المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ١٥

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجزء الخامس عشر

دار آل بروم للنشر والتوزيع

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

شرح سنن النسائي

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة الطعبة الأولى

1424 هـ-2003 م

دار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)

ص: 4

‌23 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَة فِي السَّجْدَتَيْنِ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالة على اختلاف الرواة على أبي هريرة رضي الله عنه في إثبات سجدتي السهو، ونفيهما في قصّة ذي اليدين رضي الله تعالى عنه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه:

(اعلم): أن إثبات السجدتين في حديث أبي هريرة في قصّة ذي اليدين رضي الله عنهما هو الذي عليه جمهور الرّواة عنه، وأما نفيهما ففي رواية الزهري.

ثم إن الزهريّ رحمه الله تعالى اختلفوا عليه، فمنهم من روى عنه النفيَ بالجزم، كما في رواية الأوزاعيّ عنه، فقال في آخر الحديث. "ولم يسجد سجدتي السهو حين يقّنه الناس"، رواه ابن خزيمة في "صحيحه" جـ 2 ص 124.

ومنهم من روَى عنه نفي العلم، كما في رواية يونس بن يزيد عنه، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه بحديث ذي اليدين، وسماه ذا الشمالين، وفي آخره: "قال الزهري: ولم يحدثني أحد منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد سجدتين، وهو جالس في تلك الصلاة، وذلك فيما نُرى -والله أعلم - من أجل أن الناس يقّنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استيقن. رواه ابن خزيمة أيضًا جـ 2 ص 52.

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى في كتاب "التمييز" له: قول ابن شهاب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سجد يوم ذي اليدين سجدتي السهو خطأ وغلط، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد سجدتي السهو ذلك اليوم من أحاديث الثقات، كابن سيرين وغيره. انتهى.

وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: لا أعلم أحدًا من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عوّل على حديث ابن شهاب في قصّة ذي اليدين، وكلهم تركوه لاضطرابه فيه، وأنه لم يُقمه إسنادًا ولا متنًا، وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن، فالغلط لا يسلم منه أحد، والكمال ليس لمخلوق. انتهى.

وقال الحافظ أبو بكر بن خُزيمة رحمه الله تعالى: إن قوله: "ولم يسجد سجدتي السهو حين يقّنه الناس" مدرج من كلام الزهري رحمه الله تعالى.

وعبارته في "صحيحه" جـ 2 ص 123 - 128: [باب ذكر خبر رُوي في قصة ذي اليدين، أُدرجَ لفظة الزهري في متن الحديث، فتوهّم من لم يتبحّر في العلم، ولم يكتب

ص: 5

من الحديث إلا نُتَفًا أن أبا هريرة قال تلك اللفظة التي قالها الزهري في آخر الخبر، وتوهم أيضًا أن هذا الخبر الذي زاد فيه الزهري هذه اللفظة خلاف الأخبار الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد يوم ذي اليدين بعد ما أتمّ صلاته].

ثم أخرج بسنده روايات الزهري، ثم قال بعد ما ذكر أن قوله:"ولم يسجد الخ" من كلام الزهري، لا من كلام أبي هريرة رضي الله عنه: ما نصه:

(واعلم): أن الزهري إنما قال: "ولم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ" أنه لم يحدّثه أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد يومئذ، لا أنهم حدّثوه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد يومئذ، وقد تواترت الأخبار عن أبي هريرة من الطرق التي لا يدفعها عالم بالأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو يوم ذي اليدين. انتهى.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بعد ذكر اختلاف الرواة على الزهري، وأنّ غير واحد من الأئمة أنكروا على الزهري، وأن مسلم بن الحجّاج عدّه في كتاب "التمييز" له من أوهام الزهري: ما نصه:

قلت: الذي يظهر لي -والله أعلم- أن الزهري روى هذا الحديث عن سعيد، وأبي سلمة، وغيرهما من غير ذكر سجود السهو بنفي، ولا إثبات، وأن الزهريّ أَتْبَعَ ذلك بقول من عنده:"لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ للسهو"، فهذا مما أرسله الزهري، وأدرجه في الحديث، فمن اقتصر على هذا القدر من حديث الزهري، ووصله، فقد وَهم، لأنه أسند المدرج بانفراده، وقد ذكر الزهري أنه لم يُجز السجودَ أحدٌ من أهل العلم بالمدينة، فكان ينفي السجود لهذا، وهذا بمجرده لا يبطل رواية الحفاظ الأثبات للسجود.

وقد رُوي عن الزهريّ أنه حمل ترك السجود للسهو في هذه القصّة على أحد وجهين:

أحدهما: أنه قال: كان هذا قبل أن يُشرع سجودُ السهو، فرَوَى عنه مَعْمَر أنه قال: كان هذا قبل بدر، ثم استُحكمت الأمور.

والثاني: أنه كان يرى أنه لم يسجد يومئذ للسهو، لأن الناس يقّنوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى استيقن، وكلا الوجهين ضعيف.

أما الأول: فلأن أبا هريرة شهد هذه القصّة، وكان إسلامه بعد بدر بكثير.

وأما الثاني: فمضمونه أنه إنما يُسجد للسهو إذا استدام الشكّ، فإما إذا تيقّن الأمر، وعَمل عليه، فإنه لا يسجد، وإن كان قد زاد في الصلاة، وهذا مذهب غريب.

وقد روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو في هذه القصة من وجوه أُخَر، ثم

ص: 6

ذكر ابن رجب رحمه الله تلك الوجوه، وقد تقدم بيانها، فلا حاجة إلى إعادتها، ثم قال: ورَوَى السجود أيضًا في هذه القصّة

(1)

عمرانُ بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، وهو الحديث الآتي للمصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب برقم -1236 و 1237 - انتهى كلام ابن رجب رحمه الله ملخصًا

(2)

.

وقال الحافظ العلائي رحمه الله تعالى بعد ذكر ما تقدّم عن الإمام مسلم، وابن عبد البرّ رحمهما الله تعالى: ما نصه:

قلت: وعلى تقدير قبول هذا الحديث من الزهريّ، والحُكم بتصحيحه، فإما أن نعتبر روايته التي نفى فيها عدم العلم بوقوع سجود السهو من النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذي اليدين، أو نعتبر الرواية التي جزم فيها بعدمه.

فعلى التقدير الأول لا تعارض بينه وبين بقيّة الروايات، لأنه لم ينف ما أثبتوه، بل ذكر أنّ أحدًا من شيوخه لم يرو له، فلا يردّ مثل هذا على من حفظ ذلك، ورواه إجماعًا.

وأما على التقدير الثاني: فهو يتخرّج على تعارض المثبت والنافي، وجمهور العلماء على ترجيح المثبت على النافي، لما عنده من زيادة العلم، ونُسب الخلافُ في ذلك إلى القاضي عبد الجبار من المعتزلة وغيره، فقالوا: هما متعارضان، وهو ضعيف، لما ذكرنا من أن المثبت معه زيادة علم، وقد حفظها، وقصر النافي عنها. انتهى كلام العلائي رحمه الله تعالى.

وقد تقدم نقل كلامه هذا مطوّلًا، وبالله تعالى التوفيق.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخص مما ذُكر عن الأئمة الحفاظ أن قوله: "ولم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قبل السلام، ولا بعده" من كلام الزهري، أدرجه بعض الرواة في الحديث، وتصرفوا فيه بالاقتصار، ويكون المراد منه نفي علمه به، لا النفي المطلق، فلا يعارض ما رواه الثقات الحُفّاظ الآخرون من إثبات سجوده صلى الله عليه وسلم للسهو يومئذ.

وعلى تقدير صحة كونه من الحديث، فإنه من وَهَم الزهري، فلا يعارض ما حفظه الآخرون. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1232 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ

(3)

، قَالَ:

(1)

ظاهر هذا أن الحافظ ابن رجب رحمه الله يرى اتحاد قصتي أبي هريرة وعمران بن حصين رضي الله عنهما، وسيأتي ترجيح خلافه، إن شاء الله تعالى.

(2)

راجع "فتح الباري" للحافظ ابن رجب رحمه الله جـ 9 ص 405 - 408.

(3)

وفي نسخة "عن شعيب".

ص: 7

حَدَّثَنَا

(1)

اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَسْجُدْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(محمد بن عبد الله بن عبد الحكم) المصري الفقيه، ثقة [11] تقدم 120/ 166.

2 -

(شعيب) بن الليث بن سعد المصري، ثقة نبيل فقيه، من كبار [10] تقدم 120/ 166.

3 -

(عُقَيل) بن خالد الأيلي، ثقة ثبت [6] تقدم 125/ 187.

والباقون كلهم تقدموا في الباب الماضي، والحديث ضعيف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1233 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ يَوْمَ ذِي الْيَدَيْنِ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن سوّاد بن الأسود بن عمرو) العامري، أبو محمد المصري، ثقة [11] تقدم 45/ 594.

2 -

(عبد الله بن وهب) أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد [9] تقدم 63/ 79.

3 -

(جعفر بن ربيعة) الكندي المصري، ثقة [5] تقدم 122/ 173.

4 -

(عرَاك بن مالك) الغفاري الكناني المدني، ثقة فاضل [3] تقدم 134/ 207.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أنه مسلسل بثقات المصريين إلى جعفر، والباقيان مدنيان. وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: يزيد، عن جعفر، عن عراك. والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"أنبأنا".

ص: 8

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد يوم ذي اليدين) أي يوم تذكير ذي اليدين له صلى الله عليه وسلم كونه سها في صلاته، حيث سلم من ركتعين، فإضافة "يوم" إلى "ذي اليدين" لاختصاصه بالتذكير المذكور (سجدتين بعد السلام) هذا محل الاختلاف، فإن فيه إثبات أبي هريرة رضي الله عنه لسجود النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت نفيه له في الحديث الأول الذي رواه ابن شهاب عن سعيد بن المسيِّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وهذه الرواية التي فيها الإثبات هي الراجحة عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما سبق تقريره أوّل الباب، فالحديث صحيح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1234 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدموا قريبًا، إلا اثنين:

1 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب، أبو أيوب المصري، ثقة فقيه حافظ [7] تقدم 63/ 79.

2 -

(قتادة) بن دعامة السَّدُوسي، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت مدلس، من رؤوس [4] تقدم 30/ 34.

وقوله: "بمثله"، أي بمثل حديث الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب. وقد تقدم بيان الفرق بين "مثله" و"نحوه" غيرّ مرة، فلا تغفل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1235 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ

(2)

، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(3)

شُعْبَةُ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي

(4)

ابْنُ عَوْنٍ، وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ

(1)

وفي نسخة: "أخبرني".

(2)

لفظة "بن دينار" ساقطة من بعض النسخ.

(3)

وفي نسخة "حدثنا".

(4)

وفي نسخة "أخبرني".

ص: 9

أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي وَهْمِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ

(1)

).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عُثمان بن سعيد بن كثير بن دينار)، أبو حفص الحمصي، صدوق [10] تقدم 21/ 535.

2 -

(بَقيّة) بن الوليد الكلاعي، أبو يُحمد الحمصي، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء [8] تقدم 45/ 592.

3 -

(خالد الحَذّاء) هو ابن مهران، أبو المنازل البصري، ثقة يرسل [5] تقدم 7/ 634.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: "في وهمه": -بفتح، فسكون- أي في سهوه. قال المجد اللغوي رحمه الله:

"الوَهْمُ": من خَطَرَات القلب، أو مرجوح طرفي المُتَرَدَّد فيه، جمعه أَوْهام، وَوُهُومٌ، ووُهُمٌ، ووَهِمَ في الحساب، كوَجِلَ: غَلِط، ووَهَمَ في الشيء، كوعَدَ: ذهب وَهْمُهُ إليه، وأوهَمَ كذا من الحساب: أسقط، أو وَهَمَ كوَعَدَ، ووَرِثَ، وأوهم: بمعنى. انتهى "ق".

وقال الفيّومي رحمه الله تعالى: وَهَمْتُ إلى الشيء وَهْمًا، من باب وَعَدَ: سَبَق القلبُ إليه مع إرادة غيره، ووَهَمْتُ وَهْمًا: وقَعَ في خَلَدي، والجمعُ أوهام، وشيءٌ موهومٌ، وتوهّمتُ: أي ظننتُ، ووهِمَ في الحساب يَوْهَمُ وَهَمًا، مثلُ غَلِط يَغْلَطُ غَلَطًا وزنًا ومعنىً، ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، وقد يُستَعمَلُ المهموز لازمًا، وأوهم من الحساب مائةً، مثلُ أسقط وزنًا ومعنىً، وأوهم من صلاته ركعةً: تركها. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، ولا يضر فيه وجود بقية في سنده، لكونه في المتابعة، ولأنه صرح بالتحديث فيه، وفي شيخه، فخفّ أمره. والله تعالى أعلم.

وفيه إثبات سجود النبي صلى الله عليه وسلم، حيث سها في صلاته، وهو مختصر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصّة ذي اليدين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1236 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ

(2)

، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ،

(1)

وفي نسخة "بعد السلام".

(2)

لفظة "الأنصاري" ساقطة من بعض النسخ.

ص: 10

عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ، فَسَهَا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ

(1)

، ثُمَّ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري) الذهلي، ثقة حافظ إمام [11] تقدم 196/ 314.

2 -

(محمد بن عبد الله الأنصاري) هو محمد بن عبد الله بن المُثنّى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاريّ، أبو عبد الله البصري القاضي، ثقة [9].

روى عن أبيه، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، وأشعث بن عبد الملك، وغيرهم. وعنه البخاري، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن يحيى الذهلي، وغيرهم.

قال الأحوص بن المفضّل بن غَسّان الغَلّابي عن ابن معين: ثقة وقال أبو حاتم: صدوق، وقال مرّةً: لم أرَ من الأئمة إلا ثلاثةً: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي، ومحمد بن عبد الله الأنصاريّ. وقال أبو داود: تغيّر تغيّرًا شديدًا. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال زكريّا الساجيّ. رجل جليل عالم، لم يكن عندهم من فُرسان الحديث مثل يحيى القطان، ونظرائه، غلب عليه الرأي، قال: وحُدّثت عن ابن معين قال: كان محمد بن عبد الله الأنصاري يليق به القضاء، فقيل له: يا أبا زكريّا فالحديث؟ قال:

لَلْحَرْبِ أَقْوَامٌ لَهَا خُلِقُوا

وَلِلدَّوَاوِينِ كُتَّابٌ وَحُسَّابُ

وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي: وقال أبو خَيثمة: أنكر معاذ بن معاذ، ويحيى بن سعيد حديثَ الأنصاريّ عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم".

وقال الأثرم عن أحمد: ما كان يَضَعُ الأنصاريَّ عند أصحاب الحديث إلا النظرُ في الرأي، وأما السماعُ فقد سمع، قال: وقد سمعت أبا عبد الله ذَكَرَ الحديثَ الذي رواه الأنصاري عن حبيب بن الشهيد، فضعّفه، وقال. كانت ذهبت للأنصاريّ كُتُب، فكان بعدُ يحدّث من كتب غلامه أبي حكيم أُراه قال: فكأن هذا من ذلك. وقال يعقوب بن سفيان: سئل علي بن المديني عن حديث الأنصاريّ عن حبيب بن الشهيد؟ قال: ليس من ذلك شيء، إنما أراد حديث حبيب، عن ميمون، عن يزيد بن الأصمّ:"تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة محرمًا".

(1)

لفظة "سجدتين" ساقطة من بعض النسخ

ص: 11

قال الخطيب: كان الأنصاري قد جالس في الفقه سوّار بن عبد الله، وعبد الله بن الحسن العنبريّ، وعُثمان البَتِّيَّ، وولي قضاء البصرة أيام الرشيد بعد معاذ بن معاذ، ومات بالبصرة. قال يعقوب بن سفيان: مات الأنصاري سنة (214)، قال: وسمعته سنة (212) يقول: أشرفت على أربع وتسعين سنةً. قال الخطيب: وَهمَ يعقوب في تاريخ وفاته، ثم روى بإسناده عن أبي موسى محمد بن المثنى، قال: مات سنة (215)، وفيها أرّخه إسماعيل بن إسحاق القاضي، وزاد ابن سعد: لم يزل الأنصاري بالبصرة يُحدّث إلى أن مات بها في رجب سنة (215)، قال: وكان صدوقًا، وأرخه عمرو بن علي سنة (218). وقال معاذ: ما رأيته عند الأشعث قطّ، وذكر عمر بن شَبّة في أخبار البصرة أنه ذُكر للقضاء أيام المهديّ سنة (166)، فقال عثمان بن الربيع الثقفي للفضل بن الربيع: إنه فتيه، وعفيف، ولكنه يأتمّ بقول أبي حنيفة، ولنا في مصرنا أحكام تخالفه، فلا يصلحنا إلا من أجاز أحكامنا، فتركوا ولايته إذ ذاك. وقال الساجي: سمعت محمد بن المثنّى يقول: سمعت الأنصاري يقول: من زعم من أصحاب أشعث ممن كان يلزمه أنه لا يراني إلى جنجه فهو من الكذابين، كأنه يعرّض بمعاذ بن معاذ، وعلى هذا فقد تعارضا، فتساقطا، قال: وسمعت بشر بن آدم ابن بنت أزهر يقول: سمعت الأنصاري يقول: قد وليت القضاء مرتين، والله ما حكمت بالرأي، ولقد بعتُ مدبّرًا، قال: وسمعت محمد بن عبد الله الزياديّ يقول: سألت الأنصاري عن شيء قضى به علينا معاذ بن معاذ، فأفتاني بخلافه، فلمّا ولي القضاء قضى في تلك المسألة بما قضى به معاذ، فسألته؟ فقال: كنت أنظر في كتب أبي حنيفة، فإذا جاء دخول الجنة والنار لم نجد القول إلا ما قال معاذ: أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث.

3 -

(أشعث) بن عبد الملك الْحُمْراني، أبو هانىء البصري، ثقة فقيه [6] تقدم 97/ 1040.

4 -

(أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال، قيل: فيه نصب يسير [3] تقدم 103/ 322.

5 -

(أبو المهلّب) الْجَرْميّ البصري، عم أبي قلابة، اسمه معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر، وقيل: معاوية، ثقة [2].

روى عن عمر، وعثمان، وأُبَيّ بن كعب، وعمران بن حصين، وأبي مسعود الأنصاري، وتميم الداريّ، وأبي موسى الأشعريّ، وسمرة بن جندب. وعنه ابن أخيه

ص: 12

أبو قلابة، ومحمد بن سيرين، وسعيد الْجُرَيريّ، وعوف الأعرابي.

قال العجلي: بصري تابعي ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة: كان ثقةً قليل الحديث. وذكر ابن عبد البرّ الخلاف في اسمه، ثم قال: معاوية بن عمرو أصحّ، وقال ابن حبّان في "صحيحه": اسمه عمرو بن معاوية بن زيد. انتهى.

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

6 -

(عمران بن حُصين) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، أبو نُجَيد البصري، صحابي أسلم عام خيبر، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، ومات بالبصرة سنة (52)، تقدم 201/ 321.

والباقيان تقدّما في السند السابق، وشرح الحديث يأتي في الذي بعده، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1237 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنَ الْعَصْرِ، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْخِرْبَاقُ، فَقَالَ -يَعْنِي-: نَقَصَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، فَخَرَجَ مُغْضَبًا، يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: "أَصَدَقَ"، قَالُوا: نَعَمْ، فَقَامَ، فَصَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْهَا، ثُمَّ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدّموا قريبًا

(1)

، إلا واحدًا، وهو:

1 -

(أبو الأشعث) أحمد بن المقدام العجلي البصري، صدوق طَعَنَ أبو داود في مروءته [10] تقدم 138/ 219. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أنه مسلسل بثقات البصريين. وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: خالد، وأبو قلابة، وأبو المهلب. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عمران بن حُصين) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قال: سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في

(1)

فـ "يزيد بن زريع" تقدم في الباب الماضي، والباقون في السند الماضي.

ص: 13

ثلاث ركعات من العصر) أي في آخر ثلاث ركعات من صلاة العصر. وفي رواية البيهقي من طريق هُشَيم، قال: أنبأنا خالد، عن أبي قلابة، ثنا أبو المُهلّب، عن عمران ابن حُصين:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، أو العصر ثلاث ركعات". . . الحديث، فرواه بالشكّ بين الظهر والعصر.

(فدخل منزله) وفي لفظ لمسلم: "فدخل الْحُجْرة"(فقام إليه رجل يقال له: الخرباق) -بكسر المعجمة، وسكون الراء- زاد في رواية مسلم من طريق ابن علية، عن خالد الحذّاء:"وكان في يديه طول"، وفي رواية له من طريق عبد الوهّاب الثقفي، عن خالد:"فقام رجل بسيط اليدين".

(فقال -يعنى-) العناية من بعض الرواة، ولم يتبين لي من هو؟، وإنما أتى بها لشكّه في اللفظ الذي سأل به الخرباقُ، أهو "نقصت الصلاة"، أم "قصرت الصلاة"، أو نحو ذلك (نقصت الصلاة يا رسول الله) تقدم ضبط "نقصت" بالبناء للفاعل، أو المفعول، و"الصلاة" فاعل على الأول، ونائب فاعل على الثاني. وفي الرواية الآتية -76/ 1331 - من طريق حماد بن زيد، عن خالد الحذاء:"فقال له الخرباق: إنك صليت ثلاثًا"(فخرج مُغْضَبًا) بصيغة اسم المفعول (يَجُرّ رداءه) لكونه لم يتمهّل حتى يتمكن من لبسه (فقال) للقوم (أصدق؟) ولمسلم: "أصدق هذا؟ "(قالوا: نعم) أى صدق فيما قاله (فقام، فصلى تلك الركعة) ولمسلم: "فصلى الركعة التي كان ترك"(ثم سلم، ثم سجد سجدتيها) المراد سجدتا السهو الذي حصل في تلك الصلاة، فإضافة السجدتين إلى ضمير الصلاة لحصولهما فيها جبرًا لها. وفي رواية حماد بن زيد الآتية:"ثم سجد سجدتي السهو"(ثم سلّم) أي تسليم التحلّل من الصلاة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر تصرف المصنف رحمه الله تعالى يدلّ على أنه يرى اتحاد حديث أبي هريرة، وحديث عمران رضي الله عنهما، حيث أورد حديث عمران رضي الله عنه بعد حديث أبي هريرة الذي فيه إثبات سجدتي السهو في قصة ذي اليدين، ترجيحًا له على رواية الزهري التي فيها نفي السجدتين في تلك القصة، فرجح المصنف بكون القصة مروية من غير رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهي رواية عمران رضي الله تعالى عنه هذه، لكونهما في واقعة واحدة، وهذا هو الذي مال إليه الحافظ في "الفتح".

ولكن الذي يترجح عندي حمل الحديثين على واقعتين، وهذا هو الذي رجحه ابن خزيمة رحمه الله، ونصه في "صحيحه" جـ 2 ص 128 - 129:

أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا أبي وشُعيب، قالا: أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن سُويد بن قيس أخبره، عن معاوية بن حُدَيج: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 14

صلى يومًا، فسلّم، وانصرف، وقد بقي من الصلاة ركعة.

نا بُندار، نا وهب بن جرير، ثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدّث، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن سُويد بن قيس، عن معاوية بن حُدَيج، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، فسها، فسلّم في ركعتين، ثم انصرف، فقال له رجل: يا رسول الله إنك سهوت، فسلّمت في ركعتين، فأمر بلالًا، فأقام الصلاة، ثم أتمّ تلك الركعة، وسألت الناس عن الرجل

(2)

الذي قال: يا رسول الله إنك سهوت، فقيل لي: تعرفه؟ قلت: لا، إلا أن أراه، فمرّ بي رجل، فقلت: هذا هو، قالوا: طلحة بن عُبيد الله. هذا حديث بُندار.

قال أبو بكر: هذه القصّة غير قصّة ذي اليدين، لأن المعلّم للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سها في هذه القصّة طلحة بن عبيد الله، ومخبر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القصّة ذو اليدين، والسهو من النبي صلى الله عليه وسلم في قصّة ذي اليدين إنما كان في الظهر أو العصر، وفي هذه القصّة إنما كان السهو في المغرب، لا في الظهر، ولا في العصر.

وقصّة عمران بن حُصين قصة الخرباق قصّة ثالثة، لأن التسليم فى خبر عمران من الركعة الثالثة، وفي قصّة ذي اليدين من الركعتين، وفي خبر عمران دخل النبي صلى الله عليه وسلم حُجْرته، ثمّ خرج من الحجرة، وفي خبر أبي هريرة: قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى خشبة معروضة في المسجد، فكل هذه أدلّة أن هذه القصص هي قصص: سها النبي صلى الله عليه وسلم، فسلّم من الركعتين، وسها مرّة أخرى، فسلّم في ثلاث ركعات، وسها مرّة ثالثة، فسلّم في الركعتين من المغرب، فتكلّم في المرّات الثلاث، ثم أتم صلاته. انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله تعالى.

وقد تقدم أن الحافظ العلائي رحمه الله تعالى رجّح هذا القول أيضًا.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في "النيل": والظاهر ما قاله ابن خزيمة، ومن تبعه من التعدد، لأن دعوى الاتحاد تحتاج إلى تأويلات مُتعسّفة انتهى.

والحاصل أن الجمع بين الأحاديث بالحمل على التعدد هو الطريق الأسهل الذي لا تكلف، ولا تعسّف فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

(1)

وفي رواية للبيهقي: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فسها". . .

(2)

وفي رواية للبيهقي: "فأخبرت الناسَ، فقالوا: وتعرف الرجل؟ قلت: لا". . .

ص: 15

حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -23/ 1237 - وفي "الكبرى" -58/ 1158 - عن أبي الأشعث العجلي، عن يزيد بن زريع، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمه أبي الْمُهَلَّب، عنه. وفي -23/ 1236 - و"الكبرى" -58/ 1159 - عن محمد بن يحيى الذُّهْلي، عن محمد بن عبد الله الأنصاريّ، عن أشعث بن عبد الملك الْحُمْرَاني، عن محمد بن سيرين، عن أبي قلابة به. وفي -76/ 1331 - و"الكبرى" -110/ 1254 - عن يحيى ابن حبيب بن عربيّ، عن حمّاد بن زيد، عن خالد الحذّاء به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) -2/ 87 - عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزُهَير بن حرب، جميعًا عن ابن عُليّة، عن خالد الحذَاء به. (ح) وعن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الوهّاب الثقفي، عن خالد به.

(د) رقم -1018 - عن مسدد، عن يزيد بن زريع به. (ح) وعن مسدد، عن مسلمة ابن محمد، عن خالد به. و-1039 - عن محمد بن يحيى الذهلي به.

(ت) -395 - عن الذهلي أيضًا به. (ق) -1215 - عن محمد بن المثنّى، وأحمد ابن ثابت الْجَحْدَري، كلاهما عن عبد الوهّاب الثقفي به.

وأخرجه (أحمد) -4/ 427 و 4/ 431 و 4/ 440. و (ابن خزيمة) رقم 1054، و 1060، و 1062. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌24 - (بَابُ إِتْمَامِ الْمُصلِّي عَلَى مَا ذَكَرَ إِذَا شَكَّ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على إتمام المصلي صلاته على ما تذكّره من عددها، إذا وقع له الشك فيها.

والمراد مما ذكره هو المتَيَقَّن، وهو الأقل، على ما سيُبَيَّنُ في الحديث.

ص: 16

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر صنيع المصنف رحمه الله تعالى أنه يرى تقسيم الشك إلى قسمين:

أحدهما: ما لا يكون معه ترجيح لأحد الطرفين، فيأخذ صاحبه بالمتيقن، وهو الأقل، وهو محمل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه المذكور في الباب.

والثاني: ما يكون معه ترجيح أحد الطرفين، وميل القلب إليه، فيأخذ صاحبه بما ترجّح لديه، وغلب على ظنه، وهو محمل حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الآتي في الباب التالي.

وهذا المذهب هو الراجح من مذاهب أهل العلم، لأن فيه العمل بالحدثين بلا تكلف، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة السادسة، إن شاء الله تعالى.

1238 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيُلْغِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا اسْتَيْقَنَ بِالتَّمَامِ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ قَاعِدٌ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يحيى بن حبيب بن عربي) البصري، ثقة [10] تقدم 60/ 75.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيْميّ، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

3 -

(ابن عَجْلان) هو محمدٌ المدني، صدوق [5] تقدم 36/ 40.

4 -

(زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني، ثقة فقيه يرسل [3] تقدم 64/ 80.

5 -

(عطاء بن يسار) المدني مولى ميمونة رضي الله عنها، ثقة فاضل فقيه، من صغار [3] تقدم 20/ 21.

6 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدم 169/ 262. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي سعيد) الخدري رضي الله تعالى عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: إذا شك أحدكم في صلاته) أي في كونه صلّى ثلاثًا، أم أربعًا مثلًا، وفي الرواية التالية. "إذا لم يدر أحدكم أصلّى ثلاثًا، أم أربعًا"(فليُلغ الشّكّ) من الإلغاء -بالغين المعجمة-، وفي نسخة "فليُلق الشك" من الإلقاء -بالقاف-، ولمسلم:"فليطرح الشكّ"، وكلها بمعنى واحدٍ.

ص: 17

والمراد أنه يطرح المشكوك فيه، وهو الزائد، فلا يأخذ به (وليبن على اليقين) أي ليُتمّ صلاته على المتيقّن، وهو الأقلّ، فإذا شكّ هل صلى ثلاثًا، أم أربعًا، فليُلغ الرابعة المشكوك فيها، وليبن على الثلاث المتَيَقَّنة.

وهذا فيما إذا لم يترجح له أحد الطرفين، وإلا فليبن على ما ترجّح له، ثم ليسجد سجدتي السهو بعد السلام، عملًا بالأحاديث الآتية في الباب التالي، وبهذا تجتمع الأدلة من غير إلغاء لبعضها. وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة السادسة، إن شاء الله تعالى.

(فإن استيقن بالتمام) السين والتاء زائدتان للتوكيد، أي أيقن بتمام صلاته بإتيانه بالركعة المشكوك فيها (فليسجد سجدتين، وهو قاعد) أي والحال أنه قاعد، زاد في رواية لأبي داود من طريق مالك:"قبل التسليم".

وفيه أن محل السجدتين إذا لم يترجّح له أحد الطرفين يكون قبل السلام.

[فإن قيل]: هذا يعارضه حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الآتي في الباب التالى حيث إن فيه أن محلهما بعد السلام.

[أجيب]: بأنه لا تعارض بينهما لأن هذا فيما إذا لم يكن له ميل إلى أحد الطرفين، وذاك محمول على ما إذا كان له تحرّ وميل إلى أحد الطرفين، كما سيأتي تحقيق ذلك، إن شاء الله تعالى.

(فإن كان صلّى خمسًا) أي أتى بركعة خامسة سهوًا (شفعتا له صلاته) أي صيّرت السجدتان صلاته شفعًا بعد أن كان وترًا بالخامسة، فكان كأنه صلى ست ركعات.

ويحتمل أن يكون المعنى: أنه إن أتمّ صلاته، وزاد ركعة خامسةً سهوًا، فالسجدتان تجعلان تلك الركعة الزائدة شفعًا، فكأنه صلى ركعتين نافلةً بعد الفريضة، والمعنى الأول أظهر. والله تعالى أعلم.

قال الخطابي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث بيان فساد قول من ذهب إلى أن من صلى خمسًا يُضيف إليها سادسةً، إن كان قد قعد في الرابعة، واعتلّوا بأن النافلة لا تكون ركعةً

(1)

، وقد نصّ على أن تلك الركعة تكون نافلة، ثم لم يأمره بإضافة أخرى إليها انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قاله الخطابي -رحمه الله تعالى- نظر، فإن الحديث نصّ على أن السجدتين تشفعان صلاته، فيكون في حكم من صلى شفعًا، فليست

(1)

هذا قول الحنفية.

ص: 18

الركعة وحدها نافلة، بل مع السجدتين، خلاف ما يفيده قول الخطابي رحمه الله تعالى.

وبالجملة ففساد قولهم كما قال الخطابي ظاهر، لأنه رَأْيٌ محض في مقابلة النص، فيكون فاسد الاعتبار، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:[من الوافر]

إَذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تجُارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ القِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

(وإن كان صلّى أربعا كانتا) أي السجدتان (ترغيمًا للشيطان) أي إغاظةً وإذلالًا له، مأخوذ من الرُّغام، وهو التراب، ومنه أرغم الله أنفه.

والمعنى أن الشيطان لبس عليه صلاته، وتعرّض لإفسادها ونقصها، فجعل الله تعالى للمصلي طريقًا إلى جبر صلاته، وتدارك ما لبسه عليه، وإرغام الشيطان، وردّه خاسئًا مُبعَدًا عن مراده، وكملت صلاة ابن آدم لمّا امتثل أمر الله تعالى الذي عَصَى به إبليسُ، من امتناعه من السجود. والله تعالى أعلم

(1)

.

ولأبي داود: "وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان"، أي مُغيظتين، ومُذلّتين له.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -24/ 1239 - وفي "الكبرى" -59/ 1161 - عن يحيى بن حبيب بن عربيّ، عن خالد الْهُجَيمي، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عنه. وفي -24/ 1239 - و"الكبرى" -59/ 1162 - عن محمد بن رافع، عن حُجَين ابن المثنّى، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن زيد بن أسلم به. وفي "الكبرى" أيضًا -117/ 585 - عن إسماعيل بن مسعود، عن يحيى بن محمد بن قيس، أبي زُكير، عن زيد بن أسلم به، ولفظه:

"إذا شكّ أحدكم، فلم يدر أصلّى ثلاثًا، أم أربعًا، فليصلّ ركعةً تامّةً، ثم يسجد سجدتين، وهو جالس، فإن كانت الركعة خامسةً شفع بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة كانتا ترغيمًا للشيطان". والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح مسلم" للنوويّ جـ 5 ص 60 - 61.

ص: 19

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) -2/ 84 - عن محمد بن أحمد بن أبي خلف، عن موسى بن داود، عن سليمان بن بلال- (ح) وعن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، عن عمه عبد الله بن وهب، عن داود بن قيس- كلاهما عن زيد بن أسلم به.

(د) رقم -1024 (ق) -1210 - كلاهما عن أبي كريب محمد بن العلاء، عن أبي خالد الأحمر، عن ابن عجلان به.

وأخرجه (أحمد) 3/ 72 و 3/ 83 و 3/ 84، و 3/ 87. (والدارمي) رقم -1503. (وابن خزيمة) 1023، و 1024. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو الأمر بإتمام المصلي صلاته إذا وقع له الشك على المتيَقَّن، وهو الأقلّ.

ومنها: مشروعية سجدتي السهو لمن وقع له الشك في صلاته.

ومنها: أن السجدتين يكونان عن قعود.

ومنها: بيان أنهما تجعلان الصلاة شفعًا لمن زاد، فصلى خمسًا، ومرغمتان للشيطان لمن صلى أربعًا، ولم يزد.

ومنها: أن الشيطان يذِلّ بسبب هاتين السجدتين حيث وُفّق لهما ابن آدم، ولم يُوفق هو، بل أبى أن يمتثل أمر ربه، واستكبر، وكان من الكافرين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في بيان اختلاف الرواة في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه هذا بالوصل والإرسال، وترجيح وصله، لكثرة من رواه كذلك:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح البخاري" جـ 9 ص 461 - 467 - : ما حاصله: حديث أبي سعيد رضي الله أخرجه مسلم من طريق سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عنه، وأخرجه أيضًا من رواية داود بن قيس، عن زيد ابن أسلم به.

وأخرجه الدارقطني من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وهشام بن سعد، وفليح بن سليمان، وغيرهم، عن زيد بن أسلم كذلك.

وكذلك رويناه من حديث عبد الله بن صالح، عن الليث، عن ابن عجلان، عن زيد ابن أسلم بهذا الإسناد، والمعروف من رواية ابن عجلان أنه لم يذكر في حديثه "قبل السلام". وكذا رواه أبو غسان، وغيره عن زيد بن أسلم.

ص: 20

ورواه مالك في "الموطإ"، والثوري، ويعقوب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء مرسلًا.

ووصله الوليد بن مسلم وغيره عن مالك، وليس بمعروف عنه وصله.

ووصله بعضهم عن الثوري أيضًا. ولعل البخاريّ ترك تخريجه لإرسال مالك والثوريّ له.

وحكم جماعة بصحة وصله، منهم الإمام أحمد، والدارقطني، وقال أحمد: أذهب إليه، قيل له: يختلفون في إسناده؟ قال: إنما قصر به مالك، وقد أسنده عدّة، فذكر منهم ابن عجلان، وعبد العزيز بن أبي سلمة.

ورواه الدراورديّ، وعبد الله بن جعفر، وغيرهما، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره الدارقطني، وقال: القول قول من قال: "عطاء، عن أبي سعيد".

وله شاهد عن أبي سعيد من وجه آخر من رواية عكرمة بن عمّار، عن يحيى بن أبي كثير: حدثني هلال بن عياض، حدثني أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلّى أحدكم، فلا يدري زاد أو نقص؟ فليسجد سجدتين، وهو جالس". أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن وأخرجه النسائي، وزاد في رواية له:"ثم يسلم"

(1)

. وشيخ يحيى بن أبي كثير مختلف في اسمه وحاله.

وروى ابن إسحاق، عن مكحول، عن كريب، عن ابن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدةً صلّى، أو اثنتين؟ فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى، أو ثلاثًا؟ فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا؟ فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم". أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حسن صحيح، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.

وله علة ذكرها ابن المديني قال: وكان عندي حسنًا حتى وقفت على علته، وذلك أن ابن إسحاق سمعه من مكحول مرسلًا، وسمع إسناده من حسين بن عبد الله بن عبيد الله ابن عباس، عن مكحول، قال: يضعف الحديث من ها هنا- يعني من جهة حسين الذي يرجع الإسناد إليه.

(1)

أخرجه المصنف في "الكبرى" جـ 1 ص 206.

ص: 21

وأخرجه أحمد عن ابن عُليّة، عن ابن إسحاق كما ذكره ابن المديني. وكذلك رواه عبد الله بن نمير، وعبد الرحمن المحاربي، عن ابن إسحاق، عن مكحول مرسلًا، وعن حسين، عن مكحول متصلًا.

ورواه حماد بن سلمة وغيره، عن ابن إسحاق، عن مكحول، مرسلًا. ذكره الدارقطني.

وأخرجه أحمد أيضًا من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وإسماعيل هو المكيّ ضعيف جدًّا، وقد قيل: إنه توبع عليه، ولا يصح، وإنما مرجعه إلى إسماعيل. ذكره الدارقطني.

وروى أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن عُمر بن محمد بن زيد، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا لم يدر أحدكم كم صلى، ثلاثًا أو أربعًا؟ فليركع ركعتين، يحسن ركوعهما وسجودهما، ثم ليسجد سجدتين". أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.

والبخاري يخرج من هذه النسخة كثيرًا، لكن هذا رواه مالك في "الموطإ" عن عمر ابن محمد، عن سالم، عن أبيه موقوفًا. قال الدارقطني: رفعه غير ثابت. وقال ابن عبد البرّ: لا يصحّ رفعه.

ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنه قال: إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر ثلاثًا صلى أم أربعًا، فليبن على أتمّ ذلك في نفسه، وليس عليه سجود. قال: فكان الزهري يقول: يسجد سجدتي السهو، وهو جالس. انتهى ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى ببعض تصرف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين مما ذُكر أن حديث ابي سعيد الخدري رضي الله عنه المذكور في الباب صحيح، لا يؤثر في صحته رواية من أرسله، كما قال الإمام أحمد، والدارقطني، ولذا أخرجه مسلم في "صحيحه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة: في بيان مذاهب أهل العلم في مسألة الشك في الصلاة:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى:

اختلف أهل العلم في المصلي يشكّ في صلاته، فقالت طائفة: يبني على اليقين،

(1)

"فتح الباري على البخاري" للحافظ ابن رجب جـ 9 ص 461 - 467.

ص: 22

ويسجد سجدتي السهو، هذا قول عبد الله بن مسعود، وبه قال سالم بن عبد الله، وربيعة ابن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والأوزاعي، وسفيان الثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور.

وقالت طائفة: إذا لم يدر كم صلى؟، أعاد حتى يحفظ، رُوي هذا القول عن ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وشُريح، والشعبي، وعطاء، وسعيد بن جُبير، وميمون، وبه قال الأوزاعي في رجل سها في صلاته، فلم يدر كم صلى؟.

وقالت طائفة: يُعيد المكتوبة، ويسجد سجدتي السهو للتطوّع، رُوي هذا القول عن سعيد بن جُبير، خلاف الرواية التي وافق فيها شريحًا، والشعبي.

وقالت طائفة رابعة بظاهر الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم، فيلبس عليه صلاته، فلا يدري أزاد، أو نقص، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين، وهو جالس" متفق عليه.

قال الجامع: سيأتي للمصنف في الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

وممن قال بهذا القول أبو هريرة، فإنه قال: إذا خطر الشيطان بين قلب أحدكم، وبين صلاته، فدم يدر كم صلّى؟ يسجد سجدتي الوهم. وقال أنس بن مالك، والحسن البصري. إذا شكّ في ثلاث، أو أربع، فإنه يسجد سجدتي السهو.

وفيه قول خامس: قال عطاء بن أبي رباح، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: إن نسيت المكتوبة، فعُدْ لصلاتك، قال عطاء: لم أسمع منه في ذلك غير ذلك، ولكن بلغني عنه، وعن ابن عمر أنهما قالا: فإن نسيت الثانية فلا تعد لها، وصلّ على أحرز ذلك في نفسك، ثم اسجد سجدتين بعد ما تسلم، وأنت جالس.

وفيه قول سادس: روينا عن سعيد بن جبير، وعطاء، وميمون بن مهران أنهم كانوا إذا شكّوا في الصلاة أعادوها ثلاث مرات، فإذا كانت الرابعة لم يُعيدوا.

وفيه قول سابع: في الإمام لا يدري كم صلّى، قال: ينظر ما يصنع مَنْ وراءه، هذا قول النخعي، وقال عطاء. يوشك أن يُعَلِّمَهُ مَنْ وراءه.

