وأحمد، وأصحاب السنن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم التطبيق:

قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: التطبيق منسوخ عند أهل العلم، لا خلاف بين العلماء في ذلك، إلا ما روي عن ابن مسعود، وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون. انتهى بتصرف

(1)

.

وأخرج الإمام أبو بكر بن المنذرُ رحمه الله بسنده حديث الباب، ثم أخرج أيضا بسند قوي -كما قال الحافظ- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة. -يعني التطبيق-

ثم قال: فقد ثبتت الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وضع يديه على ركبتيه، ودل خبر سعد -يعني حديث الباب- على نسخ التطبيق، والنهي عنه.

ولا يقولن قائل: إن المصلي بالخيار، إن شاء طبّق يديه بين فخذيه، وإن شاء وضع يديه على ركبتيه، لأن في خبر سعد النهي عنه.

وممن روينا عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وضع يديه على ركبتيه، وأمر بوضع اليدين على الركبتين: عمرُ بنُ الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص،

(1)

هكذا نقله في "الفتح" عن الترمذي بتصرف. انظر الجامع جـ 2 ص 115 بنسخة التحفة.

ص: 108

وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، ثم أخرج آثارهم بأسانيدها.

ثم قال: وروينا ذلك عن عروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، والنخعي، وبه قال سفيان الثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وكل من لقيته من أهل العلم.

وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والأسود، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن بن الأسود، يطبقون أيديهم بين ركبهم إذا ركعوا.

وقد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قولًا ثالثا من حديث عاصم بن ضَمْرَة عنه، أنه قال: إذا ركعت، فإن شئت قلت هكذا، وإن شئت وضعت على ركبتيك، وإن شئت قلت هكذا، طبقت. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال النووي رحمه الله: مذهبنا، ومذهب العلماء كافّة أن السنة وضع اليدين على الركبتين، وكراهة التطبيق، إلا ابن مسعود، وصاحبيه: علقمة، والأسود، فإنهم يقولون: إن السنة التطبيق؛ لأنهم لم يبلغهم الناسخ، وهو حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه والصواب ما عليه الجمهور، لثبوت الناسخ الصريح. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل المسألة أنه ذهب ابن مسعود رضي الله عنه، وبعض أصحابه إلى أن السنة في الركوع التطبيق، وذهب جمهور الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم إلى نسخ التطبيق، وأن السنة وضع اليدين على الركبتين. والذي ذهب إليه الجمهور هو الصواب، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع اليدين على الركبتين في الركوع، وصحة نسخ التطبيق:

(منها): حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المذكور في الباب. (ومنها): حديثه الماضي في الباب السابق. (ومنها): حديث عمر رضي الله عنه: "سُنَّت لكم الركب، فأمسكوا بالركب"، وفي رواية:"إنما السنة الأخذ بالركب". وسيأتي في الباب التالي. لأن الصحيح أن الصحابي إذا قال: السنة كذا، أو سُنّ كذا، يريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرفوع حكما، ولا سيما من مثل عمر رضي الله عنه، كما قال في "الفتح"

(3)

.

ويُعتَذر عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأصحابه بعدم وصول خبر النسخ إليهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[فائدة]: حَكَى ابنُ بطال عن الطحاوي، وأقره أن طريق النظر يقتضي أن تفريق

(1)

"الأوسط" جـ 3 ص 152 - 154.

(2)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 15.

(3)

جـ 2 ص 527.

ص: 109

اليدين أولى من تطبيقهما، لأن السنة جاءت بالتجافي في الركوع والسجود، وبالمراوحة بين القدمين. قال: فلما اتفقوا على أولوية تفريقهما في هذا، واختلفوا في الأول اقتضى النظر أن يلحق ما اختلفوا فيه بما اتفقوا عليه، قال: فثبت انتفاء التطبيق، ووجوب وضع اليدين على الركبتين. انتهى كلامه.

وتعقبه الزين ابن المُنَيِّرِ بأن الذي ذكره مُعارَض بالمواضع التي سن فيها الضم، كوضع اليمنى على اليسرى في حال القيام، قال: وإذا ثبت مشروعية الضم في بعض مقاصد الصلاة بطل ما اعتمده من القيام المذكور.

نعم لو قال: إن الذي ذكره يقتضي مزية التفريج على التطبيق، لكان له وجه.

قال الحافظ: وقد وردت الحكمة في إثبات التفريج على التطبيق عن عائشة عز وجل، أو رد سيف في "الفتوح" من رواية مسروق أنهِ سألها عن ذلك؟ فأجابت بما محصله: أن التطبيق من صنيع اليهود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنزَل عليه، ثم أُمِرَ في آخر الأمر بمخالفتهم. والله أعلم. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الموضع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1033 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَكَعْتُ، فَطَبَّقْتُ، فَقَالَ أَبِي: إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كُنَّا نَفْعَلُهُ، ثُمَّ ارْتَفَعْنَا إِلَى الرُّكَبِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس، أبو حفص البصري، ثقةٌ حافظ [10]، ت 249 (ع) تقدم 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان أبو سعيد البصري الإمام الحجة الثبت [9]، ت 198 (ع) تقدم 4/ 4.

3 -

(إسماعيل بن أبي خالد) البجدي الأحمسي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبت [4] ت 146 (ع) تقدم 13/ 471.

4 -

تقدم في الباب الماضي (5)(6) تقدما في السند السابق، وكذلك شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به، تقدّمت في الحديث الماضي، فلا حاجة إلى إعادتها. وبالله تعالى التوفيق.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 528.

ص: 110

وقوله: "ثم ارتفعنا إلى الركب". أي أمرنا بالانتقال من تطبيق الكفين، وجعلهما بين الركبتين، إلى أعلى الركبتين، يريد بذلك وضعهما على الركبتين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌92 - (الإِمْسَاكُ بِالرُّكبِ فِي الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية أخذ الركبة بالكفين.

1034 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: "سُنَّتْ لَكُمُ الرُّكَبُ، فَأَمْسِكُوا بِالرُّكَبِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمَّد بن بشار) أبو بكر البصري، بُنْدَار، ثقة حافظ [10]، ت 252 (ع) تقدم 24/ 27.

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصري، ثقة حافظ، غلط في أحاديث [9]، ت 204 (خت م 4) تقدم 11/ 343.

3 -

(شعبة) بن الحجاج.

4 -

(الأعمش) سليمان بن مهران.

5 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعي تقدموا قبل باب.

6 -

(أبو عبد الرحمن) عبد الله بن حبيب بن رَبِيعَة السَّلَمِي الكوفي المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبت [2]، ت بعد (70)(ع) تقدم 112/ 152.

7 -

(عمر) بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رِيَاح القرشي العدوي أمير المؤمنين، استشهد رضي الله تعالى عنه في ذي الحجة سنة (23)(ع) تقدم 60/ 75. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة (ومنها): أن الثلاثة الأولين بصريون، والباقون كوفيون، غير الصحابي

ص: 111

- رضي الله عنه فمدني (ومنها): أن شيخه هو أحد المشايخ التسعة الذين يروي أصحاب الأصول الستة عنهم بلا واسطة، كشيخه عمرو الماضي في الباب الذي قبله، وقد تقدموا غير مرة (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض: وهم الأعمش، وإبراهيم، وأبو عبد الرحمن السلمي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عمر) بن الخطّاب رضي الله عنه (أنه قال: سنت لكم الركب) ببناء الفعل للمفعول، والجار والمجرور متعلق به، و"الركب" بالرفع نائب الفاعل. أي شُرعَ لكم أخذها، كما بينه بقوله (فأمسكوا بالركب) يحتمل أن يكون من الإمساك رباعيا، أومن الْمَسْكِ، ثلاثيا، فهمزته على الأول همزة قطع، وعلى الثاني همزة وصل.

قال في "القاموس"، و"شرحه": ومَسَكَ به، وأمسك به، وتماسك، وتَمَسَّكَ، واستمسك، ومَسَّكَ تمسيكا، كله بمعنى احتبس، واعتصم به. وقال في "المفردات": إمساك الشيء: التعلق به، وحفظُه، قال الله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وقوله تعالى:{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]: أي يحفظها، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170]: أي يتمسكون به. وقال خالد بن زهير [من الطويل]:

فَكُنْ مَعْقِلاّ فِي قَوْمِكَ ابْنَ خُوَيْلِد

وَمَسَّكْ بِأَسْبَاب أَضَاعَ رُعَاتُها

وقال الأزهري في معنى الآية: أي يؤمنون به، ويحكمون بما فيه. قال: وأما قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فإن أبا عَمْرِو، وابن عامر، ويعقوب الحضرمي قرءوا:{وَلَا تُمْسِكُوا} بتشديدها، وخففها الباقون، وشاهِدُ الاستمساك قوله تعالى:{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]. انتهى.

(1)

والمعنى هنا: خذوا الركب بأكفكم.

والحديث يدلس على مشروعية أخذ الركبيتين بالكفين، وفيه إشارة إلى أن مجرد وضع اليدين على الركبتين، لا يكفي، بل لابد من إمساكهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

"القاموس"، و"شرحه "التاج". جـ 7 ص 177.

ص: 112

حديث عمر رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -92/ 1034 - وفي "الكبرى" -3/ 623 - عن محمَّد بن بشار، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي، عنه. وفي -1035 - والكبرى -624 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن سفيان الثوري، عن أبي حَصِين، عن أبي عبد الرحمن به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ت) في "الصلاة" عن أحمد بن منيع، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصِين به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1035 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "إِنَّمَا السُّنَّةُ

(1)

الأَخْذُ بِالرُّكَبِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي، ثقة [10]، تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك الإمام الحافظ الحجة المروزي [8]، تقدم 32/ 36.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الثبت الحجة [7] تقدم 34/ 38.

4 -

(أبو حَصِين) -بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين- عثمان بن عاصم الأسديّ الكوفي، ثقة ثبت سنين ربما دلس [4]، ت 127 (ع) تقدم 102/ 152.

والباقيان تقدما في السند السابق، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به قد تقدّمت، فلا حاجة إلى إعادتها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

ولفظ "الكبرى": "أما السنة الأخذ بالركب".

ص: 113

‌93 - (بَابُ مَوَاضِعِ الرَّاحَتَيْنِ فِي الرُكوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على محل وضع الراحتين في حال الركوع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الراحتان": تثنية راحة، وهي بطن الكف، وتجمع على رَاح، ورَاحَات. قاله الفيومي.

وقولة: "مواضع الراحتين". كان الأولى أن يقول: "موضع الراحتين" بإفراد "موضع"، كما هو عبارته في "الكبرى"، لكونه أخصر، مع أنه مفرد مضاف يعم، ولعله إنما جمعه باعتبار أن أقل الجمع اثنان، فلكل من الراحتين موضع. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

1036 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِن عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا مَسْعُودٍ، فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ بَيْنَ أَيْدِينَا، وَكَبَّرَ، فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَجَعَلَ أَصَابِعَهُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَجَافَى بِمِرْفَقَيْهِ، حَتَّى اسْتَوَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقَامَ حَتَّى اسْتَوَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَناد بن السَّرِي) بن مصعب التميمي، أبو السري الكوفي، ثقة [10]، ت 243 (عخ م 4) تقدم 23/ 25.

2 -

(أبو الأحوص) سلّام بن سليم الحنفي مولاهم الكوفي، ثقة متقن صاحب حديث [7] ت 179 (ع) تقدم 79/ 96.

3 -

(عطاء بن السائب) الثقفي، أبو محمَّد، أو أبو السائب الكوفى، صدوق اختلط [5] ت 136 (خ 4) تقدم 152/ 243.

4 -

(سالم) البرّاد، أبو عبد الله الكوفي، ثقة [3].

روى عن ابن مسعود، وأبي مسعود، وأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم. وعنه عبد الملك بن عمير، وإسماعيل بن أبي خالد، والقاسم بن أبي بَزَّة. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: كان من خيار المسلمين. وقال همام، عن عطاء بن السائب: حدثني سالم البرّاد، وكان أوثق عندي من نفسي. وقال الآجري، عن أبي داود: كوفي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن خلفون: وثقه ابن المديني. انفرد به أبو

ص: 114

داود، والمصنف، وله عندهما حديث الباب فقط

(1)

.

5 -

(أبو مسعود) عقبة بن عمرو بن ثعلبة البدري الصحابي الشهير رضي الله عنه مات قبل (40) وقيل: بعدها (ع) تقدم 6/ 494.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله ثقات، سوى عطاء بن السائب، فقد اختلط (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين (ومنها): أن فيه سالما البرّاد انفرد به المصنف، وأبو داود، وليس له عندهما سوى هذا الحديث (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي (ومنها): أن أبا مسعود رضي الله عنه يقال له: البدري، لكونه شهد وقعة بدر، على ما قاله البخاري، ومسلم، أو لكونه سكن بدرا، على ما قاله غيرهما. والله سبحانه وتعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: "في حديثه" يتعلق بقوله: "أخبرنا"، يعني أن هنادا أخبر المصنف، ومن معه بهذا الحديث في جملة حديثه الذي حدث به عن أبي الأحوص. والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: سالم هذا يقال له: "البرّاد"- كما يأتي للمصنف في السند التالي -وهو بفتح الباء الموحدة، وتشديد الياء المهملة-: نسبة إلى بيِع البُرُود، أو إلى تبريد الماء في الكِيزان، والجِرَار. أفاده في "لب اللباب" جـ 1 ص 111 والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن سالم) أبي عبد الله البّرَّاد، وفي رواية لأحمد من طريق همام، عن عطاء، قال: حدثنا سالم البرّاد، قال: وكان عندي أوثق من نفسي

(2)

. أنه (قال: أتينا أبا مسعود) عقبة بن عمرو رضي الله عنه (فقلنا له: حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عن كيفيتها (فقام بين أيدينا) أي أَمَامَنَا. ولأبي داود: "فقام بين أيدينا في المسجد".

وإنما أجابهم بالفعل، لكونه أوقع في النفس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن وقت الصلاة؟. "صل معنا هذين اليومين"، ثم علمه بالفعل، وقد تقدم في "كتاب الموقيت".

وفي الرواية التالية: "قال: ألا أصلي لكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقلنا: بلى". . .

(1)

"تهذيب الكمال" جـ 10 ص 175 - 177. "تهذيب التهذيب" جـ 3 ص 444.

(2)

انظر "المسند" جـ 4 ص 119.

ص: 115

(وكبر) وفي نسخة "فكبر" بالفاء (فلما ركع وضع راحتيه) أي باطني كفيه (على ركبتيه) وفيه أن المشروع وضع الكفين على الركبتين، لا التطبيق (وجعل أصابعه أسفل من ذلك) أي جعل أبو مسعود رضي الله عنه أصابع يديه أسفل من موضع الراحتين إلى الساق. وفي الرواية الآتية:"وجعل أصابعه من وراء ركبتيه"، وفي رواية لأحمد من طريق زائدة، عن عطاء:"ووضع يديه على ركبتيه، وفرج بين أصابعه من وراء ركبتيه". وفي رواية له من طريق همام، عن عطاء:"فوضع كفيه على ركبتيه، وفُصِلَت أصابعه على ساقيه".

(وجافى بمرفقيه) الباء زائدة؛ لأن "جافى" يتعدى بنفسه، يقال: جافيت جنبي عن الفراش، فتجافى

(1)

. ومُتَعَلَّقُهُ محذوف، أي "عن جنبيه" أي أبعد مرفقيه عن جنبيه. و"المرفق" بوزن مِنبر، ومسجِد: موصل الذراع بالعضد.

وفي الرواية الآتية: "وجافى إبطيه"(حتى استوى كل شيء منه) متعلق بمحذوف، أي استمرّ في الركوع حتى استقر كل عضو مخه في موضعه، وهو كناية عن الطمأنينة. و"كل شيء" بالرفع على الفاعلية، و"منه" متعلق بمحذوف صفة لـ"شيء" (ثم قال: سمع الله لمن حمده، فقام حتى استوى كل شيء منه) أي استمر قائما حتى ثبت كل عضو منه في موضعه.

وزاد في رواية زائدة الآتية: "ثم سجد، فجافى إبطيه، حتى استقرّ كل شيء منه، ثم قعد، حتى استقرّ كل شيء منه، ثم سجد، حتى استقرّ كل شيء منه، ثم صنع كذلك أربع ركعات، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وهكذا كان يصلي بنا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: في سنده عطاء بن السائب، وهو مختلط، فكيف يصح؟.

[أجيب]: بأن من جملة من رواه عنه زائدة بن قدامة، كما يأتي للمصنف في الباب التالي، وهو من متقدمي أصحابه الذين أخذوا عنه قبل اختلاطه، كما في "تهذيب التهذيب" جـ 7 ص 207.

وقد نظمت الذين أخذوا عنه قبل الاختلاط، فقلت:

(1)

انظر "اللسان" جـ 1 ص 646.

ص: 116

يَا أَيهُا الطَّالِبُ لِلفَائِدَةِ

اعْلَمْ هَدَاكَ الله لِلسَّعَادَةِ

أَنَّ عَطَاءَ ابْنَ سَائِبٍ خَلَطْ

فَبِالرُّوَاةِ مَيَّزُوهُ فَانْضَبَطْ

فَمَا رَوَى شُعْبَةُ وَالثوْرِيُ

زُهَيرُ إِسْرَائِيلُ

(1)

قُلْ مَرْضيُّ

أَيوبُ زَائِدَةُ وَابنُ زَيْدِ

وَابْنُ عُيَيْنَةَ

(2)

كَذا ذُو أَيْدِ

وَالخُلْفُ فِي حمّادِ ابن سَلَمَهْ

وَرَجَّحِ الْوَقْفَ تَكُنْ ذَا مَكْرَمَهْ

وَهَكَذَا حَرَّرَهُ الأَعْلَامُ

فَاخفَظْ فَكُلُّ حَافِظِ إِمَامُ

وقولي: "وابن زيد" هو حماد بن زيد.

والحاصل أن هذا الحديث صحيح، لا علة فيه.

قال الحاكم في "مستدركه" جـ 1/ 222: صحيح الإسناد، ووافقه الحافظ الذهبي، وضعفه الشيخ الألباني، لأجل عطاء، فإنه قال بعد نقل تصحيح الحاكم: ما معناه: لكن عطاء كان اختلط، وليس في رواة هذا الحديث عنه من روى عنه قبل الاختلاط، إلى آخر كلامه. انظر "الإرواء" جـ 2 ص 75.

قال الجامع عفا الله عنه: قد وُجد -ولله الحمد- مَن روى عنه قبل الاختلاط عند المصنف رحمه الله-94/ 1037 - وهو زائدة بن قُدامة، كما تقدم، فصح تصحيح الحاكم، والذهبي رحمهما الله تعالى. فتبصر. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 93/ 1036 - وفي الكبرى -4/ 624 - عن هناد بن السري، عن أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن سالم البرّاد، عنه. و-94/ 1037 - و"الكبرى" -5/ 625 - عن أحمد بن سليمان الرهاوي، عن حسين الجعفي، عن زائدة بن قدامة،

عن عطاء به. و 95/ 1038 - و"الكبرى" -6/ 626 - عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية، عن عطاء به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن زُهَير بن حرب، عن جرير بن عبد الحميد، عن عطاء به.

وأخرجه (أحمد) 4/ 119 و 120 و 5/ 274 (والدارمي) برقم 1310 (وابن خزيمة)598. (والحاكم في المستدرك) 1/ 222. وقال: صحيح الإسناد. والله تعالى أعلم.

(1)

هو ابن يونس زاده في "تحفة الأشراف" 7/ 235.

(2)

ابن عيينة زاده الحافظ ابن رجب في "شرح علل الترمذي".

ص: 117

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان موضع الراحتين في حال الركوع، وذلك أن توضعا على الركبتين، وترسل الأصابع على أعلى الساقين (ومنها): ما كان عليه السلف من تتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال عنه حتى يقتدوا به، امتثالا لقول الله عز وجل:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال الله صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. (ومنها): التعليم بالفعل بدلا من القول، ليكون أوقع في النفس، وأثبت حيث يشاهده السائل بحاسة البصر (ومنها): مجافاة المرفقين عن الجنبين (ومنها): الطمأنينة في كل من الركوع، والاعتدال، والسجود، والجلوس بين السجدتين حتى تستقر المفاصل في مواضعها. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقِى إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌94 - (بَابُ مَوْضِعِ أَصَابع الْيَدَيْنِ فِي الرُّكوعِ).

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على محل وضع أصابع اليدين في حال الركوع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الأصابع": جمع إِصبع. قال الفَيُّومي رحمه الله: مؤنثة، وكذلك سائر أسمائها، مثلُ الخِنصِرِ، والْبِنْصِرِ، وفي كلام ابن فارس ما يدلّ على تذكير الأصبع، فإنه قال: الأجود في أصبع الإنسان التأنيث. وقال الصَّغَاني أيضا: يذَكَّر، ويؤنَّثُ. قال بعضهم: وفي الأصبع: عشر لغات: تثليث الهمزة، مع تثليث الباء، والعاشر: أُصْبُوع، وِزَان عُصْفُور، والمشهور من لغاتها كسر الهمزة، وفتح الباء، وهي التي ارتضاها الفصحاء، انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

1037 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّهَاوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَلَا أُصَلِّي بِكُمْ، كَمَا رَأَيْتُ

(1)

"المصباح المنير" ص 332.

ص: 118

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي؟ فَقُلْنَا: بَلَى، فَقَامَ، فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَجَعَلَ أَصَابِعَهُ مِنْ وَرَاءِ رُكْبَتَيْهِ، وَجَافَى إِبْطَيْهِ حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَامَ حَتَّى اسْتَوَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ سَجَدَ، فَجَافَى إِبْطَيْهِ، حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ قَعَدَ حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ سَجَدَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ صَنَعَ كَذَلِكَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَهَكَذَا كَانَ يُصَلِّي بِنَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان الرُّهاوي) بن عبد الملك، أبو الحسين، ثقة حافظ [11]، ت 261 (3) تقدم 38/ 42.

[تنبيه]: "الرُّهاوي": بضم الراء المهملة، وتخفيف الهاء-: نسبة إلى مدينة الرُّهَا من بلاد الجزيرة. أفاده في "لب اللباب " جـ 1 ص 363.

2 -

(حسين) بن علي بن الوليد الجعفى الكوفى المقرئ، ثقة عابد [9]، ت 203 أو [4](ع) تقدم 74/ 91.

3 -

(زائدة) بن قُدَامَة الثقفي، أبو الصلت الكوفي، ثقة ثبت صاحب سنة [7] ت 160 أو بعدها (ع) تقدم 74/ 91.

والباقون تقدموا في الذي قبله، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به.

وموضع الاستدلال من الحديث لما ترجم له المصنف قوله: "وجعل أصابعه من وراء ركبتيه". وهو بمعنى ما تقدم: "وجعل أصابعه أسفل من ذلك". فيستفاد منه أن موضع الأصابع تحت الركبتين على أعلى الساق. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله: "أبي عبد الله" بالجر بدل من سالم.

وقوله: "أربع ركعات" بالنصب حال، أو مفعول مطلق على النيابة لـ"صنع"، والأصل: صَنَعَ صُنعا أربع ركعات.

وقوله: "وهكذا كان يصلي بنا"، أي هذه الكفية كان يصليها لنفسه، وكان يصليها معنا إماما، فلا تختلف صلاته صلى الله عليه وسلم في الكفية المذكورة بكونه إماما، أو مفردا. وفي رواية لأحمد:"أو هكذا كان يصلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، بـ"أو" التي للشك. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 119

‌95 - (بَابُ التَّجَافِ فِي الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الذال على مشروعية تجافي الإبطين عن الجنبين في حال الركوع.

1038 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَالِمٍ الْبَرَّادِ، قَالَ: قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: أَلَا أُرِيكُمْ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي؟ قُلْنَا: بَلَى، فَقَامَ، فَكَبَّرَ، فَلَمَّا رَكَعَ جَافَى بَيْنَ إِبْطَيْهِ حَتَّى لَمَّا اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ هَكَذَا، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) بن كثير بن أفلح العبدي مولاهم الدورقي، أبو يوسف البغدادي، ثقة حافظ [10]، ت 252 وله 96 سنة (ع) تقدم 21/ 22.

وهو أحد المشايخ الذين يروي عنهم أصحاب الأصول كلهم بلا واسطة.

2 -

(ابن علية) إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسدي مولاهم، أبو بِشْر البصري، ثقة حافظ [8]، ت 193 (ع) تقدم 18/ 19.

والباقون تقدموا، وكذا شرح الحديث، ومتعلقاته.

ومحل استدلال المصنفُ رحمه الله لما ترجم له قوله: "فلما ركع جافى بين إبطيه".

قال السندي رحمه الله: قوله: "جافى بين إبطيه". لابد من إضافة "بين" إلى متعدد، فيتوهم أن ذلك المتعدد ها هنا "إبطيه" بالتثنية، وليس كذلك، بل "إبطيه" أحد طرفي المتعدد، والطرف الثاني محذوف، أي بين إبطيه، وبين ما يليهما من الجنب. والمعنى بين كل من إبطيه، وما يليهما من الجنب.

والحاصل أن المراد بإبطيه كل واحد منهما، فما بقي متعددا فلابد من اعتبار أمر آخر، يحصل بالنظر إليه التعدد، وهذا معنى قول من قال: أي يُنَحِّي كلَّ إبط عن الجنب الذي يليها، ولو أبقى الكلام على ظاهره لم يستقم كما لا يخفى. انتهى كلام السندي رحمه الله تعالى

(1)

.

[فائدة]: اختلف النحاة في "لما" الواقعة في نحو "لما جاءني أكرمته".

قال العلامة ابن هشام الأنصاري رحمه الله في كتابه "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب"

(1)

"شرح السندي" جـ 2 ص 186 - 187.

ص: 120

في تعداد معاني "لمّا": (الثاني): من أوجه "لما" أن تختص بالماضي، فتقتضي جملتين، وجدت ثانيتهما عند وجود أولاهما، نحو "لما جاءني أكرمته" ويقال فيها: حرف وجود لوجود، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وزعم ابن السّرّاج، وتبعه الفارسي، وتبعهما ابن جني، وتبعهم جماعة أنها ظرف بمعنى "حين"، وقال ابن مالك: بمعنى "إذْ"، وهو حسن؛ لأنها مختصة بالماضي، وبالإضافة إلى الجملة. انتهى

(1)

.

فـ "لما" في قول المصنف رحمه الله: "حتى لما استقر كل شيء منه" الخ تحتمل المعاني المذكورة، وكونها بمعنى "إذ" أوضح، أي استمر راكعا إلى أن رفع رأسه وقت استقرار كل شيء منه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌96 - (بَابُ الاعْتِدَالِ فِي الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية الاعتدال في حال الركوع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاعتدال": مصدر "اعتدل": إذا استوى، يقال: عدّلته تعديلا، فاعتدل، أي سؤيته، فاستوى. قاله في "المصباح". والمراد به هنا استواء الظهر والرأس، كما يأتي تفسيره في الحديث.

وقد تقدم للمصنف ذكر هذه الترجمة قبل ستة أبواب، وأرد هناك حديث أنس رضي الله عنه:"اعتدلوا في الركوع والسجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه كالكلب". ولعله أراد هنا بالاعتدال عدم رفع رأسه، وخفضه، بل يسويه بظهره، كما هو المستفاد من الحديث المذكور هنا، وأراد هناك مجافاة الإبطين عن الجنبين، ورفعَ الذراعين عن الفخذين، كما هو المستفاد من الحديث المذكور هناك. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

1039 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَكَعَ اعْتَدَلَ، فَلَمْ يَنْصِبْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُقْنِعْهُ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ).

(1)

"مغني اللبيب" جـ 1 ص 280.

ص: 121

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمَّد بن بشار) بندار البصري، ثقة حافظ [10]، تقدم 24/ 27.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام الحجة الثبت [9]، تقدم 2/ 2.

3 -

(عبد الحميد بن جعفر) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاري المدني، صدوق رمي بالقدر، وربما وهم [6]، ت 153 (خت م 4) تقدم 26/ 914.

4 -

(محمَّد بن عمرو بن عطاء) بن عياش بن علقمة بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ودّ ابن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي القرشي العامري، أبو عبد الله المدني، وقيل: إنه مولى لبني عامر بن لؤي، ثقة [3].

روى عن أبي حميد الساعدي في عشرة من الصحابة، منهم أبو قتادة الأنصاري، وعن ابن عباس، وابن الزبير، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه أبو الزناد، ووهب بن كيسان، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، وعبد الحميد بن جعفر، وجماعة.

قال أبو زرعة، والنسائي؛ ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث. وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه: حدثني محمَّد بن عمرو بن عطاء، وكان امرأ صدق. وقال ابن سعد: كانت له هيئة ومروءة، وكان ثقة، وله أحاديث، وتوفي بالمدينة في خلافة الوليد بن يزيد. وقال ابن حبان: توفي في خلافة هشام بن عبد الملك، وله ثلاث وثمانون سنة. وقيل: تسعون سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث

(1)

.

4 -

(أبو حميد الساعدي) المنذر بن سعد بن المنذر، وابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: عمرو، صحابي مشهور شهد أحدا وما بعدها، وعاش إلى خلافة يزيد سنة (60)(ع) تقدم 36/ 729. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، غير عبد الحميد، وقد وُثق، وكلهم من رجال الجماعة، وأنهم مدنيون غير شيخه، ويحيى، فبصريان (ومنها): أن شيخه أحد من اتفق الجماعة بالرواية عنه بلا واسطة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي حميد الساعدي) رضي الله عنه، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع اعتدل) أي

(1)

"تهذيب الكمال" جـ 26 - 210 - 212. "تهذيب التهذيب" جـ 9 ص 373 - 375.

ص: 122

استوى، وتوسط بين الارتفاع والانخفاض، ثم فسر الاعتدال بقوله (فلم يَنصِبْ رأسه) أي لم يرفعه، يقال: نصبت الخشبةَ من باب ضرب: أقمتُها، ونصبت الحجر: رفَعتُه علامةً. قاله الفيومي

(1)

.

ويحتمل أن يكون بمعنى لم يخفضه، فإن النصب يطلق على الرفع والخفض، قال رحمه الله: ونصب الشيءَ: ورفعه، ورفعه، ضدّ انتهى

(2)

.

(ولم يُقنعه) بضم الياء، من الإقناع، أي لم يخفضه، أو لم يرفعه، فإن الإقناع يطلق أيضًا على الرفع، وعلى الخفض، من الأضداد، كما نقله المرتضى الزَّبيدي في "شرح القاموس" عن الزمخشري

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فتحصل مما ذكر أن النصب، والإقناع يطلقان من باب الأضداد على الرفع والخفض، فإذا فسر أحدهما هنا بالرفع يفسر الآخر بالخفض. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال ابن الأثير رحمه الله: ووقع في بعض النسخ "فلم ينصب"، والمشهور "فلم يُصَوِّب"، أي لم يخفضه جدّا، وعلى هذا فالإقناع بمعنى الرفع، وكذا على ما في بعض النسخ:"فلم يَصُبَّ" من صَب الماءَ، والمراد الإنزال، يحمل الإقناع على معنى الرفع. قاله السندي رحمه الله تعالى

(4)

.

ووقع في رواية للبخاري: "ثم هصر ظهره".- بالهاء، والصاد المهملة المفتوحتين، أي ثَنَاه في استواء من غير تقويس. ذكره الخطابي. وفي رواية "غير مقنع رأسه، ولا مصوبه"، وفي رواية لأبي داود:"فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتَّرَ يديه، فتجافى عن جنبيه".

[تنبيه]: هذا الحديث أورده المصنف رحمه الله في أربعة مواضع، وقد اختصره في كلها، وقد ساقه البخاري، وأبو داود، وابن ماجه مطولا ومختصرا، وأتمها سياق ابن ماجه، ولفظه:

عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم أبو قتادة، فقال أبو حميد:

(1)

"المصباح المنير" ص 607.

(2)

"القاموس المحيط" ص 177.

(3)

قال في "تاج العروس": قال الزمخشري: وقيل: الإقناع من الأضداد، يكون رفعا، ويكون خفضا. انتهى جـ 5 ص 488.

(4)

"شرح السندي" جـ 2 ص 187.

ص: 123

"أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لِمَ؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تَبَعَة، ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فاعرِضْ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر، ثم رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ويقِرَّ كل عضو منه في موضعه، ثم يقرأ، ثم يكبر، ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع، ويضع راحتيه على

ركبتيه معتمدا، لا يَصُبّ رأسه، ولا يُقنِع، معتدلا، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حتى يقر كل عظم إلى موضعه، ثم يهوي إلى الأرض، ويجافي بين يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه، ويَثْنِي رجله اليسرى، فيقعد عليها، ويفتخ

(1)

أصابع رجليه إذا سجد، ثم يسجد، ثم يكبر، ويجلس على رجله اليسرى حتى يرجع كل عظم منه إلى موضعه، ثم يقوم، فيصنع في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع عند افتتاح الصلاة، ثم يصلي بقية صلاته هكذا، حتى إذا كانت السجدة التي ينقضي فيها التسليم أخر إحدى رجليه، وجلس على شقه الأيسر متورّكا".

قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(ووضع يديه على ركبتيه) فيه أن الوضع هو المشروع، لا التطبيق؛ لأنه منسوخ، كما تقدم. وفي رواية البخاري:"وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه". والله سبحانه وتعالى أعلم يالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -96/ 1039 - و 138/ 1101 - وفي "الكبرى" -7/ 627 - و 46/ 688 - عن محمَّد بن بشار، عن يحيي القطان، عن عبد الحميد بن جعفر، عن محمَّد بن عمر وابن عطاء، عنه. و 2/ 1181 و 29/ 1263 - و"الكبرى" 38/ 1104 و 64/ 1185 - عن يعقوب ابن إبراهيم، ومحمد بن بشار، كلاهما عن يحيي القطان به. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن يحيي بن بكير، عن الليث، عن خالد بن يزيد الجمحي، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة، عن محمَّد بن عمرو

(1)

بالخاء المعجمة، وأصل الفتح التليين، والمراد أنه يَثني أصابع رجليه حتى تكون إلى جهة القبلة.

(2)

"سنن ابن ماجه" جـ 1 ص 337 - 338. رقم 1061.

ص: 124

بن عطاء به. وعن يحيي بن بكير، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، ويزيد بن محمَّد، كلاهما عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة به. (د) فيه عن أحمد بن حنبل، عن أبي عاصم الضحاك،- وعن مسدد، عن يحيي القطان- كلاهما عن عبد الحميد به. وعن قتيبة، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب به. وعن عيسى بن إبراهيم المصري، عن ابن وهب، عن الليث به. (ت) فيه عن محمَّد بن بشار، ومحمد بن المثنى، كلاهما عن يحيي القطان به. وعن محمَّد بن بشار، والحسن بن علي الخلال، وسلمة بن شبيب، وغير واحد، كلهم عن أبي عاصم به. (ق) فيه عن علي بن محمَّد الطنافسي، عن أبي أسامة، عن عبد الحميد به. وعن محمَّد بن بشار، عن يحيي بن سعيد، وأبي عاصم، فرقهما به.

وأخرجه (أحمد) 5/ 424 (والدارمي) رقم 1363 (وابن خزيمة) 587 و 643 و 651 و 652 و 685 و700 و 588 و 625 و 677. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية الاعتدال، وقد تقدم البحث عنه 89/ 1038 (ومنها): أن فيه تفسير الاعتدال المترجم له هنا، وهو عدم رفع الرأس، وعدم خفضه، بل يسويه المصلي بظهره (ومنها): وضع اليدين على الركبتين، وعدم تطبيقهما، وقد تقدم تمام الكلام فيه في 91/ 1032. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وماتوفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌97 - (النَّهْي عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة عن قراءة القرآن في حال الركوع.

قال الراغب الأصفهانيّ: "النهي": الزجر عن الشيء، وهو من حيث المعنى لا فرق بين أن يكون بالقول، أو بغيره، وما كان بالقول، فلا فرق بين أن يكون بلفظة "افعل"، نحو اجتنب كذا، أو بلفظة "لا تفعل"، ومن حيث اللفظ هو قولهم: لا تفعل كذا، فإذا قيل: لا تفعل كذا، فنهي من حيث اللفظ والمعنى جميعا. انتهى كلام الراغب

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

"مفردات الألفاظ" ص 826.

ص: 125

1040 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَهَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقَسِّيِّ، وَالْحَرِيرِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَأَنْ أَقْرَأَ، وَأَنَا رَاكِعٌ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: وَأَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) اليشكري، أبو قُدَامة السرخسي، نزيل نيسابور، ثقة مأمون سنين [10]، ت 241 (خ م س) تقدم 15/ 15.

2 -

(حماد بن مسعدة) بفتح الميم، وسكون سين مهملة- التميمي، ويقال: التيمي، ويقال: مولى باهلة، أبو سعد البصري، ثقة [9].

روى عن حميد الطويل، وسليمان التيمي، وهشام بن عروة، وأشعث الحمراني، وغيرهم. وعنه أحمد، وإسحاق، والفلاس، وبندار، وعبيد الله بن سعيد، وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة. وقال ابن شاهين: ثقة ثقة لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى، وتوفي بالبصرة في جمادى الآخرة سنة (202) وقال غيره في رجب. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (8) أحاديث

(1)

.

3 -

(أشعث) بن عبد الملك الحُمْرَاني

(2)

أبو هانئ البصري، مولى حُمْران، ثقة فقيه [6]، وتقدم في 129/ 192.

(4)

(محمَّد) بن سيرين، الأنصاري، أبو بكر ابن أبي عمة البصري، ثقة ثبت عابد كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3]، ت110 (ع) تقدم 46/ 57.

5 -

(عَبِيدة) بن عمرو، ويقال: ابن قيس بن عمرو السلماني -بسكون اللام، ويقال: بفتحها- المرادي، أبو عمرو الكوفي، تابعي كبير مخضرم، ثقة ثبت [2] وسلمان بطن من مُراد، وهو ابن ناجية بن مراد. تقدم في 14/ 473.

6 -

(علي) بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي رضي الله عنه تقدم 74/ 91. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فمن أفراده هو، والبخاري، وأبي داود،

(1)

"تهذيب الكمال" جـ 7 ص 283 - 285. "تهذيب التهذيب" جـ 3 ص 19 - 20.

(2)

بضم المهملة، وسكون الميم: نسبة إلى حمران مولى عثمان رضي الله عنه.

ص: 126

وشيخه سرخسي، نزيل نيسابور، وعبيدة، وعلي كوفيان، والباقون بصريون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي (ومنها): أن أصح الأسانيد: محمدُ بن سيرين، عن عبيدة، عن علي رضي الله عنه كما تقدم عن ابن المديني، وعمرو الفلاس، وإلى هذا أشار السيوطي رحمه الله في ألفية المصطلح في تعداد أصح الأسانيد حيث قال:

ثُمَّ ابْنُ سِيرِنَ عَنِ الْحَبْرِ الْعَلِي

عَبِيدَةِ بِمَا رَوَاهُ عَنْ عَلِي

والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه (قال: نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن القسّي) أي عن لبس الَقسّيّ، وهو بفتح القاق، وكسر الراء المشددة: نسبة إلى القَسِّ. قال ابن منظور: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يُؤتى بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبا من تِنِّيسَ، يقال لها الْقَسِّ بفتح القاف، وأصحاب الحديث يقولونه بكسر القاف، وأهل

مصر بالفتح. قال أبو عبيد: هو منسوب إلى بلاد يقال لها: القَسِّ، قال: وقد رأيتها، ولم يعرفها الأصمعي. وقيل: أصل القسّيّ الْقَزِّيّ -بالزاي- منسوب إلى الْقَزّ، وهو ضرب من الإِبْرَيسَمِ، أُبدل الزاي سين، وأنشد لربيعة بن مَقْرُومٍ:[من الوافر]

جَعَلْنَ عَتِيقَ أَنْمَاطٍ خُدُورًا

وَأَظْهَرْنَ الْكَرَادِيَ وَالْعُهُونَا

عَلَى الأَخدَاجِ وَاسْتَشْعَرْنَ رَيْطًا

عِرَاقِيًا وَقَسِّيًّا مَصُونَا

وقيل: هو منسوب إلى القَسّ، وهو الصَّقِيع، لبياضه. انتهى كلام ابن منظور

(1)

.

وقال الباجي: فسره ابن وهب بأنها ثياب مضلعة -يريد مخططة- بالحرير، وكانت تعمل بالقَسِّ، وهو موضع بمصر مما يلي فرما

(2)

.

(والحرير) بالجر عطف على القسّيّ، أي ونهاني عن لبس الحرير (وخاتم الذهب) أي ونهاني عن لبس خاتم الذهب، وإضافة لبس إلى خاتم من إضافة المصدر إلى مفعوله، وإضافة "خاتم" إلى "الذهب" من إضافة العام إلى الخاص.

[تنبيه]: الكلام على أحكام لبس الْقَسِّىِّ، والحرير، وخاتم الذهب سيأتي في محله من "كتاب الزينة" إن شاء الله تعالى.

(وأن أقرأ)"أن" مصدرية، والفعل في تأويل المصدر عطف على "القسّيّ" (وأنا

(1)

"لسان العرب" ج 5 ص 3625.

(2)

"تحفة الأحوذي" ج 2 ص 122 - 123.

ص: 127

راكع) جملة اسمية في محل نصب على الحال من فاعل "أقرأ". أي ونهاني عن قراءتي، والحال أني راكع.

وفي رواية زيادة السجود، فقد أخرج مسلم من طريق الزهري، وزيد بن أسلم، والوليد بن كثير، كلهم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، أنه سمع علي بن أبي طالب، يقول:"نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن، وأنا راكع، أو ساجد". ونحوه من طريق داود بن قيس، عن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن عباس، عن علي رضي الله عنه.

قال النووي رحمه الله: فيه النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وإنما وظيفة الركوع التسبيح، ووظيفة السجود التسبيح والدعاء، فلو قرأ في ركوعه، أو سجوده غير الفاتحة كره، ولم تبطل صلاته، وأن قرأ الفاتحة ففيه وجهان لأصحابنا أصحهما أنه كغير الفاتحة، فيكره، ولا تبطل صلاته. والثاني يحرم، وتبطل صلاته. هذا إذا كان عمدا، فإن قرأ سهوا لم يكره، وسواء قرأ عمدا، أو سهوا يسجد للسهو عند الشافعي رحمه الله تعالى. انتهى

(1)

.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله: وهذا النهي يدلّ على تحريم قراءة القرآن في الركوع والسجود، وفي بطلان الصلاة بالقرأءة حال الركوع والسجود خلاف. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن قوله من قال بعدم صحة صلاة من فعل ذلك عامدا، هو الراجح؛ لأن النهي يقتضي الفساد، والفساد هو البطلان، وأما من فعله ناسيا فليسجد للسهو. والله سبحانه وتعالى أعلم.

[قيل]: الحكمة في النهي عن القراءة، لما في الركوع والسجود من الذكر والتسبيح، فلو كانت قراءة القرآن فيهما مشروعة لكان فيه الجمع بين كلام الله، وكلام غيره في محل واحد. كذا قيل.

وفيه نظر، لأن الركعة الأولى فيها دعاء الاستفتاح، وقد جمع بينه وبين القراءة، فلو كان النهي للجمع المذكور للزم فيها ذلك. أفاده السندي. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(وقال مرة أخرى: وأن أقرأ راكعا) الظاهر أن فاعل "قال" هو علي رضي الله عنه، والمعنى أنه حدث بهذا الحديث غير مرة، فمرة قال:"وأن أقرأ، وأنا راكع"، ومرة أخرى قال:"وأن أقرأ راكعا". ولا اختلاف بين الروايتين من حيث المعنى، وإنما فائدته أن يُعلَم أن الراوي ما نسي شيئا من الحديث، وأنه ضابط لما سمعه، بحيث إنه يتذكر سماعه منه أكثر من مرة، وأنه يستحضر الألفاظ التي عبر بها في كل مرة. والله سبحانه وتعالى

(1)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 197.

(2)

"نيل الأوطار" جـ 2 ص 288.

ص: 128

أعلم.

[فائدة]: استُشكِلَ عطف النهي من القراءة في الركوع في هذه الأحاديث من حيث عدمُ الاتحاد والمشاكلة بين هذه الملبوسات، وبين القراءة في الركوع؟.

[وقد أجيب] بأن الجامع الاتحاد في الحكم، وهو التحريم، ومثل هذا وارد في السنة، كقوله:"نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر"، فالاتفاق في الحكم جهة عامة في عطف جملة على أخرى. أفاده بعض شراح النسائي

(1)

. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث علي رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -97/ 1040 - و -44/ 5183 - وفي "الكبرى" -8/ 628 - و 59/ 9495 - عن عبيد الله بن سعيد، عن حماد بن مسعدة، عن أشعث الحمراني، عن محمَّد ابن سيرين، عن عَبِيدة السلماني، عنه. و -1041 - و"الكبرى" -629 - عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيي القطان، عن ابن عجلان، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عنه. و 1042 و"الكبرى" 630 - عن الحسن بن داود المُنكَدري، عن ابن أبي فُدَيك، عن الضحاك بن عثمان، عن إبراهيم به. و-1043 - و 5268 - و 59/ 5318 - و"الكبرى" -631 - و 9481 - و 92/ 9649 - عن عيسى بن حماد زُغْبة، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن إبراهيم ابن عبد الله بن حنين، أن أباه حدثه، أنه سمع عليا رضي الله عنه. و-1044 و"الكبرى" 632 - عن قتيبة، عن مالك، عن نافع، عن إبراهيم به. و 151/ 1119 - و"الكبرى" 59/ 706 - عن أحمد بن عمرو بن السرح أبي الطاهر، والحارث بن مسكين، كلاهما، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن إبراهيم به.

و-151/ 1119 - و 5172 - و"الكبرى" -59/ 705 - و 9477 - عن أبي داود سليمان بن سيف، عن أبي علي الحنفي، وعثمان بن عمر، كلاهما عن داود بن قيس، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن علي رضي الله عنهم قال: "نهاني

(1)

هو الشيخ البهكلي في شرح "المجتبى". انظر الورقة من المخطوط 284 - 285.

ص: 129

حِبِّي صلى الله عليه وسلم عن ثلاث، لا أقول: نهى الناس، نهاني عن تختم الذهب، وعن لبس القسّيّ، وعن المعصفر الْمُفَدَّمَة، ولا أقرأ ساجدا، ولا راكعا". تابعه الضحاك بن عثمان. وقد تقدّمت روايته.

و43/ 5165 - و"الكبرى" 53/ 9467 - عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن هُبَيرة بن يَرِيم، عن علي رضي الله عنه بلفظ: "نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب، وعن القسّيّ، وعن المياثر

(1)

الحمر، وعن الجِعَة"

(2)

.. و 5166 - و"الكبرى" 9468 - عن محمَّد بن آدم، عن عبدالرحيم، عن زكريا، عن أبي إسحاق به، دون ذكر الجعة. و-5167 - و"الكبرى" 9469 - عن محمَّد بن عبد الله بن المبارك، عن يحيي بن آدم، عن زهير، عن أبي إسحاق به بنحوه. و -5168 - و"الكبرى". 9470 - عن محمَّد بن عبد الله بن المبارك، عن يحيي بن آدم، عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن صَعْصَة بن صُوحان، عن علي رضي الله عنه. قال أبو عبد الرحمن: الذى قبله أشبه بالصواب. و 5169 - و"الكبرى -9471 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عييدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن إسماعيل بن سميع، عن مالك بن عمير، عن صعصة بن صُوحان، قال: قلت لعلي: انَهنَا عما نهاك عنه وسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "نهاني عن الدباء، والحنتم، وحلقة الذهب، ولبس الحرير، والقسّيّ، والميثرة الحمراء".

و5170 - و"الكبرى" -9472 - عن عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم، عن مروان بن معاوية، عن إسماعيل بن سميع به. و-5171 - و"الكبرى"-9473 - عن قتيبة، عن عبد الواحد، عن إسماعيل بن سميع به. بنحوه. قال أبو عبد الرحمن: حديث مروان، وعبد الواحد أولى بالصواب من حديث إسرائيل.

و5174 - و"الكبر" -9480 - عن محمَّد بن عبد الله بن عبد الرحيم الْبَرْقِيّ، عن أبي الأسود، عن نافع بن يزيد، عن يونس، عن ابن شهاب، عن إبراهيم، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه. و 5175 - و"الكبرى" 9482 عن الحسن بن قَزَعَة، عن خالد بن الحارث، عن محمَّد بن عَمرو، عن إبراهيم به. و-5176 - و"الكبرى" 9484 - عن هارون بن محمَّد بن بلال، عن محمَّد بن عيسى بن القاسم بن سميع، عن زيد بن واقد، عن نافع، عن إبراهيم مولى علي، عن علي رضي الله عنه. و 5177 - و"الكبرى" 9485 - عن أبي بكر بن علي، عن إبراهيم بن الحجاج، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن حنين مولى ابن عباس، عن علي رضي الله عنه. و 5178 - و"الكبرى" 9486 -

(1)

جمع مِيثَرة بكسر الميم: وِطَاء محشو، يجعل فوق رحل البعير، تحت الراكب.

(2)

بكسر الجيم وتخفيف العين المهملة: نبيذ يتخذ من الحنطة والشعير.

ص: 130

عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضل، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن حنين مولى علي، عن علي رضي الله عنه. و 5179 - و"الكبر" 9487 - عن الحسين بن منصور بن جعفر النيسابوري، عن حفص بن عبد الرحمن البلخي، عن سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن مولى للعباس، عن علي رضي الله عنه. و 5180 - و 5270 - و"الكبرى" 9488 - عن هارون بن عبد الله، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حرب بن شدّاد، عن يحيي بن أبي كثير، عن عمرو بن سعيد الفَدَكي، عن نافع، عن ابن حنين، عن علي رضي الله عنه. و 5181 - و"الكبرى" 9489 - عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن بعض موالي العباس، عن علي رضي الله عنه. و 5182 و"الكبرى" 9494 - عن محمود بن خالد، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيي بن أبي كثير، عن علي رضي الله عنه منقطعا. و-5184 - "الكبرى" -59/ 9496 - عن أحمد بن سليمان، عن يزيد، عن هشام، عن محمَّد بن سيرين، عن عَبِيدة، عن علي رضي الله عنه. و -5185 - و"الكبرى" 9497 - عن قتيبة، عن حماد، عن أيوب، عن محمدبه، و -77/ 5266 - و"الكبرى" 54/ 9476 - عن محمد بن الوليد، عن غندر، عن شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن عبد الله بن حنين، عن ابن عباس، قال:"نُهِيت عن الثوب الأحمر، وخاتم الذهب، وأن أقرأ، وأنا راكع". و-5267 - و"الكبرى" 9479 - عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيي بن سعيد، عن ابن عجلان، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن علي رضي الله عنهم. و -5269 - و"الكبرى" 55/ 9483 - عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه. و-5271 - و"الكبرى" 57/ 9490 - عن يحيي بن دُرُست، عن أبي إسماعيل، عن يحيي بن أبي كثير، عن محيد بن إبراهيم، عن ابن حنين، عن علي رضي الله عنه. و -5272 - و"الكبرى" 58/ 9492 - عن إبراهيم بن يعقوب، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن يحيي، عن خالد بن معدان، عن ابن حنين به. و"الكبرى" -92/ 9650 عن محمَّد بن علي بن ميمون الرَّقي، عن القعنبي، عن إسحاق بن أبي زكريا، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه و -9653 - عن أحمد بن سعيد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري به. و 9654 - عن عبد الله بن الهيثم بن عثمان، عن أبي عامر، عن زهير، عن شريك، عن إبراهيم بن عبد الله به. و-9655 - عن علي بن حجر، عن إسماعيل، عن شريك، عن عبد الله بن حنين به. و -9651 - عن إبراهيم بن هارون البلخي، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمَّد، عن محمَّد بن المنكدر، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن علي

ص: 131

- رضي الله عنه. و 57/ 9494 - عن إسحاق بن منصور، عن أبي نعيم، عن شيبان، عن يحيى ابن أبي كثير، عن ابن حنين، عن علي رضي الله عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرج (م) في "الصلاة" عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير- وعن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة بن يحيي، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري- وعن أبي بكر بن إسحاق الصغاني، عن سعيد بن أبي مريم، عن محمَّد بن جعفر بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم- ثلاثتهم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه به بالنهي عن القراءة فى الركوع والسجود. وعن يحيي بن يحيي، عن مالك، عن نافع- وعن عيسى بن حماد، عن الليث به. وعن هارون بن سعيد، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن إبراهيم به. وعن يحيى بن أيوب، وقتيبة، وعلي بن حجر كلهم عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو، عن إبراهيم به. وعن هناد بن السري، عن عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن إبراهيم به بالنهي عن القراءة في الركوع. وعن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمَّد، عن محمَّد بن المنكدر، عن عبد الله بن حنين، عن علي رضي الله عنه ولم يذكر في السجود. وفي "اللباس" عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، به "نهاني عن التختم بالذهب، وعن لباس القسى، وعن لباس المعصفر، وعن قراءة القرآن في الركوع والسجود. وعن يحيي بن يحيى، عن مالك، بإسناده نحوه، ولم يذكر السجود. وعن حرملة بن يحيي به "نهاني عن القراءة، وأنا راكع، وعن لبس الذهب، والمعصفر.

(د) في "اللباس" عن القعنبي، عن مالك به. وعن أحمد بن محمد المروزي، عن عبد الرزاق به. وعن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن محمَّد بن عمرو بهذا.

(ت) في "الصلاة" عن قتيبة- وعن إسحاق بن موسى، عن معن- كلاهما عن مالك به. وقال: حسن صحيح، وأعاد بعضه في "اللباس" عن قتيبة، عن مالك به. وعن سلمة ابن شبيب، والحسن بن علي الخلال، وغير واحد، كلهم عن عبد الرزاق به. وقال: حسن صحيح.

(ق) في "اللباس" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن حنين، عن علي- بقصة النهي عن المعصفر. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن حنين مولى علي، عن علي- بالنهي عن التختم بالذهب.

وأخرجه مالك (في الموطإ) 72 (وأحمد) 1/ 92 و 114 و 126 و 132 و 80 و 82

ص: 132

و 121. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما بوب له المصنف رحمه الله، وهو النهي عن القراءة، في الركوع، وهو للتحريم (ومنها): النهي عن لبس الْقَسِّي، والحرير، وخاتم الذهب، وهذا خاص بالرجال، دون النساء، وسيأتي تمام البحث فيه في "كتاب الزينة"، إن شاء الله تعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

[تنبيه]: أورد المصنف رحمه الله تعالى حديث علي رضي الله عنه في هذا الباب من رواية عَبيدة، ومن رواية عبد الله بن حُنين، وذكر الاختلاف عليه فيه، فأخرجه من طريق ابن عجلان، والضحاك بن عثمان، كلاهما عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عنه بذكر ابن عباس رضي الله عنهما بينه، وبين علي رضي الله عنه، وأخرجه من طريق يزيد بن أبي حبيب، ونافع مولى ابن عمر، كلاهما عن إبراهيم، عنه، عن علي، بدون ذكر ابن عباس، وقد صرح في رواية يزيد بسماعه عن علي رضي الله عنه.

قال الدارقطني رحمه الله: من أسقط ابن عباس أكثرُ، وأحفظُ. قال النووي رحمه الله: وهذا الاختلاف لا يؤثّر في صحة الحديث، فقد يكون عبد الله بن حنين سمعه من ابن عباس، عن علي، ثم سمعه من علي نفسه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأمر كما قال النووي رحمه الله، فالحديث صحيح بالطريقين، ولذا أخرجه مسلم في "صحيحه" بهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1041 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: "نَهَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ رَاكِعًا، وَعَنِ الْقَسِّيِّ وَالْمُعَصْفَرِ").

رجال هذا الإسناد:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) السرخسي، تقدم في السند الماضي.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان تقدم في الباب الماضي.

3 -

(ابن عجلان) هو محمدالمدني، صدوق في غير حديث أبي هريرة رضي الله عنه[5] ت 148 تقدم 36/ 40.

4 -

(إبراهيم بن عبد الله بن حُنَين) الهاشمي مولاهم، أبو إسحاق المدني، ثقة [3].

(1)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 200.

ص: 133

روي عن أبيه، وأبي هريرة، وأبي مرة مولى عقيل، وأرسل عن علي بن أبي طالب. وعنه الزهري، وشريك بن أبي نمر، ونافع، وابن عجلان، وابن إسحاق، وغيرهم. قال محمَّد بن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال النسائي: ثقة. قيل: إنه توفي سنة بضع ومائة. روى له الجماعة، وله في هذا الحديث (21) حديثًا

(1)

.

5 -

(عبد الله بن حنين) الهاشمي مولى العباس، ويقال: مولى علي،. المدني، ثقة [3].

روى عن علي، وابن عباس، وأبي أيوب، وابن عمر، والمسور بن مخرمة. وعنه ابنه إبراهيم، ومحمد بن المنكدر، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وأسامة بن زيد الليثي، ونافع مولى ابن عمر، وأبو بكر بن حفص بن عمر، وشريك بن عبد الله بن أبي نمر، وغيرهم. قال العجلي: مدنى تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية يزيد بن عبد الملك. وقال أسامة بن زيد الليثي: دخلت عليه ليالي استُخلِف يزيد بن عبد الملك، وكان موته قريبا من ذلك. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا

(2)

.

6 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما تقدم 27/ 31.

7 -

(علي) رضي الله عنه تقدم في الذي قبله. والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في الحديث الماضي.

وقوله: "والمعصفر". أي ونهانى عن لبس الثوب المعصفر، وهو المصبوغ بالعُصْفُر -بضم العين المهملة، وسكون الصاد المهملة، وضم الفاء- قال ابن سِيدَهْ: العُصْفُر هذا الذي يُصبَغ به، منه رِيفِيّ، ومنه بَرِّىّ، وكلاهما نبت بأرض العرب. انتهى

(3)

.

وقد استدل بهذا الحديث من قال بتحريم لبس الثوب المصبوغ بالعُصفُر، وذهب الجمهور إلى إباحته، وحملوا النهي على التنزيه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة" متفق عليه. زاد في رواية أبي داود، والنسائي:"وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها"

(4)

. وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك بأدلته في محله، إن شاء الله تعالى.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"تهذيب التهذيب" جـ 1 ص 133 - 134.

(2)

"تهذيب التهذيب" جـ 5 ص 193 - 194.

(3)

"لسان العرب" جـ 4 ص 2973 - 2974.

(4)

راجع "نيل الأوطار" جـ 2 ص 109 - 110.

ص: 134

1042 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ الْمُنْكَدِرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: "نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَقُولُ: نَهَاكُمْ عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الْمُفَدَّمِ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الحسن بن داود) بن محمَّد بن المنكدر بن عبد الله بن الْهُدَير، أبو محمَّد المدني المنكدري، لا بأس به [10].

روى عن ابن أبي فُديك، وأبي ضمرة، وابن عيينة، وعبد الرزاق، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم. وعنه النسائي، وابن ماجه، وإبراهيم بن الجنيد، وغيرهم. قال صاعقة: سألته في أي سنة، كتبت عن المعتمر؟ فقال: في سنة كذا، فنظرنا، فإذا هو قد كتب عن المعتمر ابن خمس سنين. وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال ابن عدي: أرجوا أنه لا بأس به، وقال النسائي في أسماء شيوخه: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الحاكم في "الكنى": ليس بالقوي عندهم. وقال مسلمة: مجهول. وأورد ابن عليّ في ترجمته حديثا من رواية ابن أبي عمر العدني عنه، ثم قال: ابن أبي عمر أكبر سنا من المنكدري، وأقدم موتا، وأورد له عدة أحاديث، وقال: لم أر له أنكر منها، وهي مُحْتَمَلة. وقال البخاري: مات بعد الموسم بقليل سنة (247)

(1)

. روى عنه المصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده برقم (5175)، وابن ماجه.

2 -

(ابن أبي فُديك) محمَّد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيلي مولاهم، أبو إسماعيل المدني، صدوق، من صغار [8]، ت 180 على الصحيح (ع) تقدم 51/ 962.

3 -

(الضحاك بن عثمان) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسدي الحزامي، أبو عثمان المدني، صدوق يهم [7](م 4) تقدم 33/ 37.

والباقون تقدموا قريبا. وكذا شرح الحديث، ومتعلقاته.

وقوله: "ولا أقول: نهاكم". قال النووي رحمه الله: ليس معناه أن النهي مختص به، وإنما معناه أن اللفظ الذي سمعته بصيغة الخطاب لي، فأنا أنقله كما سمعته، وإن كان الحكم يتناول الناس كلهم. انتهى

(2)

.

(1)

"تهذيب التهذيب" جـ 2 ص 274 - 275.

(2)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 198 - 199.

ص: 135

وقال ابن العرب رحمه الله له: هذا دليل على منع الرواية بالمعنى، واتباع اللفظ، قال: ولا شك في أن نهيه صلى الله عليه وسلم لعلي نَهىٌ لسواه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الواحد، ويريد الجماعة في بيان الشرع. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: في قوله: "هذا دليل على منع الرواية بالمعنى". نظر، إذ لا يدل على المنع، وإنما غايته أن يدلّ على الأوْلَوِيَّة، فتأمل. والله أعلم.

وقال القرطبي: هذا لا يدل على خصوصيته بهذا الحكم، وإنما أخبر بكيفية ترجمة صيغة النهي الذي سمعه، وكان صيغة النهي الذي سمعه: لا تقرإ القرآن في الركوع، فحافظ حالة التبليغ على كيفية ما سمع حالة التحمل، وهذا من باب نقل الحديث بلفظه، كما سمع، ولا شك أن مثل هذا اللفظ مقصور على المخاطب من حيث اللغة، ولا يُعدَّى إلى غيره إلا بدليل من خارج، إما عامّ، كقوله صلى الله عليه وسلم:"حكمي على الواحد كحكمي على الجميع"

(1)

، أو خاص في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:"نِهُيتُ أن أقرأ القرآن راكعا، أو سجدا". انتهى

(2)

.

وقوله: "عن تختم الذهب" جارّ ومجرور تنازعاه الفعلان قبله، فأعمل الثاني عند البصريين لقربه، وأعمل الأول عند الكوفيين لتقدمه، قال في "الخلاصة":

إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمِ عَمَلْ

قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعمَلْ

وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصرَهْ

وَاخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أُسْرَهْ

وإضافة "تختم" إلى "الذهب" من إضافة المصدر إلى المفعول، وكذا إضافة "لبس" إلى ما بعده.

وقوله: "المفدّم".- بضم الميم، وفتح الفاء، وتشديد الدال المهملة المفتوحة، أو بضم الميم، وسكون الفاء، وفتح الدال، بصيغة اسم المفعول، كما يقتضيه صنيع "اللسان"، و"القاموس":

قال ابن منظور رحمه الله تعالى: والْمُفْدَم من الثياب: المشبع حمرةً، وقيل: هو الذي ليست حمرته شديدةً، وأحمَرُ فَذمٌ: مَشْبَع حمرةً؛ قال أبو خِرَش الهُذَلي: [من الطويل]

(1)

هذا الحديث بهذا اللفظ ليس له أصل، كما قاله العراقي في تخريجه، وسئل عنه المزي، والذهبي، فأنكراه، وإنما الثابت ما أخرجه الترمذي، والنسائي من حديث أُميمة بنت رُقيقة، مرفوعًا:"إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة"، أو "مثل قولي لامرأة واحدة". قال الحافظ السخاوي: هذا من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها؛ لثبوتها على شرطهما. انتهى "المقاصد الحسنة" ص 192 - 193.

(2)

انظر "زهر الربى" جـ 2 ص 188.

ص: 136

وَلَا بَطلًا إِذَا الكُمَاةُ تَزَيَّنُوا

لَدَى غَمَرَاتِ الْموْتِ بِالْحَالِكِ الْفَدْم

يقول: كأنما تزينوا في الحرب بالدم الحالك، والْفَدْم: الثَّقِيل من الدم، والْمُفَدَّمُ مأخوذ منه، وثوب فدم ساكنة الدال: إذا كان مصبوغا بحمرة مشبعا، قال ابن بَرِّيّ: والفَدْمُ: الدم، قال الشاعر:[من الوافر]

أَقُولُ لِكَامِلِ فِي الحَرْبِ لَمَّا

جَرَى بِالْحَالِكِ الْفَدْمِ الْبُحُورُ

وفي الحديث: "أنه نهى عن الثوب الْمُفْدَمِ": هو الثوب الْمُشْبَعُ حمرةً كأنه الذي لا يُقْدَرُ على الزيادة عليه، لتناهي حمرته، فهو كالممتنع من قبول الصِّبْغ. انتهى

(1)

.

وفي الحديث النهي عن لبس الثوب الأحمر، وقد اختلف أهل العلم فيه على سبعة أقوال، ذكرها في "الفتح":

(الأول): الجواز مطلقا. (الثاني): المنع مطلقا. (الثالث): يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة، دون ما كان صبغه خفيفا. (الرابع): يكره لبس الأحمر مطلقا، لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة. (الخامس): يجوز لبس ما كان صبغ غزله، ثم نُسِج، ويمنع ما صبغ بعد النسج. (السادس): اختصاص النهي بما يصبغ بالمعصفر، لورود النهي عنه. (السابع): تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر من بياض وسواد وغيرهما فلا، وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها، وهذا هو الذي رجحه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى جمعا بين الأحاديث

(2)

. والله تعالى أعلم.

وتمام البحث في هذه المسألة، وتفاصيل المذاهب بأدلتها، ومناقشة ما لها، وما عليها سيأتي في محله من "كتاب الزينة"، إن شاء الله تعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

1043 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ زُغْبَةُ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا، يَقُولُ: "نَهَانِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لَبُوسِ الْقِسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَا رَاكِعٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عيسى بن حماد زغبة) أبو موسى الأنصاري المصري، ثقة [10]، ت 248 (م د

(1)

"لسان العرب" جـ 5 ص 3365.

(2)

راجع "الفتح" جـ 11 ص 489 - 490.

ص: 137

س ق) تقدم 135/ 211.

و"رغْبَة" -بضم الزاي، وسكون الغين المعجمة-: لقبه، وهو لقب أبيه أيضًا.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحافظ الحجة المصري [7] ت 175 (ع) تقدم 31/ 35.

3 -

(يزيد بن أبي حبيب) سويد، أبو رجاء المصري، ثقة فقيه، يرسل [5]، ت 128 (ع) تقدم 134/ 207.

والباقون تقدموا قريبا، والحديث أخرجه مسلم، وقد مضى شرحه، وبيان متعلقاته من المسائل.

ولْوله: "عن لبوس القسّيّ" -بفتح اللام، وضم الباء-: ما يُلبَس، قال المجد رحمه الله: واللَّبَاس -أي بالكسر- واللَّبُوس -أي بالفتح- واللَّبْس بالكسر

(1)

، والمَلْبَس، كمَقْعَد، ومِنْبَر: ما يُلبَس انتهى.

فالإضافة هنا من إضافة العام إلى الخاص، كشجر أراك. أي عن لَبُوس، هو الْقسّيّ. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1044 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: "نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت [10]، تقدم 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام الفقيه الحجة الثبت المدني [7] تقدم 7/ 7.

3 -

(نافع) مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 12/ 12.

والباقون تقدموا، والحديث صحيح، وقد مضى شرحه، والمسائل المتعلقة به.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

وضبطه الصاغاني بالضم. قاله الشارح المرتضى.

ص: 138

‌98 - (تَعْظِيمُ الرَّبّ فِي الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الأمر بتعظيم الله صلى الله عليه وسلم في حال الركوع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الترجمة مقتبسة من لفظ الحديث المذكور في الباب، ومعنى تعظيم الرب سبحانه وتعالى وصفه بما يقتضي عظمته، وجلاله من الألفاظ الواردة في الأحاديث الآتية في الأبواب المتتالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

1045 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ، إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ"، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ، فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ، فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) المتقدم في السند السابق.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت [8] 198 (ع) تقدم 1/ 1.

3 -

(سليمان بن سُحَيم

(1)

) أبو أيوب المدني، مولى خُزاعة، ويقال: مولى آل حُنَين، ثقة

(2)

[3]

(3)

.

روى عن أمه آمنة بنت الحكم الغفارية، وابن المسيّب، وإبراهيم بن عبد الله بن معبد، وغيرهم. وعنه ابن إسحاق، وابن جريج، وابن عيينة، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن سعد توفي في خلافة أبي جعفر المنصور، وكان ثقة، له أحاديث. وكذا قال ابن حبان في "الثقات"، لكن قال: في أول خلافة أبي جعفر، وفرق بين مولى خُزاعة، وبين مولى آل حُنين. قال الحافظ: والظاهر أنه وَهِمَ في ذلك. ونقل ابن خلفون، عن ابن نمير توثيقه. وقال البَرْقيّ، عن ابن معين: سليمان بن سحيم، أبو أيوب الهاشمي: ثقة. وقال ابن شاهين

(1)

بمهملتين مصغرا.

(2)

قال في "ت": صدوق، والظاهر أنه ثقة كما يظهر من أقوال العلماء في ترجمته، فتأمل.

(3)

هكذا نسخ التقريب أنه من الطبقة الثالثة، والظاهر أن هذا مصحف من السادسة، أو نحو ذلك.

ص: 139

في "الثقات": قال أحمد بن صالح: له شأن ثبت. روى له الجماعة، سوى البخاري، والترمذي

(1)

. وله عند المصنّف هذا الحديث فقط، كرره مرتين: هنا 98/ 1045 و 152/ 1120.

4 -

(إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس) بن عبد المطلب الهاشمي المدني، صدوق [3] تقدم 4/ 691.

5 -

(عبد الله بن مَعْبَد بن عباس) بن عبد المطلب العباسي المدني، ثقة قليل الحديث [3].

روى عن عمه عبد الله بن عباس. وعنه ابنه إبراهيم، ومحمد بن جعفر، وابن أبي مليكة، ومحمد بن علي بن ربيعة. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو زرعة: ثقة. أخرج له الجماعة، سوى البخاري، والترمذي، وليس له عندهم إلا حديث واحد، وهو حديث الباب

(2)

.

6 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، تقدم 27/ 31 والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم موثقون (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه (ومنها): أن فيه راويا ليس له عند المصنف، بل ولا عند من أخرج له من أصحاب الأصول، غير هذا الحديث، وهو عبد الله بن معبد (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما، من المكثرين السبعة، روى -1696 - حديثا، وأنه أحد العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما، أنه (قال: كشف النبي صلى الله عليه وسلم السِّتارة) بكسر السين: اسم لما يُستَر به، قال الفيومي رحمه الله: السِّتْر -أي بكسر، فسكون-: ما يُستَر به، وجمعه: ستور، والسُّترة بالضم مثله. قال ابن فارس: السُّترة: ما استترت به كائنا ما كان، والسِّتَارة بالكسر مثله، والسِّتَار بحذف الهاء لغة، وسترت الشيءَ سَتْرًا، من باب قتل. انتهى

(3)

.

والمراد هنا الستر الذي يكون على باب البيت، أو الدار، يعني أنه صلى الله عليه وسلم كشف الحجاب الذي بينه وبين أصحابه ليكلمهم بالآتي (والناس صفوف) جمع صَفٍّ، وهو

(1)

"تهذيب التهذيب" جـ 4 ص 193 - 194.

(2)

"تهذيب التهذيب" جـ 6 ص 39.

(3)

"المصباح" ص 266.

ص: 140

على حذف مضاف، أي ذوو صفوف، والجملة في محل نصب على الحال، والرابط الواو (خلف أبي بكر رضي الله عنه) الظرف متعلق بـ"صفوف"، أي والحال أن الناس مصطفون وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يصلي بهم، لكونه صلى الله عليه وسلم مريضا، ففي رواية المصنف الآتية -152/ من طريق إسماعيل بن جعفر، عن سليمان بن سُحَيم:"كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم السِّتْرَ، ورأسه معصوب، في مرضه الذي مات فيه، فقال: "اللَّهم قد بلغت ثلاث مرات"

(إنه) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (لم يبق من مبشرات النبوة) بصيغة اسم الفاعل: ما اشتمل على الخبر السارّ، من وحي، أو إلهام، أو رؤيا، أو نحوها. أي مما يظهر للنبي من المبشرات حالة النبوة. وفيه إشارة إلى قرب أجله صلى الله عليه وسلم، وانقطاع الوحي.

وقال في "الفتح" عند شرح قول البخاري رحمه الله في [كتاب التعبير]: [باب المبشرات]: ما نصّه: بكسر الشين المعجمة، جمع مبشرة، وهي البشرى، وقد ورد في قوله تعالى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] "هي الرؤيا الصالحة". أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الحاكم من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة ابن الصامت، ورواته ثقات، إلا أن أبا سلمة لم يسمعه من عبادة. وأخرجه الترمذي أيضًا من وجه آخر عن أبي سلمة، قال:"نُبِّئْتُ عن عبادة". وأخرجه أيضًا هو، وأحمد، وإسحاق، وأبو يعلى من طريق عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن عبادة

(1)

، وذكر ابن أبي حاتم، عن أبيه أن هذا الرجل ليس بمعروف. وأخرجه ابن مرودويه من حديث ابن مسعود، قال:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر مثله. وفي الباب عن جابر عند البزار، وعن أبي هريرة عند الطبري، وعن عبد الله بن عمرو عند أبي يعلى. انتهى.

وقال في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات": ما نصّه: كذا ذكره باللفظ الدالّ على المضي تحقيقا لوقوعه، والمراد الاستقبال، أي لا يبقى، وقيل: هو على ظاهره؛ لأنه قال ذلك في زمانه، واللام في "النبوة" للعهد، والمراد نبوته، والمعنى لم يبق بعد النبوة المختصة بي إلا المبشرات، ثم فسرها بالرؤيا. وقد صرح به في حديث عائشة عند أحمد بلفظ:"لم يبق بعدي"، وقد جاء في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرض موته. أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي من طريق إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن أبيه، عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة، ورأسه معصوب

(2)

في مرضه الذي مات فيه، والناس صفوف خلف أبي بكر". . .

(1)

هكذا قال في "الفتح": "عن رجل من أهل مصر، عن عبادة"، والذي في الترمذي: عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء". فليحرر. وقد صحح الشيخ الألباني هذه الرواية، فانظر "صحيح الترمذي" جـ 3 ص 61.

(2)

أي مشدود بخرقة لما به من الوجع.

ص: 141

وللنسائي من رواية زُفَر بن صعصعة، عن أبي هريرة، رفعه أنه "ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة"

(1)

. وهذا يؤيد التأويل الأول.