وفيه قول ثامن: قاله مكحول فيمن شكّ، فلم يدر ثلاثًا صلّى أم أربعًا؟ قال: فليركع ركعة حتى تكون صلاته إلى الزيادة أقرب منها إلى النقصان، ولا يسجد للسهو، فإنه ليس بسهو.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: في حديث أبي هريرة -يعني الآتي في الباب التالي-، وأبي سعيد -يعني المذكور في هذا الباب- إثبات سجود السهو على الشاكّ في

ص: 23

صلاته، وفي حديث ابن عباس

(1)

، وأبي سعيد أَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم الشّاكَّ أن يبني على اليقين، ثم يسجد للسهو، فقبول الزيادة التي زادها أبو سعيد وابن عباس رضي الله عنهم تجب، لأنهما حفظا ما لم يحفظه أبو هريرة رضي الله عنه، فوجب قبولُ ما حُفظ من الزيادة مما لم يحفظه أبو هريرة، كما يجب قبول خبر لو تفرّ به كلّ واحد منهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا شكّ المصلي في صلاته، ولم يكن له تحرِّ، ولم يمل قلبه إلى أحد العددين، فإنه يَنظر إلى ما استيقن أنه صلّى، فيحتسب به، ويُلْقِي الشكّ، ويَبْنِي على اليقين، ويسجد سجدتي السهو قبل التسليم على ما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن مال قلبه إلى أحد العددين، فقد اختُلف في ذلك. انتهى.

وقال رحمه الله عند الكلام على حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي في الباب التالي: ما ملخّصه:

وقد اختلفوا في تأويله -يعني حديث ابن مسعود رضي الله عنه- فقالت طائفة من أصحاب الحديث: خبر ابن مسعود هذا، وخبر ابن عباس، وأبي سعيد الخدري ثابتة كلها يجب القول بها في مواضعها، فإذا شكّ المصلي في صلاته، وله تحرٍّ، والتحرّي أن يميل قلبه إلى أحد العددين، وجب عليه استعمال حديث عبد الله بن مسعود، ويبني على العدد الذي مال إليه قلبه، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام، على ما في حديث عبد الله بن مسعود، وإذا لم يكن له تحرِّ، ولا يميل قلبه إلى أحد العددين بنى على اليقين، على ما في حديث ابن عباس وأبي سعيد رضي الله عنهم، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول هو الراجح عندي، كما سيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.

وقال أصحاب الرأي: إذا صلّى، فسها في صلاته، فلم يدر أثلاثًا صلّى أم أربعًا، وذلك أول ما سها، فعليه أن يستقبل الصلاة، فإن لقي ذلك غير مرّة تحرّى الصواب، فإن كان أكبر رأيه أنه قد أتمّ مضى على صلاته، وإن كان أكبر رأيه أنه صلى ثلاثًا أتمّ الرابعة، ثم يتشهد، ويسلّم، ويسجد سجدتي السهو.

(1)

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه ابن المنذر رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: ثنا ابن قَعْنَب، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحكم في صلاته، فلم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا فليقم، فليصل ركعة، ثم يسجد سجدتين، وهو جالس قبل السلام، فإن كانت الركعة التي صلى خامسةً شفعها بهاتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان" انتهى "الأوسط" جـ 3 ص 280. والحديث أخرجه مالك في "الموطإ" جـ 1 ص 95 مرسلًا، وأخرجه أبو داود من طريقه في "سننه" جـ 6 ص 154 راجع "المنهل العذب المورود".

ص: 24

وكان أحمد بن حنبل يقول: الشكّ على وجهين: اليقين، والتحرّي، فمن رجع إلى اليقين ألغى الشكّ، وسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث عبد الرحمن بن عوف

(1)

، وأبي سعيد رضي الله عنهما، وإذا رجع إلى التحري، وهو أكبر الوهم سجد سجدتي السهو بعد التسليم على حديث ابن مسعود رضي الله عنه

(2)

.

وقالت طائفة: معنى التحرّي الرجوع إلى اليقين، لأنه أُمِرَ أن يتحرّى الصواب، والصواب هو الرجوع إلى اليقين، وأنما أُمرَ أن يرجع من الشك إلى اليقين، ولم يؤمر أن يرجع من شك إلى شك.

ومن حجة من قال بهذا أن يقول: لَمّا كان عليَّ إذا شككت أصليتُ الظهر أم لا؟ أن أصليها بتمامها حتى أكون على يقين من أدائها، فكذلك إذا شككت في ركعة منها عليّ أن آتي بها حتى أكون على يقين من أدائها.

ومن قال

(3)

بخبر أبي سعيد، وابن عباس رضي الله عنهم في موضعهما، وبخبر ابن مسعود رضي الله عنه في موضعه قال: علينا إذا ثبتت الإخبار أن نُمْضيها كلها، ونستعمل كلَّ خبر في موضعه، وإذا ثبت الخبر ارتفع النظر، ومعنى خبر ابن مسعود غيرُ خبر أبي سعيد، وإذا كان كذلك لم يجز أن يُترك أحدهما، لأن الآخر أشبه بالنظر

(4)

. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى بتصرف

(5)

.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى بعد ذكر نحو ما تقدم من الأقوال وأدلتها: ما نصّه:

والذي يلوح لي أنه لا معارضة بين أحاديث البناء على الأقلّ، والبناء على اليقين، وتحري الصواب، وذلك لأن التحري في اللغة هو طلب ما هو أحرى إلى الصواب، وقد أَمَرَ به صلى الله عليه وسلم، وأَمَرَ بالبناء على اليقين، والبناء على الأقلّ عند عروض الشكّ، فإن أمكن

(1)

حديث عبد الرحمن بن عوف رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، ولفظ الترمذي: قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سها أحكم في صلاته، فلم يدر واحدة صَلَّى أو اثنتين؟ فَلْيَبْنِ على واحدة، فإن لم يدر ثنتَين صلى أو ثلاثًا؟ فليَبْن على ثنتين، فإن لم يدر ثالثًا أو أربعًا؟ فليَبْن على ثلاث، وليسجد سجدتين" وصححه الترمذي، وتبعه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي"، لكن الظاهر أنه معلول كما تقدم بيانه في كلام ابن المديني رحمه الله، فراجع المسألة الخامسة. والله تعالى وليّ التوفيق.

(2)

قلت: هذا القول هو الذي مَرَّ ترجيحه قريبًا.

(3)

هو التحقيق الحقيق بالقبول كما يأتي قريبًا.

(4)

هكذا نسخة "الأوسط"، ولعل الصواب لأن الآخر أشبه بالنظير. والله أعلم.

(5)

"الأوسط" جـ 3 ص 280 - 287.

ص: 25

الخروج بالتحرّي عن دائرة الشكّ لغةً، ولا يكون إلا بالاستيقان بأنه قد فعل من الصلاة كذا ركعات، فلا شكّ أنه مقدّم على البناء على الأقلّ، لأن الشارع قد شرط في جواز البناء على الأقلّ عدمَ الدراية، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهذا المتحري قد حصلت له الدراية، وأمر الشاكّ بالبناء على ما استيقن، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ومن بلغ به تحرّيه إلى اليقين قد بنى على ما استيقن

(1)

.

وبهذا تعلم أنه لا معارضة بين الأحاديث المذكورة، وأن التحرّي المذكور مقدّم على البناء على الأقلّ، وقد أوقع الناس ظنُّ التعارض بين هذه الأحاديث في مضايق، ليس عليها أثارة من علم، كالفرق بين الْمُبْتَدَإِ وَالْمُبْتَلَى، والركن والركعة. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الشوكاني رحمه الله تعالى تحقيق حسن جدًّا.

وخلاصته: أن من شكّ في صلاته لا يخلو إما أن يكون له تحرٍّ وميل إلى أحد العددين، فيبني على العدد الذي مال إليه قلبه، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام، على ما في حديث عبد الله بن مسعود الآتي، وإما أن لا يكون له ميل إلى أحد العددين، فيبني على اليقين، وهو الأقلّ، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام، على حديث أبي سعيد، وابن عباس رضي الله عنهما.

والحاصل أن المذهب الراجح هو الذي فصّل الشكّ على التفصيل المذكور، فإنه يَجمَعُ بين أحاديث الباب من غير تعرض لإهمال بعضها، وما عداه من الأقوال إما أن يلزم منه حمل بعض الأخبار على بعضها بتكلف وتعسف، وإما أن يكون رأيًا محضًا لا مُستَنَدَ له، ولا أثارة عليه من العلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1239 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -وَهُوَ

(3)

ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ صَلَّى ثَلَاثًا، أَوْ

(4)

أَرْبَعًا؟،

(1)

الظاهر أن الشوكاني يَرَى تقسيم الشاكّ إلى ثلاثة أقسام: متردد، ومن ترجح عنده أحد الطرفين، ومن تيقن بعد التردّد على أحد الأمرين، لكن تقسيمه إلى قسمين أقرب إلى ظواهر الأحاديث، ولأن المتيقن بعد التردّد يعلم حكمه من حكم من غلب ظنه من باب أولى. والله أعلم.

(2)

"نيل الأوطار" جـ 3 ص 138.

(3)

كلمة "وهو" ساقطة من بعض النسخ.

(4)

وفي نسخة: "أم أربعًا".

ص: 26

فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً، ثُمَّ يَسْجُدْ بَعْدَ ذَلِكَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا، شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ").

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدموا في السند السابق، إلا:

1 -

(محمد بن رافع) تقدم قبل باب.

2 -

(حُجين بن المثنى) أبو عُمير اليمامي سكن بغداد، وولي قضاء خُرَاسان، ثقة [5] تقدم 180/ 1150.

3 -

(عبد العزيز بن أبي سلمة) هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون نسب لجدّه المدني نزيل بغداد مولى آل الهُدير، ثقة فقيه مصنف [7] تقدم 17/ 897.

والحديث صحيح، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌25 - (بَابُ التَّحَرِّي)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على أمر المصلي إذا شكّ في صلاته أن يتحرى الصواب، ويبني عليه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "التحرّي" مصدر تَحَرّى يتحرّى يقال: تَحرَّيتُ الشيءَ: قصدتُه، وتحرّيتُ في الأمر: طلبت أَحْرَى الأمرين، وهو أولاهما. قاله الفيومي رحمه الله تعالى.

وقال ابن منظور رحمه الله: التحريّ: طلب ما هو أَحرى بالاستعمال في غالب الظنّ، وفلانٌ يتحرى الأمرَ: أي يتوخّاه، ويقصده، والتحرّي: قصد الأَوْلَى والأحقّ، مأخوذ من الْحَرَى -أي بفتحتين مقصورًا- وهو الْخَليقُ، والتَّوَخّي مثله، وفي الحديث:"تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر": أي تعَمَّدُوا طلبَهَا فيها، والتحرّي: القصد والاجتهاد في الطلب، والعَزْمُ على تخصيص الشيء بالفعل والقول، ومنه الحديث "لا تتحرَّوا بالصلاة طلوع الشمس وغروبها". وتحرّى فلان بالمكان: أي تمكّثَ، وقوله تعالى:{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] أي توَخَّوْا وعَمَدُوا. قاله أبو عبيدة، وأنشد لامرىء القيس

ص: 27

[من الرمل]:

دِيمَةٌ هَطْلَاءُ فِيهَا وَطَفٌ

طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتذْر

انتهى كلام ابن منظور باختصار

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

1240 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ -وَهُوَ ابْنُ مُهَلْهَلٍ- عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ فِيهِ، فَيُتِمَّهُ، ثُمَّ -يَعْنِي- "يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ". وَلَمْ أَفْهَمْ بَعْضَ حُرُوفِهِ كَمَا أَرَدْتُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن رافع) النيسابوري تقدم قريبًا.

2 -

(يحيى بن آدم) بن سليمان، أبو زكريا الأموي مولاهم الكوفي، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] تقدم 1/ 451.

3 -

(مُفَضّل بن مُهَلْهَل) السَّعْدي، أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة ثبت نبيل عابد [7].

روى عن الأعمش، ومنصور، ومغيرة، والحسن، وغيرهم. وعنه جرير، وأبو أسامة، ويحيى بن آدم، وغيرهم. قال صالح بن أحمد، عن أبيه: رجل صالح. وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وكان من أقران الثوري، وهو أحبّ إليّ من أخيه الفضل. وقال العجلي: كان ثقة ثبتا صاحب سنة وفضل وفقه، ثبتًا في الحديث، ولَمّا مات الثوري جاء أصحابه إلى المفضل، وقالوا: تجلس لنا مكانه، فأبى. وقال الآجرّيّ عن أبي داود: قال رجل لعبد الرّزّاق: أما رأيت الرجل الذي كان مع سفيان؟ قال. ذاك الراهب -يعني مفضل بن مهلهل- قال أبو داود: وخرج مع سفيان إلى اليمن مضاربًا له. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من العبّاد الْخُشُن ممن يُفَضَّل على الثوري، لا أحفظ له من تابعيّ سماعًا، ولست أنكر أن يكون سمع من إسماعيل بن أبي خالد. وقال ابن سعدة كان ثقة. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال علي بن المديني: كان ثقة. وقال أبو بكر البزّار: ثقة. وقال أبو عوانة في "صحيحه": كان من النبلاء. قال ابن منجويه: مات سنة (167). روى له مسلم، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (8) أحاديث.

4 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عَتّاب الكوفي الإمام الحجة الثبت [6] تقدم 2/ 2.

5 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعي الكوفي الثقة الثبت الفقيه [5] تقدم 29/ 33.

(1)

"لسان العرب" جـ 2 ص 853.

ص: 28

6 -

(علقمة) بن قيس النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد [2] تقدم 61/ 77.

7 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه، تقدم 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، ومفضل، فانفرد به هو، ومسلم، وابن ماجه، وأنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخه فنيسابوري، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، منصور، وإبراهيم، وعلقمة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه (يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم) جملة في محل نصب على الحال من "عبد الله"، أي حال كونه رافعًا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لم يصرّح بصيغة الرفع، لكونه شك في تلك الصيغة، هل هي "سمعت"، أو "حدّثني"، أو أخبرني"، أو غيرها، فأتى بصيغة تحتمل الجميع (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (إذا شكّ أحدكم في صلاته) أي في عدد ما صلّى من صلاته (فليتحرّ الذي يرى أنه الصواب) أي فليطلب الذي يغلب على ظنه أنه صوابٌ (فيتمه) أي يَبْن عليه حتى تتم صلاته (ثم -يعني- يسجد سجدتين) يحتمل أن تكون العناية من المصنف أو من غيره، وتقدم وجه زيادتها في مثل هذا المحلّ قريبًا. وفي رواية وكيع عن مسعر الآتية: "فليتحرّ، ويسجد سجدتين بعد ما يفرغ". وفي رواية ابن المبارك عن مسعر:"فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، وليسجد سجدتين".

قال في "الفتح": واختُلف في المراد بالتحري، فقال الشافعية: هو البناء على اليقين، لا على الأغلب، لأن الصلاة في الذمّة بيقين، فلا تسقط إلا بيقين. وقال ابن حزم: التحرّي في حديث ابن مسعود يفسره حديث أبي سعيد، يعني حديث "وإذا لم يدر أصلى ثلاثًا، أو أربعًا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن". وروى سفيان في "جامعه" عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"إذا شكّ أحدكم في صلاته، فليتوخّ حتى يعلم أنه قد أتمّ". انتهى. وفي كلام الشافعي نحوه، ولفظه "فليتحرّ"، أي في الذي يظنّ أنه نقصه فليتمه، فيكون التحرّي أن يعيد ما شكّ فيه، ويبني على ما استيقن، وهو كلام عربي مطابق لحديث أبي سعيد، إلا أن الألفاظ تختلف. وقيل: التحرّي الأخذُ بغلبة الظنّ، وهو ظاهر الروايات التي عند مسلم. وقال ابن حبّان في "صحيحه": البناء غير التحرّي، فالبناء أن يشكّ في الثلاث أو الأربع مثلًا، فعليه أن

ص: 29

يلغي الشكّ، والتحرّي أن يشك في صلاته، فلا يدري ما صلى، فعليه أن يبني على الأغلب عنده. وقال غيره: التحري لمن اعتراه الشكّ مرة بعد أخرى، فيبني على غلبة ظنه، وبه قال مالك، وأحمد، وعن أحمد في المشهور: التحرّي يتعلق بالإمام، فهو الذي يبني على ما غلب على ظنه، وأما المنفرد فيبني على اليقين دائمًا، وعن أحمد رواية أخرى كالشافعية، وأخرى كالحنفية. وقال أبو حنيفة: إن طرأ الشك أولًا استأنف، وإن كَثُر بنى على غالب ظنه، وإلا فعلى اليقين. ونقل النووي أن الجمهور مع الشافعي، وأن التحري هو القصد، قال الله تعالى:{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]، وحكى الأثرم عن أحمد في معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا غرَار في صلاة"، قال: أن لا يخرج منها إلا على يقين. فهذا يقوي قول الشافعي. وأبعد من زعم أن لفظ التحري في الخبر مدرج من كلام ابن مسعود، أو ممن دونه، لتفرّد منصور بذلك عن إبراهيم، دون رفقته، لأن الإدراج لا يثبت بالاحتمال. انتهى. ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم قريبًا أن الراجح في تفسير التحري هو الأخذ بغالب الظن، كما قاله ابن حبان، وإنما رجحناه لأن به العمل بكل من حديث أبي سعيد، وحديث ابن مسعود رضي الله عنهما، بدون تأويل متكلَّف، بخلاف غيره من الأقوال. والله تعالى أعلم.

(ولم أفهم بعض حروفه كما أردت) هذه الجملة لا توجد في بعض النسخ، وليست في "الكبرى" أيضًا، والظاهر أنها من كلام المصنف، يعني أنه لم يفهم من شيخه بعض حروف الحديث كما يحبّ أن يفهمه، ولعله لم يتمكن من فهمه بسبب زحام، أو نحوه.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: فى بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -25/ 1240 - وفي "الكبرى" -60/ 1163 - عن محمد بن رافع، عن يحيى بن آدم، عن مُفَضَّل بن مُهَلْهَل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عنه. وفي -25/ 1241 - و"الكبرى" -60/ 1164 - عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخَرِّمي، عن وكيع، عن مسعر، عن منصور به. و-25/ 1242 - وفي "الكبرى"-60/ 1165 -

(1)

"الفتح" جـ3 ص 425 - 426.

ص: 30

عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن مسعر به. و-25/ 1243 - و"الكبرى" -60/ 1166 - عن الحسن بن إسماعيل، عن الفُضَيل بن عياض، عن منصور به. و -25/ 1244 - و"الكبرى" -60/ 1167 - عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن منصور به. و 25/ 1245 - و"الكبرى" -60/ 1168 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن شعبة، عن الْحَكَم، عن أبي وائل، عن عبد الله موقوفًا. و 25/ 1246 - و"الكبرى" -60/ 1169 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن مسعر، عن الحكم به. و 25/ 1247 - و"الكبرى" -60/ 1170 - عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن عون، عن إبراهيم، قال: كانوا يقولون: إذا أهم. . . . الحديث. موقوفًا، أو مقطوعًا.

و26/ 1254 - و"الكبرى" -61/ 1177 - عن محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، كلاهما عن يحيى القطان، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم به. و-26/ 1255 - و"الكبرى" -61/ 1178 - عن عبدة بن عبد الرحيم، عن النضر بن شُميل، عن شعبة، عن الحكم، ومغيرة، كلاهما عن إبراهيم به. و -26/ 1256 - و"الكبرى" -61/ 1179 - عن محمد بن رافع، عن يحيى بن آدم، عن مُفضّل بن مُهلهَل، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم بن سُويد، عن علقمة به. و-26/ 1257 - و"الكبرى" -61/ 1180 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن مالك ابن مغوَل، عن الشعبي، عن علقمة به. و -26/ 1258 - و"الكبرى" -61/ 1181 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم به. و -26/ 1259 - و"الكبرى" -61/ 1182 - عن سويد، عن ابن المبارك، عن أبي بكر النَّهْشَليّ، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 1/ 0 ، 11 و 1/ 1، 11 و 8/ 170، و 9/ 108. (م) 2/ 84 ، 2/ 85، و 2/ 86. (د) رقم-10/ ،19 و 10 ، 20 و 10 ، 21 و 10 ، 28.

وأخرجه (أحمد) 1/ 376 ، و 443 ، و 419 و 424 و 438 ، و 455 و 456 و 465 و (الدارمي) رقم 1506 (وابن خزيمة) 1055 و 1056 و 1057 و 1058 و 1059 و 1061. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في بيان الاختلاف الواقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح صحيح البخاري" جـ 9 ص 467 - 469: ما حاصله: أخرجه -يعني حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا- البخاري في "أبواب استقبال

ص: 31

القبلة" من رواية جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وقال في آخره: "وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرّ الصواب، فليتمّ عليه، ثم ليسلّم، ثم يسجد سجدتين". وأخرجه مسلم أيضًا، وأخرجه من طرق أخرى، عن منصور، وفي بعضها "فلينظر أحرى ذلك للصواب"، وفي رواية "فليتحرّ أقرب ذلك إلى الصواب"، وفي رواية "فليتحر الذي يرى أنه صواب".

وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وزاد فيه:"ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو".

وقد رواه جماعة من ثقات أصحاب منصور، عنه بهذه الزيادة. وأخرجه ابن ماجه، وعنده:"ويسلم، ويسجد سجدتين" بالواو.

وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم: وحديث التحرّي ليس يرويه غير منصور، إلا أن شعبة روَى عن الحكم، عن أبي وائل، عن عبد الله، موقوفًا نحوه، قال:"وإذا شك أحدكم فليتحر". وأخرجه النسائي كذلك

(1)

، وقد روي عن الحكم مرفوعًا. قال الدارقطني: الموقوف عن الحكم أصح.

وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه التحرّي من وجه آخر مختلف فيه، فروَى خُصَيف، عن أبي عُبَيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا كنت في صلاة، فشككت في ثلاث، أو أربع، وأكثر ظنك على أربع تشهدت، ثم سجدت سجدتين، وأنت جالس قبل أن تسلم، ثم تشهدت أيضا، ثم تسلم". أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي

(2)

وذكر أبو داود أنه اختُلف في رفعه ووقفه، وفي لفظه أيضًا.

وقال أحمد: حديث اليقين أصح في الرواية من التحرّي، وقال في حديث التحرّي: هو صحيح، رُوي من غير وجه.

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: ويظهر من تصرف البخاري رحمه الله عكس هذا، لأنه أخرج حديث التحري دون اليقين، وأخرج مسلم الحديثين جميعًا. انتهى ما قاله الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- ببعض بتصرف

(3)

.

وأما بيان ما يتعلق بالحديث من الأحكام ومذاهب العلماء، فقد تقدمت في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله في الباب الماضي مستوفاةً بما يغني عن إعادتها هنا. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

يأتي للمصنف برقم (1245، 1246).

(2)

أي في "الكبرى" جـ 1 ص 21.

(3)

راجع "شرح البخاري" لابن رجب جـ 9 ص 467 - 469.

ص: 32

1241 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرَّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَفْرُغُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الله بن المبارك الْمُخَرِّميّ) أبو جعفر البغدادي، ثقة حافظ [11] تقدم 43/ 50.

[تنبيه]: "الْمُخَرِّميّ": -بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، وتشديد الراء المكسورة، بعدها ميم خفيفة-: نسبة إلى مُخَرِّم محلة ببغداد. كما في "لب اللباب" ج 2 ص 244. فما يوجد في نسخ "المجتبى" المطبوعة من ضبطه بالقلم بفتح الراء المشددة فتحريف من النسّاخ، فتنبه. والله تعالى أعلم.

2 -

(وكيع) بن الْجَرّاح، أبو سفيان الرُّؤَاسي الكوفي الإمام الحجة الثبت [9] تقدم 23/ 25.

3 -

(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهَير، أبو سلمة الكوفي الحافظ الحجة الثبت [7] تقدم 8/ 8. والباقون تقدموا في السند الماضي.

والحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في الحديث الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1242 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَادَ، أَوْ نَقَصَ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ

(2)

، هَلْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟

(3)

، قَالَ

(4)

: "لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ، أَنْبَأْتُكُمُوهُ، وَلَكِنِّي إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَأَيُّكُمْ مَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة، كلهم تقدموا في السند الماضي، سوى:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي، ثقة [10] تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك المروزي الإمام الحافظ الحجة الثبت الفقيه [8] تقدم 32/

(1)

وفي نسخة "حدثنا".

(2)

وفي نسخة: "فقيل: يا رسول الله".

(3)

وفي نسخة "هل حدث شيء في الصلاة؟ "، وفي أخرى بإسقاط لفظة "في الصلاة".

(4)

وفي نسخة "فقال" بالفاء.

ص: 33

36.

[تنبيه]: وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى" هنا "أنبأنا عبد الله بن مسعر"، وهو غلط صريح، تصحفت فيه "عن" إلى "بن". فتنبه.

وقوله: "زاد أو نقص" هكذا في هذه الرواية بالشك، والشكّ من إبراهيم النخعي، كما بُيِّنَ في رواية لمسلم، ولفظه:"قال إبراهيم: والوَهْم مني"، وفي رواية "قال إبراهيم: وايم الله ما جاء ذاك إلا من قبلي".

وسيجيء في الباب التالي الجزم بالزيادة، إن شاء الله تعالى.

وقوله: "فأيكم ما شكّ""ما" زائدة للتوكيد.

وقوله: "أحرى ذلك بالصواب"، أي أقربه إلى الصواب، وهو ما غلب على ظنه، ومال إليه قلبه، على ما هو الراجح، أو الأقلّ المتيقن، كما تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك.

والحديث متفق عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1243 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُجَالِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ -يَعْنِي ابْنَ عِيَاضٍ- عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً، فَزَادَ فِيهَا، أَوْ نَقَصَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَلْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟، قَالَ:"وَمَا ذَاكَ؟ "، فَذَكَرْنَا لَهُ الَّذِي فَعَلَ، فَثَنَى رِجْلَهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ:"لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ، لأَنْبَأْتُكُمْ بِهِ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَأَيُّكُمْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ شَيْئًا، فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ صَوَابٌ

(1)

، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ").

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدموا قريبًا، سوى:

1 -

(الحسن بن إسماعيل بن سليمان) بن مُجالد المُجالدي

(2)

المصيصي، ثقة [10] تقدم 26/ 432.

2 -

(الفُضيل بن عياض) بن مسعود التميمي، أبو علي الزاهد المشهور، خراساني الأصل، وسكن مكة، ثقة عابد إمام [8] تقدم 21/ 388.

والحديث متفق عليه، وشرحه يعدم مما تقدم، وكذا المسائل المتعلقة به. والله

(1)

وفي نسخة "يرى أنه هو الصواب".

(2)

نسبة إلى جده "مجالد" المذكور.

ص: 34

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1244 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ مَنْصُورٌ، وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ، وَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ رَجُلاً، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الظُّهْرِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، فَقَالُوا: أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ حَدَثٌ؟، قَالَ:"وَمَا ذَاكَ"، فَأَخْبَرُوهُ بِصَنِيعِهِ، فَثَنَى رِجْلَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ:"إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي"، وَقَالَ:"لَوْ كَانَ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ حَدَثٌ، أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ"

(1)

، وَقَالَ:"إِذَا أَوْهَمَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ مِنَ الصَّوَابِ، ثُمَّ لْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدري البصري، ثقة [01] تقدم 42/ 47.

2 -

(خالد بن الحارث) الْهُجَيمي البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصري [7] تقدم 24/ 26.

والباقون تقدموا في الذي قبله.

قوله: "كتب إليّ منصور، وقرأته عليه، وسمعته يحدث رجلًا". يعني أن هذا الحديث مما اجتمع فيه لشبعة ثلاثة من وجوه التحمل: الكتابة، والقراءة، والسماع.

وقوله: "فأخبروه بصنيعه، فثنى". أي أخبر الصحابة الذين صلوا وراءه بما صنع من الزيادة في الصلاة، فـ"ثنى" أى عطف رجله لسجود السهو.

وهذا ظاهر في كونه رجع إلى أقوال المأمومين، وتأويله بأنه تذكر حين ذكّروه خلاف الظاهر، وقد تقدم أن الصحيح أن الإمام يأخذ بقول المأمومين. والله تعالى أعلم.

وقوله: "إنما إنا بشر أنسى" الخ فيه أن النسيان من طبيعة البشر، وفيه يقول القائل:[من الطويل]

وَمَا سُمِّيَ الاِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ

وَلَا القَلْبُ إِلا أَنَّهُ يتَقَلَّبُ

وقد تقدم الكلام في جواز السهو على الأنبياء مُفَضَّلًا في المسألة الرابعة عشرة، والخامسة عشرة من شرح حديث ذي اليدين مستوفًى، فإن أردت فارجع إليه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "حَدَث" -بفتحتين-: أي شيء حادث.

(1)

لفظة "به" ساقطة من بعض النسخ.

ص: 35

وقوله: "إذا أوهم في صلاته"، أي شكّ فيها، وليس "أوهم" هنا بمعنى أسقط، لأن الإسقاط معناه النقص، ومن نقص من صلاته شيئًا ساهيًا، وتبين له ذلك وجب عليه أن يأتي بما نقصه، ثم يسجد للسهو، ولا يحتاج إلى أن يتحرّى، ولأن "أوهم" إنما يكون بمعنى "أسقط" إذا تعدى بـ "من"، لا بـ"في".

والحديث متفق عليه، وشرحه يعلم مما مسبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1245 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "مَنْ أَوْهَمَ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَفْرُغُ، وَهُوَ جَالِسٌ").

رجال هذا الإسناد. ستة، كلهم تقدموا قريبًا، ألا واحدًا:

1 -

(أبو وائل) شقيق بن سَلَمَة الأسدي، الكوفي، ثقة مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة [2] تقدم 2/ 2.

والحديث صحيح موقوف، وكذا الذي بعده من طريق مسعر، عن الحكم، وقد تقدم أن منصورًا وصله، وهو ثقة ثبت، فتكون زيادته مقبولةً، ولا يضرّه وقف الحكم.

وروي عن الحكم أيضًا مرفوعًا، لكن الأصحّ عنه الوقف، كما قال الدارقطنيّ رحمه الله تعالى، وقد تقدّم بيان ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل ..

1246 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:"مَنْ شَكَّ" أَوْ "أَوْهَمَ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ

(1)

، ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة

كلهم تقدموا قريبًا، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1247 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ

(2)

، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:"كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا أَوْهَمَ يَتَحَرَّى الصَّوَابَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ").

(1)

وفي بعض النسخ لفظة "الصواب" ساقطة، وهو الذي في "الكبرى".

(2)

سقط من بعض النسخ لفظ "بن نصر".

ص: 36

رجال هذا الإسناد: أربعة، كلهم تقدموا قريبًا، إلا:

1 -

(ابن عون) وهو عبد الله بن عون بن أَرْطَبَان، أبو عون البصري، ثقة ثبت فاضل [5] تقدم 29/ 33.

والحديث صحيح موقوف.

وقوله: "كانوا يقولون" الخ أراد به الصحابة، أو التابعين، فيكون موقوفًا، أو مقطوعًا، لأن ما أضيف إلى الصحابي يسمّى موقوفًا، وما أضيف إلى التابعي يسمّى مقطوعًا، وربما سمّي موقوفًا بتقييده بالتابعي، كما أن ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمّى مرفوعًا، قال الحافظ السيوطي رحمه الله في "ألفية المصطلح":

وَمَا أُضِيفَ للنَّبِي الْمَرْفُوعُ لَوْ

مِنْ تَابِعٍ أوْ صَاحِبٍ وَقْفًا رَأَوْا

وَمَا يُضَفْ لِتَابِعٍ مَقْطُوعُ

وَالوَقْفُ إِنْ قَيَّدْتَهُ مَسْمُوعُ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1248 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسَافِعٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيج الأموي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، وكان يدلّس، ويرسل [6] تقدم 28/ 32.

2 -

(عبد الله بن مسافع) -بضم الميم- ابن عبد الله بن شيبة بن عثمان الْعَبْدَري الْحَجَبي المكيّ [4].

أمه سَعْدة بنت عبد الله بن وهب بن عثمان بن أبي طلحة.

روى عن عقبة، وقيل: عتبة بن محمد بن الحارث، وقيل: عن ابن عمه مصعب بن عثمان بن شيبة عنه، وهو الصحيح، وعن عمته صفية بنت شيبة.

وروى عنه منصور بن عبد الرحمن الْحَجَبي، وابن جُريج. ذكر محمد بن عائذ أنه مات مرابطًا مع سليمان بن عبد الملك، ومات سليمان بعده بيسير سنة (99) بالشام. انفرد به أبو داود، والمصنف، له عندهما حديث الباب فقط

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لم أر في المصادر التي عندي من ذكره بجرح ولا تعديل، فهو مجهول الحال. والله تعالى أعلم.

(1)

كرره المصنف في هذا الكتاب أربع مرات برقم 1248 و 1249 و 1250 و 1251.

ص: 37

3 -

(عقبة بن محمد بن الحارث) بن نوفل ويقال: عتبة -بالتاء- وهو الأرجح الهاشمي، مقبول [4].

روى عن عمه عبد الله بن الحارث، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكريب مولى ابن عباس. وعنه ابن جريج، ومصعب بن شيبة، ومنبوذ بن أبي سليمان، وعبد الله بن مُسافع على خلاف فيه.

قال النسائي: ليس بمعروف. وذكره ابن حبان في "الثقات".

انفرد به أبو داود، والمصنف، له عندهما هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى""عُقبة" بالقاف، وأشار في هامش "الهندية"، إلى أنه وقع في بعض النسخ "عُتبة" -بالتاء- وهو الذي في "الكبرى". وذكر في "تهذيب التهذيب" ج 7 ص 101 أن أحمد رحمه الله خَطَّأَ من قال:"عُقبة" -بالقاف-، وكذا رجّح

ابن خزيمة رحمه الله كونه "عُتبة" -بالتاء- فتبصّر. والله تعالى أعلم.

4 -

(عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب الهاشمي. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أمه أسماء بنت عُميس، وعمه علي بن أبي طالب، وعُثمان، وعمّار بن ياسر. وعنه بنوه: معاوية، وإسحاق، وإسماعيل، وغيرهم.

قال الزبير بن بكّار، عن عمه، قالوا: لَمّا هاجر جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة حملَ امرَأَتَه أسماء بنت عُميس معه، فولدت له هناك عبدَ الله، وعونًا، ومحمدًا، ثم قدم بهم المدينة. وذُكر عن عبد الله بن جعفر، قال: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي، فنعَى لها أبي، قال الزبير: وكان عبد الله بن جعفر جوادًا ممدّحًا، مات سنة (80) وهو عام الجُحَاف

(1)

لسيل كان بمكة، وكان الوالي أبان بن عثمان، فصلّى عليه، وكان يوم توفّي ابن (90) سنة، وقال غيره: مات سنة (80)، وهو ابن ثمانين، وقيل:(90) وهو ابن (90) سنة، والأول أصح. وقيل: غير ذلك في تاريخ وفاته. وقال ابن حبان: كان يقال له: قطب السخاء، وكان يوم توفّي النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشر، وروى ابن عساكر في "تاريخه"، عن عبد الملك بن مروان، قال: سمعت أبي قال: سمعت معاوية يقول: رجل بني هاشم عبد الله بن جعفر، وهو أهل لكلّ شرف، لا والله ما سابقه أحد إلى شرف، إلا وسبقه. وقال يعقوب بن سفيان: أمّره عليّ في صفّين.

قال في "الخلاصة": ومن سخائه ما رُوي أنه أسلف الزبيرَ ألفَ ألف درهم، فلما توفي الزبير جاء ابنه عبد الله إلى ابن جعفر، وقال له: إني وجدت في كتب أبي أن له

(1)

يقال: سيل وموت جُحَافٌ كغراب: يذهب بكل شيء. أفاده في "ق". وعام الجُحَاف لسيل كان بمكة، أجحف بالحاجّ، وذهب بالإبل، وعليه الحمولة. انتهى من هامش "تهذيب التهذيب".

ص: 38

عليك ألف ألف درهم، قال: هو صادق، فاقبضها إن شئت، ثم وجده، فقال: وهمتُ، المالُ لك عليه، فقال: لا أريد ذلك. انتهى. روى الجماعة، له (25) حديثًا، اتفق الشيخان على حديثين منها، وله في هذا الكتاب (7) أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعد ما سلم") الظاهر أن هذا بعد أن يتحرّى، ويبني على غالب ظنه، فيكون بمعنى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قبله.

والحاصل أن الحديث ليس على إطلاقه، بن هو مقيّد بالشاكّ الذي له تحرٍّ، فإنه يبني على ما مال إليه قلبه، ثم يسجد سجدتي السهو بعد التسليم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما هذا إسناده ضعيف، لأن فيه عبد الله ابن مُسافع، وعقبةَ بن محمد، وقد تقدم الكلام عليهما، لكنه يشهد له حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه المتقدم، فالظاهر أنه حسن، وقد صححه ابن خزيمة رحمه الله من طريق حجاج بن محمد، وروح بن عبادة، عن ابن جريج، كما سيأتي قريبا برقم- 1251. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -25/ 1248 - وفي "الكبرى" -60/ 1171 - عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جُرَيج، عن عبد الله بن مُسافع، عن عقبة بن محمد بن الحارث، عنه. وفي 25/ 1249 - و"الكبرى" -60/ 1172 - عن محمد بن هاشم،، عن الوليد ابن مسلم، عن ابن جريج، به. و-25/ 1250 - و"الكبرى" -60/ 1173 - عن محمد ابن إسماعيل ابن إبراهيم، عن حجاج الأعور، عن ابن جريج، عن ابن مسافع، عن مُصعب بن شيبة، عن عقبة بن محمد به. و-25/ 1251 - وفي "الكبرى"-60/ 1174 - عن هارون بن عبد الله، عن حجاج الأعور، ورَوْح بن عُبَادة، كلاهما عن ابن جريج به.

ص: 39

وأخرجه (د) برقم 1033 (وأحمد) 1/ 204، و 1/ 501 (وابن خزيمة) رقم 1033. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1249 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ، أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسَافِعٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ").

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدموا في الذي قبله، سوى:

1 -

(محمد بن هاشم) بن سعيد البَعْلَبَكّي القرشي، صدوق، من صغار [10] تقدم 3/ 454.

2 -

(الوليد) بن مسلم القُرَشي مولاهم، أبو العباس الدمشقي، ثقة كثير التدليس والتسوية [8] تقدم 3/ 454.

والحديث ضعيف، وقد تقدم البحث عنه في الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1250 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسَافِعٍ، أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ شَيْبَةَ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ

(2)

صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) المعروف أبوه بـ"ابن عُليّة" البصري نزيل دمشق وقاضيها، ثقة [11] تقدم 22/ 489. من أفراد المصنف.

2 -

(حجاج) بن محمد المصيصي الأعور، ثقة ثبت [9] تقدم 28/ 32.

3 -

(مُصعب بن شيبة) بن جُبير بن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار العبدري المكيّ الحَجَبي، لين الحديث [5].

روَى عن أبيه، وعمة أبيه صفية بنت شيبة، وقريبه مُسافع، وغيرهم. وعنه ابنه زُرارة، وحَفيده عبد الله بن زُرارة، وقريبه عبد الله بن مسافع، وابن جريج، وغيرهم.

قال الأثرم عن أحمد: رَوَى أحاديثَ مناكير، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: لا يَحمَدونه، وليس بقويّ. وقال ابن سعد: كان قليل

(1)

وفي نسخة إسقاط لفظة "حدثنا".

(2)

وفي نسخة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ص: 40

الحديث. وقال النسائي: منكر الحديث، وقال في موضع آخر: في حديثه شيء. وقال الدارقطني: ليس بالقويّ، ولا بالحافظ، وقال أبو داود: ضعيف. وقال ابن عديّ: تكلموا في حفظه. وقال العجلي: ثقة. أخرج له الجماعة، سوى البخاري، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

والباقون تقدموا في الذي قبله.

والحديث ضعيف، وهو الحديث الماضي، إلا أن شيخ عبد الله بن مسافع هنا هو مصعب بن شيبة، بخلافه هناك، فإنه رواه عن عقبة بن محمد بلا واسطة، فالظاهر أن ما تقدم فيه انقطاع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1251 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، وَرَوْحٌ -هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسَافِعٍ، أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ شَيْبَةَ أَخْبَرَهُ، عَنْ عقبة

(1)

بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ"، قَالَ: حَجَّاجٌ: "بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ"، وَقَالَ رَوْحٌ:"وَهُوَ جَالِسٌ".

رجال هذا الإسناد: ثمانية، كلهم تقدّموا سوى:

1 -

(رَوْح بن عُبادة) بن العلاء بن حَسّان بن عمرو بن مرثد القَيسي، أبي محمد البصري، ثقة فاضل، له تصانيف [9].

روى عن أيمن بن نابل، ومالك، والأوزاعي، وابن جريج، وغيرهم. وعنه أحمد ابن حنبل، وبُنْدَار، وابن نمير، وهارون بن عبد الله، وغيرهم.

قال ابن المديني: نظرت لرَوْح بن عُبَادة في أكثر من مائة ألف حديث، كتبت منها عشرة آلاف. وقال يعقوب بن شيبة: كان أحد من يتحمّل الْحَمَالات، وكان سَريّا مَريّا

(2)

كثير الحديث جدًا، صدوقًا، سمعت علي بن عبد الله يقول: من المحدثين قوم لم يزالوا في الحديث، لم يُشغَلوا عنه، نشأوا، فطلبوا، ثم صنّفوا، ثم حدّثوا، منهم رَوحُ بن عُبَادة، قال: وحدثني محمد بن عمر: قال: سألت ابن معين عن رَوح؟ فقال: ليس به بأس، صدوق، حديثه يدل على صدقه، قال: قلت ليحيى: زعموا أن يحيى

(1)

وفي نسخة: "عتبة" بالتا، وتقدم أنه الصواب.

(2)

"السَّريُّ": الشريف، و"المريُّ": الناقة الغزيرة البن، ولعل المعنى هنا أنه كثير المال. والله أعلم.