وظاهر الاستثناء مع ما ثبت من أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة أن الرؤيا نبوة، وليس كذلك؛ لأن المراد تشبيه أمر الرؤيا بالنبوة، أو لأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رافعا صوته لا يسمى مؤذنا، ولا يقال: إنه أَذَّنَ، وإن كانت جزءا من الأذان، وكذا لو قرأ شيئا من القرآن، وهو قائم لا يسمى مصليا، وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة.

ويؤيده حديث أم كرز -بضم الكاف، وسكون الراء، بعدها زاي- الكعبية، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات" أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، ولأحمد عن عائشة مرفوعًا:"لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا"، وله، وللطبراني من حديث حذ يفة بن أَسِيد مرفوعا:"ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات". ولأبي يعلى من حديث أنس، رفعه:"إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، ولا نبي، ولا رسول بعدي، ولكن بقيت المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "رؤيا المسلمين جزء من أجزاء النبوة".

قال المهلب: ما حاصله: التعبير بالمبشرات خرج للأغلب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة، وهي صادقة، يريها الله للمؤمن، رفقا به، ليستعدّ لما يقع قبل وقوعه.

وقال ابن التين: معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي، ولا يبقى ما يُعلَم منه ما سيكون إلا الرؤيا. ويرد عليه الإلهام، فإن فيه إخبارا بما سيكون، وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا، ويقع لغير الأنبياء، كما في حديث مناقب عمر:"قد كان فيمن مضى من الأمم محدِّثون"، وفُسر المحدّثُ -بفتح الدال- بالملهم -بالفتح- أيضا، وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيبة، فكانت كما أخبروا، والجواب أن الحصر في المنام لكونه يشمل آحاد المؤمنين، بخلاف الإلهام، فإنه مختض بالبعض، ومع كونه مختصا فإنه نادر، فإنما ذكر المنام لشموله، وكثرة وقوعه، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن يكن"، وكأن السرّ في ندور الإلهام في زمنه، وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة، وإرادة إظهار المعجزات منه، فكان المناسب أن لا يقع لغيره منه في زمانه شيء، فلما انقطع الوحي بموته وقع الإلهام لمن اختصه الله به، للأمن من اللبس في ذلك، وفي إنكار وقوع ذلك مع

(1)

راجع "السنن الكبرى" في "كتاب التعبير" -1/ 7621.

ص: 142

كثرته، واشتهاره مكابرة ممن أنكره. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

(إلا الرؤيا الصالحة) الاستثناء مفرّع؛ لأن ما قبل "إلّا" تفرغ للعمل فيما بعدها، فـ"الرؤيا" فاعل "يبق".

(يراها المسلم) جملة من الفعل والفاعل في محل نصب على الحال، أي يراها المسلم المبشَّر بها (أو ترى له) بالبناء للمفعول، أي يراها غيره لأجله.

(ثم قال) صلى الله عليه وسلم (ألا) أداة استفتاح وتنبيه (إني) بكسر الهمزة (نُهِيت) بالبناء للمفعول، أي نهاني الله تعالى، ونهيه صلى الله عليه وسلم نهي لأمته، إذ ليس مختصا به، بدليل قوله:"فأما الركوع، فعظموا فيه الرب"، إذ معناه لا تقرءوا القرآن فيه، بل عظموا الله صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والتمجيد (أن أقرأ راكعا، أو ساجدا) والمصدر المؤول من الفعل مجرور بـ "عن" محذوفة قياسا، و"راكعا" منصوب على الحال، و"ساجدا" عطف عليه، أي نهاني عز وجل عن القراءة حال كوني راكعا، أو ساجدا.

قال بعضهم: وكأن حكمة النهي عن ذلك أن أفضل أركان الصلاة القيام، وأفضل الأذكار القرآن، فجعل الأفضل للأفضل، ونَهى عن جعله في غيره، لئلا يوهم استواءه مع بقية الأذكار.

[قال الجامع]: يؤيّد هذا القول ما أخرجه مسلم 2/ 756، والمصنف 2526، وغيرهما من حديث جابر رضي الله عنه: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أَيّ الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت". والله تعالى أعلم.

وقد ذكروا غير ذلك من وجوه الحكمة، وتقدّم كلام الخطابيّ فيه، وكلها مخدوشة. والله تعالى أعلم.

ثم بين ما يشرع في حال الركوع والسجود من الذكر، فقال (فأما الركوع، فعظموا فيه الرب) الفاء فصيحية، أي إذا عرفتم أن القراءة منهي عنها في الركوع والسجود، وأردتم معرفة الأذكار المشروعة فيهما، فأقول لكم: أما الركوع فعظموا فيه الرب الخ. والفاء الثانية رابطة لجواب "أما". و"أما" حرف تفصيل، وفصل، وتوكيد، بمعنى "مهما يكن من شيء"، كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى في "خلاصته":

أَمَّا كَمَهْمَا يَكُ مِنْ شَيءٍ وَفَا

لِتِلْوِ تِلْوِهَا وُجُوبًا أُلِفَا

وَحَذْفُ ذِي الْفَا قَلَّ فِي نَثْرٍ إِذَا

لَمْ يَكُ قَوْل مَعَهَا قَدْ نُبِذَا

وقد تقدم الكلام عليها غير مرة.

(1)

جـ 11 ص 401 - 402 من "كتاب التعبير".

ص: 143

يعني أن الذكر المشروع في الركوع هو تعظيم الرب عز وجل بأنواع التسبيح، والتقديس المذكورة في الأبواب الآتية، فإنه اللائق فيه، فهو أولى من الدعاء، ولا ينافي هذا ما سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في الركوع:"اللَّهم اغفر لى"؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى التسبيح وغيره من أنواع التعظيم (وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء) أي فيه، أي إن الأولى فيه الاجتهاد في الدعاء، ولا ينافي ذلك أيضًا ثبوت التسبيح فيه، كما سيأتي، لأنه قليل، ثم بين سبب حثه على الاجتهاد في الدعاء بقوله (قمن) وفي رواية مسلم "فقمن" بزيادة الفاء. وهو بفتح القاف، وكسر الميم، وفتحها، ويقال: قمين بالياء أيضًا، ومعناه: جدير، وخَلِيق.

قال الأزهري: قال: هو قَمَنٌ أن يفعل ذلك -بفتح الميم- وقَمِن -بكسرها- أن يفعل ذلك، فمن قال: قَمَن -بفتح الميم- أراد المصدر، فلم يثنّ، ولم يجمع، ولم يؤنث، يقال: هما قَمَنٌ، وهم قَمَنٌ، وهن قَمَنٌ، ومن قال: قَمِن بكسرها- أراد النعت، فثنّى، وجمع، وفيه لغة أخرى، وهي قَمِين بالياء، قال قيس بن الخَطِيم:[من الطويل]

إِذَا جَاوَزَ الاثنَينِ سِرٌّ فَإنةُ

بِنَثِّ وَتَكثِيرِ الْوُشَاةِ قَمِينُ

(1)

(أن يستجاب لكم) في تأويل المصدر مبتدأ مؤخر، والخبر قوله:"قمن". والجملة تعليلية للأمر بالاجتهاد في الدعاء في حال السجود، أي إنما أمرتكم بالاجتهاد في الدعاء في حال السجود لكون الدعاء فيه حقيقا بالاستجابة، لكون المصلي أقرب من ربه في تلك الحالة. وسيأتي حديث أبي هريرة رضي الله عنه -168/ 1137 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل، وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".

وهذا أيضا لا ينافي ما سيأتي من مشروعية التسبيح ونحوه في السجود، لأن ذلك قليل بالنسبة للدعاء.

وسيذكر المصنف رحمه الله تعالى ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع التسبيح، والتقديس، والدعوات التي كان يقودها في الركوع، والسجود بأبواب متتالية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

(1)

انتتهى "لسان العرب" بتصرف. ج 5 ص 3744.

ص: 144

أخرجه هنا -98/ 1045 - وفي "الكبرى" 9/ 633 - عن قتيبة بن سعيد، عن ابن عيينة، عن سليمان بن سحيم، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن أبيه، عنه. و-152/ 1120 - و"الكبرى" -60/ 707 - وفي "التعبير" جـ 4 ص 382 - عن علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر، عن سليمان به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) في "الصلاة" عن سعيد بن منصور، وأبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، كلهم عن سفيان بن عيينة به. وعن يحيي بن أيوب، عن إسماعيل بن جعفر به. (د) فيه عن مسدد، عن سفيان به. (ق) فيه عن إسحاق بن إسماعيل الأيلي، عن ابن عيينه به.

و (الحميدي) برقم 489 (أحمد) 1/ 219 (الدارمي) برقم 1331 و 1332 (ابن خزيمة) 548 و 599 و 674. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو أن المشروع في الركوع تعظيم الرب عز وجل (ومنها): أن الوحي انقطع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس بعده شيء يستدل به الناس على الأمور المغيبات إلا الرؤيا التي يراها المسلم، أو ترى له (ومنها): النهي عن قراءة القرآن راكعا، أو ساجدا (ومنها): الأمر بالاجتهاد في الدعاء في حالة السجود، لكونها حالة يستجاب فيها الدعاء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌99 - (بَابُ الذَّكْرِ فِي الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الذكر في حال الركوع، وذكر بعض أنواعه.

1046 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ الأَحْنَفِ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَكَعَ، فَقَالَ فِي رُكُوعِهِ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"، وَفِي سُجُودِهِ:

ص: 145

"سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي ابن راهويه، ثقة ثبت حجة [10]، تقدم 2/ 2.

2 -

(أبو معاوية) محمَّد بن خازم الضرير الكوفي، عمي، وهو صغير، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، ورمي بالإرجاء، من كبار [9] ت 195 تقدم 30/ 26.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْران الكوفي الإمام الحافظ [5]، تقدم 17/ 18.

4 -

(سعد بن عُبَيدة) السلمي، أبو حمزة الكوفي، ثقة [3] تقدم 77/ 1008.

5 -

(المُستورِد بن الأحنف) الكوفي، ثقة [3]، تقدم 77/ 1008.

6 -

(صِلَة بن زُفَر) العبسي، أبو العلاء الكوفي، ثقة جليل [2] تقدم 77/ 1008.

8 -

(حذيفة) بن اليمان حِسْل، أو حُسَيل حليفا الأنصار الصحابي الشهير رضي الله عنهما، تقدم 2/ 2.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث أخرجه المصنف رحمه الله تعالى في [باب تعوذ القارئ إذا مرّ بآية عذاب] عن شيخه محمَّد بن بشار، عن يحيي القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن أبي عديّ، كلهم عن شعبة، عن الأعمش به، وتقدم هناك ذكر لطائف الإسناد، وشرح الحديث، والمسائل المتعلقة به، فإن شئت، فراجعها تستفد.

وأذكر هنا ما يتعلق بما بوب له المصنف رحمه الله، وهو بيان الذكر الذي يقال في حال الركوع.

فقوله: "سبحان ربي العظيم". منصوب على المصدرية لفعل محذوف، تقديره: سبحت الله تعالى، وهو مضاف إلى "ربي"، والياء في "ربي" للمتكلم، أضيف إليها "رب"، وهي مبنية على السكون، ويجوز فتحها. "العظيم" بالجر صفة لـ"ربي"، ويجوز قطعه إلى الرفع، بتقدير مبتدإ محذوف وجوبا؛ لكونه نعت مدح، أي "هو"، وإلى النصب بتقدير فعل محذوف وجوبا أيضا، أي "أمدح".

قال النووي رحمه الله في كتابه "تهذيب الأسماء واللغات": التسبيح في اللغة: معناه التنزيه، ومعنى "سبحان الله" تنزيها له من النقائص مطلقا، ومن صفات المحدثات كلها، وهو اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف، تقديره: سبحت الله تعالى.

قال النحويون، وأهل اللغة، يقال: سبحت الله تعالى تسبيحا، وسبحانا، فالتسبيح

ص: 146

مصدر، وسبحان واقع موقعه، ولا يستعمل غالبا إلا مضافا، كقولنا: سبحان الله، وهو مضاف إلى المفعول به، أي سبحت الله تعالى؛ لأنه المسبَّحُ المنزَّه.

قال أبو البقاء -رحمه الله تعالى-: ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل، لأن المعنى تنزه الله تعالى، وهذا الذي قاله، وإن كان له وجه، فالمشهور المعروف هو الأول، قالوا: وقد جاء غير مضاف، كقول أمية بن أبي الصلت:[من الطويل]

فَسبْحَانَهُ ثَمَّ سُبْحَانًا يَعُودُ لَهُ

وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ وَالجْمُدُ

(1)

قال أهل اللغة، والمعاني، والتفسير، وغيرهم: ويكون التسبيح بمعنى الصلاة، ومنه قوله تعالى:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] أي المصلين قبل ذلك، وقيل: إنما ذلك لأنه قال؛ في بطن الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وهذا أظهر. والسبحة بضم السين: صلاة النافلة، ومنه قوله في الحديث:"سبحة الضحى"، وغيرها، قال الجوهري رحمه الله: السبحة التطوع من الذكر والصلاة، تقوله: قضيت سُبْحَتي، قالوا: وإنما قيل: للمصلي مُسَبِّح، لكونه معظما لله تعالى بالصلاة، وعبادته إياه، وخضوعه له، فهو مُنَزَّه بصورة حاله، قالوا: وجاء التسبيح بمعنى الاستثناء، ومنه قوله تعالى:{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] أي تستثنون، وتقولون: إن شاء الله تعالى، وهو راجع إلى معنى التعظيم لله تعالى للتبرك باسمه.

قال الإمام الواحدي رحمه الله تعالى: قال سيبويه رحمه الله تعالى: معنى "سبحان الله". براءةَ اللهِ من السوء، وسبحان الله بهذا المعنى معرفة يدلّ على ذلك قول الأعشى:

أَقُولُ لمّا جَاءَنِي فَخرُة

سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ

أي براءةً منه، قال: وهو ذكر تعظيم لله تعالى، لا يصلح لغيره، وإنما ذكره الشاعر نادرا، ورده إلى الأصل، وأجراه كالمثل.

قلت: ومراد سيبويه رحمه الله تعالى أنه اسم معرفة، لا ينصرف، إذا لم يضف للعلمية، وزيادة الألف والنون، ولهذا لم يصرفه الأعشى، وم نهم من يصرفه، ويجعله نكرة، كما تقدم في البيت السابق. والله تعالى أعلم. انتهى المقصود من كلام النووي رحمه الله تعالى ببعض زيادة

(2)

.

(1)

بضم الجيم، والميم، وفتحهما: جبل معروف. اهـ "لسان" ج 1 ص674.

(2)

"تهذيب الأسماء واللغات" جـ 4 ص 142 - 143.

ص: 147

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: [فإن قيل]: لماذا خص الركوع بـ"العظيم"، والسجود بـ"الأعلى"؟.

[أجيب]: بأن السجود لما كان فيه غاية التواضع، لما فيه من وضع الجبهة التي هي أشرف الأعضاء على مواطىء الأقدام كان أفضل من الركوع، فحسن تخصيصه بما فيه صيغة أفعل التفضيل، وهو "الأعلى" بخلاف "العظيم"، جَعْلًا للأبلغ مع الأبلغ، والمطلق مع المطلق. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: لم يذكر المصنف في روايته مقدار عدد التسبيح في الركوع والسجود، ولم يصح فيه حديث، وأما ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن عون بن عبد الله ابن عتبة، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد، فقال: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات، فقد تم سجوده، وذلك أدناه". فهو حديث مرسل، لأن عونا لم يلق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كما قال أبو داود، والترمذي، وكذا قال البخاري في "التاريخ الكبير"- وفيه أيضًا إسحاق بن يزيد الهذلي الراوي عن عون مجهول.

وما أخرجه أبو داود، وأحمد من طريق سعيد الجريري، عن السعدي، عن أبيه، أو عن عمه، قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، فكان يتمكن في ركوعه، وسجوده قدر ما يقول: سبحان الله، وبحمده، ثلاثا".

ففيه السعدي، وهو مجهول، قال في "ت": السعدي، عن أبيه، أو عمه، لا يعرف، ولم يسم، من الثالثة. اهـ

(1)

.

وفي رواية أحمد: "عن أبيه، عن عمه، فعلى روايته يكون بين السعدي، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطتان، ويكون أبوه أيضًا مجهولا.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: قال ابن القطان رحمه الله: السعدي، وأبوه، وعمه ما منهم من يعرف، وقد ذكره ابن السكن في كتاب الصحابة، في الباب الذي ذكر فيه رجالا لا يعرفون. انتهى

(2)

.

والحاصل أن التقييد بالثلاث، وكذا زيادة "وبحمده" لا يصحان. والله تعالى أعلم. وقال في "المنهل": قال في "الهدي": كان ركوعه المعتاد مقدار عشر تسبيحات، وأما حديث تسبيحه في الركوع، والسجود ثلاثا، فلا يثبت. والأحاديث الصحيحة

(1)

ت ص 447.

(2)

"تهذيب السنن" جـ 1 ص 422.

ص: 148

بخلافه. وهذا السعدي مجهول، لا يعرف عينه، ولا حاله. وقد قال أنس رضي الله عنه: إن عمر بن عبد العزيز كان أشبه الناس صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مقدار ركوعه، وسجوده عشر تسبيحات، وأنس أعلم بذلك من السعديّ، عن أبيه، أو عمه، لو ثبت، فأين علم من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين كوامل إلى علم من لم يصل معه إلا تلك الصلاة الواحدة، أو صلوات يسيرة، فإن عم هذا السعدي، أو أباه ليس من مشاهير الصحابة المداومين الملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كملازمة أنس، والبراء بن عازب، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم ممن ذكر صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدرها، وكيف يقوم صلى الله عليه وسلم بعد الركوع حتى يقولوا: قد

نسي، ويسبح فيه ثلاث تسبيحات، فيجعل القيام منه بقدره أضعافا مضاعفة، وكذلك جلوسه بين السجدتين، حتى يقولوا: قد أوهم، ولا ريب أن ركوعه، وسجوده كانا نحوا من قيامه بعد الركوع، وجلوسه بين السجدتين، حتى تَكرَهُوا إطالتهما، ويغلو من يغلوا منكم، فيبطل الصلاة بإطالتهما، وقد شهد البراء بن عازب رضي الله عنهما أن ركوعه، وسجوده كانا نحوا من قيامه، ومحال أن يكون مقدار ذلك ثلاث تسبيحات، ولعله خفف مرة لعارض، فشهده عم السعدي، أو أبوه، فأخبر به. وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم أن طول صلاة الرجل من فقهه، وهذا الحكم أولى من الحكم بقلة الفقه، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحكم الحق، وما خالفه فهو الحكم الباطل الجائر. انتهى

(1)

.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى عند شرح قوله: "وذلك أدناه الخ: أي أدنَى الكمال، وفيه إشعار بأنه لا يكون المصلي متسننا بدون الثلاث. وقد قال الماوردي: إن الكمال إحدى عشرة، أو تسع، وأوسطه خمس، ولو سبح مرة حصل التسبيح. وروى الترمذي عن ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه أنه يستحب خمس تسبيحات للإمام، وبه قال الثوري.

ولا دليل على تقييد الكمال بعدد بمعلوم، بل ينبغي الاستكثار من التسبيح على مقدار تطويل الصلاة من غير تقييد بعدد، وأما إيجاب سجود السهو فيما زاد على التسع، واستحباب أن يكون عدد التسبيح وترًا، لا شفعًا فيما زاد على الثلاث، فمما لا دليل عليه. انتهى كلام الشوكاني -رحمه الله تعالى-

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن تقييد تسبيح الركوع والسجود بعدد معين لم

(1)

انظر "المنهل العذب المورود" جـ 5 ص 333.

(2)

"نيل الأوطار" جـ 2 ص 287.

ص: 149

يصح حديثه

(1)

، بل المطلوب أن يستكثر المصلي من قول:"سبحان ربي ال عظيم"، و"سبحان ربي الأعلى"، ويطول الركوع والسجود تطويلا مناسبا لقيامه، فإن كان طويلا طول، وإن كان قصيرا قصر. هذا هو الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌100 - (نوْعٌ آخَرُ مِنَ الذِّكْرِ فِي الرُّكُوعِ)

1047 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، وَيَزِيدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ، وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ رَبَّنَا، وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدري البصري ثقة [10]، تقدم 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الهجيمي البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

3 -

(يزيد بن زُرَيع) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت [8]، تقدم 5/ 5.

4 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة [7]، تقدم 24/ 26.

5 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عتاب الكوفي، ثقة ثبت [5]، تقدم 2/ 2.

6 -

(أبو الضحى) مسلم بن صُبَيح الكوفي العطار، ثقة فاضل [4]، ت 100 (ع) تقدم 96/ 123.

7 -

(مسروق) بن الأجدع، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم [2]، ت 26 (ع) تقدم 90/ 112.

8 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.

(1)

وقد صحح الشيخ الألباني حديث "سبحان ربي العظيم" ثلاثا، ورد على ابن القيم وغيره الإنكار في ثبوت ذلك، وكذا صحح حديث زيادة "وبحمده" بعد "سبحان ربي العظيم"، "سبحان ربي الأعلى". انظر "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" ص 99. وفي تصحيحه لهما نظر. والله أعلم.

ص: 150

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد هو به، وأنهم بصريون إلى شعبة، والباقون كوفيون غير عائشة رضي الله عنها، فمدنية (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: منصور، وأبو الضحى، ومسروق ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت -2210 - أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول) في تأويل المصدر مفعول "يكثر"، أي يكثر القول.

وقد بين في رواية البخاري رحمه الله تعالى من طريق أبي الأحوص، عن الأعمش في "كتاب التفسير" ابتداء هذا الفعل، وأنه صلى الله عليه وسلم واظب عليه، ولفظه: ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلا يقول فيها: "سبحانك ربنا، وبحمدك، اللهم اغفر لي".

قيل: اختار النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لهذا القول؛ لأن حالها أفضل من غيرها.

قال الجامع عفا الله عنه: ليس في الحديث -كما قال الحافظ رحمه الله تعالى- أنه لم يكن يقول ذلك خارج الصلاة أيضا، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها.

ولفظه من طريق أبي كريب، وأبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، بسند المصنف، عن عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت: "سبحانك"، وبحمدك، أستغفرك، وأتوب إليك"، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها، تقولها؟ قال: جعلت لي علامةٌ في أمتي إذا رأيتها قلتها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلى آخر السورة". انتهى

(1)

.

(في ركوعه وسجوده) جار ومجرور تنازعاه الفعلان قبله (سبحانك) قال الأزهري رحمه الله: معناه: أسبحك، أي أنزهك عما يقول الظالمون فيك، و"سبحان" مصدر أريد به الفعل، قال الله تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] أي سبحوا الله حين تمسون، أي صلوا له. انتهى

(2)

.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 560. و"صحيح مسلم" بشرح النووي جـ 4 ص 201 - 202.

(2)

"الزاهر" في غريب ألفاظ الشافعي ص 224.

ص: 151

(ربنا) بالنصب على أنه منادى، حُذف منه حرف النداء، أي يا ربنا، أو على الاختصاص، أي أخص ربنا.

(وبحمدك) قال النوويّ رحمه الله تعالى: أي وبحمدك سبحتُك، ومعناه بتوفيقك لي، وهدايتك، وفضلك عليّ سبحتك، لا بحولي، وقوتي، ففيه شكر الله تعالى على هذه النعمة، والاعتراف بها، والتفويض إلى الله تعالى، وأن كل الأفعال له. والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال العلامة ابن هشام الأنصاريّ -رحمه الله تعالى- في "مغني اللبيب": وقد اختلف في الباء من قوله تعال {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3]، فقيل: للمصاحبة، والحمدُ مضاف للمفعول، أي سبحه حامدا له، أي نزهه عما لا يليق به، وأثبت له ما يليق به. وقيل: للاستعانة، والحمد مضاف للفاعل، أي سبحه بما حمد به نفسه، إذ ليس كل تنزيه بمحمود، ألا ترى أن تسبيح المعتزلة عَطَّلَ كثيرا من الصفات.

واختلف في "سبحانك اللَّهم وبحمدك"، فقيل: جملة واحدة، على زيادة الواو، فيأتي في الباء ما ذكر، وقيل: جملتان على أنها عاطفة، ومتعلق الباء محذوف، أي وبحمدك سبحتك، فيأتي ما مر، وقال الخطابي: المذى؛ وبمعونتك التي هي نعمة توجب عليّ حمدك سبحتك، لا بحولي، يريد أنه من إقامة المسبب، وهو الحمد مقام السبب، وهو المعونة التي هي نعمة. انتهى بتصرف.

وقال ابن الشجري في قوله تعالى: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52]، هو كقولك:"أجبته بالتلبية" معلنين بحمده، والوجهان في {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3]. انتهى كلام ابن هشام رحمه الله تعالى

(2)

.

(اللَّهم) قال الأزهري: للنحاة فيه قولان: قال الفراء: هي في الأصل: يا الله أُمَّنَا بخير، فكثرت في الكلام، واختلطت، فقيل: اللَّهم، كما قالوا: هَلُمَّ، وأصلها:"هل" ضم إليها "أُمَّ"، ثم تركت منصوبة الميم، وقال الخليل: اللهم معناه: يا الله، والميم المشددة عوض من يا النِّداءِ، وهي مفتوحة، لسكونها، وسكون الميم قبلها، قال: ولا يقال: يا اللَّهم، إنما يقال: اللَّهم، ومعناه: يا الله. انتهى.

وقد يجمع بينهما في الشعر، كما قال في "الخلاصة":

وَالأَكْثَرُ اللَّهُمَّ بِالتَّعْوِيضِ

وَشَذَّ يَا اللَّهُمَّ فِي قَرِيضِ

(1)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 202.

(2)

"مغني اللبيب" 1/ 103، و"حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك" رحمهم الله تعالى. جـ 1 ص 231.

ص: 152

والقريض: الشعر، أراد بذلك قول الشاعر:

إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا

أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا

(اغفر لي) أي استر ذنوبي، وفي رواية لمسلم:"سبحانك، وبحمدك، أستغفرك، وأتوب إليك".

ومعنى "أستغفرك": أي أطلب منك ستر الذنوب. فالسين والتاء للطلب، وأصل الغَفْر: الستر، والتغطية ومعنى:"أتوب إليك": أي أرجع إلى طاعتك، وأنيب إليك، والتائب: الراجع إلى طاعة ربه بعد معصيته وخطيئته، والتوبة الرجوع إلى الله تعالى، يقال: تاب، وثاب، وأناب: إذا رجع.

قال النووي رحمه الله تعالى: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "أستغفرك، وأتوب إليك" حجة على أنه يجوز، بل يستحب أن يقول: أستغفرك، وأتوب إليك. وحكي عن الربيع بن خُثَيم رحمه الله أنه قال؛ لا يقل أحدكم: أستغفر الله، وأتوب إليه، فيكون ذنبا، وكذبا إن لم يفعل، بل يقول: اللَّهم اغفر لي، وتب علي، وهذا الذي قاله من قوله: اللَّهم اغفر لي، وتب عليّ حسن، لا شك فيه، وأما كراهة قوله: أستغفر الله، وأتوب إليه، وتسميته كذبا، فلا نوافقه عليه؛ لأن معنى أستغفر الله: أطلب مغفرته، وليس هذا كذبا، ويكفي في رده حديثا الباب، وما أخرجه أبو داود، والترمذي، وصححه الحاكم، من حديث ابن مسعود رحمه الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه، غفرت ذنوبه، وإن كان قد فرّ من الزحف".

قال: وأما استغفاره صلى الله عليه وسلم مع أنه مغفور له، فهو من باب العبودية، والإذعان، والافتقار إلى الله تعالى. والله تعالى أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى بتصرف

(1)

.

[تنبيه]: زاد في الرواية الآتية -154/ 1122 - من طريق شعبة، عن منصور:"يتأول القرآن".

قال في "الفتح": قوله: "يتأول القرآن". أي يفعل ما أمر به فيه، وقد تبين من رواية الأعمش أن المراد بالقرآن بعضه، وهو السورة المذكورة، والذكر المذكور. ووقع في رواية ابن السكن عن الفربري: قال أبو عبد الله: يعني {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} الآية.

وفي هذا تعيين أحد الاحتمالين في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ؛ لأنه يحتمل أن يكون المراد بسبح نفس الحمد، لما تضمنه الحمد من معنى التسبيح الذي هو

(1)

"الأذكار" ص 349. في "كتاب الاستغفار". "شرح مسلم" جـ 4 ص 202.

ص: 153

التنزيه، لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله تعالى، فعلى هذا يكفي في امتثال الأمر الاقتصار على الحمد. ويحتمل أن يكون المراد: فسبح ملتبسا بالحمد، فلا يمتثل حتى يجمع بينهما، وهو الظاهر.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: يؤخذ من الحديث إباحة الدعاء في الركوع، وإباحة التسبيح في السجود. ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:"أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا فيه في الدعاء". قال: ويمكن أن يحمل حديث الباب على الجواز، وذلك على الأولوية، ويحتمل أن يكون أمر في السجود بتكثير الدعاء لإشارة قوله:"فاجتهدوا"، والذي وقع في الركوع من قوله:"اللَّهم اغفر لي" ليس كثيرا، فلا يعارض ما أمر به في السجود. انتهى.

واعترضه الفاكهاني بأن قول عائشة: "كان يكثر أن يقول" صريح في كون ذلك وقع منه كثيرا، فلا يعارض ما أمر به في السجود. قال الحافظ: هكذا نقله شيخنا ابن الملقن في شرح "العمدة"، وقال: فليتأمل. وهو عجيب، فإن ابن دقيق العيد أراد بنفي الكثرة عدم الزيادة على قوله:"اللَّهم اغفر لي" في الركوع الواحد، فهو قليل بالنسبة السجود المأمور فيه بالاجتهاد في الدعاء المشعر بتكثير الدعاء، ولم يرد أنه كان يقول ذلك في بعض الصلوات دون بعض حتى يعترض عليه بقوله عائشة رضي الله عنها:"كان يكثر". انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

[تنبيه]: ترجم البخاري رحمه الله في أبواب الركوع بقوله: [باب الدعاء في الركوع] ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب. فقيل: الحكمة في تخصيص الركوع بالدعاء دون التسبيح، مع أن الحديث واحد أنه قصد الإشارة إلى الرد على من كره الدعاء في الركوع، كمالك رحمه الله تعالى، وأما التسبيح، فلا خلاف فيه، فاهتم هنا بذكر الدعاء لذلك، وحجة المخالف الحديثُ الذي أخرجه مسلم من رواية ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، وفيه:"فأما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم". قال الحافظ رحمه الله تعالى: لكنه لا مفهوم له، فلا يمتنع الدعاء في الركوع، كما لا يمتنع التعظيم في السجود. انتهى

(2)

.. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 560 - 561.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 537 - 538.

ص: 154

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -100/ 1048 - وفي "الكبرى" -11/ 635 - عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد الهجيمي، ويزيد ابن زريع، كلاهما عن شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عنها. و 154/ 1122 - والكبرى -62/ 709 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن سفيان الثوري، عن منصور به. و 155/ 1123 - وفي "الكبرى" في "التفسير" -11710 - عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن الثوري به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عت حفص بن عمر، وفي "المغازي" عن ابن بشار، عن غندر، كلاهما عن شعبة- وفي "التفسير" عن عثمان بق أبي شيبة، عن جرير- وفي "الصلاة" أيضا عن مسدد، عن يحيي، عن سفيان- ثلاثتهم عن منصور- وفي "التفسير" أيضًا عن حسين بن الربيع، عن أبي الأحوص، عن الأعمش- كلاهما عن مسلم بن صُبَيح به.

(م) في "الصلاة" عن زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير به. وعن أبي بكر بق أبي شيبة، وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية- ومن محمَّد بن رافع، عن يحيي بن آدم، عن مفضل بن مهلهل- كلاهما عن الأعمش به. (د) فيه عن عثمان بن أبي شيبة به. (ق) فيه عن محمَّد بن الصباح، عن جرير به.

(أحمد) 6/ 43 و 49 و 100 و230 و 253 (ابن خزيمة) رقم 605 و 847. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): مشروعية الدعاء في الركوع، ونقل عن مالك رحمه الله كراهته، كما تقدم لحديث ابن عباس رضي الله عنها المتقدم:"فأما الركوع فعظموا فيه الرب"، لكن تقدم أنه لا ينافي جواز الدعاء القليل مثل هذا، وإنما يدل على أن معظم الذكر المشروع فيه هو التعظيم، كما أن الغالب في السجود الدعاء، ولا ينافي التسبيح أيضا (ومنها): ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الإكثار من الاستغفار، مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، ليكون عبدا شكورا (ومنها): مبادرته لامتثال ما أمره الله تعالى به في القرآن، وهو معنى

ص: 155

قوله في الحديث: "يتأول القرآن"، أي يطبق على نفسه ما أمر به في القرآن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌101 - (نَوْعٌ آخَر مِنْهُ)

أي هذا باب ذكر الحديث؛ الدالّ على مشروعية نوع آخر من الذكر في حال الركوع.

1048 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَنْبَأَنِي قَتَادَةُ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبُّوحٌ، قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبس الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(قتادة) بن دِعامة السدوسي البصري، ثقة ثبت مدلس [4] تقدم 30/ 34.

3 -

(مطرف) بن عبد الله بن الشِّخِّير العامري الْحَرَشِي، أبو عبد الله البصري، ثقة

عابد فاضل [2] تقدم 53/ 67.

والباقون تقدموا في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله عنه، أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه) زاد في الرواية

الآتية-165/ 1134 - من طريق سعيد عن قتادة: "وسجوده "(سبوح) بضم السين،

والباء الموحدة المشددة: المنزه عن كل عيب (قدوس) بضم القاف، والدال: الطاهر

من العيوب، المنزه عن الأولاد والأنداد. والقُدْس: الطهارة

(1)

.

وقال في "النهاية": يرويان بالضم والفتح، وهو أقيس، والضم أكثر استعمالا، وهو

من أبنية المبالغة، والمراد بهما التنزيه. وقال القرطبي: هما مرفوعان على خبر المبتدإ

المضمر، تقديره هو، وقد قيل: بالنصب على إضمار فعل، أي أُعَظم، أو أذكر، أو

(1)

"المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء" جـ 1 ص 120 - 121.

ص: 156

أعبد. انتهى

(1)

.

وقال النووي رحمه الله تعالى: هما بضم السين، والقاف، وبفتحهما، والضم أفصح، وأكثر. قال الجوهري في فصل "ذرح": كان سيبويه يقولهما بالفتح، وقال الجوهري: في فصل "سبح": سبوح من صفات الله تعالى: قال ثعلب: كل اسم على فَعّول، فهو مفتوح الأول، إلا السبوح، والقدوس، فإن الضم فيهما أكثر، وكذلك الذروح، وهي دويبة حمراء منقطة بسواد، تطير، وهي من ذوات السموم.

وقال ابن فارس، والزبيدي، وغيرهما: سبوح هو الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بالسبوح القدّوس المسبَّح المقدّس، فكأنه قال: مسبح مقدس، رب الملائكة والروح، ومعنى سبوح؛ المبرأ من النقائص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية، وقدوس: المطهر من كل ما لا يليق بالخالق.

وقال الهروي. قيل: القدوس: المبارك. قال القاضي عياض: وقيل فيه: "سبوحا""قدّوسا" على تقدير: أسبح سبوحا، أو أذكر، أو أعظم، أو أعبد. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(2)

.

(رب الملائكة والروح) قيل: المراد به جبريل. وقيل: صنف من الملائكة. وقيل: ملك أعظم خِلْقَة

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قيل: الروح ملك عظيم. وقيل: يحتمل أن يكون جبريل عليه السلام. وقيل: خلق، لا تراهم الملائكة، كما لا نرى نحن الملائكة. والله تعالى أعلم. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عطف "الروح" على "الملائكة" يكون من باب عطف الخاص على العام، لشرفه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة في رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.

(1)

"زهر الربى" جـ 2 ص 192.

(2)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 204 - 205.

(3)

"زهر الربى" جـ 2 ص 191.

(4)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 205.

ص: 157

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -101/ 1048 - وفي "الكبرى" -12/ 636 - وفي "التفسير" 11687 - عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد الهجيمي، عن شعبة، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله، عنها. و 165/ 1134 - و"الكبرى" 72/ 720 - وفي "النعوت" -39/ 7723 - عن بندار، عن يحيي القطان، وابن أبي عديّ، كلاهما عن شعبة به. وفي "النعوت" أيضًا 21/ 7693 - عن أبي الأشعث، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة به. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: وقع -165 في 1134 - من النسخ المطبوعه متن "المجتبى" غلط في السند: ونصّه: "أخبرنا بندار محمَّد بن بشار، قال: حدثنا يحيي بن سعيد القطان، وابن أبي عليّ، عن شعبة، قالا: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن مطرف

الخ".

فقوله: "قالا: حدثنا سعيد" غلط، والصواب ما في النسخة الهندية ص 170، ونصها: "أخبرنا بندار محمَّد بن بشار، عن يحيي بن سعيد القطان، وابن أبي عدي، قالا: عن شعبه، -

(1)

عن قتادة. . .".

وكذا وقع تصحيف "شعبة" إلى "سعيد" في "الكبرى" 72/ 720 - وقد وقع في "النعوت" على الصواب. وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه 1134/ 165 إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة- وعن محمَّد بن المثنى، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة- وهشام الدستوائي- ثلاثتهم عن قتادة به. (د) فيه عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام به.

(أحمد) 6/ 34 و 94 و 115 و 148 و 149 و 193 و 200 و 244 و 265 (ابن خزيمة) رقم 606. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

وفي نسخة: "قالا: حدثنا شعبة".

ص: 158

‌102 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الذِّكْرِ)

1049 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ -يَعْنِي النَّسَائِيَّ- قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ -يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ- عَنْ أَبِي قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ -وَهُوَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ- قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَلَمَّا رَكَعَ مَكَثَ قَدْرَ "سُورَةِ الْبَقَرَةِ" يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ، وَالْمَلَكُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد (النسائي) ثقة ثبت [11](س) تقدم 108/ 147.

2 -

(آدم بن أبي إياس) عبد الرحمن، أبو الحسن العسقلاني، خراساني الأصل، ونشأ ببغداد، ثقة عابد [9] ت 221 (خ خد ت س ق) تقدم 108/ 147.

3 -

(الليث) بن سعد الإمام الحافظ الثبت الفقيه الحجة المصري [7] ت 175 (ع) تقدم 31/ 35.

4 -

(معاوية بن صالح) بن حُدَير الحضرمي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الحمصي، قاضي الأندلس، صدوق له أوهام [7]، ت 158 (م 4) تقدم 50/ 62.

5 -

(أبو قيس الكندي) عمرو بن قيس بن ثور بن مازن بن خيثمة الكندي السَّكُوني، أبو ثور الشامي الحمصي، ثقة [3].

روى عن جده مازن بن خيثمة، وله صحبة، وعبد الله بن عمرو، ومعاوية، والنعمان ابن بشير، وعاصم بن حميد، وغيرهم. وعنه معاوية بن صالح، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وغيرهم. قال إسماعيل بن عياش: أدرك سبعين من الصحابة، أو أكثر. وقال ابن سعد: صالح الحديث. وقال ابن معين، والعجلي، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (140) وفيها أرخه غير واحد. وقال أبو مسهر: سمعت كامل بن سلمة ابن رجاء بن حيوة يقول: قال هشام بن عبد الملك: مَنْ سيدُ أهل حمص؟ قالوا: عمرو بن قيس الكندي، فذكر قصة. وقال أيوب بن منصور: سمعت عمرو بن قيس يقول: قال لي الحجاج: متى ولدت؟ فقلت: عام الجماعة، سنة (40) فقال: وهي مولدي، قال: فتوفي الحجاج سنة (95) قال أيوب: وتوفي عمرو سنة (140) وقيل: مات سنة (25) قال ابن عساكر: وهو وهم؛ لأنه ممن سار في طلب دم الوليد بن يزيد، وقتل الوليد سنة (26) وقال الهيثم بن عدى: مات في أول خلافة

ص: 159

أبي جعفر. قال الحافظ: وكانت خلافته سنة (136). روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده برقم (1132)

(1)

.

[فائدة]: "الكندي" بكسر الكاف، وسكون النون: نسبة إلى قبيلة من اليمن. قاله في "لب اللباب"

(2)

.

6 -

(عاصم بن حُمَيد) السكوني الحمصي، صدوق مخضرم [2].

روى عن عمر، وشهد خطبته بالجابية، وعوف بن مالك، وعائشة. وعنه عمرو بن قيس السكوني، وأزهر بن سعيد الحرازي

(3)

، وراشد بن سعد، وغيرهم. قال الدارقطني: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البزار: روى عن معاذ، ولا أعلمه سمع منه، وعن عوف بن مالك، ولم يكن له من الحديث ما أعتبر به حديثه. وقال ابن القطان: لا نعرف أنه ثقة. انتهى. قال الحافظ: وقد صح سماعه من عمر بالجابية، وصرح بسماعه من عوف في "السنن"، وقال أحمد في "مسنده": حدثنا يزيد بن هارون، أنا حَرِيز -هو ابن عثمان-، ثنا راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكوني، وكان من أصحاب معاذ بن جبل. وذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة العليا من تابعي أهل الشام. وقال البرقاني: قلت للدارقطني: فعاصم بن حميد يروي عن معاذ؟ قال: هو من أصحابه. روى له أبو داود، والترمذي في "الشمائل"، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان، هذا، وأعاده برقم (1132) و (1817) حديث "يكبّر عشرًا، ويحمد عشرًا. . ."، وأعاده برقم (5537).

7 -

(عوف بن مالك) الأشجعي، أبو حماد، ويقال: غير ذلك، صحابي شهير من مسلمة الفتح، وسكن دمشق، ومات سنة (73)(خ) تقدم 50/ 62. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فنسائي (ومنها): أن شيخه ممن انفرد هو به (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي (ومنها): أن فيه قوله: "يعني النسائي" وقائل "يعني" تلميذ المصنف، والظاهر أنه ابن السني رحمه الله تعالى راوي "المجتبى" عنه. وفيه أيضا قوله:"يعني ابن صالح"، الظاهر أن القائل هنا آدم بن أبي إياس، ويحتمل أن

(1)

"تهذيب التهذيب" جـ 8 ص 91 - 92.

(2)

جـ 2 ص 215.

(3)

بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الراء: نسبة إلى حرَاز بن عوف، بطن من ذي الكلاع. قاله في "اللباب" جـ 1 ص 352.

ص: 160

يكون من دونه. وفيه أيضا قوله: "وهو عمرو بن قيس" يحتمل أن يكون القائل الليث، أو من دونه، وقد تقدم غير مرة بيان سبب قول الراوي:"يعني"، أو"هو"، وذلك أنه لما لم ينسبه شيخه، وأراد هو أن يبين نسبته أتى بما يفصل زيادته على شيخه، وهو كلمة

"يعني" أو نحوها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عاصم بن حُميد السكوني رحمه الله تعالى أنه (قال: سمعت عوف بن مالك) الأشجعي رضي الله تعالى عنه (يقول: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة) أي صليت معه ليلة (فلما ركع) اختصر المصنف رحمه الله تعالى هذا الحديث هنا، وقد ساقه مطولا من طريق الحسن بن سَوَّار، عن الليث في -163/ 1132 - ولفظه:"قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ، فاستاك، وتوضأ، ثم قام، فصلى، فبدأ، فاستفتح من البقرة، لا يمرّ بآية رحمة إلا وقف، وسأل، ولا يمر بآية عذاب، إلا وقف يتعوذ، ثم ركع، فمكث راكعا بقدر قيامه، يقول في ركوعه: "سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة"، ثم سجد بقدر ركوعه، يقول في سجوده: "سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة"، ثم قرأ "آل عمران"، ثم سورة، ثم سورة، فعل ذلك مثل ذلك.

(مكث) أي تأخر في ركوعه. يقال: مَكَثَ مَكْثًا، من باب قتل. أي أقام، وتَلَبَّثَ، فهو ماكث، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيثٌ، مثل قَرُبَ قُرْبًا، فهو قَرِيب لغةٌ، وقرأ السبعة قوله صلى الله عليه وسلم {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} الآية [النمل: 22] باللغتين، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أمكثه، وتمكث في أمره: إذا لم يعجل فيه. قاله الفيومي رحمه الله تعالى

(1)

.

(قدر سورة البقرة) متعلق بـ"مكث". وفيه جواز التسمية بسورة البقرة، ونحوها، خلافا لمن كره ذلك، وقال: إنما يقال: السورة التي تذكر فيها البقرة (يقول في ركوعه) جملة في محل نصب على الحال من فاعل "مكث"(سبحان ذي الجبروت) أي صاحب القهر البالغ غايته. وهو فَعَلُوت من الجَبْر، وهو القهر، يقال: جبرت، وأجبرت: بمعنى قهرت، ويطلق أيضًا على الكبر (والملكوت) أي وصاحب التصرف البالغ غايته، وهو فَعَلوت، أيضًا، من الملك، كالرهبوت من الرهبة، والرحموت من الرحمة، فالملك والملكوت واحد، زيدت فيه التاء للمبالغة (والكبرياء، والعظمة)"الكبرياء" قيل: هي العظمة والملك، فيكون عطف "العظمة" عليه عطف تفسير. وقيل: هي عبارة عن كمال الذات، وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله سبحانه وتعالى. قاله في

(1)

"المصباح المنير" ص 577.

ص: 161

"النهاية"

(1)

. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عوف بن مالك رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -102/ 1049 - عن عمرو بن منصور، عن آدم بن أبي إياس، عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن قيس بن عمرو الكندي، عنه. و-163/ 1132 - و"الكبرى" 70/ 718 - عن هارون بن عبد الله، عن الحسن بن سَوَّار، عن الليث به. وسياقه أتم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح به. (ت) في "الشمائل" عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية به، نحوه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌103 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنْهُ)

أي من الذكر المشروع في الركوع. وسقط في بعض النسخ لفظة "منه".

1050 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي الْمَاجِشُونُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَكَعَ، قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَعِظَامِي، وَمُخِّي، وَعَصَبِي").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس البصري، ثقة حافظ [10]، تقدم 4/ 4.

(1)

جـ 4 ص 140.

ص: 162

2 -

(عبد الرحمن بن مهدي) البصري الإمام الحافظ الحجة الثبت [9] تقدم 42/ 49.

3 -

(عبد العزيز بن أبي سلمة) هو ابن عبد الله نسب لجده المدني، نزيل بغداد، ثقة فقيه-[7] تقدم 17/ 897.

4 -

(الماجشون بن أبي سلمة) هو يوسف بن أبي سلمة التيمي مولاهم، أبو يوسف المدني، صدوق [4]، تقدم 17/ 897.

5 -

(عبد الرحمن الأعرج) ابن هُرْمُز المدنيّ، ثقة ثبت [3] 7/ 7.

6 -

(عبيد الله بن أبي رافع) مولى النبي صلى الله عليه وسلم المدنيّ، كان كاتب علي رضي الله عنه، ثقة [3] 17/ 897.

7 -

علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 74/ 91. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة أصحاب الأصول بلا واسطة. (ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين المدنيين، يروي بعضهم عن بعض: الماجشون، والأعرج، وعبيد الله. (ومنها): أن صحابيه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشربن بالجنة رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن علي بن أبي طالب) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال: "اللَّهم لك) لا لغيرك (ركعت) أي خضعت. فمعنى الركوع: الخضوع. كما نقله في "اللسان" عن ثعلب. وفي تقديم الجار والمجرور في هذه الجمل كلها إفادة الحصر والاختصاص (ولك) لا لغيرك (أسلمت) أي ذللت، وانقدت لطاعتك (وبك آمنت) أي بك، لا بغيرك صدقت (خشع لك) أي تواضع، وخضع لك لا لغيرك (سمعي) فلا يسمع إلا ما أذنت في سماعه (وبصري) فلا يبصر إلا ما أذنت في إبصاره، وخص السمع والبصر من بين الحواسّ؛ لأن أكثر الآفات بهما، فإذا خشعا قلت الوساوس، ولأن تحصيل العلم النقلي والعقلي بهما (وعظامي، ومخي، وعصبي) المخّ بضم الميم، وتشديد الخاء المعجمة: الوَدَك الذي في العظم، وخالص كل شيء، وقد يسمى الدماغ مخّا. قاله في "المصباح". والعصب بفتحتين: أطناب المفاصل، والجمع أعصاب، مثل سبب وأسباب. أي خضع لك جسمي باطنا، كما خضع ظاهرا، فكنى بهذه الثلاثة عن الجسم

ص: 163

كله، لأن مدار قوامه عليها، والغرض من هذا كله المبالغة في الانقياد، والخضوع لله تعالى

(1)

.

وقال السندي رحمه الله: ما حاصله: إسناد الخشوع إلى هذه الأشياء كناية عن كمال الخشوع والخضوع، أي قد بلغ غايته حتى ظهر أثره في هذه الأعضاء، وصارت خاشعة لربها. انتهى

(2)

.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث أخرجه مسلم، وأما المسائل المتعلقة به، فقد تقدّمت في 17/ 897. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌104 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1051 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَيْوَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا رَكَعَ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، أَنْتَ رَبِّي، خَشَعَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَدَمِي، وَلَحْمِي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يحيى بن عثمان الحمصي) القرشى، صدوق عابد [10]، ت 255 (د س ق) تقدم 29/ 817.

2 -

(أبو حيوة) شُرَيح بن يزيد الحضرمي الحمصي المؤذن، ثقة [9] ت 203 (د س) تقدم 16/ 896.

3 -

(شعيب) بن أبي حمزة دينار الحمصي، أبو بشر ثقة ثبت عابد [7]، ت 162 (ع) تقدم 69/ 85.

4 -

(محمَّد بن المنكدر) التيمي المدني، ثقة فاضل [3] تقدم 103/ 138.

5 -

(جابر بن عبد الله) الأنصاري السَّلَمي الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى

(1)

راجع "المنهل العذب المورود" جـ 5 ص 170.

(2)

"شرح السندي" جـ 2 ص 192.

ص: 164

عنهما، تقدم 31/ 35.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنف في 16/ 896 بجزء دعاء الاستفتاح، أخرجه هناك عن شيخه عمرو بن عثمان الحمصي، وهو أخو شيخه يحيي هنا، ويأتي عنه أيضًا في 158/ 1127 وكلاهما موثقان، وقد تقدم هناك ذكر لطائف الإسناد، وبيان المسائل المتعلقة بالحديث، وأما شرح الحديث فواضح يُعلم مما قبله، فلا حاجة إلى إعادته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1052 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حِمْيَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَذَكَرَ آخَرَ قَبْلَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا، يَقُولُ إِذَا رَكَعَ: "اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، أَنْتَ رَبِّي خَشَعَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَلَحْمِي، وَدَمِي، وَمُخِّي، وَعَصَبِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يحيى بن عثمان) تقدم في السند السابق.

2 -

(ابن حمير) هو محمَّد بن حمير بن أُنَيس السَّلِيحي، صدوق [9]، ت 200 تقدم 21/ 535.

3 -

(شعيب) بن أبي حمزة، تقدم في السند السابق.

4 -

(محمَّد بن المنكدر) تقدم في الذي قبله.

5 -

(عبد الرحمن) بن هرمز الأعرج المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 7/ 7.

6 -

(محمَّد بن مسلمة) بن سلمة الأنصاري الحارثي، أبو عبد الله، ويقال: غيره، صحابي شهد بدرا، وما بعدها رضي الله عنه توفي سنة 42 تقدم 17/ 898.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث صحيح، وهذا الإسناد تقدم للمصنف رحمه الله في 17/ 898 أخرج به من الحديث ما يتعلق بدعاء الاستفتاح، وتقدم الكلام عليه هناك، وشرح الحديث المذكور هنا واضح يعلم مما سبق. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: وذكر آخر" فاعل "ذكر" هو شعيب، ولم أعرف الآخر الذي أشار إليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 165

‌105 - (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الذِّكرِ فِي الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على التسهيل في ترك المصلي الذكر في حال الركوع، والمراد بالذكر جنسه، أَيْ أَيّ ذكر كان سواء الأذكار المذكورة هنا، أو غيرها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار المصنف رحمه الله بهذه الترجمة إلى أن أذكار الركوع ليست واجبة تبطل الصلاة بتركها، للحديث المذكور في الباب، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"ثم اركع، حتى تطمئن راكعا"، ولم يذكر الأذكار فيه، فدلّ على أنّ الواجب هو الركوع، والطمأنينة فيه، لا الأذكار التي تقال فيه، فإنها ليست من واجبات الصلاة، إذ لو كانت من واجباتها لما أهملها، وهو في مقام بيان الواجبات، وهو استدلال واضح. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

1053 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمُقُهُ، وَلَا يَشْعُرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عليه السلام، ثُمَّ قَالَ: "ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، قَالَ: لَا أَدْرِي فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَقَدْ جَهِدْتُ، فَعَلِّمْنِي، وَأَرِنِي، قَالَ: "إِذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ، فَتَوَضَّأْ، فَأَحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قُمْ، فَاسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ، ثُمَّ ارْكَعْ، حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَاعِدًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، فَإِذَا صَنَعْتَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، وَمَا انْتَقَصْتَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا تَنْقُصُهُ مِنْ صَلَاتِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثفقي، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت [10]، ت 240 (ع) تقدم 1/ 1.

2 -

(بكر بن مضر) بن محمد المصري، ثقة ثبتط [8]، ت 173 (خ م د ت س) تقدم 122/ 173.

3 -

(ابن عجلان) هو محمد بن عجلان المدني، صدوق، إلا في أبي هريرة [5]، ت 148 (خت م 4) تقدم 36/ 40.

ص: 166

4 -

(علي بن يحيى) بن خلاد بن رافع الزُّرَقي الأنصاري، ثقة [4]، ت 129 (خ د س ق) تقدم 27/ 667.

5 -

(يحيى بن خَلّاد) بن رافع بن مالك بن العجلان العجلاني الأنصاري الزُّرَقي المدني، له رؤية، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، ومات في حدود سنة (70)(خ 4) تقدم 27/ 667.

6 -

(رفاعة بن رافع) بن مالك بن العجلان، أبو معاذ الأنصاري، البدري، الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهم، مات في أول خلافة معاوية رضي الله عنه تقدم 27/ 667. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم مدنيون، سوى شيخه، فبغلاني، وبكر، فمصري (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، وفيه رواية الراوي، عن أبيه، عن عمه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن علي بن يحيى الزرقي) بضم الزاي، وفتح الراء، بعدها قاف: نسبة إلى بني زريق، بطن من الأنصار، وهو زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جُشم بن الخزرج. قاله في "اللباب"

(1)

(عن أبيه) يحيى بن خلّاد الأنصاري الزرقي (عن عمه رفاعة بن رافع) بالجر بدل من "عمه"، ويجوز قطعه إلى الرفع بتقدير مبتدإ، أي هو، وإلى النصب بتقدير فعل، أي أعني (وكان بدريا) جملة مستأنفة، ذكرت لبيان أن رفاعة رضي الله عنه ممن شهد وقعة بدر الكبرى، وهي الغزوة المشهورة، كانت في السنة من الثانية للَّهجرة (قال) رفاعة (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الآتية 167/ 1136 - من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى:"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ونحن حوله". . . (إذ دخل رجل) هو خلاد بن رافع، جد علي بن يحيي راوي الخبر (المسجد) النبوي (فصلى) وفي رواية إسحاق المذكورة:"فأتى القبلة، فصلى"، وزاد في الرواية الآتية 67/ 1314 - من طريق داود بن قيس، عن علي بن يحيى:"ركعتين"(ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه) أي يطيل النظر إليه. يقال: رَمَقَه بعينه رَمْقًا، من باب قتل: أطال النظر إليه

(2)

. والجملة الاسمية في محل نصب على الحال،

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" جـ 2 ص 65.

(2)

"المصباح" ص 239.

ص: 167

والرابط الواو، والضمير المنصوب (ولا يشعر) من باب قعد، أي لا يعلم ذلك الرجل نظره صلى الله عليه وسلم إليه (ثم انصرف) أي سلم من صلاته، وفي رواية إسحاق المذكورة:"فلما قضى صلاته جاء". . . (فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فاعل "أتى" ضمير الرجل، و"رسول الله" منصوب على المفعولية (فسلم عليه) وفي رواية إسحاق المذكورة:"فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى القوم"، (فرد عليه السلام أي رد النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل سلامه، وفي رواية إسحاق: "وعليك"، وفي رواية للشيخين: "فقال: "وعليك السلام" (ثم قال) صلى الله عليه وسلم للرجل (ارجع، فصل) وفي رواية: "أعد صلاتك"(فإنك لم تصل) الفاء للتعليل، أي لأنك لم تصل الصلاة التي أوجب الله عليك أن تصليها، حيث تركت الطمأنينة التي هي ركن من أركان الصلاة، ففيه نفي لحقيقة الصلاة، خلافا لمن قال: إنه نفي لكمالها، وقدم تقدم تفنيد هذا القول، ورده في -7/ 884 - (قال) الراوي، والظاهر أنه رافع رضي الله عنه (لا أدري في الثانية، أو في الثالثة) وفي رواية إسحاق: "فأعادها مرتين، أو ثلاثا"، وفي رواية داود بن قيس -67/ 1314 - :"حتى كان عند الثالثة، أو الرابعة". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم في -7/ 884 - "فعل ذلك ثلاث مرات" بالجزم، فترجح لعدم وقوع الشك فيها، ولأن عادته صلى الله عليه وسلم استعمال الثلاث في تعليمه (قال) الرجل (والذي أنزل عليك الكتاب) أقسم الرجل بالله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لتشريع الأحكام، ثم أمره بتبيين ما فيه من المرام (لقد جهدت) من باب منع: أي بذلت وُسْعي، وطاقتي أن أبلغ حقيقة الصلاة المطلوبة مني، فلم أستطع (فعلمني) أركان الصلاة، وواجباتها (وأرني) كيفيتها، وجملة "أرني" توكيد لقوله؛ "علمني". وفي رواية إسحاق:"فقال الرجل: يا رسول الله ما عِبْتَ من صلاتي؟ " أي أيّ شيء عبت من هذه الصلاة التي صليتها الآن (قال) النبي صلى الله عليه وسلم معلما له أركان الصلاة، وواجباتها (إذا أردت الصلاة) أي أداءها (فتوضأ، فأحسن الوضوء) بغسل ما أمرت بغسله، ومسح ما أمرت بمسحه، وفي رواية:"فتوضأ كما أمرك الله"، وفي رواية:"إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله، فيغسل وجهه، ويديه، إلى المرفقين، ويمسح رأسه، ورجليه إلى الكعبين، ثم يكبر الله، ويحمده، ويمجده"(ثم قم) فيه أن القيام في الصلاة فرض، وهذا للقادر عليه (فاستقبل القبلة) فيه فرضية استقبال القبلة في الصلاة، وهذا محمول على غير التطوع في السفر، كما تقدم في محله (ثم كبر) فيه فرضية التكبير للدخول في الصلاة، وخالف في ذلك بحضهم، وقِد تقدم الرد عليه في محله 7/ 884 - (ثم اقرأ) أي اقرأ فاتحة الكتاب، ففي رواية محمَّد بن عمرو عند أبي داود "ثم اقرأ بأم القرآن، أو بما شاء الله"، ولأحمد، وابن حبان من هذا الوجه: "ثم اقرأ بأم القرآن، ثم

ص: 168

اقرأ بما شئت"، ترجم له ابن حبان بـ[باب فرض المصلي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة] (ثم اركع حتى تطمئن راكعا) وفي رواية إسحاق: "ثم يكبر، ويركع، حتى تطمئنّ مفاصله، وتسترخي".

وهذا محل، استدلال المصنف رحمه الله على ترجمته، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالركوع، والطمأنينة فيه، ولم يأمره بالأذكار التي تقال فيه، فلو كانت من واجبات الصلاة لما سكت عنها في وقت البيان، أما تكبير الركوع، فقد ذكره فهو من واجبات الصلاة على الراجح (ثم ارفع حتى تعتدل قائما) أي حتى تستوي في قيامك، وفي رواية إسحاق:"ثم يقول: "سمع الله لمن حمده، ثم يستوي قائما حتى يقيم صلبه" وفيه وجوب الاعتد الذي القيام من الركوع، وقول: "سمع الله لمن حمده" (ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا) وفي رواية إسحاق: "ثم يكبر، ويسجد، حتى يمكن وجهه، حتى تطمئن مفاصله، وتسترخي". وفيه وجوب الطمأنينة في السجود، وكذا التكبير على الراجح (ثم ارفع رأسك حتى تطمئن قاعدا) وفي رواية إسحاق: "ويكبر، فيرفع، حتى يستوي قاعدًا على مقعدته، ويقيم صلبه". وفيه وجوب الرفع من السجود، والقعود ممكنا مقعدته، ومقيما صلبه (ثم اسجد، حتى تطمئن ساجدا، فإذا صنعت ذلك) أي فعلت ما ذكرت لك في هذا التعليم (فقد قضيت صلاتك) أي قد أديت صلاتك التي أمرت بها (وما انتقصت من ذلك) أي وما تركت مما ذكرت لك (فإنما تنقصه) أي تتركه، قال الفيّومي رحمه الله تعالى: نَقَصَ نَقصًا من باب قتل، ونُقْصَانًا، وانتَقَصَ: ذهب منه شيء بعد تمامه، ونَقَصْتُهُ يتعدى، ولا يتعدى، هذه اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، وقوله تعالى:{غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109] وفي لغة ضعيفة يتعدى بالهمزة، والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نَقَصتُ زيدًا حَقَّهُ، وانتقصته مثله. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فقول المصنف رحمه الله: "وما انتقصت" لازم، وقوله:"تنقصه" متعدّ لواحد، وهو الضمير. وفي رواية إسحاق:"فإذا لم يفعل هكذا لم تتم صلاته".

أراد النبي صلى الله عليه وسلم -والله أعلم- أنه إذا ترك شيئًا مما ذكره له في هذا التعليم، فقد ترك جزءا من صلاته، ومن ترك جزءا من أجزاء الشيء الواحد، فقد ترك ذلك الشيء بكامله، ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم:"صل، فإنك لم تصل". والله سبحانه وتعالى أعلم

(1)

"المصباح المنير" ص 621.

ص: 169

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق يهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث رفاعة بن رافع رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -105 - / 1053 - وفي "الكبرى" 14/ 640 - عن قتيبة، عن بكر بن مضر، عن محمَّد بن عجلان، عن علي بن يحيي الزرقي، عن أبيه، عنه. وفي -27/ 667 - و"الكبرى" -26/ 1631 - عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن يحيي بن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن جده، عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه. وفي -167/ 1136 - و"الكبرى" -74/ 722 عن محمَّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن أبيه، عن همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن على بن يحيى به. وفي -67/ 1313 - و"الكبرى" 101/ 1236 - عن قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان به. و -1314 - و"الكبرى" -1237 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن داود بن قيس، عن علي بن يحيي به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن الحسن بن علي الحلواني، عن هشام بن عبد الملك، وحجاج بن منهال، كلاهما عن همام بن يحيي به. وعن موسى بن إسماعيل، عن حماد ابن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى، عن عمه، ولم يسمه، ولم يقل:"عن أبيه. وعن مؤمل ابن هشام، عن إسماعيل ابن علية، عن محمَّد ابن إسحاق، عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع رضي الله عنه. وعن عَبّاد بن موسى الخُتَّليّ، عن إسماعيل بن جعفر، عن يحيى بن علي بن يحيي به. وعن وهب بن بقية، عن خالد، عن محمَّد بن عمرو، عن علي بن يحيي، عن رفاعة بن رافع، ولم يقل: "عن أبيه". "

(1)

(ت) فيه عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن يحيي، عن جده به، ولم يقل:"عن أبيه". وقال: حسن. (ق) فيه عن محمَّد بن يحيى، عن حجاج بن منهال ببعضه:"لا تتم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء". . . فذكره.

(أحمد) 4/ 340 و 340 (البخاري في جزء القراءة) -101 - و 102 و 111 أو 112

(1)

فعلى هذا ما وقع في نسخ أبي داود المطبوعة من زيادة "عن أبيه" في هذا السند غلط. فليُتنبّه.

ص: 170

و 108 و 109 (الدارمي) 1335 (ابن خزيمة) 597 و 638. والله سبحانه وتعالى أعلم.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث صحيح، وأما ما يتعلق به من الفوائد، واختلاف العلماء في الأحكام المستنبطة منه، فقد استوفيناه في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه -7/ 884 - فمن أراد الاستفادة فليرجع إليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌106 - (بَابُ الأَمْرِ بِإِتْمَامِ الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أمر المصلي بإتمام ركوعه في صلاته.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد من الإتمام هو الاطمئنان، والسكون حتى تستقر أعضاؤه في مواضعها، كما تقدم في حديث المسيء صلاته "ثم يكبر، ويركع حتى تطمئن مفاصله، وتسترخي". والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

1054 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَتِمُّوا الرُّكُوعَ، وَالسُّجُودَ، إِذَا رَكَعْتُمْ، وَسَجَدْتُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمَّد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت [8]، تقدم 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة الثبت [7] تقدم 24/ 26.

4 -

(قتادة) بن دِعَامة السدوسي البصري، ثقة ثبت مدلس [4]، تقدم 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك الصحابي الشهير رضي الله عنه تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات نبلاء، وأنهم من رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاري، وأخرج له أبو

ص: 171

داود في الناسخ والمنسوخ (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين (ومنها): أن فيه أن قتادة، وإن كان مدلسًا، لكنه صرح هنا بالسماع (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن قتادة) بن دعامة رحمه الله تعالى، أنه (قال: سمعت أنسًا) رضي الله عنه (يحدث) جملة في منحل النصب على الحال على الراجح، وقيل: مفعول ثان لـ "سمع"؛ لأنها تتعدى إلى مفعولين (عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أتموا الركوع، والسجود) أي أكملوهما بمراعاة الطمأنينة والاعتدال (إذا ركعتم، وسجدتم") ولفظه في 150/ 1117 - من طريق سعيد، عن قتادة:"أتموا الركوع، والسجود، فوالله إني لأراكم من خلف ظهري في ركوعكم، وسجودكم".

وأخرج البخاري في "صحيحه" عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة، ثم رقي المنبر، فقال في الصلاة، وفي الركوع. "إني لأراكم من ورائي كما أراكم".

وقد تقدم للمصنف رحمه الله تعالى حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه -63/ 872 - من رواية سعيد المقبري، عن أبيه، عنه، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، ثم انصرف، فقال:"يا فلان، ألا تحسن صلاتك، ألا ينظر المصلي، كيف يصلي لنفسه؟ إني أبصِرُ من وَرَائي، كما أُبصِرُ بينَ يديَّ".

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الشيخين من رواية الأعرج عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هل تَرَون قبلتي ها هنا؟ فوالله ما لا يخفى علي خشوعكم، ولا ركوعكم، إني لأراكم من وراء ظهري".

والمعنى: هل تظنون أني لا أراكم لكون قبلتي في هذه الجهة؛ لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه، لكن بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة.

وقد اختلف في معنى ذلك، فقيل: المراد بها العلم، إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم، وإما أن يلهم، قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر؛ لأن العلم لو كان مرادا لم يقيده بقوله: "من وراء ظهري". وقيل: المراد أنه يرى مِنْ عَن يمينه، ومِنْ عَنْ يساره من تدركه عينه مع التفات يسيرة في النادر، ويوصف من هناك وراء ظهره. قال الحافظ رحمه الله وهو ظاهر التكلف، وفيه عدول عن الظاهر بلا موجب، والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به صلى الله عليه وسلم انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا عمل البخاري رحمه الله تعالى، فأخرج هذا الحديث في "علامات النبوة". وكذا نقل

ص: 172

عن الإمام أحمد رحمه الله، وغيره.

ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه انخرقت له العادة فيه أيضًا، فكان يرى بها من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص، ولا مقابلة، ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلا، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، خلافا لأهل البدع، لوقوفهم مع العادة.

وقيل: كانت له عين خلف ظهره، يرى بها من وراءه دائما. وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط، يبصر بهما، لا يحجبهما ثوب، ولا غيره.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول، والذي قبله مما لا ينبغي أن يلُتْفَتَ إليه، حيث لم يكن عليه بينة، ولا أثارة من علم. والله تعالى أعلم.

وقيل: كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنبطع في المرآة، فيرى أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم. انتهى

(1)

[قال الجامع]: هذا القول أيضا ليس عليه برهان، فالحق أن الحديث على ظاهره، كما تقدم عن الحافظ رحمه الله تعالى، وأما معرفة كيفية رؤيته صلى الله عليه وسلم، هل هي بنفس باصرته الأمامية، أو بشيء آخر نوعه كذا وكذا فتكلف بارد، لا برهان لهم به. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64].

وَالدَّعَاوِي مَا لَمْ تُقِيمُوا عَلَيهَا

بِيِّنَاتِ أَبنَاؤُها أَدْعِيَاءُ

وأغرب من هذا كله، ما نقل عن الداودي أنه حمل البعدية هنا على ما بعد الوفاة؛ يعني أن أعمال الأمة تعرض عليه، وكأنه لم يتأمل سياق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، حيث بين فيه سبب هذه المقالة. والله سبحانه وتعالى أعلم

(2)

.

وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعا في جميع أحواله، وقد نقل ذلك عن مجاهد. وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة، كما يبصر في الضوء

(3)

.

[فائدة]: سئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته إياهم، دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبين في سؤال جبريل عليه السلام "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك".

(1)

"فتح" جـ 2 ص 75 - 76.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 466.

(3)

جـ 2 ص 75 - 77.

ص: 173

[فأجيب]: بأن في التعليل برؤيته صلى الله عليه وسلم لهم تنبيها على رؤية الله تعالى لهم، فإنهم إذا أحسنوا الصلاة، لكون النبي صلى الله عليه وسلم يراهم أيقظهم ذلك إلى مراقبة الله تعالى، مع ما تضمنه الحديث من المعجزات له صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكونه يبعث شهيدا عليهم يوم القيامة، فإذا علموا أنه يراهم تحفظوا في عبادتهم، ليشهدهم بحسن عبادتهم. قاله في "الفتح" أيضا

(1)

. . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-106/ 1054 - و"الكبرى"-15/ 641 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد الهجيمي، عن شعبة، عن قتادة، عنه. و 150/ 1117 - و"الكبرى" 58/ 704 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عنه، و 102/ 1363 عن علي بن حُجر، عن علي بن مُسهِر، عن المختار بن فُلْفُل، عنه موصولًا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن محمَّد بن بشار، عن غندر، عن شعبة به. وفي "الأيمان والنذور" عن إسحاق، عن حَبَّان، عن همام بن يحيي، عن قتادة، عنه. (م) في "الصلاة" عن محمَّد بن المثنى، وابن بشار، كلاهما عن عندر به. وعن أبي غسان المسمعي، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عنه.

(أحمد) 3/ 115 و 274 و 130 و 170 و 177 و 269 (عبد بن حميد) رقم 1170. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف، وهو الأمر بإتمام الركوع، ومعنى إتمامه، أنا يطمئن المصلي فيه بحيث تعود مفاصله إلى مواضعها، ويستقر كل عضو مكانه، والأمر للوجوب، فالطمأنينة في الركوع، وكذا في سائر أفعال الصلاة من فرضها التي لا تتم إلا بها، فالخلاف في هذه المسألة ضعيف جدًّا تقدم تفينيده (ومنها): وجوب إتمام السجود

(1)

جـ 2 ص 467.

ص: 174

أيضًا، وسيبوب له المصنف في أبوابه -150/ 1117 (ومنها): وجوب اهتمام المصلي على المحافظة على إتمام أركان الصلاة، وأبعاضها (ومنها): أنه ينبغي للإمام أن ينبه الناس على ما يتعلق بأحوال الصلاة، ولا سيما إن رأى منهم ما يخالف الأولى (ومنها):

بيان ما أكرم الله صلى الله عليه وسلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمعجزة الإبصار من وراء ظهره، كما يبصر من أمامه، قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى في "ألفية السيرة":

أَكثَرُ الأَنْبِيَاءِ حَقًّا تَبَعَا

يَرَى وَرَاءَهُ كَقْدَّامٍ مَعَا

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".

‌107 - (بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على استحباب رفع اليدين عند رفع الرأس من الركوع.

وهذا الرفع مستحب عند جمهور أهل العلم، وهو الحث، وخالف في ذلك الحنفية، وبعض أهل الكوفة، وقد تقدم تمام البحث في ذلك بما فيه الكفاية، ولله الحمد.

1055 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سُلَيْمٍ الْعَنْبَرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، هَكَذَا، وَأَشَارَ قَيْسٌ إِلَى نَحْوِ الأُذُنَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي، ثقة [10]، تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) الحنظلي المروزي الإمام الحافظ الحجة الثبت [8]، تقدم 32/ 36.

3 -

(قيس بن سُلَيم العنبري) الكوفي، ثقة [7]، تقدم 9/ 887.

4 -

(علقمة بن وائل) بن حُجْر الحضرمي الكوفي، صدوق [3] تقدم 9/ 887.

ص: 175

5 -

(وائل) بن حُجْر بن سعد بن مسروق الحضرمي الصحابي الشهير نزل الكوفة، ومات في ولاية معاوية رضي الله عنهما، تقدم 4/ 879.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث صحيح، وتقدم بأتمّ مما هنا في 9/ 887 أخرج به المصنف حديث وائل رضي الله عنه قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قائما في الصلاة قبض بيمينه على شماله". وتقدم البحث عنه مستوفًى هناك، ولله الحمد.

وأخرجه المصنف هنا -107/ 1055 - وفي "الكبرى" 16/ 642 - بالسند المذكور. وأخرجه (البخاري في "جزء رفع اليدين") رقم 10. والله سبحانه وتعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر الحافظ رحمه الله تعالى في "ت" أن علقمة لم يسمع من أبيه، ونقل ذلك في "تت" عن ابن معين رحمه الله تعالى.

فعقب ذلك بعض المحققين في تعليقه على "ت" فقال: والصحيح أنه سمع من أبيه، كما صرح به البخاري في "التاريخ الكبير"

(1)

، والترمذي في الحدود، في [باب إذا استكرهت المرأة على الزنا"، وفي سنن النسائي في "باب القود" من [كتاب القسامة]، وفي "جزء رفع اليدين للبخاري رقم (101) أيضا تصريح سماعه عن أبيه، وقال الحافظ في "بلوغ المرام" في [باب صفة الصلاة] بعد ذكر حديث وائل: رواه أبو داود بإسناد صحيح. وهذا إنما هو من طريق علقمة، عن وائل. فليتنبه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وقد صرح علقمة في حديث الباب بقوله: "حدثني أبي"، فصح سماعه منه.

والحاصل أن الراجح ثبوت سماعه من أبيه، كما صرح به البخاري، والترمذي. فتنبه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، ما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌108 - (بَابُ رَفْعِ اللْيَدَيْنِ حَذْوَ فُرُوعِ الأُذُنَيْنِ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية رفع اليدين عند الرفع من الركوع مُقابِل فروع الأذنين.

(1)

"التاريخ الكبير" جـ 7 ص 41.

ص: 176

فـ"الحَذْو" بفتح، فسكون: الْمُوَازاة، والمقا بلة، كالحِذاء بالكسر والمد.

ومحل الاستدلال من الحديث واضح. والله تعالى أعلم بالصواب.

1056 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ-، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ يَدَيْهِ، إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدَري البصري، ثقة [10]، تقدم 42/ 47.

2 -

(يزيد بن زُرَيع) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت [8]، تقدم 5/ 5.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مهران البصري، ثقة ثبت يدلس، واختلط آخرا [6] تقدم في 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري تقدم قبل باب.

5 -

(نصر بن عاصم) الليثي البصري، ثقة رمي برأي الخوارج، وصح رجوعه عنه [3]. تقدم 4/ 880.

6 -

(مالك بن الحُويرث) أبو سليمان الليثي الصحابي الشهير رضي الله عنه نزيل البصرة تقدم 7/ 634.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنف، في 4/ 88 أخرجه هناك عن شيخه محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن قتادة، وتقدم الكلام عليه، وعلى ما يتعلق به من المسائل، فلا حاجة إلى إعادة ذلك هنا، فمن أراد الاستفادة فليرجع إليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي، إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌109 - (بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمَنْكِبَينِ عِنْدَ الرَّفعِ مِنَ الرُّكُوعِ)

أشار المصنف رحمه الله تعالى بهذا إلى أن المصلي مخير في رفع يديه، إن شاء رفع إلى فروع الأذنين، وإن شاء رفع إلى المنكبين، لصحة الأمرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 177

والله تعالى أعلم بالصواب.

1057 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" قَالَ: "رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ"، وَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن) الفلاس الصيرفي البصري، ثقة حافظ [10]، تقدم 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان البصري الإمام الحجة الثبت [9]، تقدم 4/ 4.

3 -

(مالك بن أنس) الإمام المدني المجتهد الحافظ الحجة الثبت [7]، تقدم 7/ 7.

4 -

(الزهري) محمَّد بن ملم المدني الإمام الحافظ الحجة الثبت [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدني ثقة ثبت عابد فاضل فقيه [3] تقدم 23/ 490.

6 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، تقدم 12/ 12.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم للمصنف في 1/ 876 - أخرجه هناك عن عمورو بن منصور، عن علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة- (ح) عن أحمد بن محمَّد بن المغيرة، عن عثمان بن سعيد، عن شعيب، عن الزهري، وتقدم هناك شرحه، والمسائل المتعلقة به. ولله الحمد.

وقوله: "وكان لا يرفع يديه بين السجدتين" سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى [باب رفع اليدين للسجود] وسنبين هناك إن شاء الله تعالى مذاهب العلماء في رفع اليدين للسجود، وأن الراجح قول من قال بمشروعيته، لصحة الحديث بذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌110 - الرُّخْصَةُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على التسهيل في ترك رفع اليدين في الرفع من الركوع.

ص: 178

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: تقدم في 87/ 1026 - أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي استدل به المصنف رحمه الله تعالى على الرخصة في ترك الرفع ضعيف على الراجح، فلا يصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة، كأحاديث ابن عمر، ومالك بن الحويرث، ووائل بن حجر، وغيرهم رضي الله عنهم فتبصر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ بتقليد ذوي الاعتساف. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

1058 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: أَلَا أُصَلِّي بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى، فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمود بن غيلان) أبو أحمد المروزي نزيل بغداد، ثقة [10]، تقدم 33/ 37.

2 -

(وكيع) بن الجرَّاح الرؤاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة ثبت حجة [9]، تقدم 23/ 25.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الكوفي الإمام الحافظ الحجة [7]، تقدم 33/ 37.

4 -

(عاصم بن كليب) الجرمي الكوفي، صدوق رمي بالإرجاء [5]، تقدم 11/ 889.

5 -

(عبد الرحمن بن الأسود) بن يزيد النخعي الكوفي، ثقة [3] تقدم 38/ 42.

6 -

(علقمة) بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد [2]، تقدم 61/ 77.

7 -

(عبد الله) بن مسعود الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم 35/ 39.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث تقدم البحث عنه مستوفى، وأن الصحيح أنه ضعيف، حيث أورده المصنف رحمه الله محتجا به على ترك الرفع عند الركوع 87/ 1026 - وعلى تقدير صحته يحمل على بيان الجواز، وأن الرفع ليس من واجبات الصلاة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 179

‌111 - (بَابُ مَا يقُولُ الإِمَامُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على الذكر الذي يقوله الإمام وقت رفع رأسه من الركوع، فـ "ما" موصول اسمي بمعنى الذي، وجمله "يقول" صلتها، والعائد محذوف، أي يقوله، و"إذا" ظرف متعلق بـ"يقول". ويحتمل أن تكون "ما" مصدرية، أي باب قول الإمام الخ. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

1059 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ". وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

كلهم تقدموا قريبا، فـ (سويد بن نصر) و (عبد الله) بن المبارك تقدما قبل ثلاثة أبواب، والباقون تقدموا قبل باب، وتقدم الكلام على الحديث؛ مستوفى في أوائل [كتاب الافتتاح]-1/ 976 - .

(قوله: "أيضا") قال المجد رحمه الله تعالى: الأَيْضُ: العَوْد إلى الشيء، آضَ يئيض، وصَيْرُورة الشيء غَيْرَهُ، وتحويله من حاله، والرجوع، وآضَ كذا: صار، وفَعَلَ ذلك أيضًا: إذا فعله مُعاوِدًا، فاستعير لمعنى الصيرورة. انتهى

(1)

.

فهو منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، أي إِضتُ أيضًا، أو حال من محذوف على حذف مضاف، أو على تقديره بالمشتق، أي أقول هذا ذا أيضٍ، أو آئضا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في الموضع الذي أشرت إليه آنفا، وإنما أتكلم هنا على ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان الذكر الذي يقوله الإمام في رفع رأسه من الركوع، وهو "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد".

(فقوله): وقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا، ولك الحمد" أي قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما

(1)

"القاموس المحيط" ص 821.

ص: 180

يرفع رأسه من الركوع: "سمع الله لمن حمده". وقال حينما اعتدل قائما: "ربنا ولك الحمد". فالتسميع ذكر الرفع، والتحميد ذكر الاعتدال، كما بينته الروايات الأخرى. والهاء في "حمده " ضمير يعود لـ"الله" عز وجل. وقيل: هاء سكت، وهو ضعيف.

وفي قوله: "سمع الله" إثبات صفة السمع لله عز وجل. قال ابن منظور رحمه الله تعالى: السميع من صفات الله وأسمائه، لا يَعزُبُ عن إدراكه مسموع، وإن خفي، فهو سميع بغير جارحة. وفَعِيل من أبنية المبالغة، وفي التنزيل:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، وهو الذي وسع سمعه كل شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله على:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية [المجادلة: 1]، وقال عز وجل:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} الآية [الزخرف: 80].

قال الأزهري رحمه الله: والعجب من قوم فسَّروا السميع بمعنى الْمُسْمِعِ، فرارا من وصف الله بأن له سمعًا، وقد ذكر الله صلى الله عليه وسلم الفعل في غير موضع من كتابه، فهو سميع ذو سمع بلا تكييف، ولا تشبيه بالسمع من خلقه، ولا سمعه كسمع خلقه، ونحن نصف الله بما وصف به نفسه، بلا تحديد، ولا تكييف، قال: ولست أنكر في كلام العرب أن يكون السميع سامعًا، ويكونَ مُسمِعًا، وقد قال: عمرو بن معديكرب: [من الوافر]

أَمِنْ رَيحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ

يُؤَرَّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ

فهو في هذا البيت بمعنى المُسمِع، وهو شاذّ والظاهر الأكثر من كلام العرب أن يكون السميع بمعنى السامع، مثل عليم، وعالم، وقدير وقادر. انتهى المقصود من كلام ابن منظور رحمه الله تعالى

(1)

.

(وقوله: ربنا") بنصب ربنا على أنه منادى حذف منه حرف النداء، كما قال الحريري رحمه الله تعالى في "ملحة الإعراب":

وَحَذفُ يَا يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي

(وقوله: "ولك الحمد") مبتدأ وخبر، وقدم الخبر لإفادة الحصر، والاختصاص، أي لا لغيرك. واختلفت الروايات في زيادة "اللَّهم"، وفي ثبوت هذه الواو، وحذفها، واختُلِفَ أيضًا في كونها عاطفة، أو زائدة، أو حالية:

قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرح المهذب": ثبت في الأحاديث الصحيحة من روايات كثيرة: "ربنا لك الحمد"، وفي روايات كثيرة "ربنا ولك الحمد"، بالواو، وفي

(1)

"لسان العرب" جـ 3 ص 2096.

ص: 181

روايات "اللَّهم ربنا، ولك الحمده"، وفي روايات "اللَّهم ربنا، لك الحمد"، وكله في الصحيح.

قال الشافعي، والأصحاب: كله جائز. وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو عن الواو في قوله: "ربنا، ولك الحمد"؟ فقال: هي زائدة، تقول العرب: بعني هذا الثوب، فيقول المخاطب: نعم، وهو لك بدرهم، فالواو زائدة.

[قلت]: ويحتمل أن تكون عاطفة على محذوف، أي ربنا أطعناك، وحمدناك، ولك الحمد. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى: قوله: "اللَّهم ربنا" ثبت في أكثر الطرق هكذا، وفي بعضها بحذف "اللَّهم"، وثبوتها أرجح، وكلاهما جائز، وفي ثبوتها تكرير النداء، كأنه قال: يا ألله، يا ربنا.

وقوله: "ولك الحمد" كذا ثبت زيادة الواو في طرق كثيرة، وفي بعضها بحذفها. قال النوويّ: المختار لا ترجيح لأحدهما على الآخر. وقال ابن دقيق العيد: كأن إثبات الواو دالّ على معنى زائد؛ لأنه يكون التقدير مثلا ربنا استجب، ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء، ومعنى الخبر. انتهى.

وهذا بناء على أن الواو عاطفة، وقيل: زائدة وقيل: هى واو الحال، قاله ابن الأثير، وضعف ما عداه.

قال: ورجح الأكثروذ ثبوتها. وقال الأثرم: سمعت أحمد يثبت الواو في "ربنا، ولك الحمد"، ويقول: ثبت فيه عدة أحاديث. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى ببعض تصرف

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: الظاهر أن مذهب المصنف رحمه الله تعالى أنه يرى أن الإمام يجمع بين التسميع، والتحميد، وأما المأموم فيحمد فقط، حيث بوب لكل منهما بباب مستقل، وأورد دليل كل منهما، وهذا هو المذهب الراجح، ومثل الإمام في الجمع المنفرد، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة، ودونك ما كتبه المحققون فيها:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم في قول المأموم إذا قال الإمام: "سمع الله لمن حمده": فقالت طائفة: يقول: "سمع الله لمن حمده،

(1)

"المجموع" جـ 3 ص 418.

(2)

جـ 2 ص 539.

ص: 182

اللهم ربنا، لك الحمد"، كذلك قال محمَّد بن سيرين، وأبو بردة. وقال عطاء يجمعهما مع الإمام أحب إليّ، وبه قال الشافعي، وإسحاق، ويعقوب، ومحمد.

وقالت طائفة: إذا قال الإمام: "سمع الله لمن حمده"، فليقل من خلفه:"ربنا، ولك الحمد". هذا قول عبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهم. وبه قال الشعبي، ومالك، وقال أحمد بن حنبل: إلى هذا انتهى أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد"، فالاقتصار على ما عَلَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم المأمومَ أن يقوله أحب إلي، وينبغي أن يكون قوله المأموم: ربنا لك الحمد، أوكد من التشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد عند من يجعل أمر النبي صلى الله عليه وسلم على الفرض، ومما يزيد ما قلناه توكيدا قول الرجل وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربنا، ولك الحمد لمّا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمع الله لمن حمده

(1)

. انتهى المقصود من كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(2)

.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى في شرح قوله: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللَّهم ربنا لك الحمد":

ما نصّه: استُدِلَّ به على أن الإمام لا يقول: "ربنا لك الحمد"، وعلى أن المأموم لا يقول:"سمع الله لمن حمده"، لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية، كما حكاه الطحاوي، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وفيه نظر، لأنه ليس فيه ما يدلّ على النفي، بل فيه أن قول المأموم:"ربنا لك الحمد" يكون عقب قول الإمام: "سمع الله لمن حمده"، والواقع في التصوير ذلك، لأن الإمام يقول التسميع في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإمام، كما في الخبر، وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين، كما تقدم من أنه لا يلزم من قوله:"إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين" أن الإمام لا يؤمّن بعد قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} ، وليس فيه أن الإمام يؤمّن، كما أنه ليس في هذا أنه يقول:"ربنا لك الحمد"، لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة، كما تقدم في التأمين، وكما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين التسميع والتحميد.

وأما ما احتجوا به من حيث المعنى من أن معنى "سمع الله لمن حمده" طلب

(1)

يشير بذلك إلى حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه الآتي في الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

(2)

"الأوسط" جـ 3 ص 161 - 163.

ص: 183

التحميد، فيناسب حال الإمام، وأما المأموم فتناسبه الإجابة بقوله:"ربنا، لك الحمد"، ويقويه حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عند مسلم وغيره

(1)

، ففيه:"وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم".

فجوابه أن يقال: لا يدلّ ما ذكرتم على أن الإمام لا يقول: "ربنا ولك الحمد"، إذ لا يمتنع أن يكون طالبا ومجيبًا، وهو نظير ما تقدم في مسألة التأمين من أنه لا يلزم من كون الإمام داعيا، والمأموم مؤَمِّنًا أن لا يكون الإمام مؤمّنا، ويقرب منه ما تقدم البحث فيه في الجمع بين الحيعلة والحوقلة لسامع المؤذن، وقضية ذلك أن الإمام يجمعهما، وهو قول الشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد، والجمهور، والأحاديث الصحيحة تشهد له، وزاد الشافعي أن المأموم يجمع بينهما أيضًا، لكن لم يصح في ذلك شيء، ولم يثبت عن ابن المنذر أنه قال: إن الشافعي انفرد بذلك؛ لأنه نقل في "الإشراف" عن عطاء، وابن سيرين، وغيرهما القول بالجمع بينهما للمأموم.

وأما المنفرد فحكى الطحاوي، وابن عبد البرّ الإجماع على أنه يجمع بينهما، وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما، للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد، لكن أشار صاحب "الهداية" إلى خلاف عندهم في المنفرد. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى بتغيير يسير

(2)

.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: قد تبين مما تقدم أن ما ذهب إليه الجمهور من أن الإمام يجمع بين التسميع، والتحميد، وأن المأموم يُحَمِّدُ فقط هو المذهب الراجح، عملا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يصلي إمامًا، ويقوله:"سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، فثبت أن الإمام يجمع بينهما.

[فإن قيل]: إن حديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" يشمل المأموم أيضًا، كما استدل به من قال بأنه يجمع بينهما.

[أجيب]: بأنه قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا قال: سمع الله لمن حمده"، فقولوا:"ربنا ولك الحمد" يقدم عليه، لأمرين:

(الأول): أنه عام خص منه عدم متابعة المأموم في الجهر بالقراءة إجماعا.

(الثاني): حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: "كنا يوما نصلي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: "سمع الله لمن حمده"، قال رجل وراءه: ربنا ولك

(1)

هو الحديث الآتي للمصنف بعد باب، وتقدم 38/ 830.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 540.

ص: 184

الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه". . . الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم قرر ذلك الرجل على عدم تسميعه، فدلّ على أن تسميع المأموم غير مشروع. فتبين بهذا أن المراد بقوله: "صلوا كما رأيتوني أصلي" الإمام، والمنفرد، ولا يشمل المأموم.

وأما المنفرد فلا خلاف أنه يجمع بينهما، وقد تقدم أنه ادعى الإجماع على ذلك ابنُ عبد البرّ، والطحاويُ.

والحاصل أن الراجح أنه يجمع الإمام، والمنفرد بين التسميع، والتحميد، ويكتفي المأموم بالتحميد فقط. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1060 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي ابن راهويه المروزي نزيل نيسابور، ثقة ثبت حجة-[10]، تقدم 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ تغير في آخر عمره [9] تقدم 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصري، ثم الصنعاني، ثقة ثبت من كبار [7]، تقدم 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمَّد بن مسلم القرشي أبو بكر المدني الإمام الحافظ الحجة الثبت [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن الزهري المدني ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 1/ 1.

6 -

(أبو هريرة) الصحابي الشهير رضي الله عنه تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، نبلاء، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وأنه مروزي، وعبد الرزاق، ومعمر صنعانيان، والباقون مدنيون، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أحد الفقهاء السبعة، وأحد المكثرين السبعة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 185

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللَّهم ربنا ولك الحمد) أي بعد ما يقول: "سمع الله لمن حمده"، بدليل الرواية السابقة عن أبي هريرة رضي الله عنه -84/ 1023 "فإذا رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد".

وقال السندي رحمه الله تعالى؛ قوله: "قال: اللَّهم ربنا ولك الحمد" أي مع قوله: "سمع الله لمن حمده"، وإنما تركه لظهور أنه من وظائف الإمام، وإنما الكلام في جمع التحميد معه. انتهى

(1)

.

والحديث يدل على أن الإمام يقول: "ربنا ولك الحمد" مع التسميع، ولذلك استدل به المصنف رحمه الله تعالى لما بوب له، وهو "ما يقوله الإمام إذا رفع رأسه من الركوع". والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح. وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، كما أشار الحافظ أبو الحجاج الْمِزِّيّ رحمه الله تعالى

(2)

أخرجه هنا -111/ 1060 - وفي "الكبرى" -20/ 647 - بالسند المذكور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌112 - (بَابُ مَا يَقُول المَأْمُومُ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على ما يقوله المأموم من الذكر في حال رفع رأسه من الركوع. وإنما حذف القيد بحالة الرفع للاختصار، ولدلالة الترجمة السابقة عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

1061 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ مِنْ فَرَسٍ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، يَعُودُونَهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا

(1)

"شرح السندي" جـ 2 ص 195.

(2)

انظر "تحفة الأشراف" جـ 11 ص 53.

ص: 186

قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ:"إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ، فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ").

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم للمصنف سندا ومتنا، في [كتاب الإمامة]-16/ 794 - أورده تحت ترجمة [الائتمام بالإمام]-16/ 794 - والسند من رباعياته، وهو (71) من رباعيات الكتاب.

استدل به هناك على وجوب ائتمام المأموم لإمامه في أفعال الصلاة، وتقدم الكلام عليه هناك مستوفى، فمن شاء فليرجع إليه.

واستدل به هنا على أن المأموم يقتصر على التحميد فقط، فلا يقول:"سمع الله لمن حمده"؛ لأنه من وظيفة الإمام، كما تقدم الكلام عليه في الباب الذي قبل هذا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1062 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، قَالَ رَجُلٌ، وَرَاءَهُ: رَبَّنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ الْمُتَكَلِّمُ آنِفًا؟ "، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا، يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلاً").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمَّد بن سلمة) المرادي الجَمَلي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت [11]، تقدم 19/ 20.

2 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن العُتَقِيّ، أبو عبد الله المصري الفقيه صاحب مالك، ثقة من كبار [10]، تقدم 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني الحجة الفقيه الثبت [7]، تقدم 7/ 7.

4 -

(نعيم بن عبد الله) المدني المجمر، ثقة [3] تقدم 21/ 905.

5 -

(علي بن يحيى الزُّرَقي) الأنصاري المدني، ثقة [4] تقدم 27/ 667.

6 -

(يحيى) بن خلاد بن رافع بن مالك بن العجلان الزرقي الأنصاري المدني، له رؤية، وذكره ابن حبان في "الثقات"، تقدم 27/ 667.

7 -

(رفاعة بن رافع) بن مالك بن العجلان، أبو معاذ الأنصاري البدري رضي الله تعالى عنهما تقدم 27/ 667. والله تعالى أعلم.

ص: 187

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم مدنيون سوى شيخه، وابن القاسم، فمصريان، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، ورواية الراوي عن أبيه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن رفاعة بن رافع) الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، أنه (قال: كنا يوما نصلي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم) الظرفان متعلقان بـ"نصلي"، أو الأول متعلق بـ"كان"، والثاني بـ"نصلي"(فلما رفع) صلى الله عليه وسلم (رأسه من الركعة) بفتح، فسكون: المرة من الركوع، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةِ كَجَلسَهْ

وَفِعْلَةٌ لِهَيْئَةٍ كَجِلسَهْ

(قال: سمع الله لمن حمده) جواب "لما"(قال رجل) وفي "الكبرى": "فقال رجل" بالفاء، وهذا الرجل تقدم في -36/ 931 - عن ابن بشكوال رحمه الله أنه قال: هو رفاعة ابن رافع راوي الخبر، واحتج على ذلك بقصة عطاسه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فقال: الحمد لله حمدًا كثيرا طيبا. . .الحديث. ونوزع في ذلك لاختلاف السياق والقصة، وأجيب بأنه لا تعارض بينهما، بل يحمل على أن عطاسه وقع عند رفع رأسه صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يكني عن نفسه، لقصد إخفاء عمله. أو لغير ذلك.

(وراءه) ظرف متعلق بـ"قال"، أو بمحذوف صفةٍ لرجل"، أي رجلٌ كائنٌ وراء النبي صلى الله عليه وسلم (ربنا، ولك الحمد حمدًا) مفعول مطلق لفعل مقدر، أي نحمدك حمدًا (كثيرا طيبا) أي خالصا من الرياء والسمعة (مباركا فيه) أي كثير الخير، زاد في الرواية المتقدمة 36/ 931: "مباركا عليه، كما يحب ربنا، ويرضى" (فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي سلم من الصلاة (قال:"من المتكلم) "من" استفهامية مبتدأ خبره "المتكلم" (آنفا) بالمد والقصر، كحاذر وحَذِر، وآسن وأَسِنٍ، واختلفوا فيه، فقيل: منصوب على الحال، أي مَنِ الذي تكلم مُؤتَنِفًا الكلام قبل خروجنا من الصلاة؟. وقيل: منصوب على الظرف، أي مَنِ الذي تكلم الساعة؟

(1)

.

(فقال الرجل: أنا يا رسول الله)"أنا" مبتدأ حذف خبره جوازا، أي أنا المتكلم، كما قال في "الخلاصة":

(1)

انظر حاشية الجمل على الجلالين جـ 4 ص 147.

ص: 188

وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا

تَقُولُ: زَيْدٌ بَعْدَ مَنْ عِنْدَكُمَا

وفي الرواية المتقدمة: فلم يكلمه أحد حتى قالها مرتين (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت) اللام هي الموطئة للقسم، أي والله لقد رأيت (بضعة وثلاثين ملكا) "البضع" بالفتح والكسر: ما بين الثلاث إلى العشر، وبالهاء من الثلاثة إلى العشرة، يضاف إلى ما تضاف إليه الآحاد؛ لأنه قطعة من العدد (يبتدرونها) أي يتسارعون، ويتسابقون إليها (أيهم يكتبها أولًا)"أي" استفهامية مبتدأ وجملة "يكتبها" خبره، والجملة منصوبة المحل لكونها معلقة بفعل محذوف، وذلك الفعل في محل نصب على الحال، أي ينظرون أيهم يكتبها أولا. وقيل: الجملة محكية بقول مقدر، أي يقولون: أيهم يكتبها أوّلا

(1)

.. والله سبحانه وتعالى أعلم.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث أخرجه البخاري، وقد تقدّم بيان المسائل المتعلقة به في -36/ 931 - فلا حاجة إلى إعادتها، فمن أراد الاستفادة، فليراجعها هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌113 - (بَابُ قَوْلِهِ: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ")

أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على فضل قول المصلي: "ربنا ولك الحمد"، فالظاهر أنه أراد بهذه الترجمة بيان فضل قول "ربنا ولك الحمد"، فهو كقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه":[باب فضل: "اللَّهم ربنا لك الحمد"]. والله تعالى أعلم بالصواب.

1063 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").

(1)

أفاده السمين الحلبي في إعراب قوله عز وجل: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [سورة آل عمران: آية 44]. انظر "الدر المصون" جـ 2 ص 92.

ص: 189

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني، تقدم في الباب الماضي.

3 -

(سُمَيّ) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدني، ثقة [6] ت 130 (ع) تقدم 22/ 540.

4 -

(أبو صالح) ذكوان السمان الزيّات المدني، ثقة ثبت [3] ت 101 (ع) تقدم 36/ 40.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات نُبَلاء، ومن رجال الجماعة (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بغلانيا، إلا أن الظاهر أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك رحمه الله تعالى (ومنها): أن أبا هريرة أكثر الصحابة رواية للحديث، روى (5374) حديثا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) وفي رواية البخاري. "فقولوا: اللَّهم ربنا، لك الحمد". قال في "الفتح": في رواية الكشميهني: "ولك الحمد" بإثبات الواو، وفيه ردّ على ابن القيم حيث جزم بأنه لم يرد الجمع بين "اللَّهم"، والواو في ذلك. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "سمع الله": أي أجاب، أي من حمد الله متعرضا لثوابه استجاب الله له، وأعطاه ما تعرض له. قال: ولفظ "ربنا" على تقدير إثبات الواو متعلق بما قبله، تقديره: سمع الله لمن حمده، يا ربنا، فاستجب حمدنا، ودعاءنا، ولك الحمد على هدايتنا. انتهى.

وقال البغوي في "شرح السنة": وقوله: "سمع الله لمن حمده"، أي تقبل الله منه حمده، وأجابه، يقال: اسمع دعائي، أي أحب؛ لأن غرض السائل الإجابة، فوضع السمع موضع الإجابة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25] أي اسمعوا مني سمع الطاعة والقبول، ومنه الحديث "أعوذ بك من دعاء لا يسمع"، أي لا

(1)

"فتح" جـ 2 ص 540.

ص: 190

يجاب. انتهى

(1)

.

وقال الكرماني رحمه الله: يحتمل أن يكون السماع بمعناه المشهور. [فإن قلت]: فلا بد تستعمل بـ"من" لا باللام. [قلت]: معناه سمع الحمد لأجل الحامد منه. ثم لفظ "ربنا" لا يمكن أن يتعلق بما قبله لأنه كلام المأموم، وما قبله كلام الإمام،

(2)

بدليل قوله: "فقولوا"، بل هو ابتداء كلام، و (لك الحمد) حال منه، أي أدعوك، والحال أن الحمد لك، لا لغيرك.

[فإن قلت]. هل يكون عطفا على أدعوك؟.

[قلت]: لا؛ لأنها إنشائية، وهذه خبرية. انتهى.

وقال الطيبي رحمه الله: ما حاصله: هذا الكلام يحتاج إلى مزيد كشف وبيان، وذلك أن قوله:"سمع الله لمن حمده" وسيلة، و"ربنا ولك الحمد" طلب، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، فإذا روي بالعاطف تعلق "ربنا" بالأولى، ليستقيم عطف الجملة الخبرية على مثلها، وإذا عزل عن الواو تعلق "ربنا" بالثانية، فإنه لا يجوز عطف الإنشائي على الخبري، وتقديره على الوجه الأول: يا ربنا قبلت في الدهور الماضية حمدَ مَنْ حَمِدَكَ من الأمم السالفة، ونحن نطلب منك الآن قبول حَمْدِنا، ولك الحمد أوّلا وآخرا، فأخرج الأولى على الجملة الفعلية، وعلى الغيبة، وخص اسم الله الأعظم بالذكر، والثانية على الاسمية، وعلى الخطاب، لإرادة الدوام، ولمزيد إنجاح المطلوب، فعلى هذا في الكلام التفاتة واحدة، وعلى الأول التفاتتان من الخطاب إلى الغيبة، ومنه إلى الخطاب. انتهى

(3)

.

(فإن من وافق) وفي نسخة من "المجتبى"، وهو الذي في "الكبرى":"فإنه" بزيادة ضمير الشأن (قوله قول الملائكة)"قوله" بالرفع فاعل "وافق"، و"قولَ" بالنصب مفعوله. وفيه إشعار بأن الملائكة تقول ما يقوله المأمومون.

وقد تقدم في باب التأمين أن الراجح أن المراد بالموافقة هو الموافقة في القول والزمن، وقيل: الموافقة في الإخلاص والخشوع، وقيل: غير ذلك، وأن المراد من الملائكة من يشهد تلك الصلاة ممن في الأرض، أو في السماء، وأدلة ذلك، فراجعه تستفد.

(غفر له ما تقدم من ذنبه) ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية، وفضل الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"شرح السنة" جـ 3 ص 113 - 114.

(2)

قال الجامع: هذا لا يتأتى في حق الإمام والمنفرد؛ لأنهما يجمعان بينهما، فتأمل.

(3)

راجع "عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد" للحافظ السيوطي جـ 2 ص 177 - 178.

ص: 191

واسع، لكن خصه العلماء بالصغائر، وقد تقدم البحث في ذلك في الكلام على حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه فيمن توضأ كوضوئه صلى الله عليه وسلم في الطهارة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -113/ 1063 - و"الكبرى" -22/ 650 - وفي "الملائكة" -كما قاله الحافظ المزي -رحمه الله تعالى--

(1)

عن قتيبة، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عنه. وفي "الملائكة" عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك- وعن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم- كلاهما عن مالك به. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف- وفي "بدء الخلق" عن إسماعيل- كلاهما عن مالك به. (م) في "الصلاة" عن يحيي بن يحيي، عن مالك به. (د) فيه عن القعنبي، عن مالك به. (ت) فيه عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن بن عيسى، عن مالك به.

(مالك في "الموطإ") 76 (أحمد) 2/ 459 و 417. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1064 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُوسَى، قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَنَا، وَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا، فَقَالَ:"إِذَا صَلَّيْتُمْ، فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ الإِمَامُ، فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فَقُولُوا: آمِينَ، يُجِبْكُمُ اللَّهُ، وَإِذَا كَبَّرَ، وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا، وَارْكَعُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ". قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَتِلْكَ بِتِلْكَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ، يَسْمَعِ اللَّهُ لَكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ، وَسَجَدَ، فَكَبِّرُو، وَاسْجُدُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ"، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَتِلْكَ، بِتِلْكَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ،

(1)

"تحفة الأشراف" جـ 9 ص 388.

ص: 192

فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمُ: التَّحِيَّاتُ، الطَّيِّبَاتُ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ، وَرَسُولُهُ، سَبْعَ كَلِمَاتٍ، وَهِيَ تَحِيَّةُ الصَّلَاةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدري البصري، ثقة [10]، تقدم 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الهجيمي البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة البصري، ثقة ثبت يدلس، واختلط آخرا [6] تقدم 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة ثبت يدلس [4]، تقدم 30/ 34.

5 -

(يونس بن جُبَير) الباهلي، أبو غَلاَّب البصري، ثقة [3] تقدم 38/ 830.

6 -

(حِطَّان بن عبد الله) الرَّقَاشي البصري، ثقة [3]، تقدم 38/ 830.

7 -

(أبو موسى) الأشعري عبد الله بن قيس الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم 3/ 3. والله تعالى أعلم.

[قال الجامع عفا الله تعالى]: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنف رحمه الله تعالى في -38/ 830 باب [مبادرة الإمام] أخرجه هناك عن شيخه مؤمل بن هشام، عن إسماعيل ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة.

وقد استوفيت شرحه، وذكر المسائل المتعلقة به هناك، ويأتي ما يتعلق بالتشهد في محله إن شاء الله تعالى-191/ 172 أو-192/ 1173.

(قوله: (بين لنا سنتنا) أي ما يليق أن نتخذه طريقا لنا.

وقوله: "فإذا كبر الإمام فكبروا" فيه أن المأموم لا يكبر قبل إمامه، ولا معه، بل عقبه.

(وقوله: "يجبكم الله") مجزوم بالطلب قبله. وكذا "يسمع الله لكم".

(وقوله: "فتلك بتلك") أي إن اللحظة التي اسبقكم الإمام بها في تقدمه في الركوع، وفي الرفع منه، وفي السجود، وفي الرفع منه تقابل لكم بتأخركم في الركن قليلا بعد انتقاله هو إلى الذي يليه، فتلك اللحظة بتلك اللحظة، فيصير سجودكم، وركوعكم، ورفعكم بقدر سجوده، وركوعه، ورفعه. والله تعالى أعلم.

وقال القرطبي رحمه الله تعالى: هذا إشارة إلى أن حق الإمام السبق، فإذا فرغ تلاه المأموم معقبا، والباء في "بتلك" للإصاق. انتهى

(1)

.

(1)

ذكره في "زهر الربى" جـ 2 ص 197.

ص: 193

(وقوله: "سبع كلمات:) يحتمل النصب على الحالية، أي حال كونها سبع كلمات، ويحتمل الرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، أي هي سبع كلمات، والمراد من الكلمة الكلام؛ لأن الكمة تطلق لغة على الجملة المفيدة، كقوله صلى الله عليه وسلم:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]، قال في "الخلاصة":

وَكِلْمةٌ بَهِا

كَلَامٌ قَدْ يُؤَمّ

يعني أن الألفاظ المذكورة سبع جمل. فالظاهر أن قوله: "التحيات، الطيبات، الصلوات لله" ثلاث جمل، إذ الجار والمجرور خبر لأحد الثلاثة، ويقدر للاثنين نظيره. و (الرابعة): قوله: "سلام عليك أيها النبي، ورحمة الله، وبركاته"، و (الخامسة): قوله: "سلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين". و (السادسة): قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله". و (السابعة): قوله: "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقِى إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌114 - (قَدْرُ الْقِيَامِ بَينَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكوعِ وَالسُّجودِ):

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مقدار القيام الذي بين رفع الرأس من الركوع، ووضع الجبهة على الأرض في السجود.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن المصنف رحمه الله تعالى عقد هذا الباب لرد قول من يقول: إن الاعتدال ركن قصير، لا يجوز تطويله، فإن طَوَّلَهُ عمدا بطلت صلاته، وهو قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة، وسيأتي تمام البحث فيه قريبا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

1065 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ رُكُوعُهُ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَسُجُودُهُ، وَمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ).

ص: 194

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي، أبو يوسف البغدادي، ثقة حافظ [10] تقدم 21/ 22.

2 -

(ابن علية) إسماعيل بن إبراهيم، أبو بشر البصري، ثقة ثبت حافظ [8]، تقدم 18/ 19.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الثقة الثبت الحجة [7]، تقدم 24/ 26.

4 -

(الحكم) بن عتيبة، أبو محمَّد الكندي، ثقة ثبت فقيه، ربما دلس [5] تقدم 86/ 104.

5 -

(عبد الرحمن بن أبي ليلي) الأنصاري المدني، ثم الكوفي، ثقة ثبت [3] تقدم 86/ 104.

6 -

(البراء بن عازب) الأنصاري، أبو عُمَارة الكوفي، الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدم 86/ 105. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، وكلهم من رجال الجماعة، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، كما تقدم غير مرة، وأنه بغدادي، وابن علية، وشعبة بصريان، والباقون كوفيون، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن البراء بن عازب) رضي الله تعالى عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ركوعه، وإذا رفع رأسه من الركوع) قال العيني رحمه الله: كلمة "إذا" للوقت المجرد منسلخا عنه معنى الاستقبال. انتهى

(1)

.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: فعلى هذا يكون معطوفا على اسم "كان"، أي وكان وقت رفعه رأسه من الركوع، ويحتمل أن تكون شرطية وجوابها مقدر دل عليه السابق واللاحق، أي وإذا رفع رأسه كان كذلك، والجملة معترضة (وسجوده) عطف على "ركوعه" أي وكان سجوده (وما بين السجدتين)"ما" اسم موصول بمعنى الذي معطوف على اسم "كان"، و"بين" منصوب على الظرفية صلته، لكونه شبه جملة، قال

(1)

"عمدة القاري" جـ 6 ص 67.

ص: 195

في "الخلاصة":

وَجملَةٌ أَوْ شِبْهُهَا الَّذِي وُصِلْ

بِهِ كَمَنْ عِنْدِي الَّذِي ابْنُةُ كُفِلْ

أي والوقت الذي ثبت بين السجدتين. والمراد بـ"ما بين السجدتين" الجلوس بينهما (قريبا من السواء) منصوب على الخبرية لـ"كان". أي قريبا من الاستواء.

والمراد أن مقدار ركوعه، وسجوده، واعتداله، وجلوسه متقارب. وفيه جواز تطويل الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، وأن القول بأن الاعتدال ركن قصير ضعيف، بل باطل.

وقال النووي رحمه الله: فيه دليل على تخفيف القراءة والتشهد، وإطالة الطمأنينة في الركوع والسجود، وفي الاعتدال عن الركوع، وعن السجود، ونحو هذا قول أنس رحمه الله:"ما صليت خلف أحد أوجز صلاةً من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام".

وقوله: "قريبا من السواء" يدل على أن بعضها كان فيه طول يسير على بعض، وذلك في القيام، ولعله أيضا في التشهد.

[واعلم]: أن هذا الحديث محمول على بعض الأحوال، وإلا فقد ثبتت الأحاديث بتطويل القيام، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة، وفي الظهر بـ"الم تنزيل السجدة"، وأنه كان تقام الصلاة، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يرجع، فيتوضأ، ثم يأتي المسجد، فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ "سورة المؤمنين" حتى بلغ ذكر موسى وهارون، وأنه قرأ في المغرب بـ"الطور"، وبـ "المرسلات"، وبـ"الأعراف"، وأشباه ذلك، وهذا كله يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كانت له في إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات، وهذا الحديث الذي نحن فيه جرى في بعض الأوقات. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال بعضهم: المراد بقوله: "قريبا من السواء" ليس أنه كان يركع بقدر قيامه، وكذا السجود، والاعتدال، بل المراد أن صلاته كانت قريبا معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان، وإذا أخفها أخفّ بقية الأركان، فقد ثبت أنه قرأ في الصبح بـ"الصافات"، وثبت في "السنن" عن أنس رضي الله عنه أنهم حَزَرُوا في السجود قدر عشر تسبيحات، فحمل على أنه إذا قرأ بدون الصافات اقتصر على دون العشر، وأقله كما ورد في السنن أيضًا ثلاث تسبيحات

(2)

. قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 188.

(2)

قلت: حديث تقييد التسبيح بالثلاث تقدم أنه ضعيف.

(3)

جـ 2 ص 547.

ص: 196

[تنبيه]: ثبت في صحيح البخاري رحمه الله من رواية بَدَل بن الْمُحَبَّر، عن شعبة زيادة استثناء، ولفظه:"كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم، وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع -ما خلا القيام والقعود- قريبا من السواء".

قال في "الفتح": قوله: "ما خلا القيامَ والقعودَ" بالنصب فيهما. قيل: المراد بالقيام الاعتدال، وبالقعود الجلوس بين السجدتين. وجزم به بعضهم، وتمسك به في أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين لا يطوّلان. ورده ابن القيم في كلامه على حاشية السنن، فقال: هذا سوء فهم من قائله، لأنه قد ذكرهما بعينهما، فكيف يستثنيهما، وهل يحسن قول القائل: جاء زيد، وعمرو، وبكر، وخالد، إلا زيدا، وعمرا، فإنه متى أراد نفي المجيء عنهما كان تناقضا انتهى

(1)

.

وتعقب بأن المراد بذكرها إدخالها في الطمأنينة، وباستثناء بعضها إخراج المستثنى من المساواة. انتهى.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا التعقب غير سديد، بل رد العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى مستقيم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال: وقال بعض شيوخ شيوخنا: معنى قوله: "قريبا من السواء" أن كل ركن قريب من مثله، فالقيام الأول قريب من الثاني، والركوع في الأولى قريب من الثانية، والمراد بالقيام والقعود الذين استثنيا الاعتدالُ والجلوس بين السجدتين، ولا يخفى تكلفه. اهـ

(2)

.

[قال الجال الجامع عفا الله عنه]: بل هو تكلف بارد بعيد عن مدلول معنى الحديث. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -114/ 1065 - وفي "الكبرى" -22/ 652 - عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه. وفي 179/

(1)

انظر "تهذيب السنن" جـ 1 ص 409. ونقله في "الفتح" بالمعنى.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 531.

ص: 197

1148 -

و"الكبرى" -86/ 734 - عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيي القطان، عن شعبة به. وفي-77/ 1332 - و"الكبرى"-111/ 1255 - عن أحمد بن سليمان، عن عمرو ابن عون، عن أبي عوانة، عن هلال بن حميد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن بدل بن المحبر، وعن أبي الوليد، كلاهما عن شعبة- وعن محمَّد بن عبد الرحيم، عن أبي أحمد، عن مسعر- كلاهما عن الحكم به، (م) فيه عن عبيد الله ابن معاذ، عن أبيه- وعن بندار، عن غندر- كلاهما عن شعبة به. وعن حامد بن عمر، وأبي كامل، كلاهما عن أبي عوانة به. (د) فيه عن حفص بن عمر، عن شعبة به. وعن مسدد، وأبى كامل، كلاهما عن أبي عوانة به. (ت) فيه عن أحمد بن محمَّد بن موسى، عن ابن المبارك- وعن بندار، عن غندر- كلاهما عن شعبة به. (أحمد) 4/ 280 و 275 و 294 (الدارمي) رقم 1339 و 1340 (ابن خزيمة) 610 و 659 و 661. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): أنه يستفاد من هذا الحديث ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان مقدار القيام الذي بين رفع الرأس من الركوع والسجود، وذلك أنه قريب من مقدار الركوع، وفيه أن الاعتدال ركن طويل كالركوع، خلافا للمرجح عند أصحاب الشافعي من أنه ركن قصير، بل قالوا. إن تعمد تطويله بطلت صلاته.

قال الحافظ: قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: هذا الحديث يدل على أن الاعتدال ركن طويل، وحديث أنس رضي الله عنه يعني قوله:"فإذا رفع رأسه قام حتى نقول: قد نسي"- أصرح في الدلالة على ذلك، بل هو نص فيه، فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف، وهو قولهم: لم يسن فيه تكرير التسبيحات كالركوع والسجود. ووجه ضعفه أنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد، وأيضا فالذكر المشروع في الاعتدال أطول من الذكر المشروع في الركوع، فتكرير "سبحان ربي العظيم" ثلاثا يجيء قدرَ قوله:"اللَّهم ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وقد شرع في الاعتدال ذكر أطول، كما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى"، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس

(1)

رضي الله عنهم بعد قوله: "حمدا كثيرا طيبا" ملء السموات، وملء

(1)

رواية ابن عباس رضي الله عنهما تأتي للمصنف في الباب التالي.

ص: 198

الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد". زاد في رواية ابن أبي أوفى:"اللَّهم طهرني بالثلج، والبرد، والماء البارد، اللَّهم طهرني من الذنوب كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الوسخ"، وزاد في حديث الآخرين:"أهل الثناء والمجد" الخ. وقد تقدم ترك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من زاد في الاعتدال ذكرا غير مأثور، ومن ثم اختار النووي رحمه الله جواز تطويل الركن القصير بالذكر، خلافا للمرجح في المذهب.

واستدل لذلك أيضا بحديث حذيفة رحمه الله في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة بالبقرة، أو غيرها، ثم ركع نحوا مما قرأ، ثم قام بعد أن قال:"ربنا لك الحمد" قياما طويلًا قريبا مما ركع، قال النووي: الجواب عن هذا الحديث صعب، والأقوى جواز الإطالة بالذكر. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وقد أشار الشافعي في "الأم" إلى عدم البطلان فقال في ترجمة [كيف القيام من الركوع]: ولو أطال القيام بذكر الله، أو يدعو، أو ساهيا، وهو لا ينوي به القنوت كرهت له ذلك، ولا إعادة، إلى آخر كلامه في ذلك.

فالعجب ممن يصحح مع هذا بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال، وتوجيهه ذلك أنه إذا أطيل انتفت الموالاة. معترض بأن معنى الموالاة أن لا يتخلل فصل طويل بين الأركان بما ليس منها، وما ورد به الشرع لا يصح نفي كونها منها. والله أعلم

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد اتضح مما قاله المحققون من الشافعية، كالنووي، وابن دقيق العيد، والحافظ رحمهم الله تعالى أن قول من قال: إن الاعتدال ركن قصير ضعيف، بل باطل؛ لمنابذته للأحاديث الصحيحة.

والحاصل أن الاعتدال، والجلوس بين السجدتين يجوز تطويلهما بالأذكار بدون كراهة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" جـ 2 ص 547.

ص: 199

‌115 - (بَابُ مَايَقُولُ فِي قِيَامِهِ ذَلِكَ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على الأذكار التي يقولها المصلي في حال قيامه المذكور في الباب الماضي، وهو الاعتدال من الركوع.

فـ"ما" موصول اسمي بمعنى الذي، وجملة "يقول" صلته، والعائد محذوف، كما قال في "الخلاصة":

. . . . . . . . .

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلي

في عَائِدِ مُتَّصِلِ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلِ اوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهبْ

والتقدير "يقوله"، والجارّ والمجرور متعلق به، وقوله:"ذلك" في محل، جرّ بدل من "قيامه"، أو عطف بيان، وفي بعض النسخ إسقاطه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

1066 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو داود سليمان بن سيف) بن يحيى بن درهم الطائي مولاهم، أبو داود الحراني، ثقة حافظ [11] ت 272 (س) تقدم 103/ 136.

2 -

(سعيد بن عامر) الضُّبَعِي، أبو محمَّد البصري، ثقة صالح، ربما وهم [9] ت 208 (ع) تقدم 11/ 518.

3 -

(هشام بن حسان) الأزدي القُرْدُوسي، أبو عبد الله البصري، ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6] ت 7 - أو 148 (ع) تقدم 188/ 300.

4 -

(قيس بن سعد) المكي، أبو عبد الملك، ويقال: أبو عبد الله الحبشي، مولى نافع بن علقمة، ويقال: مولى أم علقمة، مفتي مكة، ثقة [6].

روى عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهم. وعنه الحمادان، وعمران القصير، وجرير بن حازم، وهشام بن حسان، وغيرهم. قال أحمد،

ص: 200

وأبو زرعة، ويعقوب بن شيبة، وأبو داود: ثقة. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان قد خلف عطاء في مجلسه، ولكنه لم يعمر، مات سنة (119) وكان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (17) وقيل: سنة (19) وقال العجلي: مكي ثقة. وسئل أبو داود عن قيس، وابن جريج في عطاء؟، فقال: كان قيس أقدم، وابن جريج يقدم. علق له البخاري، وأخرج له الباقون، سوى الترمذي

(1)

.

5 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال [3] ت 114 على المشهور (ع) تقدم 112/ 154.

6 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله تعالى عنهما، تقدم 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد هو به، وقيس بن سعد، فما أخرج له الترمذي، وعلق عنه البخارى، وفيه من صيغ الأداء الإخبار، والتحديث والعنعنة، وفيه ابن عباس رضي الله عنهما، أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال: "سمع الله لمن حمده"، قال: "اللَّهم ربنا لك الحمد") قال النووي رحمه الله: قال العلماء: معنى "سمع" أجاب، ومعناه أن من حمد الله تعالى متعرضا لثوابه استجاب الله تعالى له، وأعطاه ما تعرض له، فإنا نقول: ربنا لك الحمد، لتحصيل ذلك. انتهى

(2)

. وقوله: "لك الحمد" الرواية هنا بلا واو، وفي الرواية التي بعد هذا "ولك" بالواو.

(ملء السموات وملء الأرض) بكسر الميم، ويجوز نصب آخره، ورفعه، وممن ذكرهما جميعا ابن خالويه، وآخرون، وحكي عن الزجاج أنه لا يجوز إلا الرفع، ورجح ابن خالويه، والأكثرون النصب، وهو المعروف في روايات الحديث، وهو منصوب على الحال، أي مالئا، وتقديره لو كان جسما لملأ ذلك، قاله النووي رحمه الله تعالى

(3)

.

(1)

"تهذيب التهذيب" جـ 8 ص 397.

(2)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 193.

(3)

"المجموع" جـ 3 ص 416.

ص: 201

قال الجامع عفا الله عنه: نصب "ملء" على أنه صفة لمصدر محذوف، أي حمدا ملء، أو مفعول لفعل محذوف، أي أعني، ورفعه على أنه صفة لـ"الحمدُ"، أو خبر لمحذوف، أي هو. و"الملء" بالكسر ما يأخذه الإناء إذا امتلأ.

وقال الخطابي رحمه الله: هو تمثيل، وتقريب، والمراد تكثير العدد، حتى لو قدر ذلك أجسامّا ملأ ذلك، وقال غيره: المراد بذلك التعظيم، كما يقال هذا الكلمة تملأ طباق الأرضء وقيل: المراد بذلك أجرها وثوابها. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأولى إبقاء لفظ الحديث على ظاهره، وما المانع أن يكون الحمد شيئا يملأ السموات والأرض، وقد ثبت بالنصوص الكثيرة أن الأعمال توزن يوم القيامة، ومعلوم أنه لا يوزن إلا ما كان شيئا محسوسا، فلا داعي إلى هذه التكلفات التي ذكروها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(وملء ما شئت من شيء بعد)"ملء" عطف على الأول، ومضاف إلى "ما" الموصولة، و"شئت" صلتها، و"من شيء" بيان لـ"ما" و"بعد" من الظروف المبنية لقطعه عن الإضافة، ونية معناها، وبني على الضم لشبهه بأحرف الغاية، كـ"حيث"، و"منذ"، قال في "الخلاصة":

وَأضْمُمْ بِنَاءً غَيْرًا انْ عَدِمْت مَا

لهُ أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِمَا

قَبْلُ كَغَيرُ بَعْدُ حَسْبُ أَوَّلُ

وَدُونُ وَالْجِهَاتُ أَيْضًا وَعَلُ

والمضاف المقدر هنا "السموات، والأرض"، والظرف متعلق بمحذوف صفة لـ"شيء". والمراد بقوله:"من شيء": العرش، والكرسي، ونحوهما، مما في مقدور الله سبحانه وتعالى.

[تنبيه]: ثبت في رواية مسلم لهذا الحديث من طريق هشيم بن بشير، عن هشام بن حسان، زيادة، بعد قوله:"وملء ما شئت من شيء بعدُ"، ولفظها:"أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد، منك الجد". وسيأتي تمام شرحها في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الآتي قريبا، إن شاء الله سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

ص: 202

أخرجه هنا -115/ 1066 - وفي "الكبرى" -23/ 653 - عن سليمان بن سيف الحراني، عن سعيد بن عامر، عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عنه. و-1067 - و"الكبرى"-654 - عن محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن يحيي بن أبي بكير الكرماني، عن إبراهيم بن نافع، عن وهب بن ميناس العدني، عن سعيد بن جبير، عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن هشيم بن بشير- وعن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن حفص ابن غياث- كلاهما عن هشام بن حسان به.

(أحمد) 1/ 276 و 370 و 277 و 333 و 275 (عبد بن حميد) رقم 628 و 635. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان الذكر المشروع الذي يقوله المصلي في حال اعتداله من الركوع (ومنها): مشروعية الاعتدال، والطمأنينة فيه، لأنه لا يمكن أن يقول هذا الذكر إلا إذا اعتدل، وأطمأن (ومنها): استحباب هذا الذكر لكل مصل، إماما كان، أو مأموما، أو منفردا، لقوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي". رواه البخاري. (ومنها): أن هذا الذكر يشرع في جميع الصلوات، سواء كانت فرضا، أو نفلا، خلافا لبعض العلماء، حيث قالوا: إنه خاص بالتطوع فقط. ولا دليل لهم على ما قالوا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1067 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مِينَاسٍ الْعَدَنِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ السُّجُودَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ، يَقُولُ: "اللَّهُمَّ، رَبَّنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم) بن مقسم الأسدي المعروف أبوه بابن علية، نزيل دمشق وقاضيها، ثقة [11] ت 264 (س) تقدم 22/ 489.

2 -

(يحيى بن أبي بُكَير) واسم أبيه نَسْر -بفتح النون، وسكون المهملة- الأسدي القيسي، أبو زكرياء الكرماني، كوفي الأصل، نزيل بغداد، ثقة [9].

روى عن حَرِيز بن عثمان، وإبراهيم بن طَهْمان، وإبراهيم بن نافع المكي، وغيرهم. وعنه أبو بكر بن أبي شيبة، ويعقوب الدورقي، ومحمد بن إسماعيل ابن

ص: 203

علية، وغيرهم. قال الأثرم عن أحمد: كان كَيِّسًا، وقال حرب بن إسماعيل: سمعت أحمد يثني عليه. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد المائتين. وقال أبو موسى: مات سنة ثمان، وقال ابن قانع: سنة (209) وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: قال علي بن المديني: ابن أبي بكير ثقة. روى له الجماعة، أربعة أحاديث

(1)

.

3 -

(إبراهيم بن نافع) المخزومي، أبو إسحاق المكي، يقال: إنه ابن أخت عطاء الكَيْخَاراني، ثقة حافظ [7] تقدم في 149/ 240.

4 -

وهب بن ميناس العدني) هو بكسر الميم، وبالنون، ويقال: مانوس -كما هو في بعض النسخ- ويقال: ابن ما بوس، بالموحدة، ويقال: ابن ماهنوس، البصري، نزيل اليمن مستور [6].

روى عن سعيد بن جبير. وعنه إبراهيم بن عُمَر بن كيسان، وإبراهيم بن نافع المكي. ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان أصله من البصرة، وحبسه الحجاج باليمن، وقال ابن القطان: مجهول الحال. اهـ أخرج له أبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديثان، هذا، و (1135) حديث:"في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات"

(2)

.

5 -

(سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه [3] ت 95 (ع) 28/ 436.

6 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما المذكور في السند الماضي.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث أخرجه مسلم، وشرحه، والمسائل المتعلقة به واضحة تعلم مما سبق.

وقوله: "بعد الركعة": أي الركوع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1068 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ أَبُو أُمَيَّةَ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَزَعَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ حِينَ يَقُولُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ، وَالْمَجْدِ، خَيْرُ مَا قَالَ الْعَبْدُ -وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ-: لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ").

(1)

"تت" جـ 11 ص 19.

(2)

تك جـ 31 ص 139. "تت" ج 11 ص 166.

ص: 204

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن هشام، أبو أمية الحراني) ثقة [10]، ت 245 (س) تقدم 141/ 222.

2 -

(مَخْلَد) بن يزيد القرشي الحراني، صدوق له أوهام، من كبار [9]، ت 193 (خ م د س) تقدم 141/ 222.

3 -

(سعيد بن عبد العزيز) التنوخي الدمشقي، ثقة إمام، لكنه اختلط بآخره [7] ت 167 (ع) تقدم 5/ 46.

4 -

(عطية بن قيس) الكلابي، أو الكلاعي، أبو يحيي الشامي، ثقة مقرىء [3] ت 121 (خت م 4) تقدم 56/ 973.

5 -

(قَزَعَة بن يحيى) البصري، ثقة [3](ع) تقدم 56/ 976.

6 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخدري رضي الله تعالى عنهما، تقدم 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فمن أفراده، ومخلد، فما أخرج له الترمذي، وابن ماجه، وأن شيخه، ومخلدا حرانيان، وسعيدا، وعطية شاميان، وقزعة بصري، والصحابي مدني، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الأقران، وفيه أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى -1170 - حديثا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول حين يقول: "سمع الله لمن حمده: ربنا لك الحمد") قوله: "حين يقول" متعلق بـ"يقول"، وقوله:"سمع الله لمن حمده" مقول "يقول" الثاني، وقوله:"ربنا لك الحمد" مقول لـ"يقول" الأول. وفي بعض النسخ إسقاط "حين يقول". وفي رواية مسلم من طريق مروان بن محمَّد، عن سعيد بن عبد العزيز:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض". . . الحديث (ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعدُ) تقدم الكلام على هذا في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أهل الثناء) بالنصب على الاختصاص، كما قال في "الخلاصة":

الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ يَا

كَأَيُّهَا الْفَتَى بإِثْرِ ارْجُونِيَا

وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ أَيٍّ تِلْوَ "أَلْ"

كَمِثْلِ نَحْنُ الْعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ

ص: 205

أو منصوب على النداء بحذف حرف النداء، كما قال الحريري في "ملحته":

وَحَذْفُ يَا يَجُوزُ فِي النِّدَاء

كقَوْلِهِمْ رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي

أو منصوب على المدح، أي أمدح أهلَ الثناء. وجوز بعضهم رفعه على أنه خبر لمحذوف، أي أنت أهل الثناء، والنصب هو المشهور، كما قال النووي رحمه الله تعالى.

قال الفيومي رحمه الله: "الثناء" بالفتح والمد، يقال: أثنيت عليه خيرا، وبخير، وأثنيت عليه شرّا، وبشر، لأنه بمعنى وصفته، هكذا نص عليه جماعة: منهم صاحب "الْمُحكَم"، وكذلك صاحب "البارع"، وعزاه إلى الخليل، ومنهم محمد بن الْقُوطِيْة، وهو الحبر الذي ليس في منقوله غَمْزٌ، والبحر الذي ليس في منقوده لَمْز، وكأن الشاعر

(1)

عَنَاه بقوله: [من الوافر]:

إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا

فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ

وقد قيل فيه: هو العالم النِّحْرير، ذو الإتقان والتحرير والحجة لمن بعده، والبرهانُ الذي يُوقف عنده، وتبعه على ذلك مَن عُرِف بالعدالة، واشتهر بالضبط، وصحة المقالة، وهو السَّرَقُسْطِيُّ، وابنُ الْقَطَّاع، واقتصر جماعة على قولهم: أثنيت عليه بخير، ولم ينفوا غيره، ومن هذا اجترأ بعضهم، فقال: لا يستعمل إلا في الْحَسَنِ، وفيه نظر، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدلّ على نفيه عما عداه، والزيادة من الثقة مقبولة، ولو كان الثناء لا يستعمل إلا في الخير كان قول القائل: أثنيت على زيد كافيا في المدح، وكان قوله:"وله الثناء الحسن" لا يفيد إلا التأكيد، والتأسيسُ أولى، فكان في قوله:"الحسن" احتراز عن غير الحسن، فإنه يستعمل في النوعين، كما قال:"والخير في يديك، والشر ليس إليك"، وفي "الصحيحين":"مَرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: "وجبت"، ثم مَرُّوا بأخرى، فأثنوا عليها شرًّا، فقال صلى الله عليه وسلم: "وجبت"، وسئل عن قوله: "وجبت" فقال: "هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرّا، فوجبت له النار". . . الحديث. وقد نقل النوعان في واقعتين، تراخت إحداهما عن الأخرى من العدل الضابط، عن العدل الضابط، عن العرب الفُصَحَاء، عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة، فإنهم قد يكتفون بالنقل عن واحد، ولا يُعْرَف حاله، فإنه قد يَعرِض له ما يخرجه عن حَيِّز الاعتدال، من دَهْش، وسُكْر، وغير ذلك،

(1)

هو لُجَيم بن صَعْب، والد حَنِيفَة، وعِجْل، وكانت حذام امرأته. انتهى "مجمع الأمثال" للميداني: المثل رقم 2890.

ص: 206

فإذا عرف حاله لم يُحتَجَّ بقوله، ويَرجِعُ قوله من زَعَم أنه لا يستعمل في الشرّ إلى النفي، وكأنه قال: لم يُسمَع، فلا يقال، والإثبات أولى، ولله دَرُّ من قال:[من الوافر]

وَإِنَّ الْحَقَّ سُلْطَانٌ مُطَاعُ

وَمَا لِخِلَافِهِ أَبَدًا سَبِيلُ

وقال بعض المتأخرين: إنما استُعمِلَ في الشرّ في الحديث للازدواج، وهذا كلام من لا يعرف اصطلاح أهل العلم بهذه اللفظة. انتهى كلام الفيومي رحمه تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبين بما حرره الفيومي رحمه الله تعالى أن الثناء يستعمل للمدح، والذم، وإنما يميز بالقرينة، مثل ما هنا، فإن المقام مقام مدح، فمن فسره بـ"أنه الوصف الجميل"، كالنووي رحمه الله يحمل على أنه فسره بما يقتضيه المقام. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(والمجد) بالجر عطف على "الثناء"، وهو بفتح الميم، وسكون الجيم: العظمة، ونهاية الشرف.

قال النووي رحمه الله تعالى: هذا هو المشهور في الرواية في مسلم وغيره، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ووقع في رواية ابن ماهان: "أهل الثناء والحمد". وله وجه، ولكن الصحيح المشهور الأول. انتهى

(2)

.

(خير ما قال العبد) هكذا في أكثر نسخ "المجتبى""خير"، ووقع في بعضها "حق ما قال العبد"، وهو الذي في "الكبرى"، والذي في صحيح مسلم، وغيره:"أحق ما قال العبد" بالهمزة. وهو مبتدأ خبره جملة قوله: "لا مانع لما أعطيت" الخ، وجملة "وكلنا لك عبد" معترضة بين المبتدإ والخبر، أو"خير" خبر لمحذوف، تقديره هذا -يعني ما سبق من الذكر- خير ما قال العبد. والمراد بـ"العبد" جنس العباد. و"ما" موصول، أو موصوف مضاف إليه، وجملة "قال العبد" صلة، والعائد محذوف، أي الذي قاله، أو صفة، أو"ما" مصدرية، أي خيرُ قولِ العبد.

وقال النووي -رحمه الله تعالى-: هكذا في مسلم وغيره "أحق" بالألف، "وكلنا" بالواو، وأما ما وقع في كتب الفقه:"حق ما قال العبد: كلنا" بحذف الألف، والواو فغير معروف من حيث الرواية، وإن كان صحيحا.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أن "حق" رواية المصنف في "الكبرى"، ونسخة من "المجتبى"، فصح روايةً، كما صححه النووي درايةً. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" ص 85 - 86.

(2)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 194.

ص: 207

قال: وعلى الرواية المعروفة تقديره: أحق ما قال العبد لا مانع لما أعطيت الخ. واعترض بينهما "وكلنا لك عبد"، ومثلُ هذا الاعتراض في "القرآن" قولُ الله صلى الله عليه وسلم:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18] اعترض قوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} . ومثله قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة:76] اعترض {لَوْ تَعْلَمُونَ} . ومثله قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36] اعترض قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} على قراءة من قرأ "وضعت" بفتح العين، وإسكان التاء، ونظائره كثيرة، ومما جاء منه في شعر العرب: قول الشاعر: [من الوافر]

أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي

بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ

فاعترض قوله: "والأنباء تنمي". وقولُ امرى القيس: [من الطويل]

أَلَا هَلْ أَتَاهَا وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ

بِأَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ بْنِ تَمْلِكَ بَيْقَرَا

(1)

فاعترض قوله: "والحوادث جمة". وقال الآخر: [من الطويل]

إِلَيْكَ أَبَيْتَ اللَّعْنَ كَانَ كَلَالُهَا

إِلَى الْمَاجِدِ الْقَزْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ

فاعترض قوله: "أبيت اللعن". وإنما يعترض ما يعترض من هذا الباب للاهتمام به، وارتباطه بالكلام السابق، وتقديره هنا: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت، وكلنا لك عبد، فينبغي لنا أن ن قوله.

وفي هذا الكلام دليل ظاهر على فضيلة هذا اللفظ، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أن هذا أحق ما قاله العبد، فينبغي أن نُحَافِظ عليه، لأن كلنا عبد، ولا نهمله، وإنما كان أحق ما قاله العبد، لما فيه من التفويض إلى الله تعالى، والإذعانِ له، والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن الخير والشرّ منه، والحث على الزهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصالحة. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(2)

.

(لا مانع) وفي نسخة: "لا نازع"، وهو الذي في "الكبرى". ولفظ مسلم من طريق مروان بن محمد، عن سعيد: "اللَّهم لا مانع دمًا أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا

(1)

بيقر الرجلُ: هاجر من أرض إلى أرض، أو خرج إلى حيث لا يدري، وله معان أخر، راجع "لسان العرب" في مادة "بقر".

(2)

"شرح صحيح مسلم" جـ 4 ص 194 - 196. ببعض زيادة من، شرح المهذب" جـ 1 ص 475.

ص: 208

ينفع ذا الجد، منك الجد"، ففيه زيادة: "ولا معطي لما منعت".

قال الجامع عفا الله عنه: [فإن قلت]: إن القاعدة في اسم "لا" التي لنفي الجنس إذا كان مضافا، نحو لا طالبَ علم ممقوتٌ، أو شبيها بالمضاف، وهو ما له تعلق بما بعده، إما بالعمل، أو غيره، نحو لا طالعا جبلا حاضر، أن ينصب، فلماذا سقط تنوين اسمها في هذا الحديث؟

أجيب: بأنه إما مبني، إجراء له مجرى المفرد، أو معرب حذف تنوينه تشبيها بالمضاف، أو مبني لكونه مفردا، وقوله:"لما أعطيت" متعلق محذوف خبرٍ لـ "لا"، أي لا مانعَ مانعٌ لما أعطيت.

قال الخضري رحمه الله تعالى في حاشيته على شرح ابن عقيل على "الخلاصة":

[واعلم]: أن مشبه المضاف يلزم إعرابه منونا عند البصريين، وجوز ابن كيسان بناءه أيضًا، فلا ينون، إجراءً له مجرى المفرد، لعدم الاعتداد بالمعمول، لصحة الكلام بدونه، وأجاز ابن مالك إعرابه غير منون بقلة، تشبيها بالمضاف، وعلى أحد هذين يخَرَّجُ حديث:"لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت"، وقوله تعالى:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، ويمكن تخريجه على الأول بجعل الظرف خبرا متعلقا بمحذوف، لا باسم "لا"، فهو مفرد مبني، لا شبيه بالمضاف، أي لا مانعَ مانعٌ لما أعطيت، واللام للتقوية، ولا جدالَ حاصل في الحج، وأجاز البغداديون بناءه، إن عمِلَ في ظرف، كالآية. انتهى إسقاطي بزيادة. انتهى كلام الخضري رحمه الله تعالى

(1)

.

(لما أعطيت)"ما" تعم العقلاء وغيرهم، فهي موصول اسمي، و"أعطيت" صلته، والعائد محذوف، أي لا مانع للذي أعطيته. ويحتمل أن تكون حرفا مصدريا، أي لإعطائك. وهذا بمعنى قوله:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} الآية [فاطر:2].

(ولا ينفع ذا الجد منك الجد)"ذا" بمعنى "صاحب" مفعول مقدم، منصوب بالألف، كما قال في "الخلاصة":

وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ

وَاجْرُز بِيَاءِ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ

مِنْ ذَاكَ ذُو إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا

وَالْفَمُ حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا

و"الجدّ" بالرفع فاعل مؤخر.

قال النووي رحمه الله تعالى: المشهور فيه فتح الجيم، هكذا ضبطه العلماء

(1)

حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة. جـ 1 ص 142.

ص: 209

المتقدمون والمتأخرون، قال ابن عبد البر رحمه الله: ومنهم من رواه بالكسر، وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله: هو بالفتح، قال: وقاله الشيباني بالكسر، قال: وهذا خلاف ما عرفه أهل النقل، قال: ولا يعلم من قاله غيره، وضعف الطبري، ومن بعده الكسر

(1)

، قالوا: ومعناه على ضعفه: الاجتهاد، أي لا ينفع ذا الاجتهاد منك اجتهاده، إنما ينفعه، وينجيه رحمتك. وقيل: المراد ذا الجد والسعي التامّ في الحرص على الدنيا. وقيل: معناه الإسراع في الهرب، أي لا ينفع ذا الإسراع في الهرب منك هربه، فإنه في قبضتك، وسلطانك. والصحيح المشهور الْجَدّ بالفتح، وهو الحظ والغنى والعظمة والسلطان، أي لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان منك حظه، أي لا ينجيه حظه منك، وإنما ينفعه، وينجيه العمل الصالح، كقوله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} الآية [الكهف: 46] والله تعالى أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(2)

.

وقد اختلف في "مِنْ" من قوله "منك الجد"، فقال الزمخشري في "الفائق": بمعنى "بدل"، كما في قوله تعالى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ} الآية [الزخرف: 60]، أي بدلكم، والمعنى: أن المحظوظ لا ينفعه حظه بَدَلَكَ، أي بدل طاعتك وعبادتك. وقال التوربشتي: أي لا ينفع ذا الغنى غناه عندك، وإنما ينفعه العمل بطاعتك، وعلى هذا فمعنى "منك" عندك، ويحتمل وجها آخر، أي لا يسلمه من عذابك غناه. وقال المظهري: أي لا يمنعه غناه من عذابك، إن شئت به عذابا. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: روي سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" فيما أخرجه ابن ماجه رحمه الله تعالى بسنده عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: ذكرت الجُدُود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، فقال رجل: جَدُّ فلان في الخيل، وقال آخر: جد فلان في الإبل، وقال آخر: جد فلان في الغنم، وقال آخر: جد فلان في الرقيق. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، ورفع رأسه من آخر الركعة، قال: "اللَّهم ربنا لك الحمد، ملْ السموات

(1)

وقال غيره: المعنى الذي أشار إليه الشيباني صحيح، ومراده أن العمل لا ينجي صاحبه، وإنما النجاة بفضل الله ورحمته، كما جاء في حديث:"لن ينجي أحدا منكم عمله". اهـ "زهر الربى" ج 2 ص 199 - 200.

(2)

"شرح مسلم" جـ 4 ص 196.

(3)

"عقود الزبرجد" جـ 2 ص 178 - 179.

ص: 210

وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعدُ، اللَّهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وطول رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بـ"الجد" ليعلموا أنه ليس كما يقولون. انتهى

(1)

.

لكن الحديث في سنده أبو عمر، مجهول، لا يعرف حاله، كما قال البوصيري رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -115/ 1068 - وفي "الكبرى" -23/ 655 - بالسند المذكور.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) في "الصلاة" عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن مروان بن محمَّد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن قزعة بن يحيي، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

(د) فيه عن مؤمل بن الفضل الحراني، عن الوليّد بن مسلم- وعن محمود بن خالد، عن أبي مسهر- وعن أبي الطاهر بن السرح، عن بشر بن بكر- وعن محمَّد بن مصعب، عن عبد الله بن يوسف- وعن محمَّد بن مصفّى عن بقية بن الوليد- خمستهم عن سعيد به.

(أحمد) 3/ 87 (الدارمي) رقم 1319 (ابن خزيمة)613. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1069 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَسَمِعَهُ حِينَ كَبَّرَ، قَالَ:"اللَّهُ أَكْبَرُ، ذَا الْجَبَرُوتِ، وَالْمَلَكُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ"، وَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ:"لِرَبِّي الْحَمْدُ، لِرَبِّي الْحَمْدُ، وَفِي سُجُودِهِ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى"، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي"، وَكَانَ قِيَامُهُ، وَرُكُوعُهُ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَسُجُودُهُ وَمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ".

(1)

"سنن ابن ماجه" جـ 1 ص 284 - 285.

ص: 211

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حميد بن مسعدة) السامى الباهلي البصري، صدوق [10]، تقدم 5/ 5.

2 -

(يزيد بن زريع) أبو معاويْة البصري، ثقة ثبت [8]، تقدم 5/ 5.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة الثبت [7]، تقدم 24/ 26.

4 -

(عمرو بن مرة) الجملي المرادي الكوفي، ثقة عابد رمي بالإرجاء [5]، تقدم 171/ 265.

5 -

(أبو حمزة) طلحة بن يزيد مولى الأنصار نزيل الكوفة، وثقه النسائي، وابن حبان-[3]، تقدم 78/ 1009.

6 -

(رجل من بني عبس) قال النسائي: يشبه أن يكون صلة بن زفر. انتهى.

7 -

(حديفة) بن اليمان رضي الله تعالى عنهما، تقدم 2/ 2. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، سوى الرجل المبهم، وأن الثلاثة الأولين بصريون، والباقون كوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن حذيفة) رضي الله عنه (أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة) أي ليلة من الليالي، فـ"ذات" مقحمة، وقيل: هو من إضافة المسمى إلى الاسم ((فسمعه) أي سمع حذيفة النبي صلى الله عليه وسلم (حين كبر) أي أراد أن يكبر، الظرف متعلق بـ"سمع" (قال: الله أكبر) فيه أن الدخول في الصلاة يكون بهذا اللفظ (ذا الجبروت) منصوب على الحالية، وهو مبالغة في الجبر، وهو القهر، أي حال كونه صاحب القهر التام (والملكوت) مبالغة في الملك، وهو التصرف (والكبرياء) قيل: هي العظمة، وقيل: عبارة عن كمال الذات، وكمال الوجود (والعظمة) عطف تفسير على الأول، وعطف مغاير على الثاني (وكان) صلى الله عليه وسلم (يقول في ركوعه:"سبحان ربي العظيم") تقدم شرحه في 99/ 1046 (وإذا رفع رأسه من الركوع قال: "لربي الحمد، لربي الحمد") الجار والمجرور خبر مقدم، عن "الحمدُ"، وفي تقديمه إفادة الحصر والاختصاص، أي الحمد كائن لربي، لا لغيره، وأراد بتكراره أنه كان يكثر منه، والظاهر أنه يقول ذلك بعد قوله:"سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، لأن التسميع من واجبات الصلاة، لما في حديث المسيء صلاته، الآتي 167/ 1136 - حيث قال له صلى الله عليه وسلم: "إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ

ص: 212

الوضوء كما أمره الله عز وجل. . . الحديث، وفيه:"ثم يقول: "سمع الله لمن حمده، ثم يستوي قائما".

(وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى") تقدم شرحه، أي ويقوله في حال سجوده:"سبحان ربي الأعلى"، وفيه عطف المعمولين علي معمولي عامل واحد، فالجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور، و"سبحان ربي الأعلى" معطوف على "سبحان ربي العظيم"، وكلاهما معمولان لعامل واحد، وهو "يقول"، وهو جائز بلا خلاف بين النحاة. كما قاله ابن هشام الأنصاري رحمه الله تعالى في "مغني اللبيب"

(1)

.

(وبين السجدتين: "رب اغفر لي، رب اغفرلي") أي يقول في حال جلوسه بين السجدتين: "رب اغفر لي"، وفيه الإعراب المذكور قبله، وأراد بذكره مرتين أنه كان يكرره مرارا (وكان قيامه) أي للقراءة (وركوعه، وإذا رفع رأسه من الركوع، وسجوده، وما بين السجدتين قريبا من السواء) تقدم شرح هذا الكلام في الباب الماضي، فراجعه، تستفد. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث حذيفة رضي الله عنه هذا صحيح.