ص: 41

القطان كان يتكلم فيه؟ فقال: باطل، ما تكلّم يحيى القطان فيه بشيء، هو صدوق، قال يعقوب: وسمعت علي بن المديني يذكر هذه القصة، فلم أضبطها عنه، فحدّثني عبد الرحمن بن محمد عنه، قال: كانوا يقولون: إن يحيى بن سعيد كان يتكلم في رَوح ابن عُبَادة، قال علي: فإني لعند يحيى بن سعيد يومًا، إذ جاء رَوح بن عبادة، فسأله عن شيء من حديث أشعث؟ فلمّا قام، قلت ليحيى: تعرفه؟ قال: لا، قلت: هذا روح بن عُبَادة، قال: ما زلت أعرفه بطلب الحديث، وبكَتْبه

(1)

قال علي: ولقد كان عبد الرحمن ابن مهديّ يطعن عليه في أحاديث ابن أبي ذئب، عن الزهري مسائلَ كانت عنده، قال علي: فقدمت على مَعْن بن عيسى، فسألته عنها؟، فقال: هي عند بصري لكم، قال علي، فأتيت ابن مهديّ، فأخبرته، فأحسبه قال: استحلّه لي. قال يعقوب بن شيبة: وقال محمد بن عمر: قال ابن معين: القواريري يحدّث عن عشرين شيخًا من الكذابين، ثم يقول: لا أحدّث عن رَوح. قال يعقوب: وكان عفّان لا يرضى أمر روح بن عبادة، قال: فحدثني محمد بن عمر، قال: سمعت عفان يقول: هو عندي أحسن حديثًا من خالد بن الحارث، وأحسن حديثًا من يزيد بن زريع، فلمَ تركناه؟ يعني كأنه يطعن عليه، فقال أبو خيثمة: ليس هذا بحجة، كل من تركته أنت ينبغي أن يُترك، أما روح، فقد جاز حديثُهُ، الشأن فيمن بقي، قال يعقوب: وأحسب أن عفانا لو كان عنده حجة مما يسقط بها روحَ بن عبادة لاحتجّ بها في ذلك الوقت. وقال الآجريّ عن أبي داود: كان القواريري لا يحدّث عن روح، وأكثر ما أنكر عليه تسعمائة حديث حدّث بها عن مالك سماعًا، وقال: وسمعت الْحُلواني يقول: أول من أظهر كتابه روح بن عبادة، وأبو سامة، يريد أنهما رويا ما خولفا فيه، فأظهرا كتبهما حجة لهما. وقال أبو مسعود الرازي: طعن على روح بن عبادة ثلاثة عشر، أو اثنا عشر، فلم يَنفُذ قولهم فيه. وقال الخطيب: كان كثير الحديث، وصنف الكتب في السنن والأحكام، وجَمَع التفسير، وكان ثقة.

وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: روح، والخَفّاف، وأبو زيد النحوي، أيهم أحبّ إليك في ابن أبي عروبة؟ فقال: روح. وقال ابن أبي خيثمة، عن يحيى: صدوق ثقة. وذكره أبو عاصم، فأثنى عليه، وقال: كان ابن جريج يخصّه كلّ يوم بشيء من الحديث. وقال روح: سمعت عن سعيد قبل الاختلاط، ثم غبت، وقدمت، فقيل لي: إنه اختلط. وقال الدارمي، عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو بكر البزّار في

(1)

عبارة "تهذيب الكمال": "مازلت أعرفه يطلب الحديث، ويكتبه" بالياء بدل الباء الموحّدة.

ص: 42

"مسنده": ثقة مأمون. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. وقال ابن عمّار: جئت إلى ابن مهديّ، فقيل له: كتبتَ عن روح، عن شعبة، عن أبي الفيض، عن معاوية حديث "من كذب عليّ"؟، فقال: أخطأ، وتكلم في روح، ثم قال: حدّثناه شعبة، عن رجل، عن أبي الفيض. وقال أبو خيثمة: لم أسمع في روح شيئًا أشدّ عندي من شيء، دفع إلي محمد بن إسماعيل صاحبنا كتابًا بخطه، فكان فيه: حدثنا عفان، ثنا غلام من أصحاب الحديث، يقال له: عمارة الصيرفي أنه كان يكتب عن روح بن عبادة، وعلي بن المديني، فحدّثهم بشيء عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، فقال له: هذا عن الحكم، فقال روح لعلي: ما تقول؟ فقال: صدق، هو عن الحكم، قال: فأخذ القلم، فمحا منصورًا، وكتب الحكم، قال عفّان، فسألت عليّا عن حكاية عمارة، فصدّقه.

وقال أبو زيد الهَرَوي: كنا عند شعبة، فسأله رجل عن حديث، وكانت في الرجل عَجَلَة، فقال شعبة: لا والله حتى تَلزَمني كما لزمني هذا، لروح، وهو بين يديه. وقال محمد بن يحيى: قرأ روح على مالك، فبَيَّنَ السماع من القراءة. وقال الغلّابي: سمعت خالد بن الحارث ذكره بجميل. وقال أبو داود عن أحمد: لم يكن به بأس، ولم يكن مُتَّهَمًا بشيء، وكان قد جرى ذكر روح، وأبي عاصم، فقال: كان روح يُخرج الكتاب، وقال الخليل

(1)

: ثقة، أكثرَ عن مالك، وروى عنه الأئمة.

قال خليفة وغيره: مات سنة (205) وقال محمد بن يونس الكُدَيمي: مات سنة (207) قال الحافظ المزي: والأول أصح. ورجح الحافظ قول الكديمي لأنه ابن امرأة رَوْح، قال: ووافقه عليه يعقوب بن سفيان في "تاريخه". ولكن جزم بالأول البخاري، وابن المثنى، وابن حبّان أيضًا. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث.

وقوله: "قال حجّاج: "بعد ما يسلّم"، وقال رَوْح: "وهو جالس" فيه بيانُ اختلاف شيخي هارون بن عبد الله، فقال حجاج بن محمد في روايته: "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلّم"، وقال روح ابن عُبَادة في روايته: "من شك في صلاته، فليسجد سجدتين، وهو جالس".

والحديث ضعيف، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1252 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ، فَلَبَسَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ حَتَّى

(1)

لعله الخليلي.

ص: 43

لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ

(1)

، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الشهير تقدم 7/ 7.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري الإمام الشهير تقدم 1/ 1.

4 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف، ثقة فقيه تقدم 1/ 1.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه الله تعالى-. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وقد دخلها للأخذ عن مالك. وفيه رواية تابعي عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم) ومثل الأحد الإحدى، وإنما خص الذكور بالخطاب لعله لكونهم الحاضرين وقت الخطاب، والله تعالى أعلم (إذا قام يصلي) المراد إذا دخل في الصلاة، فلا يقتضي أنه لو صلى جالسًا لا يحصل له ذلك. والله أعلم (جاءه الشيطان فلبس عليه صلاته) بفتح الموحّدة المخففة، أي خَلَطَ عليه. وقال القرطبي رحمه الله: رُوي مخفف الباء ومشددها.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن التشديد للمبالغة. والله تعالى أعلم (حتى لا يدري كم صلى) غاية لوسوسته، أي يلبس عليه إلى أن يصير المصلي لا يعلم كم ركعةً صلى، أثلاثا، أم أربعًا مثلًا (فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين، وهو جالس) أي حال كونه جالسًا.

ظاهر هذا الحديث أن المصلي إذا شكّ في صلاته، أزاد، أم نقص، فليس عليه إلا أن يسجد سجدتين، وهو جالس، وإلى هذا ذهب الحسن البصري، وطائفة من السلف، وروي عن أنس، وأبي هريرة رضي الله عنهما.

وخالفهم الجمهور، فقالوا: السجدتان تكونان بعد إتمام الصلاة، ثم اختلفوا في كيفية الإتمام، فمنهم من قال: يتمّ على غالب ظنه، ومنهم من قال: يبني على الأقلّ،

(1)

وفي نسخة: "فإذا وجد ذلك أحدكم".

ص: 44

ومنهم من قال: يُعيد صلاته، وقد تقدم تفصيل ذلك.

وليس في حديث الباب أكثر من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسجدتين عند السهو في الصلاة، وليس فيه بيان ما يصنعه مَنْ وقع له ذلك، والأحاديثُ الأخرى قد اشتملت على زيادة، وهي بيان ما هو الواجب عليه عند ذلك من غير السجود، فالمصير إليها واجب، أفاده الشوكانيّ -رحمه الله تعالى-

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أنّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُجْمَل، يجب حمله على الأحاديث المتقدّمة المفصّلة، فيكون المعنى: فليسجد سجدتين بعد البناء على غالب الظنّ، إن كان له غلبة ظنّ وميلُ قلب إلى أحد الطرفين، أو البناء على اليقين، إن لم يكن له ذلك، كما هو المذهب الراجح فيما سبق بيانه.

فعلى هذا لا وجه لإيراد المصنف له استدلالًا على البناء على غالب الظنّ، إذ هو محمول على التفصيل المذكور. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح": لم يقع في هذه الرواية تعيين محل السجود، ولا في الرواية التالية، وقد رَوَى الدارقطني من طريق عكرمة بن عمّار، عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد مرفوعًا:"إذا سها أحدكم، فلم يدر أزاد، أم نقص، فليسجد سجدتين، وهو جالس، ثمّ يسلّم". وإسناده قويّ، ولأبي داود من طريق ابن أخي الزهري، عن عمه نحوه بلفظ:"وهو جالس قبل التسليم"، وله من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري بإسناده، وقال فيه:"فليسجد سجدتين قبل أن يسلّم، ثم يسلّم".

قال الحافظ العلائي رحمه الله: هذه الزيادة في هذا الحديث بمجموع الطرق لا تنزل عن درجة الحسن المحتج به

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -25/ 1252 - وفي "الكبرى" -60/ 1175 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 2/ 87 و 4/ 151 (م) 2/ 82 و 2/ 83 (د) رقم 1030 و 1031

(1)

"نيل الأوطار" جـ 3 ص 141 - 142.

(2)

انظر "نظم الفرائد" ص 307 و"الفتح" جـ 3 ص 436.

ص: 45

و1032 (ت) 397 (ق) 1216 و 1217.

وأخرجه مالك في (الموطإ) 83 (والحميدي) 947 (وأحمد) 2/ 241 و 2/ 273 و2/ 283 و2/ 284 و2/ 483 و 2/ 505 و 2/ 522 (والدارمي) رقم 1207 و 1502 (وابن خزيمة)1020. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1253 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، لَهُ ضُرَاطٌ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ، أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(بشر بن هلال) الصوّاف، أبو محمد النُّميري البصري، ثقة له [10] تقدم 117/ 162.

2 -

(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان العَنْبري مولاهم، أبو عُبَيدة التّنُوريّ البصري، ثقة ثبت رمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8] تقدم 6/ 6.

3 -

(هشام الدستوائي) ابن أبي عبد الله سَنْبَر، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، وقد رمي بالقدر، من كبار [7] تقدم 30/ 34.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت، يدلس ويرسل [5] تقدم 23/ ، 24 والباقيان تقدما في السند الماضي.

والحديث متفق عليه، وقد مضى مُستَوفَى الشرح في 30/ 670 - حيث أورده المصنف رحمه الله من رواية الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مستدلًا به على فضل التأذين، رواه عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج به، بلفظ:"إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان، وله ضُراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضي النداء أقبل حتى إذا ثوّب بالصلاة أدبر، حتى إذا قُضي التثويب أقبل حتى يخطُر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يكن يذكر، حتى يظلّ المرء إن يدر كم صلى".

قوله: وله ضُرَاط" بالضم اسم من ضَرِط يَضْرَطُ، من باب تَعِبَ، وهو ريح له صوت، يخرج من دبر الإنسان، وغيره.

والصحيح أن خروج الضراط من الشيطان حقيقة، كما قاله القاضي عياض رحمه الله تعالى، لأنه جسم يأكل ويشرب، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.

ولم يُذكر سبب إدباره في حديث الباب، وذُكِرَ في رواية الأعرج المذكورة، ولفظه:"حتى لا يسمع التأذين"، فبين أن هروبه لئلا يسمع الأذان، لأنه إذا سمع يلزمه أن يشهد

ص: 46

للمؤذن يوم القيامة، لما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يَسمَع مَدَى صوت المؤذن جنّ، ولا إنس، ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة". والله تعالى أعلم.

وقوله: "فإذا قُضي التثويب أقبل" الخ في هذه الرواية اختصار، تبيّنه رواية الأعرج المذكورة، ولفظها:"فإذا قُضي النداء أقبل، حتى إذا ثوّب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل". . . الحديث. والمراد بالتثويب: الإقامة.

وقوله: "حتى يخطر" بضم الطاء وكسرها، ومعناه: يوسوس. والمراد أنه يدنو منه، فيمرّ بينه وبين قلبه، فيشغله عما هو فيه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌26 - (بَابُ مَا يَفْعَلُ مَنْ صَلَّى خَمْسًا)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على الفعل الذي يفعله من صلّى الرباعيةَ خمسَ ركعات ناسيًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "باب" مضاف إلى "ما يفعل"، و"ما" اسم موصول بمعنى "الذي"، و"يفعل" بالبناء للفاعل صلتها، والعائد محذوف، أي يفعله، و"من" اسم موصول فاعل "يفعل"، وتقدير المعنى باب بيان الفعل الذي يفعله مَنْ صلى خمسًا.

ويحتمل أن تكون "ما" موصولًا حرفيًّا، فلا تحتاج إلى عائد، والتقدير "باب بيان فِعْلِ مَنْ صلّى خمسًا". والله تعالى أعلم بالصواب.

1254 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟، قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ "، قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَثَنَى رِجْلَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن المثنّى) أبو موسى العَنَزيّ، ثقة حافظ [10] تقدم 64/ 80.

ص: 47

2 -

(محمد بن بشّار) بُندار، أبو بكر البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

3 -

(يحيى) بن سعيد القطان، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] تقدم 4/ 4، والباقون تقدموا في الباب الماضي.

والحديث متفق عليه، وقد سبق شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به، في الباب الذي قبله.

واستدلال المصنف رحمه الله تعالى بالحديث على ما ترجم له واضح، لأنه بَيَّنَ أن حكم من زاد في الصلاة الرباعية ركعة خامسة يسجد سجدتي السهو، ثم يسلم.

وفيه ردّ على الحنفية في قولهم: يضم ركعة سادسة.

قال السندي رحمه الله: قوله: "خمسًا": حمله علماؤنا الحنفية على أنه جلس على رأس الرابعة، إذ ترك هذا الجلوس عندهم مُفسد، ولا يخفى أن الجلوس على رأس الرابعة إما على ظنّ أنها رابعة، أو على ظنّ أنها ثنائية، وكلّ من الأمرين يفضي إلى اعتبار الواقعة منه أكثر من سهو واحد، وإثبات ذلك بلا دليل مشكل، والأصل عدمه، فالظاهر أنه ما جلس أصلًا، وذلك لأنه إن ظنّ أنها رابعة، فالقيام إلى الخامسة يحتاج إلى أنه نسي ذلك، وظهر له أنها ثالثة مثلًا، واعتقد أنه أخطأ في جلوسه، وعند ذلك ينبغي أن يسجد للسهو، فتركه لسجود السهو، أولًا يحتاج إلى القول أنه نسي ذلك الاعتقاد أيضًا، ثم قوله:"وما ذاك" بعد أن قيل له، يقتضي أنه نسي بحيث ما تنبّه له بتذكيرهم أيضًا، وهذا لا يخلو عن بعد، وإن قلنا: إنه ظنّ أنها ثانية سهوًا ونسيانًا، فذاك النسيان مع بعده يقتضي أن لا يجلس على رأس الخامسة، بل يجلس على رأس السادسة، فالجلوس على رأس الخامسة يحتاج إلى اعتبار سهو آخر. والله تعالى أعلم. انتهى كلام السندي رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الحنفية في هذه المسألة مما لا دليل عليه، بل مصادم لما دلّ عليه النصّ الصحيح، فلا يلتفت إليه، بل يوخذ بما دلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب، وهو أن يسجد سجدتي السهو، ثم يسلم، ولا يزيد سادسة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1255 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، وَمُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى بِهِمُ

(1)

"شرح السندي" جـ 3 ص 31 - 32.

ص: 48

الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقَالُوا: إِنَّكَ صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ، وَهُوَ جَالِسٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عبدة بن عبد الرحيم) بن حسّان المروزي، أبو سعيد نزيل دمشق، صدوق، من صغار [10] تقدم 45/ 597.

2 -

(ابن شُميل) هو النضر بن شُميل المازني، أبو الحسن النحوي البصري، نزيل مرو، ثقة ثبت، من كبار [9] تقدم 41/، 45 والباقون تقدموا قريبًا.

والحديث متفق عليه، وقد سبق تمام الحث فيه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1256 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنِى يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُفَضَّلُ بْنُ مُهَلْهَلٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: صَلَّى عَلْقَمَةُ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ؟، فَقَالَ: مَا فَعَلْتُ، قُلْتُ بِرَأْسِي: بَلَى، قَالَ: وَأَنْتَ يَا أَعْوَرُ؟، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ صَلَّى خَمْسًا، فَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟، قَالَ: "لَا"، فَأَخْبَرُوهُ، فَثَنَى رِجْلَهُ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة، كلهم تقدّموا قريبًا إلا:

1 -

(الحسن بن عبيد الله) بن عروة النخعي، أبو عروة الكوفي، ثقة فاضل [6] تقدم 5/ 501.

2 -

(إبراهيم بن سُويد) النخعي الكوفي، ثقة. [6].

روى عن الأسود بن يزيد، وعبد الرحمن بن يزيد، وعلقمة بن قيس. وعنه الحسن ابن عُبيد الله النخعي، وزُبيد بن الحارث اليامي، وسلمة بن كُهيل. قال ابن معين: مشهور، وقال النسائي: ثقة، ونقل صاحب "الميزان" تبعًا لابن الجوزي أن النسائي ضعّفه. وقال في "ت": لم يثبت أن النسائي ضعفه. وقال الدارقطني: ليس في حديثه شيء منكر، إنما هو حديث السهو، وحديث الرفاء، قال العجلي: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة سوى البخاري، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وحديث رقم (1258).

وقوله: "صلى علقمة خمسًا": ولفظ مسلم من طريق جرير بن عبد الحميد: "عن إبراهيم بن سويد، قال: صلى بنا علقمة الظهر خمسًا، فلمّا سلّم قال القوم: يا أبا شبل قد صلّيت خمسًا، قال: كلّا ما فعلت قالوا: بلى، قال: وكنتُ في ناحية القوم، وأنا غلام، فقلت بلى قد صلّيت خمسًا، قال لي: وأنت أيضًا يا أعور تقول ذاك؟ قال:

ص: 49

قلت: نعم، قال: فانفتل، فسجد سجدتين، ثم سلّم، ثم قال: قال عبد الله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً

" الحديث.

وقوله: "فقيل له": أي ذُكر له أنه صلّى خمساً، فمفعول "قيل" محذوف.

وقوله: "ما فعلتُ": "ما" نافية: أي لم أفعل ذلك بحسب ظني.

وقوله: "قلت برأسي بلى": أي أشرت برأسي إلى أنك فعلت ذلك، ففيه إطلاق القول على الفعل.

وقوله: "وأنت يا أعور": أي وأنت أيضاً تشهد علي بذلك؟.

قال النووي رحمه الله: فيه دليل على جواز قول مثل هذا الكلام لقريبه، وتلميذه، وتابعه إذا لم يُتَأَذّ به. انتهى

(1)

قوله: "فوشوش القوم بعضهم إلى بعض" ولفظ مسلم "توشوش القوم بينهم". قال النووي رحمه الله: ضبطناه بالشين المعجمة، وقال القاضي: روي بالمعجمة، وبالمهملة، وكلاهما صحيح، ومعناه تحرّكوا، ومنه وسواس الحليّ بالمهملة، وهو تحرّكه، ووسوسة الشيطان. قال أهل اللغة: الوشوشة بالمعجمة صوت في اختلاط، قال الأصمعي: ويقال: رجل وشواش: أي خفيف. انتهى

(2)

.

والحديث أخرجه مسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1257 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(3)

عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: سَهَا عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ فِي صَلَاتِهِ، فَذَكَرُوا لَهُ بَعْدَمَا تَكَلَّمَ، فَقَالَ: أَكَذَلِكَ يَا أَعْوَرُ، قَالَ: نَعَمْ. فَحَلَّ حُبْوَتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ، وَقَالَ

(4)

: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَسَمِعْتُ الْحَكَمَ يَقُولُ: كَانَ عَلْقَمَةُ صَلَّى خَمْسًا).

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدموا قريباً، سوى:

1 -

(مالك بن مغول)

(5)

أبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبت، من كبار [7] تقدم 98/ 127.

2 -

(الشعبي) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الهَمْدَاني الكوفي، ثقة مشهور فقيه فاضل، [3] تقدم 66/ 82.

(1)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 65.

(2)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 65 - 67.

(3)

وفي نسخة "حدثنا".

(4)

وفي نسخة بإسقاط لفظة "قال".

(5)

بكسر أوله، وسكون الغين المعجمة، وفتح الواو.

ص: 50

وعبد الله شيخ سُويد هنا، وفي الإسنادين بعده هو ابن المبارك رحمه الله تعالى، وعبد الله الصحابى المتقدم، والآتي هو ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

قوله: "فحلّ حُبوته""الحبوة" بكسر الحاء المهملة، وضمها، وسكون الموحّدة: الثوب الذي يُحْتَبى به، وجمعه: حبىّ بكسر الأول وضمه. أفاده في اللسان

(1)

.

وقال في "المصباح": احتَبَى الرجلُ: جمع ظهره وساقيه بثوب أو غيره، وقد يحتبي بيديه، والاسم الحبوة بالكسر. انتهى

(2)

.

والحديث صحيح، وقد مضى البحث عنه قريبا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1258 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(3)

عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ عَلْقَمَةَ صَلَّى خَمْسًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ: يَا أَبَا شِبْلٍ صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَقَالَ: أَكَذَلِكَ

(4)

يَا أَعْوَرُ؟ فَسَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

هذا الحديث هو المتقدّم، إلا أنه في صورة المرسل، وقد تقدم قبل حديث متصلاً بذكر عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.

وقوله: "يا أبا شبل" بكسر الشين المعجمة كنية علقمة رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1259 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّهْشَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إِحْدَى صَلَاتَي الْعَشِيِّ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ

(5)

: "وَمَا ذَاكَ؟ "، قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، وَأَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ"، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْفَتَلَ).

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدموا قريباً، إلا ثلاثة:

1 -

(أبو بكر النَّهْشَلي) الكوفي، قيل: اسمه عبد الله بن قِطَاف، وقيل: عبد الله بن معاوية بن قطاف، وقيل: وهب بن قطاف، وقيل: معاوية بن قطاف، وقال وكيع: أبو

(1)

"لسان العرب" جـ 1 ص 765.

(2)

"المصباح المنير" جـ 1 ص 120.

(3)

وفي نسخة "أخبرنا".

(4)

وفي نسخة "أكذا؟ ".

(5)

وفي نسخة "فقال".

ص: 51

بكر بن عبد الله بن أبي القطاف، وقال غيره: أبو بكر بن عبد الله بن قطاف. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: هو بابن أبي القطاف أشبه منه بابن القطاف. صدوق رمي بالإرجاء [7].

روى عن عبد الرحمن بن الأسود، وزياد بن علاقة، وحبيب بن أبي ثابت، وغيرهم. وعنه ابن المبارك، ووكيع، وبهز بن أسد، وغيرهم.

قال أبو داود: ثقة كوفي مرجىء. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه، وعبّاسٌ الدُّوريُّ عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: أبو بكر بن قطاف النَّهْشلي من أنفسهم ثقة. وقال أبو قُدامة عن ابن مهديّ: كان من ثقات مشيخة الكوفة. وقال أبو حاتم: شيخ صالح يكتب حديثه، وهو عندي خير من أبي بكر الهُذَليّ. وقال عثمان الدارميّ: أبو بكر النّهشلي هو الذي روى عنه وكيع، فقال: أبو بكر بن عبد الله بن أبي القطاف، ودم يقل: النهشلي. وقال ابن سعد: وهو نَهْشَلي من أنفسهم، وكان مرجئاً، وكان عابداً ناسكاً، وله أحاديث، ومنهم من يستضعفه. قال مُطَيَّن: مات يوم عيد الفطر سنة (166). روى له مسلم، والترمذي، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

[تنبيه]: "النَّهْشَلي" بفتح أوله، والمعجمة: نسبة إلى نَهْشَل بطن من تميم، ومن كلب. قاله في "لب اللباب" جـ 2 ص 308.

2 -

(عبد الرحمن بن الأسود) بن يزيد النخعي الكوفي، ثقة [3] تقدم 38/ 42.

3 -

(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة مكثر مخضرم [2] تقدم 29/ 33.

وقوله: "إحدى صلاتي العشي": قيل: العشي ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر صلاتا العشيّ، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: العشيّ من الزوال إلى الصباح، وقيل: العشيّ والعشاء من صلاة المغرب إلى العَتَمَة، وعليه قول ابن فارس: العشاءان المغرب والعَتَمَة. قاله الفيومي.

وقد تقدم في رواية علقمة تفسير المراد بها بأنها الظهر.

وقوله: "ثم انفتل"، أي سلّم من صلاته، وانصرف عنها. يقال: انفتل فلان عن صلاته: أي انصرف، ولَفَتَ فلاناً عن رأيه: أي صرفه ولَوَاه، وفَتَلَه عن وجهه، فانفتل: أي صرفه فانصرف، وهو قلب لَفَت. قاله في "اللسان"

(1)

.

(1)

"لسان العرب" جـ 5 ص 3343 - 3344.

ص: 52

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌27 - (باب مَا يَفْعَلُ مَنْ نَسِىَ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الشيء الذي يفعله الشخص الذي نسي شيئاً من صلاته.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلال المصنف رحمه الله تعالى بالحديث على ما ترجم له واضح، لأنه يدلّ على ما يفعله المصلي إذا نسي شيئاً من صلاته، وهو أن يسجد سجدتي السهو، في آخر صلاته، وهو جالس، وقد بين في رواية أخرى أن موضعهما قبل السلام، كما سيأتي قريباً من رواية الطحاوي وغيره. إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

1260 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ مَوْلَى عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ يُوسُفَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَلَّى إِمَامَهُمْ، فَقَامَ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَسَبَّحَ النَّاسُ، فَتَمَّ عَلَى قِيَامِهِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ أَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، ثُمَّ قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ نَسِيَ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَلْيَسْجُدْ مِثْلَ هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الربيع بن سُليمان) بن عبد الجبّار المرادي، أبو محمد المصري المؤذن، صاحب الشافعي، ثقة [11]. تقدّم 195/ 311.

2 -

(شُعيب بن الليث) الفَهْميّ، أبو عبد الملك المصري، ثقة نبيل فقيه، من كبار [10] تقدّم 120/ 166.

3 -

(الليث) بن سعد الإمام الفقيه الحجة المصري [7] تقدم 31/ 35.

4 -

(محمد بن عجلان) المدني صدوق [5] تقدم 36/ 40.

ص: 53

5 -

(محمد بن يوسف مولى عثمان) وقيل: مولى عمرو بن عثمان مدني ثقة [6]. روى عن أبيه. وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن عجلان، وابن جُريج، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة، وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة، وكذا قال الدارقطني، وزاد: وأبوه لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به أبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: جعل في "ت" محمد بن يوسف هذا مقبولاً، وفيه نظر فإنه ثقة، وثقه أبو حاتم، والدارقطني، وابن حبان، ولم يخالفهم أحد. فتبصّر. والله تعالى أعلم.

6 -

(يوسف) القرشي الأموي المدني مقبول [3].

روى عن مولاه عثمان بن عفان، ومعاوية، وعنه ابنه محمد بن يوسف. قال النسائي: يوسف هذا ليس بالمشهور. وقال الدارقطني: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به المصنف بهذا الحديث فقط.

7 -

(معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أميّة الأمويّ، أبو عبد الرحمن الخليفة، صحابي أسلم قبل الفتح، وكَتَبَ الوحيَ، ومات سنة ستين، وقد قارب الثمانين، تقدم 186/ 294. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن فيه مسلسل بالمصريين إلى الليث، والباقون مدنيون، وفيه رواية الابن عن أبيه، ورواية كبير عن صغير، فإن ابن عجلان من الطبقة الخامسة، وابن يوسف من السادسة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن يوسف) الأموي (أن معاوية) بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما (صلى إمامهم) يحتمل أن يكون بكسر الهمزة، ويكون النصب على الحال، وهو وإن تعرّف بالإضافة، إلا أنه في تقدير "متبوعاً"، أو الإضافة لفظية، فإنه بمعنى يؤمهم. ويحتمل أن يكون بفتح الهمزة، والنصب على الظرفية، أي صلى قُدّامهم، وهم وراءه مؤتمون به (فقام في الصلاة، وعليه جلوس، فسبح الناس) ليرجع لجلوسه الذي تركه (فتمّ على قيامه) يقال: تمّ عليه: جعله تاماً، قاله المجد. والمعنى أنه استمرّ على قيامه، ولم يرجع حين سبحوا عليه (ثمّ سجد سجدتين، وهو جالس، بعد أن أتمّ الصلاة) أي قبل السلام، كما صُرّح به في رواية الطحاوي وغيره بأنه قبل السلام، من طريق بكير بن الأشجّ، عن محمد بن عجلان، ولفظه: "أن معاوية بن أبي سفيان صلى بهم، فقام،

ص: 54

وعليه جلوس، فلم يجلس، فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتين قبل أن يسلم، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع"

(1)

(ثم قعد على المنبر، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نسي شيئاً من صلاته) ظاهره العموم في جميع أجزاء الصلاة، لكن خصه العلماء بما سوى الأركان، فإنها لا تجُبر بسجدتي السهو (فليسجد مثل هاتين السجدتين) أي فليسجد سجدتين مشابهتين لهاتين السجدتين في كونهما اثنتين، في آخر الصلاة، وهو جالس.

ثم إن استدلال معاوية رضي الله عنه بالحديث على فعله، إمّا لأنه علم أن الجلوس الأول ليس بركن، أو لأنه اعتمد على ظاهر العموم. والله تعالى أعلم. قاله السندي رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث معاوية رضي الله تعالى عنه هذا حسن، فإن محمد بن عجلان تابعه ابن جريج عند أحمد في "مسنده" جـ 4 ص 100 - وقال: أخبرني محمد بن يوسف مولى عمرو بن عثمان

ومحمد بن يوسف ثقة، وأبوه وثقه ابن حبان، وقال الدارقطني. لا بأس به، كما تقدم في ترجمته، ويشهد لحديثه هذا الحديث الذي بعده، والأحاديث السابقة، فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن. وقد تقدم الكلام عليه مستوفًى في المسألة التاسعة من شرح حديث قصّة ذي اليدين، فراجعه تستفد. والله تعالى ولي التوفيق.

وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -27/ 1260 - وفي "الكبرى" 122/ 594 - 62/ 1183 - بالسند المذكور.

وأخرجه (أحمد) 4/ 100. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

انظر "شرح معاني الآثار" للطحاوي جـ 1 ص 439.

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 34.

ص: 55

‌28 - (باب التَّكْبِيرِ فِي سَجْدَتَي السَّهْوِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية التكبير في الخفض والرفع لسجدتي السهو. فـ"في" بمعنى "عند"، أو بمعنى اللام.

واستدلال المصنف رحمه الله بالحديث على ما ترجم له واضح، فإنه يدلّ على أنّ السنة أن يكون كلّ من سجدتي السهو بين تكبيرتين. والله تعالى أعلم بالصواب.

1261 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، وَيُونُسُ، وَاللَّيْثُ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي الثِّنْتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، فَلَمْ يَجْلِسْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، كَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ، وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أحمد بن عمرو بن السَّرْح) المصري، ثقة [10] تقدم 35/ 39.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري، ثقة حافظ عابد [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(عمرو) بن الحارث المصري، ثقة فقيه حافظ [7] تقدم 63/ 79.

4 -

(يونس) بن يزيد الأيلي، ثقة ثبت [7] تقدم 9/ 9.

5 -

(الليث) بن سعد تقدم في الباب الماضي.

6 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري الإمام تقدم قريباً.

7 -

(عبد الرحمن الأعرج) ابن هرمز المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 7/ 7.

8 -

(عبد الله ابن بُحينة) الصحابي الشهير رضي الله تعالى عنه، تقدم 141/ 1106.

[تنبيه]: بُحَينة اسم والدة عبد الله، فلذا تكتب ألف "ابن" لأن قاعدة حذفها إذا وقعت بين علمين أن يكون الثاني أباً للأول، أماً إذا كان أمّا، أو جدّاً، أو غير ذلك فلا تحذف، كما هو مقرّر في محله.

واسم والد عبد الله مالك بن القِشْب. والله تعالى أعلم.

والحديث متفق عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان المسائل المتعلقة به برقم 196/ 1177 - فليُرَاجع هناك.

وقوله: "كبّر في كلّ سجدة" الخ جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً، وهو ما وقع جواباً

ص: 56

لسؤال مقدر، فكأن سائلاً سأله، كيف سجد السجدتين؟، فقال:"كبر في كلّ سجدة" الخ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌29 - (باب صِفَةِ الْجُلُوسِ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي يَقْضِى فِيهَا الصَّلَاةَ).

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالين على صفة الجلوس للتشهد في آخر الركعة التي تنتهي فيها الصلاة، وهي الركعة الأخيرة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "يُقضَى" هكذا نسخ "المجتبى" بالياء، والظاهر أن الفعل مبني للمفعول، و"الصلاة" نائب فاعله، وتذكير الفعل في مثل هذا جائز للفصل، وفي "الكبرى""تنقضي فيها الصلاة" وهو واضح.

ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير المصلي، و"الصلاة" منصوب على المفعولية، أي يُتمّ المصلي في آخرها الصلاةَ، يقال: قضى وَطَرَه: أتمّه، وبلَغَه. قاله المجد.

والظاهر أن المصنف رحمه الله تعالى يرى سنيّة كل من التَّوَرُّك، والافتراش في الجلوس الأخير، لأنه أورد حديث أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه استدلالاً على التورّك، وحديثَ وائل بن حُجْر رضي الله عنه استدلالاً على الافتراش، لأن معنى قوله:"أضجع اليسرى": افترشها، بدليل الرواية الآتية في الباب التالي من طريق سفيان الثوري بلفظ:"فافترش رجله اليسرى"، لأن الروايات يفسر بعضها بعضاً.

لكن قدمنا أن الراجح كون الافتراش في الجلوس الأول، والتورّك في الجلوس الثاني، كما هو مذهب أحمد رحمه الله، جمعاً بين الأحاديث، وتقدم تحقيق ذلك برقم 185/ 1157 - فراجعه، تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب.

1262 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ، بُنْدَارٌ

(1)

، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

لفظة "بندار" ساقطة من بعض النسخ.

ص: 57

مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَنْقَضِى فِيهِمَا الصَّلَاةُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ عَلَى شِقِّهِ، مُتَوَرِّكًا، ثُمَّ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد. ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم الدّورقي) البغدادي، ثقة [10] تقدم 21/ 22.

2 -

(محمد بن بشار بُندار) البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

[تنبيه]: وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى""محمد بن بشّار بن دار"، وهو خطأ، حرّفه الناسخ من "بُنْدَار"، ووقع في "الهندية" على الصواب. فتنبه.

3 -

(يحيى بن سعيد) القطّان البصري الإمام الحجة الثبت [9] تقدم 4/ 4.

4 -

(عبد الحميد بن جعفر) الأنصاري المدني، صدوق رمي بالقدر، وربما وهم [6] تقدم 26/ 914.

5 -

(محمد بن عمرو بن عطاء) القرشي العامري المدني، ثقة [3] تقدم 96/ 1039.

6 -

(أبو حميد الساعدي) المنذر بن سعد بن المنذر، وقيل: غيره، صحابي شهد أحداً وما بعدها، ومات سنة (60) تقدم 36/ 729. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، وأن شيخيه ممن اتفق الجماعة بالرواية عنهما دون واسطة، وأن يعقوب بغدادي، وبنداراً، ويحيى بصريان، والباقون مدنيون. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي حُميد الساعدي) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في الركعتين) أي في جلوسهما، فهو على حذف مضاف (اللتين تنقضي) بالبناء للفاعل، أي تنتهي. وفي نسخة "تُقْضَى"، وهو بالبناء للمفعول، أي تتَمّ، ويُبلغ إلى نهايتها، والمراد الركعتان الأخيرتان (فيهما) أي في آخرهما، فهو على حذف مضاف أيضاً (الصلاة) بالرفع على أنه فاعل على الأول، ونائب فاعل على الثاني (أخر رجله اليسرى، وقعد على شقه) بالكسر، أي جانبه، والمراد الجانب الأيسر (متورّكاً) أي حال كونه متّكئاً على وركه اليسرى، والورك بفتح الواو، وكسر الراء، ويجوز التخفيف بكسر الواو وسكون الرّاء، وهما وركان فوق الفخذين، كالكتفين فوق العضدين. والتورّك في الصلاة: القعود على الورك اليسرى. قاله الفيّومي.

ص: 58

ولفظ البخاريّ: "فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدّم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته".

وفيه المغايرة بين جلوس التشهد الأول وجلوس التشهد الأخير، فالسنة في الأول الافتراش، وفي الأخير التورّك، وبهذا أخذ أحمد وأصحابه، وقال. كلُّ صلاة فيها تشهدان، فالسنة في الأول الافتراش،، وفي الثاني التورّك، وما عدا ذلك فالسنة فيه الافتراش، وهذا هو المذهب الراجح، للجمع بين الأحاديث، كما حققناه في 185/ 1157.

وخص الشافعية الافتراش في الأول مما له تشهدان، وما عداه فالسنة التورّك، وعند الحنفية الافتراش في الجميع، وعند المالكية التورّك في الجميع. والاحتجاج لهذه الأقوال، وترجيح الراجح منها تقدم في شرح حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما "بابٌ كيفَ الجلوسُ للتشهد الأول" رقم 185/ 1157. فراجعه تستتفد، وبالله تعالى التوفيق.

(ثم سلّم) أي تسليمَ الخروج من الصلاة، وسيأتي الكلام عليه حيث يُفرده المصنف رحمه الله ببحث خاص به من رقم 68/ 1316 - إلى 73/ 1327 إن شاء الله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه البخاري، وقد تقدم الكلام على المسائل المتعلقة به مستوفًى برقم 96/ 1039. ولله الحمد والمنة، ومنه التوفيق، والعصمة، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1263 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا جَلَسَ أَضْجَعَ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى

(2)

، وَيَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثِنْتَيْنِ: الْوُسْطَى، وَالإِبْهَامَ، وَأَشَارَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عُيينة الإمام الحجة الشهير [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(عاصم بن كُليب) الْجَرْمي الكوفي، صدوق رمي بالإرجاء [5] تقدّم 11/ 889.

(1)

وفي نسخة "حدثني".

(2)

وفي نسخة "الأيسر".

ص: 59

4 -

(كُلَيب) بن شهاب، صدوق [2] تقدم 11/ 889.

5 -

(وائل بن حُجْر) بن سعد بن مسروق الحضرمي الصحابي رضي الله عنه، تقدم 4/ 879. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث وائل بن حُجر رضي الله عنه صحيح، وقد تقدم للمصنف برقم 11/ 889 - وتقدم شرحه هناك مستوفًى، وكذا بيان المسائل المتعلقة به، فراجعه هناك تستفد. والله تعالى ولي التوفيق.

وقوله: "أضجع اليسرى": أي افترشها.

وقوله: "وأشار": أي بالسبّابة؛ لما يأتي في الرواية الآتية في الباب الذي بعده: "وأشار بالسبّابة يدعو بها". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌30 - (باب مَوْضِعِ الذِّرَاعَيْنِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على محل وضع الذّراعين في حال الجلوس.

1264 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ- قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ، فَافْتَرَشَ

(1)

رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ ذِرَاعَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ يَدْعُو بِهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن علي بن ميمون الرَّقّيّ) أبو العبّاس العَطّار، ثقة [11] تقدم 14/ 418، من أفراد المصنف.

2 -

(محمد بن يوسف الفريابي) ثقة فاضل [9] تقدم 14/ 418.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحجة الثبت [7] تقدم 33/ 37.

والباقون تقدموا في الباب الماضي، وكذا الكلام على الحديث.

وقوله: "وأشار بالسبابة" سيأتي الكلام على الإشارة في باب خاص برقم -1271 - 1275، إن شاء الله تعالى.

(1)

وفي نسخة "ففرش".

ص: 60

وقوله: "يدعو بها" جملة في محل نصب على الحال من فاعل "يشير".

والحديث صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌31 - (مَوْضِعِ الْمِرْفَقَيْنِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على موضع المرفقين.

وفي نسخة "موضع حدّ المرفق الأيمن".

1265 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: لأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُصَلِّي؟ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَتَا أُذُنَيْهِ

(2)

، ثُمَّ أَخَذَ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَ رَأْسَهُ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ مِنْ يَدَيْهِ

(3)

، ثُمَّ جَلَسَ، فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَحَدَّ مِرْفَقَهُ الأَيْمَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ ثِنْتَيْنِ، وَحَلَّقَ، وَرَأَيْتُهُ يَقُولُ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِشْرٌ بِالسَّبَّابَةِ مِنَ الْيُمْنَى، وَحَلَّقَ الإِبْهَامَ وَالْوُسْطَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم تقدموا في الباب الماضي، إلّا اثنين:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدري البصري، ثقة [10] تقدم 42/ 47.

2 -

(بشر بن المُفَضَّل) بن لاحق، الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت عابد [8] تقدم 66/ 82.

والحديث صحيح، وشرحه، والمسائل المتعلقة به قد تقدمت مستوفاة في 11/ 889 - ، فراجعها هناك تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "وضع رأسه بذلك المنزل من يديه" أي وضع صلى الله عليه وسلم رأسه في ذلك المكان من

(1)

وفي نسخة "أنبأنا"، وفي أخرى "أنا".

(2)

وفي نسخة "حاذى بأذنيه".

(3)

وفي نسخة "من يديه".

ص: 61

يديه. يعني أنه وضعه بحيث صار اليدان محاذيتين للأذنين.

وقوله: "وحَدَّ مِرْفَقِهِ الأيمنِ" الخ بالنصب عطفاً على "يده"، أي ووضع حَدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى. وهذا الوجه من الإعراب هو الموافق لما تقدم من الرواية -11/ 889 - ولما يأتي بعد بابين -34/ 1268 بلفظ:"وجعل حدّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى". والله تعالى أعلم.

وذكر السندي رحمه الله تعالى في شرحه أوجها من الإعراب، وهاك نصّه:

قال: "حَدَّ مرفقه" على صيغة الماضي عطفٌ على الأفعال السابقة، و"على" بمعنى "عن"، أي رفعه عن فخذه، أو بمعناه، والحدُّ: المنعُ، والفصلُ بين الشيئين، أي فَصَل بين موفقه وجنبه، ومنع أن يلتصق في حالة استعلائه على فخذه.