قال الجامع عفا الله عنه: [إن قيل]: كيف يصح، وفيه الرجل المبهم؟

[أجيب]: بأنه يشهد له رواية صِلَة بن زُفَرَ، عن حذيفة رضي الله عنه، كما تقدم بيانه في -77/ 1008 - على أن المصنف رحمه الله قال: إنه يشبه أن يكون صلة، فعلى هذا لا إشكال. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -115/ 1069 - وفي "الكبرى" 23/ 656 - عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريم، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن رجل من بني عبس، عنه. وفي -176/ 1145 - و"الكبرى" -83/ 731 - عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن

خالد بن الحارث، عن شعبة به، وقد تقدّم ذكر بقية المواضع التي أورده المصنف فيها في 77/ 1008. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

(1)

ج 2 ص 101 بحاشية الأمير.

ص: 213

أخرجه (د) في "الصلاة" عن أبي داود الطيالسي، وعلي بن الجعد، كلاهما عن شعبة به. (ت) في "الشمائل" عن محمَّد بن المثنى، عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة به. (أحمد) 5/ 398. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان بعض أنواع الذكر المشروع في الاعتدال من الركوع، وهو "لربي الحمد"، لربي الحمد" (ومنها): استحباب قول "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود، و"رب اغفر لي رب اغفر لي" في الجلوس بين السجدتين (ومنها): تقارب القيام، والركوع، والرفع منه، والسجود، والرفع منه في مقدار الطول. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، ما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

‌116 - (بَابُ الْقُنُوتِ بَعْد الرُّكُوعِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية القنوت بعد الركوع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "القنوت" بالضم مصدر "قَنَتَ" من باب قعد، يطلق في اللغة على معان:

قال ابن منظور رحمه الله تعالى: القنوت: الإمساك عن الكلام. وقيل: الدعاء في الصلاة، والقنوت: الخُشُوع، والإقرار بالعبودية، والقيام بالطاعة التي ليس معها معصية. وقيل: القيام. وزعم ثعلب أنه الأصل. وقيل: إطالة القيام، وفي التنزيل العزيز:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، قال زيد بن أرقم رضي الله عنه:"كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: "وقوموا لله قانتين"، فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام"، فالقنوت ها هنا الإمساك عن الكلام في الصلاة. وقال أبو عبيد: أصل القنوت في أشياء، فمنها القيام، وبهذا جاءت الأحاديث في قنوت الصلاة؛ لأنه إنما يدعو قائما، وأبين من ذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت"

(1)

. يريد طول القيام. ويقال للمصلي: قانت.

(1)

سيأتي للمصنف في "كتاب الزكاة " 49/ 2526. وأخرجه مسلم في "صحيحه" جـ 1 ص 520 - رقم 756.

ص: 214

وقد تكرر في الحديث، ويرد لمعان متعددة، كالطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه.

وقال ابن الأنباري: القنوت على أربعة أقسام: الصلاة، وطول القيام، وإقامة الطاعة، والسكوت. وقال ابن سِيدَه: القنوت الطاعة، هذا هو الأصل، ومنه قوله تعالى:{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: 35] ثم سمي القيام في الصلاة قنوتا، ومنه قنوت الوتر. وقَنَتَ الله يَقْنُتُه: أطاعه. وقوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] أي: مطيعون، ومعنى الطاعة ها هنا: أن من في السموات والأرض مخلوقون بإرادة الله تعالى، لا يقدر أحد على تغيير الْخِلْقَة، ولا مَلَك مقرب، فآثار الصنعة والخلقة تدل على الطاعة، وليس يُعْنَى بها طاعة العبادة، لأن فيهما مطيعا، وغير مطيع، وإنما هي طاعة الإرادة والمشيئة. والقانت: المطيع، والقانت الذاكر لله تعالى، كما قال عز وجل:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]، وقيل: القانت العابد، والقانت في قوله عز وجل:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] أي من العابدين، والمشهور في اللغة أن القنوت الدعاء، وحقيقة القانت أنه القائم بأمر الله، فالداعي إذا

كان قائما خُص بأن يقال له: قانت؛ لأنه ذاكر لله تعالى، وهو قائم على رجليه، فحقيقة القنوت: العبادة، والدعاء لله عز وجل في حال القيام، ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قيام بالرجلين، فهو قيام بالشيء بالنية. قال ابن سِيدَهْ: والقانت القائم

بجميع أمر الله تعالى، وجمع القانت من ذلك كله: قُنت، قال الْعَجَّاجُ:[من الرجز]

رَبُّ الْبلَادِ وَالعِبَادِ الْقُنَّتِ

وقَنَتَ له: ذلّ، وقَنَتت المرأةَ لبعلها: أقرّت

(1)

. انتهى المقصود من كلام ابن منظور رحمه الله تعالى

(2)

وقد نظم الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه الله تعالى معاني القنوت بقوله [من الطويل]:

وَلَفْظُ الْقُنُوتِ اعْدُدْ مَعَانِيَهُ تجَدْ

مَزِيدًا عَلَى عَشْرِ مَعَانِيَ مَرْضِيَّهْ

دُعَاءٌ خُشُوعٌ وَالْعِبَادَةُ طَاعَةُ

إِقَامَتُها إِقْرَارُهُ بِالْعُبُودِيَّهْ

سُكُوت صَلَاةٌ وَالقِيَامُ وَطُولُهُ

كَذَاكَ دَوَامُ الطَّاعَةِ الرَّابِحُ الْقِنْيَهْ

(3)

(1)

أي انقادت، وأطاعت له.

(2)

"لسان العرب" ج 5 ص 3747 - 3748.

(3)

انظر "فتح الباري" جـ 3 ص 178.

ص: 215

والله تعالى أعلم بالصواب.

1070 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا، بَعْدَ الرُّكُوعِ، يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، عَصَتِ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزي، ثم النيسابوري، ثقة حافظ حجة فقيه [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي، نزيل الري، ثقة ثبت [8]، تقدم 2/ 2.

3 -

(سليمان التيمي) بن طرخان، أبو المعتمر البصري، ثق عابد [4]، تقدم 87/ 107.

4 -

(أبو مِجْلَز) لاحِق بن حُمَيد بن سعيد السَّدُوسي البصري، ثقة مشهور بكنيته، من كبار [3]، تقدم 188/ 296.

5 -

(أنس بن مالك) الأنصاري الخادم رضي الله عنه تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه (ومنها): أن شيخه مروزي، نزيل نيسابور، وجرير كوفي نزيل الرَّيّ، والباقون بصريون (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي (ومنها): أن فيه أنس بن مالك رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، أنه (قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، بعد الركوع) الظرفان متعلقان بـ"قنت"(يدعو) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، أي حال كونه داعيا (على رِعْلٍ) بكسر الراء، وسكون العين المهملة: حَيّ من سُلَيم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وهو رِعل بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، والنسبة إليهم رِعْلي. قاله في "اللباب"

(1)

. (وذكوان) بفتح الذال المعجمة، وسكون الكاف: بطن كبير من سُلَيم المذكور، وهو ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سُلَيم. قاله في

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" جـ 1 ص 531. وجـ 2 ص 31.

ص: 216

"اللباب"

(1)

. وهو غير منصرف للعلمية وزيادة الألف والنون (وعُصَيَّة) بضم العين، وفتح الصاد المهملتين بلفظ تصغير عَصَا: قبيلة من سليم أيضًا، وهو عُصَيَّة بن خُفَاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سُلُيم. قاله المرتضى الزَّبيدي في شرح "ق"

(2)

.

(عصت الله ورسوله) الضمير المستتر الفاعل يعود على القبائل الثلاث، والجملة مستأنفة، استئنافا بيانيا، كأن قائلا قال له: لماذا دعا عليهم، فقال: لأنها عصت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال السندي رحمه الله: وفي وصله لفظا بعصية مناسبة المجانسة، كما لا يخفى. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: سبب دعائه النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء القبائل، هو ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه"، عن أنس رضي الله عنه قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة، يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيّان من بني سُلَيم، رِعْل، وذكوان عند بئر يقال لها بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم فقتلوهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شهرا في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت".

وأخرج عنه أيضا: "أن رِعْلًا، وذكوان، وعصية، وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوهم، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة، قتلوهم، وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقنت شهرا، يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل، وذكوان، وعُصية، وبني لحيان، قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع، بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا، وأرضانا". انتهى

(4)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -116/ 1070 - وفي "الكبرى" -24/ 657 - عن إسحاق بن إبراهيم،

(1)

جـ 1 ص 531.

(2)

قال العروس جـ 10 ص 245.

(3)

"شرح السندي" جـ 2 ص 201.

(4)

صحيح البخاري جـ 5 ص 134.

ص: 217

عن جرير ابن عبد الحميد، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلَز، عنه. و 117/ 1071 - و"الكبرى" 25/ 658 - عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عنه. و 117/ 1072 و"الكبرى" 25/ 659 عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضل، عن يونس بن عبيد، عن ابن سيرين، عن بعض من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أنس رضي الله عنه و-120/ 1077 - و"الكبرى" 28/ 664 - عن محمَّد بن المثنى، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن قتادة، عنه. و-122/ 1079 - و"الكبرى" 29/ 665 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه، عن قتادة، عنه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ) عن أحمد بن يونس، عن زائدة، عن سليمان التيمي به. وعن مسلم بن إبراهيم، عن هشام الدستوائي به. وعن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن عبد العزيز بن صهيب، عنه. وعن إسماعيل بن عبد الله، ويحيى بن بكير، كلاهما عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله، عنه. وعن أبي النعمان، عن ثابت بن يزيد، ض عاصم الأحول، عنه. ومن مسدد، وموسى بن إسماعيل، كلاهما عن عبد الواحد بن زياد، عن عاصم به. (م) عن عبيد الله بن معاذ العنبري، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن عبد الأعلى، كلهم عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه عنه. وعن محمَّد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن هشام به. وعن عمرو الناقد، عن الأسود بن عامر، عن شعبة، عن موسى بن أنس، عنه. وعن يحيي ابن يحيى، عن مالك به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي غريب، كلاهما عن أبي معاوية، عن عاصم به. وعن محمَّد بن حاتم، عن بهز ابن أسد، عن حماد بن سلمة، عن أنس بن سيرين، عنه. (د) عن أبي الوليد الطيالسي، عن حماد بن سلمة به. (ق) عن نصر بن علي، عن يزيد بن زريع، عن هشام الدستوائي به. وعن نصر بن علي، عن سهل بن يوسف، عن حميد، عنه. (الحميدي) رقم 1207. (أحمد) 3/ 167 و 111 و 116 و 204 و 115 و 180 و 217 و 261 و 191 و 252 و 259 و 278 و 282 و 215 و 184 و 249 و 207 و 235 و 232. (الدارمي) رقم 1604 (ابن خزيمة)620. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية القنوت بعد الركوع، وفيه اختلاف بين العلماء سيأتي تحقيقه في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن فيه حجة على الإمام أبي حنيفة في منعه أن يُدعَى لمعين، أو على معين في الصلاة،

ص: 218

وخالفه الجمهور، فجوزوا ذلك، لهذا الحديث، وغيره من الأحاديث الصحيحة وهو المذهب الراجح. (ومنها): أن فيه الرد عليه أيضًا في منعه الدعاء بما ليس بلفظ القرآن من الدعاء في الصلاة، وخالفه غيره في ذلك، وهو الراجح. (ومنها): أن فيه جواز الدعاء على الكفار، ولعنهم، قال صاحب "المفهم": ولا خلاف في جواز لعن الكفرة، والدعاء عليهم، قال: واختلفوا في جواز الدعاء على أهل المعاصي، فأجازه قوم، ومنعه آخرون. قال ولي الدين رحمه الله: أما الدعاء على أهل المعاصي، ولعنهم من غير تعيين، فلا خلاف في جوازه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله السارق، يسرق البيضة". "لعن الله من غيّر منار الأرض"، ونحو ذلك، وأما مع التعيين فوقع كثيرا في الأحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم لا تغفر لِمُحَلِّم بن جَثَّامَة"، ولهذا قال النوويّ رحمه الله في "الأذكار": إن ظواهر الأحاديث تدلّ على جواز لعن أهل المعاصي مع التعيين. انتهى

(1)

.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: ما دلت عليه ظواهر النصوص هو الراجح عندي، وأما ما أشار إليه ولي الدين في كتابه "الطرح" من الخصوصية له صلى الله عليه وسلم، واستدل له بما ليس دليلا عليه، ففيه نظر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلافا أهل العلم في محل القنوت:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم في القنوت قبل الركوع وبعده:

فممن رُوي عنه أنه قنت قبل أن يركع عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وابن عباس، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وحميد الطويل، وعَبِيدة السلماني، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، وكذلك إسحاق، وعامة من ذكرنا أنه رأى القنوت قبل الركوع، أو بعده، فإنما هو في صلاة الصبح.

قال: وقال أصحاب الرأي: بلغنا أنه قنت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من القراءة قبل أن يركع، وليس في الصلوات قنوت إلا الوتر.

وفيه قول ثان: وهو أن القنوت بعد الركوع، روي هذا القول عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وقال أنس بن مالك: كل ذلك كنا نفعل قبلُ، وبعدُ، وممن رأى أنه يقنت بعد الركوع أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، وروي هذا القول عن الحسن، والحكم، وحماد، وأبي إسحاق.

(1)

"طرح التثريب" جـ 2 ص 291 - 292.

ص: 219

قال ابن المنذر رحمه الله: ثبتت الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قنت بعد الركوع في صلاة الصبح، وبه نقول، إذا نزلت نازلة، احتاج الناس من أجلها إلى القنوت، قنت إمامهم بعد الركوع. انتهى المقصود من كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله تعالى: فيه -أي في حديث الباب- حجة لمن ذهب إلى أن محل القنوت بعد الركوع، وهو قوله الشافعي، وأحمد، وإسحاق، ورواية عن مالك. وقد ثبت أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة، يقول:"اللَّهم العن فلانا" بعد ما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا، ولك الحمد". . . الحديث، ولمسلم من حديث خُفاف بن إِيمَاء: ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رفع رأسه، فقال:"غفار غفر الله لها". . . الحديث. وهو في "الصحيحين" أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه.

وذهب مالك في المشهور عنه إلى أن محله قبل الركوع، واستدلّ له بما رواه البخاري ومسلم من رواية عاصم، قال: سألت أنسا عن القنوت، أكان قبل الركوع، أم بعده؟ قال: قبله، قلت: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت: بعده، قال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا.

وذهب جماعة إلى التخيير بين القنوت قبله، أو بعده، حكاه صاحب "المفهم" عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وجماعة من الصحابة، والتابعين. . انتهى كلام ولي الدين رحمه الله تعالى

(2)

.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: الذي يظهر من عمل المصنف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب أنه يرى ترجيح مذهب القائلين يكون محل القنوت بعد الركوع، حيث ترجم له فقط، كما أنه يرى ترجيح القول بترك القنوت، حيث ترجم له آخر أبواب القنوت بقوله "ترك القنوت".

وهذا المذهب هو الذي يترجح عندي؛ لأن أكثر الأحاديث على أنه صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع، كما أشار إليه ابن المنذر فيما تقدم، واختاره.

ثم إن هذا الاختلاف بالنسبة لمحل القنوت، وأما الاختلاف في أصل مشروعية القنوت، وعدمه، فسيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"الأوسط" ج 5 ص 208 - 210.

(2)

"طرح التثريب" ج 2 ص 291.

ص: 220

‌117 - (بَابُ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية القنوت في صلاة الصبِح.

1071 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، سُئِلَ، هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ، أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد، ثقة ثبت [10]، تقدم 1/ 1.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت حجة [8]، تقدم 3/ 3.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختياني، أبو بكر البصري، ثقة ثبت فقيه [5]، تقدم 42/ 48.

4 -

(ابن سيرين) هو محمَّد، أبو بكر البصري الإمام الحجة الثبت [3]، تقدم 46/ 57.

5 -

(أنس بن مالك) رضي الله عنه تقدم في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات نبلاء، وأنهم من رجال الجماعة، وأنهم بصريون، سوى شيخه، فبغلاني، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن) محمَّد (ابن سيرين، أن أنس بن مالك) رضي الله عنه (سئل) بالبناء للمفعول، ولمسلم من طريق إسماعيل، عن أيوب:"قلت لأنس"، فعرف بذلك أنه السائل له، فأبهم نفسه (هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟، قال: نعم) أي قنت في الصبح (فقيل له: قبل الركوع، أو بعده؟) أي أقنت صلى الله عليه وسلم قبل الركوع، أو بعد الركوع؟ (قال: بعد الركوع) أي قنت بعد الركوع. وفي رواية البخاري: "قال: بعد الركوع يسيرا". قال في "الفتح": قد بين عاصم في روايته مقدار هذا اليسير، حيث قال؛ "إنما قنت بعد الركوع شهرا". وفي "صحيح ابن خزيمة" من وجه آخر عن أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم". انتهى.

ص: 221

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]. هذا الحديث متفق عليه وقد تقدم بيان المسائل المتعلقة به في حديث الباب الماضي. وإنما أبين هنا الاختلاف في حكم القنوت في الصبح، فأقوله -وبالله تعالى التوفيق-:

(مسألة): اختلف أهل العلم في القنوت في صلاة الصبح:

فذهب جماعة من العلماء إلى أنه مشروع في صلاة الفجر، وقد حكاه الحازمي عن أكثر الناس من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم من علماء الأمصار، ثم عد من الصحابة الخلفاء الأربعة إلى تمام تسعة عشر من الصحابة، ومن المخضرمين أبو رجاء العطاردي، وسويد بن غَفَلَة، وأبو عثمان النهدي، وأبو رافع الصائغ. ومن التابعين اثنا عشر. ومن الأئمة والفقهاء أبو إسحاق الفزاري، وأبو بكر بن محمَّد، والحكم بن عتيبة، وحماد، ومالك بن أنس، وأهل الحجاز، والأوزاعي، وأكثر أهل الشام، والشافعي، وأصحابه. وعن الثوري روايتان. ثم قال: وغير هؤلاء خلق كثير.

وزاد العراقي عبد الرحمن بن مهدي، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وداود، ومحمد بن جرير، وحكاه عن جماعة من أهل الحديث: منهم أبو حاتم الرازي، وأبو زرعة الرازي، وأبو عبد الله الحاكم، والدارقطني، والبيهقي، والخطابي، وأبو مسعود الدمشقي،. وحكاه الخطابي في "المعالم" عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. وحكى الترمذي عنهما خلاف ذلك. وقال النوويّ في "شرح المهذب": القنوت في الصبح مذهبنا، وبه قال أكثر السلف، ومن بعدهم، أو كثير منهم. انتهى.

قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: (واعلم): أنه قد وقع الاتفاق على ترك القنوت في أربع صلوات من غير سبب، وهي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ولم يبق الخلاف إلا في صلاة الصبح من المكتوبات، وفي صلاة الوتر من غيرها. أما القنوت في الوتر فسيأتي الكلام عليه في "أبواب الوتر". إن شاء الله تعالى.

وأما القنوت في صلاة الصبح، فاحتج المثبتون له بحجج: منها حديث أنس المذكور في الباب، وحديث البراء الآتي بعد باب. ويجاب أنه لا نزاع في وقوع القنوت منه صلى الله عليه وسلم، إنما النزاع في استمرار مشروعيته.

فإن قالوا: لفظ "كان" يدلّ على استمرار المشروعية. قلنا: قد قدمنا عن النووي ما حكاه عن جمهور المحققين أنه لا يدلّ على ذلك. سلمنا فغايته مجرد الاستمرار، وهو لا ينافي الترك آخرا، كما صرحت بذلك الأدلة الآتية، على أن هذين الحديثين فيهما أنه كان يفعل ذلك في الفجر والمغرب، فما هو جوابكم عن المغرب، فهو جوابنا عن الفجر.

ص: 222

وأيضًا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه -وهو الآتي في الباب التالي- أنه كان يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة، والصبح. فما هو جوابكم عن مدلول لفظ "كان" ها هنا فهو جوابنا.

قالوا: أخرج الدارقطني، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، وأحمد، والبيهقي، والحاكم، وصححه عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على قاتلي أصحاب بئر معونة، ثم ترك، فأما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا". وأول الحديث في "الصحيحين"، ولو صح هذا لكان قاطعا للنزاع، ولكنه من طريق أبي جعفر الرازي، قال فيه عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس بالقوي. وقال علي بن المديني: إنه يخلط. وقال أبو زرعة: يهم كثيرا، وقال عمرو بن علي الفلاس: صدوق سيىء الحفظ. وقال ابن معين: ثقة، ولكنه يخطئ. وقال الدوري: ثقة، ولكنه يغلط. وحكى الساجي أنه صدوق، ليس بالمتقن، وقد وثقه غير واحد، ولحديثه هذا شاهد، ولكن في إسناده عمرو بن عبيد، وليس بحجة.

قال الحافظُ رحمه الله: ويَعْكُر على هذا ما رواه الخطيب من طريق قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان، قلنا لأنس: إن قوما يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الفجر، فقال: كذبوا، إنما قنت شهرا واحدا، يدعو على حي من أحياء المشركين. وقيس، وإن كان ضعيفا لكنه لم يتهم بالكذب. وروى ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت إلا إذا دعام قوم، أو دعا على قوم". فاختلفت الأحاديث عن أنس، واضطربت، فلا يقوم بمثل هذا حجة. انتهى

(1)

.

قال الشوكاني رحمه الله: إذا تقرر لك هذا علمت أن الحق ما ذهب إليه من قال: إن القنوت مختص بالنوازل، وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تُخَصّ به صلاة دون صلاة، وقد ورد ما دل على هذا الاختصاص من حديث أنس رضي الله عنه عند ابن خزيمة في "صحيحه"، وقد تقدم، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان بلفظ:"كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد، أو يدعو على أحد"، وأصله في البخاري، قال: وقد حاول جماعة من حُذّاق الشافعية الجمع بين الأحاديث بما لا طائل تحته، وأطالوا الاستدلال على مشروعية القنوت في صلاة الفجر في غير طائل، وحاصله ما عرفناك. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى

(2)

.

وقد أطال البحث في هذه المسألة الإمام المحقق، والعلامة المدقق ابن قيم الجوزية

(1)

"التلخيص الحبير" ج 1 ص 244 - 245.

(2)

"نيل الأوطار" جـ 2 ص 399 - 401.

ص: 223

في كتابه الممتع "زاد المعاد في هدي خير العباد"، ودونك تحقيقه المفيد:

قال: وقنَتَ في الفجر بعد الركوع شهرا، ثم ترك القنوت، ولم يكن من هديه القنوتُ فيها دائما، ومن المحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول:"اللَّهم أهدني فيمن هديت، وتولني فيمن توليت. . ." الخ، ويرفع بذلك صوته، وُيؤَمِّن عليه أصحابه دائما إلى أن فارق الدنيا، ثم لا يكون ذلك معلوما عند الأمة، بل يضيعه أكثر أمته، وجمهور أصحابه، بل كلهم، حتى يقول من يقول منهم: إنه مُحدَث، كما قال سعد بن طارق الأشجعي: قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم ها هنا، بالكوفة منذ خمس سنين، فكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بني محدث. رواه أهل السنن، وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير، قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت في صلاة الفجر بدعة

(1)

. وذكر البيهقي عن أبي مِجْلَز، قال: صليت مع ابن عمر صلاة الصبح، فلم يقنت، فقلت: لا أراك تقنت؟، فقال: لا أحفظه عن أحد من أصحابنا

(2)

.

ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان يقنت كل غداة، ويدعو بهذا الدعاء، ويؤمن الصحابة رضي الله عنهم لكان نقل الأمة لذلك كلهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها، وعددها، ووقتها، وإن جاز عليهم تضييع أمر القنوت منها، جاز عليهم تضييع ذلك، ولا فرق، وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديه الجهر بالبسملة كلَّ يوم وليلة خمس مرات دائما مستمرا، ثم يضيَّعُ أكثر الأمة ذلك، ويخفى عليها، وهذا من أمحل المحال، بل لو كان ذلك واقعا، لكان نقله كنقل عدد الصلوات، وعدد الركعات، والجهر والإخفات، وعدد السجدات، ومواضع الأركان وترتيبها. والله الموفق.

والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه صلى الله عليه وسلم جهر، وأسرّ، وقنت، وترك، وكان إسراره أكثر من جهره، وتركه القنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لَمَّا قدِم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم، وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت، ولم يختص بالفجر، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في "صحيحه" عن أنس رضي الله عنه. وقد ذكره مسلم عن البراء رضي الله عنه. وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر، والعصر، والمغرب،

(1)

في سنده عبد الله بن ميسرة، وهو ضعيف.

(2)

"السنن الكبرى للبيهقي" ج 2 ص 213.

ص: 224

والعشاء، والصبح في دبر كل صلاة، إذا قال:"سمع الله لمن حمده" من الركعة الأخيرة، يدعو على حي من بني سليم، على رعل، وذكوان، وعُصيّة، ويؤمن مَنْ خلفه. ورواه أبو داود

(1)

.

وكان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربها من السَّحَر، وساعة الإجابة، وللتنزل الإلهي، ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها الله وملائكته، أو ملائكة الليل والنهار، كما روي هذا، وهذا في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].

وأما حديث ابن أبي فُدَيك، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية، يرفع يديه فيها، فيدعو بهذا الدعاء:"اللَّهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك في فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي، ولا يقضى عليك، إنه لا يذلّ من واليت، تباركت ربَّنَا، وتعاليت". فما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحا، أو حسنا، ولكن لا يحتج بعبد الله هذا

(2)

، وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت عن أحمد بن عبد الله المزني: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبي فُدَيك. . . فذكره.

نعم صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: والله لأنا أقربكم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعد ما يقول:"سمع الله لمن حمده"، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار

(3)

.

ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ثم تركه، فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا ردّ على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقا عند النوازل

(4)

وغيرها، ويقولون: هو منسوخ، وفِعلُهُ بدعة، فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء، وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم أسعد بالحديث من الطائفتين، فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه،

(1)

وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ج 1 ص 225، وصححه، ووافقه الذهبي.

(2)

قال في "ت": عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري متروك.

(3)

متفق عليه.

(4)

فيه نظر لأن الثابت عن الحنفية أنه يشرع القنوت للنوازل في صلاة الفجر، كما قاله الطحاوي وغيره، انظر "حاشية ابن عابدين على الدر المختار" ج 2 ص 11.

ص: 225

فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة، وتركه سنة، ومع هذا، فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعلَه مخالفا للسنة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعة، ولا تاركه مخالفا للسنة، بل من قنت، فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن، وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء، وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ودعاء القنوت دعاء وثناء، فهو أولى كذا المحل، وإذا جهر به الإمام أحيانا ليعلم المأمومين، فلا بأس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين، وجهر ابن عباس بقرأءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضًا جهر الإمام بالتأمين، وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنَّف فيه من فعله، ولا من تركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه

(1)

، وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الأذان والإقامة، وأنواع النسك من الإفراد، والقران، والتمتع. وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله هو، فإنه قبلة القصد، وإليه التوجه في هذا الكتاب، وعليه مدار التفتيش والطلب، وهذا شيء، والجائز الذي لا ينكر فعله، وتركه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه، فإنه أكمل الهدي وأفضله، فإذا قلنا: لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر، ولا الجهر بالبسملة، لم يدلّ ذلك على كراهة غيره، ولا أنه بدعة، ولكن هديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأفضله، والله المستعان.

وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس، قال:"ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا"، وهو في "المسند"، والترمذي، وغيرهما، فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره. وقال ابن المديني: كان يخلط. وقال أبو زرعة: كان يهم كثيرًا. وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير.

وقال لي شيخنا ابن تيمية قدس الله روحه: وهذا الإسناد نفسه هو إسناد حديث: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف: آية 172] حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الطويل، وفيه: وكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم، فأرسل تلك الروح إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فأرسله الله في صورة بشر، فتمثل لها بشرا سويا، قال: فحملت الذي

(1)

قلت: في تسويته رفع اليدين وتركه، ومثله الجهر بالتأمين مع أنواع التشهدات، وأنواع الأذان، وأنواع النسك فيه نظر، إذ ترك رفع اليدين، وعدم الجهر بالتأمين مخالف للسنة مخالفة بينة، فيعد فاعله مخالفا للسنة، فينكر عليه، وأما أنواع التشهدات، وأنواع الأذان، والنسك، فكلها ثابتة، فمن أخذ بواحدة منها، فقد أخذ بالسنة، فلا ينكر عليه. فتأمل. والله تعالى أعلم.

ص: 226

يخاطبها، فدخل من فيها. وهذا غلط محض، فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها:{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 19]، ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى ابن مريم، هذا محال.

والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحب مناكير، لا يَحْتَج بما تفرد به أحدٌ من أهل الحديث البتة، ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء، فإن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: آية 26] وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: آية 9] وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: آية 12]، وقال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة طول القنوت"

(1)

. وقال زيد بن أرقم رضي الله عنه: لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: آية 238] أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام

(2)

. وأنس رضي الله عنه لم يقل: لم يزل يقنت بعد الركوع رافعا صوته: "اللهم اهدني فيمن هديت. . ." الخ، ويؤمن من خلفه، ولا ريب أن قوله:"ربنا ولك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد. . ." الى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله قنوت، وتطويلُ هذا الركن قنوت، وتطويل القراءة قنوت، وهذا الدعاء المعين قنوت، فمن أين لكم أن أنسا إنما أراد هذا الدعاء المعين، دون سائر أقسام القنوت؟!

ولا يقال: تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين، إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها، وأنس خص الفجر، دون سائر الصلوات بالقنوت، ولا يمكن أن يقال: إنه الدعاء على الكفار، ولا الدعاء للمستضعفين من المؤمنين؛ لأن أنسا قد أخبر أنه قنت شهرا، ثم تركه، فتعين أن يكون هذا الدعاء المعين الذي داوم عليه هو القنوت المعروف، وقد قنت أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وغيرهم.

والجواب من وجوه:

(أحدها): أن أنسا رضي الله عنه قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الفجر والمغرب، كما ذكره البخاري، فلم يخصص القنوت بالفجر، وكذلك ذكر البراء بن عازب رضي الله عنهما سواء، فما

(1)

أخرجه مسلم في "صحيحه". وقد تقدم.

(2)

متفق عليه.

ص: 227

بال القنوت اختص بالفجر؟!

فإن قلتم: قنوت المغرب منسوخ، قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة: وكذلك قنوت الفجر سواء، ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كان دليلًا على نسخ قنوت الفجر سواء، ولا يُمكنُكم أبدا أن تقيموا دليلًا على نسخ قنوت المغرب، وإحكام قنوت الفجر.

فإن قلتم: قنوت المغرب كان قنوتا للنوازل، لا قنوتا راتبا، قال منازعوكم من أهل الحديث: نعم كذلك هو، وكذلك قنوت الفجر سواء، وما الفرق؟ قالوا: ويدل على أتى قنوت الفجر كان قنوت نازلة، لا قنوتا راتبا أن أنسا نفسه أخبر بذلك، وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس، وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة، ثم تركه، ففي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه.

(الثاني): أن شبابة روى عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان، قال: قلنا لأنس بن مالك؛ إن قوما يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت بالفجر، قال: كذبوا، وإنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا واحدا يدعو على حىّ من أحياء العرب، وقيس بن الربيع، وإن كان يحيى بن معين ضعفه، فقد وثقه غيره، وليس بدون أبى جعفر الرازي، فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله: لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، وقيس ليس بحجة في هذا الحديث، وهو أوثق منه، أو مثله، والذين ضعفوا أبا جعفر أكثر من الذين ضعفوا قيسا، فإنما يعرف تضعيف قيس عن يحيي، وذكر سبب تضعيفه، فقال أحمد بن سعيد ابن أبي مريم: سألت يحيى عن قيس بن الربيع؟ فقال: ضعيف لا يكتب حديثه، كان يحدث بالحديث عن عبيدة، وهو عنده عن منصور، ومثل هذا لا يوجب رد حديث، الراوي؛ لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور، ومَن الذي يسلم من هذا من المحدثين؟

(الثالث): أن أنسا أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون، وأن بدء القنوت هو قنوت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على رعل وذكوان، ففي "الصحيحين" من حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلًا لحاجة يقال لهم: القراء. . . فذكر الحديث، وفيه:"فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شهرا في صلاة الغداة، فذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت".

فهذا يدلّ على أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائما، وقول أنس: فذلك بدء القنوت، مع قوله: قنت شهرا، ثم تركه دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوت

ص: 228

النوازل، وهو الذي وقته بشهر، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهرا، كما في "الصحيحين" عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة العتمة شهرا، يقول: "اللَّهم أنج عياش بن الوليد. . . الحديث

(1)

.

فقنوته في الفجر كان هكذا لأجل أمر عارض ونازلة، ولذلك وقته أنس بشهر.

وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قنت لهم أيضًا في الفجر شهرا، وكلاهما صحيح، وقد تقدم ذكر حديث عكرمة، عن ابن عباس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح. ورواه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح.

وقد ذكر الطبراني في "معجمه" من حديث محمَّد بن أنس، حدثنا مطرف بن طريف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة، إلا قنت فيها

(2)

. قال الطبراني: لم يروه عن مطرف إلا محمَّد بن أنس. انتهى.

وهذا الإسناد، وإن كان لا تقوم به حجة، فالحديث صحيح من جهة المعنى، لأن القنوت هو الدعاء، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة مكتوبة إلا دعا فيها، كما تقدم، وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، ونحن لا نشك، ولا نرتاب في صحة ذلك، وأن دعاءه استم رّ في الفجر إلى أن فارق الدنيا.

(الوجه الرابع): أن طرق أحاديث أنس تبيّن المراد، ويصدق بعضها بعضا، ولا نتناقض. وفي "الصحيحين" من حديث عاصم الأحول، قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة؟ فقال: قد كان القنوت، فقلت: كان قبل الركوع، أو بعده؛ قال: قبله، قلت: وإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت: قنت بعده، قال: كذب، إنما قلت: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا.

وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول، تفرد به عاصم، وسائر الرواة عن أنس خالفوه، فقالوا: عاصم ثقة جدًّا، غير أنه خالف أصحاب أنس في موضع القنوتين، والحافظ قد يهم، والجواد قد يعثر، وحكوا عن الإمام أحمد تعليله، فقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل -أيقول أحد في حديث أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

هو الحديث الآتي للمصنف بعد هذا.

(2)

قال أبو بكر الهيثمي رحمه الله في "مجمع الزوائد": رجاله موثقون.

ص: 229

قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول؟ فقال: ما علمت أحدا يقوله غيره

(1)

. قال أبو عبد الله: خالفهم عاصم كُلَّهُم، هشامٌ، عن قتادة، عن أنس، والتيميُّ، عن أبي مجلز، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قنت بعد الركوع، وأيوبُ عن محمَّد بن سيرين، قال: سألت أنسا، وحنظلةُ السدوسي، عن أنس، أربعة وجوه. وأما عاصم، فقال: قلت له؟ فقال: كذبوا، إنما قنت بعد الركوع شهرا، قيل له: من ذكره عن عاصم؟ قال: أبو معاوية وغيره. قيل لأبي عبد الله: وسائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع؟ فقال: بلى كلها عن خُفَاف بن إيماء بن رَحَضَة، وأبي هريرة. قلت لأبي عبد الله: فلم ترخص إذا في القنوت قبل الركوع، وإنما صح الحديث بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يُختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع، فلا بأس، لفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واختلافهم، فأما في الفجر، فبعد الركوع.

فيقال: من العجب تعليل هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته، ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ، والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي، وقيس بن الربيع، وعمرو بن أيوب، وعمرو بن عبيد، ودينار، وجابر الجعفي، وقك مَنْ تحمل مذهبا، وانتصر له في كل شيء إلا اضطرّ إلى هذا المسلك.

فنقول -وبالله التوفيق-: أحاديث أنس كلها صحاح، يصدق بعضها بعضا، ولا تتناقض، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير القنوت الذي ذكره بعده، والذي وَقَّتَه غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة طول القنوت". والذي ذكره بعده، هو إطالة القيام للدعاء، فعله شهرا، يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمرّ يُطيل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا، كما في "الصحيحين" عن ثابت، عن أنس، قال: إني لا أزال أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، قال: وكان أنس يصنع شيئا لم أركم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما، حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكث حتى يقول القائل: قد نسي، فهذا هو القنوت الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا.

(1)

لكن قال في "الفتح": قد وافق عاصما على روايته هذه عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، كما عند البخاري في "المغازي"، ولفظه:"سأل رجل أنسا عن القنوت بعد الركوع، أو عند الفراغ من القراءة؟ قال: لا، بل عند الفراغ من القراءة". ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع، وقد

اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح. انتهى "فتح " جـ 2 ص 569.

ص: 230

ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل، بل كان يُثني على ربه، ويمجده، ويدعوه، وهذا غير القنوت المؤقت بشهر، فإن ذلك دعاء على رعل، وذَكْوَان، وعُصَيّة، وبني لِحْيَان، ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة.

وأما تخصيص هذا بالفجر، فبحسب سؤال السائل، فإنما سأله عن قنوت الفجر، فأجابه عما سأله عنه، وأيضًا، فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة، وكان -كما قال البراء بن عازب- ركوعه، واعتداله، وسجوده، وقيامه متقاربا. وكان يظهر من تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك، ومعلوم أنه يدعو ربه، ويثني عليه، ويمجده في هذا الاعتدال، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وهذا قنوت منه، لا ريب، فنحن لا نشكّ، ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.

ولما صار القنوت في لسان الفقهاء، وأكثر الناس، هو هذا الدعاء المعروف:"اللَّهم اهدني فيمن هديت. . ." إلى آخره، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاء الراشدون، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشأ مَنْ لا يعرف غيرَ ذلك، فلم يشكَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم كانوا مداومين عليه كل غداة، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء، وقالوا: لم يكن هذا من فعله الراتب، بل ولا يثبت عنه أنه فعله.

وغاية ما روي عنه في هذا القنوت، أنه علمه للحسن بن علي رضي الله عنهما، كما في "المسند"، و"السنن" الأربع عنه، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللَّهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي، ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا، وتعاليت"

(1)

.

قال الترمذي: حديث حسن، ولا نعرف ذلك في القنوت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا أحسن من هذا، وزاد البيهقي بعد "ولا يذل من واليت": و"لا يعز من عاديت".

ومما يدلّ على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيام للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب: حدثنا حنظلة إمام مسجد قتادة -قلت: هو السدوسي- قال: اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال قتادة: قبل الركوع، وقلت أنا: بعد الركع، فأتينا أنس بن مالك، فذكرنا له ذلك، فقال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة

(1)

حديث صحيح سيأتي للمصنف في أبواب الوتر برقم 3/ 248، ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى.

ص: 231

الفجر، فكبر، وركع، ورفع رأسه، ثم سجد، ثم قام في الثانية، فكبر، وركع، ثم رفع رأسه، فقام ساعة، ثم وقع ساجدا

(1)

. وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء، هو يبين مراد أنس بالقنوت، فإنه ذكره دليلًا لمن قال: إنه قنت بعد الركوع، فهذا القيام والتطويل هو مراد أنس رضي الله عنه، فاتفقت أحاديثه كلها. وبالله التوفيق.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: وهو يبين مراد أنس رضي الله عنه الخ، فيه نظر، إذ هذا الحديث إسناده ضعيف، فلا يصلح بيانا لمراد أنس رضي الله عنه، فتأمل. والله تعالى أعلم.

قال: وأما المروي عن الصحابة رضي الله عنهم، فنوعان:

(أحدهما): قنوت عند النوازل، كقنوت الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلمة، وعند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوت عمر رضي الله عنه، وقنوت علي رضي الله عنه عند محاربته لمعاوية وأهل الشام.

(الثاني): مطلق، مراد من حكاه عنهم به تطويل هذا الركن للدعاء والثناء. والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى

(2)

.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: خلاصة هذه المسألة أن الراجح أن القنوت المشروع هو القنوت عند النوازل، وأما القنوت الوارد في الصبح، أو غيره، فالمراد به تطويل القيام بالأذكار، فبهذا تتفق الأحاديث والآثار المروية في الباب، وقد تقدم قول العلامة الشوكاني رحمه الله: إذا تقرر لك هذا علمت أن الحق ما ذهب إليه من قال: إن القنوت مختص بالنوازل، وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة، وقد ورد ما دلّ على هذا الاختصاص من حديث أنس رضي الله عنه عند ابن خزيمة في "صحيحه":"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم". ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان بلفظ: "كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد، أو يدعو على أحد". قال: وقد حاول جماعة من حُذّاق الشافعية الجمع بين الأحاديث بما لا طائل تحته، وأطالوا الاستدلال على مشروعية القنوت في صلاة الفجر في غير طائل. انتهى.

هذا كله في غير الوتر، وأما القنوت فيه، فسيأتي الكلام عليه في محله، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

إسناده ضعيف فيه أبو هلال الراسبي، محمَّد بن سليم، قال في "ت": صدوق فيه لين من السادسة. وفيه حنظلة السدوسي ضعفه أحمد، وقال: يروي عن أنس أحاديث مناكير، وقال ابن معين، والنسائي: ضعيف. قال في "ت": ضعيف من السابعة. اهـ.

(2)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" جـ 1 ص 271 - 285.

ص: 232

1072 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، قَامَ هُنَيْهَةً).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدري البصري، ثقة [10]، تقدم 42/ 47.

2 -

(بشر بن المفضل) بن لاحق الرَّقَاشي، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت عابد [8]، تقدم 66/ 82.

3 -

(يونس) بن عبيد بن دينار العبدي، أبو عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع [5] ت 139 (ع) تقدم 88/ 109.

4 -

(ابن سيرين) هو محمَّد المذكور في السند الماضي.

5 -

(بعض من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو أنس بن مالك رضي الله عنه المذكور في السند الماضي.

وقوله: "هنيهة" بالتصغير، أي قدرا يسيرا. ولفظ أبي داود:"هنية" بضم الهاء، وفتح النون، وتشديد المثناة التحتانية- تصغير "هَنَةٍ". وقد تقدم الكلام على ضبطها، ومعناها مستوفى في 15/ 895 - فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: [فإن قلت]: من أين أخذ المصنف رحمه الله تعالى القنوت في صلاة الصبح من هذا الحديث؟.

[قلت]: الذي يظهر أنه يرى أن هذا الحديث مختصر من الحديث السابق، فقوله:"قام هنيهة"، أي قام بعد الركوع يسيرا؛ لأجل القنوت. هذا هو الظاهر من تصرفه، ومثله صنيع أبي داود في "سننه" حيث أورده في [باب القنوت في الصلوات"، وإليه يشير الحافظ المزي، في "تهذيبه"، والحافظ في "تهذيبه"، و"تقريبه". كما سيأتي قريبا. لكنه محل نظر وتأمل، إذ قيامه هنيهةً لا يستلزم القنوت، بل يحتمل أن يقول في تلك الهنيهة الأذكار التي ثبتت في الاعتدال، كما تقدم بيانها. والله تعالى أعلم.

وقال السندي رحمه الله تعالى: يستدل به من يقول بالقنوت سرّا، ولا دلالة فيه على ذلك، لما علم أن قيامه بين الركوع والسجود بقدر الركوع والسجود، وكان يجمع بين التسميع والتحميد. والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح السندي" جـ 2 ص 201.

ص: 233

[تنبيه]: هذا الحديث صحيح، أخرجه المصنف هنا -117/ 1072 - وفي "الكبرى" 25/ 659 - عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضل، عن يونس بن عبيد، عن ابن سيرين، عن بعض من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، وهو أنس بن مالك رضي الله عنه، كما في "ت" ص 462. و"تهذيب التهذيب". ج 12/ 383. و"تهذيب الكمال" ج 35/ 101 .. وأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن مسدد، عن بشر بن المفضل به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1073 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمَّد بن منصور) الْجَوَّاز المكي، ثقة [10] تقدم 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحافظ الحجة الثبت [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحافظ الثبت الحجة رأس [4] تقدم 1/ 1.

4 -

(سعيد) بن المسيب بن حَزْن الحافظ الثبت الفقيه الحجة من كبار [3] تقدم 9/ 9.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله، كلهم ثقات نبلاء، وأنهم من رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو، وأن شيخه، وسفيان مكيان، والباقون مدنيون، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وأنه من أصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: "حفظناه" من الزهري، هو من كلام ابن عيينة: أي سمعنا هذا الحديث من الزهري، فحفظناه منه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه (قال: لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية من صلاة الصبح، قال: اللهم أنج) من الإنجاء رباعيا، أي خَلَّصْه، يقال: نَجا من الهلاك يَنْجُو نَجَاة: خَلَصَ. والاسم النَّجاء بالمد، وقد يُقصّرُ، فهو ناجٍ، والمرأة ناجية، وبها

ص: 234

سميت قبيلة من العرب، ويتعدى بالهمز والتضعيف، فيقال: أنجيته، ونَجَّيْتُه. قاله الفيومي

(1)

.

(الوليد بن الوليد) بفتح الواو، وكسر اللام في اللفظين، وهو الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله المخزومي، أخو خالد بن الوليد، وكان ممن شهد بدرًا مع المشركين، وأُسِرَ بها، أسره عبد الله بن جحش، وفَدى نفسَهُ، ثم أسلم، فقيل له: هلّا أسلمت قبل أن تفتدي، فقال: كرهت أن يُظَن بي أني أسلمت جَزَعا، فحُبِسَ بمكة، ثم تواعد هو وسلمة، وعيّاش المذكوران معه، وهربوا من المشركين، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم هو بمخرجهم، فدعا لهم. أخرجه عبد الرزاق بسند مرسل، ومات الوليد المذكور لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: روينا ذلك في "فوائد الزياديات" من حديث الحافظ أبي بكر بن زياد النيسابوري بسنده عن جابر رضي الله عنه، قال: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح صبيحةَ خمسة عشرة من رمضان، فقال:"اللهم أنج الوليد بن الوليد". . .الحديث. وفيه فدعا بذلك خمسة عشر يوما، حتى إذا كان صبيحة يوم الفطر ترك الدعاء، فسأله عمر، فقال:"أَوَ ما عَلِمْت أنهم قَدِموا؟ "، قال: بينما هو يذكرهم انفتح عليهم الطريق يسوق بهم الوليد بن الوليد، قد نكت إصبعه بالحرة، وساق بهم ثلاثا على قدميه، فنهج بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى قضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا الشهيد، أنا على هذا شهيد". ورَثَتْهُ أمّ سَلَمَة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات مشهورة. انتهى

(2)

.

(وسلمة بن هشام) بالنصب عطفا على "الوليد"، أي أنج سلمة بن هشام بن المغيرة، وهو ابن عم الذي قبله، وهو أخو أبي جهل، وكان من السابقين إلى الإسلام، وعذب في الله، ومنعوه أن يهاجر إلى المدينة. واستشهد في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما بالشام سنة أربع عشرة

(3)

.

قال الحافظ الذهبي رحمه الله: هاجر إلى الحبشة، ثم قدم مكة، فمنعوه من الهجرة، وعذبوه، ثم هاجر بعد الخندق، وشهد مُؤْتهْ، واستشهد بمَرْج الصفرة، وقيل: بأجنادين

(4)

.

(1)

"المصباح" ص 595.

(2)

"فتح" جـ 9 ص 93 - 94. و"عمدة القاري" جـ 6 ص 80.

(3)

"فتح" جـ 9 ص 94. بزيادة من العمدة.

(4)

"عمدة القاري" جـ 6 ص 80.

ص: 235

(وعَيَّاشَ بن أبي ربيعة) بفتح العين، وتشديد التحتانية، وبعد الألف شين معجمة، وأبو ربيعة اسمه: عمرو بن المغيرة، فهو عم الذي قبله أيضا، وهو أخو أبي جهل أيضا لأمه، وكان من السابقين إلى الإسلام أيضا، وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبو جهل، فرجع إلى مكة، فحبسه، ثم فرّ مع رفيقيه المذكورين، وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، فمات، قيل: سنة خمس عشرة، وقيل: قبل ذلك. والله تعالى أعلم

(1)

.

وهؤلاء الثلاثة أسباط المغيرة كل واحد منهم ابن عم الآخر

(2)

.

(والمستضعفين بمكة) أي وأنج المستضعفين من المؤمنين بمكة، الذين حبسهم الكفار عن الهجرة، وآذوهم، فكانوا يعذبونهم بأنواع العذاب. وهو من عطف العام على الخاص، عكس قوله:{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98].

(اللَّهم اشدد) بضم الدال، أمر من شَدَّ الشيءَ يشده، من باب قَتَلَ: إذا أوثقه

(3)

(وطأتك) أي بأسك، وعذابك. قال الفيومي:"الْوَطأَة" مثلُ الأخْذَةِ وزنا ومعنى

(4)

. .

وقال في "الزهر": "الوطأة" بفتح الواو، وأصلها: الدَّوْس بالقدم، سمي بها الإهلاك؛ لأن من يطؤ على شيء برجله، فقد استقصى في هلاكه. والمعنى خذهم أخذا شديدا

(5)

.

وقال ابن منظور: و"الوطأة" موضع القَدَم، وهي أيضا كالضَّغْطَة، و"الوَطْأَة": الأخذة الشديدة. وفي الحديث: "اللَّهم اشدد وطأتك على مضر"، أي خذهم أخذًا شديدًا، وذلك حين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم، فدعا عليهم، فأخذهم الله بالسنين، ومنه قول الشاعر [من الكامل]:

وَوَطِأْتَنَا وَطْئًا عَلَى حَنَقٍ

وَطْءَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ

وكان حماد بن سلمة يروي هذا الحديث: "اللَّهم اشدُدْ وَطْدَتَكَ على مضر"، والْوَطْدُ -أي بالدال-: الإثباتُ والغَمْزُ في الأرض. انتهى

(6)

.

(على مضر) بضم الميم، وفتح الضاد المعجمة، اسم قبيلة، سميت باسم مضر بن نِزَار بن معد بن عدنان. وهو غير منصرف للعلمية والعدل، كما قال ابن مالك في

(1)

" فتح" جـ 9 ص 94. بزيادة.

(2)

"عمدة" ج 6 ص 80.

(3)

"المصباح" ص 307.

(4)

أفاده في "المصباح" ص 664.

(5)

"زهر الربى" جـ 2 ص 201.

(6)

"لسان العرب" جـ 6 ص 4863.

ص: 236

"الخلاصة":

وَالْعَلَمَ امْنعْ صَرْفَهُ إن عُدِلًا

كَفُعَلِ التَوْكيدِ أَوْ كَثُعَلَا

وقال العيني رحمه الله: وهو شعب عظيم، فيه قبائل كثيرة، كقريش، وهذيل، وأسد، وتميم، وضَبَّةَ، ومُزَينة، والضباب، وغيرهم، ومضر شعب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتقاقه من اللبَنِ الْمَضير، وهو الحامض، قاله ابن دريد. انتهى

(1)

.

وقال ابن منظور: قال ابن سِيْدَة: مضر اسم رجل، قيل: سمي به لأنه كان مُولَعًا بشرب اللبن المَاضِرِ -وهو الحامض الشديد الْحُمُوضَة- وقيل: سمي به لبياض لونه، من مَضِيرَة الطَّبِبخ، وهي مُرَيقَة، تُطبَخُ بِلَبَنٍ وأشياء. انتهى

(2)

(واجعلها) قال الطيبي: الضمير للوطأة، أو للأيام، وإن لم يجر لها ذكر، لما دل عليه المفعول الثاني الذي وهو"سنين" جمع السنة التي هي بمعنى القحط، وهي من الأسماء الغالبة، كالبيت، والكتاب

(3)

(عليهم) أي على قبيلة مضر (سنين) جمع سنة، وهي الجَدْبُ، يقال: أخذتهم السنة: إذا أجدبوا، وأُقْحِطُوا (كسني يوسف) عليه السلام، أي كالسنين السبع الشداد التي كانت في زمن يوسف عليه السلام التي ذكرها الله عز وجل في قوله:{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} الآية [يوسف: 48].

ووجه الشبه امتداد زمان المحنة، والبلاء، والبلوغ غاية الشدة، والضرّاء.

[فائدة]: جمع السنة بالواو والنون شاذ، من جهة أنه ليس لذوي العقول، ومن جهة تغيير مفرده بكسر أوله، وهذا الاستعمال مع شذوذه هو الغالب في اللغة، فهو ملحق بجمع المذكر السالم في الإعراب بالواو والياء، وسقوط النون عند الإضافة، وقد يُجرَى مجرَى "حين" في لزوم الياء، والإعراب على النون، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

دَعَانِيَ من نَجْدٍ فَإِن سِنِينَهُ

لَعِبْنَ بِنا شِيبًا وَشَيَّبْنَنًا مُرْدَا

وإلى قواعد جمع المذكر السالم، وملحقاته أشار ابن مالك رحمه الله تعالى في "خلاصته" بقوله:

وَارْفَعْ بِوَاوِ وَبِيًا اجْرُرْ وَانْصِبِ

سَالِمَ جمَع عَامِرٍ وَمُذْنِبِ

وَشِبْهِ ذَيْنِ وَبِهِ عِشْرُونَا

وَبَابُهُ ألْحِقَ وَالأَهلُونَا

أُلُو وَعَالَمُونَ عِلَّيُّونا

وَأَرَضُونَ شَذَّ وَالسِّنُونَا

(1)

"عمدة" جـ 6 ص 80.

(2)

"لسان العرب" جـ 6 ص 4220.

(3)

"عقود الزبرجد" جـ 2 ص 328.

ص: 237

وَبَابُهُ وَمِثْلَ حِينٍ قَدْ يَرِدْ

ذا الْبَابُ وَهْوَ عِنْدَ قَوْمِ م يَطَّرِدْ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -117/ 1073 - وفي "الكبرى" 25/ 660 - عن محمَّد بن منصور، عن ابن عيينة، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عنه. و-1074 - و"الكبرى" -661 - عن عمرو بن عثمان، عن بقية بن الوليد، عن شعيب ابن أبي حمزة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، كلاهما عنه. و-118/ 1075 - و"الكبرى" -26/ 662 - عن سليمان بن سلم، البَلْخِيّ، عن النضر بن شُمَيل، عن هشام الدستوائي، عن يحيي بن أبي كثير، عن أبي سلمة به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) عن موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد، وأبي سلمة، به. وعن أبي نعيم الفضل بن لكن، عن ابن عيينة، به. وعن معاذ ابن فَضَالة، عن هشام الدستوائي، به. وعن أبي نعيم، عن شيبان، عن يحيى بن أبي كثير به. وعن يحيي بن بكير، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عن أبي سلمة به. وعن قتيبة، عن المغيرة بن عبد الرحمن- وعن قبيصة، عن سفيان الثوري،- وعن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة،- ثلاثتهم عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه. وأبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي سلمة، كلاهما عنه. (م) عن أبي الطاهر، وحرملة، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن سعيد، وأبي سلمة به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، كلاهما عن ابن عيينة به. وعن محمَّد بن مِهْران الرازي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي- وعن زهير بن حرب، عن حسين ابن محمَّد، عن شيبان- كلاهما عن يحيى بن أبي كثير به. وعن محمَّد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه به. (د) عن عبد الرحمن بن إبراهيم، عن الوليد بن مسلم به. وعن داود بن أمية، عن معاذ بن هشام به .. (ق) عن أبي بكر بن أبي شيبة به.

(الحميدي) رقم 939. (أحمد) 2/ 255 و 239 و 470 و 521 و 271 و502 و 418 و 407 و 337 و 396. (الدارمي) برقم 1603 (ابن خزيمة) 619 و 615 و 617

ص: 238

و621 و 623. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية القنوت في صلاة الصبح للنازلة (ومنها): كون محله بعد الركوع (ومنها): جواز الدعاء لقوم بتعيين أسمائهم، وأسماء آبائهم، وأنه لا يبطل الصلاة، خلافا للحنفية (ومنها): جواز لعن الكفار والمنافقين في الصلاة، والدعاء عليهم بإنزال العذاب الذي يضعف شوكتهم، من الجوع والمرض (ومنها): استحباب الجهر بالقنوت للإمام، وفي رواية للبخاري:"يجهر بذلك". ولأبي داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في قنوته صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس:"ويؤمن من خلفه"، فقد صرح بأنه صلى الله عليه وسلم جهر به، وأن الصحابة أمنوا خلفه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال الحافظ ولي الدين رحمه الله تعالى: قد أولى صاحب "المفهم" هذا الدعاء -يعني المذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في هذا الباب- بحديث ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: واستجيب له صلى الله عليه وسلم فيهم، فأجدبوا سبعا، أكلوا فيها كل شيء، وذكر الحديث؛، وقال فيه: حتى جاء أبو سفيان، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا لهم، فسُقُوا، على ما ذكرناه عن ابن مسعود في "كتاب التفسير". انتهى كلام القرطبي.

قال: وفيه أوهام: (أحدها): في قوله: "فأجدبوا سبعا". وليس ذلك في واحد من "الصحيحين"، وليس بصحيح أيضا، فإنه كشف عنهم قبل بدر، وكانت في السنة الثانية من الهجرة، وأيضًا فأبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث شهد قنوت النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاءه عليهم بذلك، وإنما أسلم أبو هريرة بعد خيبر، فلا يصح حمله على دعائه على قريش قبل وقعة بدر، وحديث ابن مسعود الذي أشار إليه في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشا استَعصَوا عليه، فقال:"اللَّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف"، فأخذتهم السنة حتى حَصَّت كلَّ شيء، حتى أكلوا العظام، والجلود. وفي رواية "الميتة" بدل "العظام"، وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان، فقال: أي محمدُ إن قومك هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم، فدعا، وفي رواية: فدعا ربه، فكشف عنهم، فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر.

ففي هذا الحديث أن دعاءه على قريش قبل وقعة بدر، وهذا لم يشهده أبو هريرة. والذي أوقع القرطبي في ذلك أن حديث ابن مسعود في بعض طرقه في "الصحيحين" ذكر مضر، فذكر أول الحديث إلى قوله: وحتى أكلوا العظام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، استسق لمضر، فإنهم قد هلكوا، فقال:"لمضر؟، إنك لَجَرِيء"،

ص: 239

قال: فدعا لهم، فأنزل الله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]، فذكر الحديث، فظن صاحب "المفهم" أنها قصة واحدة، وليس كذلك، فقصة الدعاء على قريش كانت قبل بدر، ولم ينقل فيها قنوت، ولم يشهدها أبو هريرة رضي الله عنه، وقريش هي من مضر، وقصة القنوت كانت بعد خيبر، بعد إسلام أبي هريرة، وكان دعاؤه فيها على مضر، وهو اسم جامع لقريش وغيرها، وكان سبب القنوت قصة بئر معونة التي قتل فيها السبعون من القراء، فقنت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم، وعمم الدعاء على مضر، وليس بدعائه عليهم قبل بدر، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ولي الدين العراقي رحمه الله تعالى

(1)

..

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله وليّ الدين رحمه الله تعالى تعقّب وجيه، وحاصله أن قصّة أبي هريرة غير قصّة ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما، وهو ظاهر، فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1074 -

(أَخْبَرَنَا

(2)

عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ حِينَ يَقُولُ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ"، ثُمَّ يَقُولُ -وَهُوَ قَائِمٌ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ-:"اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ"، ثُمَّ يَقُولُ:"اللَّهُ أَكْبَرُ"، فَيَسْجُدُ. وَضَوَاحِيَةُ مُضَرَ يَوْمَئِذٍ مُخَالِفُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

(عمرو بن عثمان) بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي مولاهم، أبو حفص الحمصي، صدوق [10]، تقدم 21/ 535.

2 -

(بقية) بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي، أبو يُحْمِد الحمصي، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء [8]، تقدم 45/ 592.

3 -

(ابن أبي حمزة) هو شعيب الأموي مولاهم، أبو بشر الحمصي، ثقة ثبت عابد [7]، تقدم 69/ 85.

(1)

"طرح التثريب" جـ 2 ص 292 - 293.

(2)

وفي نسخة. "حدّثنا".

ص: 240

4 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني، ثقة فقيه [3] تقدم 1/ 1.

والباقون تقدموا في السند السابق. وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "وضاحية مضر" الخ. أي أهل البادية منهم لم يسلموا، وجمع الضاحية: ضَوَاحٍ.

وضاحية كل شيءٍ: ناحيته البارزة، يقال: هم ينزلون الضَّاحي، ومكانٌ ضَاحٍ، أي بارز. والضَّوَاحي من الشجر؛ القَلِيلَةُ الوَرَقِ التي تبرُزُ عِيدانهُا للشمس. وكل ما ظهر، وبرز، فقد ضَحَا، ويقال: خرج الرجلُ من منزل، فضحا لي. قاله في "اللسان"

(1)

.

وفي رواية البخاري: "وأهلُ المشرق يومئذ من مضر مخالفون له".

والمعنى المراد هنا أن سبب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر كونهم مخالفين، ومعادين له، وصادِّين عن سبيل الله، ومعارضين لنشر الدعوة إلى الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌118 - (بَابُ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية القنوت في صلات الظهر، وهذا أيضا من قنوت النوازل، وليس منسوخا، بل هو مشروع إذا وجد سببه، كما تقدم تحقيق ذلك في الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب.

1075 -

(أَخْبَرَنَا

(2)

سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لأُقَرِّبَنَّ لَكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَصَلَاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكَفَرَةَ).

(1)

"لسان العرب" جـ 4 ص 2562.

(2)

وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 241

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سليمان بن سَلْم) بفتح، فسكون- بن سابق الهَدَادِيّ

(1)

، أبو داود المَصَاحفي

(2)

البلخي

(3)

، ثقة [10]

روى عن النضر بن شميل، وعمرو بن هارون البلخي، وأبي معاذ الفضل بن خالد النحوي المروزي، وغيرهم. وعنه الترمذي، والنسائي، وله ذكر في "الزكاة" من "سنن أبي داود"، وغيرهم. قال أبو داود، والنسائي: ثقة. وقال موسى بن هارون: كان من خيار المسلمين، قال: ومات ببلخ سنة (238) وكان شيخا فاضلا، وكان مقعدا. وقال مسلمة بن قاسم: ثقة. أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ

(4)

، وله عند المصنّف ثمانية أحاديث، برقم 1057 و 1653 و 1677 و 4363 و 4979 و 5142 و 5309 و 5483.

2 -

(النضر) بن شميل المازني، أبو الحسن البصري، نزيل مرو، ثقة ثبت، من كبار [9]، تقدم 41/ 45.

3 -

(هشام) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائي، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، رمي بالإرجاء من كبار [7]، تقدم 30/ 34.

4 -

(يحيى) بن أبي كثير الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، بصري الأصل

(5)

، ثقة ثبت، يدلس، ويرسل [5]، تقدم 23/ 24.

والباقبان تقدما في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الشيخان، وابن ماجه (ومنها): أن شيخه بلخي، والباقون بصريون، غير الصحابي، فمدني (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي (ومنها): أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على قول. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن يحيى) بن أبي كثير، وفي رواية مسلم من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن

(1)

"الْهَدَادي" بـ"الفتح"، وتخفيف المهملتين: نسبة إلى هَدَاد بطن من الأزد. اهـ "اللب" ج 2 ص 326.

(2)

"المصاحفي": نسبة إلى كتابة المصاحف. اهـ "اللب" ج 2 ص 259.

(3)

"البلخي" بفتح الموحدة، وسكون اللام: نسبة إلى بَلْخ مدينة مشهورة بخراسان. اهـ "اللب" ج 1 ص 142.

(4)

"تك" ج 11 ص 438 - 439. "تت" ج 4 ص 195.

(5)

قاله ابن حبان في كتابه "مشاهير علماء الأمصار" ص 191.

ص: 242

يحيي: "حدثني أبو سلمة"(عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: لأقربن لكم) من التقريب، أي لأقرّبنّ إلى أفهامكم بالبيان الفعلي صلاته حيث أصلي كما صلى، فخذوا بصلاتي، لتدركوا صلاته صلى الله عليه وسلم، فمراده الحث على الأخذ بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري:"لأقربن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم"، وللإسماعيلي:"إني لأقربكم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم".

(فكان أبو هريرة) رضي الله عنه (يقنت) بضم النون، من باب قَعَدَ، أي يدعو (في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر، وصلاة العشاء الآخرة، وصلاة الصبح بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده) أي مع "ربنا، ولك الحمد"(فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفرة) جمع كافر، فقوله:"فيدعو الخ بيان لقوله: "يقنت". أي إن قنوت أبي هريرة رضي الله عنه في هذه الصلوات هو الدعاء للمؤمنين، ولعن الكفرة.

وقد تقدم في الباب الماضي من رواية الزهري، عن أبي سلمة في هذا الحديث أن المراد بـ"المؤمنين" من كان مأسورا بمكة، وبـ"الكفرة" قريش.

قال في "الفتح": قيل: المرفوع من هذا الحديث وجود القنوت، لا وقوعه في الصلوات المذكورة، فإنه موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، ويوضحه ما في "تفسير النساء" من "صحيح البخاري"، من رواية شيبان، عن يحيى من تخصيص المرفوع بصلاة العشاء، ولأبي داود من رواية الأوزاعي، عن يحيي:"قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة شهرا"، ونحوه لمسلم، لكن لا ينافي هذا كونه صلى الله عليه وسلم قنت في غير العشاء، وظاهر سياق حديث الباب أن جميعه مرفوع، ولعل هذا هو السرّ في تعقيب البخاري له بحديث أنس رضي الله عنه "كان القنوت في المغرب والفجر". إشارة إلى أن القنوت في النازلة لا يختص بصلاة معينة. انتهى

(1)

.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: قول أبي هريرة رضي الله عنه: "لأقربن لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" نص صريح في كون القنوت المذكور في هذه الصلوات مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محمول على قنوت النوازل، فكان صلى الله عليه وسلم يقنت وقتا بسبب أسر المؤمنين، وشدة شوكة الكفار، فلما قدم المستضعفون تركه، فأراد أبو هريرة رضي الله عنه أن يبين للناس أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيها قنوت في بعض الأحيان، فينبغي أن تقتدوا به في ذلك. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الحديث متفق عليه، وتقدم بيان المسائل المتعلقة به في الحديث

(1)

"فتح" جـ 2 ص 542.

ص: 243

الماضي، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌119 - (بَابُ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ)

وفي بعض النسخ إسقاط لفظ "باب".

1076 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، وَشُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ح وَأَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ.

وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عبيد الله بن سعيد) السرخسي، أبو قدامة، ثقة مأمون [10]، تقدم 15/ 15.

2 -

(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي، أبو حفص البصري، ثقة حافظ [10]، تقدم 4/ 4.

3 -

(عبد الرحمن) بن مهدي، الإمام الحافظ الحجة الثبت البصري [9]، تقدم 42/ 49.

4 -

(يحيي) بن سعيد القطان البصري، الإمام الجِهْبِذ الناقد [9]، تقدم 4/ 4.

5 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحافظ الحجة الثبت الكوفي [7]، تقدم 33/ 37.

6 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام القدوة الثبت الحجة البصري [7]، تقدم 24/ 26.

7 -

(عمرو بن مرة) الْجَمَلي الْمُرَادي الكوفي، ثقة عابد رمي بالإرجاء [5] تقدم 171/ 265.

8 -

(ابن أبي ليلى) هو عبد الرحمن الأنصاري المدني، ثم الكوفي، ثقة [2] تقدم 86/ 104.

9 -

(البراء بن عازب) بن الحارث بن عدي، أبو عُمَارة الأنصاري الأوسي، نزيل الكوفة، صحابي ابن صحابي رضي الله عنهما تقدم 86/ 105. والله تعالى أعلم.

ص: 244

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات نبلاء، ومن رجال الجماعة، غير شيخه عبيد الله، فأخرج له الشيخان، والمصنف، فقط (ومنها) أن شيخه عبيد الله، سرخسي، ثم نيسابوري، وشيخه عمرو بن علي، وابن مهدي، ويحيى القطان، وشعبة بصريون، والباقون كوفيون (ومنها): أن شيخه عمرا أحد مشايخ الأئمة الستة الذين يروون عنهم بلا واسطة، وتقدموا غير مرة (ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى الانتقال من سند إلى سند آخر، وقد تقدم أنها مختصرة، إما من "صح"، أو من "الحديث"، أو من "التحويل"، أو من "حاجز"، أقوال (ومنها): أن فائدة الإسناد الثاني تصريح سفيان، وشعبة بالتحديث عن عمرو بن مرة، لأنه كان في الإسناد الأول بالعنعنة (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. وشرح الحديث يعلم مما تقدم. والله تعالى أعلم.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا أخرجه المصنف رحمه الله تعالى هنا -119/ 1076 - وفي "الكبرى" 27/ 663 - بالسند المذكور.

وأخرجه مسلم، في "الصلاة" عن محمَّد بن المثنى، ومحمد بن بشار، كلاهما عن غندر، عن شعبة- وعن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن سفيان- كلاهما عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه. وأخرجه (د) فيه عن أبي الوليد الطيالسي- ومسلم بن إبراهيم- وحفص بن عمر الحوضي- وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه- أربعتهم عن شعبة به. وأخرجه (ت) فيه عن قتيبة، ومحمد بن المثنى، كلاهما عن غندر به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌120 - (بَابُ اللَّعْنِ فِي الْقُنُوتِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية اللعن في قنوت الصلاة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن هذه الترجمة للعن الكفار بدليل الترجمة التالية، فإنها للمنافقين، ولأن لعنه صلى الله عليه وسلم المذكور في حديث الباب في قوم كفار، وفي الباب التالي في أناس منافقين.

ص: 245

و"اللعن" بفتح، فسكون: الطرد، والإبعاد. يقال؛ لَعَنَهُ لَعْنًا، من باب نفع: طرده، وأبعده، أو سبه، فهو لَعِين، وملعون

(1)

. والمراد هنا الدعاء بأن يطردهم الله صلى الله عليه وسلم عن رحمته، ويبعدهم عنها. والله تعالى أعلم بالصواب.

1077 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَهِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا، قَالَ: شُعْبَةُ: لَعَنَ رِجَالاً، وَقَالَ هِشَامٌ: يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ، مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ، بَعْدَ الرُّكُوعِ، هَذَا قَوْلُ هِشَامٍ، وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا يَلْعَنُ رِعْلاً، وَذَكْوَانَ، وَلِحْيَانَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمَّد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصري، ثقة حافظ [10]، تقدم 64/ 80.

2 -

(أبو داود) الطيالسي، سليمان بن داود البصري، ثقة حافظ [9]، تقدم 13/ 343.

3 -

(شعبة) بن الحجاج تقدم في السند الماضي.

4 -

(هشام) بن أبي عبد الله الدستوائي المتقدم قبل حديث.

5 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة ثبت مدلس [4] تقدم 30/ 34.

6 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه -6/ 6. والله تعالى أعلم.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه، وتقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في 116/ 1070. أورده هناك لبيان أن محل القنوت بعد الركوع، أخرجه عن شيخه إسحاق بن إبراهيم، عن جرير بن عبد الحميد، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلَز، عنه. وأروده هنا لبيان مشروعية لعن الكفار في قنوت الصلاة.

وقوله: "وهشام" بالرفع عطف على شعبة، فأبو داود الطيالسي يروي هذا الحديث عن شعبة، وهشام الدستوائي، كليهما.

وقوله: "قال شعبة الخ" بيان لاختلاف شعبة، وهشام في لفظ الحديث، فلفظ شعبة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا، يلعن رعلا، وذكوان، ولحيان". ولفظ هشام، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرا، يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه بعد الركوع.

فقوله: "بعد الركوع" ظرف لـ"قنت"، لا لتركه، أي قنت بعد الركوع شهرا. وليس في لفظ شعبة "بعد الركوع".

(1)

"المصباح" ص 554.

ص: 246

فقوله: "قال شعبة: لعن رجالا". إجمال، وقوله: وقال شعبة الثاني تفصيل للأول. لكن لو حذف قوله: قال شعبة لعن إلى قوله: "وقال هشام". فساقه هكذا: وهشام، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرا بعد الركوع، يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه. هذا قول هشام. وقال شعبة: عن قتادة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت الخ. لكان أوضح.

ولفظ أحمد جـ 3 ص 217 - من طريق أبي قَطَن، عن هشام:"قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا بعد الركوع، يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه".

ولفظه جـ 3/ 216 من طريق أبى سعيد، عن شعبة:"قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، يدعو على رعل، وذكوان، وبني لحيان، وعصية عصوا الله ورسوله".

ولفظه -3/ 259 - من طريق الأسود بن عامر، عن شعبة، عن موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا، يدعو على رعل، وذكوان، وعصية، عصوا الله ورسوله".

و"الأحياء" جمع حي، بمعنى القبيلة، أي على قبائل من قبائل العرب.

و"لحيان" بكسر اللام، هو لحيان بن هُذَيل بن مُدركة، بن إلياس بن مُضَر. والمراد القبيلة. أي وبني لحيان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌121 - (بَابُ لعنِ الْمُنافِقِينَ فِي الْقُنُوتِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية لعن المنافقين في قنوت الصلاة.

قال ابن منظورُ رحمه الله: و"النفاق" بالكسر: الدخول في الإسلام من وجه، والخروج عنه من آخر،، مشتق من نافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، إِسْلَاميّةٌ، وقد نافق منافَقَةً، ونِفَاقًا، وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق، وما تصرف منه، اسما وفعلا، وهو اسمم إسلامي، لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره، ويظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفا، يقال: نافق ينافِقُ مُنَافقةً ونِفَاقًا، وهو مأخوذ من النافقاء، لا من

ص: 247

النَّفَقِ، وهو السَّرَب الذي يستتر فيه، لِسَتْرِهِ كُفْرَه.

وقال أبو عُبَيد: سمي المنافق منافقا للنَّفَقِ، وهو السَّرَب في الأرض. وقيل: إنما سمي منافقا؛ لأنه نَافَقَ كاليربوع، وهو دخوله نافقاءه، يقال: قد نَفَقَ به، ونافق، وله جُحْرٌ آخر، يقال له: القَاصِعَاء، فإذا طُلِبَ قَصَّعَ، فخرج من القاصعاء، فهو يدخل في النافقاء، ويخرج من القاصعاء، أو يدخل من القاصعاء، ويخرج من النافقاء، فيقال: هكذا يفعل المنافق، يدخل في الإسلام، ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه.