وجُوِّزَ أن يكون اسمًا مرفوعًا على الابتداء مضافَا إلى "المرفق"، خبره "على فخذه"، والجملة حال.

أو اسماً منصوباً عطفاً على مفعول "وَضَعَ"، أي وضع حَدَّ مرفقه الأيمنِ على فخذه اليمنى، وهذا الوجه أولى لأنه هو المرافق للرواية المتقدّمة فى الكتاب، وهي "وجعل حدَّ مرفقه الأيمن على فخذه"، وسيجيء أيضاً.

وجوز بعضهم أنه ماض من التوحيد، أي جعل مرفقه منفرداً عن فخذه، أي رفعه. قال: وهذا أبعد الوجوه. والله تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل الأوجه كلها بعيدة، سوى الوجه الذي قدمته -كما أختاره هو- فإنه الأولى لموافقته لما ذُكر من الروايتين، لأن الرواية يفسر بعضها بعضاً والله تعالى أعلم.

وقوله: "وقبض ثنتين، وحلّق". يعني أنه قبض اثنين من أصابعه، وهما الخنصر والبنصر، كما بُيِّن في الروايات الأخرى.

وقوله: "وحلّق" من التحليق، أي جعل الاثنتين من أصابعه وهما الإبهام والوُسطى كالحلقة.

وقوله: "ورأيته يقول هكذا" الخ. قائل "ورأيته" إسماعيل بن مسعود رحمه الله تعالى، ومعنى "يقول": يشير، وفيه إطلاق القول على الإشارة، وهو كثير في الأحاديث، وقد تقدّم غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، ما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"شرح السندي" جـ 3 ص 35 - 36.

ص: 62

‌32 - (باب مَوْضِعِ الْكَفَّيْنِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على محل وضع الكفين في حال الجلوس للتشهد.

1266 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ -شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ- ثُمَّ لَقِيتُ الشَّيْخَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَلَّبْتُ الْحَصَى، فَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: لَا تُقَلِّبِ الْحَصَى، فَإِنَّ تَقْلِيبَ الْحَصَى مِنَ الشَّيْطَانِ، وَافْعَلْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ، قُلْتُ: وَكَيْفَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ؟ قَالَ: هَكَذَا، وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَأَضْجَعَ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن منصور) الْجَوّاز المكي، ثقة [10] تقدم 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الثبت الحجة [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني، ثقة ثبت [5] تقدم 22/ 23.

5 -

(مسلم بن أبي مريم) يسار المدني، مولى الأنصار، ثقة [4] تقدم 188/ 1160.

6 -

(علي بن عبد الرحمن) المُعَاويّ الأنصاري المدني، ثقة [4] 1160/ 188.

7 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم 12/ 12.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم، وتقدم للمصنف رحمه الله تعالى برقم 188/ 1160 - رواه عن علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر، عن مسلم بن أبي مريم به، أورده استدلالاً على موضع البصر في التشهّد، وتقدم شرحه، والمسائل المتعلّقة به مستوفاةً هناك، فراجعه تستفدْ.

وقوله: "شيخ من أهل المدينة" يحتمل الجرّ على أنه بدل من "مسلم"، والرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هو شيخ، و"من أهل المدينة" جارّ ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ "شيخ".

وقوله: "ثم لقيت" الخ، القائل هو سفيان بن عُيينة، والمعنى أن يحيى بن سعيد حدّث سفيان ومن معه عن مسلم بن أبي مريم، ثم لقي سفيان مسلماً نَفْسَهُ، فحدثه، فقال: سمعت علي بن عبد الرحمن الخ.

وقوله: "قلّبت الحصى" بتشديد اللام من التقليب، ويحتمل أن يكون بتخفيفها، من

ص: 63

القَلْب، والأول أولى، لأنه يدّل عليه قول ابن عمر رضي الله عنهما:"فإن تقليب الحصى" الخ، وقول علي بن عبد الرحمن الآتي:"وأنا أَعْبَثُ بالحصى" لأن العبث لا يظهر بالقلب مرّة واحدة، إذ يمكن أن يكون للحاجة، وإنما يظهر بالتكرار.

وقوله: "وأضجع اليسرى": أي فرش رجله اليسرى ليجلس عليها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌33 - (بَابُ قَبْضِ الأَصَابعِ مِنَ الْيَدِ الْيُمْنَى، دُونَ السَّبَّابَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على سنية قبض الأصابع كلها من اليد اليمنى، ما عدا السبّابةَ، فإنها يشار بها.

1267 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ

(1)

، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَا أَعْبَثُ بِالْحَصَى فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ نَهَانِي، وَقَالَ: اصْنَعْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ، قُلْتُ: وَكَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ، وَقَبَضَ -يَعْنِي أَصَابِعَهُ كُلَّهَا- وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ، وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم تقدموا، سوى:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفي الثقة الثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(مالك بن أنس) إمام دار الهجرة الحجة الثبت [7] تقدم 7/ 7.

وقوله: "أَعْبَثُ" مضارع عَبِث من باب فرح، يقال: عَبِثَ عَبَثاً: إذا لَعِبَ، وعمل ما لا فائدة فيه، فهو عابثٌ. قاله الفيّوميّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وقد سبق البحث فيه في الباب الماضي.

(1)

وفي بعض النسخ إسقاط "بن سعيد".

ص: 64

فإن قيل: هذه الكيفية التي ذكرت في هذا الحديث من قبض الأصابع كلها ما عدا السبّابة، تخالف ما تقدم في حديث وائل بن حُجر رضي الله تعالى عنه من قبض اثنتين، وتحليق الإبهام والوُسطى، فبينهما تعارض.

أجيب: بأنه لا تعارض بينهما لإمكان الحمل على أوقات مختلفة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا تارةً، وهذا تارة، فكلّ سنته، فينبغي العمل بهذا تارة، وبهذا تارة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌34 - (بَابُ قَبْضِ الثِّنْتَيْنِ مِنْ أَصَابع الْيَدِ الْيُمْنَى، وَعَقْدِ الْوُسْطَى وَالإِبْهَامِ مِنْهَا)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على استحباب قبض الثنتين من أصابع اليد اليمنى، وهما الخنصر والبنصر، وعقد الوُسطَى والإبهام من اليمنى.

1268 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، أَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ قَالَ: لأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُصَلِّي؟ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَوَصَفَ، قَالَ: ثُمَّ قَعَدَ، وَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ، وَرُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَجَعَلَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الأَيْمَنِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ قَبَضَ اثْنَتَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَحَلَّقَ حَلْقَةً، ثُمَّ رَفَعَ أُصْبُعَهُ، فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَان يَدْعُو بِهَا. مُخْتَصَرٌ).

رجال هذا الإسناد: ستة، تقدّموا كلهم، إلا:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي ثقة ثبت [10] تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) الإمام الحجة الثبت [8] تقدم 32/ 36.

3 -

(زائدة) بن قُدَامة، أبو الصَّلّت الكوفي، ثقة ثبت [7] تقدم 74/ 91.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم الكلام عليه قبل بابين، فلا حاجة إلى إعادته هنا.

ص: 65

وقوله: "مختصر" خبر لمحذوف، أي هذا مختصر. يعني أن حديث وائل رضي الله عنه بهذا السياق مختصر من حديثه الطويل، حيث إنه لم يسق إلّا ما يتعلّق بالقعود فقط، وقد تقدّم للمصنف مطوّلاً من طريق زائدة بن قُدَامة، عن عاصم بن كليب برقم -11/ 889 - وكذا سبق قبل بابين من طريق بشر بن المفضّل، عن عاصم رقم -31/ 1265 - . والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب"

‌35 - (بَابُ بَسْطِ الْيُسْرَى عَلى الرُّكبَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على استحباب بسط اليد اليسرى على الركبة في حال الجلوس.

1269 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

مَعْمَرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَرَفَعَ أُصْبُعَهُ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ، فَدَعَا بِهَا، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ بَاسِطُهَا عَلَيْهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن رافع) النيسابوري، ثقة عابد [11] تقدم 92/ 114.

2 -

(عبدالرّزّاق) بن هَمّام الصنعاني، ثقة حافظ [9] تقدم 61/ 77.

3 -

(مَعْمَر) بن راشد الصنعاني، ثقة ثبت [7] تقدم 10/ 10.

4 -

(عبيد الله) بن عمر العُمَري المدني، ثقة ثبت [5] تقدم 15/ 15.

5 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 12/ 12.

6 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما تقدم 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات نُبلاء، وأنهم من

(1)

وفي نسخة "أنبأنا".

ص: 66

رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وهو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان) تقدم غير مرة أن "كان" تفيد الاستمرار (إذا جلس في الصلاة) أي لقراءة التشهد (وضع يديه على ركبتيه) أي وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، ويده اليسرى على ركبته اليسرى، لكن وضع كلّ منهما مختلف، كما بينه بقوله (ورفع إِصبعه) أي من يده اليمنى (التي تلي الإبهام) هي السّبابة التي تقدم ذكرها قريباً، وتسمّى المُسبّحة (فدعا بها) فيه أن رفعها إشارة إلى طلب المصلي من الله تعالى أن يعطيه ما يستجيب له دعاءه.

فإن قيل: إن التشهد ذكر، لا دعاء، فكيف قال:"يدعو بها".

أجيب: بأن التشهد ذكر ودعاء، فإن قوله:"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين"، وإن كان خيراً، لكنه بمعنى الإنشاء، فهو دعاء، وأيضاً الذكر دعاء، إذ الثناء على الكريم تعرّض لعطائه، كما قال الشاعر [من الوافر]:

أَأَذْكرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كفَانِي

ثَنَائِي إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ

إِذَا أَثَنَي عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْماً ..... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ

(ويده اليسرى) بالنصب على المفعولية لـ"وضع" مقدراً، دلّ عليه السياق، أي وضع يده اليسرى، ويحتمل الرفع على الابتداء، خبره قوله (على ركبته) المراد الركبة اليسرى. وفيه أن السنة وضع اليسرى على الركبة.

قال النووي رحمه الله تعالى: وقد أجمع العلماء على استحباب وضعها -يعني اليسرى- عند الركبة، أو على الركبة، وبعضهم يقول بعطف أصابعها على الركبة، وهو معنى قوله:"ويُلقم كفه اليسرى رُكْبَتَه"

(1)

.

والحكمة في وضعها عند الركبة منعُها من العبث. انتهى

(2)

(باسطها عليها) يحتمل أن يكون بالنصب على الحال، لأن إضافته لفظيّة، فلا يتعرف

(1)

أي في حديث عبد الله بن الزبير عند مسلم، وسيأتي التنبيه عليه في الرواية التالية -إن شاء الله تعالى.

(2)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 81.

ص: 67

بها، لكونها في نية الانفصال، أي حال كونه باسطاً يده اليسرى على ركبته اليسرى، ويحتمل أن يكون بالرفع خبراً لمحذوف، أي هو باسطها عليها، والجملة في محل نصب على الحال أيضاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -35/ 1269 - وفي "الكبرى" -70/ 1192 - عن محمد بن رافع، عن عبد الرزّاق، عن معمر، عن عُبَيد الله بن عمر، عن نافع، عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 2/ 90 - عن عبد بن حُميد، عن يونس بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع به. وعن محمد بن رافع، وعبد بن حُميد، كلاهما عن عبد الرزّاق به. (ت) رقم -294 - عن محمود بن غيلان، ويحيى بن موسى، وغير واحد، كلهم عن عبد الرّزّاق به. (ق) -913 - عن محمد بن يحيى، والحسن بن علي، وإسحاق بن منصور، كلهم عن عبد الرّزّاق به.

وأخرجه أحمد 2/ 131 و147 (والدارمي) رقم 1345 (وابن خزيمة)717. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب بسط اليد اليسرى على الركبة اليسرى، وأنه لا يشرع فيها القبض.

ومنها: استحباب رفع السبابة والإشارة بها، مع قبض بقية الأصابع، كما دلت عليه رواية ابن عمر رضي الله عنهما السابقة قبل باب، وقد تقدم أنه لا تنافي بين حديث ابن عمر الذي فيه قبض بقية الأصابع، وحديث وائل رضي الله عنه الذي فيه تحليق الإبهام والوُسطى، لأن ذلك يحمل على اختلاف الأوقات، وعلى التخيير، فكلٌّ سنة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1270 -

(أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ:

(1)

قَالَ ابْنُ

(1)

هكذا في النسخة "الهندية" بتكرار "قال"، وفي المطبوعة بحذف "قال" الأولى.

ص: 68

جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِذَا دَعَا، وَلَا يُحَرِّكُهَا، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَزَادَ عَمْرٌو: قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو كَذَلِكَ، وَيَتَحَامَلُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أيوب بن محمد الوزّان) أبو محمد الرّقّيّ، ثقة [10] تقدم 28/ 32.

2 -

(حجّاج) بن محمد الأعور المصّيصيّ، ثقة ثبت [9] تقدم 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأموي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه يدلس ويرسل [6] تقدم 28/ 32.

4 -

(زياد) بن سعد بن عبد الرحمن الخُرَاساني نزيل مكة، ثم اليمن، ثقة ثبت من أثبت أصحاب الزهري [6] تقدم 51/ 64.

5 -

(محمد بن عجلان) المدني، صدوق [5] تقدم 36/ 40.

6 -

(عامر بن عبد الله بن الزبير) الأسديّ، أبو الحارث المدني، ثقة عابد [4] تقدم 13/ 1024.

7 -

(عبد الله بن الزبير) بن الْعَوَّام القرشي الأسدي، أبو بكر، أو أبو خُبَيب، أول مولود في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، وولي الخلافة تسع سنين، قُتل في ذي الحجة سنة (73) تقدم 189/ 1161. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو، وأبو داود، وابن ماجه، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن الزبير) رضي الله تعالى عنهما (أن النبي-صلى الله عليه وسلم-كان يشير بإصبعه) أي السبّابة، كما بينه مسلم من طريق أبي خالد الأحمر، عن ابن عجلان، ولفظه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضح يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبّابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويُلقم كفَّه اليسرى ركبَتَه"(اذا دعا) أي إذا قرأ التشهد، وتقدم في الحديث الماضي وجه تسمية التشهد دعاء (ولا يحركها)"لا" نافية، والفعل بعدها مرفوع، أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يشير

ص: 69

بإصبعه من غير تحريكها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فإن قيل: هذا الحديث يدلّ على أنه لا يشرع تحريك الإصبع، ويعارضه ما تقدم في حديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحرّكها.

قلت: لا تعارض بينهما، لإمكان الجمع بحملهما على أوقات مختلفة، فيكون صلى الله عليه وسلم فعل التحريك في بعض الأوقات، فشهد وائل رضي الله عنه ذلك منه، فأخبر به، وكان في أكثر الأوقات لا يحرّك، كما تفيده لفظة "كان" في حديث ابن الزبير رضي الله عنهما.

وأما تضعيف حديث عبد الله بن الزبير بسبب تفرّد ابن عجلان -كما قال بعضهم- فليس بجيّد، فإن زيادة ابن عجلان ليست منكرة، لأنه ثقة متفق على توثيقه، وإنما تكلموا باضطرابه في أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه فقط، وهذا ليس منها، ولأن روايته يشهد لها حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما التي فيها وصف كيفية القبض والإشارة بحيث دقق فيها، فإنها خالية عن التحريك، فهي موافقة لراوية ابن عجلان. على أَنَّ التحريك المذكور في حديث وائل قيل بشذوذه، فقد ألف في ذلك رسالة بعض من عاصرناه. فتبصّر. والله تعالى أعلم.

(قال ابن جريج: وزاد عمرو) أي ابن دينار الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكي، ثقة ثبت، تقدمت ترجمته 112/ 154 (قال: أخبرني عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم) مقصود ابن جُريج أنه روى هذا الحديث عن شيخين: أحدهما: زياد بن سعد ولفظه ما تقدّم، والثاني: عمرو بن دينار، ولفظه: أخبرني عامر بن عبد الله الخ، والطريق الثاني أعلى لأن بينه وبين عامر واسطةً واحدةً، بخلاف الأول، فإن فيه واسطتين، زياداً، وابنَ عجلان. والله تعالى أعلم.

(يدعو كذلك) أي يتشهد على مثل الصفة المتقدمة من الإشارة بالإصبع (ويتحامل بيده اليسرى على رجله اليسرى) أي يعتمد بها عليها، والمراد وضع يده اليسرى، وبسطها على فخذه اليسرى من دون قبض، ولا تحليق، ولا إشارة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن الزبير هذا صحيح، كما حققه آنفاً.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -35/ 1270 - وفي "الكبرى" -70/ 1193 عن أيوب بن محمد الوزّان،

ص: 70

عن حجّاج الأعور، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن ابن عجلان، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه رضي الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 989، و990 (والحميدي) 879 (وأحمد) 4/ 3 (والدارمي)1344. والله تعالى أعلم.

وفوائد الحديث تعلم مما تقدم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌36 - (بَاب الإِشَارَةِ بِالإِصْبَعِ فِي التَّشَهُّدِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّال على استحباب الإشارة عند قراءة التشهد بالإصبع الواحدة، وهي السبّابة، كما بُيّنت في الروايات الأخرى.

1271 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، عَنِ الْمُعَافَى، عَنْ عِصَامِ بْنِ قُدَامَةَ، عَنْ مَالِكٍ -وَهُوَ ابْنُ نُمَيْرٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعًا يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى فِي الصَّلَاةِ، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الله بن عَمّار الْمَوْصِلي) الْمُخَرِّميّ الأزدي، أبو جعفر، نزيل الموصل، ثقة حافظ [10] تقدم 20/ 1220.

2 -

(الْمُعَافَى) بن عمران بن نُفيل بن جابر بن جَبَلة بن عُبيد بن لَبيد بن مُخاشن بن سَليمة بن مالك بن فَهْم الأزدي الفهمي، أبو مسعود النفيلي الموصلي الفقيه الزاهد، وقيل في نسبه: غير ذلك، ثقة عابد فقيه، من كبار [9].

روى عن حَريز بن عثمان، وابن جريج، والثوري، وعصام بن قُدَامة، وغيرهم. وعنه ابن المبارك، ووكيع، ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، وغيرهم.

قال أبو زكرياء الأزدي في "تاريخ الموصل": رحل في طلب العلم إلى الآفاق، وجالس العلماء، ولزم الثوري، وتأدّب بآدابه، وتفقه به، وأكثر عنه، وعن غيره،

ص: 71

وصنّف حديثه في السنن وغير ذلك، وكان زاهداً فاضلاً شريفاً كريماً عاقلاً، قال علي ابن حرب: رأيته أبيض الرأس واللحية، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: كان صادق اللَّهجة، قال حرب، عن أحمد: شيخ له قَدْر وحال، وجعل يعظّم أمره، قال: وكان رجلاً صالحاً، وقال ابن معين، وأبو حاتم، والعجلي، وابن خراش: ثقة، وقال أبو زرعة: كان عابداً صالحاً، وقال ابن سعد: كان ثقة خيراً فاضلاً صاحب سنّة، وقال عمرو بن عبد الله الأزديّ، عن وكيع: حدثنا المعافى، وكان ثقة، وقال بشر بن الحارث: كان ابن المبارك يقول: حدثنا ذاك الرجل الصالح -يعني المعافى- وعن بشر قال: كان الثوري يقول للمعافى: أنت مُعَافًى كاسمك، وكان يسميه الياقوتة، وقال ابن عمار: لم أر بعده أفضل منه، قال: وكنت عند عيسى بن يونس بالحَدَث، فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: من أهل الموصل، قال: رأيتَ المُعافى بن عمران؟ قلت: نعم، قال: ما أحسب أحدًا رأى المعافى، وسمع من غيره يريد الله تعالى بعلمه، وقال أحمد ابن يونس، عن الثوري: امتَحِنُوا أهل الْمَوْصل بالمعافى، وعنه قال: أَهْدَى إليّ الْمُعافى كساءً، فقبلت منه، وكان المعافى أهلاً لذلك، وقال محمد بن المثنى عن بشر بن الحارث: كان المعافى محشوّاً بالعلم والفهم والخير، قال: وكان المعافى لا يأكل وحده، وذكر من سخائه. وقال إبراهيم بن جنيد: قلت لابن معين: أيما أحبّ إليك، أكتب "جامع سفيان" عن فلان، أو فلان، أو عن رجل عن المعافى؟، فقال: عن رجل، عن رجل، حتى عَدَّ خمسة أو ستةً عن المعافى أحب إلي، وقال ابن حبّان في "الثقات": كان من العبّاد المتقشِّفين في الزهد، وقال أبو زكريّاء صاحب "تاريخ الموصل": كان كثير الكتاب والشيوخ، قيل عنه أنه قال: لقيت ثمانمائة شيخ.

ومناقبه، وفضائله كثيرة جدّاً. قال ابن قانع: مات سنة (204) وقال ابن عمّار: مات سنة (185)، وقال الهيثم بن خارجة: مات سنة ست. أخرج له البخاري، وأبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب (9) أحاديث.

3 -

(عصام بن قُدَامة) البجلي، أو الجَدَلي -بالجيم- أبو محمد الكوفي، صدوق [7].

روى عن ابن عمر مرسلاً، وعطية الْعَوْفي، وقيل: عن عبيد الله بن الوليد الوصّافي، عنه، ومالك بن نُمير، وعكرمة. وعنه وكيع، والمعافى بن عمران، وأبو نعيم، وغيرهم.

قال ابن معين: صالح، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: لا بأس به. وقال أبو داود: ليس به بأس، وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال الذهبي: لم يثبّته

ص: 72

ابن القطان.

أخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه حديث الباب فقط، وأعاده المصنف بعد باب.

4 -

(مالك بن نُمير الخزاعي) البصريّ، مقبول [4].

روى عن أبيه. وعنه عصام بن قُدامة الجدلي، وقال البرقاني عن الدارقطني: ما يحدّث عن أبيه إلا هو، يُعتَبَر به، ولا بأس بأبيه.

قال الحافظ رحمه الله: هذا الكلام فيه نظر، فإن أباه ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً في الصلاة .... الحديث، فإن ثبت إسناده فهو صحابي، وقال ابن القطّان: لا يعرف حال مالك، ولا روى عن أبيه غيره، وقال الذهبي: لا يعرف. روى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه فقط، وأعاده المصنف بعد باب.

5 -

(نُمير الخُزاعي) أبو مالك، روى عنه ابنه مالك، قال البغوي: لا أعلم له حديثاً مسنداً غير حديث الباب، وقال ابن عبد البرّ: يكنى أبا مالك، سكن البصرة.

روى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه حديث الباب فقط، وأعاده المصنف بعد باب.

[فائدة]: "الخُزاعي" بضم الخاء المعجمة، والزاي-: نسبة إلى خُزَاعة اسم حيّ، سُمّوا بذلك لأنهم لمّا ساروا مع قومهم من مَأْرِب، فانتهوا إلى مكة تخزّعوا، وتفرّقوا عنهم، فأقاموا، وسار الآخرون إلى الشام، وقال ابن الكلبي: إنما سُمُّوا خُزاعة لأنهم انخزعوا من قومهم حين أقبلوا من مأرب، فنزلوا ظهر مكة. وقيل: خزاعة حي من الأزد مشتقّ من ذلك، لتخلفهم عن قومهم، وسمّوا بذلك لأن الأزد لمّا خرجت من مكة لتتفرّق في البلاد تخلّفت عنهم خزاعة، وأقامت بها، قال حَسّان بن ثابت رضي الله عنه[من الطويل]:

فَلَمَا هَبَطْنَا بَطْنَ مَرِّ تخزَّعَتْ

خُزَاعَةُ عَنَّا فِي حُلُولِ كَرَاكِرِ

وهم بنو عمرو بن ربيعة، وهو لُحَيّ بن حارثة، وهو أول من بحّر البحائر، وغيّر دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. قاله في "اللسان"

(1)

.

وشرح الحديث يعلم مما تقدّم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى في درجته:

(1)

"لسان العرب" جـ 2 ص 1150.

ص: 73

حديث نُمير الخزاعي رضي الله عنه هذا صحيح.

فإن قلت: في سنده مالك بن نمير، وهو مجهول، فكيف يصح.

قلت: إنما حكمنا بصحته لشواهده، فإن الأحاديث المتقدمة وغيرها تشهد له فيصحّ بها. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -36/ 1271 - وفي "الكبرى" -71/ 1194 - عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، عن الْمُعافى بن عمران، عن عصام بن قُدَامة، عن مالك بن نمير، عن أبيه 38/ 1274 - و"الكبرى" -73/ 1196 - عن أحمد بن يحيى الصوفي، عن أبي نعيم، عن عصام بن قُدَامة به.

وأخرجه (د) 991 - و (ق) 911 و (أحمد) 3/ 471، (وابن خزيمة)، 715 و716. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌37 - (بَابُ النَّهْي عَنِ الإِشَارَةِ بِإِصْبَعَيْنِ، وَبِأَيِّ إِصْبَعٍ يُشِيرُ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على النهي عن الإشارة بإصبعين، والأمر بالإشارة بإصبع واحدة، وهي السبّابة، كما تقدّم.

1272 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَدْعُو بِأُصْبُعَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَحِّدْ أَحِّدْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشّار) بُندار البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

2 -

(صفوان بن عيسى) الزهري، أبو محمد البصريّ القَسّام، ثقة [9].

روى عن يزيد بن أبي عُبيد، وهشام بن حَسّان، ومحمد بن عجلان، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وبُندار، وغيرهم.

ص: 74

قال أبو حاتم: صالح. وقال العجلي: بصريّ ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة صالحاً، توفي بالبصرة سنة مائتين في خلافة هارون، وقال البخاري: مات سنة (198) وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثمان وتسعين، أو أول سنة (99) وقيل: سنة مائتين، وقيل: سنة (208) في أول رجب، وكان من خيار عباد الله. وكتب الذهبي: أن قول من قال: إنه مات سنة (208) غلط. علق عنه البخاري، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث.

3 -

(محمد بن عجلان) تقدم قبل باب.

4 -

(القعقاع) بن حكيم الكنَاني المدني، ثقة [4] تقدم 36/ 40.

5 -

(أيو صالح) ذكوان السمّان المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 36/ 45.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، وأنهم مدنيون، إلا شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان، وأن شيخه أحد التسعة الذين اتفق الجماعة بالرواية عنهم دون واسطة، كما تقدم غير مرّة، وأن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، محمد بن عجلان، والقعقاع، وأبو صالح، وأن صحابيه أكثر من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه (أن رجلاً) هو سعد بن أبي وقّاص رضي الله تعالى عنه، كما بينه أحمد في "مسنده" جـ 2 ص 420 - ولفظه من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بسعد، وهو يدعو، فقال:"أحِّدْ أحِّدْ".

(يدعو بإصبعيه) يحتمل أن يكون المراد الدعاء المعروف، يعني أنه يدعو الله تعالى رافعاً إصبعيه، ويحتمل أن يكون أراد بالدعاء التشهد، وقد تقدّم وجه تسمية التشهّد دعاء.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر صنيع المصنف رحمه الله أن هذا الدعاء كان داخل الصلاة، حيث أورده في أبواب التشهد، وهو الذي مشى عليه الترمذي رحمه الله حيث قال في "جامعه" جـ 5 ص 217: ومعنى هذا الحديث إذا أشار الرجل بإصبعيه في الدعاء عند الشهادة لا يشير إلا بإصبع واحدة. انتهى.

ص: 75

ويحتمل أن يكون خارج الصلاة، وهو الذي يفيده صنيع أبى داود رحمه الله تعالى، حيث أرود حديث سعد رضي الله تعالى عنه الآتي بعد هذا في باب الدعاء. والله تعالى أعلم.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحّد أحّد) فعل أمر من التوحيد، وأصله وَحِّدْ بالواو، فقلبت همزة، والتكرار للتأكيد.

قال في "النهاية": أي أشر بإصبع واحدة، لأن الذي تدعوه واحد، وهو الله تعالى. انتهى.

وقد جاء تفسير الأصبع التي يشير بها في رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه الآتية بعد هذا بأنها السبّابة.

والحديث يدلّ على استحباب الإشارة بالإصبع الواحدة عند الدعاء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -37/ 1272 - 72/ 1195 - بالسند المذكور.

وأخرجه (ت) رقم 3628 - (وأحمد) 2/ 420 و520. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1273 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: مَرَّ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ

(2)

صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَدْعُو بِأَصَابِعِي، فَقَالَ:"أَحِّدْ أَحِّدْ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الله بن المبارك الْمُخَرِّميّ) أبو جعفر البغدادي، ثقة حافظ [11] تقدم 43/ 50.

2 -

(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهم في حديث غيره من كبار [9] تقدم 26/ 30.

(1)

سقط من بعض النسخ قوله: "المُخَرَّميّ".

(2)

وفي نسخة "النبي".

ص: 76

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي الإمام الحافظ الحجة [5] تقدم 17/ 18.

4 -

(أبو صالح) ذكوان السمان، تقدم في السند الماضي.

5 -

(سعد) بن أبي وقّاص مالك بن وُهَيب رضي الله تعالى عنه تقدم 96/ 121.

وشرح الحديث يعلم مما سبق.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، أخرجه المصنف هنا -37/ 1273 - وفي "الكبرى" 72/ 1196 - بالسند المذكور، وأخرجه (د) رقم - 1499. والله تعالى أعلم.

وقوله: "وأنا أدعو" جملة في محل نصب على الحال من "رسول الله".

وقوله: "بأصابعي" هكذا نسخ "المجتبى" بصيغة الجمع، والذي في "الكبرى" وسنن أبي داود "بأصبعيّ" بصيغة التثنية، وهو واضح، وللأول أيضاً وجه، إذ أقلّ الجمع اثنان على الراجح، فأراد بالأصابع الأصبعين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌38 - (بَابُ إحْنَاءِ السَّبَّابةِ فِي الإِشَارَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية إحناء السبّابة في حال الإشارة بها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الإحناء": مصدر أحنى يُحني رباعياً، هكذا نسخ "المجتبى"، والذي في كتب اللغة التي بين يدي أن ثلاثيه يتعدّى، ففي "المصباح": حَنَيتُ العُودَ أَحْنيه حَنْياً، وحَنَوْته أحنُوهُ حَنْواً: ثَنَيتُهُ، ويقال للرجل إذا انحنى من الكبر: حَنَاه الدّهرُ، فهو مَحْنيّ، ومَحْنُوّ انتهى.

وفي "ق": حَنَاه حَنْواً، وحَنَّاه: عَطَفَه، فانحنى، وتحنّى: انعطف، وحنَا يده: لَوَاها. انتهى.

وأمّا أحنا رباعيّاً، فهو بمعنى الإشفاق، ولا يناسب هنا، يقال: حَنَت المرأة على أولادها حُنُوّاً، كعُلُوّ: عطفت، كأَحْنَت. قاله في "ق" أيضاً. والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 77

1274 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ قُدَامَةَ الْجَدَلِيُّ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ نُمَيْرٍ الْخُزَاعِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا فِي الصَّلَاةِ، وَاضِعًا ذِرَاعَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، رَافِعًا أُصْبُعَهُ السَّبَّابَةَ، قَدْ أَحْنَاهَا شَيْئًا، وَهُوَ يَدْعُو).

رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم تقدموا قبل باب، إلا اثنين:

1 -

(أحمد بن يحيى الصوفي) هو أحمد بن يحيى بن زكريا الأودي، أبو جعفر الكوفي العابد، ثقة [11].

روى عن شريك القاضي، وأبي أسامة، وأبي نعيم، وغيرهم. وعنه النسائي، والبخاري في "التاريخ"، وابن أبي حاتم، وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة. وقال النسائي: لا بأس به، وذكره ابن حبّان "الثقات"، وقال ابن عُقْدة: توفي في ربيع الأول سنة (264). انفرد به المصنف، وروى عنه في هذا الحديث (13) حديثًا.

[تنبيه]: "الصوفي" -بضم الصاد المهملة، وسكون الواو-: نسبة إلى التصوّف. أفاده في "لب اللباب" جـ 2 ص 75.

2 -

(أبو نعيم) الفضل بن دُكَين الكوفي، ثقة ثبت [9] تقدم 11/ 516.

وشرح الحديث واضح، وتخريجه تقدم قبل باب.

وقوله: "قد أحناها شيئاً" بالهمزة رباعيّاً: أي أمالها قليلاً، وعند أبي داود:"قد حَنَاها شيئاً"، بدون همزة، ثلاثيًّا، وهو الموافق لما قدمناه من كتب اللغة.

وفيه دلالة على مشروعيّة إمالة السبّابة حال الإشارة بها في التشهّد.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث نمير الخزاعي رضي الله عنه هذا ضعيف، لجهالة مالك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

تقدم أنه يقال له: البجليّ أيضاً.

ص: 78

‌39 - (مَوْضِعُ الْبَصَرِ عِنْدَ الإِشَارَةِ، وَتحَرِيكُ السَّبَّابَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على بيان موضع البصر عند الإشارة بالسبّابة، وعلى حكم تحريك السبّابة عند الإشارة بها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ذكر المصنف في هذه الترجمة مسألتين:

(إحداهما): موضع البصر عند الإشارة، ودلالة حديث الباب عليه واضحة، فإن قوله:"لا يجاوز بصره إشارته" يدلّ على أن موضع البصر هو الإصبع التي يشير بها، ففيه استحباب نظر المصلي عند التشهّد إلى السبابة التي يشير بها.

(الثانية): تحريك السبّابة، وظاهر تصرّف المصنف أنه لا يرى استحباب تحريك السبّابة عند الإشارة بها، لأنه أورد حديث عبد الله بن الزبير، وهو وإن لم يُذكر فيه التحريك، لا إثباتاً، ولا نفياً في هذه الرواية، لكنه تقدّم نفيه من طريق زياد بن سعد، عن ابن عجلان -35/ 1270 - ، ولفظه:"كان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحَرّكها"، فدلّ على أنه رحمه الله تعالى لا يرى استحباب تحريكها، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الراجح عندي؛ وأما ما تقدم من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه من إثبات التحريك، فقد أعلّه بعضهم بالشذوذ حيث خالف زائدة جماعةً من الحفاظ الذين رووه عن عاصم بن كليب، فزاده، كما أشار إلى هذا ابن خزيمة في "صحيحه" جـ 1 ص 354، وعلى تقدير صحته فيحمل على أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، فيشرع التحريك أحياناً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك السبّابة، وترك تحريكها، فيكون الراجح العملَ بهما، فيحركها أحياناً، ويترك ذلك أحياناً. والله تعالى أعلم بالصواب.

1275 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَعَدَ فِي التَّشَهُّدِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ، لَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم تقدموا قريباً غير:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرَقي البغدادي، ثقة حافظ [10] تقدم 21/ 22.

(1)

وفي نسخة "حدثنا".

ص: 79

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام الشهير [9] تقدم 4/ 4.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم قبل ثلاثة أبواب، وتقدم الكلام عليه هناك مستوفًى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌40 - (باب النَّهْىِ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدمت هذه الترجمة برقم -9 - بلفظ: "النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة". أوود هناك المصنف رحمه الله تعالى حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه 1193 - ، وحديث عُبيد الله بن عبد الله، عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم 1194.

والفرق بين الترجمين أن النهي هناك عن رفع البصر في الصلاة مطلقاً، وهنا عن رفعهما فيها عند الدعاء، فأفادت الأولى ما لم تفده الثانية، فيحرم رفع البصر إلى السماء في الصلاة مطلقاً. والله تعالى أعلم بالصواب.

1276 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثنِي

(1)

اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ

(2)

عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ

(3)

أَبْصَارُهُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن عمرو بن السرح) المصري، ثقة [10] تقدم 35/ 39.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري، ثقة ثبت [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة الشهير المصري [7] تقدم 31/ 35.

(1)

وفي نسخة "أخبرني".

(2)

وفي نسخة "عن رفع أبصارهم".

(3)

وفي نسخة "أو ليخطف الله أبصارهم".

ص: 80

4 -

(جعفر بن ربيعة) الكندي المصريّ، ثقة [5] تقدم 122/ 173.

5 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 7/ 7.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاري، ولا الترمذي، وأنه مسلسل بالمصريين، سوى الأعرج، وأبي هريرة، فمدنيان، وفيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لينتهينّ أقوام) اللام هي الموطِّئةُ للقسم، والفعل مبنيّ للفاعل، و"أقوام" فاعله، والنون المشددة نون التوكيد (عن رفع أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء) هذا الحديث فيه تقييد النهي عن رفع الأبصار بالدعاء الواقع في داخل الصلاة، وتقدم في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه غير مقيد بالدعاء، ولفظه:"مال بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم"

الحديث. وفي حديث عبيد الله بن عبد الله، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً:"إذا كان أحدكم في الصلاة، فلا يرفع بصره الى السماء، أن يُلْتَمَعَ بصرُهُ".

فيستفاد من الحديثين النهي عن رفع البصر في الصلاة مطلقاً، والنهي للتحريم على الراجح، للوعيد المذكور. والله تعالى أعلم.

(أو لتُخطفنّ أبصارهم) بالبناء للمفعول، أي لتُسلبنّ بسرعة.

قال النووي رحمه الله تعالى: فيه النهي الأكيد، والوعيد الشديد في ذلك، وقد نُقل الإجماعُ في النهي عن ذلك. انتهى.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث دليل على كراهة رفع بصره إلى السماء في صلاته.

والمعنى في كراهة ذلك خُشوع المصلي، وخفض بصره. ونظره إلى محلّ سجوده، فإنه واقف بين يدي الله عز وجل يُناجيه، فينبغي أن يكون، منكساً رأسه، مطرقاً إلى الأرض. انتهى باختصار

(1)

.

(1)

"فتح الباري" للحافظ ابن رجب جـ 6 ص 442 - 443.

ص: 81

وتمام شرح الحديث قد تقدم في حديث أنس المذكور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -40/ 1276 - وفي "الكبرى" -75/ 1199 - بالسند المذكور.

وأخرجه (م) -2/ 39 - عن أحمد بن عمرو بن السرح، وعمرو بن سَوّاد، كلاهما عن ابن وهب به. (وأحمد) 2/ 333، و367. من رواية الحسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وهي منقطعة عند الجمهور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌41 - (باب إِيجَابِ التَّشَهُّدِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على إيجاب التشهّد على المصلي.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يحتمل أن يكون المراد التشهد الأخير بدليل أنه ترجم للتشهّد الأول فيما سبق -106/ 1177 - بقوله: "باب ترك التشهد الأوّل".

فيكون المصنف رحمه الله تعالى ممن يرى التفرقة بين التشهدين، فيرى وجوب التشهد الثاني، دون الأوّل، وهو الذي ذهب إليه البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه"، واستدلّ على عدم وجوب التشهد الأول بكون النبي صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين، ولم يرجع، كما في حديث ابن بُحينة رضي الله عنه المتقدّم.

ويحتمل أن يكون المراد جنسَ التشهد، فيشمل الأول والثاني، فيكون الباب معقوداً لبيان حكم التشهدين، ولكون ما تقدّم لبيان أن من ترك التشهد سهواً يسجد سجدتي السهو، وإنما قيّده بالأول لكونه مورد النصّ، وهذا هو المذهب الراجح، كما يأتي تحقيقه آخر الباب، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 82

1277 -

(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٌ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقُولُوا: هَكَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ، أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سعيد بن عبد الرحمن أبو عبيد الله المخزومي) هو سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان، ويقال: ابن عبد الرحمن بن أبي سعيد، ثقة من صغار [10].

روى عن ابن عُيينة، وهشام بن سليمان المخزومي، وحسين بن زيد، وغيرهم. وعنه الترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة، وقال مرّة: لا بأس به. وقال مسلمة في "كتاب الصلة": سعيدُ بن عبد الرحمن بن سعيد بن حسّان بن عُبيد الله بن أبي نَهيك بن أبي السائب صيفي بن عائذ ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أنا عنه غير واحد، وهو ثقة في ابن عُيينة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (249) زاد غيره بمكة. انفرد به الترمذي، والمصنف، وروى عنه في هذا الكتاب (10) أحاديث.

2 -

(سفيان) بن عُيينة الإمام الحجة الشهير [8] تقدّم 1/ 1.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الإمام الثبت [5] تقدم 17/ 18.

4 -

(منصور) بن المعتمر الحافظ الحجة الثبت [6] تقدم 2/ 2.

5 -

(شقيق بن سلمة) أبو وائل الكوفي ثقة ثبت مخضرم [2] تقدم 2/ 2.

6 -

(ابن مسعود) عبد الله رضي الله تعالى عنه، تقدّم 35/ 39.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه، وقد استوفيتُ شرحَه، وبيانَ المسائل المتعلقة به برقم 190/ 1162.

وإنما أتكلم هنا على ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو إيجاب التشهد، فأقول:

(اعلم): أنه اختلف أهل العلم في حكم التشهّد:

(1)

قوله: "المخزومي" ساقط من بعض النسخ.

ص: 83

أما التشهد الأول، فقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه":"باب من لم ير التشهّد الأول واجباً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين، ولم يرجع"، ثم أخرج حديث عبد الله ابن بُحينة رضي الله تعالى المتقدم -196/ 1177.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد استَدَلَّ بهذا الحديث كثير من العلماء -كما أشار إليه البخاريّ- على أن التشهد الأول ليس بواجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نسيه، ولم يرجع إليه بعد قيامه إلى الركعة الثالثة.

وممن ذهب إلى أن التشهد الأول، والجلوس له سنة، لا تبطل الصلاة بتركهما عمداً: النخَعيُّ، وأبو حنيفة، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وحُكي روايةً عن أحمد، والمنصوص عن أحمد إنكار تسميته سنة، وتوقف في تسميته فرضاً، وقال: هو أمرٌ أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الثوريّ، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، وأبو ثور، وداود: إن تَرَكَ واحداً منهما عمداً بطلت صلاته، وإن تركه سهواً سجد لسهو.

وحَكَى الطحاويّ مثله عن مالك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليه، وقال:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، وإنما تركه نسياناً، وجبره بسجود السهو.

وقد روي عنه الأمر به، كما خَرَّجه أبو داود من حديث رفاعة بن رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته:"فإذا جلست في وسط الصلاة، فاطمئنّ، وافترش فخذك اليسرى، ثم تشهد".