وقال ابن الأعرابي: قُصعَةُ اليربوع أن يَحفِرَ حُفَيْرَة، ثم يسُدّ بابها بترابها، ويسمى ذلك التراب الدَّمَّاء، ثم يحفر حَفْرًا آخر، يقال له: النافقاء، والنُّفَقَة، والنَّفَق، فلا يَنْفُذُها، ولكنه يحفرها حتى ترق، فإذا أُخِذَ عليه بقاصعائه عَدَا إلى النافقاء، فضربها برأسه، ومَرَقَ منها، وتراب النُّفَقَة يقال له: الرَّاهِطاء، وقد أنشد [من الوافر]:

وَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإنْ أَدَلَّتْ

بِعَالِمَةِ بِأَخلَاقِ الْكِرَامِ

إِذَا الشَيْطَانُ قصَّعَ فِي قَفَاهَا

تَنَفَّقْماهُ بِالحَبل التُّؤَامِ

أي إذا سكن في قاصِعَاءِ قَفَاها تنَفقْناه، أي استخرجناه، كما يُستَخرجُ اليربوع من نافقائه. انتهى كلام ابن منظور رحمه الله تعالى بتصرف

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

1078 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، قَالَ:"اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا"، يَدْعُو عَلَى أُنَاسٍ، مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي ابن راهويه، ثقة ثبت [10]، تقدم 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام الصنعاني، ثقة حافظ تغير في آخره، وكان يتشيع [9] تقدم 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت [7]، تقدم 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمَّد بن مسلم المدني الإمام الحجة الثبت رأس [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر العدوي المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 23/ 490.

6 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب العدوي الصحابي الشهير رضي الله عنهما، تقدم 12/ 12.

(1)

"لسان العرب" جـ 6 ص 4508 - 4509.

ص: 248

والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات نبلاء، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وأن شيخه مروزي، ثم نيسابوري، وعبد الرزاق صنعاني، ومعمر بصري، ثم صنعاني، والباقون مدنيون (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه (ومنها): أن فيه سالما أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد الفقهاء السبعة، روى -2630 - حديثا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن سالم، عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم حين رفع رأسه) متعلق بـ"سمع"(من صلاة الصبح) متعلق بـ"رفع"(من الركعة الآخرة) الجار والمجرور بدل من الجار والمجروو الذي قبله بدل اشتمال. ولفظه في "التفسير" من طريق ابن المبارك: "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة، من الفجر"(قال) تقدم الخلاف عليه، هل الجملة في محل نصب على الحال، أو مفعول ثان لـ"سمع"(اللَّهم العن فلانا، وفلانا) زاد في "التفسير": "بعد ما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد".

وقوله: "اللَّهم العن فلانا وفلانا" بالتكرير مرتين، وللبخاري: بالتكرير ثلاثا. و"العن" فعل أمر من لعن يلعن، من باب نَفَعَ، أي اطرُدهم، وأبعدهم عن رحمتك.

وقد وقعت تسميتهم عند البخاري في "المغازي"، من رواية مرسلة أردها عقب هذا الحديث عن حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم بن عبد الله بن عمر، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنزلت:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].

وأخرج أحمد، والترمذي هذا الحديث موصولا من رواية عمر بن حمزة، عن سالم، عن أبيه، فسماهم، وزاد في آخر الحديث: "فتِيبَ عليهم كلِّهم، وأشار بذلك إلى قوله في بقية الآية:{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}

(1)

ولأحمد، والترمذي أيضًا من طريق محمَّد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على أربعة، فنزلت، قال: وهداهم الله للإسلام. قال الحافظ رحمه الله: وكأن الرابع عمرو بن العاص، فقد عزاه

(1)

لكن عمر بن حمزة يضعف في الحديث.

ص: 249

السهيلي لرواية الترمذي، لكن لم أره فيه. انتهى

(1)

.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: عندي أن الرابع هو أبو سفيان بن حرب، فإنه الذي في "التفسير" من "جامع الترمذي" جـ 5 ص 227 - ، ولعل السهيلي أخطأ فيه. والله تعالى أعلم.

(يدعو على أناس) جملة في محل نصب على الحال من فاعل "قال"، أي قال. "اللَّهم العن فلانا"الخ حال كونه داعيا عليهم (من المنافقين) هكذا رواية المصنف رحمه الله تعالى هنا، وفي "التفسير" من "الكبرى" أيضا -11075 - "من المنافقين"، وترجم عليه هنا [باب لعن المنافقين] والثابت في سبب نزل الآية أنه دعا على هؤلاء الكفار، لا على المنافقين، ولعله أراد بالمنافقين الكافرين، فإن المنافق كافر، لكن الظاهر من ترجمة المصنف أنه يرى أن معنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم دعا على أناس من المنافقين وفيه خفاءٌ، فليتأمل. والله تعالى أعلم.

(فأنزل الله صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]) جملة "ليس" مفعول به و"أنزل" محكي، أي أنزل الله هذه الآية.

ومعنى الآية

(2)

: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي ليس لك من الحكم في عبادي شيء إلا ما أمرتك به فيهم {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي مما هم فيه من الكفر، فيهديهم بعد الضلالة {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم، ولهذا قال {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} الفاء للتعليل، أي لأنهم ظالمون يستحقون ذلك.

فقوله: {أَوْ يَتُوبَ} قيل: هو عطف على قوله: {لِيَقْطَعَ} ، والأولى كونه منصوبا بـ"أن" مضمرة بعد "أو"، وهي بمعنى "إلى"، كقول الشاعر [من الطويل]:

لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ الْمُنَى

فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلَّا لِصَابِرِ

قال ابن مالك رحمه الله تعالى في بيان مواضع نصب "أن" مضمرة وجوبا:

كَذَاكَ بَعْدَ "أَوْ" إِذَا يصْلُحُ فِي

مَوْضِعِهَا "حَتَّى" أَوِ إلَّا "أَنْ" خَفِي

[تنبه]: تبين في هذا الحديث أن سبب نزول هذه الآية هو الدعاء على هؤلاء الكفار من قريش، لكن يعارض هذا ما أخرجه المصنف في "التفسير" -11077 - من حديث أنس رضي الله عنه، قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشُجَّ، فجعل الدمُ يسيل على وجهه، ومسح الدم وجهه، ويقول: "كيف يفلح قوم، خَضَبُوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى

(1)

"فتح" جـ 9 ص 93.

(2)

راجع "تفسير ابن كثير" ج 1 ص 411.

ص: 250

الإسلام، فأنزل الله تبارك، وتعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]. وأخرجه مسلم، وأحمد، والترمذي، وعلقه البخاري في "الصحيح".

وطريق الجمع -كما قال الحافظ رحمه الله بين الحديثين أن يقال: إن الآية نزلت في الأمرين معا، فيما له من الأمر، وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم.

وأما ما ذكر سببا لنزول الآية في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهم العن لِحْيَان، ورِعْلًا، وذَكوان، وعُصَيَّة عصت الله ورسوله"، ثم ترك ذلك لما نزل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية.

فقيه إشكال؛ لأن الآية نزلت في أحد، وقصة دعائه صلى الله عليه وسلم على لح يان، ورعل، وذكوان، وعصية كان بعد أحد، فكيف يتأخر السبب عن النزول؟

وأجيب بأن في هذا الحديث علةً، وهي أن فيه إدراجا، كما بينه مسلم في "صحيحه"، وذلك أن الزهري قال: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. فهذا البلاغ لا يصح، لانقطاعه. كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أخرجه البخاري.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -121/ 1078 - وفي "الكبرى" 29/ 665 - وفي "التفسير" منه -11075 - عن إسحاق بن إبراهيم، عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم به.

وفي "التفسير" -11076 - عن عمرو بن الحارث، عن محبوب بن موسى، عن ابن المبارك، عن معمر به. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: زاد في "الكبرى" في هذا الباب بعد إخراج الحديث: ما نصه: قال أبو عبد الرحمن: لم يرو هذا الحديث أحد من الثقات إلا معمر. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إنما قال من الثقات؛ لأنه رواه من غيرهم إسحاق بن راشد، كما سيأتي في عبارة البخاري رحمه الله تعالى، وإسحاق، وإن كان ثقة، إلا أنه

(1)

"فتح" جـ 90 ص 94.

(2)

"السنن الكبرى" جـ 1 ص 227. رقم 29/ 665.

ص: 251

قد يهم في حديث الزهري، قال في "ت" ص 28 - : إسحاق بن راشد الجزري، أبو سليمان، ثقة، في حديثه عن الزهري بعض الوهم. انتهى. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "المغازي" عن يحيي بن عبد الله السلمي- وفي "التفسير" عن حِبَّان ابن موسى- وفي "الاعتصام" عن أحمد بن محمَّد- ثلاثتهم عن ابن المبارك به. وقال عقب حديث يحيي: وعن حنظلة بن أبي سفيان، سمعت سالم بن عبد الله يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية، وسُهَيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنزلت:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . وقال عقب حديث حبان: رواه إسحاق بن راشد، عن الزهري. (ت) في "التفسير" عن أبي السائب سَلْم بن جُنَادة، عن أحمد بن بشير، عن عُمَر بن حمزة، عن سالم، عنه. وعن يحيى بن حبيب ابن عربي، عن خالد بن الحارث، عن محمَّد بن عجلان، عن نافع، عنه. (أحمد) 2/ 93 و 104 و 118. (ابن خزيمة) برقم 623. والله تعالى أعلم.

وفوائد الحديث تقدمت في الأبواب السابقة، فلا حاجة إلى إعادتها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌122 - (تَرْكُ الْقُنُوتِ)

1079 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَنَتَ شَهْرًا، يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ).

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: هذا الحديث متفق عليه وقد تقدم للمصنف رحمه الله تعالى قبل بابٍ برقم 12/ 1077 أورده هناك مستدلّا على مشروعية اللعن في القنوت، أخرجه عن شيخه محمَّد بن المثنى، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة وهشام، كلاهما عن قتادة. وأورده هنا استدلالا على ترك القنوت، والاستدلال به واضح، فإن فيه أن قنوته صلى الله عليه وسلم كان للدعاء على قوم، فلما زال السبب تركه، فدلّ على أن القنوت للنوازل مشروع، وإذا زال سببه يترك، وأما استدلال بعضهم به على نسخ القنوت أصلًا فغير صحيح، كما تقدم. ومباحث الحديث تقدّمت بالرقم المذكور. والله

ص: 252

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1080 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ خَلَفٍ -وَهُوَ ابْنُ خَلِيفَةَ- عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ، فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ، فَلَمْ يَقْنُتْ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا بِدْعَةٌ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10]، تقدم 1/ 1.

2 -

(خَلَفَ بن خَليفة) بن صاعد الأشجعي مولاهم، أبو أحمد الكوفي، نزيل واسط، ثم بغداد، صدوق اختلط في الآخر [8]، تقدم110/ 149.

3 -

(أبو مالك الأشجعي) سعد بن طارق بن أشيم الكوفي، ثقة [4]، تقدم 110/ 149.

4 -

(أبوه) طارق بن أشيم -بالمعجمة وزِان أحمر- ابن مسعود الأشجعي، والد أبي مالك. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الأربعة. وعنه ابنه أبو مالك. قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه. وقال ابن مَنْدَة في ترجمته: قال أبو الوليد: قال القاسم بن معن: سألت آل أبي مالك الأشجعي، هل سمع أبوهم من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا؟ قالوا: لا. وقال الخطيب في "كتاب القنوت": في صحبة طارق نظر. انتهى. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. انتهى "تت" ج 5 ص 2.

وقال في "الإصابة": "طارق بن أشيم" بن مسعود الأشجعي، والد أبي مالك، قال البغوي: سكن الكوفة، وقال مسلم: تفرد ابنه بالرواية عنه، وله عنده حديثان. قلت: وفي ابن ماجه أحدهما، وصرح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي "السنن" حديث آخر، عن أبي مالك الأشجعي:"قلت: يا أبت، إنك قد صليت الصبح خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ها هنا بالكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال؛ يا بني محدث". وصححه الترمذي، وأغرب الخطيب، فقال في "كتاب القنوت": في صحبته نظر.

قال الحافظ رحمه الله: وما أدري أيّ نظر فيه بعد هذا التصريح، ولعله رأى ما أخرجه ابن مَنْدَهْ من طريق أبي الوليد، عن القاسم بن مَعْنِ، قال: سألت آل أبي مالك الأشجعي: أسمع أبوهم من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا. وهذا نفي، يقدم عليه من أثبت، ويحتمل أنه عَنَى بقوله: أبوهم أبا مالك، وهو كذلك، لا صحبة له، إنما الصحبة لأبيه. انتهى "الإصابة" ج 5 ص 211 - 212.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: كون المراد بالأب في قوله: "أبوهم" طارقا بعيد،

ص: 253

بل هو أبو مالك، فالسؤال عن سماع أبي مالك الأشجعي، لا عن طارق. ولو سلمنا أن المراد به طارق، لكان هناك مانع من الصحة؛ لأن الذين قالوا: لم يسمع مجهولون، فلا تصح الحكايته.

والحاصل أن صحبة طارق ثابتة، بدون شك والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف رحمه الله تعالى، وهو (72) من رباعيات الكتاب.

(ومنها): أن رجاله موثقون، وأنهم كوفيون، سوى شيخه، فبغلاني.

(ومنها): أن فيه قوله: "وهو ابن خليفة"، والقائل هو المصنف رحمه الله تعالى، وقد تقدم الكلام عليه غير مرة. وفي بعض النسخ إسقاط لفظة "وهو".

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.

(ومنها): أن صحابيه لم يرو عنه غير ابنه أبي مالك. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي مالك الأشجعى) سعد بن طارق (عن أبيه) طارق بن أَشْيَمَ، أنه (قال: صليت) بضم التاء للمتكلم (خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقنت) أي في الفجر، ففي رواية ابن ماجَهْ من طريق عبد الله بن إدريس، وحفص بن غياث، ويزيد بن هارون، كلهم عن أبي مالك الأشجعي، قال: إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ها هنا بالكوفة، نحوًا من خمس سنين، فكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بُنَيَّ مُحْدَثٌ.

وهذا نص صريح في إثبات صحبة والد أبي مالك، حيث أخبر بأنه صلى خلف رسول ال صلى الله عليه وسلم، كما تقدم قريبا.

قال السندي رحمه الله تعالى: هذا يدلّ على أن القنوت في الصبح كان أياما، ثم نسخ، أو أنه كان مخصوصا بأيام المْهَامّ، والثاني أنسب بأحاديث القنوت، وإليه مال أحمد وغيره. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الوجه الثاني هو المتعين، وأما احتمال النسخ، فبعيد، كما تقدم تحقيقه. والله تعالى أعلم.

(وصليت خلف أبي بكر) رضي الله عنه (فلم يقنت، وصليت خلف عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (فلم يقنت، وصليت خلفط عثمان) بن عفان رضي الله عنه (فلم يقنت، وصليت خلف على) بن

ص: 254

أبي طالب رضي الله عنه، وفي رواية ابن ماجه المذكورة:"وعليّ ها هنا بالكوفة نحوًا من خمس سنين"(فلم يقنت، ثم قال) طارق لولده (يا بُنَيَّ) بضم الموحدة، وفتح النون، تصغير "ابن"، مضاف إلى ياء المتكلم، وفيه خمسة أوجه:

الأول: حذف الياء، والاجتزاء بالكسرة.

الثاني: إثبات الياء ساكنة.

الثالث: قلب الياء ألفًا، وحذفها، والاستغناء عنها بالفتحة.

الرابع: قلبها ألفا، وإبقاؤها، وقلب الكسرة فتحة.

الخامس: إثبات الياء محركة بالفتخ. وإلى هذه الأوجه أشار ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة" حيث قال:

وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيا

كعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا

ويزاد وجه سادس، وهو ضم الاسم بعد حذف الياء، اكتفاء بنية الإضافة.

(إنها بدعة) أي إن القنوت في الفجر بدعة .. والمراد الدوام عليه من غير سبب، كما تقدم. وأنت الضمير باعتبار الخبر. قاله السندي رحمه الله تعالى. يعني أن حقه كان أن يقول: إنه بدعة، وإنما أنثه لكون خبر "إنّ" مؤنثا، وهو قوله:"بدعة".

يعني أن القنوت في صلاة الصبح دائما بدعة، لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.

والحديث دليل على أن القنوت محدث، وهو محمول على القنوت المستمرّ في الصبح، كما هو مذهب الشافعي، وطائفة، لا على نفي القنوت على الإطلاق، لثبوت ذلك في أحاديث الصحابة الآخرين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -122/ 1079 - وفي "الكبرى" -30/ 667 - عن قتيبة، عن خَلَف بن خَلِيفة، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ت) في "الصلاة" عن أحمد بن مَنيع، عن يزيد بن هارون، وعن صالح بن عبد الله، عن أبي عَوَانَة، عن أبي مالك به.

ص: 255

و (ق) فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس، وحفص بن غياث، ويزيد بن هارون، ثلاثتهم عن أبي مالك به.

وأخرجه (أحمد) 3/ 472 و 6/ 394. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو ترك القنوت، والمراد أنه تُرك بعد ما شُرع لعلة؛ لأجل زوالها، فإذا وجدت العلة يُقنَتُ، كما هو رأي جمهور أهل العلم.

قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى بعد إخراج هذا الحديث: ما نصّه: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. وقال سفيان الثوري: إن قنت في الفجر، فحسن، وإن لم يقنُت فحسنٌ، واختار أن لا يقنت، ولم ير ابن المبارك القنوت في الفجر. انتهى كلام الترمذي رحمه الله تعالى ج 2 ص 250. وقد تقدم تحقيق هذا، فلا تغفل.

(ومنها): أن والد أبي مالك صحابي صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومنها): أن عليا رضي الله عنه كان سكن الكوفة خمس سنين. والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌123 - (بَاب تَبْريد الْحَصَى لِلسُّجُودِ عَلَيهِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على جواز تبريد الحصى لأجل السجود عليه عند اشتداد الحر، أو البرد.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "التبريد": مصدر برّد يبرّد: إذا جعله باردا، وتضعيفه للمبالغة. قال الفيومي رحمه الله تعالى: وبَرُدَ الشيءُ بُرُودَةً، مثلُ سهُلَ سِهُولةً: إذا سَكَنَت حَرَارته، وأما بَرَدَ من باب قَتَلَ، فيستعمل لازما، ومتعدّيًا، يقال: بَرَدَ الماءُ، وبَرَدْتُهُ، فهو باردٌ، ومَبْرُودٌ، وهذه العبارة تكون من كل ثلاثي، يكون لازما ومتعدّيًا، قال الشاعر:[من الطويل]

وَعَطِّلْ قَلُوصِي فِي الرِّكَابِ فَإِنهَّا

سَتَبْرُدُ أكْبَادًا وَتُبكِي بَوَاكِيَا

ص: 256

وبَرَّدْتُهُ بالتثقيل مِبَالَغَةٌ. انتهى "المصباح" ص 42 - 43.

و"الحَصَى" -بفتح المهملتين-: صغار الحجارة، الواحدة: حَصَاة، وجمعه: حَصيَاتٌ، وحُصِيٌّ -بضم الحاء، وكسرها، وكسر الصاد، وتشديد الياء. أفاده في "ق" ص 1645.

و"السجود": مصدر سَجَدَ: إذا خَضَعَ، وانتصب، ضِدٌّ. قاله في "ق". والأول هو المراد هنا.

وقال الفيومي: سَجَدَ سُجُودًا: تطامَنَ -أي انحنى- وكلُّ شيء ذلَّ، فقد سجد. وسجد: انتصبَ في لغة طيّء. وسجد البعير: خَفَضَ رأسه عند ركوبه، وسجد الرجل: وضع جبهته بالأرض. والسجود لله تعالى في الشرع: عبارة عن هيئة مخصوصة. انتهى. "المصباح" ص 266. والله تعالى أعلم بالصواب.

1081 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، فَآخُذُ قَبْضَةً مِنْ حَصًى فِي كَفِّي، أُبَرِّدُهُ، ثُمَّ أُحَوِّلُهُ فِي كَفِّي الآخَرِ، فَإِذَا سَجَدْتُ وَضَعْتُهُ لِجَبْهَتِي).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) تقدم في الذي قبله.

2 -

(عباد) بن عباد بن حبيب بن المُهَلَّب بن أبي صُفرة الأزدي العَتَكي، أبو معاوية البصري، ثقة ربما وهم [7].

روى عن عاصم الأحول، وأبي جمرة نصر بن عمران الضُّبَعي، وهشام بن عروة، وعبد الله، وعبيد الله ابني عمر بن حفص، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، ويحيى بن يحيى، وقتيبة، وغيرهم.

قال الأثرم، عن أحمد: ليس به بأس، وكان رجلًا عاقلًا أديبًا. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: عباد بن عباد، وعباد بن العوَّام جميعا ثقة، وعباد بن عباد أوثقهما، وأكثرهما حديثا. وقال يعقوب بن شيبة، وأبو داود، والنسائي، وابن خراش: ثقة. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صدوق، لا بأس به، قيل: يُحتَجّ بحديثه؟ قال: لا. وقال الترمذي عن قتيبة: ما رأيت مثل هؤلاء الفقهاء الأشراف: مالكا، والليث، وعبد الوهاب الثقفي، وعباد بن عباد، كنا نرضى أن نرجع من عند عباد كل يوم بحديثين. وقال ابن سعد: كان ثقة، وربما غلط، وقال في موضع آخر: كان معروفا بالطلب، حسن الهيئة، ولم يكن بالقويّ في الحديث، وتوفي سنة (181) وزاد أبو جعفر بن جرير الطبريّ "في رجب" قال: وكان ثقة غير أنه كان يَغلَطُ أحيانًا. وقال البخاري: قال سليمان بن حرب: مات

ص: 257

قبل حماد بن زيد بستة أشهر. وقال إبراهيم بن زياد سبلان: مات سنة (180) قال البخاري: وهذا أشبه. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه العجلي، والعقيلي، وأبو أحمد المروزي، وابن قتيبة، وأورد ابن الجوزي في "الموضوعات" حديث أنس رضي الله عنه:"إذا بلغ العبد أربعين سنة". . . من طريق عباد هذا، فنسبه إلى الموضع، وأفحش القول فيه، فوهم وَهَمَّا شَنِيعَّا، فإنه التبس عليه براو آخر. قال الحافظ رحمه الله تعالى: وقد تعقبت كلامه في "الخصال المكفرة". انتهى". أخرج له الجماعة. وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط.

3 -

(محمَّد بن عمرو) بن علقمة بن وَقَّاص الليثي المدني، صدوق له أوهام [6]، ت سنة 145 (ع) تقدم 16/ 17.

4 -

(سعيد بن الحارث) بن أبي سعيد بن الْمُعَلَّى، ويقال: ابن أبي المعلى الأنصاري المدني، القاصّ، ثقة [3].

روى عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عمر، وجابر، وعبد الله بن حسين. وعنه محمَّد بن عمرو بن علقمة، وعُمارة بن غَزِيّة، وعمرو بن الحارث، وغيرهم. قال ابن معين: مشهور. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال يعقوب بن سفيان: هو ثقة. أخرج له الجماعة. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حَرَام الأنصاري الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدم 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقاة، وأنهم من رجال الجماعة، وأنهم مدنيون، غير شيخه، فبغلاني، وعباد، فبصري (ومنها): أن فيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى -1540 - حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن جابر بن عبد الله) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر) ولفظ أبي داود: "كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". . . (فآخذ) بمد الهمزة، وأصله "أَأْخُذ"، فأبدلت الهمزة الثانية ألفا، لاجتماعها مع همزة المضارع ساكنة، كما قال في "الخلاصة":

وَمَدَّا ابْدِلْ ثَانِيَ الْهَمْزَينِ مِنْ

كِلْمَةٍ انِ يَشكُنْ كَآثِرْ وَاائْتَمِنْ

ص: 258

(قبضة) بفتح القاف، وضمها، لغتان، يقال: قَبَضْتُ الشيءَ قَبْضًا: إذا أخذته، وهو في قَبْضَتِه: أي في ملكه، وقَبَضْتُ قَبْضَةً من تَمْرٍ بفتح القاف، والضمُّ لُغَةٌ. قاله في "المصباح" ص 488.

وقال ابن منظور رحمه الله: و"القُبْضَة" بالضم: ما قَبَضتَ عليه من شيء، يقال: أعطاني قُبْضَةً من سَوِيقٍ، أو تَمْرٍ: أي كَفّا منه، وربما جاء بالفتح. انتهى المقصود من كلام ابن منظور. "لسان العرب" ج 5 ص 3512.

والمراد بالقبضة هنا المأخوذُ بكفه، وانتصابه على أنه مفعول به لـ"ـأخذت".

(من حَصًى) بيان للقبضة متعلق بمحذوف صفةٍ لـ"ـقبضةَ"، أي قبضةٍ كائنْةٍ من حصى (في كفي) متعلق بـ"أخذت".

(أبرده) من التبريد، كما تقدم ضبطه، وذكر ضميره لكونه بمعنى المقبوض، والجملة في محل نصب حال، أي حال كوني أبرّد الحصى المقبوض (ثم أحوله في كفي الآخر) من التحويل، أي أجعله في كفي الآخر، ليصيبه بردة كفه (فإذا سجدت وضعته لجبهتي) أي إذا أردت السجود أضعه على الأرض، لأجل أن أضع عليه جبهتي، حتى لا تصيبها حرارة الأرض.

ولفظ أبي داود: "فآخذ قبضة من الحصى، لتبرد في كفي، أضعها لجبهتي، أسجد عليها، لشدة الحر".

وفيه أن مثل هذا العمل لا ينافي صحة الصلاة.

والظاهر أنهم كانوا يصلون الظهر في أول وقتها.

قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": ظاهر الأحاديث الواردة في الأمر بالإبراد يعارضه، فمن قال: الإبراد رخصة، فلا إشكال، ومن قال: سنة، فإما أن يقول: إن التقديم المذكور رخصة، وإما أن يقول: منسوخ بالأمر بالإبراد.

وأحسن منهما أن يقال: إن شدة الحرّ قد توجد مع الإبراد، فيحتاج إلى السجود على الثوب، أو إلى تبريد الحصى؛ لأنه قد يستمرّ حره بعد الإبراد، ويكون فائدة الإبراد وجود ظل يُمشَى فيه إلى المسجد، أو يصلى فيه في المسجد. أشار إلى هذا الجمع القرطبي، ثم ابن دقيق العيد. وهو أولى من دعوى تعارض الحديثين. انتهى "فتح " ج 2 ص 49. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

ص: 259

حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -123/ 1081 - وفي "الكبرى" -31/ 668 - عن قتيبة، عن عباد بن عباد، عن محمَّد بن عمرو، عن سعيد بن الحارث، عنه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن أحمد بن حنبل، ومسدد، كلاهما عن عباد به. وأخرجه (أحمد) 3/ 327. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز تبريد الحصى لأجل السجود عليه (ومنها): المبادرة بأداء صلاة الظهر، ولا ينتظر حتى يبرد الحصى ونحوه، لأن ذلك ربما يؤدي إلى تفويتها، ولا يتعارض هذا مع الأمر بالإبراد؛ لأن ذلك المراد منه الانتظار حتى يخف حرها، ويظهرَ للشمس ظل يستظل به، لا أن تؤخر بالكلية (ومنها): مشروعية دفع الضرر حال الصلاة بما هو أجنبي عنها (ومنها): أن مثل هذا العمل يعدّ قليلًا، لا ينافي الصلاة (ومنها): الاهتمام بأداء الصلاة ولو مع المشقة (ومنها): مراعاة ما يؤدي إلى الخشوع في الصلاة (ومنها): ما قيل: إن قول الصحابي: "كنا نفعل كذا" من قبيل المرفوع، لكن هذا فيه ما هو أقوى من ذلك، وذلك أنه كان يصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، فلا يخفى عليه ما يفعله أصحابه في صلاتهم، فكونه مرفوعًا من هذا الوجه، أقوى من كونه مرفوعًا من مجرد صيغة "كنا نفعل"، وإن كان ذلك وجها صحيحا أيضًا. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌124 - (بَابُ التكْبِيرِ لِلسُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على مشروعية التكبير لأجل السجود.

1082 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَكَانَ

ص: 260

إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِي، فَقَالَ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا قَالَ كَلِمَةً -يَعْنِي صَلَاةَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يحيى بن حبيب بن عربي) البصري، ثقة [10] تقدم 60/ 75.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الأزدي الجَهْضَمي، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه [8]، تقدم 3/ 3.

3 -

(غَيْلان بن جَرِير) الْمِعْوَلي، الأزدي البصري، ثقة [5].

روى عن أنس بن مالك، وأبي قيس زِيَاد بن رَبَاح، ومطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير، وغيرهم. وعنه موسى بن أبي عائشة، وأيوب، وجرير بن حازم، ومهدي بن ميمون، وحماد بن زيد، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (129) ونسبه ضَبِّيًا. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وقال العجلي: بصري ثقة. أخرج له الجماعة، وتقدم في 3/ 3.

4 -

(مُطَرِّف) بن عبد الله بن الشِّخِّير العامري الحَرَشِى، أبو عبد الله البصري، ثقة عابد فاضل [2]، تقدم 53/ 67.

5 -

(عِمْرَان بن حُصَين) بن عُبَيد بن خَلَف الخُزَاعي، أبو نُجَيد الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، أسلم عام خيبر، وصحب، وكان فاضلا، وقضى بالكوفة، مات سنة (52) بالبصرة، تقدم 201/ 321. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجمال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاري (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن مطرف) بن عبد الله، أنه (قال: صليت أنا) أَتَى بضمير الفصل ليعطف عليه قوله (وعمران بن حصين) كما قال ابن مالك في "خلاصته":

وَإن عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِل

عَطَفْتَ فَافْصِل بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

(خلف علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، والظرف متعلق بـ"صليت"

قيل: يستدل به على أن موقف الاثنين يكون خلف الإمام، خلافا لمن قال: يجعل

ص: 261

أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه أنه لم يكن معهما غيرهما.

وفي رواية البخاري، من طريق أبي العلاء يزيد بن عبد الله، أخي مطرف بن عبد الله، عن مطرف، عن عمران رضي الله عنه، أنه صلى مع علي رضي الله عنه بالبصرة. . . فبَيَّنَ مكان الصلاة أنه كان بالبصرة، وكذا رواه سعيد بن منصوو من رواية حُمَيد بن هلال، عن عمران، ووقع لأحمد من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن غيلان "بالكوفة"، وكذا لعبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، وغير واحد، عن مطرف. قال الحافظ رحمه الله تعالى: فيحتمل أن يكون ذلك وقع منه بالبلدين. انتهى.

(فكان) أي علي رضي الله عنه (إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه من السجود كبر، وإذا نهض من الركعتين) من باب قَعَدَ: أي قام. يعني أنه إذا شرع في القيام من الركعتين (كبر) هكذا فَصَّلَ في هذه الرواية مواضع الرفع بذكر السجود، والرفع منه، والنهوض من الركعتين فقط، ففيه إشعار بأن هذه المواضع الثلاثة هي التىِ كان تُركَ الرفعُ فيها، حتى تذكرها عمران بصلاة علي رضي الله عنهما.

وسيأتي -1/ 1180 - من طريق يحيي بن سعيد بصيغة العموم، ولفظه:"فكان يكبر في كل خفض، ورفع، يتم التكبير".

(فلما قضى صلاته) أي سلم علي رضي الله تعالى عنه من صلاته (أخذ عمران) بن حُصَين رضي الله عنهما (بيدي) إنما أخذ بيده تنبيها له على ما سيلقيه إليه (فقال: لقد ذكرني هذا) يريد عليا رضي الله عنه. وفيه إشارة إلى أن تكبير الانتقالات كانت مهجورة عند بعض الأئمة في ذلك الوقت (قال كلمة يعني صلاة محمَّد صلى الله عليه وسلم) العناية من بعض الرواة، حيث شك في لفظ:"صلاة محمَّد صلى الله عليه وسلم". أي قال كلمة، معناها:"صلاة محمَّد صلى الله عليه وسلم". والحاصل أن بعض الرواة شك في لفظ المفعول الثاني لـ"ذَكَّرَ"، فأتى بـ"يعني". وأشار في "الفتح" إلى أن الشك يحتمل أن يكون من حماد؛ لأنه رواه أحمد من رواية سعيد بن أبي عروبة بلفظ:"صلى بنا هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولم يشك، وفي رواية قتادة عن مطرف، قال عمران:"ما صليت منذ حين، أو منذ كذا وكذا أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الصلاة".

قال الجامع عفا الله عنه: كون الشك من حماد غير صحيح؛ لأنه سيأتي للمصنف من طريق يحيى بن سعيد القطان بدون شك. والله أعلم.

قال ابن بطال: تَرْكُ النكير على من ترك التكبير يدلّ على أن السلف لم يتلقوه على أنه ركن من الصلاة.

ص: 262

وأشار الطحاوي إلى أن الإجماع استقرّ على أن من تركه، فصلاته تامة.

قال في "الفتح": وفيه نظر، لما تقدم عن أحمد، والخلاف في بطلان الصلاة بتركه ثابت في مذهب مالك، إلا أن يريد إجماعا سابقا. انتهى جـ 2 ص 524.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الإجماع هنا غير صحيحة، فإن بعض أهل العلم يرى البطلان، كما أوضحه صاحب "الفتح" آنفًا، وهو المذهب الراجح، لأن تكبير الانتقالات من جملة ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته، وقد تقدم أن كل ما كان في ذلك التعليم فإنه من واجبات الصلاة التي لا تتم إلا بها، فثبت بطلان الصلاة بذلك النص، وقد قدمت تمام البحث في هذا في محله، فتأمل بفهم رشيد، ولا تكن أسير التقليد، فإنه ملجأ البليد، ومتمسك العنيد.

واستدلال المصنف رحمه الله تعالى بالحديث على مشروعية التكبير للسجود واضح. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما هذا متفق عليه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية):

في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -124/ 1082 - وفي "الكبرى" 32/ 966 - عن يحيي بن حبيب بن عربي، عن حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن مطرف، عنه. وفي -1/ 1180 - 37/ 1103 - عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن حماد به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن إسحاق الواسطي، عن خالد الطحان، عن الجُرَيري، عن أبي العلاء، يزيد بن عبد الله أخي مطرف، عن مطرف، عنه. وعن أبي النعمان، عن حماد بن زيد به. وعن سليمان بن حرب، عن حماد به.

(م) فيه عن يحيي بن يحيي، وخلف بن هشام، كلاهما عن حماد به.

(د) فيه عن سليمان بن حرب به.

(أحمد) 4/ 428 و 432 و 440 و 444.

(ابن خزيمة) رقم 581. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

ص: 263

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو مشروعية التكبير للسجود، وقد تقدم أنه من واجبات الصلاة (ومنها): أن بعض الأئمة في عهد السلف كانوا قد ضيعوا بعض الأفعال التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأولا، أو جهلا (ومنها): بيان فضل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حيث كان يحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل بها، ويحييها، في وقت تركها فيه كثير من الناس، حتى كان بعضهم ينكر ذلك، لخفائه عليه، لقلة من يعمل به. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1083 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، وَيَحْيَى، قَالَا: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، وَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رضي الله عنهما يَفْعَلَانِهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس، أبو حفص البصري، ثقة حافظ [10]، تقدم 4/ 4.

2 -

(معاذ) بن معاذ بن نصر بن حسان العَنْبَري، أبو المثنّى البصري القاضي، ثقة متقن، من كبار [9]، تقدم 34/ 38.

3 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام الحجة الثبت [9] تقدم 4/ 4.

4 -

(زِهَير) بن معاوية بن حُدَيج، أبو خَيثمَة الجُعْفي الكوفي، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت، إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بأَخَرَةٍ [7]، تقدم 38/ 42.

5 -

(أبو إسحاق) السبيعي، عمرو بن عبد الله الكوفي، ثقة مكثر عابد، اختلط بآخره، وكان يدلس [3]، تقدم 38/ 42.

6 -

(عبد الرحمن بن الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي، ثقة [3] تقدم 38/ 42.

7 -

(علقمة) بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفى، ثقة ثبت فقيه عابد [2]، تقدم 61/ 77.

8 -

(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، مخضرم ثقة مكثر فقيه [2]، تقدم 29/ 33.

9 -

(عبد الله بن مسعود) رضي الله تعالى عنه، تقدم 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، وأنهم كوفيون، إلا شيخه، ويحيى، ومعاذا، فبصريون (ومنها): أن

ص: 264

شيخه هو أحد مشايخ الأئمة الستة كُلِّهِم، الذين يروون عنهم بلا واسطة (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وفيه رواية الأقران. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن مسعود) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض ورفع) زاد في الرواية الآتية -173/ 1142 - من طريق الفضل بن دُكَين، ويحيى بن آدم، كلاهما عن زهير:"وقيام، وقعود". والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل انتقالاته. وهذا باعتبار الغالب؛ لأنه لا تكبير في الرفع عن الركوع، وإنما هو التسميع، والتحميد.

وفيه دليل علي مشروعية التكبير في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، سوى الرفع من الركوع، فيقول:"سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد".

قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى بعد إخراج حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا: ما نصّه: والعمل على هذا عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، وعليه عامة الفقهاء والعلماء. انتهى كلام الترمذي. جـ 1 ص 160.

وقال قوم: لا يشرع التكبير إلا للإحرام فقط، وقال آخرون: ليس بسنة إلا في الجماعة، وأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر.

وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسألة، وترجيح الراجح منها بدليله في -84/ 1023 - فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(ويسلم عن يمينه، وعن يساره) ولفظ الرواية المذكورة: "ويسلم عن يمينه، وعن شماله، السلام عليكم، ورحمة الله، حتى يُرَى بياض خده"، وسيأتي البحث عن السلام في محله -70/ 1319 - إن شاء الله تعالى.

(وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلانه) أي يفعلان ما ذكر من التكبير في كل خفض، ورفع، ومن التسليم عن اليمين واليسار. زاد في -180/ 1149 - من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق "عثمان" رضي الله عنه، ولفظه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل رفع ووضع، وقيام وقعود، وأبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

ص: 265

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -124/ 1083 - وفي "الكبرى" 32/ 675 - عن عمرو بن علي، عن معاذ بن معاذ، ويحيى بن سعيد، كلاهما عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، كلاهما عنه.

وفي -173/ 1142 - و"الكبرى" -80/ 728 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن الفضل بن دكين، ويحيى بن آدم، كلاهما عن زهير به. وفي 180/ 1149 - و"الكبرى" -87/ 735 - عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق به. وفي -70/ 1319 - و"الكبرى" -104/ 1242 - عن محمَّد بن المثنى، عن معاذ به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ت) في "الصلاة" عن قتيبة به.

(وأحمد) 1/ 386 و 394 و 426 و 418 و 442 و 443 (والدارمي) رقم 1252.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها). ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية التكبير عند النزول للسجود، وكذا في جميع الانتقالات، ما عدا الرفع من الركوع، فيُسمِّع، ويُحَمِّد (ومنها): مشروعية السلام عن اليمين واليسار، وأن هذا الفعل مما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون بعده رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌125 - (بَابٌ كيْفَ يَخِرُّ

(1)

لِلسُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّال على بيان كيفية النزول إلى الأرض لأجل السجود.

1084 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ -وَهُوَ ابْنُ مَاهِكٍ-، يُحَدِّثُ، عَنْ حَكِيمٍ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا أَخِرَّ إِلَّا قَائِمًا).

(1)

وفي نسخة: "يَحْنِي".

ص: 266

رجال هذا الإسناد. ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدري البصري، ثقة [10]، تقدم 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الناقد الثبت الحجة [7] تقدم 24/ 46.

4 -

(أبو بِشْر) بن أبي وَحْشِيَّة جعفر بن إياس البصري، ثقة ثبت [5]، تقدم 13/ 520.

5 -

(يوسف بن ماهك) -بفتح الهاء- بن بُهزاد- بضم الموحدة، وسكون الهاء، بعدها زاي الفارسي المكي، مولى قريش، وقيل: لم يكن له ولاء ينتمي إليه، وقيل: إنه يوسف بن مِهْران، والصحيح أنه غيره، ثقة [3].

روى عن أبيه، وأبي هريرة، وعائشة، وحكيم بن حِزَام، وغيرهم. وعنه عطاء بن أبي رباح، وأبو بشر، وابن جريج، وأيوب، وغيرهم.

قال ابن معين والنسائى؛ ثقة. وقال ابن خراش: ثقة عدل، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (103) قال الحافظ المزِّي: وأراه وَهمّا.

وقال الهيثم بن عدي: مات سنة عشر. وقال الواقدي، وخليفة، وجماعة: مات سنة (113). وقيل: سنة (114) قاله ابن سعد، وزاد: وكان ثقة قليل الحديث. انتهى.

روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا وحديث رقم (4613).

6 -

(حكيم) بن حِزَام بن خُوَيلِد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ بن كلاب القرشي الأسدي، أبو خالد المكي، وأمه فاختة بنت زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العُزَّى، وعمته خديجة بنت خُويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه الله حزام، وابن أخيه الضحاك بن عبد الله بن خالد، وسعيد بن المسيب، وعروة، وغيرهم. قال ابن البَرْقي: أسلم يوم الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم. وقال البخاري: عاش في الإسلام ستين سنة، وفي الجاهلية ستين سنة. قاله ابن المنذر. وقال موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: وُلِدتُ قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، وأنا أعقل حين أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله. وحكى الزبير ابن بَكّار أن حكيم بن حزام وُلِدَ في جوف الكعبة، وذلك أن أمه دخلت الكعبة في نسوة من قريش، فضربها المخاض، فأتيت بنطْع، فولدت حكيما على النطع. قال: وكان من سادات قريش في الجاهلية والإِسلام، وقال عراك بن مالك: إن حكيم بن حزام قال: كان محمَّد أحب رجل من الناس إليّ في الجاهلية. . .الحديث. ورُوي عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة قربه من مكة في غزوة الفتح: "إن بمكة لأربعة نفر من قريش، أربأبهم عن الشرك، وأرغب لهم في الإسلام"

ص: 267

قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو" وإسناده ضعيف. وقال هشام بن عروة، عن أبيه: إن أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء أسلموا، وبايعوا، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، يدعونهم إلى الإسلام. وبه قال:"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن". وقال الزبير عن عمه مصعب: قال: جاء الإسلام، وفي يد حكيم الوفادة، وكان يفعل المعروف، يصل الرحم، ويحض على البرّ، قال: وجاء الإسلام، ودار الندوة بيد حكيم بن حزام، فباعها من معاوية بعدُ بمائة ألف درهم، فقال له الزبير: بعت مكرمة قريش؟ فقال: ذهبت المكارم إلا التقوى، اشتريت بها دارا في الجنة، أشهدكم أني قد جعلتها في سبيل الله -يعني الدراهم-. وقال أبو القاسم البغوي: كان عالما بالنسب، وكان يقال: أخذ النسب عن أبي بكر، وكان أبو بكر أنسب قريش. وقال إبراهيم بن المنذر، وخليفة، وغيرهما: مات سنة (54) وكذا قال يحيي بن بكير، قال: وقيل: سنة (58) وقال البخاري وغيره: مات سنة (60) وقيل: غير ذلك. وصحح ابن حبان الأول، وقال: قيل: مات سنة (50). انتهى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، غير شيخه، فإنه من أفراده (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير يوسف، فمكي، وحزاما فمدني (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن حكيم) بن حزام رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عاهدته، وعاقدته. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: المبايعة عبارة عن المعاقدة، والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه، وطاعته، ودَخِيلَة أمره. انتهى "النهاية" ج 1 ص174.

(أن لا أخر) بكسر الخاء، وضمها، يقال: خرّ يَخِرُّ، بالكسر، ويخُرّ بالضم: إذا سقط، أو هو السقوط من علو إلى سُفْل. أفاده في "ق".

أي لا أسقط إلى السجود (إلا قائما) أي أرجع من الركوع إلى القيام، ثم أخرّ منه إلى السجود، ولا أخرّ من الركوع إليه. وهذا هو المعنى الذي فهمه المصنف رحمه الله

ص: 268

تعالى من الحديث.

وقيل في معنى الحديث غير ذلك، قال السيوطي رحمه الله تعالى: قال في "النهاية": معناه: لا أموت إلا متمسكا بالإِسلام، ثابتا عليه، يقال: قام فلان على الشيء: إذا ثبت عليه، وتمسك به. وقيل: معناه: لا أقع في شيء من تجارتي وأموري إلا قمت به منتصبا له. وقيل: معناه: لا أَغْبِنُ، ولا أُغْبَنُ. قال السيوطي: وهذه الأقوال خارجة عما جنح إليه المصنف، حيث ترجم على الحديث [باب كيف يخر للسجود]. انتهى "زهر الربى" ج 2 ص 209.

وقال السندي رحمه الله تعالى: وقيل: معناه: لا أموت إلا ثابتا على الإسلام، فهو مثل:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. وذكر ما تقدم، ثم قال: وبالجملة فالحديث مما أشكل على الناس فهمه، وما أشار إليه المصنف في معناه أحسن. والله أعلم. انتهى شرح السندي ج 2 ص 205 - 206.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه هذا حديث صحيح. وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، لم يخرجه من أصحاب الأصول أحد غيره، أخرجه في هذا الباب -125/ 1084 - وفي "الكبرى" -33/ 671 - بالسند المذكور. وأخرجه (أحمد) جـ 3/ ص 402. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌126 - (بَابُ رَفع الْيَدَيْنِ للسُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية رفع اليدين لأجل السجود.

1085 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ فِي صَلَاتِهِ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا سَجَدَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ).

ص: 269

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمَّد بن المثنى) أبو موسى العَنَزِي البصري، ثقة ثبت [10] تقدم 64/ 80.

2 -

(ابن أبي عدي) محمَّد بن إبراهيم بن أبي عدي، نسب لجده، أبو عمرو البصري، ثقة [9]، تقدم 122/ 175.

3 -

(شعبة) بن الحجاج تقدم في السند السابق.

[تنبيه]: وقع في "الكبرى" هنا "سعيد" بدل "شعبة"، وهو سعيد بن أبي عروبة، وهكذا أخرج الحديث ابن حزم في "المحلى" جـ 4 ص -92 - من طريق المصنف، ورجح المحقق أحمد محمد شاكر فيما كتبه على "المحلى" كونه "سعيدا" بدل "شعبة"، وادعى أن ما في "المجتبى" تصحيف، ولكنه لم يقم على دعواه حجة مقبولة.

قلت: الذي في "المجتبى" هو الذي ذكره الحافظ أبو الحجاج المزِّيّ في "تحفة الأشراف" جـ 8 ص 338 - والذي يترجح عندي أنه لا تصحيف، بل الروايتان صحيحتان، إذ يمكن أن يحمل على أن ابن أبي عدي رواه عن شعبة، وسعيد، كليهما. والله تعالى أعلم بالصواب.

4 -

(قتادة) بن دعَامة السدوسي أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت مدلس [4]، تقدم 30/ 34.

5 -

(نصر بن عاصم) الليثي البصري، ثقة رمى برأي الخوارج، وصح رجوعه عنه [3] تقدم 4/ 880.

6 -

(مالك بن الحويرث) أبو سليمان الليثي الصحابي البصري، رضي الله عنه، تقدم 7/ 634. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه هذا حديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في -4/ 880 - حيث أورده المصنف رحمه الله تعالى هناك محتجا به على رفع اليدين حِيَالَ الأذنين، رواه عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد الهُجَيمي، عن شعبة، ورواه -881 - عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن عُلَيّة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. وفي -85/ 1024 - عن علي بن حجر، عن ابن علية به. وليس في هذه الطرق ذكر الرفع في السجود، وإنما هو في حديث شعبة من رواية ابن أبي عدي عنه، وحديث سعيد بن أبي عروبة، من رواية عبد الأعلى عنه، وحديث هشام الدستوائي، عن قتادة، من رواية ابنه معاذ عنه، وهذه

ص: 270

الروايات هي التي أخرجها في هذا الباب مستدلا بها على مشروعية رفع اليدين في السجود، وفي الرفع منه.

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة:

فذهب الجمهوو إلى عدم مشروعية الرفع في السجود، ولا في الرفع منه، وذهبت طائفة إلى مشروعيته.

فقد رَوَى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس رضي الله عنه، أنه كان يرفع يديه بين السجدتين.

وعن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يرفع يديه إذا رفع رأسه من السجدة الأولى.

وعن ابن علية، عن أيوب، قال: رأيت نافعا، وطاوسا يرفعان أيديهما بين السجدتين.

وعن يزيد بن هارون، عن أشعث، عن الحسن، وابن سيرين أنهما كانا يرفعان أيديهما بين السجدتين.

وعن ابن علية، أنه رأى أيوب يفعله. انتهى كلام ابن أبي شيبة رحمه الله تعالى في "مصنفه" جـ 1 ص 271.

قال النووي رحمه الله تعالى بعد ذكر مذهب الجمهور: ما نصه: وقال أبو بكر بن المنذر، وأبو علي الطبري من أصحابنا، وبعض أهل الحديث: يستحب أيضا في السجود. انتهى.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى بعد ذكره أن الرفع في السجود خلاف ما عليه الجمهور: ما نصه: وأغرب الشيخ أبو حامد في "تعليقه"، فنقل الإجماع على أنه لا يشرع الرفع في غير المواطن الثلاثة، -يعني الإحرام، والركوع، والرفع منه- وتعقب بصحة ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وطاوس، ونافع، وعطاء، كما أخرجه عبد الرزاق وغيره عنهم بأسانيد قوية، وقد قال به من الشافعية ابن خزيمة، وابن المنذر، وأبو علي الطبري، والبيهقي، والبغوي، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك، وهو شاذ.

وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود ما رواه النسائي من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث:"أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه". وقد أخرج مسلم بهذا الإسناد طرفه الأخير.

ص: 271

قال: ولم ينفرد به سعيد، فقد تابعه همام عن قتادة، عند أبي عوانة في "صحيحه". وفي الباب عن جماعة من الصحابة لا يخلو شيء منها عن مقال. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم أنه تابع سعيدا أيضا عند المصنف هشام الدستوائي، وشعبة كلاهما عن قتادة، كما هو رواية "المجتبى".

فتلخص من هذا أن حديث مالك بن الحويرث رضي الله تعالى عنه بزيادة الرفع في السجود صحيح، فمن ادعى ضعفه بشذوذ أو غيره، فقد جازف، وقال بغير برهان.

وقد صح أيضا ما يؤيده من حديث أنس رضي الله عنه، فقد روى ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنفه" جـ 1 ص 235 - فقال: حدثنا الثقفي، عن حميد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الركوع والسجود. وهذا إسناد صحيح.، فالثقفي هو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقة من رجال الجماعة، وحميد هو الطويل. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" من طريق ابن أبي شيبة جـ 4 ص 92.

والحاصل أن قوله من قال باستحباب رفع اليدين في السجود هو الراجح، لصحة دليله، ولكن مثل هذه السنة يعمل بها أحيانا، لأن أحاديث النفي، صحيحة أيضا، فيجمع بينها وبين أحاديث الإثبات بحمل أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أحيانا، فبهذا تجتمع أحاديث الباب، ويمكن العمل بكلها، من غير تفريط، ولا إفراط. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1086 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

كلهم تقدموا في السند الماضي، غير اثنين:

1 -

(عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي البصري، ثقة [8]، تقدم 20/ 386.

2 -

(سعيد) بن أبي عروبة مِهرَان، أبو النضر البصري، ثقة ثبت، يدلس، واختلط بآخره [6] تقدم 34/ 38.

والكلام على الحديث تقدم في الذي قبله.

و (قوله): "فذكر مثله" الضمير المستتر في "ذكر" يعود إلى عبد الأعلى، والضمير

(1)

وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 272

المجرور في "مثله" يعود إلى الحديث السابق، أي ذكر عبد الأعلى في روايته عن سعيد، مثل حديث ابن أبي عدي عن شعبة. وقد تقدم الفرق بين قوله:"مثله"، وقوله:"نحوه" غير مرة، فلا تغفل. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1087 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: وَإِذَا رَكَعَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

قد تقدموا في الذي قبله، غير اثنين:

1 -

(معاذ بن هشام) الدستوائي البصري، صدوق، ربما وهم [9]، تقدم 30/ 34.

2 -

(أبوه) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائي، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، رمي بالقدر، من كبار [7]، تقدم 30/ 34.

والضمير في قوله: "فذكر" لمعاذ بن هشام. وكذا في قوله: "زاد". وفي "نحوه" للحديث. والله تعالى أعلم بالصوأب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌127 - (تَرْكُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّال على ترك رفع اليدين عند السجود.

1088 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْكُوفِيُّ الْمُحَارِبِيُّ

(1)

فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ).

(1)

سقطى لفظة "المحاربي" من بعض النسخ.

ص: 273

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمَّد بن عبيد الكوفي المحاربي) أبو جعفر، أو أبو يعلى النحاس، صدوق [10] التقدم 144/ 226.

2 -

(ابن المبارك) هو عبد الله الإمام الحافظ الحجة الثبت [8] تقدم 32/ 36.

3 -

(معمر) بن راشد الصنعاني، ثقة ثبت [7] تقدم 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمَّد بن مسلم الإمام الحجة الثبت [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدوي المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 23/ 490.

6 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما، تقدم 12/ 12.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه، وقد تقدم للمصنف رحمه الله تعالى في 1/ 876 مطولًا حيث أورده هناك استدلالا على مشروعية رفع اليدين في افتتاح الصلاة، رواه عن شيخه عمرو بن منصور، عن علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. واستوفيت الكلام عليه، هناك. ورواه أيضا في -2/ 877 - عن شيخه سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري. . . استدلالا على رفع اليدين قبل التكبير.

وأورده المصنف هنا استدلالا على ترك الرفع في السجود، ومعنى ذلك أن الرفع الذي استفيد من حديث مالك بت الحُوَيْرِث رضي الله تعالى عنه المذكور في الباب السابق ليس دائما، بل أحيانا بدليل حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا.

وقال السندي رحمه الله تعالى في "شرحه": (قوله): "وكان لا يفعل ذلك في السجود". الظاهر أنه كان يفعل ذلك أحيانا، ويترك أحيانا، لكن غالب العلماء على ترك الرفع وقت السجود، وكأنهم أخذوا بذلك بناءً على أن الأصل هو العدم، فحين تعارضت روايتا الفعل والترك أخذوا بالأصل. والله تعالى أعلم. انتهى.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: ليس هناك تعارض بين الدليلين، بل هما صحيحان، عمل بهما النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، فيشرع العمل بهما كما ثبت، فالحق ما ذهب إليه القائلون بمشروعية الرفع في السجود، كما تقدم تحقيقه في الباب الماضي، فتبصر بالإنصاف، ولا تتحير بالاعتساف. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 274

‌128 - (بَابُ أَوَّلِ مَا يَصِلُ إِلى الأَرْضِ مِنَ الإِنسَانِ فِي سُجُودِهِ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالّة على بيان ما يصل إلى الأرض من أعضاء الإنسان عند نزوله للسجود.

فـ"ما" موصول اسمي في محل جر مضاف إليه، وجملة قوله:"يصل" صلته، وقوله:"إلى الأرض" متعلق بـ"يصل"، وقوله:"من الإنسان" بيان لـ"ما" متعلق بحال محذوف، أي حال كونه كائنا من الإنسان، وقوله:"في سجوده" متعلق بـ"يصل" أيضا.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: احتلف أهل العلم في أول يصل إلى الأرض من أعضاء المصلي:

(فمنهم) من قال يضع يديه قبل ركبتيه، وهو الراجح، (ومنهم): من قال: يضع ركبتيه قبل يديه. (ومنهم): من خَيَّرَ.

وسبب اختلافهم في ذلك اختلاف الأحاديث الواردة في هذا الباب، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

1089 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى الْقُومَسِيُّ الْبَسْطَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ-

(1)

قَالَ: أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الحسين بن عيسى القُومَسي البسْطامي

(2)

) نزيل نيسابور، صدوق، صاحب حديث [10] تقدم 69/ 86.

2 -

(يزيد بن هارون) بن زاذان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد [9] تقدم 153/ 144.

3 -

(شريك) بن عبد الله النخعي الكوفي أبو عبد الله القاضي بواسط، ثم بالكوفة،

(1)

قوله: "وهو ابن هرون" لا يوجد في النسخة "الهندية"، ولا "الكبرى".

(2)

قوله: "القومسي" بضم القاف، وسكون الواو، و"فتح" الميم: نسبة إلى "قومس"، اسم بلد. و"البسطامي" بفتح الباء، وقيل: بكسرها: نسبة إلى بلد بطريق نيسابور. قاله في "اللب".

ص: 275

صدوق يخطئ كثيرا، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة، وكان عادلا فاضلا، شديدا على أهل البدع [8] تقدم 25/ 29.

4 -

(عاصم بن كُلَيب) بن شهاب الجَرْمي الكوفي، صدوق رمي بالإرجاء [5] تقدم 11/ 889.

5 -

(كليب بن شهاب) بن المجنون الجرمي الكوفي، صدوق [2] ووهم من ذكره في الصحابة، تقدم 11/ 889.

6 -

(وائل بن حُجْرٍ) بن سعد بن مسروق الحَضْرَمي الصحابي الشهير، نزيل الكوفة، تقدم 4/ 879.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه الله تعالى-، وأن رجاله موثقون، غير شريك، وأنهم كوفيون، سوى شيخه، فبسطامي، ويزيد، فواسطي، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن وائل بن حُجْر) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد) أي أراد السجود (وضع ركبتيه قبل يديه) فيه أن وضع الركبتين مقدم على وضع اليدين، وبه قال بعض أهل العلم، ولكن الحديث فيه مقال، سيأتي الكلام عليه قريبا، إن شاء الله تعالى (وإذا نهض) أي أراد القيام من السجود، يقال: نهَضَ عن مكانه يَنْهَضُ، من باب نَفَعَ يَنْفَعُ نَهْضًا، ونهُوضًا: قام. قاله المجد. وقال الفيّومي: نهًضَ عن مكانه يَنْهَضُ نهُوضًا: ارتفع عنه، ونهض إلى العدو: أسرع إليه، ونهضَ إلى فلان، وله، نَهْضًا، ونُهُوضًا: تحركتُ إليه بالقيام. انتهى

(1)

(رفع يديه قبل ركبتيه) فيه أن القيام من السجود يكون عكس النزول إليه، فيرفع يديه قيل ركبتيه، وبه يقول كثير من أهل العلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث وائل ابن حُجْر رضي الله تعالى عنهما هذا ضعيف. لتفرد شريك به.

(1)

"المصباح" ص 90 - 91.

ص: 276

قال الدارقطني رحمه الله تعالى عقب هذا الحديث: ما نصّه: تفرد به يزيد، عن شريك، ولم يحدث به عن عاصم بن كُلَيب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به. انتهى.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى في "التلخيص الحبير": قال البخاري، والترمذي، وابن أبي داود، والدارقطني، والبيهقي: تفرد به شريك، قال البيهقي: وإنما تابعه هَمَّام، عن عاصم، عن أبيه مرسلا. وقال الترمذي: رواه همام، عن عاصم، مرسلا. وقال الحازمي: رواية من أرسل أصح.

وقد تُعُقِّب قول الترمذي بأن هماما إنما رواه عن شقيق -يعني أبا ليث- عن عاصم، عن أبيه مرسلا. ورواه همام أيضا عن محمَّد بن جُحَادة، عن عبد الجبّار بن وائل، عن أبيه موصولا، وهذه الطريق في "سنن أبي داود"، إلا أن عبس الجبار لم يسمع من أبيه، وله شاهد من وجه آخر. وروى الدارقطني، والحاكم، والبيهقي من طريق حفص بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أنس في حديث فيه:"ثم انحطّ بالتكبير، فسبقت ركبتاه يديه". قال البيهقي: تفرد به العلاء بن إسماعيل العَطَّار، وهو مجهول. انتهى

(1)

.

والحاصل أن حديث وائل هذا ضعيف، لما ذُكِر، ولمعارضته للأحاديث الصحيحة، كحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الآتي بعد هذا، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما:"أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك". أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، والدارقطني، والحاكم، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة، وقال الحاكم: والقلب إليه أميل، لروايات كثيرة في ذلك عن الصحابة والتابعين.

وأعله البيهقي، فقال: كذا قال عبد العزيز، ولا أراه إلا وَهَمًا -يعني رَفْعَه- قال: والمحفوظ ما اخترناه، ثم أخرج من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: إذا سجد أحدكم، فليضع يديه، وإذا رفع فليرفعهما.

قال الحافظ رحمه الله: ولقائل أن يقول: هذا الموقوف غير المرفوع، فإن الأول في تقديم وضع اليدين على الركبتين، والثاني في إثبات وضع اليدين في الجملة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى وَهَمِ عبد العزيز عندي غير صحيحة، فإنه ثقة، قد زاد الرفع، وهي زيادة مقبولة، فالصواب ما قاله الحافظ رحمه الله، فالمرفوع

(1)

"التلخيص الحبير" ج 2 ص 254.

(2)

"فتح" ج 2 ص 549.

ص: 277

غير الموقوف، فلا وجه للتعليل به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -128/ 1089 - وفي "الكبرى" 36/ 676 - عن الحسين بن عيسى، عن يزيد بن هارون، عن شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل رضي الله تعالى عنه.

وفي -183/ 1154 - و"الكبرى" -90/ 740 - عن إسحاق بن منصور، عن يزيد بن هارون به. وزاد. "قال أبو عبد الرحمن: لم يقل: هذا عن شريك غير يزيد بن هارون". والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن الحسن بن علي، وحسين بن عيسى، كلاهما عن يزيد ابن هارون به. (ت) فيه عن سلمة بن شَبيب، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، والحسن بن علي الحلواني، وعبد الله بن مُنير، وغير واحد، كلهم عن يزيد به. (ق) فيه عن الحسن ابن علي الخلاّل به.

وأخرجه (الدارمي) برقم -1326 - . والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أوّل ما يصيب الأرض من أعضاء المصلي:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: قد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فممن رأى أن يضع وكبتيه قبل يديه: عمرُ بن الخطّاب. وبه قال النخعي، ومسلم بن يسار، وسفيان الثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل.

وقالت طائفة: يضع يديه إلى الأرض إذا سجد قبل ركبتيه، كذلك قال مالك. وقال الأوزاعي: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل رُكَبِهم. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى.

وقال البخاري في "صحيحه": قال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه. انتهى.

قال في "الفتح": وصله ابن خزيمة، والطحاوي، وغيرهما من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، وزاد في آخره: ويقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك" انتهى.

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: وذهب الأوزاعي، ومالك، وابن حزم إلى استحباب وضع اليدين قبل الركبتين، وهي رواية عن أحمد. وروى الحازمى عن الأوزاعي أنه قال: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم. قال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث. انتهى.

ص: 278

وقال في "الفتح": قال مالك: هذه الصفة أحسن في خشوع الصلاة. وعن مالك، وأحمد رواية بالتخيير. انتهى.

واحتج هؤلاء بحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي، وهو أقوى؛ لأن له شاهدا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، المذكور، وقد صححه ابن خزيمة، وأخرجه الدارقطني، والحاكم في "المستدرك" مرفوعًا، بلفظ:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه"، وقال: صحيح على شرط مسلم.

وأجاب الأولون عن ذلك بأجوبة:

(منها): أن حديث أبي هريرة، وابن عمر منسوخان بما أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال:"كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين".

لكن قال الحازمي في إسناده مقال، ولو كان محفوظا لدلّ على النسخ، غير أن المحفوظ عن مصعب، عن أبيه حديث نسخ التطبيق.

وقال في "الفتح": إنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة بن كُهَيل، عن أبيه، وهما ضعيفان.

وقد عكس ابن حزم، فجعل حديث أبى هريرة رضي الله عنه في وضع اليدين قبل الركبتين ناسخا لما خالفه.

(ومنها): ما جزم به ابن القيم في "الهدي" أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه انقلب متنه على بعض الرواة. قال: ولعله: وليضع ركبتيه قبل يديه. قال: وقد رواه كذلك أبو بكر ابن أبي شيبة، فقال: حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إذا سجد أحدكم، فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرُك كبُرُوك الفَحْل". رواه الأثرم في "سننه" أيضا عن أبي بكر كذلك. وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصدّق ذلك، ويوافق حديث وائل بن حُجْر، قال ابن أبي داود: حدثنا يوسف بن عديّ، حدثنا ابن فضيل، عن عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة رضي الله عنه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في كلام ابن القيم رحمه الله هذا نظر لا يخفى، فإن دعوى الانقلاب على الراوي الثقة الضابط بدون حجة صحيحة غيرُ مقبولة، ومن الغريب احتجاجه على ما ادعاه بما أورده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق عبد الله ابن سعيد؛ لأنه من المعروف لدى أمثاله حالُ عبد الله هذا، وما قاله الأئمة فيه:

ص: 279

قال عمرو بن علي الفلاس: كان عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد لا يحدثان عنه. وقال أبو قُدامَة، عن يحيى بن سعيد: جلست إليه مجلسا، فعرفت فيه -يعني الكذب- وقال أبو طالب، عن أحمد بن حنبل: منكر الحديث متروك الحديث. وكذا قال عمرو بن علي. وقال عباس الدوري، عن ابن معين: ضعيف. وقال الدارمي، عن ابن معين: ليس بشيء، وقال محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى: لا يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: هو ضعيف، لا يوقف منه على شيء. وقال أبو حاتم: ليس بقويّ. وقال البخاري: تركوه. وقال النسائي: ليس بثقة، تركه يحيى، وأحمد. وقال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه الضعفُ عليه بيَّن. وقال الدارقطني: متروك، ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها. وضعفه غير هؤلاء

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فمن كان هذا حاله، فكيف يحتج بروايته على دعوى الانقلاب على الرواة الثقات الذين رووا حديث أبي هريرة الآتي؟ هذا شيء عجيب!.

وسيأتي وجه آخر مما رد به ابن القيم حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد هذا، والرد عليه، إن شاء الله تعالى.

والحاصل أن المذهب الراجح مذهبُ من قال بتقديم اليدين على الركبتين في النزول للسجود، وعكسه للنهوض منه، لما عرفت من قوة دليله، وضعف دليل العكس. وسيأتي مزيد بسط في الحديث الآتي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1090 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَيَبْرُكَ كَمَا يَبْرُكُ الْجَمَلُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(عبد الله بن نافع) الصائغ المخزومي مولاهم، أبو محمَّد المدني، ثقة صحيح الكتاب، في حفظه لين، من كبار [10] تقدم 96/ 120.

3 -

(محمَّد بن عبد الله بن حسن) بن حسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي،

(1)

راجع "تهذيب التهذيب" ج 5 ص 237 - 238.

ص: 280

أبو عبد الله المدني، الملقّب بـ"النفس الزكية"، ثقة [7].

روى عن أبيه، وأبي الزناد، ونافع مولى ابن عمر. وعنه عبد العزيز الدراوردي، وعبد الله بن نافع الصائغ، وعبد الله بن جعفر المخرمي، وزيد بن الحسن الأنماطي. خرج بالمدينة على المنصور، فبعث إليه عيسى بن موسى، فقتله. وقال الآجري عن أبي داود: قال أبو عوانة: محمَّد، وإبراهيم، خارجيان. قال أبو داود: بئسما قال، هذا رأي الزيدية. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال الزبير بن بكار: قتله عيسى بن موسى بالمدينة سنة (45) وهو ابن (53) سنة، وفيها قتل أخوه إبراهيم بالبصرة. وقال ابن سعد، وغير واحد: قتل، وهو ابن (45) سنة، ويقال: إن أمه حملت به أربع سنين، وذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة، وقال: كان قليل الحديث، وكان يلزم البادية، ويحب الخلوة. وقال محمَّد بن عمر: غلب على المدينة ليومين بقيا من جمادي الآخرة سنة (45) وقتل في نصف شعبان، وله (53) سنة. انتهى.

أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي، وله عندهم حديث الباب فقط، وأعاده المصنف بعده.

4 -

(أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرحمن المدني، ثقة فقيه [5] تقدم 7/ 7.

5 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 7/ 7.

6 -

(أبو هريرة) الصحابي الشهير رضي الله تعالى عنه تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رواته كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، غير عبد الله بن نافع، فما أخرج له البخاري، إلا في "الأدب المفرد"، ومحمد بن عبد الله، فما أخرج له الشيخان، وابن ماجه (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلاني (ومنها): أن محمَّد بن عبد الله من المقلين في الرواية، ليس له عندهم سوى حديث الباب (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي (ومنها): أن فيه من لقب بصورة الكنية، فأبو الزناد لقب لعبد الله بن ذكوان، وكنيته أبو عبد الرحمن (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية، روى (5374) حديثا. والله تعالى أعلم.

ص: 281

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعمدُ أحدكم؟) هو على حذف أداة الاستفهام الإنكاري، أَيْ أَيَعْمِدُ؟، أي يَقْصِدُ. يقال: عَمَدتُ للشيء، عَمْدًا، من باب ضَرَبَ، وعَمَدْتُ إليه: قصدته، وتعَمَّدته: قصدت إليه أيضًا. قاله الفيومي.

(في صلاته) متعلق بـ"يعمد"(فيبرُكَ) بضم الراء، يقال: بَرَكَ البَعِيرُ بُرُوكًا، من يأب قَعَدَ: وَقَعَ على بَرْكِهِ، وهو صَدْره، وأبركته أنا. وقال بعضهم: هو لغة، والأكثر أَنَختُهُ، فَبَرَك.

وهو منصوب على أنه جواب الاستفهام، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

(كما يبرك الجَمَل) بفتحتين: هو من الإبل بمنزلة الرجل، يختص بالذَّكَر، قالوا: ولا يسمَّى بذلك إلا إذَا بَزَلَ. أي طلع نابه بدخوله في السنة التاسعة. أفاده في "المصباح".

وجمعه جَمِال بالكسر، وأَجْمال، وأَجُملٌ، وجِمَالَة بالهاء.

والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه مفعول مطلق، أي وقُوعًا مثل وُقُوع الجملِ على بَرْكه. و"البرك" بفتح، فسكون: هو الصدر، كما مرّ آنفًا.

والمراد به النهي عن بُرُوك الجمل، وهو أن يضع ركبتيه على الأرض قبل يديه، كما سيجيء التصريح به في الرواية التالية، حيث قال فيها:"إذا سجد أحدكم، فليضع يديه قبل ركبتيه، ولا يبرُكْ بُرُوكَ البعير".

وبهذا استدلّ القائلون بتقديم اليدين على الركبتين، وهو القول الراجح؛ لصحة الحديث.

ومنهم من حمل النهي في هذا الحديث على الكراهة، لتقديمه صلى الله عليه وسلم ركبتيه على يديه، كما مر في حديث وائل رضي الله عنه، لكن الأول هو الأرجح، لضعف حديث وائل، كما تقدم تحقيقه في الحديث السابق.

[فإن قيل]: كيف شَبَّه وضع الركبتين قبل اليدين ببروك الجمل، مع أن الجمل يضع يديه قبل رجليه؟

[أجيب]: بأن ركبة الإنسان في الرِّجل، وركبة الدوابّ في اليد، فإذا وضع ركبتيه

ص: 282

أوَّلًا، فقد شابه الجمل في البروك. كذا في "المفاتيح"(1) ..

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.

[فإن قيل]: في سنده عبد الله بن نافع الصائغ، وهو ثقة، صحيح الكتاب، في حفظه شيء، كما قاله في "ت"، فكيف يصح حديثه؟

[أجيب]: بأنه لم ينفرد به، بل تابعه عبد العزيز الدَّراورْدي، كما في الرواية الآتية بعد هذا، وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، صححه ابن خزيمة، فلهذا جعله الحافظ في "بلوغ المرام": إنه أقوى من حديث وائل بن حُجْر، وقال ابن سيّد الناس: أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح، وكذلك رجحه ابن التركماني في "الجوهر النقيّ"، والقاضي أبو بكر ابن العربي في "عارضة الأحوذي".

والحاصل أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح، بلا ريب. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -128/ 1090 - وفي "الكبرى" -36/ 676 - عن قتيبة، عن عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله بن حسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه. وفي -1091 - و"الكبرى" -677 - عن هارون بن محمَّد بن بكار بن بلال، عن عمروان بن محمَّد، عن عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن محمَّد بن عبد الله المذكور به. بلفظ:"إذا سجد أحدكم، ليضع يديه قبل ركبتيه، ولا يبرُك بُرُوك البعير". والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن قتيبة به. وعن سعيد بن منصور، عن عبد العزيز الدراورديّ به. (ت) فيه عن قتيبة به.

وأخرجه (أحمد) 2/ 381 (والدارمي) برقم -1327. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قد تكلم بعض الناس في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، وأعلوه بوجوه عديدة، كلها مخدوشة:

(الوجه الأول): أنه منسوخ بما أخرجه ابن خزيمة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله عنه، قال:"كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين".

(والجواب عنه): أن دعوى النسخ بهذه الرواية غير صحيحة، فإنها من رواية إبراهيم

(1)

انظر "شرح السندي" ج 2 ص 207 - 208.

ص: 283

ابن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كُهَيْل، وهو يرويه عن أبيه، وقد تفرد به عنه، وهما ضعيفان جِدًّا، فلا يصلح الاحتجاج بهما، قال في "صة" في ترجمة إبراهيم هذا: اتهمه أبو زرعة. وقال في "ت": في ترجمة إسماعيل والد إبراهيم: متروك، فإعلال الحديث

الصحيح بمثل هذا في غاية السقوط.

(الوجه الثاني): أن في حديث أبي هريرة قلبا من الراوي، قيل: ولعله كان أصله "وليضع ركبتيه قبل يديه"، فانقلب على بعض الرواة.

ويدلّ عليه أول الحديث، وهو قوله:"فلا يبرك كما يبرك البعير"، فإن المعروف من بروك البعير تقديمُ اليدين على الرجلين. قاله ابن القيم في "زاد المعاد"، قال: ولما عَلِمَ أصحاب هذا القول ذلك قالوا: ركبتا البعير في يديه، لا في رجليه، فهو إذا برك وضع ركبته أوّلًا، فهذا هو المنهي عنه. قال: وهو فاسد لوجوه، وحاصلها أن البعير إذا برك يضع يديه، ورجلاه قائمتان، وهذا هو المنهي عنه، وأن القول بأن ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة، وأنه لو كان الأمر كما قالوا، لقال النبي صلى الله عليه وسلم: فليبرك كما يبرك البعير؛ لأن أول ما يمس الأرض من البعير يداه. انتهى.

(والجواب عنه): إن قوله: في حديث أبي هريرة قلب الراوي غير صحيح، إذ لو فتح هذا الباب، وقبلت هذه الدعوى بغير حجة بينة لم يبق اعتماد على حديث أيّ راو ثقة مع صحته.

وأما قوله: كون ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة، فقد أجاب عنه المباركفوري رحمه الله تعالى، حيث قال: ما حاصله: فيه أنه قد وقع في حديث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم قول سُرَاقة: "ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين". رواه البخاري في "صحيحه"

(1)

فهذا دليل واضح على أن ركبتي البعير تكونان في يديه، انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وأيضًا قد نصّ أهل اللغة على أن ركبتي البعير في يديه، فقد قال ابن منظور: وركبة البعير في يده، وقد يقال لذوات الأربع كلها من الدوابّ: رُكَب، وركبتا يدي البعير: المَفْصلان اللذان يليان البطن: إذا برك، وأما المفصلان الناتئان من خَلْفُ، فهما الْعُرْقوبَان، وكلّ ذي أربع رُكبتاه في يديه، وعُرْقُوباه في رجليه. انتهى

(2)

فهذا نص صريح في كون ركبتي البعير في يديه معروفا لدى أهل اللغة، فبطل دعوى كونه غير معروف لديهم. فتبصر. والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح البخاري" ج 5 ص 77.

(2)

"لسان العرب" ج 3 ص 1714 - 1715.

ص: 284

قال المباركفوري رحمه الله: ما حاصله: وأما قوله: لو كان الأمر كما قالوا، لقال النبي صلى الله عليه وسلم: فليبرك كما يبرك البعير. ففيه أنه ثبت كون ركبتي البعير في يديه، ومعلوم أن ركبتي الإنسان في رجليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:"وليضع يديه قبل ركبتيه"، فكيف يقول في أوله: فليبرك كما يبرك البعير، أي فليضع ركبتيه قبل يديه؟. انتهى.

(والوجه الثالث): دعوى كون حديث أبي هريرة رضي الله عنه ضعيفا، لأن الدارقطني قال: تفرد به الدراوردي، عن محمَّد بن عبد الله بن حسن. انتهى. والدراوردي، وإن وثقه يحيي بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهما، لكن قال أحمد بن حنبل: إذا حدث من حفظه يِهَمُ. وقال أبو زرعة: سيء الحفظ، فتفرد الدراوردي عن محمَّد بن عبد الله مُورث للضعف. وقال البخاري: محمَّد بن الحسن لا يتابع عليه، وقال: لا أدري أَسَمِعَ من أبي الزناد، أم لا؟ انتهى.

(والجواب عنه): أن هذه العلل غير مقبولة:

أما قوله الدارقطني: تفرد به الدراوردي فليس مورثا للضعف؛ لأنه قد أحتج به مسلم، وأصحاب السنن، ووثقه أئمة هذا الشأن: يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهما، كما تقدم قريبا.

وأما قول البخاري: محمَّد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه، فليس بمضرّ، فإنه ثقة، ولحديثه شاهد من حديث ابن عمر، وصححه ابن خزيمة، قال ابن التركماني في "الجوهر النقي": محمَّد بن عبد الله بن الحسن وثقه النسائي، وقول البخاري: لا يتابع على حديثه ليس بصريح في الجرح، فلا يعارض توثيق النسائي. انتهى. وكذا لا يضر قوله: لا أدري أسمع من أبي الزناد، أم لا؟، فإن محمَّد بن عبد الله ليس بمدلس، وسماعه من أبي الزناد ممكن، فإنه قتل سنة (145)، وهو ابن (45) سنة، وأبو الزناد مات سنة (130) فيحمل عنعنته على السماع على القول الراجح، كما حققه مسلم في "مقدمة صحيحه".

(الوجه الرابع): أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه مضطرب، فإنه رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا سجد أحدكم، فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل". فهذه الرواية تخالف رواية الباب، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، والاضطراب مورث للضعف.

(والجواب عنه): أن رواية ابن أبي شيبة، والطحاوي هذه منكرة، فإن مدارها على عبد الله بن سعيد، وقد تقدم أنه متروك ذاهب الحديث، فلا اضطراب بسببه في حديث

ص: 285

الباب، لأن شرط الاضطراب استواء وجوه الاختلاف، فلا تعلّ الرواية الصحيحة بالرواية الواهية، كما تقرر في محله.

(الوجه الخامس): أن حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أقوى، وأثبت متن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال ابن تيمية رحمه الله في "المنتقى": قال الخطابي رحمه الله: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا. انتهى.

(والجواب عنه): أن هذا القول غير صحيح، فإن حديث وائل تقدم أنه ضعيف، لتفرد شريح به، ومخالفته غيره من الثقات، وأما حديث؛ أبي هريرة رضي الله عنه، فصحيح، لأن الأوجه التي ذكروها في تضعيفه كلها ضعيفة، ومع صحته فله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، صححه ابن خزيمة، كما تقدم، فكيف يصح قوله الخطابي: إن حديث وائل أقوى وأثبت؟.

وقد تقدم أن الأئمة: كالقاضي أبي بكر بن العربي، وابن سيد الناس، وابن التركمانى، والحافظ رحمهم الله تعالى رجحوا حديث أبي هريرة على حديث وائل رضي الله عنهما.

[فإن قيل]: إن كان لحديث أبي هريرة شاهد، فلحديث وائل شاهدان:

(أحدهما): ما رواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، عن عاصم الأحول، عن أنس رضي الله عنه، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحطّ بالتكبير، فسبقت ركبتاه يديه". قال الحاكم: هو على شرطهما، ولا أعلم له علة.

(وثانيهما): ما أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال:"كنا نضع اليدين قبل الركبتين". . .الحديث. وقد تقدم.

(أجيب): بأن هذين الحديثين ضعيفان، لا يصلحان شاهدين لحديث وائل.

فأما حديث أنس، فقد تفرد به العلاء بن إسماعيل العطار، وهو مجهول، كما قال الدارقطني وغيره، عن حفص بن غياث، وقد ساء حفظه في الآخر. فتصحيح الحاكم له، وقوله: لا أعلم له علة غير صحيح.

وأما حديث سعد فقد تقدم فيما سبق أنه تفرد به إبراهيم بن إسماعيل، عن أبيه، وهما ساقطان، والمحفوظ من حديثه نسخ التطبيق، فتقوية حديث وائل برواية مثلهما أوهى من بيت العنكبوت

(1)

.

(1)

راجع "إرواء الغليل" للشيخ الألباني جـ 2 ص 75 - 80. و"تحفة الأحوذي" للمباكفوري جـ 2 ص 138 - 141.

ص: 286

والحاصل أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب صحيح، وأقوى، وأثبت، وأرجح من حديث وائل رضي الله تعالى عنه، فإنه ضعيف. فتبصر بالإنصاف، ولا تتحير بالاعتساف. والله تعالى أعلم بالصوأب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1091 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ، وَلَا يَبْرُكْ بُرُوكَ الْبَعِيرِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هارون بن محمَّد بن بَكَّار بن بلال) العامليّ الدمشقي، صدوق [11].

روى عن أبيه، وعمه جامع، وأبي مسهر، ومروان بن محمَّد، وغيرهم. وعنه أبو داود، والنسائي، وأبو حاتم، وابن أبي عاصم، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وكذا قال مَسْلَمَة بن قاسم، تفرد به أبو داود، والمصنف، وروى عنه في هذا الكتاب (9) أحاديث.

2 -

(مروان بن محمد) بن حَسّان الأسدي، أبو بكر، ويقال: أبو حفص، ويقال: أبو عبد الرحمن الطَّاطَريّ

(1)

الدمشقي، ثقة [9].

روى عن سعيد بن عبد العزيز، وعبد الله بن العلاء بن زبر، وسعيد بن بشير، ومالك، والليث، والدراوردي، وغيرهم.

وعنه بقية، وهو أكبر منه، وابنه إبراهيم، وهارون بن محمَّد بن بكار، وغيرهم.

قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأحمد بن حنبل: بلغني أنك تثني على مروان بن محمَّد، قال: إنه كان يذهب مذهب أهل العلم. وقال أبو حاتم، وصالح بن محمَّد: ثقة. وقال عبد الله بن يحيي بن معاوية: أدركت ثلاث طبقات، إحداها طبقة عبد العزيز، ما رأيت فيهم أخشى من مروان بن محمَّد. وقال أبو سليمان الداراني: ما رأيت مسلما خيرًا من مروان، قيل له: ولا معلمه سعيد بن عبد العزيز؟ قال: لا. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ولد سنة (147) وقال البخاري: مات سنة (210).

وقال أبو زرعة الدمشقي: قال لي أحمد: عندكم ثلاثة أصحاب حديثٍ: مروان بن

(1)

"الطّاطَري" بمهملتين مفتوحتين- قال الطبري: كل من يبيع الكرابيس بدمشق يقال له: الطاطري. اهـ تت ج 1 ص 95.

ص: 287

محمَّد الطاطري، والوليد بن مسلم، وأبو مسهر. وقال الدوري، عن ابن معين: لا بأس به، وكان مرجئًا. وقال الدارقطني: ثقة.

قال الحافظ: وضعفه أبو محمَّد بن حزم، فأخطأ؛ لأنا لا نعلم له سلفا في تضعيفه إلا ابن قانع، وقول ابن قانع غير مقنع. انتهى. روى له الجماعة، سوى البخاري، وله في هذا الكتاب (8) أحاديث.

3 -

(عبد العزيز بن محمَّد) بن عُبَيد الدَّرَاوَرْدِيّ، أبو محمَّد الْجُهَنِيّ مولاهم المدني، صدوق، كان يحدث من كتب غيره، فيخطى [8] تقدم 8/ 101. والباقون تقدموا في السند الماضي.

والحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به ت في الحديث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌129 - (بَابُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ مَعَ الْوَجْهِ فِي السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الأمر بوضع اليدين مع الوجه على الأرض في حال السجود.

1092 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ دَلُّويَهْ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَفَعَهُ، قَالَ: "إِنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ، فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ، فَلْيَرْفَعْهُمَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زياد بن أيوب دلويه) البغدادي، أبو هاشم الطوسي الأصل، ودلويه لقبه، وكان يغضب منها، ولقّبه أحمد شعبة الصغير، ثقة حافظ [10] تقدم 101/ 132.

2 -

(ابن عُلَيَّةَ) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسدي مولاهم، أبو بِشْر البصري، و"عُليّة" اسم أمه، وكان يكره النسبة إليها، ثقة حافظ [8] تقدم 18/ 19.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختياني، أبو بكر البصري، ثقة حجة، من كبار الفقهاء العُبّاد [5] تقدم 42/ 48.

ص: 288

4 -

(نافع) مولى ابن عمر العدوي، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه مشهور [3] تقدم 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما، تقدم 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، مما أخرج له مسلم، وابن ماجه، وأن شيخه بغدادي، وابن علية، وأيوب بصريان، والباقيان مدنيان، وفيه روأية تابعي، عن تابعي، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما (رفعه) جملة في محل نصب على الحال من "ابن عمر"، أي حال كونه رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه اللفظة من الصِّيَغ التي تستعمل للرفع حكما، كما قال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في "ألفية المصطلح" عند ذكر الصيغ التي تستعمل للرفع حكما:

وَهَكَذَا يَرْفَعُهُ يَنْمِيهِ

رِوَايَةَ يَبْلُغْ بِهِ يَرْوِيهِ

وقد جاء التصريح برفعه من طريق وُهيب عن أيوب، فقال:"عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم". أخرجه البيهقي 2/ 102 وابن الجارود 107 والسرّاج.

(قال: إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه) هذا ذكره تعليلا مقدما لقوله: "فليضع يديه" والمراد بـ"اليدين" الكفان (فإذا وضع أحدكم وجهه) أي على ما يسجد عليه (فليضع يديه) فيه دليل لمن قال بوجوب وضع اليدين في السجود على ما يسجد عليه، وأجاب عنه الجمهور بأن الأمر فيه للندب، لصحة صلاة المكتوف بالإجماع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في استدلالهم بصلاة المكتوف نظر لا يخفى، كيف يقاس حال الاختيار بحال الاضطرار، هذا غريب. والصواب عندي ما قاله الأولون. والله تعالى أعلم.

(وإذا رفعه) أي رفع الوجه (فليرفعهما) أي يرفع اليدين، والأمر فيه للوجوب عند الأكثرين؛ لأن رفعهما فرض، فلا يعتدل ساجدا مَنْ لا يرفعهما عن الأرض.

فالاعتدال في الركوع والسجود، وفي الرفع منهما فرض عند الجمهور، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسيءَ صلاته بذلك، ولمواظبته صلى الله عليه وسلم عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه

ص: 289

المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -129/ 1092 - وفي "الكبرى" -37/ 679 - عن زياد أيوب، عن ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عنه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن أحمد بن حنبل، عن ابن علية به.

وأخرجه (أحمد) ج 3/ ص 6 (وابن خزيمة) رقم 630. (والحاكم) 1/ 226 وعنه (البيهقي) 2/ 10 السرّاج في "مسنده"، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي، وابن الجارود، والسراج من طريق وهيب، عن أيوب به، وصرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم".

وأخرجه مالك في "الموطإ" عن نافع موقوفا. ولا يقدح ذلك في رفعه، لأن الرفع زيادة من ثقة حافظ، وهو أيوب السختياني،، رواه عنه ثقتان، ابن علية، ووهيب. فوجب قبولها

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌130 - (بَابٌ عَلَى كَمْ السُّجُودُ؟)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على كم أعضاء يكون السجود؟.

1093 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلَا يَكُفَّ شَعْرَهُ، وَلَا ثِيَابَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

(1)

انظر "الإرواء" للشيخ الألباني، حفظه الله ج 2 ص 17 - 18.

ص: 290

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الأزدي الْجَهْضَمي، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه، من كبار [8] تقدم 3/ 3.

3 -

(عمرو) بن دينار الجمحي مولاهم، أبو محمَّد الأثرم المكي، ثقة ثبت [4] تقدم 112/ 154.

4 -

(طاوس) بن كَيْسَان الحِمْيَري مولاهم، أبو عبد الرحمن اليماني، قيل: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقة فقيه فاضل [3] تقدم 27/ 31.

5 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر، رضي الله عنهما، تقدم 27/ 31.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، وكلهم من رجال الجماعة (ومنها): أنهم ما بين بغلاني، وهو شيخه، وبصري، وهو حماد، ومكي، وهو عمرو بن في دينار، ويمني، وهو طاوس، ومدني، ثم بصري، ثم طائفي، وهو ابن عباس رضي الله عنهما (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، عمرو، عن طاوس (ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة روى (1696) حديثا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد) "أُمِرَ" بالبناء للمفعول، و"أن" مصدرية، و"يسجد" بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، والجملة صلة "أن".

وقال السندي رحمه الله تعالى: "أمر" علي بناء المفعول، و"أن يسجد" علي بناء الفاعل، ويحتمل أن يُعكس، ويحتمل بناؤهما للفاعل على أن ضمير "يسجد" للمصلي. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الاحتمالات لابد أن تصح روايةً، والظاهر أن الأول هو الرواية، كما صرح به الحافظ حيث أخرجه البخاري رحمه الله من طريق سفيان، عن عمرو، فقال في "الفتح": قوله: "أمر" الخ بضم الهمزة في في ع الروايات بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله، والمراد به الله جل جلاله. قال البيضاوي: عُرِف ذلك بالعرف، وذلك يقتضي الوجوب. قيل: وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه صيغة "افْعَلْ". انتهى

(2)

.

(1)

"شرح السندي" ج 2 ص 208.

(2)

"فتح" ج 2 ص 555 - 556.

ص: 291

وفي الرواية الآتية من طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أمرت أن أسجد على سبعة أعظم".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المراد بأمره صلى الله عليه وسلم ما يعمه هو وأمته، بدليل التفسير الآتي في الباب التالي.

ولظاهر رواية البخاري من طريق شعبة، عن عمرو بن دينار، بلفظ:"أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم". . . الحديث.

ثم إن الظاهر أنه للوجوب، لكن قال في "الفتح": قيل: وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه صيغة "افعل".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا النظر غير صحيح، لأنه لا فرق بين قوله: افعل كذا، وقوله: أمرتك أن تفعل كذا.

قال العلامة الشوكاني -رحمه الله تعالى- ردّا على هذا النظر: ما نصّه: وهو ساقط؛ لأن لفظ "أمر" أدلّ على المطلوب من صيغة "افعل"، كما تقرر في الأصول، ولكن الذي يتوجه على القول باقتضائه الوجوب على الأمة أنه لا يتم إلا على القول بأن خطابه صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته، وفيه خلاف معروف، ولا شك أن عموم أدلة التأسي تقتضي ذلك، وقد أخرجه البخاري في "صحيحه" من رواية شعبة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس بلفظ:"أُمرنا" وهو دال على العموم. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى

(1)

.

(على سبعة أعضاء) متعلق بـ"يسجد"

و"الأعضاء": جمع عضو بضم العين، على الأشهر، وتكسر، وهو كلُّ عظم وافر من الجسد. قاله في "المصباح".

وفي النسخة الهندية: "أَعْظُم" بدل "أعضاء"، وهو الذي في "الكبرى".

وكأنه سَمَّى كلَّ واحد من هذه الأعضاء عظما باعتبار الجملة، وإن اشتمل كل واحد منها على عظام، فهو من باب إطلاق اسم الجزء على الكل.

وقال العلامة الصنعاني رحمه الله "حاشية العمدة": قوله: "على سبعة أعضاء" أي معتمدا عليها في أداء واجب السجود، وهو إيصال المكلف جبهته إلى الأرض تعظيما لله تعالى، والساجد هو الشخص، ونسبة السجود إلى الوجه في مثل "سجد وجهي"، وحديث ابن عمر المتقدم "إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه" مجاز عما يقع به

(1)

"نيل الأوطار" ج 2 ص 299.

ص: 292

السجود. انتهي.

وسيأتي تفسير تلك الأعضاء في الرواية الآتية في حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، في الباب التالي، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما من طريق عبد الله ابن طاوس، عن أبيه، عنه -133/ 1096.

(ولا يكف شعره، ولا ثيابه) بنصب "يكف" عطفا على قوله: "يسجد". وهو من باب قتل، يقال: كفّ عن الشيء كَفًّا: تركه، وكَفَفتُهُ كَفّا: منعته، فَكَفّ، يتعدى، ولا يتعدّى، وما هنا من المتعدي، فلذا نصب "شعرَهُ، وثيابَهُ".

والمراد بالشعر شعر الرأس.

والمعنى: لا يضم، ولا يجمع عند السجود شعره، ولا ثيابه، صونًا لهما عن التراب، بل يرسلهما، ويتركهما على حالهما حتى يقعا إلى الأرض، فيكون الكل ساجدا لله تعالى.

وسيأتي من طريق الزهري، عن ابن طاوس، عن أبيه -135/ 1098 - بلفظ:"ونهي أن يكفت الشعر والثياب".

و"الْكَفْتُ" بمثناة في آخره هو الضم، وهو بمعنى الكَفّ.

قال في "الفتح": وظاهره يقتضي أن النهي عنه في حال الصلاة، وإليه جنح الداودي، وترجم المصنف -يعني البخاري- بعد قليل:[باب لا يكف ثوبه في الصلاة] وهي تؤيد ذلك.

ورده عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور، فإنهم كرهوا ذلك للمصلي، سواء فعله في الصلاة، أو قبل أن يدخل فيها، واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة. لكن حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة.

قيل: الحكمة في ذلك أنه إذا رفع ثوبه وشعره عن مباشرة الأرض أشبه المتكبر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في النهي عن كف الشعر والثياب في محله -146/ 1113 - و-148/ 1115. إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

"فتح" جـ 2 ص 556.

ص: 293

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -130/ 1093 - وفي "الكبرى" -38/ 680 - عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عنه. وفي 133/ 1096 - و"الكبرى" 41/ 683 - عن أحمد بن عمرو بن السرح، ويونس بن عبد الأعلى، والحارث بن مسكين، كلهم عن ابن وهب، عن ابن جريج، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه به. وفي -134/ 1097 - و"الكبرى" 42/ 684 - عن عمرو بن منصور، عن المعلّى بن أسد، عن وُهيب، عن ابن طاوس به. وفي -135/ 1098 - و"الكبرى" -43/ 685 - عن محمَّد ابن منصور المكي، وعبد الله بن محمَّد بن عبد الرحمن الزهري، كلاهما عن ابن عيينة، عن ابن طاوس به. وفي -146/ 1113 و"الكبرى" 54/ 700 - عن حُميد بن مَسعَدة، عن يزيد ابن زريع، عن شعبة، وروح بن القاسم، كلاهما عن عمرو بن دينار به.

وفي 148/ 1115 - و"الكبرى" 56/ 702 - عن محمَّد بن منصور، عن ابن عيينة به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن قبيصة، عن سفيان- وعن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة- وعن أبي النعمان، عن حماد بن زيد- وعن موسى بن إسماعيل، عن أبي عوانة- أربعتهم عن عمرو بن دينار به. وعن معلّى بن أسد، عن وُهَيب، عن عبد الله بن طاوس به.

(م) فيه عن يحيي بن يحيي، وأبي الربيع الزهراني، كلاهما عن حماد بن زيد به. وعن محمَّد بن بشار، عن غندر، عن شعبة به. وعن عمرو الناقد، عن ابن عيينة به. وعن محمَّد بن حاتم، عن بهز، عن وهيب به. وعن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن ابن جريج به.

(د) فيه عن مسدد، وسليمان بن حرب، كلاهما عن حماد به. وعن محمَّد بن كثير، عن شعبة به.

(ت) فيه عن قتيبة به. (ق) فيه عن بشر بن معاذ، عن أبي عوانة، وحماد ابن زيد به. وعن هشام بن عمار، عن سفيان به.

وأخرجه (الحميدي) برقم 493 و 494 (وأحمد) 1/ 221 و 255 و 270 و 279 و 285 و 286 و 324 و 222 و 292 و 305. (وعبد بن حميد) برقم 617 (والدارمي) 1324 و 1325 (وابن خزيمة) 632 و 782 و 633 و 634 و 635 و 636. والله تعالى أعلم.

ص: 294

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): بيان ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو عدد الأعضاء التي يسجد عليها المصلي، وهي سبعة.

(ومنها): النهي عن كف الشعر في حالة السجود، والمراد شعر رأسه.

(ومنها): النهي عن كف الثياب في حالة السجود، والحكمة في النهي عنهما أن كفهما في حالة السجود يشبه فعل المتكبر، فينافي معنى السجود، وهو التواضع لله تعالى بجميع أعضاء المصلي، وما يتصل به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌131 - (تَفْسِيرُ ذَلِكَ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على تبيين، وتوضيح ما أُجمِلَ في الحديث المذكور في الباب المتقدم، من قوله:"سبعة أعضاء". والله تعالى أعلم بالصواب.

1094 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مِنْهُ سَبْعَةُ آرَابٍ: وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ، وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور في الباب الماضي.

2 -

(بكر) بن مُضَر بن محمد بن حكيم المصري، أبو محمَّد، أو أبو عبد الملك، ثقة ثبت [8] تقدم 122/ 173.

3 -

(ابن الهاد) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي، أبو عبد الله المدني، ثقة مكثر [5] تقدم 73/ 90.

4 -

(محمَّد بن إبراهيم) بن الحارث التيمي، أبو عبد الله المدني، ثقة له أفراد [4] تقدم 60/ 75.

5 -

(عامر بن سعد) بن أبي وقّاص الزهري المدني، ثقة [3] 38/ 679.

ص: 295

6 -

(العباس بن عبد المطلب) بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، أبو الفضل المكي، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أمه نُتَيْلَة بنت جناب بن كلب. وُلدَ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت، فوجدته، فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك.

قال الزبير بن بكّار: كان أسنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين.

وكان إليه في الجاهلية السِّفَارة، والعِمَارة، وحضر بيعة العَقَبَة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدرًا مع المشركين مُكْرَهًا، فأُسِرَ، فافتدى نفسه، وافتدى ابن أخيه عَقيل بن أبي طالب، ورجع إلى مكة، فيقال: إنه أسلم، وكتم قومه ذلك، وصار يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح، وثبت يوم حنين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من آذى العباس، فقد آذاني، فإنما عمّ الرجل صِنْوُ أبيه". أخرجه الترمذي في قصة.

وقد حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث. روى عنه أولاده: عبد الله، وعبيد الله، وكثير، وأم كلثوم، ومولاه صهيب، وعامر بن سعد، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الحارث، وغيرهم.

وقال ابن المسيب، عن سعد: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل العباس. فقال:"هذا العباس أجود قريش كَفًّا، وأوصلها". أخرجه النسائي، وعن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، قال: كان العباس أعظم الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة يعترفون للعباس بفضله، ويشاورونه، ويأخذون رأيه.

وفي "تت": وأسلم قبل خيبر، وكان أنصر الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي طالب، وكان جوادا مطعما، وَصُولًا للرحم، ذا رأي حسن، ودعوة مرجوة، وكان لا يمرّ بعمر، وعثمان، وهما راكبان إلا نزلا حتى يَجُوزا، إجلالا له. انتهى.

ومات بالمدينة في رجب، أو رمضان سنة (32) وله (88) سنة، وقيل: غير ذلك في وفاته، وصلى عليه عثمان، ودفن بالبقيع، وكان طويلا جميلا أبيض.

روى له الجماعة. راجع "الإصابة" ج 5 ص 328 - 329. و"تك" ج 14 ص 225 - 229. و"تت" ج 5 ص 122 - 123. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده برقم (1099). والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن

ص: 296

رجال الجماعة (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبلخي، وبكر، فمصري (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، ابن الهاد، ومحمد بن إبراهيم، وعامر بن سعد. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن العباس بن عبد المطلب) رضي الله تعالى عنه (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب) هذه الجملة خبرية لفظا، إنشائية معنىّ، بدليل حديث ابن عباس الماضي، أي فليسجد معه سبعة أعضاء.

و"الآراب" بهمزة ممدودة: الأعضاء، وهو جمع إرب بكسر، فسكون، كحمْلٍ وأَحْمَال.

(وجهه) بالرفع بدل من "سبعة"، أو خبر لمبتدإ محذوف، أي هي الوجه، ويحتمل النصب، إن صح روايةً، على أنه مفعول لفعل محذوف: أي أعني وجهه.

والمراد بالوجه الجبهة والأنف، كما صرح به في رواية ابن عباس الآتية:"الجبهة والأنف".

(وكفاه) هكذا وقع هنا بلفظ "الكفين"، ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ "اليدين"، فقال ابن دقيق العيد رحمه الله: المراد بهما الكفان، لئلا يدخل تحت المنهي عنه، من افتراش السبع والكلب. انتهى.

(وركبتاه، وقدماه) ووقع في حديث؛ ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "وأطراف القدمين"، فهو مبين للمراد بالقدمين هنا، فإن المراد نصب أطراف القدمين على الأرض. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -131/ 1094 - وفي "الكبرى" -39/ 691 - عن قتيبة، عن بكر بن مضر، عن يزيد بن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عنه. وفي -136/ 1099 - و"الكبرى" -44/ 686 - عن محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن الهاد به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

ص: 297

أخرجه (د ت) كلاهما عن قتيبة به. (ق) عن يعقوب بن حميد بن كاسب، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن الهاد به.

وأخرجه (أحمد) 1/ 206 و 208 (وابن خزيمة) برقم 631. والله تعالى أعلم.

(تنبيه): أشار الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله تعالى في "تحفة الأشراف" ج 4 ص 265 - أن حديث العباس رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم في "صحيحه" فقال الحافظ ولي الدين رحمه الله تعالى في كتابه "الإطراف بأوهام الأطراف" ص 113 - : لم أقف عليه في "الصلاة" في "صحيح مسلم". والله أعلم. وأقر الحافظ رحمه الله تعالى كلام ولي الدين في "النكت الظراف"، ولم يتعقبه بشيء.

والظاهر أن المباركفوري في "تحفته"، ومحمود محمد خطاب السبكي في "منهله"، والشيخ الألباني في "صحيح النسائي"، قلدوا المزي في ذلك فإنهم أشاروا كلهم إلى أن مسلما أخرجه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ما نصّه: ظاهره يدلّ على وجوب السجود على هذه الأعضاء؛ لأن الأمر للوجوب.

والواجب عند الشافعي رحمه الله منها الجبهة، لم يتردد قوله فيه، واختلف قوله في اليدين والركبتين والقدمين، وهذا الحديث يدلّ للوجوب، وقد رجح بعض أصحابه عدم الوجوب، ولم أرهم عارضوا هذا بدليل قويّ، أقوى من دلالته، فإنه استدلّ لعدم الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة من حديث المسيء صلاته:"ثم يسجد، فيمكن جبهته"، وهذا غايته أن تكون دلالته دلالة مفهوم، وهو مفهوم لقب، أو غاية، والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء مقدم عليه، وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم، كما مرّ لنا في قوله صلى الله عليه وسلم:"جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"، مع قوله:"جعلت لنا الأرض مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا"، فإنه ثمة يُعمَل بذلك العموم من وجه، إذا قدمنا دلالة المفهوم، وها هنا إذا قدمنا دلالة المفهوم أسقطنا الدليل على وجوب السجود على هذه الأعضاء -أعني اليدين، والركبتين، والقدمين- مع تناول اللفظ لها بخصوصها.

وأضعف من هذا ما استدلّ به على عدم الوجوب من قوله صلى الله عليه وسلم: "سجد وجهي للذي خلقه" قالوا: فأضاف السجود إلى الوجه، فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه.

وأضعف من هذا الاستدلال على عدم الوجوب بأن مسمى السجود يحصل بوضع

ص: 298

الجبهة، فإن هذا الحديث يدلّ على إثبات زيادة على المسمى، فلا تترك.

وأضعف من هذا: المعارضة بقياس شبهي، ليس بقوي، مثل أن يقال: أعضاء لا يجب كشفها، فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء، سوى الجبهة.

وقد رجح المحاملي من أصحاب الشافعي القول بالوجوب، وهو أحسن عندنا من قول من رجح عدم الوجوب.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله: إلى أنه إن سجد على الأنف وحده كفاه، وهو قول في مذهب مالك وأصحابه.

وذهب بعض العلماء إلى أن الواجب السجود على الجبهة والأنف معا، وهو قول في مذهب مالك أيضًا، ويحتج لهذا المذهب بحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا، فإن في بعض طرقه "الجبهة والأنف معا"، وفي هذه الطرق التي ذكرها المصنف -يعني صاحب العمدة- "الجبهة"، وأشار بيده إلى أنفه، فقيل: معنى ذلك أنهما جعلا كالعضو الواحد، ويكون الأنف كالتبع للجبهة، واستدلّ على هذا بوجهين:

(أحدهما): أنه لو كان كعضو منفرد عن الجبهة حكما، لكانت الأعضاء المأمور بالسجود عليها ثمانية، لا سبعة، فلا يطابق العدد المذكور في أول الحديث.

(الثاني): أنه قد اختلفت العبارة مع الإشارة إلى الأنف، فإذا جعلا كعضو واحد أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر، فتطابق الإشارة العبارة، وربما استنتج من هذا أنه إذا سجد على الأنف وحده أجزأه، لأنهما إذا جعلا كعضو واحد كان السجود على الأنف كالسجود على بعض الجبهة، فيجزىء.

والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة والأنف. لكونهما داخلين تحت الأمر، وإن أمكن أن يُعتَد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور، فذلك في التسمية والعبارة، لا في الحكم الذي دلّ عليه الأمر.

وأيضًا فإن الإشارة قد لا تعين المشار إليه، فإنها إنما تتعلق بالجبهة، فإذا تفاوت ما في الجبهة أمكن أن لا يعين المشار إليه يقينًا، وأما اللفظ فإنه معين لما وضع له، فتقديمه أولى. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى "إحكام الأحكام" ج 2 ص 306 - 311. بنسخة الحاشية.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة ما أشار إليه ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى وجوب العمل بمقتضى منطوق الحديث، وهو تقرير حسن، فلا يجوز الاقتصار على الجبهة دون الأنف، ولا العكس. وسنحقق الخلاف في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 299

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في الساجد على الجبهة دون الأنف، أو على الأنف دون الجبهة.

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم في الساجد على الجبهة، دون الأنف:

فممن أمر بالسجود على الأنف ابن عباس، وعكرمة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وقال سعيد بن جبير: متن لم يضع أنفه على الأرض في سجوده لم تتم صلاته. وقال طاوس: الأنف من الجبين. وقال النخعي: السجود على الجبهة والأنف. وكقول النخعي قال مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأحمد.

وقال أحمد: لا يجزيه السجود على أحدهما دون الآخر.

وقال إسحاق: إذا سجد على الجبهة دون الأنف عمدا فصلاته فاسدة. وقال أبو خيثمة، وابن أبي شيبة: لا يجزيه السجود على أحدهما دون الآخر. وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: يسجد على سبع، وأشارا بأيديهما الجبهة إلى ما دون الأنف، وقالا: هذا من الجبهة.

وقالت طائفة: يجزئ على جبهته دون أنفه، هذا قول عطاء، وطاوس، وعكرمة، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري، وبه يقول الشافعي، وأبو ثور، ويعقوب، ومحمد.

وقال قتادة: رخص في ذلك. وقال سفيان الثوري: يجزيه، ولا أرى له. وقال أحمد: إذا لم يسجد على أنفه ما أجتري أن أحكم.

قال ابن المنذر رحمه الله: وهذا مع ما ذكرناه عنه اختلاف من قوله.

وقالت طائفة: إن وضع جبهته، ولم يضع أنفه، أووضع أنفه، ولم يضع جبهته، فقد أساء، وصلاته تامّة. هذا قول النعمان، وهو قول، لا أحسب أحدا سبقه إليه، ولا تبعه عليه. وقال يعقوب، ومحمد: إن سجد على أنفه دون جبهته، وهو يقدر على السجود على جبهته لم يجزه ذلك. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى. "الأوسط" ج 3 ص 174 - 177.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح عندي من هذه الأقوال قول من قال بوجوب السجود على الجبهة والأنف، لظاهر حديث الباب، فإنه سَوَّى بين هذه الأعضاء في الأمر بالسجود عليها، فلا يجوز الاكتفاء ببعضها بلا حجة تجيز ذلك، ولا ضرورة تلجىء إليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى أيضا: قد يستدلّ بهذا

ص: 300

الحديث على أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء، فإن مسمى السجود يحصل بالوضع، فمن وضعها، فقد أتى بما أمر به، فوجب أن يخرج عن العهدة، وهذا يلتفت إلى بحث أصولي، وهو أن الإجزاء في مثل هذا، هل هو راجع إلى اللفظ، أم إلى أن الأصل عدم وجوب الزائد على الملفوظ به، مضموما إلى فعل المأمور؟

وحاصله: أن فعل المأمور به، هل هو علة الإجزاء، أو جزء علة الإجزاء؟

ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب، وكذلك القدمان.

أما الأول فلما يُحذَر فيه من كشف العورة. وأما الثاني -وهو عدم كشف القدمين- فعليه دليل لطيف جدًّا؛ لأن الشارع وقت المسح على الخف بمدة تقع فيها الصلاة مع الخف، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخفين، وانتقضت الطهارة، وبطلت الصلاة، وهذا باطل، ومن نازع في انتقاض الطهارة بنزع الخفّ، فيردّ عليه بحديث صفوان الذي فيه "أمرنا أن لا ننزع خفافنا" إلى آخره

(1)

.

فنقول: لو وجب كشف القدمين لناقضه إباحة عدم النزع في هذه المدة التي دلّ عليها لفظة: "أمرنا" المحمولة على الإباحة، وأما اليدان فللشافعي تردد في وجوب كشفهما. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى.

واعترض الحافظ على قوله الأخير، فقال: وفيه نظر، فللمخالف أن يقول: يخص لابس الخف، لأجل الرخصة.

قال: وأما كشف اليدين ففيه أثر الحسن، أخرجه عبد الرزاق، عن هشام بن حسّان، عنه:"أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يسجدون، وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على قلنسوته، وعمامته". وهكذا رواه ابن أبي شيبة من طريق هشام. وعلق البخاري في "صحيحه" نحوه. انتهى كلام الحافظ بتصرف

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن الراجح عدم وجوب كشف هذه الأعضاء، لما ذكره ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى، ولما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم سجد على كور عمامته، كما قاله الصنعاني رحمه الله تعالى، ولما ذُكِرَ من فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

قلت: قد تقدم في "الطهارة" ترجيح القول بعدم انتقاض المسح بنزع الخف. فتنبه.

(2)

"فتح" ج 2 ص 346.

ص: 301

‌132 - (السُّجُودُ عَلَى الْجَبِينِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية السجود على الجبين.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الجبين" بفتح الجيم، وكسر الموحدة: ناحية الجبهة من محاذاة النَّزَعَة

(1)

إلى الصُّدْغِ، وهما جبينان عن يمين الجبهة، وشمالها. قاله الأزهري، وابن فارس، وغيرهما، فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه جُبُنٌ بضمتين، مثلُ بَرِيد وبُرُد، وأجبِنَة، مثلُ أَسْلِحَة. قاله الفيومي رحمه الله تعالى.

وموضع الاستدلال من الحديث؛ قوله: "على جبينه، وأنفه أثر الماء والطين"، ووجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم إنما أصاب الطينُ جبينَه لكونه سجد عليهما، وقد ثبت أنه قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، فتبين به أن السجود يكون على الجبين. والله تعالى أعلم بالصواب.

1095 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "بَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبِينِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ، مِنْ صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ". مُخْتَصَرٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن سَلَمَة) المُرَادي الجَمَلي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت [11] تقدم 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مِسْكين) بن محمد، الأموي مولاهم، أبو عمرو المصري، قاضيها، ثقة فقيه [10] تقدم 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن بن القاسم العُتَقِي، أبو عبد الله المصري، الفقيه، صاحب مالك، ثقة، من كبار [10] تقدم 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس الإمام المجتهد الحافظ الثبت الحجة، أبو عبد الله المدني [7] تقدم 7/ 7.

5 -

(أبو سلمهّ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، ثقة فقيه [3] تقدم 1/ 1.

(1)

النَّزَعة بوزن قصبة: موضع النَّزَع، وهو انحسار الشعر عن جانبي الجبهة. و"الصدغ" بضم، فسكون: ما بين لَحْظ العين إلى أصل الأذن، والجمع أصداع، مثل قُفْل وأقفال. قاله في "المصباح".

ص: 302

6 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان، صحابي ابن صحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدم 169/ 262.

والباقيان تقدما في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات نبلاء وأن شيخيه، وابن القاسم مصريون، والباقون مدنيون (ومنها): أنه مسلسل بالفقهاء (ومنها): أن فيه قوله: "وأنا أسمع" وقد تقدم في مقدمة هذا الشرح بيان سبب هذا، وذلك أن المصنف رحمه الله كان بينه وبين شيخه الحارث بن مسكين رحمه الله منافرة، فمنعه من حضور مجلس تحديثه، فكان يسمع قراءة القارئ عليه وراء الجدار، فكان عند الأداء يبين كيفية تحمله، ورعا واحتياطا (ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له"، يعني اللفظ المذكور للحارث بن مسكين، وأما محمَّد بن سلمة، فروايته بالمعنى، وقد تقدم البحث في هذا مستوفىً في أوائل هذا الشرح، وإنما أعدته تذكيرا، كسابقه (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضِهِم عن بعض، يزيد، ومحمد، وأبو سلمة (ومنها): أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: بصرت) بفتح الباء الموحدة، وضم الصاد المهملة، وقد تكسر، يقال: بَصُرَ به، ككَرُم، وفَرِحَ، بَصَرًا وبَصَارَةً بالفتح، ويكسر: صار مُبصِرًا. قاله المجد.

وقال الفيومي رحمه الله: يقال: أبصرته برؤية العين، إبصارًا، وبَصُرْتُ بالشيء بالضم، والكسرُ لغةٌ، بَصَرًا، بفتحتين: علمت، فأنا بصير به، يتعدى بالباء في اللغة الفُصْحَى، وقد يتعدى بنفسه. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وما هنا مما تعدى بنفسه، لكونه نصب "رسول الله". وفي النسخة الهندية:"فبصرت عيناي"، بالفاء، وهو صحيح أيضًا، فإن الحديث مختصر، كما سينبه عليه المصنف في الآخر.

وسيأتي للمصنف مطولًا في 1356 - لكن بلفظ: "فنظرت إليه". . . وقد ساقه البخاري رحمه الله في "صحيحه" بلفظ قريب من لفظ الباب، فقال في [كتاب الاعتكاف]:

حدثني إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري

ص: 303

- رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاما، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يَخرُج من صبيحتها من اعتكافه، قال:"من كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر، وقد أُرِيت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين، من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر"، فمَطَرَت السماءُ تلك الليلةَ، وكان المسجد على عَرِيش، فوَكَفَ المسجد، فبَصُرَت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين. انتهى.

(عيناي) فاعل "بصرت" مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى مضاف إلى ياء المتكلم، ولا تقلب ألفه ياء لأن ألف التثنية لا تبدل، كما قال ابن مالك رحمه الله:

وَأَلِفًا سَلِّمْ وَفِي الْمَقصُورِ عَنْ

هُذيْلٍ انقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ

(رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالنصب مفعول "بصرت"(على جبينه، وأنفه أثر الماء والطين) الجار والمجرور خبر مقدم، و"أثر" مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال من "رسول الله".

قال السندي رحمه الله: أشار به إلى أن المراد بالوجه في أعضاء السجدة الجبينُ والأنفُ، فذكر هذا الحديث تفسيرا للحديث السابق.

(من صبح ليلة إحدى وعشرين)"من" بمعنى "في"، أي في صبح ليلة إحدى وعشرين من رمضان. والجار والمجرور متعلق بـ"بصرتْ"، أو بمحذوف خبرٍ لمبتدإ مقدر، أي وذلك كائن من صبح الخ.

وفي بعض النسخ: "صبيحة"، وهو منصوب على الظرفية.

(مختصر) بالرفع خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مختصر من حديث أبي سعيد الطويل في الكلام على ليلة القدر، اختصره هنا على محل الاستدلال على أن السجود يكون على الجبين. وسيأتي مطولًا -98/ 1356 - إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

وسيأتي شرحه مستوفيً، وكذا بيان مسائله بالرقم المذكور. إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 304

‌133 - (السُّجُودُ عَلَى الأَنْفِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الأمر بالسجود على الأنف.

و"الأنف": الْمَعْطِسُ، والجمع آناف، على أفعال، وأُنُوف، وآنُفٌ، مثلُ فُلُوس، وأَفْلُسِ. قاله في "المصباح".

1096 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ، لَا أَكُفَّ الشَّعْرَ، وَلَا الثِّيَابَ، الْجَبْهَةِ وَالأَنْفِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أحمد بن عمرو بن السرح) أبو الطاهر المصري، ثقة [10] تقدم 35/ 39.

2 -

(يونس بن عبد الأعلى) الصدفي، أبو موسى المصري، ثقة، من صغار [10] تقدم 1/ 449.

3 -

(الحارث بن مسكين) تقدم في الباب الماضي.

4 -

(ابن وهب) عبد الله القرشي مولاهم، أبو محمَّد المصري، ثقة حافظ عابد [9] تقدم 63/ 79.

5 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم، المكي، ثقة فقيه فاضل، يدلس، ويرسل [6] تقدم 28/ 32.

6 -

(عبد الله بن طاوس) أبو محمَّد اليماني، ثقة فاضل عابد [6] تقدم 49/ 958.

والباقيان تقدما قبل بابين، والحديث متفق عليه، وشرحه والمسائل المتعلقة به تقدمت هناك.

قوله: "لا أكف الشعر، ولا الثياب" هكذا بدون واو العطف، و"لا" نافية، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل "أسجد" أي حال كوني غير كاف الشعر والثياب. أو معترضة بين المجمل، وهو "سبعة" والتفسير، وهو "الجبهة" الخ.

وفي "الكبرى""لا أكفت الشعر، ولا الثياب" من الكَفْت، والكفت والكف بمعنى واحد، وهو الجمع والضم. ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: آية 25]. أي تجمع الناس في حياتهم، وموتهم. قاله العيني رحمه الله تعالى

(1)

.

(1)

"عمدة القاري" ج 6 ص 92.

ص: 305

وقوله: "الجبهة" بالجر عطف بيان، أو بدل لقوله:"سبعة"، وما بعدها عطف عليها. ويحتمل النصب على أنه مفعول لفعل محذوف، أي أعني الجبهة. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله. عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌134 - (السُّجُودُ عَلَى الْيَدَيْنِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّال على الأمر بالسجود على اليدين.

1097 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ النَّسَائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، عَلَى الْجَبْهَةِ"، وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى الأَنْفِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن منصور النسائي) أبو سعيد، ثقة ثبت [11] تقدم 108/ 147.

2 -

(المُعَلّى بن أسد) بضم الميم، وفتح العين المهملة، وتشديد اللام المفتوحة- العَمَّيّ -بفتح المهملة، وتشديد الميم- أبو الهَيْثَم البصري الحافظ، أخو بَهْز، ثقة ثبت، من كبار [10].

روى عن وهيب، وعبد الواحد بن زياد، ويزيد بن زريع، وغيرهم.

وعنه البخاري، وروى الباقون له بواسطة. قال العجلي: شيخ بصري ثقة كَيِّس، وكان معلما، وأخوه بهز أسنّ منه، وهو ثبت في الحديث، رجل صالح. وقال أبو حاتم: ثقة، ما أعلم أني عَثَرت له على خطأ غير حديث واحد. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في رمضان سنة (218). وفيها أرخه ابن قانع، والقراب. وقال خليفة: مات سنة (219) وقال مسلمة بن قاسم: ثقة. وقال مسعود بن الحكم: ثقة مأمون.

أخرج له الجماعة، سوى أبي داود، فأخرج له في "القدر"، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث.

ص: 306

3 -

(وُهَيب) بن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلا بآخره [7] تقدم 21/ 427.

والبابون تقدموا قريبا، والحديث متفق عليه، وقد تقدم شرحه، والمسائل المتعلقة به.

وقوله: "على الجبهة" قد تكررت هنا كلمة "على"، ولا يجوز جعلهما متعلقين بـ"أسجد"، فقال الكرماني رحمه الله تعالى:"على" الثانية بدل من الأولى، التي هي في حكم الطرح، أو الأولى متعلقة بنحو "حاصلا"، أي أسجد على الجبهة، حال كون السجود حاصلا على سبعة أعضاء. انتهى.

وقوله: "وأشار بيده على الأنف" الظاهر أن فاعل "أشار "هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأفاد السندي رحمه الله تعالى أن "على" بمعنى "إلى" أي أشار إلى الأنف، وما يتصل به من الجبهة، ليوافق الأحاديث السابقة. انتهى.

والجملة معترضة بين المعطوف عليه، وهو "الجبهة"، والمعطوف، وهو "اليدين"، والغرض منها بيان أنهما عضو واحد، فدّل على أنه صلى الله عليه وسلم سَوَّى بين الجبهة؛ والأنف؛ لأن عظمي الأنف يبتدئان من قرني الحاجب، وينتهيان عند الموضع الذي فيه الثنايا والرباعيات. فسقط بما ذكر سؤال من قال: المذكور في الحديث ثمانية أعظم، لا سبعة. أفاده العيني رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌135 - (بَابُ السُّجُودِ عَلَى الرُّكْبَتَينِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الأمر بالسجود على الركبتين.

1098 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَكِّيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ

(1)

، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، "أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ، وَنُهِىَ أَنْ يَكْفِتَ الشَّعْرَ وَالثِّيَابَ، عَلَى يَدَيْهِ، وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ".

قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ لَنَا ابْنُ طَاوُسٍ: وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، وَأَمَرَّهَا عَلَى أَنْفِهِ، قَالَ: هَذَا وَاحِدٌ، وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ).

(1)

قوله: "بن عبد الرحمن الزهري" ساقط من بعض النسخ.

ص: 307

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمَّد بن منصور المكي) الخُزَاعي الجَوَّازُ، ثقة [10] تقدم 20/ 21.

2 -

(عبد الله بن محمَّد بن عبد الرحمن الزهري) البصري، صدوق، من صغار [10] تقدم 42/ 48.

3 -

(سفيان) بن عيينة، أبو محمَّد الكوفي، ثم المكي، الإمام الحافظ الثبت الحجة [8] تقدم 1/ 1.

والباقون تقدموا قريبًا، والحديث متفق عليه، وقد سبق شرحه، والمسائل المتعلقة به.

وقوله: "على سبع" إنما ذكَّرَ العدد، مع أن المراد الأعضاء، أو الأَعْظُم، كما سبق، لكون المعدود محذوفا، إذ قاعدة العدد المشهورة في التذكير والتأنيث إنما تلزم إذا ذُكِرَ المعدود بعدها، وأما إذا قدم، أو حذف جاز الوجهان، كحديث:"من صام رمضان، وأتبعه ستًا من شوال". . . أي ستة أيام.

(وقوله: "أن يكفت) بكاف ساكنة، ثم فاء، مكسورة، أي يضم، ويجمع. يقال: كَفَتَ الشيءَ إِلَيه يَكْفِتُهُ، من باب ضرب: ضمه، وقبضه، ككفّته بتشديد الفاء. أفاده في "ق". والمعنى أنه نهُي أن يضم، ويجمع شعره، وثيابه من الانتشار عند السجود.

وقوله: "على يديه" الخ بدل من قوله: "على سبع".

وقوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة الراوي عن عبد الله بن طاوس.

وقوله: "ووضع يديه"، وفي "الكبرى":"يده" بالإفراد، والظاهر أن فاعل "وضع" هو طاوس، أي وضع طاوس يديه على جبهته، وأمرّها، بتخفيف الميم، وتشديد الراء، من الإمرار، أي أجازها على أنفه، بيانا لمعنى الأمر بالسجود على الوجه.

وقوله: "قال: هذا واحد": أي قال طاوس: هذا الذي أمررت عليه يديّ من الجبهة، والأنف، هو المأمور به في أداء السجود، فلا يتحقق الامتثال إلا بوضعه.

ثم إن ما قلناه من أن فاعل "وضع" طاوس، لا ينافي ما تقدم في الباب الماضي من أن قوله:"وأشار" مرفوع، إذ يمكن أن يكون مقصود طاوس به إيضاح تفسير العدد السبعة، يكون الجبهة والأنف عضوا واحدا، بخلاف ما تقدم، فإنه إشارة، فقط. والله تعالى أعلم.

وقوله: "واللفظ لمحمد"، أي لفظ الحديث المذكور لفظ شيخه محمَّد بن منصور، وأما شيخه عبد الله بن محمَّد، فرواه بمعناه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 308

‌136 - (بَابُ السُّجُودِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الأمر بالسجود على القدمين. والمراد به وضع أطراف القدمين. على الأرض، ونصبهما.

1099 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا (1) ابْنُ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ

(2)

، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ، سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ، وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ، وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم) المصري الفقيه، ثقة [11] تقدم 120/ 166.

2 -

(شعيب) بن الليث بن سعد الفهمي مولاهم، أبو عبد الملك المصري، ثقة نبيل فقيه، من كبار [10] تقدم 120/ 166.

3 -

(الليث) بن سعد، أبو الحارث الفهمي الإمام الحافظ الثبت الحجة الفقيه المصري [7] تقدم 31/ 35 والباقون تقدموا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وبيان متعلقاته من المسائل قبل أربعة أبواب -131/ 1094 - فراجعها هناك. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌137 - (بَابُ نَصْبِ الْقَدَمَيْنِ فِي السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على استحباب نصب القدمين في حال السجود. وموضع الاستدلال قولها: "وقدماه منصوبتان". والله تعالى أعلم.

(1)

"وفي بعض النسخ "حدثنا".

(2)

قوله: "بن الحارث" ساقط من بعض النسخ.

ص: 309

1100 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، وَقَدَمَاهُ مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ").

رجال هذا الإسناد. سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويهْ المروزي، نزيل نيسابور، ثقة حافظ حجة فقيه [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(عبدة) بن سليمان الكلابي، أبو محمَّد الكوفي، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، من صغار [8] تقدم 7/ 339.

[تنبيه]: وقع في النسخة المطبوعة: "عُبيدة" مصغرًا، وهو تصحيف فاحش، والصواب "عبدة" مكبرًا، كما في النسخة الهندية. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

3 -

(عبيد الله بن عمر) بن حفص بن عاصم العمري، أبو عثمان المدني ثقة ثبت [5] تقدم 15/ 15.

4 -

(محمد بن يحيى بن حَبَّان) بن منقذ الأنصاري المدني، ثقة فقيه [4] تقدم 22/ 23.

5 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمُزَ المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 7/ 7.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم 1/ 1.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رواته كلهم ثقات، وأنهم ممن اتفق الجماعة بالرواية لهم، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزي، ثم نيسابوري، وعبدة، فكوفي. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض، عبيد الله، ومحمد بن يحيي، والأعرج (ومنها): أن فيه رواية صحابي، عن صحابية، وكلاهما من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله تعالى عنها، أنها (قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عَدِمته، يقال: فقدته فَقْدًا، وفُقْدانا، من باب ضرب: عَدِمته (ذات ليلة) أي ليلة من الليالي،

ص: 310

قيل: "ذات" مقحَمَة للتأكيد، وقيل: من إضافة المسمى إلى الاسم (فانتهيت إليه) أي وصلت إلى الموضع الذي يصلي فيه، وفي الرواية المتقدمة -120/ 169 - من طريق أبي أُسَامة، عن عبيد الله:"فجعلت أطلبه بيدي، فوقعت يدي على قدميه". . . (وهو ساجد) جملة في محل نصب على الحال من الضمير المجرور، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم ساجد (وقدماه منصوبتان) جملة حالية معطوفة على الجملة الحالية.

وهذا هو موضع استدلال المصنف رحمه الله تعالى على ما ترجم له، وهو المراد بالسجود على القدمين في الأحاديث السابقة، فكأنه رحمه الله تعالى يشرح بعض الأحاديث ببعض، فلله تعالى دَرُّه! ما أحسن ترتيبه!.

وقد تقدم في "الطهارة" استدلاله به على عدم نقض الوضوء بمس المرأة الرجل، لكنه قيده بكونه بغير شهوة، وتقدم لنا أن الأولى إجراؤه على عمومه، فراجع -120/ 169.

(وهو يقول) جملة حالية أيضا معطوفة على ما سبق، أي والحال أنه يقول (اللَّهم إني أعوذ برضاك من سخطك) أي أعتصم، وأتحصن متوسلا برضاك من فعل يوجب سخطك (وبمعافاتك من عقوبتك) أي أعتصم بتجاوزك فضلا منك ومنةً عن تعذيبك إياي بسبب معاصي (وبك منك) أي أعتصم بك مما يؤدي إلى عذابك من المخالفات.

وقال السندي: ما حاصله: أي أعوذ بصفات جمالك عن صفات جلالك، فهذا إجمال بعد شيء من التفصيل، وتوسل بجميع صفات الجمال عن صفات الجلال، وإلا فالتعوذ من الذات مع قطع النظر عن شيء من الصفات لا يظهر. انتهى.

(لا أحصي ثناء عليك) أي لا أستطيع فردا من ثنائك على شيء من نعمائك، وهذا بيان لكمال عجز البشر عن أداء حق الرب سبحانه، وتعالى (أنت كما أثنيت على نفسك)"أنت" مبتدأ، و"كما أثنيت" خبره، والكاف بمعنى "على"، و"على نفسك" متعلق بـ"أثنيت"، أي كائن على الأوصاف التي أثنيت بها على نفسك، والجملة في موضع التعليل لعدم إحصاء الثناء عليه. وقيل:"أنت" تأكيد للضمير المجرور في "عليك"، أي لا أحصي ثناء عليك، مثل ثنائك على نفسك. وإن أردت الزيادة والإيضاح فارجع إلى شرح الحديث برقم -120/ 169 تستفد. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا أخرجه مسلم. وقد تقدم الكلام على المسائل المتعلقة به بالرقم المذكور، فليراجع هناك. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 311

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌138 - (بَابُ فَتْخ أَصَابعِ الرِّجْلَينِ فِي السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدَّالّ على استحباب فَتْخ -بالخاء المعجمة- أي تليين أصابع الرجلين، حتى تتوجه نَحو القبلة.

قال ابن منظور رحمه الله تعالى: وفَتَخَ الرجلُ أصابعه فَتْخًا، وفَتخَها: عَرَّضَها، وأرخاها. وقيل: فَتَخَ أصابع رجليه في جلوسه فَتخا: ثَنَاهَاو لَيَّنَهَا، قال أبو منصور: يَثْنِيها إلى ظاهر القدم، لا إلى باطنها. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، "أنه كان إذا سجد جافى عَضُدَيه عن جَنبَيه، وفَتَخَ أصابع رجليه". قال يحيي بن سعيد: الفَتْخُ أن يصنع هكذا: ونصب أصابعه، ثم غَمَزَ موضِعَ المفاصل منها إلى باطن الراحة، وثَنَاها إلى باطن الرجل، يعني أنه كان يفعل ذلك بأصابع رجليه في السجود. قال الأصمعي: وأصل الفَتْخ اللِّينُ ويقال لِلْبَرَاجِم إذا كان فيها لِينٌ وعِرَضٌ: إنها لَفُتْخٌ، ومنه قيل للعُقَاب: فَتْخَاءُ، وأنشد:[من الطوَيل]

كَأَنِّي بِفَتخَاءِ الجَنَاحَينِ لَقوَةِ

دَفُوفٍ مِنَ الْعِقْبَانِ طَأْطَأْتُ شِمْلَالِي

(1)

ويقول: رجل أَفْتَخُ بَيَّنُ الْفَتَخِ: إذا كان عَرِيض الكفّ والقَدَم مع اللِّين، قال الشاعر:[من البسيط]

فَتْخُ الشَّمَائِل فِي أَيْمَانهِمْ رَوَحُ

انتهى كلام ابن منظور رحمه الله تعالى

(2)

.

1101 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا

(1)

اللقوة بالفتح، وتكسر: العقاب الأنثى. قاله في "ق". ودَفّ العُقابُ يدُفّ: إذا دنى من الأرض في طيرانه، وعقاب دَفُوف للذي يدنو من الأرض إذا انقضّ. والشملال: الناقة الخفيفة. قاله في "اللسان".

(2)

"لسان العرب" ج 5 ص 3340.

ص: 312

أَهْوَى إِلَى الأَرْضِ، سَاجِدًا جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ إِبْطَيْهِ، وَفَتَخَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ". مُخْتَصَرٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمَّد بن بشار) أبو بكر بُندار البصري ثقة حافظ [10] 23 تقدم في 27/ 24.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان، أبو سعيد البصري الإمام الحافظ الحجة [9] تقدم 4/ 4.

3 -

(عبد الحميد بن جعفر) الأنصاري المدني، صدوق رمي بالقدر [6] تقدم 26/ 914.

4 -

(محمَّد بن عطاء) هو محمَّد بن عمرو بن عطاء

(1)

القرشي العامري المدني، ثقة [3] تقدم 96/ 1039.

5 -

(أبو حميد الساعدي) المنذر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك. وقيل: غير ذلك، صحابي مشهور، شهد أحدا، وما بعدها، وعاش إلى خلافة يزيد، سنة (60) تقدم 36/ 729.

ولطائف الإسناد تقدمت برقم -96/ 1039. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي حميد الساعدي) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهوى إلى الأرض) هكذا في نسخ "المجتبى""أهوى" بالألف، والذي في "الكبرى""هوى" بدونها، وذكر السندي رحمه الله أنه يوجد أيضا في بعض نسخ "المجتبى": ونصه: قوله: "إذا أهوى" هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها:"هوى"، أي سقط، وهو أقرب. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: كلاهما ثابت لغةً، فلا وجه لقوله: وهو أقرب.

قال المجد اللغوي رحمه الله: وهوَى الشيءُ: سقط، كأهوى، وانهوى. انتهى

(2)

.

وقال الفيومي رحمه الله تعالى: هَوَى يَهْوِي، من باب ضرب، هُوِيّا بضم الهاء، وفتحها، وزاد ابن الْقُوطية: هَوَاءً: سقط من أعلى إلى أسفل. انتهى كلام الفيّومي مختصرا

(3)

.

(1)

هكذا وقع عند المصنف في جميع نسخ "المجتبى" و"السنن الكبرى" منسوبا إلى جده، وقد نبه على هذا الحافظ المزي رحمه الله في "تحفة الأشراف" ج 9 ص 151.

(2)

"ق" ص 1735.

(3)

"المصباح" ص 643 - 644.

ص: 313

فقد أثبت في "ق" أن "هوى"، و"أهوى" يأتيان بمعنى "سقط"، فتنبه.، والله تعالى أعلم.

(ساجدا) حال من الفاعل (جافى) أي بَاعَدَ (عضديه) تثنية "عَضُدٍ"، وهو ما بين المِرْفَق إلى الكَتِفِ، وفيها خمس لغات: وِزَان رَجُلٍ، وبضمتين، في لغة الحجاز، وقرأ بها الحسن في قوله تعالى:{وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: آية: 51] ومثال كَبِدٍ، في لغة بني أسد، ومثال فَلْسٍ، في لغة تميم، وبَكْرٍ، والخامسة: وِزَان قُفْلٍ. قال أبو زيد: أهل تهِامة يؤنثون العضد، وبنو تميم يذكّرون، والجمع أَعْضُدٌ، وأعْضَادٌ، مثل أَفْلُس، وأَقْفَال. قاله الفيومي

(1)

..

(عن إبطيه) متعلق بـ"جافى"، و"الإبط" بكسر الهمزة، وسكون الباء: هو ما تحت الجَنَاح، ويذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو الإبط، وهي الإبط، والجمع آبَاط، مثلُ حِمْلٍ وأَحْمَال. قاله الفيّومي أيضا.

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد باعد عضديه عن إبطيه، ليتمكن من السجود، ولأنه أبعد عن هيئة المتكاسل، فيكون أقرب للخشوع. والله تعالى أعلم.

(وفَتَخَ أصابع رجليه) بفاء، ومثناة فوقية مفتوحتين، وخاء معجمة، أي ليّنَها حتى تنثني، فيوجهها نحو القبلة، وقال في "النهاية": أي نصبها، وغمز مواضع المفاصل، وثناها إلى باطن الرجل، وأصل الفَتْخِ: اللّين. انتهى. جـ 3 ص 408.

وقد تقدم الكلام في أول الباب بأوسع من هذا،. وبالله تعالى التوفيق.

(مختصر) خبر لمبتدإ محذوف، أي هذا الحديث مختصر من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه، وقد تقدم في 96/ 1039 - أن المصنف رحمه الله أخرج هذا الحديث مقطعا في أربعة أبواب، وما ساقه في واحد منها، إلا مختصرا بحسب ما تدعو الحاجة إليه للاستدل الذي الباب الذي يسوقه فيه، وقد ذكرناه بطوله في الرقم المذكور من رواية ابن ماجه لكونها أتم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم بيان المسائل المتعلقة به في الباب المذكور، فلا حاجة إلى إعادته هنا، فإن شئت فراجعه هناك. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"المصباح" ص 415.

ص: 314

‌139 - (بَابُ مَكَان الْيَدَيْنِ مِنَ السُّجُودِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا عبارة "المجتبى""من السجود" بلفظ "من"، وعبارة "الكبرى""في السجود" بلفظ "في".

هي ظاهرة، وللأولى أيضا وجه صحيح، وهو أن "من" بمعنى "في"؛ لأنها تأتي بمعناها على قول بعض النحاة، كما في قوله تعالى:{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر آية: 40] وقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَة} [الجمعة: آية 9]. انظر "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" جـ 1 ص 321. والله تعالى أعلم بالصواب.

1102 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

أَحْمَدُ بْنُ نَاصِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ كُلَيْبٍ، يَذْكُرُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَقُلْتُ: لأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَبَّرَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ إِبْهَامَيْهِ قَرِيبًا مِنْ أُذُنَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ كَبَّرَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، ثُمَّ كَبَّرَ، وَسَجَدَ، فَكَانَتْ يَدَاهُ مِنْ أُذُنَيْهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَقْبَلَ بِهِمَا الصَّلَاةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن ناصح) بن موسى المِصِّيصِى، أبو عبد الله، صدوق، [10].

روى عن إسماعيل بن علية، وابن إدريس، وهشيم، وغيرهم. وعنه النسائي، وقال صالح. وفي موضع آخر: لا بأس به، وحرب الكرماني، ومحمد بن سفيان المصّيصي، وغيرهم. قال الحاكم أبو أحمد: حدث بالثَّغْر عن مشايخه أحاديث مستوية. وذكره ابن حبان في "الثقات"، تفرد به المصنف، وروى عنه في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط.

2 -

(ابن إدريس) هو عبد الله الأودي الكوفي، ثقة فقيه عابد [8] تقدم 85/ 102.

3 -

(عاصم بن كُلَيب) الجَرْمي الكوفي، صدوق رمي بالإرجاء [5] تقدم 11/ 889.

4 -

(كُلَيب) بن شهاب بن المجنون المجنوني الجرمي، الكوفي، صدوق [2] تقدم 11/ 889.

(1)

وفي نسخة "أخبرنا".

ص: 315

5 -

(وائل بن حُجْر) الصحابي رضي الله عنه، تقدم 4/ 879. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث تقدم للمصنف مطولًا في 11/ 889 - وهو حديث صحيح. وقد مضى شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به هناك.، فليُراجعها من أراد الاستفادة منها.

وقد أورده هناك استدلالا على بيان موضع اليمين من الشمال في الصلاة.

واستدل له هنا على بيان مكان اليدين في حال السجود، وهو بحذاء الأذنين.

وقوله: "فكانت يداه من أذنيه" المراد باليدين: الكفان، أي كان كفاه صلى الله عليه وسلم من أذنيه.

وقوله: "على الموضع الذي استقبل بهما الصلاة" أي ابتدأ بهما الصلاة.

والمعنى أن كفي النبي صلى الله عليه وسلم كانتا في حال السجود في الموضع الذي كانتا فيه عند التكبير في افتتاح الصلاة، وهو حذاء الأذنين، كما تقدم في الرواية المذكورة:"ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه".

وفيه أن المستحب وضع الكفين حذاء الأذنين.

[فإن قيل]: ثبت في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع يديه حَذْوَ منكبيه". رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة. فكيف يجمع بينه وبين حديث الباب؟

[أجيب]: بإمكان العمل بهما في أوقات، فيضع أحيانا حذاء الأذنين، وأحيانا حذاء المنكبين، جمعا بين الحديثين.

ولذا قال أبو بكر ابن خزيمة في "صحيحه" بعد أن ترجم لوضع اليدين حذو المنكبين في السجود، وأورد حديث أبي حميد المذكور:"باب إباحة وضع اليدين في السجود حذاء الأذنين، وهذا من الاختلاف المباح". انتهى

(1)

.

يعني أن اختلاف الحديثين من جنس الاختلاف في الشيء المباح، لا من جنس اختلاف التضادّ، فيعمل بكلا الحديثين. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"صحيح ابن خزيمة" ج 2 ص 323.

ص: 316

‌140 - (بَابُ النَهْي عَنْ بَسْطِ الذرَاعَينِ فِي السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على النهي عن بسط المصلي ذراعيه على الأرض في حال السجود.

وترجم الإمام البخاري رحمه الله تعالى: بقوله: [باب لا يفترش ذراعيه في السجود]. ثم أورد حديث أنس بلفظ: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب". والله تعالى أعلم بالصواب.

1103 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلَاءِ -وَاسْمُهُ أَيُّوبُ بْنُ أَبِي مِسْكِينٍ- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَفْتَرِشْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُودِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، ثم النيسابوري، ثقة حجة إمام [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(يزيد بن هارون) أبو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد [9] تقدم 153/ 144.

3 -

(أبو العلاء، أيوب بن أبي مسكين) ويقال: ابن مسكين، التميمي القَصّاب الواسطي، صدوق له أوهام [7].

روى عن قتادة، وسعيد المقبري، وأبي سفيان، وغيرهم. وعنه إسحاق بن يوسف الأزرق، وخلف بن خليفة، وهشيم، ويزيد بن هارون، وغيرهم.

قال أحمد: لا بأس به، وقال مرةً: رجل صالح ثقة. وقال الفضل بن زياد، عن أحمد: كان مفتي أهل واسط. وقال إسحاق الأزرق: ما كان الثوري بأورع منه، وما كان أبو حنيفة بأفقه منه. وقال ابن سعد، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به، شيخ صالح، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال ابن عديّ: في حديثه بعض الاضطراب، ولم أجد في سائر أحاديثه شيئا منكرا، وهو ممن يكتب حديثه. وقال ابن حبان في "الثقات": كان يخطئ. وقال أبو داود: كان يتفقه، ولم يكن بجيد الحفظ للإسناد. وقال الحاكم أبو أحمد: في حديثه بعض الاضطراب.

قال تميم بن المنتصر، عن يزيد بن هارون: مات سنة (140).

أخرج له أبو داود، والترمذي، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

ص: 317

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري الإمام الحجة الثبت [4] تقدم 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك الصحابي الشهير رضي الله تعالى عنه، تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه بلفظ: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب". وقد تقدم للمصنف رحمه الله تعالى في [الاعتدال الركوع]-89/ 1028 - بلفظ: "اعتدلوا في الركوع والسجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه كالكلب"، وسيأتي له بهذا اللفظ بعد بابين، وقد تقدم شرحه، والكلام على المسائل المتعلقة به هناك، فلا حاجة إلى إعادة ذلك هنا، وتقدم هناك أيضًا بيان حكمة النهي عن الافتراش المذكور، وهي أن رفع ذراعيه عن الأرض أقرب إلى التواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض في السجود، وأبعد عن هيئات الكُسَالى، فإن من فَرَشَ ذراعيه يشعر حاله بالتهاون بالصلاة، وقلة الاعتناء بها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌141 - (بَابُ صِفَةِ السُّجُودِ)

أي هذا باب في ذكر الأحاديث الدالة على كيفية السجود.

و"الصِّفَةُ" من الوَصْف، مثل العِدَة، من الوَعْد، يقال: وَصَفْته وَصْفًا، من باب وَعَدَ: نَعَتُّهُ بما فيه، ويقال: هو مأخوذ من قولهم: وَصَفَ الثوبُ الجِسمَ: إذا أظهر حاله، وبَيَّنَ هيئته، ويقال: الصفة إنما هي بالحال المنتقِلَة، والنعت بما كان في خَلْقٍ، أو خُلُقِ. قاله الفيومي

(1)

.

والمقصود من هذا الباب بيان الهيئة المشروعة في حالة السجود.

فينبغي للساجد أن يضع كفيه على الأرض، ويرفع مرفقيه عنها، وعن جنبيه رفعا بليغا بحيث يظهر باطن إبطيه إذا لم يكن مستورا، وهذا مما لا خلاف فيه.

قال النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: والحكمة في هذا أنه أشبه بالتواضع،

(1)

"المصباح" ص 661.

ص: 318

وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من هيئات الكسالى، فإن المنبسط كشبه الكلب، ويشعر حاله بالتهاون بالصلاة. والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

1104 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: وَصَفَ لَنَا الْبَرَاءُ السُّجُودَ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ بِالأَرْضِ، وَرَفَعَ عَجِيزَتَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(علي بن حجر المروزي) نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة حافظ، من صغار [9] تقدم 13/ 13.

2 -

(شريك) بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، صدوق، يخطئ كثيرا، تغير حفظه منذ ولي القضاء [8] تقدم 25/ 29.

3 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي، ثقة عابد، اختلط بآخره، وكان يدلس [3] تقدم 38/ 42.

4 -

(البراء) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاري الأوسي، صحابي ابن صحابي، نزل الكوفة، ومات سنة (72) تقدم 86/ 105. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو (73) من رباعيات الكتاب (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، ولا ابن ماجه، وأنهم كوفيون، سوى شيخه، فمروزي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي، أنه (قال: وصف لنا البراء) بن عازب رضي الله عنهما (السجود) أي كيفية السجود المأمور به في النصوص (فوضع يديه بالأرض) أي عليها، فالباء بمعنى "على"، كما في قوله تعالى:{مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} [آل عمران آية: 75] أي عليه، وقوله:{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30] أي عليهم، وقول الشاعر:[من الطويل]

أَرَبٌ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأسِهِ

لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالتْ عَلَيهِ الثَّعَالِبُ

انظر ما كتبه ابن هشام الأنصاري النحوي رحمه الله تعالى في "مغني اللبيب"

(2)

(1)

"شرح مسلم" ج 4 ص 209.

(2)

جـ 1 ص 104 - 105.

ص: 319

(ورفع عجيزته) قال ابن الأثير رحمه الله: العَجِيزة: العَجُز، وهي للمرأة خاصة، فاستعارها للرجل. انتهى

(1)

.

وقال الفيومي رحمه الله العَجُز من الرجل والمرأة: ما بين الوَرِكَين، وهي مونثة، وبنو تميم يذكّرون، وفيها أربع لغات، فتح العين، وضمها، ومع كلّ واحدة ضم الجيم، وسكونها، والأفصح وِزَان رَجُلٍ، والجمع: أعْجَاز، والعَجُزُ من كل شيء مؤخره، ويذكّر ويؤنث، والعَجِيزَة للمرأة خاصّة، وأمرأة عَجْزاء؛ إذا كانت عَظِيمة العجيزة. قال الشاعر:[من البسيط]

هَيْفَاءُ مُقْبِلَةَ عَجْزَاءُ مُدْبِرَةٍ

تَمَّتْ فَليْسَ يُرَى فِي خَلْقِهَا أَوَدُ

انتهى كلام الفيومي، بزيادة من كلام ابن منظور

(2)

..

قال الجامع عفا الله عنه: فتحصل مما ذكر أن العَجِيزة للرأة خاصة، وإنما العَجُز هو الذي يقال للرجل والمرأة، فاستعار العَجيزة هنا للرجل. والله تعالى أعلم.

(وقال) أي البراء (هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) ولأبي داود: "يسجد". أي رأيته صلى الله عليه وسلم يسجد على هذه الهيئة، وذكر هذا دليلا على ما فعله، ليكون أدعى للقبول. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث البراء رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، ولا يضر فيه وجود شريك القاضي في سنده، وهو سيء الحفظ، كما تقدم؛ لأن أحاديث الباب وغيرها تشهد له، وقد صححه ابن خزيمة رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكره عند المصنف، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -141/ 1104 - وفي "الكبرى" -49/ 691 - عن علي ابن حجر، عن شريك، عن أبي إسحاق، عنه.

وأخرجه (د) في "الصلاة" عن الربيع بن نافع، عن شريك به. (وأحمد) 4/ 303 (وابن خزيمة) رقم 646. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1105 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ -هُوَ النَّضْرُ-

(1)

"النهاية" جـ 3 ص 186.

(2)

"المصباح" ص 394. و"لسان العرب" ج 4 ص 2818.

ص: 320

قَالَ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى جَخَّى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبدة بن عبد الرحيم المروزي) أبو سعيد، نزيل دمشق، صدوق، من صغار [10] ت 244 تقدم 45/ 597.

2 -

(النضر بن شُمَيل) المازني، أبو الحسن البصري، نزيل مرو، ثقة ثبت، من كبار [9] تقدم 41/ 45.