والعجب أن من المخالفين في ذلك من يقول في خطبتي الجمعة: إذا لم يجلس بينهما لم تصحّ الخطبة، وهو يقول: لو صلّى الظهر أربعاً من غير جلوس في وسطها صحت صلاته.

وأما التشهد الآخر والجلوس له، وهو الذي ترجم له المصنف رحمه الله تعالى هنا بقوله:"باب إيجاب التشهد"، فقال كثير من العلماء: إنهما من فرائض الصلاة، ومن تركهما لم تصحّ صلاته، وهو قول الحسن، ومكحول، ونافع مولى ابن عمر، والشافعيّ، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وحكى ابن المنذر مثله عن مالك، إلا أنه قال: إذا نسيه خلف الإمام حَمَلَه عنه، وروي عن الأوزاعيّ نحوه، ونقلَ مُهَنَّا عن أحمد ما يدلّ على مثل ذلك، وقال أبو مصعب: من ترك التشهد بطلت صلاته، ونقله عن مالك، وأهل المدينة.

وقالت طائفة: هو سنّة كالتشهد الأول، لا تبطل الصلاة بتركه، منهم: النخعي، وقتادة، وحمّاد، والأوزاعيّ، وهو المشهور عن مالك.

ص: 84

ونقل محمد بن يحيى الكحال عن أحمد -فيمن سلّم، ولم يتشهد-: لا إعادة، واستدلّ بحديث ابن بُحينة.

ونقل ابن وهب عن مالك، قال: كلّ أحد يحسن التشهد إذا ذكر الله أجزأ عنه. وقال أحمد في رواية عنه، نقلها حرب: إذا لم يقدر أن يتعلّم التشهد يدعو بما أحبّ.

وأوجب أبو حنيفة الجلوس له بقدر التشهد دون التشهد، وهو رواية عن الثوريّ، وروي عنه: إن أحدث قبل التشهد تمت صلاته.

وحُكي القول بأنه سنة روايةً عن أحمد أيضاً حكاه عنه الترمذي في "جامعه"، فإنه قال في رواية ابن منصور، وقد قيل له: فإن لم يتشهد وسَلَّم؟ قال: التشهد أهون، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثنتين، ولم يتشهد، فحَمَلَه هؤلاء على أن التشهد غير واجب، ومنهم من حمله على التشهد الأول، لاستدلاله عليه بالحديث، والحديث إنما ورد في الأول، وقالوا: قد فرق بين الأول والثاني في روايات أخر عنه.

وقالت طائفة: هو واجب تطل الصلاة بتركه عمداً، ويسجد لسهوه، وهو قول الزهريّ، والثوريّ، وحكي عن الأوزاعيّ أيضاً، ونقله إسماعيل بن سعيد، وأبو طالب، وغيرهما عن أحمد، وذكر أبو حفص البرمكي من الحنابلة أن هذا هو مذهب أحمد، وأنه لا فرق عنده بين التشهد الأول والثاني، وأنهما واجبان، تبطل الصلاة بتركهما عمداً، ويسجد لسهوهما.

وهو أيضاً قول أبي خيثمة، وسليمان بن داود الهاشميّ، وأبن أبي شيبة.

واستدَلَّ من قال: إنه فرض بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه المذكور في الباب: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله"

الحديث، وذكر فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالتشهد، وتعليمه لهم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى ببعض تصرف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي قول من قال بوجوب التشهدين جميعاً، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، كما تقدّم في حديث رفاعة بن رافع رضي الله تعالى عنه، والأمرُ للوجوب، ولمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب، حيث قال:"قبل أن يُفرض علينا التشهد" الخ، فإنه نصّ في كون التشهد فرضاً، وحديثه الآتي بعد باب -43/ 1279 - "فإذا قعد أحدكم، فلقيل: التحيات لله"

الحديث، فإنه أمر صريح بقراءة التشهد في قعود الصلاة.

(1)

"فتح الباري" للحافظ ابن رجب جـ 6 ص 317 - 320.

ص: 85

والحاصل أن الراجح وجوب التشهدين، فتبطل الصلاة بتركهما، أو ترك أحدهما عمداً، وإن كان سهواً سجد للسهو. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌42 - (تَعْلِيمِ التَّشَهُّدِ كَتَعْلِيمِ السُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على العناية بتعليم التشهد كالعناية بتعليم السورة من القرآن.

1278 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهاوي، ثقة حافظ [11] تقدم 38/ 42 من أفراد المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(يحيى بن آدم) أبو زكريا الكوفي، ثقة حافظ فاضل من كبار [9] تقدم 1/ 451.

3 -

(عبد الرحمن بن حُمَيد) بن عبد الرحمن الرؤاسيّ الكوفي، ثقة [7] تقدم 17/ 798.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم المكي، صدوق (4) تقدم 31/ 35.

5 -

(طاوس) بن كيسان اليماني، ثقة فقيه فاضل [3] تقدم 27/ 31.

6 -

(ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما، تقدم 27/ 31.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم، وتقدّم للمصنف رحمه الله تعالى برقم -193/ 1174 - ومضى شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به هناك، فلتُراجع هناك، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "كما يعلمنا السورة من القرآن" إشارة إلى كمال اهتمامه صلى الله تعالى عليه

ص: 86

وسلم بتعليم التشهد كاهتمامه بتعليم السورة من القرآن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌43 - (بَاب كَيفَ التَّشَهُّدُ؟)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على بيان كيفية التشهد.

1279 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ -وَهُوَ ابْنُ عِيَاضٍ-

(1)

عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ بَعْدَ ذَلِكَ

(2)

مِنَ الْكَلَامِ مَا شَاءَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم تقدّموا قبل باب، إلا:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(الفُضَيل بن عياض) الخُرَاساني، ثم المكي الإمام الثقة العابد الزاهد [8] تقدم 21/ 388.

والحديث متفق عليه، وقد مضى البحث عنه قبل باب. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "من الكلام" أراد به الدّعاء، لا كلام الناس، كما تقدّم بيانه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه من رواية أبي الأحوص عنه -190/ 1163 - "وليتخيّر أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فليدع الله عز وجل". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

قوله: "وهو ابن عياض" ساقط من بعض النسخ.

(2)

وفي بعض النسخ "ثم ليتخير بعدُ من الكلام ما شاء".

ص: 87

‌44 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّشَهُّدِ)

1280 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الأَشْعَرِيَّ

(1)

قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَنَا، فَعَلَّمَنَا سُنَّتَنَا، وَبَيَّنَ لَنَا صَلَاتَنَا، فَقَالَ:"إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ}، فَقُولُوا: آمِينَ يُجِبْكُمُ اللَّهُ: ثُمَّ إِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ، فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ"، قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"فَتِلْكَ بِتِلْكَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ إِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ، فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ"، قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"فَتِلْكَ بِتِلْكَ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ، فَلْيَكُنْ مِنْ قَوْلِ أَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن بن بشار) بُندار البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

2 -

(محمد بن المثنى) البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 64/ 80.

3 -

(يحيى) بن سعيد القطان الإمام الشهير [9] تقدم 4/ 4.

4 -

(هشام) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائي البصري، ثقة ثبت [7] تقدم 30/ 34.

5 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري الإمام الحجة الثبت المشهور [4] تقدم 30/ 34.

6 -

(يونس بن جُبَير) الباهلي البصري، ثقة [3] تقدّم 38/ 830.

7 -

(حِطّان بن عبد الله) الرّقَاشي البصري، ثقة [2] تقدم 38/ 830.

8 -

(الأشعري) هو: أبو موسى عبد الله بن قيس الصحابي الشهير رضي الله تعالى عنه، تقدّم 3/ 3.

(1)

وفي نسخة "عن أبي موسى الأشعري".

ص: 88

وقوله: "يُجبكم الله" بالجيم من الإجابة، أي يستجب لكم دعاءكم.

وقوله: "وإذا كبّر وركع فكبّروا واركعوا" الخ، معناه: اجعلوا تكبيركم للركوع، وركوعَكم بعد تكبيره وركوعه، وكذلك رفعكم من الركوع يكون بعد رفعه، وكذلك في السجود.

وقوله: "فتلك بتلك" أي إن اللحظة التي سبقكم الإمام بها في تقدّمه إلى الركوع تُقابَل لكم بتأخركم في الركوع بعد رفعه لحظةً، فتلك اللحظة بتلك اللحظة، وصار قدر ركوعكم كقدر ركوعه، وكذلك في السجود.

وقوله: "سمع الله لمن حمده" أي سمع الله وأجاب حمدَ من حمده، ودعاءَه.

وقوله: "ربنا لك الحمد" هكذا هو في الحديث بلا واو، وقد ثبت في الروايات الصحيحة بإثبات الواو، وحذفها، فكلاهما ثابتان جائزان، وعلى إثبات الواو يكون قوله:"ربنا" متعلّقاً بما بعده، تقديره: سمع الله لمن حمده، ربنا فاستجب حمدنا، ولك الحمد على هدايتنا لذلك.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم، وقد تقدّم للمصنف رحمه الله تعالى برقم 190/ 830 - رواه عن مؤمّل بن هشام، عن ابن عُليّة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به، أورده مستدلاً به على تحريم مبادرة الإمام، وقد استوفيت شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقِي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌45 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّشَهُّدِ)

1281 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ: "بِسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ

(1)

مِنَ النَّارِ".

(1)

وفي نسخة "وأعوذ بالله".

ص: 89

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ أَيْمَنَ بْنَ نَابِلٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَيْمَنُ عِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَالْحَدِيثُ خَطَأٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 4/ 4.

2 -

(أبو عاصم) الضحّاك بن مَخْلَد النبيل الكوفي، ثقة ثبت [9] تقدم 19/ 424.

3 -

(أيمن بن نابل) أبو عمرو الحبشى المكي، نزيل عَسْقَلان، صدوق يَهم [5] تقدم 19/ 1175.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم المكيّ، صدوق [4] تقدم 31/ 35.

5 -

(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاري السَّلَمي رضي الله تعالى عنهما تقدم 31/ 35.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث تقدّم للمصنف رحمه الله تعالى برقم -194/ 1175 - وهو خطأ كما قال المصنف رحمه الله تعالى هنا، أخطأ فيه نابل بن أيمن، والصواب ما رواه الليث، وهو أثبت في أبي الزبير، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، وطاوس، كلاهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا التشهد، كما يعلّمنا القرآن، وكان يقول: التحيّات المباركات الصلوات الطيبات لله

" إلى آخر ما تقدّم برقم -193/ 1174.

فقد خَطّأ الحفاظُ: المصنف، والبيهقيُّ، والدارقطنى، وغيرُهُم أيمنَ بنَ نابل في هذا، وقالوا: الصواب حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

والحاصل أن حديث جابر في التشهد غلط، فلا تصحّ زيادة "بسم الله، وبالله" في أوله، و"أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار" في آخره، وإنما الصواب حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المذكور، وإن شئت تمام البحث في ذلك فراجع ما كتبته على حديث جابر رضي الله تعالى عنه بالرقم المذكور آنفا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 90

‌46 - (بَابُ السَّلَامِ

(1)

عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "السلام": التحيّة. وفي "اللسان": قال ابن قُتيبة: يجوز أن يكون السلام والسلامة لغتين، كاللَّذَاذ واللّذاذة، وأنشد:[من الطويل]

تُحيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمُّ بَكْرِ ....... وَهَلْ لَكِ بَعْدَ قَوْمك مِنْ سَلَامِ

قال: ويجوز أن يكون السلام جمع سلامة، وقال أبو الهيثم: السلام والتحية معناهما واحد، وهو السلامة من الآفات. انتهى بتغيير يسير

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

1282 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ ح وَأَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ، يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِى السَّلَامَ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عبد الوهّاب بن عبد الحكم) بن نافع، أبو الحسن الورّاق البغدادي، صاحب أحمد بن حنبل وخاصّته، وهو نسائي الأصل، ويقال له: ابن الحكم، ثقة [11].

روى عن حجّاج بن محمد، ومعاذ بن معاذ، ويزيد بن هارون، وغيرهم، وعنه أبو داود، والنسائي، والحسين المحاملي، وغيرهم.

قال الْمَرُّوذيّ عن أحمد: عبد الوهّاب رجل صالح، مثله يُوفّق لإصابة الحقّ، وقال الميموني عن أحمد: عبد الوهّاب عافاه الله قلّ من يُرى مثله، وقال المثنى بن جامع: ذكرته لأحمد، فقال: إني لأدعو الله له. وقال النسائي، والدارقطني: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال الخطيب: كان ثقة صالحاً ورعاً زاهداً، وقال ابن المنادي: كان من الصالحين العُقَلاء، قال لي ابنه الحسن: كان أبي إذا وقعت منه قطعة، فأكثر لا يأخذها، وقال أبو مزاحم الخاقاني، عن الحسن بن عبد الوهّاب الورّاق: ما رأيت أبي ضاحكاً قط، إلا تبسّماً، قال: لقد رآني مرّة، وأنا أضحك مع أمي، فجعل يقول لي: صاحب قرآن يضحك هذا الضحك!، وإنما كنت مع أمي. وقال أبو بكر بن محمد بن

(1)

وفى بعض النسخ "التسليم".

(2)

"لسان العرب" جـ 3 ص 2077.

ص: 91

عبد الخالق: مات سنة خمسين ومائتين، وقال أبو القاسم البغوي، وغيره: مات سنة (251). انفرد به أبو داود، والترمذي، والمصنف، وروى عنه في هذا الكتاب (3) أحاديث فقط.

2 -

(معاذ بن معاذ) بن نصر بن حَسّان العَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقة متقن. من كبار [9] تقدم 34/ 38.

3 -

(محمود بن غَيْلان) أبو أحمد المروزيّ نزيل بغداد، ثقة [10] تقدم 33/ 37.

4 -

(وكيع) بن الجرّاح الرُّؤاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد [9] تقدم 23/ 25.

5 -

(عبد الرّزّاق) بن هَمَّام، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مشهور [9] تقدم 61/ 77.

6 -

(سفيان بن سعيد) الثوري الإمام الحافظ الحجة الثبت [7] تقدم 33/ 37.

7 -

(عبد الله بن السائب) الكنديّ، أو الشيباني الكوفي، ثقة [6].

روى عن أبيه، وزاذان، وعبد الله بن معقل، وغيرهم. وعنه الأعمش، وأبو إسحاق الشيباني، وسفيان الثوريّ، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، وقال أحمد بن حنبل: سمع منه الثوري ثلاثة أحاديث، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، ووثقه العجلي، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وغيرهم.

انفرد به مسلم، والمصنف، له في مسلم حديث في "المزارعة"، وعند المصنف حديث الباب فقط.

8 -

(زاذان) أبو عمر، ويقال: أبو عبد الله الكندي مولاهم الكوفي الضرير، البزّاز، الكوفي، صدوق يرسل، وفيه شيعية [2].

يقال: إنه شهد خطبة عمر بالْجَابيَة، ورَوَى عنه، وعن عليّ، وابن مسعود، وسلمان، وغيرهم. وعنه أبو صالح السمّان، وهلال بن يساف، وعبد الله بن السائب، وغيرهم.

قال شعبة: قلت للحكم: مالك لم تحمل عن زاذان؟، قال: كان كثير الكلام، وقال شعبة، عن سلمة بن كُهَيل: أبو البختريّ أحبّ إليّ منه، وقال ابن الْجُنَيد عن ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله، وقال ابن عديّ: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عنه ثقة. وقال ابن سعدة كان ثقة كثير الحديث. وقال محمد بن الحسين البغدادي: قلت لابن معين: ما تقول في زاذان، روى عن سلمان؟، قال: نعم، روى عن سلمان وغيره، وهو ثبت في سلمان. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال ابن عَديّ: روى عن ابن

ص: 92

مسعود، وتاب على يديه، وكَنَاه الأكثرون أبا عمرو، وكذا وقع في كثير من الأسانيد. وقال الخطيب: كان ثقة، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن حبان في "الثقات": كان يخطىء كثيراً، مات بعد الجَمَاجم. وقال خليفة: مات سنة (82). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث فقط.

9 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه، تقدم 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم موثقون، وأن فيه كتابة (ح) وهي إشارة إلى تحويل الإسناد، فللمصنف إلى سفيان إسنادان، أحدهما عبد الوهاب بن عبد الحكم، عن معاذ بن معاذ، عنه، والثاني محمود بن غيلان، عن وكيع، وعبد الرزّاق، كلاهما عنه، وقد تقدم الكلام على الخلاف في اختصارها غير مرّة، وأنه يقدّر بعد قوله:"عن وكيع، وعبد الرزاق" لفظ "كلاهما"، كما تقدم غير مرة، وأن شيخه عبد الوهاب بن عبد الحكم، وزاذان هذا الباب أول محل ذكرهما، وأن عبد الله بن السائب ليس له عند المصنف غير هذا الحديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لله ملائكةً) الجارّ والمجرور خبر "إنّ" مقدّماً على أسمها، وهو "ملائكةً"، لكونه جاراً ومجروراً، كما قال ابن مالك:

وَرَاعِ ذَا التَّرْتِيبَ إِلاَّ فِي الَّذِي ..... كَلَيْتَ فِيهَا أَوْ هُنَا غَيْرَ الْبَذِي

أي جماعةً من الملائكة (سياحين في الأرض) صفة لـ"ملائكةً" بالسين المهملة، مبالغة السائح، من السياحة: وهي الذهاب.

قال ابن منظور رحمه الله: والسِّيَاحَة: الذَّهَاب في الأرض للعبادة والتَّرَهُّب، وساحَ في الأرض يَسيحُ سيَاحةً، وسُيُوحاً، وسَيْحاً، وسَيَحَانًا: أي ذهب. انتهى

(1)

.

وقال السندي رحمه الله: قوله: "سيّاحين" صفة لـ"ملائكةً"، يقال: ساح في الأرض يَسيح سياحةً: إذا ذهب فيها، وأصله من السيح، وهو الماء الجاري المنبسط على الأرض، والسيّاح -بالتشديد- كالعلام مبالغة منها. انتهى

(2)

.

(1)

"لسان العرب" جـ 3 ص 2167.

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 43.

ص: 93

(يبلغوني) من الإبلاغ، أو من التبليغ. روي بتخفيف النون على حذف إحدى النونين، وروي بتشديدها على الإدغام. أفاده القاري رحمه الله تعالى (من أمتي) فيه تعميم أمته صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل، فيدخل فيه الرجال، والنساء، والطائعون والعصاة (السلامَ) بالنصب على المفعولية. أي يبلغوني سلامَ من سلّم عليّ منهم، قليلاً كان أو كثيراً، وإن بعد مكانه، وتباعد زمانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

(اعلم): أن هذا الحديث من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره.

أخرجه هنا -46/ 1282 - وفي "الكبرى" -81/ 1205 - وفي "الملائكة" عن عبد الوهاب بن عبد الحكم، عن معاذ بن معاذ -وعن محمود بن غيلان، عن وكيع-، وعبد الرّزّاق -وفي "عمل اليوم والليلة" عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك- وفي "الملائكة" من "الكبرى" عن محمد بن بشار، عن يحيى -وعن أبي بكر بن عليّ، عن يوسف بن مروان، عن فضل -ستتهم عن سفيان الثوري- وعن الفضل بن العبّاس بن إبراهيم، عن محبوب بن موسى، عن أبي إسحاق الفزاريّ، عن الأعمش -وسفيان- كلاهما عن عبد الله بن السائب، عنه.

وأخرجه أحمد 1/ 387، و1/ 441، و1/ 452 (والدارمي)2777. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا كراهة في إفراده من الصلاة، كما ادعاه بعضهم، وسيأتي قريياً تمام البحث فيه، إن شاء الله تعالى.

ومنها: الترغيب والحثّ على استكثار السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها: بيان تعظيم الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وإجلال منزلته الرفيعة، حيث سخّر ملائكته الكرام لتبليغ سلام من يسلّم عليه من أمته إليه، قال الله عز وجل:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

ومنها: أن الملائكة أقسام، منهم من خصّ بنوع من الأعمال، كهؤلاء الذين يكثرون

ص: 94

السياحة في الأرض، ويبلغون النبي صلى الله عليه وسلم سلام من سلّم عليه من أمته.

ومنها: بيان فضل من يسلم عليه صلى الله عليه وسلم من أمته، حيث إن سلامه يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يردّ عليه بنفسه، كما ثبت ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلّم علي إلا ردّ الله عليّ روحي، حتى أردّ عليه السلام". رواه أبو داود بإسناد حسن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: أن حديث الباب يدل على جواز إفراد السلام من الصلاة، كعكسه من غير كراهة، وقد صرح النووي رحمه الله في "الأذكار" وغيره بكراهة إفراد أحدهما عن الآخر، فلا يقل: صلى الله عليه، فقط، أو عليه السلام فقط، واستدلّ على ذلك بورود الأمر بهما في الآية.

"قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر، نعم يكره أن يفرد الصلاة، ولا يسلّم أصلاً، أما لو صلّى في وقت، وسلّم في وقت آخر، فإنه يكون ممتثلاً. انتهى. نقله السخاوي رحمه الله في "القول البديع" ص 35.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بكراهة الإفراد مما لا دليل عليه، فالصواب ما قاله الحافظ رحمه الله تعالى.

والحاصل أن إفراد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو إفراد السلام جائزان بلا كراهة، لحديث الباب، ولما يأتي من الأحاديث في الأبواب الآتية، كقوله:"أُمرنا أن نصلي عليك، ونسلّم، أما السلام فقد عرفناه"

الحديث. وكقوله صلى الله عليه وسلم: "والسلام كما قد عُلِّمتم"، فقد صرّح بكون تعليم السلام تقدم على تعليم الصلاة، فأُفرد التسليم مدّةً في التشهّد قبل الصلاة عليه، فدلّ على جواز إفراد أحدهما عن الآخر.

وأما الاقتران في الآية فلا يدلّ على أكثر من استحباب الجمع بينهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌47 - (فَضْلِ التَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

1283 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

وفي نسخة "أنبأنا".

ص: 95

حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا سُلَيْمَانُ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، زَمَنَ الْحَجَّاجِ، فَحَدَّثَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَالْبُشْرَى فِي وَجْهِهِ، فَقُلْنَا: إِنَّا لَنَرَى الْبُشْرَى فِي وَجْهِكَ، فَقَالَ:"إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَكُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا يُرْضِيكَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن منصور الكَوْسَج) أبو يعقوب التميمي المروزي، ثقة ثبت [11] تقدّم 72/ 88.

2 -

(عفّان) بن مسلم الصفّار البصري، ثقة ثبت [8] تقدّم 21/ 427.

3 -

(حماد) بن سلمة، أبو سَلَمَة البصري، ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8] تقدّم 181/ 288.

4 -

(ثابت) بن أسلم البُنَاني، أبو محمد البصري، ثقة عابد [4] تقدم 45/ 53.

5 -

(سليمان مولى الحسن بن علي) بن أبي طالب رضي الله عنهما الهاشمي، مجهول [3].

روى عن عبد الله بن أبي طلحة. وعنه ثابت البناني، ذكره ابن حبّان في "الثقات".

انفرد به النسائي، روى له حديث الباب فقط، قال الحافظ المزي: ما حاصله إِنَّهُ قرأ بخط النسائي: سليمان هذا ليس بالمشهور انتهى.

6 -

(عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري المدني، وُلد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ووثقه ابن سعد، تقدم 122/ 178.

7 -

(أبو طلحة) زيد بن سَهْل بن الأسود بن حرام الأنصاري النجّاري، من كبار الصحابة، شهد بدراً وما بعدها رضي الله عنه، تقدّم 122/ 177. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن ثابت البُناني أنه (قال: قدم علينا) البصرةَ (سليمان مولى الحسن بن على) ابن أبي طالب رضي الله عنهما.

وفي رواية الحاكم: إن ثابتاً تلا قولَ الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، فقال ثابت: قدم علينا سليمان مولى الحسن بن علىّ، فحدثنا

الحديث (زمن الحجاج) منصوب على الظرفية، متعلق بـ"قدم"، أي في وقت كون الحجّاج بن يوسف أميراً على أهل العراق (فحدّثنا) أي سليمان مولى الحسن (عن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاريّ المدني (عن

ص: 96

أبيه) أبي طلحة زيد بن سهل رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم)"ذات" مقحمة، أي يوماً من الأيام، ووقتاً من الأوقات، وقال الزمخشريّ: هو من إضافة المسمى إلى الاسم (والبُشْرى في وجهه) مبتدأ وخبره، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل "جاء"، أي جاء صلى الله عليه وسلم، والحال أن الفَرَحَ والاستبشارَ يُرَى في وجهه.

و"البشرى" -بضم فسكون- فُعْلى: اسم من الاستبشار، يقال: بَشرَ بكذا يَبْشَرُ، مثل فرح يَفْرَح وزنًا ومعنًى، وهو الاستبشار أيضاً، والمصدر البُشُورُ، ويتعدّى بالحركة، فيقال: بَشَرْتهُ أبْشرُه بَشْراً، من باب قتل في لغة تهامة، وما وَالاها، والاسم منه بُشْرٌ بضمّ الباء، والتعدية بالتثقيل لغةُ جميع العرب، وقرأ السبعة باللغتين، واسم الفاعل من المخفف بَشيرٌ، ويكون البشير في الخير أكثر من الشرّ، والبِشارة -بكسر الباء، والضمّ لغةٌ، وإذا أطلقت اختَضت بالخير، والبِشْرُ -بالكسر- طَلاقةَ الوجه. قاله الفيّومي

(1)

.

وقال السندي رحمه الله: قوله: "والبشر" -بكسر الباء: اسم من الاستبشار، أي الطَّلَاقَةُ وآثار السرور فى وجهه. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لعل نسخة السندي رحمه الله هكذا "والبشرُ"، بالضبط الذي ذكره، وإلا فنُسَخ "المجتبى" التي بين أيدينا كلها بلفظ "البُشرى" بوزن فُعْلى في الموضعين هنا، وإنما لفظ "البشر" في الرواية الآتية -55/ 1295 - . والله تعالى أعلم.

(فقلنا: إنا لنرى البُشرى في وجهك) المراد بُشرى لم يروه قبل ذلك، ففي رواية الدارمي: "فقيل له: يا رسول الله إنّا لنرى في وجهك بشراً لم نكن نراه؟، قال:

" الحديث (إنه) أي الشأن (أتاني الملك) أي جبريل، لما يأتي في -55/ 1295 - من طريق عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلمة

فقال: "إنه جاءني جبريل صلى الله عليه وسلم، فقال: أما يُرضيك"

الحديث (فقال: يامحمد إن ربك يقول: أما يُرضيك) بضم حرف المضارعة، من الإرضاء.

قال الطيبي رحمه الله تعالى: هذا بعض ما أُعطي من الرضا في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وهذه البشارة في الحقيقة راجعة إلى الأمة، ومن ثَمَّ تمكّن البشرُ في أسارير وجهه صلوات الله وسلامه عليه، حيث جُعل وجهُهُ ظرفاً ومكاناً للبشر والطلاقة. انتهى.

(أنه لا يصلي عليك أحد) بفتح همزة "أن" لكونها وقعت في محلّ الفاعل، لأنه في

(1)

"المصباح المنير" جـ 1 ص 49.

ص: 97

تأويل المصدر فاعل "يُرضيك". وفي رواية ابن المبارك المذكورة زيادة "من أمتك"(إلّا صليتُ عليه عشراً) أي عشر صلوات (ولا يُسلّم) من التسليم (عليك أحد إلا سلّمت عليه عشراً) فيه دليل على أن السلام على النبي صلى الله عليه وسلم مثل الصلاة عليه، لأن الله سبحانه وتعالى يسلّم عشراً على من سلّم عليه كما يُصلّي على من صلّى عليه عشراً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته.

حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

[فإن قلت:] في إسناده سليمان مولى الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، وهو مجهول، كما تقدّم في ترجمته، فكيف يكون حسنًا؟.

[أُجيب]: بأن له طرُقاً يصحّ بها:

فقد أخرجه الحافظ إسماعيل بن إسحاق القاضي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"، فقال: أنبأنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن عبد الله بن عمر، عن ثابت البناني، قال أنس بن مالك، قال أبو طلحة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم يوماً يعرفون البشر في وجهه، فقالوا: إنا نعرف الآن في وجهك البشرَ يا رسول الله! قال: "أَجَلْ أتاني الآن آت من ربي، فأخبرني أنه لن يصلي عليّ أحد من أمتي إلّا ردها الله عليه عشر أمثالها"

(1)

.

وعبد الله بن عمر هو العمري، وهو وإن كان ضعيفاً، إلا أنه لا بأس به في المتابعات.

وأخرجه أيضاً من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، عن جده، وفي سنده ضعف، لكن الطرق يقوّي بعضها بعضاً.

وله شواهد.

فقد أخرج أبو عبد الله الحاكم في "مستدركه": من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت جبرئيل عليه السلام، فبشرني، وقال: إن ربك يقول: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلّم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكراً". قال: هذا حديث

(1)

راجع "فضلاة الصلاة" لإسماعيل القاضي ص 21 - 22.

ص: 98

صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رجاله رجال الصحيح غير عبد الواحد، ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، وذكر عن أبيه: أنه روى عنه عاصم بن عمر بن قتادة، وروى عن جده عبد الرحمن بن عوف، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فعلى هذا فهو مجهول العين، فيكون تصحيح الحديث لشواهده. والله تعالى أعلم.

وأخرج له الحافظ إسماعيل القاضي شاهداً آخر من حديث أنس رضي الله عنه، وآخر من حديث عمر رضي الله عنه

(2)

، وفيهما مقال، لكن مجموع الطرق يكون له قوّة.

وله أيضاً شاهد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يأتي للمصنف في -55/ 1296 - بلفظ. من صلى عليّ واحدةً صلى الله عليه عشراً".

ومن حديث أنس رضي الله عنه يأتي للمصنف أيضاً في -55/ 1297 - بلفظ: "من صلى علي صلاةً واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحُطّت عنه عشرُ خطيئات، ورُفعت له عشرُ درجات". فلهذه الطرق والشواهد قلنا بصحة الحديث.

والحاصل أن حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه المذكور في الباب صحيح لما ذُكِرَ. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

(اعلم): أن حديث الباب من أفراد المصنف رحمه الله، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا -47/ 1283 - وفي "الكبرى" -82/ 1206 - عن إسحاق ابن منصور الكَوْسَج، عن عفّان بن مسلم، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن سليمان مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه. وفي 55/ 1295 - و"الكبرى" -89/ 1218 - وفي "عمل اليوم والليلة" -60 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن حمّاد بن سلمة به.

وأخرجه (أحمد) 4/ 29، و4/ 30 و (الدارمي) رقم 2776 - . والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

"المستدرك" جـ 2 ص 550.

(2)

راجع "فضل الصلاة" لإسماعيل القاضي ص 23 - 24.

ص: 99

ومنها: بيان فضل الصلاة عليه عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.

ومنها: استحباب الفرح بفضل الله تعالى، وظهورُ إلاستبشار على الوجه، لقول الله جلّ ذكره:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

ومنها: تمام عناية الله عز وجل بحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حيث يُرضيه بهذه البشارة العظيمة، والمنة الجسيمة، قال تعالى:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

ومنها: بيان ما مَنّ الله عز وجل على هذه الأمة، من عظيم الفضل بصلاتها وسلامها على حبيبه الأعظم، وخليله الأفخم، صلى الله عليه وسلم، حيث جعل جزاء صلاة واحدة عشر صلوات، وجزاء تسليم واحد عليه عشر تسليمات. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌48 - (بَاب التَّمْجِيدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ)

وفي بعض النسخ: "باب التحميد" بالحاء المهملة.

و"التمجيد" بالجيم: مصدر مَجّد، يقال: مَجّده: إذا عظّمه، وأثنى عليه، أفاده في "ق".

وأما الصلاة، فسيأتي الكلام عليها في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى.

1284 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ، أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْجَنْبِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ، لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي"، ثُمَّ عَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُصَلِّي، فَمَجَّدَ اللَّهَ، وَحَمِدَهُ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ادْعُ تُجَبْ، وَسَلْ تُعْطَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن سلمة) المرادي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت [11] تقدّم 19/ 20.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري الحافظ الثبت العابد [9] تقدم 9/ 9.

ص: 100

3 -

(أبو هانىء) حُميد بن هانىء الْخَوْلانيّ المصري، لا بأس به [5].

أدرك سليم بن عمرو، ورَوَى عن عمرو بن حُرَيث، وأبي عبد الرحمن الْحُبُليّ، وأبي علي الْجَنبي، وغيرهم. وعنه ابن وهب، والليث، وابن لَهيعة، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. وقال ابن شاهين في "الثقات": هو أكبر شيخ لابن وهب، رَفَعَ به أحمدُ بن صالح المصريّ. وقال الدارقطني: لا بأس به ثقة. وقال ابن عبد البرّ: هو عندهم صالح الحديث، لا بأس به. وقال ابن يونس: توفي سنة (142). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث.

4 -

(أبو علي الْجَنْبيّ) عَمْرو بن مالك الْهَمدَاني المرادي، مصريّ ثقة [3].

رَوَى عن فَضَالة بن عُبيد، وأبي سعيد الخدري، وأبي رَيحانة على خلاف فيه. وعنه أبو هانىء، ومحمد بن شُمَير الرُّعَيني.

قال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: روى عن عُقبة بن عامر الْجُهنيّ. ووثقه العجليّ، والدراقطني.

قال ابن يونس: توفي سنة (103) وقال الحسن بن علي العَدَّاس: مات سنة (102). أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

[فائدة]: "الْجَنّبي" -بفتح الجيم، وسكون النون، آخره باء موحّدة-: نسبة إلى جَنْب قبيلة من اليمن. قاله في "اللباب" جـ 1 ص 294 - 295.

5 -

(فَضَالة بن عُبَيد) بن نافذ بن قيس بن صُهَيبة، ويقال: صُهيب بن الأصرم بن جَحْجَبَا بن كُلْفَة بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، أبو محمد الأنصاريّ الأوسيّ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، شهد أحداً، وبايع تحت الشجرة، وشهد خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وولاه مُعاوية على الغَزْو، ثم ولّاه قضاء دمشق، وكان خليفة معاوية على دمشق إذا غاب عنها، وابتنى بها داراً.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطّاب، وأبي الدرداء. وعنه أبو عليّ الجنبي، وثُمَامة بن شُفيّ، وحَنَش الصنعاني، وغيرهم.

قال الواقدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو ابن ست سنين، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن سبع عشرة سنة.

وقال خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه: كان أبو الدّرداء على القضاء بدمشق، فلمّا حضرته الوفاة قال له معاوية: من ترى لهذا الأمر؟، قال: فَضالة بن عُبيد، فلمّا

ص: 101

مات أرسل معاوية إلى فضالة، فولّاه القضاء، فقال له: أما إني لم أَحْبُك بها، ولكنني استترت بك من النار، فاستتر منها ما استطعت.

وقال أبو الحسن المدائنيّ، وغير واحد مات سنة (53)، وقيل: سنة (67)، قال الحافظ المزّيّ: والصحيح الأوّل. وقال ابن حبّان في "الصحابة": سكن مصر، والشام، ومات في ولاية معاوية، وكان معاوية ممن حَمَلَ سريرَه، وقال ابن يونس: شهد فتح مصر، وولي بها البحر والقضاء لمعاوية. رضي الله تعالى عنهما.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (8) أحاديث. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم موثقون، وأنه مسلسل بالمصريين، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هانىء) حُميد بن هانىء (أن أبا عليّ الْجنبي) عمرو بن مالك الْهَمْدَاني (حدّثه) أي أبا هانىء (أنه سمع فضالة بن عبيد) بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة، و"عُبيد" بصيغة التصغير رضي الله تعالى عنه (يقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته) وفي نسخة "في الصلاة".

ولفظ الترمذي: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، إذ دخل رجل، فصلى، فقال: اللَّهم اغفر لي، وارحمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عجلت أيها المصلي، إذا صليت، فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله، وصلّ عليّ، ثم ادعه"، قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أيها المصلي ادع تجُب". قال: هذا حديث حسن.

ورواية المصنف صريحة في كون دعاء ذلك الرجل داخلَ الصلاة.

(لم يمجّد الله) تعالى، أي لم يصفه بصفات العظمة والكبرياء، ولم يُثْن عليه بما هو أهله. وفي نسخة "لم يحمد الله" بالحاء المهملة، من الحمد (ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجلت أيها المصلي) -بفتح العين المهملة، وكسر الجيم- من باب علم، ويجوز تشديد الجيم مع الفتح، أي أسرعت إلى الدعاء، وعَرَضْتَ السؤال قبل تقديم الوسيلة من التمجيد والثناء على الله تعالى بما هو أهله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 102

وفيه إشارة إلى أن حقّ السائل أن يتقرّب إلى المسؤول منه قبل طلب الحاجة بما يوجب له الزُّلْفَى عنده، ويتوسّل بشفيع له بين يديه، ليكون أطمعَ في الإسعاف، وأحقَّ بالإجابة، فمَن عَرَضَ السؤالَ قبل تقديم الوسيلة، فقد استعجل.

(ثم علّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه حذف المفعول الثاني، أى آدابَ الدعاء، ولم يُبَيَّن في رواية المصنف هنا ماذا علّمهم؟، وقد بُيِّنَ في رواية الترمذي المتقدّمة، وكذا في رواية أبي داود، ولفظه: ثم دعاه، فقال له، أو لغيره:"إذا صلّى أحدكم، فليبدأ بتمجيد ربّه، والثناء عليه، ثمّ يصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء".

(فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم) -بالفاء- وفي نسخة "وسمع" بالواو، والأول يفيد أن الرجل إنما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علّمهم، وأصرح من هذا رواية الترمذي المتقدّمة، حيث قال:"ثمّ صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله"

(رجلاً يصلي) الجملة في محلّ نصب صفة لـ"رجلاً"(فمجّد الله، وحمده) وقي رواية الترمذي: "فحمد الله بما هو أهِله"

(وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع) فعل أمر من الدعاء (تجب) فعل مضارع مغيّر الصيغة، مجزوم على أنه جواب الأمر، كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى:

وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْيِ جَزْماً اعْتَمِدْ

إِنْ تَسْقُطِ الْفَا وَالْجَزَاءُ قَدْ قُصِدْ

(وسَلْ) أمر من سأل يسأل، والأصل "اسأل" بهمزة وصل، لكن خُفّف، وفيه لغة أخرى سال يسال، كخاف يخاف، وعلى هذه اللغة فالأمر "سَلْ"، ولا تخفيف فيها. أفاده الفيّومي (تعط) فعل مضارع مغيّر الصيغة مجزوم على أنه جواب الأمر، كسابقه، وفي رواية أبي داود:"ثم يدعو بما شاء".

والحديث دليل على مشروعية ما ذكر من التمجيد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء بما شاء وهو موافق لحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وغيره، لأن أحاديث التشهد تتضمّن ما ذُكر من الحمد والثناء، وهي مبيّنة لما أجمله هذا الحديث، وسيأتي الكلام على اختلاف أهل العلم في ذلك في الباب التالي، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث فَضَالة بن عُبيد رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -48/ 1284 - وفي "الكبرى" -83/ 1207 - عن محمد بن سلمة، عن

ص: 103

ابن وهب، عن أبي هانىء حُمَيد بن هانىء، عن أبي على الْجَنْبي عمرو بن مالك، عنه.

[تنبيه]: وقع في "تحفة الأشراف": ما نصه: "عن ابن وهب، عن حَيوَة ابن شُرَيح" الخ، بزيادة "حيوة بن شُريح" بين ابن وهب وأبي هانىء، وهذا غلط، لأن ابن وهب يروي عن أبي هانىء بدون واسطة، فلا ذكر لـ"حيوة بن شُريح" في سند المصنف رحمه الله تعالى.

وإنما وقع "حيوة" في سند أبي داود، حيث رواه عن أحمد بن حنبل، عن أبي عبد الرحمن المقرىء، عن حيوة بن شُريح، عن أبي هانىء به، وكذا في سند الترمذي، حيث رواه عن محمود بن غَيْلانَ، عن المقرىء، عن حيوة به. فتنبه. والله تعالى وليّ التوفيق.

وأخرجه (د) رقم -1481 - و (ت)، 3476 و3477 - (وأحمد) 6/ 18 (وابن خزيمة) 709 و710. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية تمجيد الله سبحانه وتعالى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.

ومنها: مشروعية الدعاء في الصلاة.

ومنها: أن تقديم التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب قبول الدعاء، فينبغي للداعي أن يقدم ذلك أمام طلب حاجته من الله سبحانه وتعالى.

ومنها: بيان شرف النبي صلى الله عليه وسلم، وعظمة منزلته عند الله تعالى، حيث كانت الصلاة عليه سبباً لاستجابة الدعاء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

(اعلم): أنه كتب الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه النفيس "جَلَاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" بحثاً نفيساً في معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أبان فيه عن سعة علمه، وبراعة فهمه، أحببت إيراده هنا تتميماً للفوائد، ونشراً للعوائد.

قال رحمه الله تعالى: أصل هذه اللفظة في اللغة، يرجع إلى معنيين:

(أحدهما): الدعاء والتبريك.

(والثاني): العبادة، فمن الأوّل قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]. وقوله تعالى في حقّ المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} الآية [التوبة: 84]. وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعي أحدُكم إلى الطعام، فليجب، فإن كان صائماً، فليُصلِّ". رواه مسلم. فُسّر بهما،

ص: 104

قيل: فليدع لهم بالبركة، وقيل: يُصلي عندهم بدل أكله.

وقيل: إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء، والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والعابد داع، كما أن السائل داع، وبهما فُسّر قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، قيل: أطيعوني أُثبكم، وقيل: سلوني أُعطكم، وفُسّر بهما قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

والصواب أن الدعاء يعمّ النوعين، وهذا لفظ متواطىء، لا اشتراك فيه، فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 22]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20]، وقوله تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77].

والصحيح من القولين لولا أنكم تدعونه وتعبدونه، أي أيّ شيء يعبأ بكم لولا عبادتكم إياه، فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل، وقال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 55 - 56]، وقال تعالى إخباراً عن أنبيائه ورسله:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].

وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، ودعوى الاختلاف في مسمى الدعاء، وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول عن موضوعه في اللغة، فيكون حقيقة شرعيةً، أو مجازاً شرعياً.

فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة، وهو الدعاء، والدعاء: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة، ودعاء المسألة، فهو في صلاة حقيقية، لا مجاز فيها، ولا منقولة، لكن خُصَّ اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصّها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها، كالدّابّة، والرأس، ونحوهما، فهذا غايته تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه، وهذا لا يوجب نقلاً، ولا خروجاً عن موضوعه الأصلي. والله أعلم.