3 -

(يونس بن أبي إسحاق) السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوق يهم قليلا [5] تقدم 16/ 652.

والباقيان تقدما في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن البراء) بن عازب رضي الله تعالى عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى) أي إذا دخل في الصلاة (جَخّى) بجيم مفتوحة، فخاء معجمة مشددة، بوزن صَلَّى: أي فتح عضديه، وجافاهما عن جنبيه، ورفع بطنه عن الأرض. وهو مثل "جَخَّ" بوزن مدَّ، والأول أشهر. أفاده ابن الأثير رحمه الله تعالى

(1)

وقال ابن منظور: وقد جَخَّ، وجَخى: إذا خَوَّى في سجوده، وهو أن يرفع ظهره حتى يُقِلَّ بطنه عن الأرض، ويقال: جخَّى: إذا فتح عضديه في السجود. انتهى

(2)

..

والحديث يدلّ على أنّ سنة السجود أن يباعد المصلي عضديه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن الأرض. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث البراء رضي الله عنه هذا صحيح. ولا يضرّ فيه عنعنة أبي إسحاق، وإن كان مدلسا، لأن أحاديث الباب تشهد له، فيصح بها، وقد صححه ابن خزيمة رحمه الله تعالى.

وهو من أفراد المصنف -رحمه الله تعالى- أخرجه هنا-141/ 1105 وفي "الكبرى" 49/ 692 - بالسند المذكور، وأخرجه (ابن خزيمة) رقم 647. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"النهاية" ج 1 ص 242.

(2)

"لسان العرب"ج 1 ص 557.

ص: 321

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

1106 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(بكر) بن مضر بن محمد بن جعفر المصري، ثقة ثبت [8] تقدم 122/ 173.

3 -

(جعفر بن ربيعة) بن شُرَحبيل بن حَسَنَة الكندي، أبو شُرَحبيل المصري، ثقة [5] تقدم 122/ 173.

4 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمز المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 7/ 7.

5 -

(عبد الله بن مالك ابن بُحَينَة) الصحابي الشهير رضي الله تعالى عنه، ومالك أبوه، وبُحَينة -بضم الباء الموحدة، وفتح الحاء المهملة، وبعدها ياء ساكنة، فنون مفتوحة-: أمه، وهي بنت الأرتّ، وهو الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف. تقدمت ترجمته 6/ 867. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، وأنهم ما بين بغلاني، ومصريينِ، ومدنيينِ، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن مالك ابن بُحَيْنة) رضي الله تعالى عنه.

[فائدة]: قال النووي -رحمه الله تعالى-: الصواب أن ينون "مالك"، ويكتب بالألف، لأن "ابن بحينة" ليس صفة لـ"مالك"، بل صفة لـ"عبد الله"؛ لأن "عبد الله" اسم أبيه "مالك"، واسم أم عبد الله "بحينة"، فبحينة امرأة مالك، وأم عبد الله بن مالك. انتهى

(1)

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: هو أحد من نُسِب إلى أمه، فعلى هذا إذا وقع "عبد الله" في موضع رفع وجب أن ينوّن "مالك" أبوه، ويرفع "ابن"؛ لأنه ليس صفة لمالك، فيتركَ تنوينه، ويجرَّ، وإنما هو صفة لعبد الله بن مالك، وإذا وقع "عبد الله" في

(1)

"شرح مسلم" ج 4 ص 210.

ص: 322

موضح جرّ نُوِّنَ "مالك"، وجُرّ "ابن"؛ لأنه ليس "ابن" صفة لمالك. وهذا من المواضع التي يتوقف فيها صحة الإعراب على معرفة التاريخ

(1)

.

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى) أي إذا دخل في الصلاة. وأراد به السجود، لما في رواية مسلم من طريق عمرو بن الحارث:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد يُجَنِّح في سجوده حتى يُرَى وَضَحُ إبطيه". و"الوَضَح" بفتحتين: البياض. وفي رواية له من طريق الليث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فرّج يديه عن إبطيه، حتى إني لأرى بياض إبطيه".

(فرّج بين يديه) يحتمل أن يكون من الفَرْج ثلاثيا، وهو الفتح، أو من التفريج رباعيا.

والمراد أنه فتح بينهما، وبين ما يليهما من الجنب، حتى يستقيم معه قوله:"حتى يبدو"، فليس المتعدد الذي يُضاف إليه لفظُ "بين" لفظَ "يديه"، بل هو أحد طرفي المتعدد، والطرف الثاني محذوف، وهذا معنى قول الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح": أي نحّى كلَّ يد عن الجنب الذي يليها. أفاده السندي رحمه الله تعالى

(2)

..

قال القرطبي رحمه الله تعالى: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود أنه يخف بها اعتماده عن وجهه، ولا يتأثر أنفه، ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الأرض.

وقال غيره: هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان.

وقال ناصر الدين ابن المُنَيِّر رحمه الله في "الحاشية": الحكمة فيه أن يظهر كل عضو بنفسه، ويتميز، حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، ومقتضى هذا أن يستقلّ كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده، وهذا ضدّ ما ورد في الصفوف من التصاق بعضهم ببعض، لأن المقصود هناك إظهار الاتحاد بين المصلين حتى كأنهم جسد واحد.

وروى الطبراني وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد صحيح، أنه قال:"لا تفترش افتراش السبع، وادعم على راحتيك، وأبد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك".

ولمسلم من حديث عائشة رضي الله عنهما: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفترش الرجل ذراعيه افتراشَ السبع".

(1)

اعترضه الصنعاني بأنه لم يسق فيه الأنساب ليعرف أن هذا ليس أبا لهذا، ولا ابنا له، ونحو ذلك. اهـ.

"فتح" ج 2 ص 553 - 554.

(2)

"شرح السندي " ج 2 ص 212.

ص: 323

وأخرج الترمذي، وحسنه من حديث عبد الله بن أرقم رضي الله عنه:"صليت مع النبي، فكنت أنظر إلى بياض عُفْرَتَي إبطيه إذا سجد".

ولابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"إذا سجد أحدكم فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب، وليضم فخذيه". وللحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما نحو حديث عبد الله بن أرقم، وعنه عند الحاكم:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد، يُرَى وَضَحُ إبطيه". وله من حديثه، ولمسلم من حديث البراء رضي الله عنه، رفعه:"إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك".

قال الحافظ رحمه الله تعالى: وهذه الأحاديث، مع حديث ميمونة رضي الله عنها عند مسلم:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يجافي يديه، فلو أن بَهْمَةً أرادت أن تمرّ لمرّت"

(1)

. مع حديث ابن بحينة هذا ظاهرها وجوب التفريج المذكور.

لكن أخرج أبو داود ما يدلّ على أنه للاستحباب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: شكا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال:"استعينوا بالرُّكَبِ". وترجم له [باب الرخصة في ذلك] أي في ترك التفريج، قال ابن عجلان أحد رواته: وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا طال السجود، وأعيا

(2)

..

وقال العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى: وقد يجاب عنه بأن ما استُدلّ به على الاستحباب أدلّ منه على الوجوب، فإن الترخيص فرع العزيمة، وهو مخصوص بحالة المشقة، فلابدّ من مسلك صحيح، يعمّ الحكم به جميعَ الأحوال، على أن قوله صلى الله عليه وسلم:"استعينوا بالركب" أظهر في تكميل الواجب، وعدم الترخيص فيه. انتهى

(3)

..

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الصنعاني رحمه الله تعالى تَعَقُّب وجيه، فدلالة هذه الأحاديث على الوجوب ظاهر، لا معارض له، وحديث "استعينوا بالركب" دلالته على الوجوب أظهر من دلالته على الاستحباب، ولو سُلِّمَ فهو لمن يتضرر بالتفريج فقط. والله تعالى أعلم.

وقد أخرج الترمذي الحديث المذكور، ولم يقع في روايته "إذا انفرجوا"، فترجم له "ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود"، فجعل محلّ الاستعانة بالركب لمن يرفع من السجود طالبا للقيام، واللفظ محتمل ما قال، لكن الزيادة التي أخرجها أبو داود تعيّن المراد. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(4)

.

(1)

سيأتي للمصنف في الباب التالي 142/ 1109.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 553 - 554.

(3)

"العدّة حاشية العمدة" ج 2 ص 343.

(4)

"فتح" جـ 2 ص 554.

ص: 324

(حتى يبدو بياض إبطيه) بنصب "يبد و" بـ"أن" مضمرة بعد "حتى" وجوبا، كما قال ابن مالك رحمه الله:

وَبَعْدَ حَتَّى هَكَذَا إِضْمَارُ أَنْ

حَتْمٌ كَجُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ

و"بياض" بالرفع على الفاعلية، أي حتى يظهر البياض الذي في إبطيه.

قال ابن التين رحمه الله تعالى: فيه دليل على أنه لم يكن عليه قميص، لانكشاف إبطيه.

وتعقب باحتمال أن يكون القميص واسع الأكمام، وقد روى الترمذي رحمه الله في "الشمائل" عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت:"كان أحب الثياب إلى النبي صلى الله عليه وسلم القميص"، أو أراد الراوي أن موضع بياضهما لو لم يكن عليه ثوب لرئي. قاله القرطبي.

واستدلّ به على أن إبطيه صلى الله عليه وسلم لم يكن عليهما شعر. وفيه نظر، فقد حكى المحب الطبري في "الاستسقاء" من "الأحكام" له أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الإبط من جميع الناس متغير اللون غيره.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نقل الحافظ رحمه الله كلام المحب الطبري، وأقرّه عليه، ولكن فيه نظر، لأن إثبات مثل هذه الخصوصية يحتاج إلى دليل. والله تعالى أعلم.

واستدل بإطلاقه على مشروعية التفريج في الركوع أيضا.

قال الجامع عفا الله عنه: وفيه نظر، لأنه تقدم في رواية مسلم من طريق عمرو بن الحارث، والليث بن سعد:"كان إذا سجد" الخ، وهي رواية البخاري في "المناقب" عن قتيبة، عن بكر ابن مضر، فتبين بها أن المراد بالصلاة في قوله:"كان إذا صلى" السجود، والرواية يفسر بعضها بعضا، فالاستدلال به على مشروعيته في الركوع محل نظر. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: خص الفقهاء ما ذكر من مشروعية التفريج بالرجال، دون النساء، وقالوا: المرأة تضم بعضها إلى بعض، لأن المقصود منها التصون والتجمع والتستر، وتلك الحالة أقرب إلى هذا المقصود،. هكذا قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى.

ولأنه قد روى أبو داود في "المراسيل" عن يزيد بن أبي حبيب، أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأتين، وهما تصليان، فقال:"إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة ليست كالرجل في ذلك". ورواه البيهقي من طريقين موصولتين، لكن في كل منهما متروك. كما قال في "التلخيص". ذكره الصنعاني في "العدّة" جـ 2 ص 343.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الفرق بين الرجال والنساء محل توقف، فإنه يحتاج إلى دليل صحيح صريح، فإن أدلة مجافاة اليدين عن الجنبين، والبطن عن

ص: 325

الفخذين، ووفع المرفقين عن الأرض تشمل الرجال والنساء، وهي أحاديث صحاح، والحديث الذي استدلوا به ضعيف؛ لأنه مرسل، فلا يصلح لإثبات الفرق بين الرجال والنساء، ولا يَقْوَى لمعارضة الأحاديث الصحيحة التي تعم الجنسين، فالظاهر أن الرجال والنساء في ذلك سواء. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن مالك رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -141/ 1106 - وفي "الكبرى" 49/ 693 - عن قتيبة بن سعيد، عن بكر ابن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عنه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "الصلاة" عن يحيي بن بكير، عن بكر بن مضربه. وفي "المناقب" عن قتيبة به. (م) في "الصلاة" عن قتيبة به. وعن عمرو ابن سَوَّاد، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، والليث بن سعد، كلاهما عن جعفر به.

وأخرجه (أحمد) 5/ 345. (وابن خزيمة) رقم 606. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1107 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "لَوْ كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَبْصَرْتُ إِبْطَيْهِ"، قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، لأَنَّهُ فِي صَلَاةٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمَّد بن عبد الله بن بَزِيع) بفتح الموحدة، وكسر الزاي- البصري، ثقة [10] تقدم 43/ 588.

2 -

(معتمر بن سليمان) التيمي، أبو محمَّد البصري، الملقب بالطُّفيل، ثقة، من كبار [9] تقدم 10/ 10.

3 -

(عمران) بن حُدَير -بمهملات مصغرا- السدوسي، أبو عُبيدة البصري، ثقة ثقة [6] تقدم 37/ 581.

4 -

(أبو مِجْلَز) لاحق بن حميد السدوسي البصري، ثقة، من كبار [3] تقدم 188/ 296.

ص: 326

5 -

(بَشِير بن نَهِيك) بفتح النون، وكسر الهاء، آخره كاف، السدوسي، ويقال: السَّلُولي، أبو الشَّعْثاء البصري، ثقة [3].

روى عن بَشِير بن الخَصَاصيه، وأبي هريرة. وعنه يحيى بن سعيد الأنصارى، وأبو مِجْلز، والنضر بن أنس بن مالك، وغيرهم.

قال العجلي، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه. وذكره خليفة بن خياط في الطبقة الثانية من قُرّاء البصرة.

ونقل صاحب "الكمال" عن أبي حاتم، قال: تركه يحيى القطان، وهذا وَهَمٌ وتصحيف، وإنما قال أبو حاتم: روى عنه النضر بن أنس، وأبو مجلز، وبَرَكَة، ويحيى ابن سعيد. فقوله: وبركة هو بالباء الموحّدة، وهو أبو الوليد المجاشعي. وقال يحيى القطان، عن عمران بن حُدير، عن أبي مِجلَز، عن بشير بن نهيك، قال: أتيت أبا هريرة بكتابي الذي كتبته عنه، فقرأته عليه، فقلت: هذا سمعته منك؟ قال: نعم.

وقال ابن سعد: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". ونقل الترمذي في "العلل" عن البخاري أنه قال: لم يذكر سماعا من أبي هريرة. وهو مردود بما تقدم. وقال الأثرم، عن أحمد: ثقة، قلت له: روى عنه النضر بن أنس، وأبو مجلز، وبركة؟ قال: نعم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (9) أحاديث.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو، ومسلم، والترمذي، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: لو كنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولأبي داود: "قُدَّام النبي صلى الله عليه وسلم"(لأبصرت إبطيه) وفي نسخة: "إبطه" بالإفراد، ولأبي داود:"لرأيت إبطه".

أي لو كنت مستقبلا له، وهو يصلي لرأيت إبطيه.

يعني أنه لو لم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مصليا، وكان قُدّامه لأبصر إبطي النبي صلى الله عليه وسلم

لأجل تفريجه، ولكن منعه من هذا كونه وراءه في الصلاة، فلم يتمكن من النظر إليه. والله تعالى أعلم.

ص: 327

(قال أبو مِجْلَز) لاحق بن حميد الراوي عن بشير بن نَهِيك (كأنه) أي أبا هريرة رضي الله عنه (قال ذلك، لأنه في صلاة) أي إنما قال: "لو كنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم" الخ، لكونه مصليا خلفه صلى الله عليه وسلم، فلا يتمكن من الإبصار.

وقال أبو داود: زاد ابن معاذ -يعني شيخه عبيد الله بن معاذ- قال: يقول لاحق: "ألا ترى أنه في الصلاة، ولا يستطيع أن يكون قدّام النبي صلى الله عليه وسلم".

قال: وزاد موسى -يعني شيخه موسى بن مروان-: "يعني: إذا كبر رفع يديه".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أورده المصنف هنا في "باب صفة السجود" مستدلا به على مشروعية التفريج في السجود، لكن خالفه أبو داود، فأورده في "افتتاح الصلاة" مستدلا به على مشروعية المبالغة في رفع اليدين.

والذي يظهر لي أن دلالة الحديث على ما استدلّ به أبو داود أقرب من دلالته على مقصود المصنف، لأن رؤية إبطي المصلي لمن كان أمامه إنما يتيسر في حالة الرفع للافتتاح ونحوه، لا في حالة السجود، فإنه إنما يتيسر لمن كان خلفه، كما يدل على ذلك حديث ميمونة رضي الله عنها عند مسلم:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى حتى يَرَى مَنْ خلفه وَضَحَ إبطيه". أي بياضهما. فليتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكرالمصنف له:

أخرجه هنا -141/ 1071 - وفي "الكبرى" -49/ 694 - عن محمَّد بن عبد الله بن بزيع، عن معتمر بن سليمان، عن أبي مجلز، عن بشير بن نهيك، عنه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه- وعن موسى بن مروان الرَّقِّيَ، عن شعيب بن إسحاق- كلاهما عن عمران ابن حُدَير به. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1108 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَقْرَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنْتُ أَرَى عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ إِذَا سَجَدَ).

ص: 328

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(علي بن حُجْر) المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9] تقدم 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي، أبو إسحاق القارئ المدني، ثقة ثبت [8] تقدم 16/ 17.

3 -

(داود بن قيس) الفرّاء الدبّاغ، أبو سليمان القرشي مولاهم المدني، ثقة فاضل [5] تقدم 96/ 120.

4 -

(عبيد الله بن عبد الله بن أقرم) الخزاعي الحجازي، ثقة [3].

روى عن أبيه. وعنه داود بن قيس الفرّاء، والوليد بن سعيد بن أبي سندر الأسلمي. قال النسائي: ثقة. روى له الترمذي، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(عبد الله بن أقرم) -بتقديم القاف- ابن زيد الخزاعي الحجازي، أبو مَعْبَد، له، ولأبيه صحبة. له عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد، حديث الباب. وعنه ابنه عبيد الله. وقال الحافظ رحمه الله: أورد له أبو القاسم البغوي في "معجمه" من حديث الوليد بن سعيد عنه حديثا آخر. أخرج له المصنف، والترمذي، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم حجازيون، غير شيخه، فمروزي، وفيه رواية تابعي عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه، وأن صحابيه من المقلين، ليس له عند المذكورين إلا حديث الباب. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن أقرم) الخزاعي رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) الحديث مختصر، وقد طوله في "مسند أحمد"، قال عبد الله بن أحمد: حدثني أبي، ثنا أبو نعيم، ثنا داود -يعني ابن قيس- قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن أقرم الخزاعي، قال: حدثني أبي، أنه كان مع أبيه بالقاع من نَمِرَةَ، قال: فمر بنا رَكبٌ، فأَنَاخوُا بناحية الطريق، فقال أبي: أَيْ بُنَي كن في بَهْمِكَ حتى آتي هؤلاء الرَّكب، فأُسائلهم، قال: دنا منهم، ودنوت منه، وأقيمت الصلاة، فإذا فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصليت معهم، وكأني انظر إلى عفرتي إبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد. وفي رواية وكيع:"قال: فخرج، وخرجت في أثره، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم". . . انظر "المسند" جـ 4 ص 35.

ص: 329

(فكنت أَرَى عُفْرَة إبطيه إذا سجد)"العفرة": -بضم العين المهملة

(1)

، وسكون الفاء، وزان غُرْفَة-: بياض غير خالص، بل هو كلون عَفَر الأرض، وهو وجهها.

وأراد بذلك منبت الشعر من الإبطين بمخالطة بياض الجلد سواد الشعر.

قال السندي رحمه الله تعالى: وكأنه كان ينظر في الصلاة، وهذا لا يضر حديث أبي هريرة السابق، لأنه مختلف حسب اختلاف الناس في الصلاة. انتهى

(2)

والحديث يدلّ على أن السنة في السجود أن ينحّي يديه عن جبيه، ولا خلاف في ذلك. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درحته:

حديث عبد الله بن أقرم رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -141/ 1108 - وفي "الكبرى" -695/ 49 - عن علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر، عن داود بن قيس، عن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم، عن أبيه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ت) في الصلاة عن أبي كريب، عن أبي خالد الأحمر، عن داود به. وقال: حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث داود بن قيس، ولا نعرف لعبد الله بن أقرم عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدم عن الحافظ رحمه الله تعالى، أنه قال: أخرج له البغوي في "معجمه" حديثا آخر. والله تعالى أعلم.

(ق) في "الصلاة" أيضًا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع- وعن بندار، عن ابن مهدي- وصفوان بن عيسى- وأبي داود- أربعتهم عن داود بن قيس به.

وأخرجه (الحميدي) رقم 923 (وأحمد) 4/ 35. والله تعالي أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

وما في "شرح السندي" من جواز "فتح" العين لم أره لغيره، بل ضُبِطَ في كتب اللغة التي بين يديّ بالضم فقط. فليتبه.

(2)

"شرح السندي" ج 2 ص 213 ..

ص: 330

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌142 - (بَابُ التَّجَافِي فِي السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية التجافي في حال السجود.

و"التجافي": مصدر "تجافى"، "يتجافى": إذا تباعد. ويقال فيه: "المجافاة" أيضا، قال ابن مالك رحمه الله تعالى:

لِفَاعَلَ الْفعَالُ وَالْمُفَاعَلَهْ

وَغَيْرُ مَامَرَّ السَّمَاعُ عَادَلَهْ

والمراد بالتجافي هنا: تباعد الأعضاء بعضها عن بعض، كاليدين عن الجنبين، والبطن عن الفخذين. والله تعالى أعلم بالصواب.

1109 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَصَمِّ- عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ الأَصَمِّ- عَنْ مَيْمُونَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَجَدَ جَافَى يَدَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَنَّ بَهْمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ تَحْتَ يَدَيْهِ مَرَّتْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(عبيد الله بن عبد الله بن الأصم) العامري، مقبول [6]. تقدم 50/ 850.

[تنبيه]: اختلفت نسخ "المجتبى" في هذا الاسم، فأكثر النسخ، وهو الذي في "الكبرى""عبيد الله" مصغرا، ووقع في بعضها "عبد الله" مكبرا. وكذا وقع الاختلاف فيه عند غير المصنف.

قال النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": قوله: أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله ابن عبد الله بن الأصم، عن عمه يزيد بن الأصمّ. . . وفي الرواية الأخرى: أخبرنا مروان بن معاوية الفزاري، قال: حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن الأصم، عن يزيد بن الأصم. . .

هكذا وقع في بعض الأصول: عبيد الله بن عبد الله بتصغير الأول في الروايتين، وفي بعضها "عبد الله" مكبرا في الموضعين، وفي أكثرها بالتكبير في الرواية الأولى، والتصغير في الرواية الثانية، وكله صحيح، فـ"عبد الله"، و"عبيد الله" أخوان، وهما ابنا عبد الله بن الأصم، وعبد الله بالتكبير أكبر من عبيد الله، وكلاهما رويا عن عمه يزيد بن

ص: 331

الأصمّ، وهذا مشهور في كتب أسماء الرجال، والذي ذكره خَلَفٌ الواسطي في كتابه "أطراف الصحيحين" في هذا الحديث عبدُ الله بالتكبير في الروايتين، وكذا ذكره أبو داود، وابن ماجه في "سننيهما" من رواية ابن عيينة بالتكبير، ولم يذكروا رواية الفزاري، ووقع في "سنن النسائي" اختلاف في الرواية عن النسائي، بعضهم رواه بالتكبير، وبعضهم بالتصغير، ورواه البيهقي في "السنن الكبير" من رواية ابن عيينة بالتصغير، ومن رواية الفزاري بالتكبير. والله تعالى أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عبد الله بن عبد الله بن الأصم العامري، هو أبو سليمان، ويقال: أبو العنبس، وكان أكبر من أخيه عبيد الله، رأى الحسن، والحسين. صدوق [4].

روى عن عمه يزيد بن الأصم. وعنه السفيانان، وعبدة بن سليمان، وعبد الواحد بن زياد، ومروان الفزاري. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ. ووثقه العجلي وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له مسلم حديثا واحدا فيما يقطع الصلاة.

4 -

(يزيد بن الأصم) واسمه عمرو بن عبيد بن معاوية البكّائي، أبو عوف الكوفي، نزيل الرَّقّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنهما، يقال: له رؤية، ولا يثبت، وهو ثقة [3] ت (103) تقدم 50/ 850.

5 -

(ميمونة) بنت الحارث الهلالية، أم المؤمنين رضي الله عنها، قيل: اسمها بَرّة، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وتزوجها بسَرِفَ سنة سبع، وماتت بها، ودفنت سنة (51) على الصحيح، تقدمت 146/ 236. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم موثقون، وأنهم كوفيون، غير شيخه، فهو بغلاني، وسفيان، وإن كان مكيا، إلا أنه كوفي الأصل (ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن عمه، عن خالته، (ومنها): أن فيه قوله: "وهو ابن عبد الله بن الأصم"، والظاهر أن القائل هو قتيبة، ويحتمل أن يكون هو المصنف، وقوله:"وهو ابن الأصم" وفي نسخة بإسقاط العاطف، والقائل يحتمل أن يكون هو المصنف، أو من فوقه، وقد تقدم غير مرة بيان القاعدة المتعلقة بمثل هذه، وذلك أن الشيخ إذا لم ينسب شيخه، وأراد الراوي عنه أن ينسبه أتى بما يفصل زيادته عن كلام شيخه، وهو لفظة "هو"، أو "يعني"، أو "إنه". والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح صحيح مسلم" ج 4 ص 211 - 212.

ص: 332

شرح الحديث

(عن ميمونة) رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى يديه) فيه حذف المتَعَلِّقِ، وتقديره:"عن جنبيه". يعني أنه يباعد بينهما وبين جنبيه.

وفي الرواية الآتية -178/ 1147 - من طريق مروان بن معاوية، عن عبيد الله، بن عبد الله بن الأصم:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوَّى بيده حتى يُرَى وَضَحُ إبطيه من ورائه، وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى".

ومعنى "خوّى" بتشديد الواو: جافى. والوضح بفتح الضاد: البياض.

ولفظ مسلم: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت بَهْمَةٌ أن تمرّ بين يديه لمرّت"

وله أيضا من طريق وكيع، عن جعفر بن بُرْقَان، عن يزيد بن الأصم:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى، حتى يَرَى من خلفه وَضَحَ إبطيه"، قال وكيع: يعني بياضهما.

(حتى لو)"حتى" للغاية، و"لو" شرطية، كما قال في "الخلاصة":

لَوْ حَرفُ شَرْطٍ فِي مُضِيٍّ وَيَقِلّ

إِيلَاؤُهُ مُستَقْبَلًا لَكِنْ قُبِلْ

وَهْيَ فِي الاخْتِصَاصِ بَالفِعْلِ كَإِنْ

لَكِن لَوْ أَنَّ بِهَا قَدْ تَقْتَرِنْ

(أن بهمة) قال الفيّومي رحمه الله تعالى: "البهمة" -بفتح، فسكون-: ولد الضأن، يطلق على الذكر والأنثى، والجمع بَهْمٌ، مثلُ تَمْرة وتَمْر، وجمع البهْم بِهَام، مثل سَهْم وسِهَام، وتُطلَق البِهَام على أولاد الضأن والمعز إذا اجتمعت تغليبا، فإذا انفردت، قيل لأولاد الضأن بِهَام، ولأولاد المَعْز سخَال. وقال ابن فارس: البَهْم: صغار الغنم. وقال أبو زيد: يقال لأولاد الغنم ساعَةَ تَضَعُها الضأنُ، أو المَعْزُ، ذكرا كان الولد، أو أنثى: سَخْلة. انتهى كلام الفيومي رحمه الله تعالى

(1)

..

(أرادت أن تمرّ تحت يديه) وفي نسخة "بين يديه"(مرت) أي استطاعت المرور تحت يديه.

وقد تقدم وجه الحكمة في المجافاة المذكورة في الباب الماضي. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها هذا أخرجه مسلم.

(1)

"المصباح" ص 64.

ص: 333

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -142/ 1109 - وفي "الكبرى" 51/ 697 - عن قتيبة، عن ابن عيينة، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم، عن يزيد بن الأصم، عنها. وفي -178/ 1147 - و"الكبرى" -85/ 733 - عن عبد الرحمن ابن إبراهيم دُحَيم، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن عبيد الله بن عبد الله به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) في "الصلاة" عن يحيي بن يحيي، وابن أبي عمر، كلاهما عن ابن عيينة به. وعن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، عن مروان بن معاوية به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، كلهم عن وكيع، عن جعفر بن بُرْقَان، عن يزيد بن الأصم، عنها.

(د) فيه عن قتيبة به. (ق) فيه عن هشام بن عمار، عن ابن عيينة به.

وأخرجه (الحميدي) رقم 314 و (أحمد) 6/ 331 و 332 و 335 و 333 و (الدارمي) رقم 1336 و 1337 و 1338. (وابن خزيمة) 657.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): المبالغة في مباعدة اليدين عن الجنبين، ورفع البطن عن الفخذين في حالة السجود؛ لأنه لا يمكن مرور البهمة تحت اليدين إلا إذا كان المصلي على هذه الصفة (ومنها): كون هذه الهيئات أقربَ إلى الخشوع، وأمكنَ في التواضع، وأبعدَ عن هيئات الكسالى (ومنها): عناية أمهات المؤمنين بنقل صفة عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، وتبليغها للأمة، ودقة وصفهن لها بحيث يتضح للسامع هيئتها تمام الاتضاح، وهذا هو السرّ والحكمة في سبب كثرة أزواجه صلى الله عليه وسلم، وفيه حكم أخرى سيأتي بيانها في "كتاب النكاح"، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقِي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌143 - (بَابُ الاعْتِدَالِ فِي السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الأمر بالاعتدال في حال السجود.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاعتدال المطلوب هنا غير الاعتدال المطلوب في الركوع، فإنه هناك استواء الظهر والعنق، كما سلف، والمطلوب هنا ارتفاع أسافل البدن

ص: 334

على أعاليه.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: لعل الاعتدال ها هنا محمول على أمر معنوي، وهو وضع هيئة السجود موضع الشرع على وفق الأمر، فإن الاعتدال الخَلْقي الذي طلبناه في الركوع لا يتأتى في السجود، فإنه ثَمَّ استواء الظهر والعُنُق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي، حتى لو تساويا ففي بطلان الصلاة وجهان لأصحاب الشافعي.

ومما يقوي هذا الاحتمال أنه قد يفهم من قوله عقب ذلك: "ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب"، أنه كالتَّتِمَّة للأول، وأن الأول كالعلة له، فيكون الاعتدال الذي هو فعل الشيء على وفق الشرع علة لترك الانبساط انبساطَ الكلب، فإنه مناف لوضع الشرع، وقد تقدم الكلام في كراهة هذه الصفة، وقد ذكر في الحديث الحكم مقرونا بعلته، فإن التشبه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركه في الصلاة. ومثل هذا الشبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد التنفير عن الرجوع في الهبة، قال:"العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه". انتهى كلام ابن دقيق العيد

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

1110 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، ح وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ". اللَّفْظُ لإِسْحَاقَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت حجة [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(عبدة) بن سليمان الكلابي، أبو محمَّد الكوفي، ثقة ثبت، من صغار [8] تقدم 7/ 339.

3 -

(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدري البصري، ثقة [10] تقدم 42/ 47.

4 -

(خالد) بن الحارث الهُجَيمي البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

5 -

(سعيد) بن أبي عروبة مهْران البصري، ثقة ثبت يدلس، واختلط آخرا [6] تقدم 34/ 38.

6 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة الثبت [7] تقدم 42/ 46.

7 -

(قتادة) بن دعامة، أبو الخطاب البصري الإمام الحجة الثبت، لكنه يدلس، وقد

(1)

"إحكام الأحكام" ج 2 ص 355 - 356. بنسخة الحاشية.

ص: 335

صرح بالسماع هنا [4] تقدم 30/ 34.

8 -

(أنس) بن مالك الصحابي الخادم رضي الله عنه، تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم، بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه، وقد استوفيت شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في 89/ 1028 - حيث رواه المصنف رحمه الله تعالى هناك، عن شيخه سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، مستدلًا على مشروعية الاعتدال في الركوع.

وقوله: "اعتدلوا في السجود" أي توسطوا بين الافتراش والقبض بوضع الكفين على الأرض، ورفع المرفقين عنها، والبطن عن الفخذ، وهو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة، وأبعد من هيئة الكسالى.

وقد تقدم في أول الباب تفسير آخر، والتفسيران متقاربان.

وقوله: "انبساط الكلب" قال القرطبي رحمه الله: هو مصدر على غير لفظ الفعل، وفعله ينبسط، لكن لما كان انبسط من بسط جاء المصدر عليه، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17] انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب".

‌144 - (بَابُ إِقَامَةِ الصُّلْبِ فِي السُّجُودِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الصلب" بضم، فسكون، وبضم اللام أيضًا، وبالتحريك: من لدن الكاهل إلى العَجْب. وتقدم الكلام عليه مستوفى في [باب إقامة الصلب في الركوع].

والمراد بإقامة الصلب هنا الطمأنينة وعدم الاستعجال، بل يثبت ساجدا حتى يستقر صلبه في موضعه، وحتى تستقرّ سائر مفاصله في مواضعها. والله تعالى أعلم بالصواب.

1111 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ،: أَنْبَأَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ- عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا

ص: 336

تُجْزِئُ صَلَاةٌ، لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(علي بن خَشْرم المروزي) ثقة، من صغار [10] تقدم 8/ 8.

2 -

(عيسى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، ثقة مأمون [8] تقدم 8/ 8.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْران الكوفي الإمام الحافظ الحجة [5] تقدم 17/ 18.

4 -

(عُمَارة) بن عُمَير التيمي الكوفي، ثقة ثبت [4] تقدم 49/ 608.

5 -

(أبو معمَر) عبد الله بن سَخْبَرة الكوفي، ثقة [2] تقدم 23/ 807.

6 -

(أبو مسعود) البدري عقبة بن عمرو الصحابي رضي الله تعالى عنه، تقدم 6/ 494.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي مسعود رضي الله تعالى عنه هذا حديث صحيح، وتقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في 88/ 1027 حيث رواه المصنف رحمه الله تعالى هناك عن شيخه قتيبة بن سعيد، عن الفُضَيل بن عياض، عن الأعمش، مستدلاّ به على إقامة الصلب في الركوع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌145 - (بَابُ النَّهْي عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على النهي عن نقرة الغراب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "النقرة" بفتح، فسكون-: المرة من النَّقْر، قال في "الخلاصة":

وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كجَلْسَهْ

وَفِعْلَةٌ لِهَيئَةٍ كَجِلْسَهْ

يقال: نَقَرَ الطائر الحبَّ نَقْرًا، من باب قَتَلَ: التقطه. ونَقَرَ في صلاته نقْرَ الدِّيك: إذا أسرع فيها، ولم يتم الركوع والسجود. قاله في "المصباح"

(1)

.

و"الغُرَاب" بضم الغين المعجمة، وتخفيف الراء المهملة: الطائر الأسود، والجمع

(1)

ص 621.

ص: 337

أَغْرِبَةٌ، وأَغْرُب، وغِرْبانٌ، وغُرُب، قال الشاعر:

وَأَنْتُمْ خِفَافٌ مِثْلُ أَجْنِحَةِ الْغُرُبْ

وغَرَابِين: جمع الجمع. والعرب تقول: فلان أبصر من غراب، وأحذر من غراب، وأزهى من غراب، وأصفى عيشًا من غراب، وأشد سوادا من غراب، وإذا نعتوا أرضًا بالخِصْب، قالوا: وَقَعَ في أرض لا يطير غرابها، ويقولون: وجد تَمْرَةَ الغراب، وذلك أنه يتبع أجود التمر، فيَنتَقِيه، ويقولون: أشأم من غراب، وأفسق من غراب، ويقولون: طار غراب فلان: إذا شاب رأسه. ذكره في "لسان العرب"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

1112 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ تَمِيمَ بْنَ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شِبْلٍ، أَخْبَرَهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَلَاثٍ، عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ، وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمُقَامَ لِلصَّلَاةِ، كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم) المصري الفقيه، ثقة [11] تقدم 120/ 166.

2 -

(شعيب) بن الليث بن سعد، أبو عبد الملك المصري، ثقة نبيل فقيه، من كبار [10] تقدم 120/ 166.

3 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن، أبو الحارث الإمام الحجة الفقيه الثبت [7] تقدم 31/ 35.

4 -

(خالد بن يزيد) الجُمَحِيّ، أبو عبد الرحيم المصري، ثقة فقيه [6] تقدم 41/ 686.

5 -

(ابن أبي هلال) هو سعيد الليثي مولاهم، أبو العلاء المصري، صدوق [6] تقدم 41/ 686.

6 -

(جعفر بن عبد الله) بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري، والد عبد الحميد، وقيل: إن رافع بن سنان جده لأمه، ثقة [3].

روى عن جده رافع، وعمه عمر بن الحكم، وأنس، وغيرهم. وعنه ابنه يزيد، وسعيد بن أبي هلال، ويزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد، وغيرهم. قال النسائي: مدني ثقة

(2)

. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب حديثان: هذا (1112) وحديث رقم (3862).

(1)

ج 5 ص 3229.

(2)

ذكره في هامش "تهذيب الكمال" ج 5 ص 65 نقلا عن مغلطاي.

ص: 338

7 -

(تميم بن محمود) فيه لين [4].

روى عن عبد الرحمن بن شبل هذا الحديث. وعنه جعفر بن عبد الله بن الحكم. قال البخاري: في حديثه نظر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأخرج هو، وابن خزيمة، والحاكم حديثه هذا في صحاحهم. وذكره العقيلي، والدولابي، وابن الجارود في الضعفاء. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. أخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

8 -

(عبد الرحمن بن شِبْل) -بكسر المعجمة، وسكون الموحدة- ابن عمرو بن زيد بن نجدة بن مالك بن لوذان بن عمرو بن عوف بن عبد عوف بن مالك بن الأوس، الأنصاري الأوسي، له صُحبة، وبنو مالك بن لوذان كان يقال لهم في الجاهلية: بنو الصّمّاء، وهي امرأة من مُزَينة، أرضعت أباهم مالك بن لوذان، فسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني السَّمِيعَة، نزل الشام، وكان أحد نقباء الأنصار، وفقهائهم.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه تميم بن محمود، وأبو راشد الحُبْرَاني، ويزيد بن خُمَير، وأبو سلام الأسود، وابن له غير مسمى. قال ابن سعد: كان له ثلاثة بنين، عزيز، ومسعود، وموسى، وبنت تسمى جميلة. وذكره عبد الصمد بن سعيد القاضي فيمن نزل حِمصَ من الصحابة، وحكاه عن محمَّد بن عوف، وعن أبي زرعة الدمشقي، قال: نزل الشام، ومات في إمارة معاوية بن أبي سفيان. وقال أبو راشد الحُبْرَاني: كنا مع معاوية بمسكن، فبعث إلى عبد الرحمن بن شِبْل إنك من أقدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفقهائهم، فقم في الناس، وعظهم. رواه الجُوزَجاني في تاريخه. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من ثمانيات المصنف، وأن رجاله ثقات، غير تميم بن محمود، فلين، وأنه مسلسل بالمصريين إلى سعيد بن أبى هلال، وجعفر مدني، ولعل تميما مدني، والصحابي مدني، ثم حمصي، وأن تميما ليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث الواحد، وأن صحابيه من المقلين، ليس له في الكتب الستة إلا حديثان، حديث الباب، وحديث النهي عن أكل لحم الضب عند أبي داود. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن تميم بن محمود (أن عبد الرحمن بن شبل) رضي الله تعالى عنه (أخبره) أي تميما

ص: 339

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثلاث) أي ثلاث خصال، فتذكير العدد باعتبار الخصال (عن نقرة الغراب) بدل من الجار والمجرور قبله. بدل تفصيل من مجمل

و"نقرة الغراب": كناية عن الإسراع في الركوع والسجود والرفع منهما بحيث لا يطمئنّ الاطمئنان المجزىء.

وقال في "النهاية": يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منْقَاره فيما يريد أكله. انتهى.

(وافتراش السبع) بالجر عطف على "نقرة الغراب"، أي ونهى صلى الله عليه وسلم عن افتراش السبع. و"الافتراش". افتعال من الفرش، وهو البسط.

و"السبع" بضم الباء: معروف، وإسكان الباء لغة، حكاها الأخفش وغيره، وهي الفاشية عند العامّة، ولهذا قال الصغاني: السَّبُعُ والسَّبْع لغتان، وقرىء بالإسكان في قوله تعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] وهو مروي عن الحسن البصري، وطلحة بن سليمان، وأبي حَيْوَةَ، ورواه بعضهم عن عبد الله بن كثير، أحَدِ السبعة. ويجمع في لغة الضم على سِبَاع، مثل رَجُل ورجال، لا جمع له غير ذلك على هذه اللغة. قال الصَّغَاني: وجمعه على لغة السكون في أدنى العدد: أَسْبُع، مثل فَلْس وأفلس، وهذا كما خفف ضَبْعٌ، وجمع على أضبُع.

ويقع السبع على كل ما له ناب يَعْدُو به، ويفترِس، كالذئب، والفهد، والنمر، وأما الثعلب، فليس بسبع، وإن كان له ناب، لأنه لا يعدو به، ولا يفترس، وكذلك الضبع. قاله الأزهري. أفاده في "المصباح"

(1)

.

ومعنى "افتراش السبع": أن يبسط ذراعيه في السجود، ولا يرفعهما عن الأرض، كما يبسط السبع والكلب، والذئب ذراعيه. ووجه الحكمة في النهى عنه أنه يشبه هيئة الكسلان، والكسل في الصلاة من صفات المنافقين، كما قال الله تعالى:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} الآية [النساء: 142].

(وأن يوطن) من التوطين، أو الإيطان، يقال: أوطن الأرض، ووطَّنَها واستوطنها: اتخذها وَطَنًا. والوطن بفتحتين، وتسكن طاؤه: مكان الإنسان، ومَقَرّه، وجمعه أوطان، مثل سبب وأسباب. أفاده في "ق"، و"المصباح".

(الرجل) بالرفع على الفاعلية (المقام) بفتح الميم، وضمها: مكان الإقامة، وهو منصوب على المفعولية (للصلاة) متعلق بـ"يوطن"(كما يوطن البعير) أي مثلما يتخذ

(1)

"المصباح" ص 264.

ص: 340

البعير موطِنا، يبرُك فيه.

و"أن" وما دخلت عليه في تأويل المصدر عطف على "نقرة الغراب".

والمعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتخذ الرجل لنفسه مكانا معينا من المسجد، لا يصلي إلا فيه، كالبعير لا يبرك إلا في مَبْرَك اعتاده في عَطَنه.

قيل: الحكمة في النهي عنه أنه يؤدي إلى الشهرة والرياء والسمعة، والتقيد بالعادات، والحظوظ والشهوات، وكل هذه آفات يتعين البعد عنها كلَّ البعد.

وقال في "النهاية": قيل: معناه أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد مخصوصا به، يصلي فيه، كالبعير، لا يأوي من عَطَن إلا إلى مَبْرَك دَمِث، قد أوطنه، واتخذه مُنَاخًا. وقيل: معناه أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود، مثل بروك البعير. انتهى

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: التفسير الثاني غير موافق للفظ الحديث، كما قاله السندي رحمه الله تعالى. فقد وقع عند ابن ماجه بلفظ:"وأن يوطن الرجل المكان الذي يصلي فيه كما يوطن البعير". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته؛

حديث عبد الرحمن بن شِبْل رضي الله تعالى عنه هذا صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وفي سنده تميم بن محمود، وهو ضعيف كما تقدم في ترجمته، وقد تفرد به عن عبد الرحمن، ففي تصحيحه نظر.

وحسنه الشيخ الألباني، وقال: يشهد له ما أخرجه أحمد جـ 5/ 447 - بسنده عن عثمان البَتِّيّ، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نقرة الغراب، وعن فَرْشَة السبع، وأن يوطن الرجل مقامه في الصلاة كما يوطن البعير".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه عبد الحميد بن سلمة مجهول، كما في "التقريب".

لكن يشهد للجزء الأول والثاني منه حديث أنس المتقدم قبل باب، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد جـ 2/ ص 311 - قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث، ونهاني عن ثلاث: أمرني بركعتي الضحى كل يوم، والوتر قبل النوم، وصيام

(1)

ج 5 ص 204.

ص: 341

ثلاثة أيام من كل شهر، ونهاني عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب".

وأخرج أيضا في ج 2/ 265 - قال: ثنا محمَّد بن فضيل، ثنا يزيد بن أبي زياد، حدثني من سمع أبا هريرة رضي الله عنه، نحوه. ويزيد ضعيف، لكن الأحاديث يتقوى بعضها ببعض.

والحاصل أن الجزء الأول والثاني صحيح بشواهده، وأما الجزء الثالث، وهو توطين المقام ففي تصحيحه نظر. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -145/ 1112 - وفي "الكبرى" -50/ 696 - عن محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن جعفر بن عبد الله، عن تميم بن محمود، عنه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) في "الصلاة" عن أبي الوليد الطيالسي، وقتيبة، كلاهما عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر بن عبد الله به.

(ق) فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع- وعن أبي بشر بن خلف، عن يحيى ابن سعيد- كلاهما عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه جعفر بن عبد الله بن الحكم به.

وأخرجه (أحمد) 3/ 428 و 444 و (الدارمي) رقم 1329 (وابن خزيمة) 662 و 1319 (وابن حبان)2277. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): النهي عن الإسراع في السجود حتى تكون السجدة كنقرة الغراب (ومنها): النهي عن افتراش الذراعين كافتراش السبع (ومنها): النهي عن استيطان المكان للصلاة، كاستيطان البعير المكان للبروك.

قال العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى: واعلم أنه قد نهي عن التشبه بالحيوانات في الصلاة، سواء كانت خسيسة، أو شريفة، فنهي عن الإشارة بالأيدي كأذناب الخيل الشُّمْس، ونهي في السجود عن نقرة كنقرة الغراب، ونهي في السلام عن التفات كالتفات الثعلب، ونهي عن الإقعاء كإقعاء الكلب، وعن بروك كبروك الجمل، ومما يتعلق بالصلاة، وهو خارج عنها النهي عن إيطان المصلي في المسجد مكانا واحدا كإيطان البعير. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

العدة حاشية العمدة ج 2 ص 356.

ص: 342

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌146 - (بَابُ النَّهْي عَنْ كَفَّ الشَّعْرِ فِي السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على النهي عن كفّ الشعر في حال السجود. والمراد بكف الشعر ضمه في السجود، تحرّزا عن التراب.

وموضع الاستدلال من الحديث واضح.

1113 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَرَوْحٌ -يَعْنِي ابْنَ الْقَاسِمِ- عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ، وَلَا أَكُفَّ شَعْرًا، وَلَا ثَوْبًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حميد بن مسعدة البصري) صدوق [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(يزيد بن زريع) البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 5/ 5.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] تقدم 24/ 26.

4 -

(روح بن القاسم) التميمي العنبري، أبو غياث البصري، ثقة حافظ [6] تقدم 112/ 155.

5 -

(عمرو بن دينار) الجمحي، أبو محمَّد الأثرم المكي، ثقة ثبت [4] تقدم 112/ 154.

6 -

(طاوس) بن كيسان الحميري مولاهم، أبو عبد الرحمن اليماني، ثقة فقيه فاضل [3] تقدم 27/ 31.

7 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله تعالى عنهما، تقدم 27/ 31. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه، وقد تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في 130/ 1093 - حيث رواه هناك عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن عمرو، مستدلًّا به على بيان عدد أعضاء السجود، فإن

ص: 343

أردت الاستفادة فراجعه هناك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌147 - (بَابُ مَثَلِ الَّذِي يُصَلِّي، وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ)

وقع في نسخة: "وهو معقوص".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على صفة الشخص الذي يصلي مربوطَ الشعر على رأسه كفعل النساء.

و"باب" مضاف، و"مثل" مضاف إليه، وجملة "ورأسه معقوص" في محل نصب على الحال من فاعل "يصلي" ربط بالواو والضمير، كما قال في "الخلاصة":

وَجُمْلَةُ الحَالِ سوَى مَا قُدِّمَا

بِوَاوِ اوْ بِمُضمَرِ أَوْ بِهمَا

و"المثل" بالكسر، وبالتحريك، وكأمير: الشِّبْهُ، جمعه "أمثال" قاله في "ق". والله تعالى أعلم بالصواب.

و"المعقوص" اسم مفعول، من عَقَصَ شعره يعقِصه، من باب ضرب: ضَفَرَه، وفَتَلَه. قاله في "ق" أيضا. وقال الفيومي: العَقِيصَة: للمرأة الشعر يُلْوَى، وُيدخَل أطرافه في أصوله، والجمع: عقائص، وعِقَاص، والْعِقْصَةُ مثلُهَا. انتهى

(1)

.

1114 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو السَّرْحِيُّ، مِنْ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ، أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ، يُصَلِّي، وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ، مِنْ وَرَائِهِ، فَقَامَ، يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا لَكَ، وَرَأْسِي؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي، وَهُوَ مَكْتُوفٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو السَّرْحي، من وُلْد عبد الله ابن سعد بن أبي

(1)

"المصباح" ص 422.

ص: 344

سَرْح) أبو محمَّد المصري، ثقة [11] تقدم 45/ 594.

[تنبيهان]:

(الأول): قوله: "من ولد عبد الله" ضُبِط بالقلم لفظ "ولد" في بعض النسخ بضم الواو، وسكون اللام، وفي بعضها بفتحهما، وكلاهما صحيح.

قال الفيومي رحمه الله: الوَلَد بفتحي: كلُّ ما ولده شيء، ويطلق على الذكر والأنثى، والمثنّى والمجموع، فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ، وهو مذكر، وجمعه أولاد، والوُلْد وزان قُفْل لغة فيه، وقيسٌ تجعل المضموم جمعَ المفتوح، مثل أُسْدٍ جمع أَسَد. انتهى

(1)

.

(الثاني): قوله: "من ولد عبد الله بن سعد" الخ: أي إن عمرو بن سوّاد هذا من أحفاد عبد الله بن سعد، لأنه عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو بن محمَّد بن عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، بفتح السين المهملة، وسكون الراء المهملة، وبعدها حاء مهملة.

وعبد الله بن سعد هذا صحابي مشهور، وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن حُبَيب -بالمهملة مصغرا- ابن حذافة بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي القرشي العامري، وقيل: غير ذلك في نسبه، أبو يحيى، كان أخا عثمان بن عفّان رضي الله عنهما من الرضاعة. وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فأزلّه الشيطان، فارتدّ، ولحق بالكفار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان، فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي افتتح إفريقية زمن عثمان، وولي مصر بعد ذلك سنة خمس وعشرين، ومات سنة تسع وخمسين في آخر عهد معاوية رضي الله عنهما.

وسبب موته أنه خرج إلى الرَّمْلَة، فلما كان عند الصبح، قال: اللَّهم اجعل آخر عملي الصبح، فتوضأ، ثم صلى، فسلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره، فقبض الله روحه. رضي الله عنه، أخرجه البغوي بسند صحيح. انتهى ملخصا من "الإصابة" جـ 6 ص 100 - 102.

2 -

(ابن وهب) عبد الله، أبو محمَّد المصري، ثقة حافظ عابد [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(عمرو بن الحارث) الأنصاري مولاهم، أبو أيوب المصري، ثقة فقيه حافظ [7] تقدم 63/ 79.

4 -

(بكير) بن عبد الله بن الأشجّ المدني، نزيل مصر. ثقة [5] تقدم 135/ 211.

5 -

(كريب) بن أبي مسلم، أبو رِشْدِين المدني، مولى ابن عباس، ثقة [3] تقدم 161/ 253.

(1)

"المصباح"671.

ص: 345

6 -

(عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما، تقدم 27/ 31.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى (ومنها): أن رجاله ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاري، والترمذي (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى كريب، فإنه، ومولاه مدنيان (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي (ومنها): أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، وقد تقدم غير مرّة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن عباس) رضي الله تعالى عنهما (أنه رأى عبد الله بن الحارث) بن أبي ربيعة

(1)

ولفظ أحمد رحمه الله جـ 1 ص 316 من طريق حجاج، عن الليث: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرّ بعبد الله بن الحارث بن أبي ربيعة، وهو يصلي مضفور الرأس معقودا من ورائه، فوقف عليه، فلم يبرح يحلّ عقد رأسه، فأقرّ له عبد الله بن الحارث حتى فرغ من حَلّه، ثم جلس، فلما فرغ ابن الحارث من الصلاة أتاه، فقال: علامَ صنعت برأسي ما صنعت آنفا؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"مثل الذي يصلي، ورأسه معقود من ورائه، كمثل الذي يصلي مكتوفًا".

(يصلي) جملة حالية من المفعول، أي حال كونه مصليا (ورأسه معقوص) وفي نسخة:"وهو معقوص"، والعَقْص: جمع الشعر وسط رأسه، أو لفّ ذوائبه حول رأسه، ونحو ذلك، كفعل النساء. وتقدم ما نقل عن "ق" و"المصباح" أول الباب، والجملة في محل نصب أيضا حال، وهي من الأحوال المتداخلة، إن كانت من فاعل "يصلي"، أو المترادفة، إن كانت من المفعول.

(من ورائه) متعلق بـ"معقوص"(فقام) أي ابن عباس رضي الله عنهما (فجعل يحله) زاد في رواية أبي داود: "وأقره الآخر".

و"جعل" من أفعال الشروع، ترفع المبتدأ، وتنصب الخبر، وخبرها يكون جملة مضارعية، وهو هنا قوله:"يحله"، وهو بضم الحاء المهملة، يقال: حَلَّ العُقْدةَ، من باب قتل: إذا نقضها.

والمعنى أن ابن عباس رضي الله عنهما شرع ينقض عقص شعر عبد الله بن الحارث.

(1)

هكذا نسبه أحمد في "مسنده" ج 1 ص 316.

ص: 346

(فلما انصرف) أي سلم عبد الله بن الحارث من صلاته (أقبل إلى ابن عباس) رضي الله عنهما، مستفسرا سبب نقض عقصه (فقال: مالك، ورأسي؟) "ما" استفهامية مبتدأ، والجار والمجرور خبرها، وقوله:"ورأسي" الواو فيه واو المعية، و"رأسي" منصوب على أنه مفعول معه.

أي أْيُّ شيء ثبت لك مع رأسي، حتى تحلّ عقصه؟. والله تعالى أعلم.

(قال) أي ابن عباس مبينا دليله على ما صنع (إني) وفي نسخة بحذف "إني"(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما مثل هذا) أي صفة من يصلي معقوصا. فـ"مثل" مبتدأ، خبره "مثل" الآتي.

وفي رواية أحمد المتقدمة: "مثل الذي يصلي، ورأسه معقود من ورائه". . .

(مثل الذي يصلي، وهو مكتوف) أي مربوطة يداه بحبل ونحوه، ومشدودة إلى خلفه. وهو اسم مفعول، من كتَفْتُهُ كَتْفًا، من باب ضرب، وَكِتَافًا بالكسر: إذا شَدَدْتَ يديه إلى خلف كتِفَيه، مُوثَقًا بحبل ونحوه، وكَتَّفْتُهُ بالتشديد مبالغةٌ. أفاده في "المصباح".

قال ابن الأثير رحمه الله تعالى في معنى هذا الحديث: ما نصّه: أراد أنه إذا كان شعره منشورًا سقط على الأرض عند السجود، فيعطى صاحبه ثوَابَ السجود به، وإذا كان معقوصًا صار في معنى ما لم يسجد، وشَبَّهَه بالمكتوف، وهو المشدود اليدين، لأنهما لا يقعان على الأرض في السجود. انتهى

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -147/ 1114 - وفي "الكبرى" -55/ 701 - عن عمرو بن سوّاد، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن كريب، عنه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) في "الصلاة" عن عمرو بن سوّاد به. (د) فيه عن محمَّد بن سلمة، عن ابن وهب به.

(1)

"النهاية" ج 3 ص 275 - 276.

ص: 347

وأخرجه (أحمد) 1/ 304 و 316. (والدارمي) برقم 1388 (وابن خزيمة) 910. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): كراهة السجود معقوص الشعر (ومنها): الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن ذلك لا يُؤَخَّرُ، ولذا لم يؤخره ابن عباس رضي الله عنهما حتى يفرغ من الصلاة (ومنها): أن المكروه ينكر كما ينكر المحرَّمُ (ومنها): أن من رأى منكرا، وأمكنه تغييره بيده غَيَّرَه بها، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، مرفوعا:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده". . . الحديث (ومنها): قبول خبر الواحد. قاله النووي رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الموضع والمآب.

(المسألة الخامسة): في أقوال أهل العلم فيمن صلى معقوص الشعر:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: كَرهَ أن يصلي الرجل، وهو عاقص شعره عليُّ بن أبي طالب، وابنُ مسعود، وحذيفة. وقال عطاء: لا يكف الشعر عن الأرض. وكره ذلك الشافعي، وكان ابن عباس إذا سجد يقع شعره على الأرض.

واختلفوا فيما يجب على من فعل ذلك، فكان الشافعي، وعطاء يقولان: لا إعادة عليه، وكذلك أحفظ عن كل من لقيته من أهل العلم غير الحسن البصري، فإنه كره ذلك، وقال: عليه إعادة تلك الصلاة. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(2)

.

وقال النووي رحمه الله تعالى: اتفق العلماء على النهي عن الصلاة، وثوبه مشمَّر، أو كمه، أو نحوه، أو رأسه معقوص، أو مردود شعره تحت عمامته، أو نحو ذلك، فكل هذا منهي عنه باتفاق العلماء، وهو كراهة تنزيه، فلو صلى كذلك، فقد أساء، وصحت صلاته، واحتج في ذلك أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بإجماع العلماء.

وحكى ابن المنذر الإعادة فيه عن الحسن البصري.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: في قوله: "كراهة تنزيه" نظر لا يخفى، إذ لا صارف له عن، التحريم، وما ادعاه ابن جرير من الإجماع غير صحيح، لما ذكر من خلاف الحسن، فالظاهر أن النهي للتحريم. والله تعالى أعلم.

قال: ثم مذهب الجمهور أن النهي لمن صلى كذلك مطلقًا، سواء تعمده للصلاة، أم كان قبلها كذلك، لا لها، بل لمعنى آخر. وقال الداودي: يختص النهي بمن فعل ذلك للصلاة، والمختار الصحيح هو الأول، وهو ظاهر المنقول عن الصحابة وغيرهم،

(1)

"شرح مسلم" ج 4 ص 209.

(2)

"الأوسط" ج 3 ص 183 - 184.

ص: 348

ويدل له فعل ابن عباس رضي الله عنهما المذكور هنا.

قال العلماء: والحكمة في النهي عنه أن الشعر يسجد معه، ولهذا مثّلَه بالذي يصلي، وهو مكتوف. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(1)

.. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌148 - (النَّهْيُ عَنْ كَفِّ الثِّيَابِ فِي السُّجُودِ)

1115 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَنُهِيَ أَنْ يَكُفَّ الشَّعْرَ، وَالثِّيَابَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمَّد بن منصور المكي) الجوّاز، ثقة [10] تقدم 20/ 210.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت [8] تقدم 1/ 1.

والباقون تقدموا قبل باب، وكذا الكلام على الحديث تقدم هناك وهو حديث متفق عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌149 - (بَابُ السُّجُودِ عَلَى الثِّيَابِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على جواز السجود على الثياب، سواء كانت متصلة بالمصلي، أو منفصلة عنه، وسيأتي اختلاف أهل العلم في ذلك في المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى.

(1)

"شرح مسلم" ج 4 ص 209.

ص: 349

1116 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -هُوَ السَّلَمِيُّ- قَالَ: حَدَّثَنِي غَالِبٌ الْقَطَّانُ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالظَّهَائِرِ سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا، اتِّقَاءَ الْحَرِّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي، راوية ابن المبارك، لقبه الشاهْ، ثقة [10] تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) الحنظلي، أبو عبد الرحمن المروزي الإمام الحافظ الحجة الثبت الفقيه [8] تقدم 32/ 36.

3 -

(خالد بن عبد الرحمن) بن بكير السلمي، أبو أمية البصري، صدوق يخطىء [8].

روى عن الحسن البصري، وغالب القطان، ونافع، وابن سيرين. وعنه ابن المبارك، وابن مهدي، ووكيع، وإسرائيل، وبشر بن المفضل، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق، لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يخطىء. وقال العقيلي: يخالف في حديثه. وقال الحاكم، عن الدارقطني: لا بأس به. أخرج له البخاري، والترمذي، والمصنف، وله عندهم حديث الباب فقط.

4 -

(غالب) بن خُطَاف بضم المعجمة، وقيل: بفتحها، وتشديد الطاء- ابن أبي غيلان القطان أبو سليمان البصري، مولى ابن كريز، وقيل: مولى بني تميم، وقيل: غير ذلك، صدوق [6].

روى عن أنس، فيما قيل، ومحمد بن سيرين، والحسن، وبكر بن عبد الله المزني، وغيرهم. وعنه شعبة، وابن علية، وخالد بن عبد الرحمن السلمي، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال عمار بن عمر بن المختار، عن أبيه: حدثنا غالب القطان، وكان والله من خيار الناس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال ابن عدي بعد أن ساق له أحاديث: الضعف على أحاديثه بين، وفي حديثه النكرة، ثم أورد له حديثا منكرا، العمل فيه على الراوي عنه، عمر بن المختار. وقال الذهبي: لعل الذي ضعفه ابن عديّ آخر.

أخرج له الجماعة، له عند مسلم، والمصنف حديث الباب فقط.

[تنبيه]: "خطّاف" ضبطه أحمد بالفتح، وابن المديني، وابن معين بالضم.

و"القطان": نسبة إلى بيع القطن. كما في "اللب" جـ 2 ص 183.

5 -

(بكر بن عبد الله المزني) أبو عبد الله البصري، ثقة ثبت نبيل [3] تقدم 87/ 107.

ص: 350

6 -

(أنس) بن مالك الصحابي الخادم الشهير رضي الله عنه تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والترمذي، وخالد بن عبد الرحمن، فما أخرج له مسلم، وأبو داود، وابن ماجه (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير سويد، وابن المبارك، فمروزيان (ومنها): أن فيه أنسا أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظهائر) جمع ظهيرة، وهي شدة الحرّ نصفَ النهار، ولا يقال في الشتاء: ظهيرة

(1)

.

(سجدنا على ثيابنا) قال في "الفتح": والثوب في الأصل يطلق على غير المخيط، وقد يطلق على المخيط مجازا. انتهى

(2)

.

ثم إن الظاهر أن المراد بالثياب الثيابُ التي هم لابسوها، ضرورةَ أن الثياب في ذلك الوقت قليلة، فمن أين لهم ثياب فاضلة؟، فهذا يدلّ على جواز أن يسجد المصلي على ثوب، هو لابسه، كما عليه الجمهور. أفاده السندي رحمه الله تعالى

(3)

.

(اتقاء الحرّ) منصوب على أنه مفعول لأجله، كما قال في "الخلاصة":

يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ المَصْدَرُ إن

أَبَانَ تَعْيلًا كَجُدْ شُكْرًا وَدِنْ

أي لأجل اتقاء حرارة الأرض. وفيه جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي، وإن لم يتحرك بحركته، وهو المذهب الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

(1)

"لسان العرب" ج 4 ص 2769.

(2)

"فتح" ج 2 ص 49.

(3)

"شرح السندي" ج 2 ص 216.

ص: 351

أخرجه هنا -149/ 1116 - وفي "الكبرى" -57/ 703 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن خالد بن عبد الرحمن السلمي، عن غالب القطان، عن بكر بن عبد الله المزني، عنه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) عن أبي الوليد، ومسدد، كلاهما عن بشر بن المفضل، عن غالب القطان به. وعن محمَّد بن مقاتل، عن ابن المبارك به. (م) عن يحيى بن يحيى، عن بشر ابن المفضل به. (د) عن أحمد بن حنبل، عن بشر به (ت) عن أحمد بن محمَّد، عن ابن المبارك به. (ق) عن إسحاق ابن إبراهيم بن حبيب، عن بشر بن المفضل به.

(أحمد) 3/ 100 (الدارمى) رقم 1343 (ابن خزيمة)675. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): جواز استعمال الثياب وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض، لاتقائه بذلك حرّ الأرض وكذا بردها.

(ومنها): أن مباشرة ما باشر الأرض بالجبهة واليدين هو الأصل؛ لأنه علّق بسط الثوب بعدم الاستطاعة، وذلك يُفهم منه أن الأصل والمعتاد عدم بسطه. قاله ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى.

(ومنها): جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي. قال النووي رحمه الله: وبه قال أبو حنيفة، والجمهور، وحمله الشافعي على الثوب المنفصل. انتهى.

قال في "الفتح". وأيد هذا العمل البيهقيُّ بما رواه الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "فيأخذ أحدنا الحصى في يده، فإذا برد وضعه، وسجد عليه". قال: فلو جاز السجود على شيء متصل به لما احتاجوا إلى تبريد الحصى مع طول الأمر فيه.

وتعقب باحتمال أن يكون الذي كان يبرد الحصى لم يكن في ثوبه فضلة، يسجد عليها، مع بقاء سترته له. انتهى

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: يحتاج من استدلّ به على الجواز إلى أمرين:

(أحدهما): أن تكون لفظة "ثوبه" دالّة على المتصل به، إما من حيث اللفظ، أو من أمر خارج عنه، ونعني بالخارج قلة الثياب عندهم. ومما يدلّ عليه من جهة اللفظ قوله:"بسط ثوبه، فسجد عليه" يدلّ على أن البسط معَقّب بالسجود عليه، لدلالة الفاء على ذلك ظاهرًا.

(1)

"فتح" ج 2 ص 49.

ص: 352

(الثاني): أن يدلّ الدليل على تناوله لمحل النزاع، إذ من منع السجود على الثوب المتصل به يشترط في المنع أن يكون متحركا بحركة المصلي، وهذا الأمر الثاني سهل الإثبات، لأن طول ثيابهم إلى حيث لا تتحرك بالحركة بعيد. انتهى كلام ابن دقيق رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول أن استدلال من استدل بهذا الحديث على جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي الذي يتحرك بحركته ظاهر، إذ تعقيبه بالفاء التعقيبية في قوله:"بسط ثوبه، فسجد عليه" كما في رواية مسلم ظاهر في ذلك، ويؤيد ذلك قلة ثيابهم، ويؤيده أيضا بُعْدُ حمله على غير المتحرك بحركته، لأن طول ثيابهم بهذا القدر لعيد كلّ البعد.

والحاصل أن مذهب الجمهور هو الراجح لظهور دليله. والله تعالى أعلم.

(ومنها): جواز العمل القليل في الصلاة، ومراعاة الخشوع فيها، لأن الظاهر أن صنيعهم هذا لإزالة التشويش العارض من حرارة الأرض.

(ومنها): تقديم الظهر في أول الوقت، لكن يعارض هذا ما ورد من الأحاديث في الأمر بالإبراد.

قال في "الفتح": فمن قال: الإبراد رخصة، فلا إشكال، ومن قال: سنة، فإما أن يقول: التقديم المذكور رخصة، وإما أن يقول: منسوخ بالأمر بالإبراد.

وأحسن منهما أن يقال: إن شدة الحرّ قد توجد مع الإبراد، فيحتاج إلى السجود على الثوب، أو إلى تبريد الحصى؛ لأنه قد يستمرّ حره بعد الإبراد، وتكون فائدة الإبراد وجود ظل يُمشَى فيه إلى المسجد، أو يُصَلَّى فيه في المسجد، أشار إلى هذا الجمع القرطبي، ثم ابن دقيق العيد رحمهما الله تعالى، وهو أولى من دعوى تعارض الحديثين. انتهى

(2)

.

(ومنها): أن قول الصحابي: "كنا نفعل كذا" من قبيل المرفوع، لاتفاق الشيخين على تخريج هذا الحديث في "صحيحيهما"، بل ومعظم المصنفين، لكن قد يقال: إن في هذا زيادة على مجرد الصيغة، لكونه في الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يرى فيها مَنْ خلفه كما يرى مَنْ أَمَامه، فيكون تقريره فيه مأخوذا من هذه الطريق، لا من مجرد صيغة "كنا نفعل". قاله في "الفتح"

(3)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"إحكام الأحكام" ج 2 ص 507 - 509.

(2)

"فتح" ج 2 ص 49.

(3)

ج 2 ص 49.

ص: 353

(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء في جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم في سجود المرء على ثوبه في الحرّ والبرد، فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقول: إذا إشتدّ الحر، فليسجد على ثوبه، وقال عباس بن سهل: أدركت الناس في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه يضعون أيديهم على الثياب، يتقون بها حرّ الحصى.

وممن رخص في السجود على الثوب في الحرّ والبرد إبراهيم النخعي، والشعبي، ورخص طاوس، وعطاء في السجود على الثوب في الحرّ. وكان مالك بن أنس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأى لا يرون بأسا بالسجود على الثوب في الحر والبرد.

وكان الشافعي يقول: ولو سجد على جبهته، ودونها ثوب لم يجزه. إلا أن يكون جريحا، فيكون ذلك عذرا، وأحب أن يباشر براحتيه الأرض، فإن سترهما من حرّ، أو برد فسجد عليهما، فلا إعادة عليه.

قال ابن المنذر رحمه الله: أقول كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن تبعه من أهل العلم

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي رجحه الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى من جواز السجود على الثوب المتصل، سواء تحرك بحركة المصلي أم لا، هو الراجح عندي، لما تقدم في المسألة الرابعة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في السجود على كور العمامة:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: وأختلفوا في السجود على كور العمامة، فروي عن علي أنه قال: ليرفعها عن جبهته، ويسجد علي الأرض، وحسر عبادة بن الصامت العمامة عن جبهته، وكره السجود عليها ابن عمر.

وقال مالك: أحب أن يرفعها عن بعض جبهته حتى يمس بعض جبهته الأرض.

وقال الشافعي: لا يجوز السجود عليها. وقال أحمد: لا يعجبني إلا في الحرّ والبرد، وكذلك قال إسحاق.

ورخصت طائفة في السجود على كور العمامة، وممن رخص فيه الحسن البصري،

(1)

"الأوسط" ج 3 ص 177 - 178.

ص: 354

ومكحول، وعبد الرحمن بن يزيد. وكان شريح يسجد على برنسه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الراجح عندي قول من قال بجواز السجود على كور العمامة، لدلالة حديث أنس رضي الله تعالى عنه المذكور في الباب، ولما أخرجه البيهقي عن الحسن بسند صحيح:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجدون، وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على عمامته". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌150 - (بَابُ الأَمْرِ بِإِتْمام السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الأمر بإتمام السجود.

والمراد من الإتمام حصول الطمأنينة فيه بحيث يستقرّ كل عضو مكانه. والله تعالى أعلم بالصواب.

1117 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ. عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي فيِ رُكُوعِكُمْ، وَسُجُودِكُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت حجة [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(عبدة) بن سليمان الكلابي الكوفي، ثقة ثبت، من صغار [8] تقدم 7/ 339.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مِهران، أبو النضر البصري، ثقة ثبت، يدلس، واختلط بآخره، [6] تقدم 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة ثبت، يدلس [4] تقدم 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك الصحابي رضي الله تعالى عنه، تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم

(1)

"الأوسط" ج 3 ص 179 - 180.

ص: 355

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه، وتقدم للمصنف في 106/ 1054 - حيث أورده هناك عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد الهجيمي، عن شعبة، عن قتادة، مستدلًّا به على الأمر بإتمام الركوع، وتقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به هناك، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "فإني لأراكم من خلف ظهري" وفي بعض النسخ إسقاط لفظة "من".

وتقدم هناك أيضًا اختلاف العلماء في معنى رؤيته صلى الله عليه وسلم من وراء ظهره، وأن الراجح أنه رؤية حقيقية، ولا نعلم كيفيتها، هل هي بباصرته الأَمَامية، أو بشيء آخر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌151 - (بَابُ النَّهْي عَنِ الْقِراءَةِ فيِ السُّجُودِ)

1118 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: أَنْبَأَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه، قَالَ: نَهَانِي حِبِّي صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَلَاثٍ، لَا أَقُولُ: نَهَى النَّاسَ، نَهَانِي عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنِ الْمُعَصْفَرِ الْمُفَدَّمَةِ، وَلَا أَقْرَأُ سَاجِدًا، وَلَا رَاكِعًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أبو داود سليمان بن سيف) الحرّاني، ثقة حافظ [11] تقدم 103/ 136.

2 -

(أبو علي الحنفي) عُبَيد الله بن عبد المجيدالبصري، صدوق، لم يثبت أن يحيى ابن معين ضعفه [9].

روى عن عكرمة بن عمار، وإسرائيل، وداود بن قيس، ومالك، وهشام الدستوائي،

(1)

قوله: "سليمان بن سيف" سقط من بعض النسخ.

ص: 356

وغيرهم. وعنه ابن المديني، وبندار، والفلاس، وسليمان بن سيف، وغيرهم.

وثقه العجلي، والدارقطني، وابن قانع، وقال ابن معين، وأبو حاتم: ليس به بأس. وضعفه العقيلي. مات سنة (209). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث.

3 -

(عثمان بن عمر) بن فارس بن لقيط العبدي، أبو محمَّد، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو عديّ البصري، قيل: أصله من بخارى، ثقة [9].

روى عن ابن عون، وداود بن قيس، وإسرائيل، وغيرهم. وعنه أحمد، وإسحاق، وبندار، وسليمان بن داود، وغيرهم.

وثقه أحمد، وابن معين، وابن سعد، وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث. وقال أبو حاتم: صدوق، وكان يحيي بن سعيد لا يرضاه، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البخاري في "تاريخه": قال علي: احتج يحيى بن سعيد بكتاب عثمان بن عمر بحديثين عن أسامة، عن عطاء، عن جابر:"عرفة كلها موقف". مات سنة (209) في ربيع الأول. وقيل: (7) وقيل: (8). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

4 -

(داود بن قيس) الفرّاء الدّبّاغ، أبو سليمان المدني، ثقة فاضل [5] تقدم 96/ 120.

5 -

(إبراهيم بن عبد الله بن حُنَين) الهاشمي مولاهم، أبو إسحاق المدني، ثقة [3] تقدم 97/ 1041.

6 -

(عبد الله بن حنين) الهاشمي مولاهم المدني، ثقة [3] تقدم 97/ 1041.

7 -

(عبد الله بن عباس) الحبر البحر، رضي الله عنه، تقدم 27/ 31.

8 -

(علي بن أبي طالب) أبو الحسن الهاشمي الخليفة الثالث رضي الله عنه، تقدم 74/ 91.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث علي رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنف رحمه الله تعالى في 97/ 1040 - من رواية عَبيدة السلماني، عن علي رضي الله عنه، و 1041 و 1042 من رواية ابن عباس، عن علي رضي الله عنهم. و 1043 و 1044 من رواية عبد الله بن حنين عن علي رضي الله تعالى عنه، استدلّ به هناك على "النهي عن القراءة في الركوع". وقد مر هناك شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها هنا.