قال العلامة ابن القيّم رحمه الله: هذه صلاة الآدميّ، وأما صلاة الله سبحانه على عبده فنوعان: عامّة، وخاصّة:

أما العامّة فهي صلاته على عباده المؤمنين، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} الآية، ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على آحاد المؤمنين، كقوله: "اللهمّ صلّ

ص: 105

على آل أبي أوفى"

(1)

.

وفي حديث آخر أن امرأةً قالت له: صلّ عليّ، وعلى زوجي، قال:"صلى الله عليك، وعلى زوجك"

(2)

.

النوع الثاني: صلاته الخاصّة على أنبيائه ورسله، خصوصًا على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم، فاختلف الناس فيه على أقوال:

(أحدها): أنها رحمته، أخرج إسماعيل القاضي، عن الضّحّاك، قال: صلاة الله رحمته، وصلاة الملائكة الدعاء. وقال المبرّد: أصل الصلاة الرُّحْمُ، فهي من الله رحمة، ومن الملائكة رقّة، واستدعاء للرحمة من الله. وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين.

والقول الثاني: أن صلاة الله مغفرته، أخرج إسماعيل القاضي عن الضحّاك أيضاً، قال: صلاة الله مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء

(3)

.

وهذا القول من جنس الذي قبله، وهما ضعيفان لوجوه:

(أحدها): أن الله سبحانه فرّق بين صلاته على عباده ورحمته، فقال تعالى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]، فعَطَفَ الرحمةَ على الصلاة، فاقتضى ذلك تغايرهما، هذا أصل العطف، وأما قولهم:

وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْناً

فهو شاذ نادر لا يُحمَلُ عليه أفصح الكلام، مع أن الْمَيْن أخصّ من الكذب.

(الوجه الثاني): أن صلاة الله سبحانه خاصّةٌ بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، وأما رحمته فوسعت كلّ شيء، فليست الصلاة مرادفةً للرحمة، لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها، فمن فسرها بالرحمة، فقد فسّرها ببعض ثمراتها ومقصودها، وهذا كثيراً ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم يفسر اللفظة بلازمها وجزء معناها، كتفسير الريب بالشكّ، والشكُّ جزء مسمى الريب، وتفسير المغفرة بالستر، وهو جزء مسمّى المغفرة، وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان، وهو لازم الرحمة، ونظائر ذلك كثيرة.

(الوجه الثالث): أنه لا خلاف في جواز الترحم على المؤمنين، واختَلَفَ السلفُ

(1)

متفق عليه.

(2)

أخرجه الدارمي من حديث جابر مطولاً جـ 1 ص 24 بسند رجاله ثقات.

(3)

"فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" ص 80 - 81.

ص: 106

والخلفُ في جواز الصلاة على غير الأنبياء على ثلاثة أقوال، سنذكرها فيما بعد، إن شاء الله تعالى، فعلم أنهما ليسا بمترادفين.

(الوجه الرابع): أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة، لقامت مقامها في امتثال الأمر، وأسقطت الوجوب عند من أوجبها، إذا قال: اللَّهم ارحم محمداً، وآل محمد، وليس الأمر كذلك.

(الوجه الخامس): أنه لا يقال: لمن رحم غيره، ورقّ عليه، فأطعمه، أو سقاه، أو كساه: إنه صلّى عليه، ويقال: إنه قد رحمه.

(الوجه السادس): أن الإنسان قد يرحم من يُبغضه ويعاديه، فيجد في قلبه له رحمةً، ولا يصلي عليه.

(الوجه السابع): أن الصلاة لابدّ فيها من كلام، فهي ثناء من المصلي على من يُصلي عليه، وتنويه به، وإشارة لمحاسنه ومناقبه وذكره.

ذكر البخاري رحمه الله في "صحيحه" تعليقاً جـ 8 ص 409 - عن أبي العالية، قال: صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة.

وصله إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" عن نصر بن عليّ، عن خالد بن يزيد، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، قال: صلاة الله عز وجل ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه الدعاء

(1)

.

(الوجه الثامن): أن الله سبحانه فرّق بين صلاته وصلاة ملائكته، وجمعهما في فعل واحد، فقال:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ، وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة، وإنما هي ثناؤه سبحانه، وثناء ملائكته عليه، ولا يقال: الصلاة لفظ مشترك، ويجوز أن يستعمل في معنييه معاً، لأن في ذلك محاذير متعدّدة:

(أحدها): أن الاشتراك خلاف الأصل، بل لا يعلم أنه وقع في اللغة من واضع واحد، كما نصّ على ذلك أئمّة اللغة، منهم المبرّد وغيره، دمانما يقع وقوعاً عارضاً اتفاقيّاً بسبب تعدد الواضعين، ثم تختلط اللغة، فيقع الاشتراك.

(الثاني): أن الأكثرين لا يجوّزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه، لا بطريق الحقيقة، ولا بطريق المجاز، وما حُكي عن الشافعي رحمه الله من تجويز ذلك، فليس بصحيح عنه، وإنما أُخذ من قوله: إذا أوصى لمواليه، وله موال من فوقُ، ومن أسفلُ

(1)

راجع رقم 95 وهو موقوف حسن، ولهذا علّقه البخاري بصيغة الجزم.

ص: 107

تناول جميعهم، فظن من ظنّ أن لفظ "المولى" مشترك بينهما، وأنه عند التجرّد يحمل عليهما، وهذا ليس بصحيح، فإن لفظ "المولى" من الألفاظ المتواطئة، فالشافعيّ في ظاهر مذهبه، وأحمد يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ، وهو عنده عام متواطىء، لا مشترك.

وأما ما حُكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال في مفاوضة جرت له في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6]، وقد قيل له: قد يراد بالملامسة المجامعة، قال: هي محمولة على الجسّ باليد حقيقةً، وعلى الوقاع مجازاً، فهذا لا يصحّ عن الشافعي، ولا هو من جنس المألوف من كلامه، وإنما هذا من كلام بعض الفقهاء المتأخرين.

فإذا كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم، والعناية به، وإظهار شرفه وفضله وحرمته، كما هو المعروف من هذه اللفظة لم يكن لفظ "الصلاة" فى الآية مشتركاً محمولاً على معنييه، بل قد يكون مستعملاً في معنى واحد، وهذا هو الأصل.

(الوجه التاسع): أن الله سبحانه أمر بالصلاة عليه عقب إخباره بأنه وملائكته يُصلّون عليه، والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يُصلّون على رسوله صلى الله عليه وسلم، فصلوا أنتم أيضاً عليه، فأنتم أحقّ بأن تُصلّوا عليه، وتسلموا تسليماً، لما نالكم ببركة رسالته، ويُمن سِفَارته من شرف الدنيا والآخرة.

ومن المعلوم أنه لو عبّر عن هذا المعنى بالرحمة لم يحسن موقعه، ولم يحسن النظم، فينتقض اللفظ والمعنى، فإن التقدير يصير إلى: إن الله وملائكته ترحّم، ويستغفرون لنبيه، فادعوا أنتم له، وسلموا، وهذا ليس مراد الآية قطعاً، بل الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته، وصلاة ملائكته، وهي ثناءٌ عليه، وإظهارٌ لفضله وشرفه، وإرادةُ تكريمه وتقريبه، فهي تتضمّن الخبر والطلب، وسُمِّيَ هذا السؤالُ والدعاءُ منّا نحن صلاة عليه لوجهين:

(أحدهما): أنه يتضمن ثناء المصلي عليه، والإشادةَ بنكر شرفه وفضله، والإرادةَ والمحبّةَ لذلك من الله تعالى، فقد تضمنت الخبر والطلب.

(والوجه الثاني): أن ذلك سمي منّا صلاةً، لسؤالنا من الله أن يصلي عليه، فصلاة الله عليه ثناؤه، وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتُنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به، وضدّ هذا في لعنة أعدائه الشانئين لما جاء به، فإنها تُضاف إلى الله، وتضاف إلى العبد، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]، فلعنة الله تعالى لهم تتضمّن ذمّه وإبعاده وبغضه لهم، ولعنة العبد تتضمّن سؤال الله تعالى أن

ص: 108

يفعل ذلك بمن هو أهل للعنته.

وإذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه لو كانت الصلاة هي الرحمة، لم يصحّ أن يقال لطالبها من الله مصلياً، وإنما يقال له: مسترحماً، كما يقال لطالب المغفرة مستغفراً له، ولطالب العطف مستعطفاً، ونظائره كثيرة، ولهذا لا يقال لمن سأل الله المغفرة لغيره: قد غَفَر له، فهو غافر، ولا لمن سأله العفو عنه. قد عفا عنه، وهنا قد سمي العبد مصلياً، فلو كانت الصلاة هي الرحمة لكان العبد راحماً لمن صلى عليه، وكان قد رحمه برحمة، ومن رحم النبي صلى الله عليه وسلم مرّة رحمه الله بها عشراً، وهذا معلوم البطلان.

(فإن قيل): ليس معنى صلاة العبد عليه صلى الله عليه وسلم رحمته، وإنما معناها: طلب الرحمة له من الله.

(قيل): هذا باطل من وجوه:

(أحدها): أن طلب الرحمة مطلوب لكل مسلم، وطلب الصلاة من الله يختص رسله صلوات الله وسلامه عليهم عند كثير من الناس، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.

(الثاني): أنه لو سمي طالب الرحمة مصلياً، لسمي طالب المغفرة غافراً، وطالب العفو عافياً، وطالب الصفح صافحاً، ونحوه.

(فإن قيل): فأنتم قد سمّيتم طالب الصلاة من الله مصلياً.

(قيل): إنما سُمّي مصلّياً لوجود حقيقة الصلاة منه، فإن حقيقتها الثناء، وإرادة الإكرام، والتقريب، وإعلاء المنزلة، وهذا حاصل من صلاة العبد، لكن العبد يريد ذلك من الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يريد ذلك من نفسه أن يفعله برسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما على الوجه الثاني، وأنه سمي مصلّياً لطلبه ذلك من الله، فلأن الصلاة نوع من الكلام الطلبي والخبريّ والإرادة، وقد وجد ذلك من المصلي، بخلاف الرحمة والمغفرة، فإنها أفعال لا تحصل من الطالب، وإنما تحصل من المطلوب منه. والله تعالى أعلم.

(الوجه العاشر): أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: "أنه من صلى عليه مرّة صلى الله عليه بها عشراً"

(1)

وأنه سبحانه وتعالى قال له: "إنه من صلى عليك من أمتك مرّة صلّيتُ عليه بها عشراً"، وهذا موافق للقاعدة المستقرّة في الشريعة أن الجزاء من جنس العمل، فصلاة الله على المصلي على رسوله جزاء لصلاته هو عليه، ومعلوم أن صلاة العبد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست هي رحمة من العبد، لتكون

(1)

رواه مسلم رقم (384).

ص: 109

صلاة الله عليه من جنسها، وإنما هي ثناءٌ على الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وإرادة من الله تعالى أن يُعلي ذكره، ويزيده تعظيماً وتشريفاً،، والجزاء من جنس العمل، فمن أثنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم جزاه الله من جنس عمله بأن يُثني عليه، ويزيد تشريفه وتكريمه، فصحّ ارتباط الجزاء بالعمل، ومشاكلته له، ومناسبته له، كقوله:"من يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن نفّس عن مؤمن كربة من كُرَب الدنيا نفّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة".

و"من سُئل عن علم يعلمه، فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار". و"من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم مرّة صلّى الله عليه بها عشراً"، ونظائره كثيرة.

(الوجه الحادي عشر): أن أحدًا لو قال: عن رسول الله رحمه الله، أو قال رسول الله رحمه الله بدل "صلى الله عليه وسلم" لبادرت الأمّة إلى الإنكار عليه، وسمّوه مبتدعاً، غير موقِّر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا مُصلّ عليه، ولا مُثْن عليه بما يستحقه، ولا يستحق أن يصلي الله عليه بذلك عشر صلوات، ولو كانت الصلاة من الله الرحمة، لم يمتنع شيء من ذلك.

(الوجه الثاني عشر): أن الله سبحانه وتعالى قال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، فأمر سبحانه أن لا يُدعَى رسولُهُ بما يدعو الناس بعضهم بعضاً، بل يقال: يا رسول الله، ولا يقال: يا محمد، وإنما كان يُسمّيه باسمه وقت الخطاب الكفّار، وأما المسلمون، فكانوا يخاطبونه يا رسول الله، وإذا كان هذا في خطابه، فهكذا في مغيبه لا ينبغي أن يجعل ما يدعى به له من جنس ما يدعو به بعضنا لبعض، بل يُدعى له بأشرف الدعاء، وهو الصلاة عليه، ومعلوم أن الرحمة يُدعى بها لكلّ مسلم، بل ولغير الآدميّ من الحيوانات، كما في دعاء الاستسقاء "اللَّهم أرحم عبادك وبلادك وبهائمك".

(الوجه الثالث عشر): أن هذه اللفظة لا تعرف في اللغة الأصلية بمعنى الرحمة أصلاً، والمعروف عند العرب من معناها إنما هو الدعاء، والتبريك، والثناء، قال:

وَإِنْ ذُكِرَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا

أي برّك عليها ومدحها، ولا تعرف العرب قطّ "صلى عليه" بمعنى الرحمة، فالواجب حمل اللفظة على معناها المتعارف في اللغة.

(الوجه الرابع عشر): أنه يسوغ، بل يستحبّ لكلّ أحد أن يسأل الله تعالى أن يرحمه، فيقول: اللَّهمّ ارحمني، كما علَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الداعيَ أن يقول: "اللَّهم اغفر لي،

ص: 110

وارحمني، وعافني، وارزقني"، فلما حفظها قال: "أمّا هذا فقد ملأ يديه من الخير". أخرجه مسلم.

ومعلوم أنه لا يسوغ لأحد أن يقول: اللَّهمّ صلّ عليّ، بل الداعي بهذا مُعْتد في دعائه، والله لا يحبّ المعتدين، بخلاف سؤال الرحمة، فإن الله تعالى يُحبّ أن يسأله عبده مغفرته ورحمته، فعلم أنه ليس معناهما واحداً.

(الوجه الخامس عشر): أن أكثر المواضع التي تستعمل فيها الرحمة لا يحسن أن تقع فيها الصلاة، كقوله تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقوله:"إن رحمتي سبقت غضبي" متفق عليه. وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، وقوله:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] وقوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"للهُ أرحم بعباده من الوالدة بولدها". متفق عليه، وقوله:"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"

(1)

وقوله: "من لا يَرحَم لا يُرحَم" متفق عليه. وقوله: "لا تُنزع الرحمة إلا من شقيّ" أخرجه أبو داود، والترمذي بسند حسن. وقوله:"والشاة إن رحمتها رحمك الله". أخرجه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح.

فمواضع استعمال الرحمة في حقّ الله، وفي حقّ العباد لا يحسن أن تقع الصلاة في كثير منها، بل في أكثرها، فلا يصحّ تفسير الصلاة بالرحمة. والله تعالى أعلم.

وقد قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} قال: يباركون عليه، وهذا لا يُنافي تفسيرها بالثناء، وإرادة التكريم والتعظيم، فإن التبريك من الله يتضمن ذلك، ولهذا قُرن بين الصلاة عليه والتبريك عليه، وقالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام:

{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]، وقال المسيح عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] قال غير واحد من السلف: معلّمًا للخير أينما كنت، وهذا جزء المسمى، فالمبارك كثير الخير في نفسه الذي يُحصّله لغيره تعليماً، وإقداراً ونُصحاً، وإرادة واجتهاداً، ولهذا يكون العبد مباركاً، لأن الله بارك فيه، وجعله كذلك، والله تعالى متبارك، لأن البركة كلها منه، فعبده مبارك، وهو المتبارك: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ

(1)

رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وفي سنده أبو قابوس مولى عبد الله بن عمرو لا يُعْرَف، لكن توج عليه عند أحمد وابن حميد، وله شواهد كثيرة، منها: حديث جرير مرفوعاً: "من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء". أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 1/ 118/ 2 ورواته ثقات، فالحديث صحيح، صححه الترمذيّ، والحاكم، والذهبي، والخطيب البغدادي، وغيرهم.

ص: 111

الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].

وقد ردّ طائفة من الناس تفسير الصلاة من الله بالرحمة بأن قال: الرحمة معناها رقّة الطبع، وهي مستحيلة في حق الله سبحانه وتعالى، كما أن الدعاء منه سبحانه مستحيل، وهذا الذي قاله عرقٌ جَهْميّ ينضح من قلبه على لسانه، وحقيقته إنكار رحمة الله جملةً، وكان جهم يخرج إلى الْجَذْمَى، ويقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟! إنكاراً لرحمته سبحانه.

وهذا الذي ظنّه هذا القائل هو شُبهَةُ منكري صفات الرّبّ سبحانه وتعالى، فإنهم قالوا: الإرداة حركة النفس لجلب ما ينفعها، ودفع ما يضرّها، والربّ تعالى يتعالى عن ذلك، فلا إرادة له، والغضب غَلَيَان دم القلب طلباً للانتقام، والربّ منزّه عن ذلك، فلا غضب له، وسلكوا هذا المسلك الباطل في حياته، وكلامه، وسائر صفاته، وهو من أبطل الباطل، فإنه أخذ في مسمى الصفة خصائص المخلوق، ثم نفاها جملةً عن الخالق، وهذا في غاية التلبيس والإضلال، فإن الخاصّة التي أخذها في الصفة لم يثبت لها لذاتها، وإنما يثبت لها بإضافتها إلى المخلوق الممكن، ومعلوم أن نفي خصائص صفات المخلوقين عن الخالق لا يقتضي نفي أصل الصفة عنه سبحانه، ولا إثباتُ أصل الصفة له يقتضي إثبات خصائص المخلوق له، كما أن ما نُفي عن صفات الربّ تعالى من النقائص والتشبيه لا يقتضي نفيه عن صفة المخلوق، ولا ما ثبت لها من الوجوب والقدم والكمال يقتضي ثبوته للمخلوق، ولا إطلاق الصفة على الخالق والمخلوق، وهذا مثل الحياة والعلم، فإن حياة العبد تعرض لها الآفات المضادّة لها، من المرض والنوم والموت، وكذلك علمه يعرض له النسيان والجهل المضادّ له، وهذا محال في حياة الربّ وعلمه، فمن نفى علم الرّبّ، وحياته لما يعرض فيهما للمخلوق، فقد أبطل، وهو نظير من نفى رحمة الرّبّ وعلمه، فمن نفى رحمة الرّبّ عنه لما يعرض في رحمة المخلوق من رقّة الطبع، وتوهّم المتوهّم أنه لا تعقل رحمة إلا هكذا، نظير توهّم المتوهّم أنه لا يعقل علم، ولا حياة، ولا إرادة إلا مع خصائص المخلوق.

وهذا الغلط منشؤه إنما هو توهّم صفة المخلوق المقيدّة به أولاً، وتوهّم أن إثباتها لله هو مع هذا القيد، وهذان وهمان باطلان، فإن الصفة الثابتة لله مضافة إليه لا يتوهّم فيها شيء من خصائص المخلوقين، لا في لفظها، ولا في ثبوت معناها، وكلّ من نفى عن الرّبّ تعالى صفة من صفاته لهذا الخيال الباطل لزمه نفي جميع صفات كماله، لأنه لا يعقل منها إلا صفة المخلوق، بل ويلزمه نفي ذاته، لأنه لا يعقل من الذوات إلا الذوات المخلوقة، ومعلوم أن الرّبّ سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء منها، وهذا الباطل قد التزمه

ص: 112

غُلاة المعطّلة، وكلّما أوغل النافي في نفيه كان قوله أشدّ تناقضاً، وأظهر بطلاناً، ولا يسلم على مِحكّ العقل الصحيح الذي لا يكذب إلا ما جاءت به الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم، كما قال تعالى:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159]، فنزّه سبحانه وتعالى عما يصفه كلّ أحد إلا المخلصين من عباده، وهم الرسل، ومن تبعهم، كما قال في الآية الأخرى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]، فنزّه نفسه عمّا يصفه به الواصفون، وسلَّمَ على المرسلين، لسلامة ما صفوه به من كلّ نقص وعيب، وحمد نفسه، إذ هو الموصوف بصفات الكمال التي يستحقّ لأجلها الحمدَ، ومنزّه عن كلّ نقص يُنافي كمال حمده. انتهى كلام المحقق العلامة ابن القيّم رحمه الله تعالى ببعض تصرف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد حقق العلّامة ابن القيّم رحمه الله تعالى هذا البحث تحقيقاً نفيساً، فأجاد وأفاد، وأسهب وأعاد، جزاه الله على ذلك خيراً.

وخلاصته ترجيح تفسير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء عند ملائكته، كما نقل عن أبي العالية، وتضعيف تفسير من فسّرها بالرحمة.

وقال في "الفتح" بعدما ذكر الاختلاف: ما حاصله: وأولى الأقوال ما تقدّم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم ثناؤه عليه، وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك من الله تعالى، والمراد طلب أصل الصلاة.

ونقل عياض عن بكر القُشيريّ، قال: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تشريف، وزيادة تكرمة، وعلى من دون النبي رحمة، وبهذا التقرير يظهر الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين سائر المؤمنين، حيث قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية [الأحزاب: 56]، وقال قبل ذلك:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} الآية [الأحزاب: 43]، ومن المعلوم أن القدر الذي يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، والتنويه به ما ليس في غيرها.

وقال الحَليميّ في "الشُّعَب": معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فمعنى قولنا: اللَّهمّ صل على محمد: عَظِّمْ محمداً، والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله:{صَلُّوا} ادعوا ربّكم بالصلاة عليه. انتهى.

(1)

"جَلَاءُ الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" ص 106 - 122.

ص: 113

ولا يعكر عليه عطف آله وأزواجه وذرّيته عليه، فإنه لا يمتنع أن يُدْعَى لهم بالتعظيم، إذ تعظيم كلّ أحد بحسب ما يليق به.

وما تقدم عن أبي العالية أظهر؛ فإنه يحصل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى الله، وإلى ملائكته، وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنى واحد، ويؤيده أنه لا اختلاف في جواز الترحم على غير الأنبياء، واختُلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كان معنى قولنا: اللَّهم صل على محمد: اللَّهم ارحم محمداً، أو ترحم على محمد لجاز لغير الأنبياء، وكذا لو كانت بمعنى البركة والرحمة لسقط الوجوب في التشهد عند من يوجبه بقول المصلي في التشهد:"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".

ويمكن الانفصال بأن ذلك وقع بطريق التعبد، فلابد من الإتيان به ولو سبق الإتيان بما يدل عليه. انتهى ما في "الفتح".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما تقدم أن أرجح الأقوال في معنى صلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قول من قال: إنه ثناء الله تعالى عليه في الملإ الأعلى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌49 - (بَابُ الأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

1285 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ -وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الَّذِي أُرِيَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ- أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ عز وجل أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا عَلِمْتُمْ").

ص: 114

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن سلمة) المراديّ المصريّ المذكور في الباب الماضي.

2 -

(الحارث بن مسكين) المصري الحافظ الثقة [10] تقدم 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن العُتَقيّ المصريّ الفقيه الثقة، من كبار [10] تقدّم 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس الإمام الثبت الحجة الفقيه المدني [7] تقدم 7/ 7.

5 -

(نُعَيم بن عبد الله المجمر) المدني، ثقة [3] تقدّم 21/ 905.

6 -

(محمد بن عبد الله بن زيد) بن عبد ربه الأنصاري الخزرجيّ المدني، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، وأبي مسعود الأنصاريّ. وعنه ابنه عبد الله بن محمد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونعيم بن عبد الله المجمر.

ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال العجلي: مدني تابعيّ ثقة، وقال ابن منده: وُلد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. له عند مسلم، وأبي داود، والترمذيّ، والمصنف حديث الباب فقط، وعند البخاريّ في "خلق أفعال العباد" وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه حديث الأذان، فقط.

7 -

(أبو مسعود الأنصاريّ) عُقبة بن عمرو بن ثعلبة البدريّ صحابيّ مشهور، تقدّم 6/ 494. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، وابن قاسم، فمصريّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه محمد بن عبد الله بن زيد من المقلّين، ليس له في الكتب المذكورة إلا حديثان فقط. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن نعيم بن عبد الله المجمر) بصيغة اسم الفاعل، من التجمير، أو الإجمار، صفة لعبد الله، لأنه كان يجمّر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يُبخّره، ويطلق على ابنه نُعيم أيضاً مجازاً (أن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري - وعبد الله بن زيد) بالرفع على الابتداء، وخبرُهُ قوله (الذي أُري) بالبناء للمفعول (النداءَ بالصلاة) بالنصب على أنه مفعول ثان لـ"أُري"، أى أراه الله الأذان في منامه، وجملة المبتدإ والخبر معترضة بين اسم "أنّ"

ص: 115

وخبرها، أتى بها لبيان أن والد محمد هو عبد الله بن زيد بن عبد ربّه، رائي الأذان، لا عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، راوي صفة الوضوء وصلاة الاستسقاء، وغيرهما.

وإنما بيّن ذلك لأنهما يلتبسان على من لا معرفة له بعلم الرجال، إذ هما يتفقان في الاسم، واسم الأب، والنسبة إلى الأنصار، ثمّ إلى الخزرج، وكذا في الصحبة، والرواية، ويفترقان في الجدّ، والبطن الذي من الخزرج، لأن حفيد عاصم من مازن، وحفيد عبد ربه من بَلْحَارث بن الخزرج. أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقد تقدّمت ترجمة عبد الله بن زيد بن عاصم في 80/ 97.

وأما عبد الله بن زيد المذكور هنا فهو ابن عبد ربّه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو محمد المدني، وقيل في نسبه: غير ذلك، شهد العقبة وبدراً، والمشاهد، وكانت رؤياه للنداء في السنة الأولى من الهجرة بعد بناء المسجد النبوي. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه محمد، وابن ابنه عبد الله بن محمد على خلاف فيه، وسعيد بن المسيّب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقيل: لم يسمع منه، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ولم يدركه.

قال الترمذي عن البخاري: لا يعرف له إلا حديث الأذان، وكذا قال نحوَه ابنُ عديّ. وأطلق غيرُ واحد أنه ليس له غيره. قال الحافظ في "الإصابة": وهو خطأ، فقد جاءت أحاديث، ستة، أو سبعة، جمعتها في جزء مفرد، وجزم البغوي بأنه ماله غير حديث الأذان، وحديثه عند الترمذي، من رواية ابنه محمد بن عبد الله، وصححه، وفي النسائي له حديث: أنه تصدّق على أبويه، ثم توضّأ، وقد أخرج البخاري في "التاريخ"، من طريق يحيى بن أبي كثير أن أبا سلمة حدّثه أن محمد بن عبد الله بن زيد حدّثه أن أباه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند الْمَنْحَر، وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم الضحايا، فأعطاه من شعره

الحديث.

قال المدائني، عن كثير بن زيد، عن المطّلب بن حَنطب، عن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: مات أبي سنة (32)، وهو ابن (64)، وصلّى عليه عثمان. وقال الحاكم: الصحيح أنه قُتل بأحد، فالرواية كلها منقطعة. انتهى، وخالف ذلك في "المستدرك". وفي "الحلية" في ترجمة عمر بن عبد العزيز بسند صحيح، عن عبد الله العمريّ: دَخَلَت ابنة عبد الله بن زيد بن ثعلبة على عمر بن عبد العزيز، فقالت: أنا ابنة عبد الله ابن زيد شهد أبي بدراً، وقُتل بأحد، فقال: سليني ما شئت، فأعطاها. انتهى

(2)

.

(1)

"فتح" في "كتاب الاستسقاء" جـ 3 ص 190.

(2)

الإصابة لابن حجر (4/ 85).

ص: 116

(عن أبي مسعود الأنصاري) عُقبة بن عمرو رضي الله تعالى عنه (أنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عُبَادة) بن دُلَيم بن حارثة بن أبي خُزيمة، ويقال: خُزيمة بن أبي خُزيمة، ويقال: حارثة بن حَرَام بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طَريف بن الخزرج الأنصاريّ سيد الخزرج، أبو ثابت، ويقال: أبو قيس المدني.

وأمه عَمْرة بنت مسعود، كانت لها صُحْبة، وماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه أولاده: قيس، وإسحاق، وسعيد، وابن ابنه شُرحبيل بن سعيد على خلاف فيه، وابن عبّاس، وابن المسيّب، وغيرهم.

شهد العَقَبَةَ، وغيرها من المشاهد، واختُلِفَ في شهوده بدراً، فذكر البخاريّ، وأبو حاتم، وأبو أحمد الحاكم أنه شهد بدراً، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى ممن لم يشهد بدراً، وقال: كان ممن تهيّأ للخروج إلى بدر، فنُهش، فأقام. وقال ابن سعد أيضاً كان سعد في الجاهلية يَكتب بالعربية، ويحسن العَوْم والرّمي، وكان مَنْ أحسنَ ذلك يُسمّى الكامل، وكان هو وعدّةٌ من آبائه في الجاهلية يُنادَى على أُطُمهم مَن أحبّ الشحم واللحم فليأت أُطُم دُليم بن حارثة، قال: وكانت جَفْنة سعد تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه، وقال مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلّها مع عليّ راية المهاجرين، ومع سعد بن عُبَادة راية الأنصار. وقال محمد بن سيرين كان سعد بنِ عبادة يرجع كلّ ليلة إلى أهله بثمانين من أهل الصُّفّة، يُعَشّيهم. وقال ابن عبد البرّ: تَخلّف سعد عن بيعة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، وخرج عن المدينة، فمات بحَوْران من أرض الشام سنة (15) وقيل: سنة (14) وقيل: سنة (11) ولم يختلفوا أنه وُجد ميتاً في مُغتَسَله. وقال ابن جُريج، عن عطاء: سمعتُ أنّ الجنّ قتلته. وقال عمرو بن عليّ وغيره: مات سنة (16).

(1)

له ذكر في غير موضع من الصحيحين، ورَوَى له الأربعة.

(فقال له بشير بن سَعْد) بن ثعلبة بن الْجُلَاس

(2)

بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأكبر الأنصاريّ الخزرجيّ، والد النعمان، شهد بدراً، وهو أوّل من بايع أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنهما من الأنصار. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً واحدًا في النُّحْل على خلاف فيه

(3)

.

(1)

تت (3/ 476).

(2)

بضم الجيم، وتخفيف اللام، وضبطه الدارقطني بفتح الخاء المعجمة، وتثقيل اللام. أفاده في "الإصابة" جـ 1 ص 262.

(3)

سيأتي للمصنف برقم 6/ 258 - 259.

ص: 117

وروى عنه ابنه النعمان، وابن ابنه محمد، وعروة، وحُميد بن عبد الرحمن بن عوف. ذكره ابن أبي حاتم فيمن مات سنة (13) فتكون رواية هؤلاء عنه سوى النعمان مرسلة. وقد رَوَى حديث حميد بن عبد الرحمن، عن النعمان، عن أبيه، فتعين إرساله، إن كان رواه عن بشير بلا واسطة، وذكر ابنُ إسحاق، والواقديُّ أنه قُتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد مُنصَرَفه من اليمامة سنة (12)، لكن روى البخاريّ في "تاريخه" من طريق الزهريّ عن محمد بن النعمان بن بشير، عن أبيه أنّ عمر بن الخطّاب قال يوماً، وحَوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخّصتُ في بعض الأمر ماذا كنتم فاعلين؟، قال: فقال له بشير بن سعد: لو فعلتَ قَوَّمناك تقويمَ القادح، فقال عمر: أنتم إذاً أنتم، فهذا يدلّ على أنه بقي إلى خلافة عمر، وفي كتاب "الطبقات" لابن سعد أنه كان يكتب بالعربية في الجاهلية، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض السرايا، واستعمله على المدينة في عمرة القضاء، وله ذكر في "صحيح مسلم" وغيره في حديث عُقبة بن عمرو المذكور في هذا الباب. انفرد به النسائي بحديث النُّحْلة المذكور فقط.

(أمرنا الله عز وجل أن نصلي عليك يا رسول الله) وفي بعض النسخ: "بأن نصلي عليك" بزيادة الباء، وحذفُها جائز في مثل هذا، كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى:

وَعَدِّ لَازِماً بِحَرْفِ جَرِّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ

نَقْلاً وَفِي أَن وَأَنْ يَطرِدُ

مَعْ أَمْنِ لَبْسِ كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوا

يعني أن الله سبحانه أمر عباده المؤمنين بالصلاة عليه والسلام، حيث قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

(فكيف نصلي عليك؟) اختُلِفَ في المراد بقوله: "كيف"، فقيل: المراد السؤال عن معنى الصلاة المأمور بها بأيّ لفظ يُؤَدَّى. وقيل: عن صفتها. قال القاضي عياض رحمه الله: لمّا كان لفظ الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} يحتمل الرحمة والدّعاء والتعظيم سألوا بأيّ لفظ تُؤدّى؟. هكذا قال بعض المشايخ.

ورجّح الباجيّ أن السؤال إنما وقع عن صفتها، لا عن جنسها. قال في "الفتح": وهو الأظهر، لأن لفظ "كيف" ظاهر في الصفة، وأما الجنس، فيُسأل عنه بلفظ "ما"، وبه جزم القرطبي، فقال: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفيّة ما فُهم أصلُهُ، وذلك أنهم عرفوا المراد بالصلاة، فسألوا عن الصفة التي تليق بها، ليستعملوها انتهى.

والحامل لهم على ذلك أن السلام لمّا تقدّم بلفظ مخصوص، وهو "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فهموا منه أن الصلاة أيضاً تقع بلفظ مخصوص، وعدَلُوا

ص: 118

عن القياس لإمكان الوقوف على النصّ، ولاسيّما في ألفاظ الأذكار، فإنها تجيء خارجةَ عن القياس غالباً، فوقع الأمر كما فهموا، فإنه لم يقلْ لهم: قولوا: الصلاة عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولا قولوا: الصلاة والسلام عليك الخ، بل علّمهم صيغةً أخرى

(1)

.

(فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي منتظراً للوحي (حتى تمنّينا أنه لم يسأله) إنما تمنّوا ذلك خشية أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعجبه السؤال المذكور، لما تقرّر عندهم من النهي عن ذلك في قوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].

ووقع عند الطبراني: فسكت حتى جاءه الوحي، فقال:"تقولون"

(ثمّ قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سكت منتظراً للوحي، فنزل عليه (قولوا: اللَّهمّ) هذه الكلمة كثر استعمالها في الدعاء، وهي بمعنى يا ألله، والميم عوض عن حرف النداء، فلا يقال: اللَّهم غفور رحيم مثلاً، وإنما يقال: اللَّهمّ أغفر لي، وأرحمني، ولا يدخلها حرف النداء إلاّ في نادر، كقول الراجز:

إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا

أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يا اللَّهُمَّا

واختصّ هذا الاسم بقطع الهمزة عن النداء، ووجوب تفخيم لامه، وبدخول حرف النداء عليه مع التعريف.

وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "خلاصته"، فقال:

وَبَاضْطِرَارٍ خُصَّ جَمْعُ يَا وَأَلْ

إِلَّا مَعَ اللهِ وَمَحْكِيِّ الْجُمَلْ

وَالأَكْثَرُ اللَّهُمَّ بِالتَّعْوِيضِ

وَشَذَّ يَا اللَّهُمَّ فِي قَرِيضِ

وذهب الفرّاء، ومن تبعه من الكوفيين إلى أن أصله يا الله، فحُذف حرف النداء تخفيفاً، والميم مأخوذة من جملة محذوفة أصله أُمَّنَا بخير، وقيل: بل زائدة، كما في زُرْقُم للشديد الزُّرْقة، وزيدت في الاسم العظيم تفخيماً. وقيل: بل هو كالواو الدّالّة على الجمع، كأن الداعي قال: يا من اجتمعت له الأسماء الحُسنى، ولذلك شددت الميم، لتكون عوضًا عن علامتي الجمع، وهي الواو والنون في "مسلمون" ونحوه. وقد جاء عن الحسن البصريّ: اللَّهم مَجْمَعُ الدعاء. وعن النضر بن شُمَيل: من قال: اللَّهم، فقد سأل الله بجميع أسمائه.

وقد أفاض العلّامة ابن القيم في هذا البحث في كتابه المتقدّم الذكر بما لا تجده في غيره، فراجعه ص 94 - 106.

(1)

راجع "الفتح" جـ 12 ص 444.

ص: 119

(صلّ) تقدّم معنى الصلاة قريباً (على محمد) هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، وهو اسم منقول من الحمد، وهو في الأصل اسم مفعول من الحمد، وهو يتضمّن الثناء على المحمود ومحبّته وإجلاله وتعظيمه، وبُني على زنة مُفَعَّل لأن هذا البناء موضوع للتكثير، فمُحمَّد هو من كثُر حمد الحامدين له مرّة بعد أخرى، أو الذي يستحق أن يُحمد مرّة بعد أخرى، وهو عَلَمٌ وصفة اجتمع فيه الأمران في حقّه صلى الله عليه وسلم، وإن كان علماً محضاً في حقّ كثير ممن تسمّى به غيره. وهذا شأن أسماء الرّبّ تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنها أعلام دالّة على معان بها أوصاف، فلا تُضادّ فيها العلميةُ الوصفَ، بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين.

فتسميته صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم لما اشتمل عليه من مسمّاه، وهو الحمد، فإنه صلى الله عليه وسلم محمود عند الله، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المرسلين، ومحمود عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم، فإن ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كلّ عاقل، وإن كابر عَقلَهُ جحوداً، أو عناداً، أو جهلاً باتصافه بها، ولو علم اتصافه بها لحمده، فإن من يَحْمد من اتصف بصفات الكمال، ويجهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامد له، وهو صلى الله عليه وسلم اختصّ من مسمّى الحمد بما لم يجتمع لغيره، فإن اسمه محمد وأحمد، وأمته الحمّادون، يحمدون الله على السّرّاء والضرّاء، وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، هكذا عند الله في اللوح المحفوظ أن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحاً بالحمد، وبيده صلى الله عليه وسلم لواء الحمد يوم القيامة ولمّا يسجدُ بين يدي ربّه عز وجل للشفاعة، ويؤذن له فيها يحمد ربّه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولولون والآخرون، قال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].

(وعلى آل محمد) قيل: أصل "آل" أهل، قلبت الهاء همزةَ، ثمّ سُهّلت، ولهذا إذا صُغّر ردّ إلى الأصل، فقالوا: أُهيل. وقيل: بل أصله أَوَلٌ، من آل: إذا رجع، سمّي بذلك من يؤول إلى الشخص، وُيضاف إليه، ويقويه أنه لا يضاف إلّا إلى مُعظّم، فيقال: آل القاضي، ولا يقال آل الحَجّام، بخلاف أهل، ولا يضاف آل أيضاً غالباً إلى غير العاقل، ولا إلى المضمر عند الأكثرين، وجوّزه بعضهم بقلّة، وقد ثبت في شعر عبد المطّلب في قوله في قصّة أصحاب الفيل من أبيات:

وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيـ

ـــبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكْ

وقد يطلق آل فلان على نفسه، وعليه وعلى من يضاف إليه جميعاً، وضابطه أنه إذا

ص: 120

قيل: فَعَلَ آل فلان كذا دخل هو فيهم إلا بقرينة، ومن شواهده قوله صلى الله عليه وسلم للحسن بن عليّ رضي الله عنهما:"إنّا آل محمد، لا تَحلّ لنا الصدقة"، وإن ذكرا معاً فلا، وهو كالفقير والمسكين، وكالإيمان والإسلام، والفسوق والعصيان.

ولمّا اختلَفَتْ ألفاظ الحديث في الإتيان بهما معاً، وفي إفراد أحدهما كان أَوْلَى المحامل أن يُحمَل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك كلّه، ويكون بعض الرّواة حفظ ما لم يحفظه الآخر، وأمّا التعدد فبعيد، لأن غالب الطرق تُصرّح بأنه وقع جوابّا عن قولهم:"كيف نصلّي عليك؟ ".

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الحمل على التعدد أقرب، لأن السائلين كثيرون، فحمل سؤالهم على محل واحد بعيد جدّاً، فتأمل.

فالأولى أن نقول إنه صلى الله عليه وسلم علّمهم في أوقات مختلفة بألفاظ مختلفة، في بعضها طول، وفي بعضها اختصار، توسعةً عليهم، فتكون كألفاظ التشهد المختلف تعليمه صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله تعالى عنهم إيّاها، وكصيغ الاستفتاح، وأذكار الركوع، والسجود، والدعوات.

والحاصل أن في الأمر سعةٌ، فيختار مريد الصلاة أيّ صيغة صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصلي بها، والأولى أن يصلي في وقت بصيغة، وفي آخر بأخرى، وهكذا حتى يستعمل الصيغ التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

قال في "الفتح": ويحتمل أن يكون بعض من اقتصر على آل إبراهيم بدون ذكر إبراهيم رواه بالمعنى، بناءً على دخول إبراهيم في قوله:"آل إبراهيم"، كما تقدّم انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال بعيد جدّاً، فإن الرواية بالمعنى في الألفاظ التعبدية غير جائز، كما هو مقرر في محله من "مصطلح الحديث"، انظر "التدريب" للحافظ السيوطي رحمه في "النوع السادس والعشرين" جـ 2 ص 102، ولفظه في بحث الخلاف في الرواية بالمعنى:"ولا شك في اشتراط أن لا يكون مما تُعُبِّدَ بلفظه" انتهى. والله تعالى أعلم.

وسيأتي بيان اختلاف أهل العلم في المراد بالآل هنا في المسائل إن شاء الله تعالى.

(كما صلّيت على آل إبراهيم) صفة لمصدر محذوف، تقديره: صلاةً مثلَ صلاتك على آل إبراهيم، وسيأتي الكلام على وجه تشبيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على آل إبراهيم، في المسائل أيضاً، إن شاء الله تعالى.

وآلُ إبراهيم: هم ذرّيّته من إسماعيل، وإسحاق، كما جزم به جماعة من الشُّرّاح، وإن ثبت أن إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجر فهم داخلون لا محالة، ثمّ إن المراد

ص: 121

المسلمون منهم، بل المتّقون، فيدخل فيهم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون، دون من عداهم، وفيه ما يأتي في آل محمد. قاله في "الفتح".

(وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم) أي أثبت له، وأدم ما أعطيته من الشرف والكرامة، وزده من الكمالات ما يليق بك وبه.

قال في "الفتح": المراد بالبركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: التطهير من العيوب والتزكية، وقيل: المراد إثبات ذلك، واستمراره، من قولهم: بركت الإبل: أي ثبتت على الأرض، وبه سمّيت بِرْكَة الماء -بكسر أوله، وسكون ثانيه- لإقامة الماء فيها.

والحاصل أن المطلوب أن يُعْطَوْا من الخير أَوْفَاه، وأن يثبت ذلك، ويستمرّ دائماً. وسيأتي مزيد بسط في تحقيق معنى البركة في المسألة السادسة، إن شاء الله تعالى.

(في العالمين) متعلّق بـ"صلّ"، أو بـ"بارك" على سبيل التنازع.

قال الحافظ السخاوي رحمه الله: وأشار بقوله: "في العالمين" إلى اشتهار الصلاة والبركة على إبراهيم في العالمين، وانتشار شرفه، وتعظيمه، وأن المطلوب لنبيّنا صلى الله عليه وسلم صلاة تشبه تلك الصلاة، وبركة تشبه تلك البركة في انتشارها في الخلق، وشهرتها، وقد قال الله تعالى:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 108 - 109].

والمراد بـ"العالمين" فيما رواه ابن مسعود

(1)

رضي الله عنه، وغيره: أصناف الخلق، وفيه أقوال أُخْرى: قيل: ما حواه بطن الْفَلَك، وقيل: ما فيه روح، وقيل: كلّ مُحْدَث، وقيل: بقيد العقلاء، وهذان القولان في "المشارق"، وقيل: الإنس والجنّ فقط، حكاه المنذريّ، وحَكَى قولاً آخر: إنه الجنّ والإنس، والملائكة، والشياطين، قال في "الصَّحَاح": العالم: الخلق، والجمع العوالم، والعالمون أصناف الخلق، وقال في "المُحْكَم": العالمِ الخلق كلّه، وقيل: هو ما احتواه بطن الْفَلَك، ولا واحد له من لفظه، لأنّ عالماً جَمعَ أشياءَ مُختلفةً، فإن جُعل اسماً لواحد منها صار جمعاً لأشياء متفقة، والجمع عالمون، ولا يجمع شيء على فاعل بالواو والنون إلا هذا انتهى

(2)

.

(إنك حميد مجيد) أما "الحميد" فهو فعيل من الحمد بمعنى محمود، وأبلغ منه، وهو مَن حصل له من صفات الحمد أكملها، وقيل: هو بمعنى الحامد، أي يَحمَد أفعالَ عباده.

وأما "المجيد" فهو فعيل من المجد، وهو صفةُ مَن كمل في الشرف، وهو مستلزم

(1)

هكذا في "القول البديع""ابن مسعود"، والذي في "الفتح""أبو مسعود"، فليحرّر.

(2)

راجع "القول البديع" للسخاويّ ص 103.

ص: 122

للعظمة والجلال، كما أن الحمد يدلّ على صفة الإكرام.

ومناسبة ختم الدعاء بهذين الاسمين العظيمين أن المطلوب تكريم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وثناؤه عليه، والتنويه به، وزيادة تقريبه، وذلك مما يستلزم طلب الحمد والمجد، ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل المطلوب، أو هو كالتذييل له، والمعنى: إنك فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المترادفة، كريمٌ بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك. قاله في "الفتح"

(1)

.

وسيأتي مزيد بسط في تحقيق معنى هذين الاسمين، ومناسبتهما لختم الصلاة بهما في المسألة السابعة، إن شاء الله تعالى.

(والسلام كما علمتم) جملة من مبتدإ وخبره.

قال النووي رحمه الله تعالى: معناه قد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليّ، فأما الصلاة فهذه صفتها، وأما السلام فكما علمتم في التشهد، وهو قولهم:"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".

و"علمتم" بفتح العين المهملة، وكسر اللام المخفّفة- مبنيّاً للفاعل: أي كما علمتموه في التشهد.

ومنهم من رواه -بضم العين، وتشديد اللام- مبنياً للمفعول: أي عَلَّمتكموه. قال النووي رحمه الله: وكلاهما صحيح.

وقال السندي رحمه الله تعالى: "علمتم" على بناء الفاعل، من العلم، أي كما علمتم في التشهد، أو بما جرى على الألسنة في كيفية سلام بعضهم على بعض، أو على بناء المفعول، من التعليم، أي كما علمّتم في التشهد انتهى "شرح السندي" 3/ 46.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "أو بما جرى على الألسنة" الخ، فيه نظر، فإنه احتمال بعيد، لا ينبغي التعويل عليه، فالصواب المعنى الأوّل، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي مسعود رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -49/ 1285 - وفي "الكبرى" -84/ 1208 - وفي "عمل اليوم والليلة"

(1)

راجع "الفتح" جـ 12 ص 453.

ص: 123

48 -

عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري، عنه. وفي "عمل اليوم والليلة" -49 - عن أحمد بن بكّار، عن محمد بن سلمة

(1)

، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله الأنصاري به.

وأخرجه (مسلم) 2/ 16. (أبو داود) رقم 980 و981. (الترمذي)3220. (مالك) في "الموطإ" ص 120 (أحمد) 3/ 118، و4/ 119 و5/ 273. (الدرامي) رقم 1349 (عبد بن حُميد) 234 (ابن خزيمة)711. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الشِّيَم، حيث كان يزور أصحابه في مجالسهم إكراماً وتأنيساً لهم.

ومنها: أنه ينبغي للإمام أن يخصّ رؤساء القوم وسادتهم بالزيارة في مجالسهم تأنيساً لهم، واستجلاباً لمودتهم، وتنويهاً بشرفهم لدى أتباعهم حتى يزدادوا لهم تعظيماً وطاعة.

ومنها: ما كان عليه الصحابة من العناية بالسؤال عن مهمّات الدين، ومُعضِلات المسائل الشرعية، حتى يعملوا بمقتضى ما يُجيبهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتشرّعوا من عند أنفسهم، عملاً بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات: 1].

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التأدب مع مولاه، عند توجيه السؤال الديني إليه، فلا يبتدىء بجواب سؤال السائل من عند نفسه، بل ينتظر الوحي، فكان كما قال الله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4].

ومنها: بيان أن الأمر بالتشهد كان متقدّماً على الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله:"والسلام كما قد علمتم".

ومنها: أنه استُدلّ به على تعيّن هذا اللفظ الذي علّمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في امتثال الأمر، سواء قلنا بالوجوب مطلقاً، أو مقيداً بالصلاة، وأما تعيّنه في الصلاة فعن أحمد في رواية، والأصحّ عند أتباعه لا تجب.

واختلف في الأفضل: فعن أحمد أكمل ما ورد، وعنه يتخيّر، وأما الشافعية فقالوا: يكفي أن يقول: "اللَّهم صل على محمد"، واختلفوا هل يكفي الإتيان بما يدلّ على ذلك، كأن يقوله بلفظ الخبر، فيقول: صلى الله على محمد، مثلاً، والأصحّ إجزاؤه،

(1)

محمد بن سلمة هو الحرّاني من الطبقة التاسعة من شيوخ شيوخ المصنف بخلاف ما تقدم في سند "المجتبى"، فإنه المرادي المصري شيخ المصنف من الطبقة العاشرة. فتنبّه.

ص: 124

وذلك أن الدعاء بلفظ الخبر آكد، فيكون جائزاً بطريق الأولى.

ومَنْ مَنَعَ وقف عند التعبّد، وهو الذي رجّحه ابن العربي، بل كلامه يدلّ على أن الثواب الوارد لمن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحصل لمن صلى عليه بالكيفية المذكورة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن العربي رحمه الله تعالى هو الذي يترجّح عندي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الصيغة التي يُمتَثَل بها أمرُ الله تعالى بالصلاة عليه، فقيل له: فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ أجابهم بقوله: "قولوا: اللَّهم صلّ على محمد" الخ، فكيف يمكن الخروج عن العهدة، ويحصل الامتثال بصيغة مخالفة لهذا الجواب، فهيهات هيهات!! والله تعالى أعلم.

قال في "الفتح": واتفق أصحابنا -يعني الشافعية- على أنه لا يجزىء أن يقتصر على الخبر، كأن يقول: الصلاة على محمد، إذ ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى، اختلفوا في تعيين لفظ "محمد"، لكن جوّزوا الاكتفاء بالوصف دون الاسم، كالنبي، ورسول الله، لأن لفظ "محمد" وقع التعبّد به، فلا يجزىء عنه إلا ما كان أعلى منه، ولهذا قالوا: لا يجزىء الإتيان بالضمير، ولا بأحمد مثلاً في الأصحّ فيهما، مع تقدّم ذكره في التشهد بقوله "النبي"، وبقوله "محمد".

وذهب الجمهور إلى الاجتزاء بكلّ لفظ أدّى المراد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعضهم: لو قال في أثناء التشهد: الصلاة والسلام عليك أيها النبي أجزأ، وكذا لو قال: أشهد أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، بخلاف ما إذا قدّم عبده ورسوله، وهذا ينبغي أن ينبني على أن ترتيب ألفاظ التشهد لا يشترط، وهو الأصحّ

(1)

، ولكن دليل مقابله قويّ، لقولهم "كما يعلّمنا السورة"، وقول ابن مسعود رضي الله عنه:"عَدّهنّ في يدي".

وعمدة الجمهور في الاكتفاء بما ذكر أن الوجوب ثبت بنصّ القرآن بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، فلما سأل الصحابة عن الكيفية، وعلّمها لهم النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف النقل لتلك الألفاظ اقتصر على ما اتفقت عليه الروايات، وترك ما زاد على ذلك، كما في التشهد، إذ لو كان المتروك واجباً لما سكت عنه. انتهى.

وقد استشكل ذلك ابن الفركاح

(2)

في "الإقليد"، فقال: جَعْلُهُم هذا هو الأقلَّ يحتاج

(1)

في كون هذا القول هو الأصحّ نظر لا يخفى، بل هو ضعيف كما يرشد إليه الكلام الذي بعده. فتأمل.

(2)

هو الإمام تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بالفركاح الشافعي المتوفي سنة 690 هـ وله كتاب "الإقليد لدرء التقليد" شرح للتنبيه للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وقف قبل وصوله إلى "كتاب النكاح" انتهى. "كشف الظنون" جـ 1 ص 490.

ص: 125

إلى دليل على الاكتفاء بمسمى الصلاة، فإن الأحاديث الصحيحة ليس فيها الاقتصار، والأحاديث التي فيها الأمر بمطلق الصلاة ليس فيها ما يشير إلى ما يجب من ذلك في الصلاة، وأقلّ ما وقع في الروايات:"اللَّهم صلّ على محمد، كما صليت على إبراهيم"، ومن ثَمَّ حكى الفورانيّ عن صاحب الفروع في إيجاب ذكر إبراهيم وجهين، واحتجّ لمن لم يوجبه بأنه ورد بدون ذكره في حديث زيد بن خارجة

(1)

رضي الله عنه عند النسائي بسند قويّ ولفظه: "صلّوا عليّ، واجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللَّهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد"

(2)

.

قال الحافظ: وفيه نظر، لأنه من اختصار بعض الرواة، فإن النسائيّ أخرجه من هذا الوجه بتمامه، وكذا الطحاوي

(3)

.

ومنها: أنه استُدلّ بتعليم النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها بأنها أفضل كيفيّات الصلاة عليه، لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل.

ويترتّب على ذلك لو حلف أن يصلّي عليه أفضل الصلاة، فطريق الْبَرّ أن يأتي بذلك، هكذا صوّبه النوويّ رحمه الله تعالى في "الروضة".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول هو الصواب، وما ذكروه من صيغ الصلوات الأخرى غير صحيح، فلا يُلتفت إليه، لأنه مما لا مستند له، ولا أثارة عليه من علم. والله تعالى أعلم.

ومنها: أنه استُدلّ به على جواز الصلاة على غير الأنبياء. وسيأتي تحقيق الخلاف فيه قريباً، إن شاء الله تعالى.

ومنها: ما قيل: إنّ الواو لا تقتضي الترتيب، لأن صيغة الأمر وردت بالصلاة والتسليم بالواو في قوله تعالى:{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقدّم تعليم السلام قبل الصلاة، كما قالوا: عَلِمْنَا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلّي عليك؟.

ومنها: أنه يَرُدُّ على ما نقل عن النخعيّ أنه يُجزىء فى امتثال الأمر بالصلاة قولُهُ: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" في التشهد، لأنه لو كان كما قال لأرشد

(1)

زيد بن خارجة بن أبي زهير الأنصاري الخزرجي صحابي بدري، توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه، وهو الذي تكلم بعد الموت. قاله في "ت" ص 112.

(2)

"السنن الكبرى" رقم 87/ 1215.

(3)

قلت: في دعوى الاختصار نظر، بل الظاهر أنه ليس مختصراً، بل لفظ مستقلّ، وما قاله: إن النسائي أخرجه بتمامه من هذا الوجه غير صحيح، بل هو من وجه آخر، كما يظهر من رقم 87/ 1213، و1214 من "الكبرى"، فالذي يظهر لي أن هذا الحديث أقلّ ما صحّ من ألفاظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

ص: 126

النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى ذلك، ولَمَا عَدَلَ إلى تعليمهم كيفيّةً أخرى.

ومنها: أنه يدلّ على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره، وكذا العكس، وقد تقدّم الكلام عليه.

ومنها: أنه يدلّ على فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة ورود الأمر بها، واعتناء الصحابة رضي الله عنهم بالسؤال عن كيفيتها، وقد وردت أحاديث قويّة في التصريح بفضلها

(1)

. وسيذكر المصنف رحمه الله تعالى بعضها في باب خاص بها -55/ 1295، و1296، و1297. وسنتكلم عليها هناك، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في بيان اختلاف أهل العلم في المراد بـ "آل محمد" صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:

قال الإمام العلّامة ابن القيم رحمه الله تعالى: واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال:

فقيل: هم الذين تحرم عليهم الصدقة، وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء:

(أحدها): أنهم بنو هاشم، وبنو المطّلب، وهذا مذهب الشافعيّ، وأحمد في رواية عنه.

(والثاني): أنهم بنو هاشم خاصّةً، وهذا مذهب أبي حنيفة، والرواية الثانية عن أحمد، واختيار ابن القاسم صاحب مالك.

(والثالث): أنهم بنو هاشم، ومن فوقهم إلى غالب، فيدخل فيهم بنو المطّلب، وبنو أمية، وبنو نوفل، ومَنْ فوقهم إلى بني غالب، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك، حكاه صاحب "الجوهر" عنه، وحكاه اللخميّ في "التبصرة" عن أصبغ، ولم يحكه عن أشهب.

وهذا القول في الآل -أعني أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة- هو منصوص الشافعي، وأحمد، والأكثرين، وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد، والشافعيّ.

(والقول الثاني):

أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذرّيّته، وأزواجه خاصّةً، حكاه ابن عبد البرّ في "التمهيد"، قال في باب عبد الله بن أبي بكر في شرح حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: استدلّ قوم بهذا الحديث على أن آل محمد صلى الله عليه وسلم هم أزواجه، وذرّيّته خاصّة، لقوله في حديث مالك، عن

(1)

راجع "الفتح" جـ 12 ص 456 - 458.

ص: 127

نعيم المجمر، وفي غير ما حديث:"اللَّهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد"، وفي هذا الحديث -يعني حديث أبي حُميد-:"اللَّهمّ صلّ على محمد وأزواجه وذرّيّته"، قالوا: فهذا تفسير ذلك الحديث، ويبيّن أن آل محمد هم أزواجه وذرّيّته، قالوا: فجائز أن يقول الرجل لكلّ من كان من أزواج محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذرّيته صلى الله عليك إذا واجهه، وصلى الله عليه إذا غاب عنه، ولا يجوز ذلك في غيرهم. قالوا: والآل والأهل سواء، وهم الأزواج، والذرّيّة بدليل هذا الحديث.

(والقول الثالث): أن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البرّ عن بعض أهل العلم، وأقدم من رُوي عنه هذا القول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ذكره البيهقي عنه، ورواه عنه سفيان الثوريّ وغيره، وأختاره بعض أصحاب الشافعيّ، حكاه عنه أبو الطيّب الطبريّ في تعليقه، ورجّحه الشيخ محيي الدين النووي في "شرح مسلم"، واختاره الأزهري.

(والقول الرابع): أن آله صلى الله عليه وسلم هم الأتقياء من أمته، حكاه القاضي حسين، والراغب، وجماعة.

[فصل]: في بيان حُجَج أصحاب هذه الأقوال:

احتجّ أصحاب القول الأوّل بحجج:

(أحدها): ما رواه البخاريّ في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤتى بالنخل عند صِرَامه، فيجيء هذا بتمره، وهذا بتمره، حتى يصير عنده كُوْم من تمر، فجعل الحسن والحسين يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة، فجعلها في فيه، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجها من فيه، فقال:"أما علمت أنّ آل محمد لا يأكلون الصدقة". ورواه مسلم، وقال:"أَنَّا لا تحلّ لنا الصدقة".

(الثاني): ما رواه مسلم في "صحيحه" عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً فينا بماء يُدعَى خُمَّا بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وذكّر، ووعظ، ثم قال:"أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل، وإني تارك فيكم ثَقَلَين، أوّلهما كتاب الله عز وجل، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به"، فحثّ على كتاب الله، ورغّب فيه، وقال:"وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي"، فقال حصين بن سَبْرة: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إنّ نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصدقة بعده، قال: ومن هم؟، قال: هم آل عليّ، وآل عَقيل، وآل جعفر، وآلُ عباس، قال: أكلّ هؤلاء حرم عليهم الصدقة؟ قال: نعم.

ص: 128

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الصدقة لا تحلّ لآل محمد".

(الدليل الثالث): ما في "الصحيحين" من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن فاطمة رضي الله عنها أرسلت إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم مما آفاء الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث، ما تركنا صدقةٌ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال". يعني مال الله ليس لهم أن يزيدوا على المأكل.

فآله صلى الله عليه وسلم لهم خواصّ، منها حرمان الصدقة، ومنها أنهم لا يرثونه، ومنها استحقاقهم خمس الخمس، ومنها اختصاصهم بالصلاة عليهم.

وقد ثبت أن تحريم الصدقة، واستحقاق خمس الخمس، وعدم توريثهم مختص ببعض أقاربه صلى الله عليه وسلم، فكذلك الصلاة على آله.

(الدليل الرابع): ما رواه مسلم من حديث ابن شهاب، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي: أن عبد المطلب بن ربيعة أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث قال لعبد المطّلب بن ربيعة، وللفضل بن العبّاس رضي الله عنهما: ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولا له: استعملنا يا رسول الله على الصدقات

-فذكر الحديث- وفيه: فقال لنا: "إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحلّ لمحمد، ولا لآل محمد".

(الدليل الخامس): ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد -فذكر الحديث- وقال فيه: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكبش، فأضجعه، ثمّ ذبحه، ثمّ قال:"بسم الله، اللَّهمّ تقبّل من محمد، وآل محمد، ومن أمّة محمد"، ثمّ ضحّى به.

هكذا رواه مسلم بتمامه، وحقيقة العطف المغايرة، وأمته صلى الله عليه وسلم أعمّ من آله.

قال أصحاب هذا القول: وتفسير الآل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم أولى من تفسيره بكلام غيره.

واحتجّ أصحاب القول الثاني القائلون بأنهم ذرّيّته وأزواجه خاصّةً بحديث أبي حُميد: "اللَّهمّ صلّ على محمد وأزواجه وذرّيّته"، وفي غيره من الأحاديث:"اللَّهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد"، وهذا غايته أن يكون الأوّل منهما قد فسّره اللفظ الآخر.

واحتجّوا أيضاً بما في "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمّ اجعل زرق آل محمد قوتاً"، ومعلوم أن هذه الدعوة المستجابة لم تَنَل كلّ بني هاشم، ولا بني المطّلب، لأنه كان فيهم الأغنياء، وأصحاب الْجِدَة، وإلى الآن، وأمّا أزواجه وذرّيّته صلى الله عليه وسلم، فكان رزقهم قوتاً، وما كان يحصل لأزواجه بعده من الأموال كُنّ يتصدّقن به، ويجعلن رزقهنّ قوتاً، وقد جاء عائشة رضي الله عنها مال عظيم،

ص: 129

فقسمته كلّه في قَعْدَة واحدة، فقالت لها الجارية: لو خَبَأْت لنا درهماً نشتري به لحماً؟ فقالت لها: لو ذكّرتني فعلت.

واحتجّوا أيضاً بما في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله عز وجل"، قالوا: ومعلوم أن العبّاس وأولاده وبني المطّلب لم يدخلوا في لفظ عائشة، ولا مرادها.

قال هؤلاء: وإنما دخل الأزواج في الآل، وخصوصاً أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تشبيهاً لذلك بالنسب، لأن اتصالهنّ بالنبي صلى الله عليه وسلم غير مرتفع، وهنّ محرّمات على غيره في حياته، وبعد مماته، وهنّ زوجاته في الدنيا والآخرة، فالسبب الذي لهنّ بالنبي صلى الله عليه وسلم قائم مقام النسب، وقد نصّ صلى الله عليه وسلم على الصلاة عليهنّ، ولهذا كان القول الصحيح -وهو منصوص الإمام أحمد رحمه الله أن الصدقة تحرم عليهنّ، لأنها أوساخ الناس، وقد صان الله سبحانه ذلك الجنَاب الرفيع وآله من كلّ أوساخ بني آدم، ويا لله العَجَب كيف يدخل أزواجه في قوله صلى الله عليه وسلم:"اللَّهمّ اجعل رزق آل محمد قوتاً"، وقوله في الأضحية:"اللَّهمّ هذا عن محمد وآل محمد"، وفي قول عائشة رضي الله عنها:"ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز بُرّ"، وفي قول المصلي:"اللَّهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد"، ولا يدخلن في قوله:"إن الصدقة لا تحلّ لمحمد، ولا لآل محمد" مع كونها من أوساخ الناس، فأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالصيانة عنها، والبعد منها.

فإن قيل: لو كانت الصدقة حراما عليهنّ لحرمت على مواليهنّ، كما أنها لما حرمت على بني هاشم حرمت على مواليهم، وقد ثبت في "الصحيح" أن بريرة تُصُدّق عليها بلحم، فأكلته، ولم يُحرّمه النبى صلى الله عليه وسلم، وهى مولاة لعائشة رضي الله عنها؟.

قيل: هذا هو شُبهة من أباحها لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وجوابُ هذه الشبهة أن تحريم الصدقة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليس بطريق الأصالة، وإنما هو تبع لتحريمها عليه صلى الله عليه وسلم، وإلّا فالصدقة حلال لهنّ قبل اتصالهنّ به، فهنّ فرع في هذا التحريم، والتحريم على المولى فرع على التحريم على سيده، فلما كان التحريم على بني هاشم أصلاً، استتبع ذلك مواليهم، ولما كان التحريم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً لم يَقْوَ ذلك على استتباع مواليهنّ، لأنه فرع عن فرع.

قالوا: وقد قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}

إلى قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 30 - 34] فدخلن في أهل البيت، لأن هذا الخطاب كله في

ص: 130

سياق ذكرهنّ، فلا يجوز إخراجهنّ في شيء منه.

واحتجّ أصحاب القول الثالث القائلون: إن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة بأن آل المعظّم المتبوع هم أتباعه على دينه وأمره، قريبُهم وبعيدُهم.

قالوا: واشتقاق هذه اللفظة تدلّ عليه، فإنه من آل يؤول: إذا رجع، ومرجع الأتباع إلى متبوعهم، لأنه إمامهم وموئلهم.

قالوا: ولهذا كان قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34] المراد به أتباعه، وشيعته المؤمنون به من أقاربه وغيرهم، وقوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] المراد به أتباعه.

واحتجّوا أيضاً بأن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه روى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا حسناً وحُسيناً رضي الله عنهما، فأجلس كلّ واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة رضي الله عنهما من حجره، وزوجَهَا، ثمّ لَفّ عليهم ثوبه، ثمّ قال:"اللَّهم هؤلاء أهلي"، قال واثلة: فقلت: يا رسول الله وأنا من أهلك؟ فقال: "وأنت من أهلي"، رواه البيهقي بسند جيّد.

قالوا: ومعلوم أن واثلة بن الأسقع من بني ليث بن بكر بن عبد مناة، وإنما هو من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

واحتجّ أصحاب القول الرابع القائلون: إن آله هم الأتقياء من أمته بما رواه الطبراني في "معجمه" عن جعفر بن إلياس بن صدقة، حدثنا نعيم بن حمّاد، حدثنا نوح بن أبي مريم، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن آل محمد؟ فقال: "كلّ تقي"، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34].

قال الطبرانيّ: لم يروه عن يحيى إلّا نوح، تفرّد به نعيم.

وقد رواه البيهقيّ من حديث عبد الله بن أحمد بن يونس، حدثنا نافع أبو هُرْمز، عن أنس

فذكره، ونوح هذا، ونافع لا يَحتَجّ بهما أحد من أهل العلم، وقد رُمِيا بالكذب.

واحتُجّ لهذا القول أيضاً بأن الله عز وجل قال لنوح عن ابنه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] فأخرجه بشركه أن يكون من أهله، فعلم أنّ آل الرسول صلى الله عليه وسلم هم أتباعه.

وأجاب عنه الشافعي رحمه الله بجواب جيّد، وهو أن المراد أنه ليس من أهلك الذين أمرناك بحملهم، ووعدناك نجاتهم، لأن الله سبحانه قال له قبل ذلك:{احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] فليس ابنه من أهله الذين ضمن نجاتهم.

ص: 131

قال ابن القيم رحمه الله: ويدلّ على صحّة هذا أن سياق الأية يدلّ على أن المؤمنين به قسم غير أهله الذين هم أهله، لأنه قال سبحانه:{احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ} ، فمن آمن معطوف على المفعول بالحمل، وهم الأهل، والاثنان من كل زوجين.

واحتجّوا أيضاً بحديث واثلة بن الأسقع المتقدّم، قالوا: وتخصيص واثلة بذلك أقرب من تعميم الأمة به، وكأنه جعل واثلة في حكم الأهل تشبيهاً بمن يستحقّ هذا الاسم.

فهذا ما احتجّ به أصحاب كلّ قول من هذه الأقوال.

والصحيح هو القول الأوّل، ويليه القول الثاني، وأما الثالث، والرابع، فضعيفان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع الشبهة بقوله:"إنَّ الصدقة لا تحلّ لآل محمد"، وقوله:"إنما يأكل آل محمد من هذا المال"، وقوله:"اللَّهم اجعل رزق آل محمد قوتاً"، وهذا لا يجوز أن يراد به عموم الأمّة قطعاً، فأولى ما حُمل عليه الآل في الصلاة الآل المذكورون في سائر ألفاظه، ولا يجوز العدول عن ذلك.

وأما تنصيصه على الأزواج والذرّيّة، فلا يدلّ على اختصاص الآل بهم، بل هو حجة على عدم الاختصاص بهم، لما روى أبو داود من حديث نعيم المجمر، عن أبى هريرة رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم صلّ على محمد النبيّ الأميّ، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذرّيته، وأهل بيته، كما صلّيت على إبراهيم".

فجمع بين الأزواج والذرّيّة والأهل، وإنما نصّ عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقون بالدخول في الآل، وأنهم ليسوا بخارجين منه، بل هم أحقّ مَنْ دخل فيه، وهذا كنظائره من عطف الخاصّ على العامّ، وعكسه، تنبيهاً على شرفه، وتخصيصاً له بالذكر من بين النوع، لأنه من أحقّ أفراد النوع بالدخول فيه، وهنا للناس طريقان:

(أحدهما): أن ذكر الخاصّ قبل العامّ، أو بعده قرينة تدلّ على أن المراد بالعامّ ما عداه.

(والطريق الثاني): أن الخاص ذُكر مرّتين، مرّة بخصوصه، ومرّة بشمول الاسمِ العامّ له، تنبيهاً على مزيد شرفه، وهذا كقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، وقوله تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98].

وأيضاً فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حق له ولآله دون سائر الأمة، ولهذا تجب عليه، وعلى آله عند الشافعيّ رحمه الله وغيره، كما سيأتي، وإن كان عندهم في الآل اختلاف، ومن لم يوجبها فلا ريب أنه يستحبها عليه وعلى آله، ويكرهها أو لا يستحبها لسائر

ص: 132

المؤمنين، أو لا يجوّزها على غير النبيّ صلى الله عليه وسلم وآله، فمن قال: إن آله في الصلاة هم كلّ الأمّة فقد أبعد غاية الإبعاد.

وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرع في التشهد السلام والصلاة، فشرع في السلام تسليم المصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم أوّلاً، وعلى نفسه ثانياً، وعلى سائر عباد الله الصالحين ثالثاً، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"فإذا قلتم ذلك فقد سلّمتم على كلّ عبد لله صالح في السماء والأرض". وأما الصلاة فلم يشرعها إلا عليه وعلى آله فقط، فدلّ على أن آله هم أهله وأقاربه.

وأيضاً فإن الله سبحانه أمرنا بالصلاة عليه بعد ذكر حقوقه، وما خصّه به دون أمته، من حلّ نكاحه لمن تهب نفسها له، ومن تحريم نكاح أزواجه على الأمة بعده، ومن سائر ما ذُكر مع ذلك من حقوقه وتعظيمه وتوقيره وتبجيله، ثم قال تعالى:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] ثم ذكر رفع الْجُنَاح عن أزواجه في تكليمهنّ آباءهنّ وأبناءهنّ، ودخولهم عليهن، وخلوتهم بهنّ، ثمّ عقّب ذلك بما هو حقّ من حقوقه الأكيدة على أمته، وهو أمرهم بصلاتهم عليه وسلامهم، مستفتحاً ذلك الأمر بإخباره بأنه هو وملائكته يُصلُّون عليه، فسأل الصحابةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على أيّ صفة يؤدّون هذا الحقّ؟ فقال:"قولوا: اللَّهمّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد"، فالصلاة على آله هي من تمام الصلاة عليه وتوابعها، لأن ذلك مما تقرّ به عينه، ويزيده الله به شرفاً وعُلُوّاً، صلى الله عليه وسلم تسليمًا.

وأما من قال: إنهم الأتقياء من أمته، فهولاء هو أولياؤه، فمن كان منهم من أقربائه، فهو من أوليائه، ومن لم يكن منهم من أقربائه، فهم من أوليائه، لا من آله، فقد يكون الرجل من آله وأوليائه، كأهل بيته والمؤمنين به من أقاربه، ولا يكون من آله ولا من أوليائه، وقد يكون من أوليائه، وإن لم يكن من آله، كخلفائه في أمته الداعين إلى سنته، الذّابّين عنه، الناصرين لدينه، وإن لم يكونوا من أقاربه.

وقد ثبت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنّ آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إن أوليائي المتقون، أين كانوا، ومن كانوا"

(1)

.

(1)

أخرجه الشيخان من حديث عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سرّ يقول: "ألا إن آل أبي -يعني فلاناً- ليسوا بأوليائي، إنما ولي الله وصالحو المؤمنين". وأخرجه أحمد بلفظ "إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي". وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ "إن أوليائي يوم القيامة المتقون".

ص: 133

والمقصود أن المتقين هم أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولياؤه هم أحبّ إليه من آله، قال الله تعالى:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال: "عائشة" رضي الله عنها قيل: من الرجال؟، قال:"أبوها" رضي الله عنه. متفق عليه.

وذلك أن المتقين هم أولياء الله، كما قال تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63] وأولياء الله سبحانه وتعالى أولياء لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما من زعم أنّ "الآل" هم الأتباع، فيقال: لا ريب أن الأتباع يُطلق عليهم لفظ "الآل" في بعض المواضع بقرينة، ولا يلزم من ذلك أنه حيث وقع لفظ "الآل" يُراد به الأتباع، لما ذكرنا من النصوص. والله تعالى أعلم.

انتهى كلام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى ببعض تصرف، واختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد الإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله تعالى في هذا البحث، وحقق كل قول بأدلته، وناقشها، فتلخّص من بحثه ترجيح تفسير الآل هنا بأنهم الذين تحرم عليهم الصدقة؛ لقوة أدلته، ووضوحها، وهو ترجيح واضح فيما أرى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في ذكر المسألة المشهورة بين الناس، وبيان ما فيها:

وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم، فكيف طُلب له من الصلاة ما لإبراهيم؟ مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ فكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ونحن نذكر ما قاله الناس في هذا، وما فيه من صحيح وفاسد.

فقالت طائفة: هذه الصلاة علّمها النبي صلى الله عليه وسلم أمّته قبل أن يعرف أنه سيد ولد آدم.

ولو سكت قائل هذا لكان أولى به، وخيراً له، فإن هذه هي الصلاة التي علّمهم النبي صلى الله عليه وسلم إيّاها لَمّا سألوه عن تفسير:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، فعلّمهم هذه الصلاة، وجعلها مشروعة في صلوات الأمة إلى يوم القيامة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل أفضل ولد آدم قبل أن يعلم بذلك وبعده، وبعد أن علم بذلك لم يغير نظم الصلاة التي علّمها أمته، ولا أبدلها بغيرها،

(1)

راجع "جلاء الأفهام" ص 158 - 173.

ص: 134

ولا رَوَى عنه أحد خلافها، فهذا من أفسد جواب يكون.

وقالت طائفة أخرى: هذا السؤال والطلب شرع ليتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، وقد أجابه الله إلى ذلك، كما ثبت عنه في "الصحيح":"ألا وإن صاحبكم خليل الرحمن" يعني نفسه.

وهذا الجواب من جنس ما قبله، فإن مضمونه أنه بعد أن اتخذه الله خليلاً لا تُشرع الصلاة عليه على هذا الوجه، وهذا من أبطل الباطل.

وقالت طائفة أخرى: إنما هذا التشبيه راجع إلى المصلي فيما يحصل له من ثواب الصلاة عليه، فطلب من ربّه ثواباً، وهو أن يصلّي عليه كما صلى على آل إبراهيم، لا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المطلوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أجلّ وأعظم مما هو حاصل لغيره من العالمين.

وهذا من جنس ما قبله وأفسد، فإن التشبيه ليس فيما يحصل للمصلي، بل فيما يحصل للمصلَّى عليه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قال: إن المعنى: اللَّهم أعطني من ثواب صلاتي عليه كما صليت على آل إبراهيم، فقد حرّف الكلم، وأبطل كلامه.

قال ابن القيم رحمه الله: ولولا أن هذه الوجوه وأمثالها قد ذَكَرها بعض الشرّاح، وسوّدوا بها الطّروس، وأوهموا الناس أن فيها تحقيقاً، لكان الإضراب عنها صفحاً أولى من ذكرها، فإن العالم يستحيي من التكلّم على هذا، والاشتغال بردّه.

وقالت طائفة أخرى: التشبيه عائد إلى الآل فقط، وتمّ الكلام عند قوله:"اللَّهمّ على محمد"، ثم قال:"وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم"، فالصلاة المطلوبة لآل محمد هي المشبّهة بالصلاة الحاصلة لآل إبراهيم، وهذا نقله العمراني عن الشافعيّ رحمه الله، وهو باطل عليه قطعاً، فإن الشافعيّ أجلّ من أن يقول مثل هذا، ولا يليق هذا بعلمه وفصاحته، فإن هذا في غاية الركاكة والضعف.

وقد ورد في كثير من أحاديث الباب "اللَّهم صلّ على محمد كما صلّيت على آل إبراهيم".

وأيضاً فإنه لا يصحّ من جهة العربية، فإن العامل إذا ذكر معموله، وعطف عليه غيره، ثمّ قُيّد بظرف، أو جارّ ومجرور، أو مصدر، أو صفة مصدر كان ذلك راجعاً إلى المعمول، وما عطف عليه، هذا الذي لا تحتمل العربية غيره، فإذا قلت: جاءني زيد وعمرو يوم الجمعة، كان الظرف مقيّداً لمجيئهما، لا لمجيء عمرو وحده، وكذلك إذا قلت: ضربت زيداً وعمراً ضرباً مؤلماً، أو أمام الأمير، أو سلَّمَ عليّ زيدٌ وعمرٌو يوم الجمعة ونحوه.

ص: 135

فإن قلت: هذا مُتَّجِه إذا لم يُعَد العامل، فإما إذا أُعيد العامل حَسُن ذلك، تقول: سَلِّمْ على زيد، وعلى عمرو إذا لقيته لم يمتنع أن يختصّ ذلك بعمرو، وهنا قد أعيد العامل في قوله:"وعلى آل محمد".

قيل: هذا المثال ليس بمطابق لمسألة الصلاة، وإنما المطابق أن تقول: سلِّمْ على زيد، وعلى عمرو كما تسلِّم على المؤمنين، ونحو ذلك، وحينئذ فادعاء أن التشبيه لسلامه على عمرو وحده دون زيد دعوى باطلة.

وقالت طائفة أخرى: لا يلزم أن يكون المشبّه به أعلى من المشبّه، بل يجوز أن يكونا متماثلين، وأن يكون المشبّه أعلى من المشبّه به.

قال هؤلاء: والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم عليه الصلاة والسلام من وجوه غير الصلاة، وإن كانا متساويين في الصلاة، قالوا: والدليل على أن المشبّه قد يكون أفضل من المشبّه به قول الشاعر: [من الطويل]

بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا

بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ

وهذا القول أيضاً ضعيف من وجوه:

(أحدها): أن هذا خلاف المعلوم من قاعدة تشبيه الشيء بالشيء، فإن العرب لا تشبِّهُ الشيء إلا بما هو فوقه.

(الثاني): أن الصلاة من الله تعالى من أجلّ المراتب وأعلاها، ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، فلابدّ أن تكون الصلاة الحاصلة له أفضل من كلّ صلاة تحصُل لكلّ مخلوق، فلا يكون غيره مساوياً له فيها.

(الثالث): أن الله سبحانه أمر فيها

(1)

بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلّون عليه، وأمر بالصلاة والسلام عليه، وأكّده بالتسليم، وهذا الخبر والأمر لم يثبتهما في القرآن لغيره من المخلوقين.

(الرابع): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلّون على معلّم الناس الخير"

(2)

وهذا لأن بتعليمهم الخير قد أنقذوهم من شر الدنيا والآخرة، وتسببوا بذلك إلى فلاحهم وسعادتهم، وذلك سبب دخولهم في جملة المؤمنين الذين يصلي عليهم الله

(1)

هكذا نسخة "جلاء الأفهام""أمر فيها بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر بالصلاة والسلام عليه إلخ". ولعل صواب العبارة: "أمر بها بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر بالسلام عليه وأكدَّه بالتسليم. فليُتَأَمَّل.

(2)

حديث حسن أخرجه الترمذيّ من حديث أبي أمامة، وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه عند الطبراني في "الأوسط" انظر "مجمع الزوائد" جـ 1 ص 124 - 125.

ص: 136

وملائكته، فلما تسبب معلمو الخير إلى صلاة الله وملائكته على من يتعلّم منهم، صلى الله عليهم وملائكتُه، ومن المعلوم أنه لا أحد من معلّمي الخير أفضل، ولا أكثر تعليماً من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أنصح لأمته، ولا أصبر على تعليمه منه، ولهذا نالت أمته من تعليمه لهم ما لم تَنَلْه أمة من الأمم سواهم، وحصل للأمة من تعليمهم من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ما صارت به خير أمة أُخرجت للعالمين، فكيف تكون الصلاة على هذا الرسول المعلّم للخير مساوية للصلاة على من لم يماثله في هذا التعليم؟.

وأما استشهادهم بقول الشاعر على جواز كون المشبّه به أفضل من المشبّه، فلا يدلّ على ذلك، لأن قوله:"بنونا بنو أبنائنا" إما أن يكون المبتدأ فيه مؤخراً، والخبر مقدّماً، ويكون قد شبّه بني أبنائه ببنيه، وجاز تقديم الخبر هنا لظهور المعنى، وعدم وقوع اللبس، وعلى هذا فهو جار على أصل التشبيه، وإمّا أن يكون من باب عكس التشبيه، كما يشبه القمر بالوجه الكامل مي حسنه، ويشبه الأسد بالرجل الكامل في شجاعته، والبحر بالكامل في وجوده، تنزيلاً لهذا الرجل منزلة الفرع المشبّه، وهذا يجوز إذا تضمّن عكس التشبيه، مثل هذا المعنى، وعلى هذا فيكون هذا الشاعر قد نزّل بني أبنائه منزلة بنيه، وأنهم فوقهم عنده، ثمّ شبّه بنيه بهم، وهذا قول طائفة من أهل المعاني.

قال ابن القيّم رحمه الله: والذي عندي فيه أن الشاعر لم يرد ذلك، وإنما أراد التفريق بين بني بنيه، وبني بناته، فأخبر أن بني بناته تبع لآبائهم، ليسوا بأبناء لنا، وإنما أبناؤنا بنو أبنائنا، لا بنو بناتنا، فلم يُرد تشبيه بني بنيه ببنيه، ولا عكسه، وإنما أراد ما ذكرنا من المعنى، وهذا ظاهر.

وقالت طائفة أخرى: إن النبي صلى الله عليه وسلم له من الصلاة الخاصّة به التي لا يساويها صلاة ما لم يشاركه فيها أحد، والمسؤول له إنما هو صلاة زائدة على ما أعطيه مضافًا إليه، ويكون ذلك الزائد مشبهًا بالصلاة على إبراهيم، وليس بمستنكر أن يسأل للفاضل فضيلة أعطيها المفضول منضمّاً إلى ما اختصّ به هو من الفضل الذي لم يحصل لغيره.

قالوا: ومثال ذلك: أن يعطي السلطان رجلاً مالاً عظيمًا، ويعطي غيره دون ذلك المال، فيسأل السلطان أن يعطي صاحب المال الكثير مثل ما أعطي من هو دونه لينضمّ ذلك إلى ما أعطيه، فيحصل له من مجموع العطاءين أكثر مما يحصل من الكثير وحده.

وهذا أيضاً ضدِف، لأن الله تعالى أخبر أنه وملائكته يُصلّون عليه، ثمّ أمر بالصلاة عليه، ولا ريب أن المطلوب من الله هو نظير الصلاة المخبر بها، لا ما هو دونها، وهو أكمل الصلاة عليه، وأرجحها، لا الصلاة المرجوحة المفضولة.