وقوله: "قال أبو علي" الخ: بيان لاختلاف شيخيه في صيغة الأداء، فأبو علي الحنفي عبر بقوله:"حدثنا داود بن قيس"، وعثمان بن عمر عبر بقوله:"أنبأنا داود بن قيس". وهذا من احتياطات المحدثين، وورعهم، حيث يراعون اختلاف ألفاظ الشيوخ، وإن لم

ص: 357

يختلف المعنى.

وقوله: "داود بن قيس" تنازعه الفعلان قبله، فاختار البصريون إعمال الثاني، لقربه، وأختار الكوفيون إعمال الأول لتقدمه، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك -رحمه الله تعالى- في "الخلاصة" حيث قال:

إِنْ عَامِلَان اقْتَضَيَا فِي اسْم عَمَلْ

قَبلُ فَللْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ

وَالثَّانِ أَوْلى عِنْدَ أَهْلِ الّبصْرَهْ

وَاخْتِارَ عَكسَا غَيْرُهُم ذَا أُسْرَهْ

وقوله: "لا أقول: نهى الناس" ليس معناه أن النهي مختص به، دون سائر الناس، وإنما معناه أن اللفظ الذي سمعته بصيغة الخطاب لي، فأنا أنقله كما سمعته، وإن كان الحكم يتناول الناس كلهم.

وقوله: "حبي" بكسر الحاء المهملة: بمعنى محبوبي.

وقوله: "القسّي" بفتح القاف، وكسر السين المهملة المشددة، بعدها ياء مشددة: هي ثياب مضَلَّعَة -أي مخططة- بالحرير، وقيل في تفسيره غير ذلك، فراجع ما تقدم.

وقوله: "المعصفر المفدّمة" هكذا نسخ "المجتبى"، ووقع في "الكبرى""وعن المعصفرة المفدمة"، وهو الأولى، إذ الظاهر أن "المفدمة" صفة لـ"لمعصفرة"، فيمتنع اختلافهما تذكيرا وتأنيثا.

و"المعصفرة": هي المصبوغة بالعُصفُر، وهو نبت يُصبغ به.

و"المفدّمة": بصيغة اسم المفعول المضعف: هي الثياب المشْبَعَة حُمْرةً. وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا بأوسع مما ذكرته هنا في الباب المذكور، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1119 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ ح وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا، قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أحمد بن عمرو بن السّرح) أبو الطاهر المصري، ثقة [10] تقدم 35/ 39.

2 -

(ابن وهب) عبد الله، أبو محمَّد المصري، ثقة حافظ عابد [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيلي، ثقة، ربما وهم، من كبار [7] تقدم 9/ 9.

4 -

(الحارث بن مسكين) أبو عمرو المصري القاضي الفقيه، ثقة [10] تقدم 9/ 9.

وقوله: "والحارث" الخ عطف على أحمد بن عمرو، فالمصنف يروي هذا

ص: 358

الحديث، عن شيخين: أحمد بن عمرو، والحارث بن مسكين، وكلاهما يرويان عن ابن وهب، وقد تقدم غير مرّة سبب قوله دائما:"قراءة عليه، وأنا أسمع"، فلا تغفل، وبالله تعالي التوفيق.

5 -

(ابن شهاب) محمَّد بن مسلم الزهري الإمام الحافظ الحجة الثبت، رأس [4] تقدم 1/ 1.

والباقون تقدموا في السند السابق، وكذا الكلام على الحديث، والله تعالى ولي التوفيق.

[تنبيه]: رَوَى عبد الله بن حنين هذا الحديثَ عن علي رضي الله عنه فيما تقدم بواسطة ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه هنا بدون واسطة، وكلاهما صحيح، إذ يحمل على أنه سمعه من ابن عباس رضي الله عنهما، ثم لقي عليا رضي الله عنه، فسمعه منه، فكان يحدث عن كليهما، ومثل هذا موجود في أحاديث الثقات بكثرة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌152 - (بَابُ الأَمْرِ بِالاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الأمر بالاجتهاد في الدعاء في حال السجود.

و"الاجتهاد": مصدر "اجتهد"، يقال: اجتهد في الأمر: إذا بذل وُسْعَه وطاقته في طلبه، ليبلغ مجهُودَه، ويصل إلى نهايته. قاله في "المصباح".

و"الدعاء": بالضم مصدر "دَعَا"، يقال. دعوت الله أَدْعُوه دُعَاءً: ابْتَهَلْت إليه بالسؤال، ورغِبتُت فيما عنده من الخير. قاله في "المصباح" أيضا. والله تعالى أعلم بالصواب.

1120 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ -هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السِّتْرَ، وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ

(1)

فِيهِ، فَقَالَ

(2)

: "اللَّهُمَّ قَدْ بَلَّغْتُ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، "إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ

(1)

وفي بعض النسخ "توفي".

(2)

وفي بعض النسخ "قال".

ص: 359

النُّبُوَّةِ، إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْعَبْدُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا، وَإِنِّي، قَدْ نُهِيتُ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِذَا رَكَعْتُمْ، فَعَظِّمُوا رَبَّكُمْ، وَإِذَا سَجَدْتُمْ، فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(علي بن حُجْر المروزي) ثقة حافظ، من صغار [9] تقدم 3/ 13.

2 -

(إسماعيل بن جعفر) الأنصاري المدني، ثقة ثبت [8] تقدم 16/ 17.

3 -

(سليمان بن سُحَيم) أبو أيوب المدني، صدوق [3] تقدم 98/ 1045.

4 -

(إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس) الهاشمى المدني، صدوق [3] تقدم 98/ 1045.

5 -

(عبد الله بن معبد بن عباس) المدني، ثقة قليل الحديث [3] تقدم 98/ 1045.

6 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، تقدم في الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنف رحمه الله في 98/ 1045 - رواه هناك عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن سليمان بن سُحَيم. . . واستدلّ به هنا على الأمر بالاجتهاد في الدعاء في حالة السجود، واستدل به هناك على الأمرب "تعظيم الرب في الركوع"، وتقد قدم شرحه هناك مستوفًى، وكذا بيان المسائل المتعلقة به، فارجع إليه تستفد. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "يراها المسلم": بالبناء للفاعل، أي يراها المُبَشَّر بها له. وقوله:"أو ترى له" بالبناء للمفعول، أي أو يراها غير الْمُبَشَّرِ لأجله.

وقوله: "قمن" بفتح القاف، وكسر الميم، أو فتحها: أي جدير، وخَلِيق أن يستجاب دعاؤكم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 360

‌153 - (بَابُ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ)

1121 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي رِشْدِينَ -وَهُوَ كُرَيْبٌ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا، فَرَأَيْتُهُ قَامَ لِحَاجَتِهِ، فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَحَلَّ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ، ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ، فَنَامَ ثُمَّ قَامَ قَوْمَةً أُخْرَى، فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَحَلَّ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا، هُوَ الْوُضُوءُ، ثُمَّ قَامَ، يُصَلِّي، وَكَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ تَحْتِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَعَنْ يَمِيني نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَاجْعَلْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ خَلْفِي نُورًا، وَأَعْظِمْ لِي نُورًا"، ثُمَّ نَامَ، حَتَّى نَفَخَ، فَأَتَاهُ بِلَالٌ، فَأَيْقَظَهُ لِلصَّلَاةِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هنّاد بن السَّريّ) بن مصعب التميمي، أبو السَّريّ الكوفي، ثقة [10] تقدم 23/ 25.

2 -

(أبو الأحوص) سلّام بن سُلَيم الحنفي مولاهم الكوفي، ثقة متقن صاحب حديث [7] تقدم 79/ 96.

3 -

(سعيد بن مسروق) الثوري، الكوفي، ثقة [6].

رَوَى عن إبراهيم التيمي، وسلمة بن كُهَيل، وأبي وائل. وعنه الأعمش، وولده سفيان، وابن المبارك، وشعبة، وأبو الأحوص، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو حاتم، والعجلي، والنسائي: ثقة. ووثقه ابن المديني، وذكره ابن حبان في "الثقات". مات سنة (126) وقيل: سنة (128) وقيل: (7). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.

4 -

(سلمة بن كُهَيل) الحضرمي، أبو يحيى الكوفي، ثقة [4] تقدم 195/ 312.

5 -

(أبو رِشْدِين كريب) بن أبي مسلم، مولى ابن عباس المدني، ثقة [3] تقدم 161/ 253.

6 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، تقدم 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله عندهم ثقات، ومن

ص: 361

رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاري، إلا في "خلق أفعال العباد"، وأنهم كوفيون غير كريب، وابن عباس، فمدنيان، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه ابن عباس أحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثا، وأحد العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قال: بتّ عند خالتي ميمونة بنت الحارث) رضي الله عنها (وبات رسول صلى الله عليه وسلم عندها) جملة في محل نصب على الحال بتقدير "قد" على رأي البصريين، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم قد بات تلك الليلة عند ميمونة، لكونها نوبتها. وفي رواية للبخاري:"وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها"(فرأيته) صلى الله عليه وسلم (قد قام لحاجته) أي لقضائها، والجملة في محل نصب على الحال من الضمير المفعول، وليست مفعولا ثانيا لـ"رأى" لأنها بصرية لا تتعدى لمفعولين.

والمراد بالحاجة هنا حاجة البول، لما في رواية المصنف في "الكبرى" 27/ 1339 - من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن كريب:"ثم قام، فخرج، فبال، ثم أتى سقاء مُوكًا، فحلّ وِكاءه". . . (فأتى القربة) بكسر القاف، وسكون الراء: وَطْبُ اللبنِ -أي سقاؤه-، وقد تكون للماء. وقيل: هى المَخْرُوز من جانب واحد، والجمع في القلّة قِرْبَات -بسكون الراء- وقِرِبات -بكسرها- وقِرَبَات -بفتحها- وهكذا كل ما كان على "فِعْلَة"، مثل سِدْرَة، وفِقْرَة، يجوز لك أن تفتح العين، وتكسرها، وتسكنها. وجمعها في الكَثْرة: قِرَبٌ. أفاده المجد، وابن منظور

(1)

و"الوطب" بفتح، فسكون: سقاء اللبن، يتخذ من جلد الجَذَع، فما فوقُ، جمعه أوطُب، ووِطَاب، وأوطاب. أفاده المجد

(2)

..

(فعل شِنَاقها) بكسر الشين المعجمة: الخيط، أو السَّيْرُ الذي تعلق به القِرْبة، والخيط الذي يشدّ به فمها. يقال: شَنَقَ القربة، وأشنقها: إذا أوكأها، وإذا علّقها. قاله ابن الأثير

(3)

.

وقال في "الفتح": "الشناق" بكسر المعجمة، وتخفيف النون، ثم قاف: هو رِبَاط القِرْبَة، يشدّ عنقها، فشبه بما يُشنق به، وقيل: هو ما تعلق به، ورجح أبو عبيد الأول. انتهى

(4)

.

(1)

"ق" ص 158. و"لسان" ج 5 ص 3569.

(2)

"ق" ص 181.

(3)

"النهاية" ج 2 ص 506.

(4)

"فتح" ج 12 ص 398.

ص: 362

(ثم توضأ وُضوءًا بين الوضوءين) زاد في رواية للبخاري من طريق سفيان عن سلمة: "لم يكثر، وقد أبلغ". وهذه الزيادة تفسير لقوله: "بين الوضوءين" أي وضوءا وَسَطًا، بيّن الإسراف والتقتير.

وقال في "الفتح": وهو يحتمل أن يكون قلّل من الماء مع التثليث، أو اقتصر على ما دون الثلاث. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني هو الظاهر؛ لأنه يؤيده وصف الوضوء الآتي بقوله: "هو الوضوء". أي الوضوء الكامل. والله تعالى أعلم.

ووقع عند الطبراني من طريق منصور بن المعتمر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه في هذه القصة:"وإلى جانبه مِخْضَب من بِرَام مطبق، عليه سواك، فاستّن به، ثمّ توضّأ".

(ثم أتى فراشه، فنام) الظاهر أن هذا الوضوء لم يصل به، بل نام بعده، ويحتمل أنه صلى به، ثم أتى الفراش، فنام. والله تعالى أعلم.

(ثم قام قومة أخرى) التاء للمرة، كما قال في "الخلاصة":

وَفَعْلَةٌ لمَرَّةٍ كجَلْسَهْ

وَفعْلَةٌ لهَيْئَة كَجِلْسَهْ

(فأتى القربة، فْحلَّ شِنَاقها، ثم توضأ وُضوءًا هو الوضوء) أي الكامل، يعني أنه توضأ ثلاثا، وفي الروأية الآتية في "كتاب قيام الليل" -9/ 1620 - من طريق مخرمة بن سليمان، عن كريب:"ثم قام" إلى شنّ معلّقة، فتوضأ منها، فأحسن الوضوء. . ." (ثم قام يصلي) جملة "يصلي" في محلّ نصب على الحال، أي قام حال كونه مصليا، ولم يذكر هنا عدد صلاته صلى الله عليه وسلم، وذكره في الرواية المذكورة أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، وأن ابن عباس صلى معه، ولفظه: "قال عبد الله بن عباس: فقمت، فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت، فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى، يَفتِلها، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر".

(وكان يقول في سجوده) كذا عند المصنف رحمه الله أن هذا الدعاء قاله في سجوده، وكذا عند مسلم رحمه الله تعالى.

ويعارضه ما وقع في رواية لمسلم من طريق محمَّد بن عليّ بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وهو خارجٌ إلى الصلاة، ولفظه: فخرج إلى الصلاة، وهو يقول:"اللَّهم اجعل في قلبي نورا". . .

وما وقع عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين فرغ من صلاته، وعند البخاري في

ص: 363

"الأدب المفرد" من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي، فقضى صلاته يثني على الله بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه: "اللَّهم اجعل في قلبي نورا". . . الحديث.

وأجاب الحافظ رحمه الله تعالى بأنه كان يقول ذلك عند القرب من فراغه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الأظهر عندي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الدعاء في سجوده، وعند فراغه من صلاته، وحينما يخرج إلى المسجد.، فبهذا تجتمع الروايات، والله تعالى أعلم.

(اللَّهم اجعل في قلبي نورًا) التنوين للتعظيم، أي نورًا عظيما.

والنور في الأصل: ما يتبين به الشيء حسيا كان، أو معنويًا.

وقَدَّمَ القلب لشرفه، لكونه ملك الأعضاء، إذ هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، فإذا استنار القلب فاض نوره على البدن كله، فتنشط الأعضاء للطاعة، كما قال بعضهم:[من الخفيف]

وَإِذَا حَلَّتِ الهِدَايَةُ قَلبًا

نَشِطَتْ للْعِبَادَةِ الأَعْضَاءُ

(واجعل في سمعي نورًا، واجعل في بصري نورًا، واجعل من تحتي نورا، واجعل من فوقي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا) أي في جانبي، أو في جارحتي (واجعل أمامي نورًا) أي قدامي نورا يسعى بين يديّ (واجعل خلفي نورًا) أي ليتبعني أتباعي، ويقتدي بي أشياعي.

والمعنى: اجعل في كل عضو من هذه الأعضاء، وفي كل جهة من هذه الجهات نورا، أهتدي به في اتباع الحق، والعمل به، ويهتدي به من أراد اتباعي على الحق.

قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: أراد ضياء الحق، وبيانه، كأنه قال: اللَّهم استعمل هذه الأعضاء مني في الحقّ، واجعل تصرفي وتقلّبي فيها على سبيل الصواب والخير. انتهى

(1)

وقال النووي رحمه الله: قال العلماء رحمهم الله: سأل النور في أعضائه وجهاته، والمراد به بيان الحقّ، وضياؤه، والهداية إليه، فسأل النور في جميع أعضائه، وجسمه، وتصرفاته، وتقلباته، وحالاته، وجملته في جهاته الستّ حكى لا يزيغ شيء منها عنه. انتهى

(2)

(1)

"النهاية" ج 5 ص 125.

(2)

"شرح مسلم" ج 6 ص 45.

ص: 364

وقال القرطبي رحمه الله: هذه الأنوار يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضائه نورا يستضيء به في ظلمات يوم القيامة هو، ومن تبعه، أو من شاء الله منهم.

قال: والأولى أن يقال: هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى:{فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] وقال: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} الآية [الأنعام: 122].

قال: والتحقيق في معناه أن النور مُظهِرُ ما ينسب إليه، وهو يختلف بحسبه، فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصَرَات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات. انتهى.

وقال الطيبي رحمه الله تعالى: معنى طلب النور للأعضاء عضوا عضوا أن يتحلى كلُّ عضو بأنوار المعرفة والطاعات، ويتعرّى عما عداهما، فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوساوس، فكان التخلص منها بالأنوار السادّة لتلك الجهات.

قال: وكل هذه الأمور راجعة إلى الهداية والبيان، وضياء الحق، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى. {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله تعالى:{نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} الآية [النور: 35] انتهى ملخصا. قال الحافظ: وكان في بعض ألفاظه ما لا يليق بالمقام، فحذفته. انتهى.

وقال الطيبي أيضا: خص القلب والسمع والبصر بـ"في" الظرفية؛ لأن القلب مقرّ الفكر في آلاء الله تعالى، والبصر مَسَارح النظر في آيات الله المنصوبة المبثوثة في الآفاق والأنفس، والسمع مَحَطُّ آيات الله المنزلة على أنبياء الله، واليمين والشمال خُصّا بـ"عن" للإيذان بتجاوز الأنوار عن قلبه وبصره وسمعه إلى من عن يمنيه وشماله من أتباعه، وعُزِلَت "فوق"، و"تحت"، و"أمام"، و"خلف" من "مِنْ" الجارّة لتشمل استنارته وإنارته معا من الله والخلق. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه تعالى: هذا الذي قاله الطيبي رحمه الله من تجريد "تحت"، و"فوق" إنما يناسب رواية الشيخين، وأما رواية المصنف، فقد اقترن "تحت" و"فوق". بها، فليُتنَبَّهْ. والله تعالى أعلم.

(وأعظم لي نورًا) أي اجعل لي نورًا عظيما جامعا للأنوار كلها. انتهى.

وفي رواية لمسلم: "واجعل لي نورا، أو قال: "واجعلني نورا". وهذا إجمال بعد تفصيل.

قال بعضهم: جعله فَذْلَكَةً لما تقدم، أي إجمالا لذلك التفصيل. وفَذْلَكَة الشيء:

ص: 365

جمعُة، مأخوذ من "فَذَلِك"، وهو مصنوع، كالبسملة. أفاده في "المرقاة".

وقال المجده اللغوي رحمه الله تعالى: فَذْلَكَ حسابَهُ: أنهاه، وفرغ منه، مُختَرَعَةٌ من قوله إذا أجمل حسابه: فَذَلِكَ كذا وكذا. انتهى.

وفي رواية لمسلم من طريق عقيل بن خالد، عن سلمة:"واجعل في نفسي نورًا، وأعظم لي نورًا". وفي أخرى له متن طريق حبيب بن أبي ثابت، عن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"اللَّهم أعطني نورًا" وفي رواية للترمذي: قال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حين فرغ من صلاته: "اللَّهم إني أسألك رحمة متن عندك". . . فساق الدعاء بطوله، وفيه:"اللَّهم اجعل لي نورًا في قلبي، ونورًا في قبري" ثم ذكر الجهات الستّ، والسمع، والبصر، ثم الشعر والبشر، ثم اللحم والدم والعظام، ثم قال في آخره:"اللَّهم أعظم لي نورًا، وأعطني نورا، واجعل لي نورا". قال الترمذي رحمه الله تعالى: غريب، وقد روى شعبة، وسفيان عن سلمة، عن غريب بعض هذا الحديث، لم يذكروه بطوله انتهى.

وعند ابن أبي عاصم في "كتاب الدعاء" من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن كريب في آخر الحديث:"وهب لي نورا على نور".

ويجتمع من اختلاف الروايات، كما قال ابن العربي خمس وعشرون خصلة. أفاده في "المرعاة".

(ثم نام حتى نفخ، فأتاه بلال) رضي الله عنه (فأيقظه للصلاة) وفي الرواية المتقدمة 41/ 686 - من طريق مخرمة بن سليمان، عن كريب:"ثم نام حتى استُثقِلَ، فرأيته ينفخ، وأتاه بلال، فقال: الصلاة يا رسول الله، فقام، فصلى ركعتين، وصلى بالناس، ولم يتوضأ". وفي الرواية الآتية 9/ 1620: "ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فصلى ركعتين خفيفتين". وفي رواية للبخاري: "ثم اضطجع، فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فآذنه بلال بالصلاة، فصلى، ولم يتوضأ". وفي رواية لمسلم: "ثم نام حتى نفخ، وكنا نعرفه إذا نام بنفخه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -153/ 1121 - وفي "الكبرى" 61/ 708 - عن هناد بن السري، عن أبي

ص: 366

الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن سلمة بن كُهَيل، عن كريب، عنه. وفي -41/ 686 - و"الكبرى" 38/ 1650 - عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عنه. وفي -29/ 442 - عن قتيبة عن داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن كريب به. وفي -9/ 1620 - عن محمَّد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك، عن مخرمة به. وفي 22/ 806 - و"الكبرى" 22/ 880 - عن يعقوب بن إبراهيم، عن إسماعيل ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عنه. وفي -39/ 1704 - و 27/ 1344 - عن محمَّد ابن رافع، عن معاوية بن هشام، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده. و-1705 - و"الكبرى" -1348 - عن أحمد بن سليمان، عن حسين المعلم، عن زائدة، عن حُصَين بن عبد الرحمن، عن حبيب به. و-1706 - و"الكبرى" 1345 - عن محمد بن جَبَلَةَ، عن مَعْمَر بن مَخلَد، عن عبيد الله بن عمر، عن زيد بن أبي أنيسة، عن حبيب به.

وفي "الكبرى" 27/ 1337 - عن قتيبة، عن مالك به. و 27/ 1339 - عن محمَّد بن إسماعيل بن سمرة، عن محمَّد بن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن كريب به. وفي -58/ 1425 - عن محمَّد ابن رافع، عن عبدالرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عنه. وفي 27/ 1341 - عن عمرو بن يزيد، عن بهز، عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه. و 27/ 1342 - عن محمَّد بن علي بن ميمون الرَّقِّيِّ، عن القعنبي، عن عبد العزيز الدراوردي، عن عبد المجيد بن سهيل، عن يحيي بن عباد، عن سعيد به. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) عن إسماعيل بن أبي أويس، والقعنبي، وعن عبد الله بن يوسف، كلهم عن مالك به. وعن علي بن المديني، عن ابن مهدي، ومعن بن عيسى، كلاهما عن مالك به. وعن قتيبة، عن مالك به. وأخرجه أيضا بأسانيد أخرى، تركتها اختصارا.

(م) عن يحيى بن يحيي، عن مالك به. وعن محمَّد بن سلمة المرادي، عن ابن وهب، عن عياض بن عبد الله، عن مخرمة بن سليمان به. وعن محمَّد بن رافع، عن ابن أبي فُديك، عن الضحاك بن عثمان، عن مخرمة به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، كلاهما عن وكيع، عن الثوري- وعن عبد الله بن هاشم، عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري- وعن محمَّد بن بشار، عن غندر، عن شعبة- كلاهما عن سلمة ابن

ص: 367

كهيل به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وهناد بن السري، كلاهما عن أبي الأحوص به. وله أسانيد أخرى تركتها اختصارا.

(د) عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن جده به. وعن القعنبي، عن مالك به. وأخرجه بأسانيد أخرى.

(ت) عن قتيبة، عن داود العطار به. (ق) عن أبي بكر بن خلاد، عن معن بن عيسى، عن مالك به.

وأخرجه مالك في "الموطإ"، والحميدي، وأحمد في "مسنديهما"، وابن خزيمة في "صحيحه"، وغيرهم بألفاظ مختلفة، مطولا، ومختصرا. والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب الدعاء في السجود بهذا الدعاء (ومنها): جواز مبيت من لم يحتلم عند ذوات محارمه (ومنها): جواز المبيت عند الرجل، ومعه أهله (ومنها): فضل ابن عباس رضي الله عنهما، حيث بات يراقب النبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله، ليقتدي به (ومنها): مبالغة العبد في طلب الأنوار من الله تعالى، حتى تكون محيطة به ظاهرا وباطنا، ليكون على بصيرة من أمره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌154 - (نَوْعٌ آخَرُ)

أي هذا باب ذكر الحديث المشتمل على نوع آخر مما يُدْعَى به في السجود. ودلالة الحديث على ما بوب له واضحة.

1122 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا، وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي"، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سويد بن نصر) المروزى، ثقة [10] تقدم 45/ 55.

ص: 368

2 -

(عبد الله) بن المبارك الإمام الحجة الثبت [8] تقدم 32/ 36.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحافظ الحجة [7] تقدم 33/ 37.

4 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة ثبت [6] تقدم 2/ 2.

5 -

(أبو الضحى) مسلم بن صُبَيح الكوفي، ثقة فاضل [4] تقدم 96/ 123.

6 -

(مسروق) بن الأجدع، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم [2] تقدم 90/ 112.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت 5/ 5. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم للمصنف -رحمه الله تعالى- في 100/ 1047 - أخرجه هناك عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد الهُجَيمي، ويزيد بن زريع، كلاهما عن شعبة، عن منصور. . .

وقد استوفيت هناك شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به، فراجعه تستفد. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

ومعنى قوله: "يتأول القرآن": أي يعمل ما أمر به في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} الآية [النصر: 3]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌155 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1123 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، رَبَّنَا

(1)

، وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي"، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث هو المذكور في الباب الماضي سندا

(1)

كلمة "ربنا" ساقطة من بعض النسخ.

ص: 369

ومتنا، ولا وجه لإيراده تحت ترجمة:"نوع آخرُ" إذ هو ليس نوعا آخر. وإنما غايته أنه طريق آخر للحديث، فقد أبدل شيخه نصرًا بمحمود بن غيلان، وأبدل شيخ شيخه ابن المبارك بوكيع. فليُتَأَمّل.

1 -

(محمود بن غيلان) أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، ثقة [10] تقدم 33/ 37.

2 -

(وكيع) بن الجرّاح الرُّؤَاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد [9] تقدم 23/ 25. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما إستطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌156 - (نَوعٌ آخَرُ)

1124 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها، فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَضْجَعِهِ، فَجَعَلْتُ أَلْتَمِسُهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ أَتَى بَعْضَ جَوَارِيهِ، فَوَقَعَتْ يَدِى عَلَيْهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمَّد بن قُدَامة) المصيصي، ثقة [10] تقدم 19/ 528.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الكوفي، نزيل الرَّيِّ، وقاضيها، ثقة ثبت [8] تقدم 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر تقدم قبل باب.

4 -

(هلال بن يسِاَف) الأشجعي مولاهم الكوفي، ثقة [3] تقدم 39/ 43.

5 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو وأبو داود، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت -2210 - أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة رضي الله عنها) أنها قالت (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الفَيُّومي: فَقَدْتُه فَقْدًا، من

ص: 370

باب ضرب، وفِقْدَانا: عَدِمتُهُ، فهو مفقود، وفَقِيد، وافتقدته مثلُهُ. انتهى.

(من مضجعه) بفتح الميم، والجيم: موضع الضُّجُوع، وهو وضع الجنب بالأرض. يقال: ضَجَعْتُ ضَجْعًا، من باب نفع، وضُجُوعًا: وضعت جنبي بالأرض، وأضجعت بالألف لغةٌ. أفاده في "المصباح"، و"المختار". والجارّ والمجرور متعلق بـ"فقدت".

(فجعلت ألتمسه) أي شرعت أطلبه، فـ"جعل" من أفعال الشروع، والضمير اسمها، وجملة "ألتمسه" خبرها. و"التمس" الشيءَ بمعنى طَلَبَه.

(وظننت) جملة في محل نصب على الحال من ضمير "ألتمسه"، أي حال كوني ظانة (أنه أتى بعض جواريه) جمع جارية، بمعنى الأمة، وأصل الجارية: السفينة، سميت بذلك لجريها في البحر، فسميت الأمة به على التشبيه، لجريها مُسَخَّرَةً في أشغال مواليها، والأصل فيها الشابّة لخفتها، ثم توسعوا حتى سموا كلَّ أمة جاريةً، وإن كانت عجوزا لا تقدر على السعي، تسميةً بما كانت عليه. قاله الفيومي رحمه الله تعالى.

وكأن عائشة رضي الله عنها استبعدت إتيانه زوجا أخرى، لمراعاة القَسْم، سواء قلنا بوجوبه عليه صلى الله عليه وسلم، أم لا؟.

ويحتمل أنها أرادت باسم الجارية ما يعم الأزواج، وهو الموافق لما سيأتي 163/ 1131 - حيث قالت:"فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه". والله تعالى أعلم. أفاده السندي رحمه الله تعالى.

(فطلبته، فإذا هو ساجد)"إذا" هنا في الفُجائية، أي ففجاءني سجوده صلى الله عليه وسلم (وهو يقول) جملة حالية من "هو" على رأي سيبويه في جواز مجيء الحال من المبتدإ، أو من الضمير في "ساجد".

(اللَّهم) أي يا الله، فالميم عوض عن حرف النداء، ولا يجمع بينهما إلا في الضرورة، كما قال ابن مالك رحمه الله:

وَبِاضْطِرَارٍ خُصَّ جَمْعُ يَا وَأَلْ

إِلَّا مَعَ اللهِ وَمَحْكِيِّ الْجُمَلْ

وَالأَكْثَرُ اللَّهُمَّ بِالتَّعْوِيضِ

وَشَذَّ يَا اللَّهُمَّ فِي قَرِيضِ

وفي بعض النسخ "رب" بدل "اللَّهم".

(اغفر لي ما أسررت) أي استر لي ذنوبي التي عملتها سرّا، فـ"ما" موصول اسمي، مفعول به لـ"اغفر"، والعائد محذوف لكونه فضلة، كما قال في "الخلاصة":

وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ

كحَذفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ

أي الذي أسررته (وما أعلنت) أي الذنوب التي عملتها عَلَنًا، أي جهرا بين الناس، وإعرابه كسابقه.

ص: 371

وفي الحديث استحباب هذا الدعاء في السجود، وبيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة الاستغفار، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، ليكون عبدا شكورا، ولتقتدي به أمته، وفيه ما جُبلَت عليه النساءُ من الغَيْرَة على أزواجهن، ولا يؤاخذن بمثل ذلك، إلا إذا وقع منهن ظلم الضرائر بسببه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا -156/ 1124 - وفي "الكبري" 63/ 710 - بالسند المذكور. و -1125 - و"الكبرى" 711 - بالسند الآتي، إن شاء الله تعالى.

وأخرجه (أحمد) 6/ 147. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1125 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ أَتَى بَعْضَ جَوَارِيهِ، فَطَلَبْتُهُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ، يَقُولُ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدم الكلام على هذا الحديث سندا ومتنا في الحديث الذي قبله. والذين لم يُذْكَرُوا فيه من رجال الإسناد ثلاثة:

1 -

(محمَّد بن المثنى) أبو موسى العَنَزِي البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 64/ 80.

2 -

(محمَّد) بن جعفر المعروف بغندر، أبو عبد الله البصري، ثقة صحيح الكتاب [9] تقدم 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج البصري الإمام الحجة الثبت [7] تقدم 24/ 26.

وقوله: "رب" منادى حذف منه حرف النداء، أي يارب، قال الحريري رحمه الله تعالى في "مُلحَته":

وَحَذْفُ يَا يَجُوزُ فِي النَّدَاء

كَقَوْلِهم رَب اسْتَجِبْ دُعَاءِ

فأصل "رب" ياربي مضافًا إلى ياء المتكلم، ثم يجوز فيه ست لغات، ذكر ابن مالك منها الخمسة بقوله:

وَاجْعَلْ مُنَادًى صَح إِنْ يُضَفْ لِيَا

كَعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا

والسادس ضمه تشبيها له بالمفرد، وهو قليل الاستعمال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 372

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌157 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1126 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي الْمَاجِشُونُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا سَجَدَ، يَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ، فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ، وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 4/ 4.

2 -

(عبد الرحمن بن مهدي) البصري الإمام الحافظ الحجة [9] تقدم 42/ 49.

3 -

(عبد العزيز بن أبي سلمة) هو ابن عبد الله، نسب لجده، المدني، نزيل بغداد، ثقة فقيه [7] تقدم 17/ 897.

4 -

(الماجشون بن أبي سلمة) هو يوسف بن أبي سلمة المدني، صدوق [4] تقدم 17/ 897.

5 -

(عبد الرحمن الأعرج) ابن هرمز المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 7/ 7.

6 -

(عبيد الله بن أبي رافع) المدني مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وكاتب علي رضي الله عنه، ثقة [3] تقدم 17/ 897.

7 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، تقدم 74/ 91.

ولطائف الإسناد تقدمت غير مرة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن علي) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يقول: اللَّهم لك سجدت) أي لك، لا لغيرك، ففي تقديم المعمول إفادة الحصر والاختصاص (وبك آمنت) أي بك لا بغيرك صدقت، ففيه ما تقدم قبله (سجد وجهي) أي خضع، وذل، وانقَاد (للذي خلقه) أي أوجده من العدم، وأسبغ عليه النعم

ص: 373

(وصوره) أي رتبه على هيئة خاصة، كما شاءها (فأحسن صورته) أي أحسن تركيب هيئته كما شاء.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} الآية [الحشر: 24]: ما نصه: الخلق: التقدير، والبَرْء هو الفَرْي، وهو التنفيذ، وإبراز ما قدّره، وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدّر شيئًا، ورتّبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل، قال الشاعر يمدح آخر

(1)

: [من الكامل]

وَلأَنتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وَبعْـ

ـضُ الْقَوْمِ يخلُقُ ثمَّ لَا يَفْري

أي أنت تنفذ ما خلقت، أي قدّرت، بخلاف غيرك، فإنه لا يستطع ما يريد، فالخلق التقدير، والفَرْى التنفيذ، ومنه يقال: قدّر الجَلَّادُ ثم فَرَى أي قطع على ما قدّره بحسب ما يريده، وقوله تعالى:{الْخَالِقُ الْبَارِئُ} أي الذي إذا أراد شيئا قاله "كن"، فيكون على الصفة التي يريد الصورة التي يختار، كقوله تعالى:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] ولهذا قال: "المصور"، أي الذي ينقذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريد. انتهى

(2)

(تبارك الله) قال ابن منظور رحمه الله تعالى: "تبارك الله": تقدّس، وتنزه، وتعالي، وتعاظم. ولا تكون هذه الصفة لغيره. قال: وسئل أبو العباس عن تفسير "تبارك الله"؟ فقال: ارتفع، والمتبارِكُ: المرتفع. وقال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة، كذلك يقول أهل اللغة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. ومعنى البركة: الكثرة في كل خير. وقال ابن الأنباري: تبارك الله: أي يُتَبَرَّك باسمه في كل أمر. وقال الليث في تفسير تبارك الله: تمجيد وتعظيم. انتهى "لسان العرب" اختصار. جـ 1 ص 266.

وقال النووي رحمه الله في "المجموع" برقم ص 409 - 410: قوله: "تبارك الله": أي تعالى، والبركة النماء والعلوّ، حكاه الأزهرى، عن ثعلب. وقال ابن الأنباري: تبرك العباد بتوحيده، وذكر اسمه. وقال ابن فارس: معناه ثبت الخير عنده.، قيل: تعظم، وتمجّد. قاله الخليل. انتهى.

(أحسن الخالقين) بالرفع فاعل "تبارك"، أي المصورين والمقدرين، فإنه الخالق الحقيقي المنفرد بالإيجاد والإمداد، وغيره إنما يوجد صورا

مُمَوَّهَةً، ليس فيها شيء من حقيقة الخلق، مع أنه تعالى خالق كل صانع وصنعته،

(1)

البيت لزهير بن أبي سُلمَى يمدح هرم بن سنان. اهـ من هامش "القرطبي" ج 12 ص 110.

(2)

"تفسير ابن كثير" ج 4 ص 367 - 368.

ص: 374

كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

وقال العلامة القرطبي رحمه الله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أتقن الصانعين، يقال لمن صنع شيئا: خلقه، ثم استشهد بالبيت المتقدم عند ذكر كلام ابن كثير رحمه الله.

قال: وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى.

وقال ابن جريج: إنما قال: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} لأنه تعالى أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق. واضطرب بعضهم في ذلك.

ولا تُنفَى اللفظة عن البشر في معنى الصنع، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى

(1)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن إطلاق الخلق لغير الله سبحانه وتعالى بمعنى الصنع جائز؛ لوقوعه في كلام الله تعال، كقوله سبحانه:{آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] حيثا أضاف "أحسن" إلى "الخالقين"، وكقوله تعالى في تعداد ما أنعم الله على نبيه عيسى عليه الصلاة والسلام:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الآية [المائدة: 110]، فإذا ورد ذلك في القرآن، فلا توقف، ولا اعتراض {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]. والله تعالى أعلم بالصواب.

وقال السندي رحمه الله تعالى: قوله: "أحسن الخالقين" أي المقدرين، أو لو فرض هناك خالق آخر لكان أحسنهم خَلْقًا، وإلا فهل من خالق غير الله، لا إله إلا هو. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا داعي للاحتمال الثاني؛ إذ لا محذور في المعنى الأول؛ إذ الخلق من الله بمعنى الإيجاد، ومن الخلق بمعنى التقدير والتصوير، فبينهما بَوْنٌ عظيم.

فالله سبحانه وتعالى له التقدير والتصوير، والإيجاد، فأفادت إضافة أفعل التفضيل زيادة خلقه سبحانه وتعالى على خلق غيره، فإنهم وإن وُصفوا بالخالقية، فلا يراد بها إلا الناقص، وهو التقدير والتصوير، وهو مع ذلك مخلوق لله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .

وأما خالقية الله سبحانه، فأكمل، إذ هي التقدير والتصوير المقترن بالإيجاد، والإمداد، من دون مشارك له سبحانه وتعالى في ذلك والله تعالى أعلم.

(1)

"تفسير القرطبي" ج 12 ص 110.

ص: 375

[تنبيه]: رأيت للشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله تعالى استشكالا في "أحسن الخالقين"، ونحو "أرحم الراحمين"، و"أحكم الحاكمين" نقله الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الكتاب، أعرضت عن ذكره، لكونه اعتراضا على ما جاء النص الصريح به، فالاشتغال بحكاية مثل هذا اشتغالٌ بما لا يعني. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

[قال الجامع عفا الله تعالى عنه]: حديث علي رضي الله تعالى عنه هذا حديث طويل مشتمل على أذكار الصلاة من أولها إلى آخرها، أخرجه المصنف -رحمه الله تعالى- مقطعا في عدة أبواب، فأخرجه في 16/ 896 و 17/ 897 مستدلا به على ما يقال بين التكبير والقراءة من الذكر، وفي 103/ 1050 - مستدلاّ به على ما يقال في الركوع من الذكر، وفي هذا الباب مستدلّا به على ما يقال في السجود من الذكر، وكلها بسند الباب.

والحديث بطوله أخرجه مسلم رحمه الله تعالى في "صحيحه"، فقال:

حدثنا محمَّد بن أبي بكر المقدّمي، قال: حدثنا يوسف الماجشون، حدثني أبي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال:"وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي، ونسكى، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين، اللَّهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك، وسعديك، والخير كله بيديك، والشرّ ليس إليك، أنا بك، وإليك، تباركت، وتعاليت، أستغفرك، وأتوب إليك".

وإذا ركع قال: "اللَّهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخّي، وعظمي، وعصبي".

وإذا رفع قال: "اللَّهم ربنا لك الحمدُ ملءَ السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعدُ".

وإذا سجد قال: "اللَّهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه، وصوّره، وشقّ سمعه، وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين".

ثمّ يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: "اللَّهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدّم،

ص: 376

وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت"

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌158 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1127 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَيْوَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، وَأَنْتَ رَبِّي، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ، وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يحيى بن عثمان) الحمصي القرشي، صدوق عابد [10] تقدم 29/ 817.

2 -

(أبو حيوة) شُرَيح بن يزيد الحضرمي الحمصي المؤذن، ثقة [9] تقدم 16/ 896.

[تنبيه]: أشار في هامش بعض النسخ إلى أن لفظة "أبو" من "أبو حيوة" ساقطة من بعض النسخ، وهو غلط، والصواب ما هنا، فتنبه. والله تعالى أعلم.

3 -

(شعيب بن أبي حمزة) دينار الحمصي، أبو بشّر، ثقة ثبت عابد [7] تقدم 69/ 85.

4 -

(محمَّد بن المنكدر) التيمي المدني، ثقة فاضل [3] تقدم 103/ 138.

5 -

(جابر بن عبد الله) رضي الله تعالى عنهما، تقدم 31/ 35. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث جابر رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، تقدم للمصحف رحمه الله تعالى في 16/ 896 - بجزء دعاء الاستفتاح، رواه هناك، عن شيخه عمرو بن عثمان الحمصي، وهو أخو شيخه هنا يحيي بن عثمان، وتقدم الكلام على ذكر لطائف الإسناد، وبيان المسائل المتعلقة بالحديث هناك، وأما شرح الحديث، فيُعلم من شرح حديث علي رضي الله تعالى عنه المذكور في الباب الذي قبله. فلا حاجة إلى إعادته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"صحيح مسلم" ج 2 ص 185 - 186.

ص: 377

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌159 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1128 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ حِمْيَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَذَكَرَ آخَرَ قَبْلَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الأَعْرَجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،- كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، يُصَلِّي تَطَوُّعًا، قَالَ إِذَا سَجَدَ: "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ، وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

كلهم تقدموا في السند الماضي، إلا:

1 -

(ابن حمير) هو محمَّد بن حمير بن أُنَيس السَّليحي، صدوق [9] تقدم 21/ 535.

2 -

(عبد الرحمن بن هرمز الأعرج) تقدم قبل باب.

3 -

(محمَّد بن مسلمة) الأنصاري الصحابي البدري، رضي الله تعالى عنه، تقدم 17/ 898. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الإسناد تقدم للمصنف رحمه الله تعالى في 17/ 898 أخرج به من حديث محمَّد بن مسلمة رضي الله عنه ما يتعلق بدعاء الاستفتاح، وتقدم الكلام عليه هناك، وأيضًا في 104/ 1052 أخرج به ما يتعلق بأذكار الركوع.

وأخرج به هنا ما يتعلق بأذكار السجود، والحديث صحيح، وشرحه يُعلم مما سبق في حديث على رضي الله تعالى عنه، فلا حاجة إلى إعادته هناء وبالله تعالى التوفيق.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 378

‌160 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1129 -

(أَخْبَرَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّارٍ الْقَاضِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ: "سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سوّار بن عبد الله بن سوّار) بن عبد الله بن قُدَامة بن عَنَزَة التميمي العَنْبَريّ، أبو عبد الله البصري، نزيل بغداد، القاضي ابن القاضي ابن القاضي، نزيل بغداد، وولي قضاء الرُّصَافَة، ثقة، غَلِطَ من تكلم فيه [10].

روى عن أبيه، وعبد الوارث بن سعيد، وعبد الوهّاب الثقفي، ويزيد ابن زريع، وغيرهم. وعنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعبد الله ابن أحمد بن حنبل، وغيرهم.

قال أحمد ما بلغني عنه إلا خير. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد ما عمي بأيام يوم الأربعاء لأربع ليال بَقِين من شوّال، سنة (245) وكذا أرّخه أبو العبّاس السرّاج، وأحمد بن كامل، وقال: كان فقيها قاضيا أديبا شاعرا. وقال النسائي في "أسماء شيوخه": وفي قضاء مدينة السلام. وذكر الخطيب عن إسماعيل الحطبي أنه ولي قضاء الجانب الشرقي منها سنة (27) وذكر أبو سليمان بن زبر أن مولده سنة (182). روى عنه أبو داود، والترمذي، والمصنف، ورى عنه في هذا الكتاب (6) أحاديث.

2 -

(محمَّد بن بَشّار) أبو بكر البصري، المعروف ببندار، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

3 -

(عبد الوهّاب) بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمَّد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين [8] تقدم 42/ 48.

4 -

(خالد) بن مِهْرَان الحذاء، أبو المنازل البصري ثقة يرسل [5] قيل: تغير حفظه لما قَدِمَ من الشام، تقدم 7/ 634.

5 -

(أبو العالية) الرِّيَاحي، رُفَيع بن مِهْرَان، ثقة كثير الإرسال [2] تقدم 32/ 562.

6 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها، تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن

ص: 379

رجال الجماعة، سوى شيخه سوّار، فانفرد به هو وأبو داود، والترمذي (ومنها): أن شيخه محمَّد بن بشار أحد التسعة الذين يروي عنهم الأئمة الستة مُن دون واسطة،، وقد تقدموا غير مرة (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير عائشة رضي الله عنها، فمدنية (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي (ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت -2210 - أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل) أي في سجود تلاوة القرآن في صلاة الليل. وفي رواية أبي داود: "يقول في السجدة مرارا". . . (سجد وجهي للذي خلقه) خص الوجه بالذكر من بين أعضاء السجود لمزيد شرفه (وشق سمعه وبصره) أىِ فتح موضع سمعه وبصره (بحوله وقوته) متعلق بـ"شقّ"، أي فتح موضع سمعه وبصره بحوله وقوته، أي بقدرته، فعَطفُ قوته على ما قبله عطف تفسير. وزاد الحاكم في آخره "فتبارك الله أحسن الخالقين". وزاد ابن السكن في آخره:"ثلاثا".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن: "اللَّهم اكتب لي بها عندك أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود". أخرجه الترمذي، والحاكم، وابن حبان، وابن ماجه، وفيه قصة، وضعفه العقيلي بالحسن بن محمَّد بن عبيد الله بن أبي يزيد، فقال: فيه جهالة. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري، رواه البيهقي، واختلف في وصله وإرساله، وصوب الدارقطني في "العلل" رواية حماد، عن حميد، عن بكر، أن أبا سعيد رأى فيما يرى النائم. . . الحديث. انتهى "التلخيص الحبير". جـ 2 ص10. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -160/ 1129 - وفي "الكبرى" 66/ 714 - عن سوّار بن عبد الله، ومحمد بن بشار، كلاهما عن عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحَذَّاء عن أبي العالية، عنها.

ص: 380

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ت) عن محمَّد بن بشار به. و (د) عن مسدد، عن إسماعيل ابن علية، عن خالد الحذاء، عن رجل، عن أبي العالية، عنها. زاد إسماعيل في روايته:"عن رجل".

وأخرجه (أحمد) 6/ 30 و 217. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب".

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما تو في قي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌161 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1130 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَوَجَدْتُهُ، وَهُوَ سَاجِدٌ، وَصُدُورُ قَدَمَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، فَسَمِعْتُهُ، يَقُولُ: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهوية الحنظلي المروزي، ثقة ثبت [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضَّبِّيّ الكوفي، ثقة ثبت [8] تقدم 2/ 2.

3 -

(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني، ثقة ثبت [5] تقدم 22/ 23.

4 -

(محمَّد بن إبراهيم) التيمي المدني، ثقة له أفراد [4] تقدم 60/ 75.

5 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها، تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم شرحه في 137/ 1100 - فلا حاجة إلى إعادته هنا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 381

‌162 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1131 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِصِّيصِيُّ

(1)

الْمِقْسَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُهُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ، أَوْ سَاجِدٌ، يَقُولُ:"سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ"، فَقَالَتُ: بِأَبِي أَنْتَ، وَأُمِّي، إِنِّي لَفِي شَأْنٍ، وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إبراهيم بن الحسن المِصِّيصِيّ الْمِقْسَميّ) ثقة [11] تقدم 51/ 64.

[تنبيه] قوله: "الْمِصِّيصيُّ" بكسر الميم، والمهملة المشدّدة: نسبة إلى الْمِصِّيصة مدينة على ساحل البحر. قاله في "لُبِّ اللباب" جـ 2 ص 261 وقوله: "الْمِقْسَمِيّ" بكسر الميم، وسكون القاف لم أجد من بيَّن هذه النسبة والله تعالى أعلم.

2 -

(حجاج) بن محمَّد الأعور المصيصي، ثقة ثبت [9] تقدم 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة فاضل فقيه يدلس [6] تقدم 28/ 32.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح القرشي مولاهم المكي الإمام الحجة الفقيه الثبت [3] تقدم 112/ 154.

5 -

(ابن أبي مُلَيكة) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة التيمي المكي، ثقة فقيه [3] تقدم 101/ 132.

6 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها، تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو، وأبو داود، وأخرج له ابن ماجه في "التفسير"، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله تعالى عنها، أنها (قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة) أي

(1)

كلمة "المصيصي" ساقطة من بعض النسخ.

ص: 382

ليلة من الليالي (فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه) هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه القسم، إذ لو كان واجبا عليه لما ظنت عائشة ذلك منه، إذ لا يترك الواجب عليه.

ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها نسيت لشدة غيرتها وجوب القسم عليه، حتى ظنت ذلك منه. والله تعالى أعلم

والمسألة فيها خلاف، والراجح عدم الوجوب، وسيأتي في محله مبسوطا مفصلا، إن شاء الله تعالى.

(فتحسسته) بالحاء المهملة: أي تطلبته. وفي الرواية الآتية في "عشرة النساء" -4/ 3961 و 3962 - : "فتجسسته" بالجيم، وهو بمعنى الأول.

قال ابن منظور رحمه الله: تَحَسَّس الخبرَ: تطلّبَه، وتبحّثه، وفي التنزيل:{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} الآية [يوسف: 87]. وقال اللِّحْيَاني: تحسس فلانا، ومن فلان: أي تبحّث، وقال أبو عُبَيدِ: تحسست الخبرَ، وتحسّيْته. وقال شَمِرٌ: تَنَدَّسته مثلُهُ. وقال أبو معاذ: التحسس شِبْهُ التسمع والتبصر، قال: والتجسس بالجيم: البحث عن العوره. وقال ابن الأعرابي: تجسس الخبر، وتحسسه بمعنى واحد. انتهى كلام ابن منظور رحمه الله تعالى

(1)

.

(فإذا هو راكع، أو ساجد يقول: سبحانك اللَّهم، وبحمدك) تقدم -100/ 1047 - أن المعنى وبحمدك سبحتك، أي بتوفيقك لي، وهدايتك، وفضلك عليّ سبّحتك، لا بحولي وقوتي، ففيه شكر الله تعالى على هذه النعمة، والاعتراف بها، والتفويض إلى الله تعالى، وأن كل الأفعال له. وتقدم الكلام مبسوطا بالرقم المذكور، فراجعه تستفد. وبالله تعالى التوفيق.

(لا إله إلا أنت) أي لا معبود بحق إلا أنت وحدك، لا شريك لك.

(فقالت) عائشة رضي الله عنها، وفيه التفات؛ لأن الظاهر أن تقول: فقلت (بأبي أنت وأمي) الجار والمجرور متعلق بمحذوف، أي أَفديك بأبي وأمي، فلما حذف الفعل انفصل الضمير، ويحتمل أن يكون "أنت" مبتدأ، والجار والمجرور خبرا متعلقا بمحذوفٍ خبرٍ عن المبتدإ، أي أنت مَفْديٌّ بأبي وأمي.

(إني لفي شأن) أي لفي حال، وهو كونها ظنت أنه ذهب إلى إحدى نسائه (وإنك لفي آخر) أي في شأن آخر، وهو كونه يناجي ربه بالصلاة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"لسان العرب" ج 2 ص 871.

ص: 383

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -162/ 1131 - و 4/ 3961 - وفي "الكبرى" -69/ 717 - عن إبراهيم بن الحسن، عن حجاج الأعور، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن أبي مليكة، عنها. وفي 4/ 3962 - عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، عنها، فأسقط عطاء، وصرح بسماع ابن جريج من ابن أبي مليكة.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاختلاف لا يضرّ، إذ يمكن حمله على أن ابن جريج حدث عنهما جميعًا، ويؤيد ذلك تصريحه بسماعه من ابن أبي مليكة، فيحمل على أنه سمعه من عطاء، ثم لقي ابن أبي مليكة، فسمعه منه، فكان يحدث عنهما، وتقدم مثل هذا غير مرة. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) عن الحسن بن علي الحُلْوَانيّ، ومحمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق به. وأخرجه (أحمد) 6/ 151. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌163 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1132 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَوَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَاصِمَ بْنَ حُمَيْدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قُمْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَدَأَ، فَاسْتَاكَ، وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى، فَبَدَأَ، فَاسْتَفْتَحَ مِنَ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ، إِلاَّ وَقَفَ، وَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ، إِلاَّ وَقَفَ يَتَعَوَّذُ، ثُمَّ رَكَعَ، فَمَكَثَ رَاكِعًا بِقَدْرِ قِيَامِهِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ، وَالْمَلَكُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ"، ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ رُكُوعِهِ، يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ، وَالْمَلَكُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ"، ثُمَّ قَرَأَ "آلَ عِمْرَانَ"، ثُمَّ سُورَةً، ثُمَّ سُورَةً، فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ).

ص: 384

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هارون بن عبد الله) بن مروان البغدادي، أبو موسى الحَمَّال، ثقة [10] تقدم 50/ 62.

2 -

(الحسن بن سَوَّار) -بفتح المهملة، وتشديد الواو- البَغَوي، أبو العلاء المروزي، قدم بغداد، صدوق [9].

روى عن الليث بن سعد، وعكرمة بن عمار، وموسى بن أعين، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، وأحمد بن منيع، وهارون بن عبد الله، وغيرهم.

قال حنبل عن أحمد: ليس به بأس، وكذا قال ابن معين. وقال أبو إسماعيل الترمذي: حدثنا الحسن بن سوّار، أبو العلاء الثقة الرَّضيّ، حدثنا عكرمة بن عمّار اليمامي، عن ضَمْضَم بن جَوْس، عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطوف بالبيت على ناقة، لا ضَرْبَ، ولا طَرْدَ، ولا إليك إليك". قال إسماعيل: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؛ فقال: هذا الشيخ ثقة ثقة، والحديث غريب، ثم أطرق ساعة، وقال: أكتبتموه من كتاب؟ قلنا: نعم. وقال العقيلي: قد حدث ابن منيع وغيره عن الحسن بن سوّار أحاديث مستقيمة، وأما هذا الحديث فمنكر. وقد رواه قُرَّان بن تمَّام، عن أيمن بن نابل، عن قُدَامة بهذا اللفظ، ولم يتابع عليه، وروى الناس، الثوريُّ وجماعةٌ عن أيمن، عن قدامة بلفظ "يرمي الجمرة". وقال أبو حاتم: صدوق. وقال صالح جَزَرَة: يقولون: إنه صدوق، ولا أدري كيف هو؟ وقال ابن سعد: كان ثقة، قدم بغداد يريد الحج، فكتبوا عنه، ثم رجع إلى خراسان، فمات بها في آخر خلافة المأمون. وقال حاتم بن الليث الجوهري: نحو ذلك، وزاد: مات سنة (16) أو (217).

أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي. وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا (132) وحديث رقم (1383).

3 -

(ليث بن سعد) الإمام الحافظ الحجة الثبت الفقيه المصري [7] تقدم 31/ 35.

[تنبيه]: قوله: "بن سعد" ساقط من بعض النسخ.

4 -

(معاوية بن صالح) الحضرمي الحمصي، صدوق له أوهام [7] تقدم 50/ 62.

5 -

(عمرو بن قيس الكندي) السَّكُوني الحمصي، ثقة [3] تقدم 102/ 1049.

قوله: "الكندي" ساقط من بعض النسخ.

6 -

(عاصم بن حُمَيد) السَّكُوني الحمصي، صدومتى مخضرم [2] تقدم 102/ 1049.

7 -

(عوف بن مالك) الأشجعي الصحابي الشهير، من مسلمة الفتح، نزل دمشق،

ص: 385

ومات سنة (73) تقدم 50/ 62. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عاصم بن حُميد السكوني رحمه الله تعالى أنه: (قال سمعت عوف بن مالك) الأشجعي، رضي الله عنه (يقول: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم) زاد في الرواية السابقة في 102/ 1049 "ليلة"(فبدأ) في التأهب لصلاة الليل (فاستاك) أي استعمل السواك (وتوضأ، ثم قام، فصلى) أي شرع في الصلاة (فبدأ) القراءة (فاستفتح من البقرة) أي بعد الفاتحة، وإنما ترك ذكرها لكونه معلوما (لا يمرّ بآية رحمة) أي آية تشتمل على ذكر الوعد، والجنة ونعيمها (إلا وقف، وسأل) أي سأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمه، وفي نسخة "فسأل" بالفاء (ولا يمرّ بآية عذاب) أي بآية فيها ذكر الوعيد، والنار وعذابها (إلا وقف يتعوذ) في محل نصب على الحال من فاعل "وقف"، وفي نسخة "فتعوذ" بالفاء (ثم ركع، فمكث راكعا بقدر قيامه) وفي بعض النسخ "قدر قيامه". وفي الرواية المتقدمة: "فلما ركع مكث بقدر سورة البقرة"، فتبين بها أن قيامه كان بسورة البقرة (يقول في ركوعه) جملة في محل نصب من فاعل "مكث"(سبحان ذي الجبروت) أي صاحب القهر البالغ غايته، وهو فَعَلُوت من الجَبْر (والملكوت) أي صاحب التصرف البالغ غايته، وهو فَعَلُوت من الملك، فالتاء فيه وفيما قبله للمبالغة (والكبرياء والعظمة) قيل هما بمعنى واحد، فالعطف للتفسير، وقيل:"الكبرياء" عبارة عن كمال الذات، وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله تعالى (ثم سجد بقدر ركوعه) وفي بعض النسخ:"قدر ركعة"(يقول في سجوده: سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء، والعظمة، ثم قرأ آل عمران) أي في الركعة الثانية (ثم سورة) أي ثم قرأ سورة أخرى (ثم سورة) أي ثم قرأ سورة أخرى (فعل مثل ذلك) أي فعل مثلما تقدم من تطويل القيام والركوع والسجود. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، تقدم للمصنف في 102/ 1049 رواه هناك عن عمرو بن منصور النسائي، عن آدم بن أبي إياس، عن الليث بن سعد. . . أورده هناك مستدلّا على ذكر الركوع. وقد استوفيت هناك بيان المسائل المتعلقة به، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادته هنا. فإن شئت الاستفادة، فراجعه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 386

‌164 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1133 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ الأَحْنَفِ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ

(1)

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ

(2)

، فَقَرَأَ بِمِائَةِ آيَةٍ، لَمْ يَرْكَعْ، فَمَضَى، قُلْتُ: يَخْتِمُهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَمَضَى، قُلْتُ

(3)

: يَخْتِمُهَا ثُمَّ يَرْكَعُ فَمَضَى حَتَّى قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"

(4)

، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ"، وَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، يَقُولُ فِي سُجُودِهِ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى"، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ تَخْوِيفٍ، أَوْ تَعْظِيمٍ لِلَّهِ عز وجل إِلاَّ ذَكَرَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه تقدم قبل بابين.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد تقدم قبل بابين أيضا.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْرَان الكوفي الإمام الحافظ الثبت [5] تقدم 17/ 18.

4 -

(سعد بن عُبيدة) السلمي، أبو حمزة الكوفي، ثقة [3] تقدم 77/ 1008.

5 -

(المستورِد بن الأحنف) الكوفي، ثقة [3] تقدم 77/ 1008.

6 -

(صِلَة بن زُفَر) العبسي، أبو العلاء الكوفي، تابعي كبير، ثقة جليل [2] تقدم 77/ 1008.

7 -

(حذيفة) بن اليمان، واسم اليمان حسْل، أو حُسَيل العبسي، الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدم 2/ 2. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وتقدم للمصنف رحمه الله تعالى في 77/ 1008 رواه عن محمَّد بن بشار، عن يحيى القطان، وابن مهدي،

(1)

في بعض النسخ "خلف" بدل "مع".

(2)

وفي نسخة "فاستفتح" سورة البقرة"

(3)

في نسخة "فقلت".

(4)

وفي نسخة "سبحان ربي العظيم" الثالث ساقط.

ص: 387

وابن أبي عديّ، كلهم عن شعبة، عن الأعمش. . . . وفي 78/ 1009 - عن محمَّد بن آدم، عن حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيّب، عن عمرو بن مرة، عن طلحة بن يزيد، عن حذيفة، وعن حفص بن غياث، عن الأعمش، عن سعد بن عُبَيدة به. أورده هناك مستدلاّ على استحباب تعوذ القارئ إذا مرّ بآية عذاب، وعلى استحباب سؤاله الرحمة إذا مرّ بآية رحمة. وقد استوفيت شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به هناك، فلتراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وبيان الموضع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌165 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1134 -

(أَخْبَرَنَا بُنْدَارٌ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(بندار محمَّد بن بشار) البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

2 -

(يحيى بن سعيد القطان) البصري، ثقة ثبت حجة [9] تقدم 4/ 4.

3 -

(ابن أبي عديّ) هو محمَّد بن إبراهيم البصري، ثقة [9] تقدم 122/ 175.

4 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الناقد الحجة [7] تقدم 24/ 26.

5 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة ثبت يدلس [4] تقدم 30/ 34.

6 -

(مطرّف) بن عبد الله بن الشِّخِّير العامري، أبو عبد الله البصري، ثقة عابد فاضل [2] تقدم 53/ 67.

7 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها، تقدمت 5/ 5.

[تنبيه]: وقع هنا في النسخة المطبوعة غلط في هذا السند، ونصها:"أخبرنا بندار محمَّد بن بشار، قال حدثنا يحيى بن سعيد القطان، وابن أبي عديّ، عن شعبة، قالا: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن مطرف. . . فقوله: "قالا: حدثنا سعيد" غلط، والصواب: "حدثنا شعبة، عن قتادة، وهو الذي في النسخة الهندية ص 170. وراجع "تحفة الأشراف" جـ 12 ص 328.

ص: 388

وكذا وقع في "الكبرى" 72/ 720 - تصحيف "شعبة" إلى سعيد" وقد وقع في "النعوت" 21/ 7693 - على الصواب، فتنبه. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم للمصنف برقم (1048/ 101) رواه هناك عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد الهُجَيميّ، عن شعبة، به، أورده مستدلاّ على الذكر المستحبّ في الركوع، وقد تقدّم شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به هناك بما فيه الكفاية، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "سبوح، قدّوس" رويا بالضم والفتح، والفتح أقيس، والضم أكثر استعمالا، وهو من أبنية المبالغة، والمراد بهما التنزيه عن كل عيب، وعن الأولاد والأنداد. وتقدم الكلام مطوّلا بالرقم المذكور، فراجعه تستفد.

وقوله: "رب الملائكة والروح". والروح قيل: جبريل، وقيل غيره، وعطفه على "الملائكة" من عطف الخاص على العام. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌166 - (عَدَدُ التَّسْبِيحِ فِي السُّجُودِ)

1135 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ وَهْبِ بْنِ مَانُوسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا الْفَتَى، يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ، وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمَّد بن رافع) القشيري النيسابوري، ثقة عابد [11] تقدم 92/ 114.

2 -

(عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان) اليماني، أبو يزيد الصنعاني، صدوق [9].

روى عن أبيه، وأعمامه حفص، ومحمد، ووهب، وغيرهم. وعنه أحمد بن صالح المصري، ومحمد بن رافع، وحجاج بن الشاعر، وغيرهم.

ص: 389

قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له أبو داود، والنسائي، وله عندهما حديث الباب فقط.

3 -

(إبراهيم بن عمر بن كيسان) اليماني، أبو إسحاق الصنعاني، صدوق [7].

روى عن وهب بن منبه، وابنه عبد الله بن وهب، ووهب بن مانوس، وغيرهم.

وعنه ابنه عبد الله، وأبو عاصم النبيل وعبد الرزاق، وهشام بن يوسف، وقال: كان من أحسن الناس صلاة، وكان في رأيه شيء. قال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من العباد الخشن، وهم إخوة أربعة: إبراهيم، ومحمد، وحفص، ووهب بنو عمر بن كيسان. أخرج له أبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(وهب بن مانوس) -بالنون، وقيل: بالموحدة- البصري، نزيل اليمن، مستور [6] تقدم 115/ 1067.

5 -

(سعيد بن جُبَير) الأسدي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 28/ 436.

6 -

(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه (يقول: ما رأيت أحدا أشبه صلاة) بالنصب على التمييز (برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، يعني عمر ابن عبد العزيز) العناية من سعيد، أو ممن دونه. قال سعيد (فحزرنا) الفاء فصيحية، أي لَمّا سمعنا قول أنس هذا أردنا أن نضبط مقدار صلاة عمر، لنعرف به مقدار صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحزرنا، -بحاء مهملة، ثم زاي معجمة، ثم راء مهملة- أي قدّرنا.

يقال: حزرت الشيءَ حَزْرًا، من بابي ضرب وقتل: قدّرته، ومنه حزرتُ النخلَ: إذا خَرَصته. قاله في "المصباح".

(في ركوعه) متعلق بـ"حزرنا"(عشر تسبيحات) بالنصب مفعول "حزرنا". أي قدرنا مقدار مكثه راكعا بعشر تسبيحات (وفي سجوده عشر تسبيحات) الجارّ والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله، و"عشر" معطوف على "عشر" السابق.

وفيه عطف المعمولين على معمولي عامل واحد، وهو جائز بلا خلاف.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله: قيل: فيه حجة لمن قال: إن كمال التسبيح عشر تسبيحات، والأصح أن المنفرد يزيد في التسبيح ما أراد، وكلما زاد كان أولى، والأحاديث الصحيحة في تطويله صلى الله تعالى عليه وسلم ناطقة بهذا، وكذا الإمام إذا

ص: 390

كان المؤتمون لا يتأذون بالتطويل. انتهى

(1)

..

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الشوكاني رحمه الله تعالى من أن التطويل من غير عدد معين هو المطلوب هو الصحيح عندي، إذ لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد معين في تسبيح الركوع والسجود.

فإن حديث الباب ضعيف، إذ في سنده وهب بن مانوس، مجهول الحال، كما قال ابن القطان، وكذا حديث "إذا ركع أحدكم" فليقل: ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وإذا سجد، فليقل: سبحان ربى الأعلى، ثلاثا، وذلك أدناه" غير صحيح، للانقطاع في سنده، كما بينه أبو داود في "سننه". وكذا حديث السعديّ، عن أبيه، أو عمه، قال: "رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدرَ ما يقول: سبحان الله وبحمده ثلاثا". ضعيف لأن السعدي مجهول.

والحاصل أن الصحيح أنه لا يوجد في تسبيح الركوع والسجود، عدد معين يوقف عنده لكونه أدنى، أو أعلى، بل المطلوب الإكثار منه، وتطويلهما به. وقد تقدم تحقيق هذا مستوفى في 99/ 1046. فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا ضعيف؛ لأن فيه وهب بن مانوس مجهول الحال، كما تقدم. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية) في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -166/ 1135 - وفي "الكبرى" -73/ 721 - بالسند المذكور. وأخرجه (د) عن أحمد بن صالح، ومحمد بن رافع، كلاهما عن عبد الله بن إبراهيم بن عمر، عن أبيه، عن وهب بن مانوس، عن سعيد بن جبير، عنه.

وأخرجه (أحمد) 3/ 162. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"نيل الأوطار" ج 2 ص 287.

ص: 391

‌167 - (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الذكرِ فِي السُّجُودِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الرخصة في ترك الذكر في السجود مطلقا، سواء ما تقدم ذكره، أو غيره.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذا أن ما ورد من الأذكار في السجود ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاستحباب لحديث الباب.

ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم أمر المسيء صلاته بالسجود، والطمأنينة فيه، حيث قال:"ويسجد، حتى يمكّن وجهه حتى تطمئن مفاصله، وتسترخي". . . ولم يأمره بالذكر، فدل على عدم وجوبه، إذ لو كان واجبا لعلمه إياه، لكونه في مقام الحاجة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. والاستدلال واضح. وقد تقدم بيان هذا في بحث الركوخ مستوفًى -بحمد الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب.

1136 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، أَبُو يَحْيَى بِمَكَّةَ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَلاَّدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، وَنَحْنُ حَوْلَهُ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ، فَأَتَى الْقِبْلَةَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَعَلَيْكَ، اذْهَبْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فَذَهَبَ، فَصَلَّى، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،- يَرْمُقُ صَلَاتَهُ، وَلَا يَدْرِي مَا يَعِيبُ مِنْهَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَعَلَيْكَ، اذْهَبْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"،. فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عِبْتَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّهَا لَمْ تَتِمَّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عز وجل، فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ اللَّهَ عز وجل، وَيَحْمَدَهُ، وَيُمَجِّدَهُ"، قَالَ هَمَّامٌ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:"وَيَحْمَدَ اللَّهَ، وَيُمَجِّدَهُ، وَيُكَبِّرَهُ"، قَالَ: فَكِلَاهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ: "وَيَقْرَأَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ، وَيَرْكَعَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، وَتَسْتَرْخِيَ، ثُمَّ يَقُولَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَسْتَوِيَ قَائِمًا، حَتَّى يُقِيمَ صُلْبَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ، وَيَسْجُدَ حَتَّى يُمَكِّنَ وَجْهَهُ"، وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "جَبْهَتَهُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، وَتَسْتَرْخِيَ، وَيُكَبِّرَ،

ص: 392

فَيَرْفَعَ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا عَلَى مَقْعَدَتِهِ، وَيُقِيمَ صُلْبَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ، فَيَسْجُدَ حَتَّى يُمَكِّنَ وَجْهَهُ، وَيَسْتَرْخِيَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ هَكَذَا لَمْ تَتِمَّ صَلَاتُهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمَّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، أبو يحيى المكي) بصري الأصل، ثقة [10] تقدم 11/ 11.

2 -

(عبد الله بن يزيد) المكي، أبو عبد الرحمن المقرئ، أصله من البصرة، أو الأهواز، ثقة فاضل مقرىء [9] تقدم 4/ 746.

3 -

(همام) بن يحيى بن دينار العَوْذِيّ البصري، ثقة ربما وهم، [7] تقدم 5/ 465.

4 -

(إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) المدني، ثقة ثبت حجة [4] تقدم 54/ 68.

5 -

(علي بن يحيى بن خلاد بن مالك بن رافع بن مالك) الزرقي الأنصاري، المدني، ثقة [4] تقدم 27/ 667.

[تنبيه]: هكذا وقع في سند المصنف زيادة "بن مالك" بين "خلاد" و"رافع"، والذي في كتب الرجال أنه "علي بن يحيى بن خلاد بن رافع بن مالك بن العجلان"، فخلاّد ولد رافع. انظر "تهذيب الكمال" جـ 21 ص 173 و"تهذيب التهذيب" جـ 7 ص 394.

و"التقريب" ص 249. وغير ذلك من كتب الرجال. فالظاهر أن زيادة "ابن مالك" بين "خلاد" و"رافع" غلط. والله تعالى أعلم.

6 -

(يحيى بن خلاد) بن رافع بن مالك بن العجلان العجلاني الزرقي، المدني، له رؤية، ذكره ابن حبان في "الثقات" تقدم 27/ 667.

7 -

(رفاعة بن رافع) بن مالك بن العجلان، أبو معاذ الأنصاري البدري الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم 27/ 667.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث رفاعة بن رافع رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح، تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في 105/ 1053 - حيث أورده المصنف رحمه الله تعالى هناك، مستدلّا به على الرخصة في ترك الذكر في الركوع.

وقوله: "ثم أتى القبلة". أي مكانا من المسجد في جهة القبلة.

وقوله: "يرمق صلاته" مضارع رَمَقَ، يقال: رَمَقَه بعينه رَمْقًا، من باب قَتَلَ: أطال النظر إليه. قاله في "المصباح". يعني أنه صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى الرجل.

وقوله: "ولا يدري ما يعيب منها" أي لا يعلم ذلك الرجل أيّ شيء يعيب النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته. فـ"يدري" مضارع دَرَى من باب رمى: بمعنى يعلم. و"ما" استفهامية، مفعول مقدم لـ"يعيب" و"يعيب" مضارع عاب الشيءَ متعديا من باب رمى أيضا،

ص: 393

والجملة مفعول "يدري" معلق عنها العامل بسبب "ما" الاستفهامية.

وقوله: "ما عِبْتَ من صلاتي" على صيغة الخطاب، و"ما" استفهامية أيضا.

وقوله: "إنها لم تتم" الضمير للقصّة. وهو الضمير الذي يسمى في المذكر بضمير الشأن، وهو ضمير يُفَسَّر بجملة بعده، كقوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} [طه: 74]، وقوله:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. قال ابن مالك رحمه اللَه تعالى في "الكافية الشافية":

وَمُضمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا

بِجُمْلَةِ كَإِنَّهُ زَيْدٌ سَرَى

لِلابْتِدَا أَوْ نَاسِخَاتِهِ انْتَسَبْ

إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ

وَإنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلِ اسْتَتَرْ

حَتْمًا وَإِلَّا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ

فِي بَابِ إِنَّ اسْمَا كَثِيرًا يُحْذَفُ

كَإِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ

وَجَائِزٌ تَأنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا

أُنِّثَ أَوْ تَشْبِيهَ أُنْثَى أَفْهَمَا

وَقَبْلَ مَا أُنِّثَ عُمْدَةً فَشَا

تَأنِيثُهُ كَإِنَّها هِنْدٌ رَشَا

(1)

وقوله: "يسبغ الوضوء" من الإسباغ، أي يكمله.

وقوله: "قال همام الخ" هو همام بن يحيى الراوي عن إسحاق بن عبد الله، يعني أنه سمع إسحاق مرة يقول:"ثم يكبر الله عز وجل، ويحمده، ويمجده"، ومرّة يقول:"ويحمد الله، ويمجّده، ويكبّره".

وقوله: "ويقرأ ما تيسر من القرآن"، قال بعضهم: فيه دليل للحنفية في قولهم بعدم وجوب قراءة الفاتحة.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا غير صحيح؛ لأن المراد بما تيسر هي الفاتحة، فقد ثبت عند أحمد، وأبي داود في هذا الحديث، وصححه ابن حبان "ثم اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت". فظهر بهذا أن المراد بقوله: "ما تيسر" هي الفاتحة. والله تعالى أعلم.

وقوله: "وقد سمعته يقول: جبهته" القائل هو همام كما تقدم قريبا. وبقية مباحث الحديث تقدمت في مبحث الركوع، فراجعها تستفد.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"الكافية الشافية" ج 1 ص 233 - 234 بنسخة الشرح.

ص: 394

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمَّد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين: قد انتهيت من كتابة الجزء الثالث عشر من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتبى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمًا.

{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللَّهم صلّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللَّهم بارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الرابع عشر مفتتحًا بالباب 168 "أقرب ما يكون العبد من الله عز وجل" الحديث رقم 1137.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 395