وعلى قول هؤلاء إنما يكون الطلب لصلاة مرجوحة لا راجحة، وإنما تصير راجحة

ص: 137

بانضمامها إلى صلاة لم تطلب، ولا ريب في فساد ذلك، فإن الصلاة التي تَطلُبُها الأمة له من ربّه هي أجلّ صلاة وأفضلها.

وقالت طائفة أخرى: التشبيه المذكور إنما هو في أصل الصلاة، لا في قدرها، ولا في كيفيّتها، فالمسؤول إنما هو راجع إلى الهيئة، لا إلى قدر الموهوب، وهذا كما تقول للرجل: أحسن إلى ابنك، كما أحسنت إلى فلان، وأنت لا تريد بذلك قدر الإحسان، وإنما تريد به أصل الإحسان، وقد يحتجّ لذلك بقوله تعالى:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ولا ريب أنه لا يقدر أحد أن يحسن بقدر ما أحسن الله إليه، وإنما أريد به أصل الإحسان، لا قدره، ومنها قوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، وهذا التشبيه في أصل الوحي، لا في قدره، وفضل الموحى به، وقوله تعالى:{فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] إنما مرادهم جنس الآية، لا نظيرها، وقوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] ومعلوم أن كيفية الاستخلاف مختلفة، وأنّ ما لهذه الأمّة أكمل مما لغيرهم، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] والتشبيه إنما هو في أصل الصوم، لا في عينه وقدره وكيفيته، وقال تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] ومعلوم تفاوت ما بين النشأة الأولى، وهي المبدأ، والثانية، وهي المعاد. وقال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمّل: 15] ومعلوم أن التشبيه في أصل الإرسال لا يقتضي تماثل الرسولين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تتوكلون على الله حقّ توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خِمَاصاً، وتَرُوح بِطَانًا"

(1)

.

فالتشبيه هنا في أصل الرزق، لا في قدره، ولا في كيفيته، ونظائرِ ذلك.

وهذا الجواب أيضاً ضعيف لوجوه:

منها: أن ما ذكروه يجوز أن يستعمل في الأعلى والأدنى والمساوي، فلو قلت: أحسن إلى أبيك وأهلك كما أحسنت إلى مركوبك وخادمك ونحوه جاز ذلك، ومن المعلوم أنه لو كان التشبيه في أصل الصلاة لحسن أن نقول: اللَّهمّ صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل أبي أوفى، أو كما صليت على آحاد المؤمنين

(1)

أخرجه أحمد 1/ 30 والترمذي 2345 وابن ماجه 4164 وإسناده صحيح، وصححه الحاكم 4/ 318.

ص: 138

ونحوه، أو كما صلّيتَ على آدم، ونوح، وهود، ولوط، فإن التشبيه عند هؤلاء إنما هو واقع في أصل الصلاة، لا في قدرها ولا في صفتها.

ولا فرق في ذلك بين كلّ من صلى عليه، وأيّ ميزة وفضيلة في ذلك لإبراهيم وآله، وما الفائدة حينئذ في ذكره وذكر آله؟ وكان الكافي في ذلك أن نقول: اللَّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد فقط.

الثاني: أن ما ذكروه من الأمثلة ليس بنظير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الأمثلة نوعان: خبر، وطلب، فما كان منها خبراً فالمقصود بالتشبيه به الاستدلال والتقريب إلى الفهم، وتقرير ذلك الخبر، وأنه مما لا ينبغي لعاقل إنكاره، كنظيره المشبّه به.

وأما في قسم الطلب والأمر فالمقصود منه التنبيه على العلّة، وأن الجزاء من جنس العمل، فإذا قلت: علِّمْ كما علمك الله، ونحوه كان ذلك تنبيهاً للمأمور على شكر النعمة، ومقابلتها بمثلها، وتقييدها بالشكر.

الثالث: أن قوله: "كما صليتَ على آل إبراهيم" صفة لمصدر محذوف، تقديره: صلاةً مثلَ صلاتك على آل إبراهيم، وهذا الكلام حقيقته أن تكون الصلاة مماثلةً للصلاة المشبه بها، فلا يُعدل عن حقيقة الكلام ووجهه.

وقالت طائفة أخرى: إن هذا التشبيه حاصل بالنسبة إلى كلّ صلاة صلاة من صلوات المصلين، فكلّ مصلّ صلى على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة، فقد طلب من الله أن يصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم صلاة مثل الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم، ولا ريب أنه إذا حصل له من كلّ مصلّ طلب من الله له صلاة مثل صلاته على آل إبراهيم حصل له من ذلك أضعاف مضاعفة من الصلاة، لا تُعدّ ولا تحصى، ولم يقاربه فيها أحد فضلاً عن أن يساويه، أو يفضله صلى الله عليه وسلم.

ونظير هذا أن يعطي ملك لرجل ألف درهم، فيسأله كلّ واحد من رعيته أن يعطي لرجل آخر أفضل منه نظيرَ تلك الألف، فكلّ واحد قد سأله أن يعطيه ألفاً، فيحصل له من الألوف بعدد كلّ سائل.

وأَوْرَدَ أصحابُ هذا القول على أنفسهم سؤالاً، وهو أن التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة المطلوبة، وكل فرد من أفرادها، فالإشكال وارد كما هو.

وتقريره أن العطيّة التي يُعطاها الفاضل لابدّ أن تكون أفضل من العطيّة التي يعطاها المفضول، فإذا سئل له عطيّة دون ما يستحقّه لم يكن ذلك لائقاً بمنصبه.

وأجابو عنه بأن هذا الإشكال إنما يَرِدُ إذا لم يكن الأمر للتكرار، فأما إذا كان الأمر للتكرار، فالمطلوب من الأمّة أن يسألوا الله له صلاةً بعد صلاة كلّ منها نظير ما حصل

ص: 139

لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيحصل له من الصلوات ما لا يُحصى مقداره بالنسبة إلى الصلاة الحاصلة لإبراهيم.

قال ابن القيم رحمه الله: وهذا أيضاً ضعيف، فإن التشبيه هنا إنما هو واقع في صلاة الله عليه، لا في معنى صلاة المصلي، ومعنى هذا الدعاء: اللَّهمّ أعطه نظير ما أعطيت إبراهيم، فالمسؤول له صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم، وكلّما تكرر هذا السؤال كان هذا معناه، فيكون كلّ مصلّ قد سأل الله أن يصلي عليه صلاة دون التي يستحقّها، وهذا السؤال والأمر به متكرّر، فهل هذا إلّا تقويةً لجانب الإشكال؟.

ثم إن التشبيه واقع في أصل الصلاة وأفرادها، ولا يغني جوابكم عنه بقضية التكرار شيئاً، فإن التكرار لا يجعل جانب المشبه ده أقوى من جانب المشبه، كما هو مقتضى التشبيه، فلو كان التكرار يجعله كذلك لكان الاعتذار به نافعاً، بل التكرار يقتضي زيادة تفضيل المشبّه وقوّته، فكيف يشبّه حينئذ بما هو دونه؟ فظهر ضعف هذا الجواب.

وقالت طائفة أخرى: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طُلب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله -وفيهم الأنبياء- حصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يليق بهم، فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء، وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيحصل له بذلك من المزيّة ما لم يحصل لغيره.

وتقرير ذلك أن تجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم ولآله، وفيهم الأنبياء جملة مقسومة على محمد صلى الله عليه وسلم-وآله، ولا ريب أنه لا يحصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لآل إبراهيم، وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم، فيبقى قسم النبي صلى الله عليه وسلم والزيادة المتوفّرة التي لم يستحقّها آله مختصّةً به صلى الله عليه وسلم، فيصير الحاصل له من مجموع ذلك أعظم، وأفضل من الحاصل لإبراهيم.

قال ابن القيّم رحمه الله: وهذا أحسن من كلّ ما تقدّمه.

قال: وأحسن منه أن يقال: محمد صلى الله عليه وسلم هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم، كما رَوَى عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: محمد من آل إبراهيم، وهذا نصّ، فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم في آله، فدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، فيكون قولنا: كما صلّيت على آل إبراهيم متناولاً للصلاة عليه، وعلى سائر النبيين من ذرّية إبراهيم.

ثمّ أمرنا الله أن نصلي عليه، وعلى آله خصوصاً بقدر ما صلّينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموماً، وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كلّه له

ص: 140

-صلى الله عليه وسلم.

وتقرير هذا أنه يكون قد صُلِّيَ عليه خصوصاً، وطُلِبَ له من الصلاة ما لآل إبراهيم، وهو داخل معهم، ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم معهم أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيُطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعًا، وتظهر حينئذ فائدة التشبيه، وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره، فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبّه به، وله أوفر نصيب منه صار له من المشبّه المطلوب أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك مما له من المشبّه به من الحصّة التي لم تحصل لغيره.

فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم، وعلى كلٍّ من آله، وفيهم النبيّون ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالّةً على هذا التفضيل وتابعةً له، وهي من موجَبَاته، ومُقْتَضَياته.

فصلى الله عليه، وعلى آله، وسلّم تسليماً كثيراً، وجزاه الله عنّا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

اللَّهمّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. انتهى كلام العلامة ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى باختصار في بعض المواضع، وتصرف يسير

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة:

في بيان مَعْنَى البركة المذكورة في قوله: "وبارِكْ على محمد" الخ.

(اعلم): أن حقيقة البركة: الثبوت، واللزوم والاستقرار، فمنه بَرَكَ البعيرُ: إذا استقرّ على الأرض، ومنه الْمَبْرَك لموضع البُرُوك. قال في "الصَّحاح": وكلّ شيء ثبت وأقام، فقد بَرَكَ، والْبَرْكُ. الإبل الكثيرة، والبِرْكَة -بكسر الباء- كالحوض، والجمع البِرَك، قال: ويقال: سمّيت بذلك لإقامة الماء فيها. والْبَرَاكَاءُ: الثبات فى الحرب، والْجِدُّ فيها، قال الشاعر:[من الوافر]

وَلَا يُنْجِي مِنَ الغَمَرَاتِ إِلا

بَرَاكَاءُ الْقِتَالِ أَوِ الْفِرَارُ

والبركة: النَّمَاءُ والزيادة، والتبريك: الدعاء بذلك، ويقال: باركه الله، وبارك فيه،

(1)

راجع "جلاء الأفهام" ص 219 - 232.

ص: 141

وبارك عليه، وبارك له. وفي القرآن:{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8]، وفيه:{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] وفيه: {بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 37]، وفي الحديث:"وبارك لي فيما أعطيت"

(1)

. وفي حديث سعد: "بارك الله لك في أهلك ومالك"

(2)

.

والمبارك الذي قد باركه الله سبحانه، كما قال المسيح عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]، وكتابه مبارك، كما قال تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29] وهو أحقّ أن يُسمّى مباركاً من كلّ شيء، لكثرة خيره، ومنافعه، ووجوه البركة فيه، والرّبُّ سبحانه وتعالى يقال في حقّه "تبارك"، ولا يقال: مبارك.

والمقصود الكلام على قوله: "وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم".

فهذا الدعاء يتضمّن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته وثبوته له، ومضاعفته له، وزيادته، هذا حقيقة البركة، وقد قال الله تعالى في إبراهيم وآله:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 112 - 113] وقال تعالى فيه وفي أهل بيته: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].

قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: وتأمل كيف جاء في القرآن: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} ولم يُذكر إسماعيل، وجاء في التوراة ذكر البركة على إسماعيل، ولم يُذكر إسحاق، فجاء في التوراة ذكر البركة في إسماعيل، إيذاناً بما حصل لبنيه من الخير والبركة، لا سيما خاتمة بركتهم، وأعظمها وأجلها برسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

، فنبّههم بذلك على ما يكون في بنيه من هذه البركة العظيمة الموافية على لسان المبارك صلى الله عليه وسلم، وذكر لنا في القرآن بركته على إسحاق، منبّهاً لنا على ما حصل في أولاده، من نبوة موسى عليه السلام، وغيره، وما أوتوه من الكتاب والعلم، مستدعياً من عباده الإيمانَ بذلك، والتصديقَ به، وأن لا يهملوا معرفة حقوق هذا البيت المبارك، وأهل النبوّة منهم، ولا يقول القائل: هؤلاء أنبياء بني إسرائيل لا تعلّق لنا بهم، بل يجب علينا احترامهم، وتوقيرهم، والإيمان بهم، ومحبتهم، وموالاتهم، والثناء عليهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(1)

أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الحاكم.

(2)

أخرجه البخاري 7/ 86.

(3)

هكذا نسخة "جلاء الأفهام"، ولعل الصواب إسقاط الباء، فليُتَأَمَّل.

ص: 142

ولما كان هذا البيت المبارك المطهّر أشرف بيوت العالم على الإطلاق خصّهم الله سبحانه وتعالى منه بخصائص:

منها: أنه جعل فيه النبوّة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم عليه السلام نبي إلا من أهل بيته.

ومنها: أنه سبحانه جعلهم أئمةً يَهدون بأمره إلى يوم القيامة، فكلّ من دخل الجنّة من أولياء الله بعدهم، فإنما دخل من طريقهم، وبدعوتهم.

ومنها: أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين: إبراهيم، ومحمداً صلى الله وسلم عليهما، وقال تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً"

(1)

. وهذا من خواصّ أهل البيت.

ومنها: أنه سبحانه جعل صاحب هذا البيت إماماً للعالمين، كما قال تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124].

ومنها: أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً للناس، وقبلةً لهم، وحجّا، فكان ظهورُ هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين.

ومنها: أنه أمر عباده بأن يصلّوا على أهل هذا البيت، كما صلى على أهل بيتهم وسلفهم، وهم إبراهيم وآله، وهذه خاصّة لهم.

ومنها: أنه أخرج منهم الأمتين المعظّمتين التي لم تخرج من أهل بيت غيرهم، وهم أمة موسى، وأمة محمد صلى الله وسلم عليهما، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تمام سبعين أمةً، هم خيرها، وأكرمها على الله

(2)

.

ومنها: أن الله سبحانه أبقى عليهم لسان صدق، وثناء حسناً في العالَم، فلا يُذكرون إلا بالثناء عليهم، والصلاة والسلام عليهم، قال الله تعالى:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 108 - 110].

ومنها: جعل أهل هذا البيت فَرْقاً بين الناس، فالسعداء أتباعهم، ومحبوهم، ومن تولّاهم، والأشقياء مَن أبغضهم، وأعرض عنهم، وعاداهم، فالجنة لهم ولأتباعهم، والنار لأعدائهم ومخالفيهم.

ومنها: أنه سبحانه جعل ذكرهم مقروناً بذكره، فيقال: إبراهيم خليل الله، ورسوله، ونبيّه، ومحمد رسول الله، وخليله، ونبيّه، وموسى كليم الله، ورسوله، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكّره بنعمته عليه:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4].

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي، فيقال: لا إله إلا الله، محمد رسول

(1)

أخرجه مسلم بهذا اللفظ، وهو متفق عليه في حديث طويل بلفظ "ولكن صاحبكم خليل الله".

(2)

أخرجه أحمد، والترمذي بسند حسن.

ص: 143

الله، في كلمة الإسلام، وفي الأذان، وفي الخُطَب، وفي التشهّدات، وغير ذلك.

ومنها: أنه سبحانه جعل خلاص خلقه من شقاء الدنيا والآخرة على أيدي أهل البيت، فلهم على الناس من النعم ما لا يمكن إحصاؤها، ولا جزاؤها، ولهم المنن الجِسام في رقاب الأولين والآخرين من أهل السعادة، والأيادي العظام عندهم التي يُجازيهم عليها الله عز وجل.

ومنها: أن كلّ ضرّ

(1)

ونفع وعمل صالح، وطاعة لله تعالى حصلت في العالم فلهم من الأجر مثل أجور عامليها، فسبحان من يختصّ بفضله من يشاء من عباده.

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى سدّ جميع الطرق بينه وبين العالمين، وأغلق دونهم الأبواب، فلم يفتح لأحد قطّ إلا من طريقهم وبابهم.

قال الجنيد رحمه الله: يقول الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وعزّتي، وجلالي، لو أتوني من كلّ طريق، أو استفتحوا من كلّ باب، لما فتحتُ لهم حتى يدخلوا خلفك.

ومنها: أنه سبحانه خصّهم من العلم بما لم يخصّ به أهل بيت سواهم من العالمين، فلم يطرق العالَم أهل بيت أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكامه، وأفعاله، وثوابه، وعقابه، وشرعه، ومواقع رضاه وغضبه، وملائكته، ومخلوقاته منهم، فسبحان من جمع لهم علم الأولين والآخرين.

ومنها: أنه سبحانه خصّهم من توحيده، ومحبته، وقربه، والاختصاص به، بما لم يختصّ به أهل بيت سواهم.

ومنها: أنه سيحانه مكّن لهم في الأرض، واستخلفهم فيها، وأطاع أهلُ الأرض لهم ما لم يحصل لغيرهم.

ومنها: أنه سبحانه أيّدهم، ونصرهم، وأظفرهم بأعدائه وأعدائهم بما لم يُؤيد به غيرهم.

ومنها: أنه سبحانه مَحَا بهم من آثار أهل الضلال والشرك، ومن الآثار التي يُبغضها، ويَمْقُتها ما لم يمحه بسواهم.

ومنها: أنه سبحانه غَرَسَ لهم من المحبّة والإجلال والتعظيم في قلوب العالمين ما لم يغرسه لغيرهم.

ومنها: أنه سبحانه جعل آثارهم في الأرض سبباً لبقاء العالم وحفظه، فلا يزال العالم باقياً ما بقيت آثارهم، فإذا ذهبت آثارهم من الأرض، فذاك أوان خراب العالم، قال الله

(1)

هكذا نسخة "الجلاء"، ولعل الأولى إسقاط لفظة "ضرّ".

ص: 144

تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} [المائدة: 97] قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: لو ترك الناس كلهم الحجّ لوقعت السماء على الأرض، وقال: لو ترك الناس كلهم الحجّ لما نُظروا، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في آخر الزمان يرفع الله بيته من الأرض، وكلامه من المصاحف، وصدور الرجال

(1)

. فلا يبقى له في الأرض بيت يُحجّ، ولا كلام يُتلى، فحينئذ يقرب خَرَاب العالم، وهكذا الناس اليوم، إنما قيامهم بقيام آثار نبيهم، وشرائعه بينهم، وقيام أمورهم، وحصول مصالحهم، واندفاع أنواع البلاء والشرّ بهم عند تعطلها، والإعراض عنها، والتحاكم إلى غيرها، واتخاذ سواها.

ومن تأمل تسليط الله سبحانه على من سلّطه على البلاد والعباد من الأعداء، علم أن ذلك بسبب تعطيلهم لدين نبيّهم، وسنته، وشرائعه، فسلّط الله عليهم من أهلكهم، وانتقم منهم، حتى إن البلاد التي فيها آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنته، وشرائعه فيها ظهور، دفع عنها بحسب ظهور ذلك بينهم.

وهذه الخصائص، وأضعاف أضعافها من آثار رحمة الله وبركاته على أهل هذا البيت، فلهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نطلب له من الله تعالى أن يبارك عليه، وعلى آله، كما بارك على هذا البيت المعظّم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ومن بركات أهل هذا البيت أنه سبحانه أظهر على أيديهم من بركات الدنيا والآخرة ما لم يظهره على أيدي أهل بيت غيرهم.

ومن بركاتهم وخصائصهم أن الله سبحانه أعطاهم من خصائصهم ما لم يُعط غيرهم، فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم الذبيح، ومنهم من كلّمه تكليماً، وقرّبه نجيّا، ومنهم من آتاه شطر الحسن، وجعله من أكرم الناس عليه، ومنهم من آتاه مُلكاً لم يؤته أحداً غيره، ومنهم من رفعه مكاناً عليّاً.

ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا البيت وذرّيّته أخبر أن كلهم فضّله على العالمين.

ومن خصائصهم وبركاتهم على أهل الأرض أن الله سبحانه رفع العذاب العامّ عن أهل الأرض بهم، وببعثهم، وكانت سنته سبحانه في أمم الأنبياء قبلهم أنهم إذا كذّبوا

(1)

روى ابن ماجه (4049) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَدْرُسُ الإسلامُ كما يَدرُس وَشْيُ الثوب حتى لا يُدْرَى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليُسْرَى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يَبْقَى في الأرض منه آية

" قال البوصيريّ في "الزوائد": إسناده صحيح رجاله ثقاة، ورواه الحاكم وصححه، والبيهقي في "شعب الإيمان"، والضياء في "المختارة".

ص: 145

أنبياءهم ورسلهم أهلكهم بعذاب يعمّهم، كما فعل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، فلما أنزل الله سبحانه وتعالى التوراة والإنجيل والقرآن رفع بها العذاب العامّ عن أهل الأرض، وأمر بجهاد من كذّبهم وخالفهم، فكان ذلك نُصرة لهم بأيديهم، وشفاءً لصدورهم، واتخاذ الشهداء منهم، وإهلاك عدوّهم بأيديهم، لتحصيل محابّه سبحانه على أيديهم.

وحُقَّ لأهل بيت هذا بعضُ فضائلهم أن لا تزال الألسن رطبةً بالصلاة عليهم والسلام، والثناء والتعظيم، والقلوب ممتلئة من تعظيمهم ومحبتهم وإجلالهم، وأن يعرفا المصلي عليهم أنه لو أنفق أنفاسه كلَّهَا في الصلاة عليهم ما وفّى القليلَ من حقهم.

فجزاهم الله عن بريّته أفضل الجزاء، وزادهم في الملإ الأعلى تعظيماً وتشريفاً وتكريماً، وصلى الله عليهم صلاة دائمة، لا انقطاع لها، وسلّم تسليماً

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السابعة:

في بيان حكمة اختتام هذه الصلاة بهذين الاسمين من أسماء الرّبّ سبحانه وتعالى، وهما قوله:"حميد مجيد":

فالحميد: فَعيل من الحمد، وهو بمعنى محمد، وأكثر ما يأتي فعيلٌ في أسمائه تعالى بمعنى فاعل، كسميع، وبصير، وعليم، وقدير، وعليّ، وحكيم، وحليم، وهو كثير، وكذلك فَعُول، كغفور، وشكور، وصبور.

وأما الودود، ففيه قولان:

(أحدهما): أنه بمعنى فاعل، وهو الذي يُحِبّ أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين.

(والثاني): أنه بمعنى مفعول، وهو المحبوب الذي يستحق أن يُحَبَّ الحبَّ كُلَّهُ، وأن يكون أحبّ إلى العبد من سمعه وبصره ونفسه وجميع محبوباته.

وأما الحميد، فلم يأت إلا بمعنى المحمود، وهو أبلغ من المحمود، فإن فعيلاً إذا عُدِلَ به عن مفعول دلّ على أن تلك الصفة قد صارت مثل السجيّة والغريزة والْخُلُق اللازم، كما إذا قلت: فلان ظريف وشريف وكريم، ولهذا يكون هذا البناء غالباً من فَعُلَ كشَرُفَ، وهذا البناء من أبنية الغرائز والسجايا اللازمة، كَكَبُرَ، وصَغُرَ، وحسُن،

(1)

"جلاء الأفهام" ص 240 - 253.

ص: 146

ولطُف، ونحو ذلك

ولهذا كان "حبيب" أبلغ من محبوب، لأن الحبيب هو الذي حصلت فيه الصفات والأفعال التي يُحَبّ لأجلها، فهو حبيب في نفسه، وإن قُدِّرَ أن غيره لا يحبه، لعدم شُعُوره به، أو لمانع منعه من حبّه، وأما المحبوب، فهو الذي تعلّق به حبّ المحبّ، فصار محبوباً بحبّ الغير له، وأما الحبيب، فهو حبيب بذاته وصفاته، تعلّق به حبّ الغير، أو لم يتعلّق، وهكذا الحميد والمحمود.

فالحميد هو الذي له من الصفات، وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محموداً، وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه، والمحمود من تعلّق به حمد الحامدين، وهكذا المجيد والممجّد، والكبير والمكبّر، والعظيم والمعظّم.

والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كلّه، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبّة للمحمود، فمن أحببته، ولم تُثن عليه لم تكن حامداً له، وكذا من أثنيت عليه لغرض ما، ولم تحبه لم تكن حامداً له حتى تكون مثنياً عليه محبّا له، وهذا الثناء والحبّ تبع للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال، والإحسان إلى الغير، فإن هذه هي أسباب المحبّة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل كان الحمد والحبّ أتمّ وأعظم، والله سبحانه له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه ما، والإحسان كله له ومنه، فهو أحقّ بكل حمد، وبكلّ حبّ، من كل جهة، فهو أهل أن يُحَبَّ لذاته ولصفاته، ولأفعاله، ولأسمائه، ولإحسانه، ولكلّ ما صدر منه سبحانه وتعالى.

وأما المجد، فهو يستلزم العظمة والسعة والجلال، والحمدُ يدلّ على صفات الإكرام، والله سبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام، وهذا معنى قول العبد:"لا إله إلّا الله، والله أكبر"، و"لا إله إلا الله" دالّ على ألوهيته، وتفرّده فيها، فألوهيته تستلزم محبته التامّة، و"الله أكبر" دالّ على مجده وعظمته، وذلك يستلزم تعظيمه وتمجيده، وتكبيره، ولهذا يَقْرُن سبحانه بين هذين النوعين في القرآن كثيراً، كقوله:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]، وقوله تعالى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، فأمر بحمده وتكبيره، وقال تعالى:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78]، وقال تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27].

وفي "جامع الترمذي -3524 - "، وغيره من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:

ص: 147

"أَلِظُّوا بيا ذالجلال والإكرام"

(1)

، يعني الزموها، وتعلّقوا بها، فالجلال والإكرام: هو الحمد والمجد.

فذكْرُ هذين الاسمين "الحميد والمجيد" عقب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى آله مطابق لقوله تعالى:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} .

ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، هي ثناءَ الله تعالى عليه وتكريمَه، والتنويهَ به، ورفعَ ذكره، وزيادة حبه وتقريبه، كما تقدّم كانت مشتملةً على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له وتمجيد، هذا حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما اسما الحميد والمجيد.

وهذا فيه أن الداعي يُشرع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى مناسب لمطلوبه، او يفتتح دعاءه به، وهذا من

(2)

قوله تعالى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. وقال سليمان عليه السلام في دعاء ربّه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التوّاب الرحيم"

(3)

.

إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

ولما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمدًا ومجدًا بصلاة الله عليه خُتم هذا السؤال باسمي الحمد والمجد.

وأيضًا فإنه لما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمداً ومجداً، وكان ذلك حاصلاً له، خُتم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للربّ بالطريق الأولى، إذ كلّ كمال في العبد غيرِ مستلزم للنقص، فالرّبّ أحقّ به.

وأيضاً، فإنه لما طُلب للرسول صلى الله عليه وسلم حمدٌ ومجدٌ بالصلاة عليه، وذلك يستلزم الثناء عليه، خُتم هذا المطلوب بالثناء على مُرسِلِه بالحمد والمجد، فيكون هذا الدعاء متضمناً لطلب الحمد والمجد للرسول صلى الله عليه وسلم، والإخبار عن ثبوته للربّ سبحانه وتعالى

(4)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

صحيح بشواهده، فقد أخرجه أحمد 4/ 177 والحاكم 1/ 499 من حديث ربيعة بن عامر، والحاكم أيضاً من حديث أبي هريرة، وصححه، ووافقه الذهبي.

(2)

هكذا النسخة، ولعل الصواب: وهذا معنى قوله تعالى.

(3)

أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، وصححه ابن حبان.

(4)

انظر "جلاء الأفهام" ص 253 - 258 نقلته ببعض تصرف واختصار.

ص: 148

المسألة الثامنة:

في اختلاف العلماء في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

(اعلم): أن أهل العلم اختَلَفوا في ذلك على أقوال، أوصلها الحافظ رحمه الله تعالى إلى عشرة، فقال في "الفتح": فحاصل ما وقفت عليه من كلام العلماء فيه عشرة مذاهب:

(أولها): قول ابن جرير الطبري: إنها من المستحبّات، وادعى الإجماع على ذلك.

(ثانيها): مقابله، وهو نقل ابن القصّار وغيره الإجماع على أنها تجب في الجملة بغير حصر، لكن أقلّ ما يحصل به الإجزاء مرّة.

(ثالثها): تجب في العمر في صلاة، أو في غيرها، وهي مثل كلمة التوحيد، قاله أبو بكر الرّازيّ من الحنفيّة، وابن حزم، وغيرهما، وقال القرطبي المفسّر: لا خلاف في وجوبها في العمر مرّة، وأنها واجبة في كلّ حين وجوب السنن المؤكدة، وسبقه ابن عطيّة.

(رابعها): تجب في القعود آخر الصلاة بين قول التشهّد وسلام التحلّل، قاله الشافعيّ، ومن تبعه.

(خامسها): تجب في التشهد، وهو قول الشعبي، وإسحاق بن راهويه.

(سادسها): تجب في الصلاة من غير تعيين المحلّ، نُقلَ ذلك عن أبي جعفر الباقر.

(سابعها): يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، قاله أبو بكر بن بكير من المالكية.

(ثامنها): تجب كلما ذُكر، قاله الطحاويّ، وجماعة من الحنفية، والْحَلِيمِيّ، وجماعة من الشافعية، وقال ابن العربي من المالكية: إنه الأحوط، وكذا قال الزمخشريّ.

(تاسعها): تجب في كلّ مجلس مرّةً، ولو تكرّر ذكره مراراً، حكاه الزمخشريّ.

(عاشرها): تجب في كلّ دعاء، حكاه الزمخشريّ أيضاً. انتهى كلام الحافظ رحمه الله ببعض تصرّف.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي القول الثامن، وهو القول بوجوبها كلما ذكر اسمه؛ لأدلة كثيرة؛ منها: ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: "آمين آمين آمين" الحديث بطوله، وفيه:"ومن ذُكِرْتَ عنده، فلم يصل عليك، فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين".

فهذا الوعيد لا يكون إِلَّا لمن ترك الواجب، فدل على أن الصلاة عليه كلما ذكر اسمه واجبة.

ص: 149

ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً مرفوعاً: "رَغِمَ أنفُ رجل ذُكِرتُ عنده فلم يصلّ عليّ"

الحديث، وهو حديث حسن كما قال الترمذي رحمه الله تعالى. ومعنى رَغِمَ بكسر الغين: لَصِقَ بالرغام، وهو التراب ذُلّاً وهَوَانًا. وهو دعاء عليه بالذل والهوان، ولا يكون هذا إلا لمن ترك الواجب.

ومنها: ما أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما مرفوعاً:"البخيل من ذكرتُ عنده، فلم يصلّ عليّ".

ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ذات يوم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ألا أخبركم بأبخل الناس؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"من ذكرتُ عنده، فلم يصلي عليّ، فذلك أبخل الناس". رواه ابن أبي عاصم في "كتاب الصلاة"، وهو حديث صحيح لغيره

(1)

.

فهذه الأحاديث من تأملها بإنصاف علم وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر اسمه، فتأملها تُرشَد إلى الصواب، والله الهادي إلى سواء السبيل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة التاسعة: في اختلاف أصل العلم في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير:

(اعلم): أنه ذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها بعد التشهد الأخير، وممن ذهب إلى هذا:

عمر، وابنه عبد الله، وابن مسعود رضي الله عنهما، وجابر بن زيد، والشعبي، ومحمد بن كعب الْقُرَظيّ، وأبو جعفر الباقر، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وابن الْمَوّاز، واختاره أبو بكر بن العربيّ.

وذهب الجمهور إلى عدم وجوبها فيه، منهم:

مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، والأوزاعيّ.

احتجّ الأولون بحديث أبي مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب، حيث وقع فيه من الزيادة من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيميّ، عن محمد بن عبد الله بن زيد، عنه، بلفظ:"فكيف نصلي عليك، إذا نحن صلّينا عليك في صلاتنا". قال الدارقطني: إسناده حسن متّصل، وقال البيهقيّ: إسناده حسن صحيح، وتعقّبه ابن التركماني بأنه قال في "باب تحريم قتل ما له روح": بعد ذكر حديث فيه ابن

(1)

انظر: "صحيح الترغيب والترهيب" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى جـ 1 ص 298 - 301.

ص: 150

إسحاق: الحفّاظ يتوقّفون فيما ينفرد به.

قال الحافظ: وهو اعتراض متّجه، لأن هذه الزيادة تفرّد بها ابن إسحاق، لكن ما تفرّد به، وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرّح بالتحديث، وهو هنا كذلك، وإنما يصحّح له من لا يفرّق بين الصحيح والحسن، ويجعل كلّ ما يصلح للحجة صحيحاً، وهذه طريقة ابن حبّان، وغيره.

وقد احتجّ بهذه الزيادة جماعة من الشافعية، كابن خُزيمة، والبيهقيّ لإيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، وقبل السلام.

وتُعُقّب بأنه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على من صلّى على النيي صلى الله عليه وسلم في التشهد، وعلى تقدير إيجاب أصل الصلاة، فلا يدّل على هذا المحلّ المخصوص، ولكن قرّب البيقي ذلك بأن الآية لما نزلت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد علّمهم كيفية السلام عليه في التشهد، والتشهدُ داخلَ الصلاة، فسألوا عن كيفية الصلاة، فعلّمهم، دل على أن المراد بذلك إيقاع الصلاة عليه في التشهد بعد الفراغ من التشهد الذي تقدّم تعليمه لهم، وأما احتمال أن يكون ذلك خارج الصلاة، فهو بعيد، كما قال عياض وغيره.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: ليس فيه تنصيص على أن الأمر به مخصوص بالصلاة، وقد كثر الاستدلال به على وجوب الصلاة، وقرّر بعضهم الاستدلال بأن الصلاة عليه واجبة بالإجماع، وليست الصلاة عليه خارج الصلاة واجبة بالإجماع، فتعيّن أن تجب في الصلاة. قال: وهذا ضعيف، لأن قوله: لا تجب فى غير الصلاة بالإجماع، إن أراد به عيناً، فهو صحيح، لكن لا يفيد المطلوب، لأنه يفيد أن تجب في أحد الموضعين، لا بعينه.

وزعم القرافي في "الذخيرة" أن الشافعي رحمه الله هو المستدلّ بذلك، وردّه بنحو ما ردّ به ابن دقيق العيد، ولم يُصبْ في نسبة ذلك للشافعي، والذي قاله الشافعي في "الأمّ": فرض الله الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع أولى منه في الصلاة، ووجدنا الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني صفوان بن سُليم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ -يعني في الصلاة- قال: "تقولون: اللَّهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم" الحديث.

ص: 151

أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدّثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرة صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول في الصلاة:"اللَّهم صل على محمد، وآل محمد، كما صلّيتَ على إبراهيم، وآل إبراهيم"

الحديث.

قال الشافعي رحمه الله: فلما رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعلّمهم التشهد في الصلاة، ورُوي عنه أنه علمهم كيف يصلّون عليه في الصلاة لم يجُز أن نقول: التشهد في الصلاة واجب، والصلاة عليه فيه غير واجبة.

وقد تعقب بعض المخالفين هذا الاستدلال من أوجه:

(أحدها): ضعف إبراهيم بن أبي يحيى، والكلام فيه مشهور.

(الثانى): على تقدير صحته، فقوله: في الأولى: يعني في الصلاة، ولم يصرّح بالقائل:"يعني".

(الثالث): قوله في الثاني: أنه كان يقول في الصلاة، وإن كان ظاهره أنها الصلاة المكتوبة، لكنه يحتمل أن يكون المراد بقوله "في الصلاة" أي في صفة الصلاة عليه، وهو احتمال قويّ، لأن أكثر الطرق عن كعب بن عجرة تدلّ على أن السؤال وقع عن صفة الصلاة، لا عن محلها.

(الرابع): ليس في الحديث ما يدل على تعيّن ذلك في التشهّد، خصوصاً بينه وبين السلام من الصلاة.

وقد أطنب قوم في نسبة الشافعي في ذلك إلى الشذوذ، منهم أبو جعفر الطبريّ، وأبو جعفر الطحاويّ، وأبو بكر بن المنذر، والخطّابي، وأورد عياض في "الشفا" مقالاتهم، وعاب عليه ذلك غير واحد، لأن موضوع كتابه يقتضي تصويب ما ذهب إليه الشافعي، لكنه استجاده، لما فيه من الزيادة في تعظيمه.

وانتصر جماعة للشافعيّ، فذكروا أدلّة نقليّة ونظريّة، ودفعوا دعوى الشذوذ، فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

وأصحّ ما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين ما أخرجه الحاكم بسند قويّ عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعوا لنفسه. وهذا أقوى شيء يحتجّ به للشافعيّ، فإن ابن مسعود رضي الله عنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علّمهم التشهد في الصلاة، وأنه قال:"ثم ليتخير من الدعاء ما شاء"، فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء دلّ على أنه اطلع على زيادة ذلك بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسّك بحديث ابن مسعود رضي الله عنه في دفع ما ذهب إليه الشافعيّ، مثل

ص: 152

ما ذكر عياض، قال: وهذا تشهد ابن مسعود الذي علّمه له النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر الصلاة عليه، وكذا قول الخطابي: إن في آخر حديث ابن مسعود: "إذا قلت هذا، فقد قضيت صلاتك"، لكن رُدّ عليه بأن هذه الزيادة مدرجَة، وعلى تقدير ثبوتها، فتحمل على أن مشروعية الصلاة عليه ورَدَت بعد تعليم التشهد.

ويتقوّى ذلك بما أخرجه الترمذيّ عن عمر موقوفًا: "الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى يصلّى على النبي صلى الله عليه وسلم".

قال ابن العربي رحمه الله تعالى: ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فيكون له حكم الرفع انتهى.

وورد له شاهد مرفوع في "جزء الحسن بن عرفة"، وأخرج العمريّ في "عمل اليوم والليلة" عن ابن عمر رضي الله عنهما بسند جيد قال:"لا تكون صلاة إلا بقراءة، وتشهد، وصلاة عليّ".

وأخرج البيهقي في "الخلافيات" بسند قويّ عن الشعبي، وهو من كبار التابعين، قال: من لم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، فليعد صلاته. وأخرج الطبريّ بسند صحيح عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير، وهو من كبار التابعين، قال: كنّا نعلم التشهد، فإذا قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يحمد ربّه، ويثني عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل حاجته.

وأما فقهاء الأمصار، فلم يتّفقوا على مخالفة الشافعي في ذلك، بل جاء عن أحمد روايتان، وعن إسحاق الجزم في العمد، فقال: إذا تركها يعيد.

والخلاف أيضاً عند المالكية، ذكرها ابن الحاجب في سنن الصلاة، ثم قال: على الصحيح، فقال شارحه ابن عبد السلام: يريد أن في وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام ابن الموّاز منهم.

وأما الحنفية، فألزم بعض شيوخنا من قال منهم بوجوب الصلاة عليه كلّما ذُكر، كالطحاوي، ونقله السروجي في "شرح الهداية" عن أصحاب "المحيط"، و"العقد"، و"التحفة"، و"المغيث" من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التشهد لتقدّم ذكره في آخر التشهد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك، لكن لا يجعلونه شرطاً في صحّة الصلاة.

وروى الطحاويّ أن حرملة انفرد عن الشافعي بإيجاب ذلك بعد التشهد وقبل سلام التحلّل، قال: لكن أصحابه قبلوا ذلك، وانتصروا له، وناظروا عليه انتهى.

واستدلّ له ابن خزيمة، ومن تبعه بما أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذيّ، وصححه، وكذا ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، من حديث فَضَالَة بن عُبيد، قال:

ص: 153

سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعوا في صلاته، لم يحمد الله، ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"عجل هذا"، ثم دعاه، فقال:"إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتحميد ربّه، والثناء عليه، ثم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء".

وهذا مما يدلّ على أن قول ابن مسعود المذكور قريباً مرفوع، فإنه بلفظه.

وقد طعن ابن عبد البرّ في الاستدلال بحديث فَضَالة للوجوب، فقال: لو كان كذلك لأمر المصلي بالإعادة، كما أمر المسيء صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم.

وأجيب باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه، ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب.

وقال جماعة، منهم الجرجاني، من الحنفية: لو كانت فرضا للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه علّمهم التشهد، وقال:"فيتخيّر من الدعاء ما شاء"، ولم يذكر الصلاة عليه.

وأجيب باحتمال أن لا تكون فُرضت حينئذ.

وقال الحافظ العراقي رحمه الله في شرح الترمذي: قد ورد هذا في الصحيح بلفظ "ثم ليتخيّر"، و"ثُمَّ" للتراخي، فدلّ على أنه كان هناك شىء بين التشهد والدعاء.

واستدلّ بعضهم بما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير، فليستعذ بالله من أربع"

الحديث. وعلى هذا عوّل ابن حزم في إيجاب هذه الاستعاذة في التشهد، وفي كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مستحبّةً عقب التشهد، لا واجبة، وفيه ما فيه. والله تعالى أعلم.

وقد انتصر ابن القيم للشافعي، فقال: أجمعوا على مشروعية الصلاة عليه في التشهد، وإنما اختلفوا في الوجوب والاستحباب، وفي تمسّك من لم يوجبه بعمل السلف الصالح نظر، لأن عملهم كان بوفاقه، إلا إن كان يريد بالعمل الاعتقاد، فيحتاج إلى نقل صريح بأن ذلك ليس بواجب، وأنّى يوجد ذلك؟، قال: وأما قول عياض: إن الناس شنّعوا على الشافعي، فلا معنى له، فأيّ شناعة في ذلك، لأنه لم يخالف نصاً، ولا إجماعاً، ولا قياساً، ولا مصلحة راجحة؟، بل القول بذلك من محاسن مذهبه، وأما نقله مِنَ الإجماعِ فقد تقدّم ردّه، وأما دعواه أن الشافعيّ اختار تشهد ابن مسعود، فيدلّ على معرفته باختيارات الشافعي، فإنه إنما اختار تشهد ابن عبّاس.

وأما ما احتجّ به جماعة من الشافعية من الأحاديث المرفوعة الصريحة في ذلك، فإنها ضعيفة، كحديث سهل بن سعد، وعائشة، وأبي مسعود، وبُريدة، وغيرهم، وقد

ص: 154

استوعبها البيهقي في "الخلافيات"

(1)

، ولا بأس بذكرها للتقوية، لا أنها تنهض بالحجة.

قال الحافظ: ولم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب، إلا ما نُقل عن إبراهيم النخعي، ومع ذلك فلفظ المنقول عنه كما تقدّم يشعر بأن غيره كان قائلاً بالوجوب، فإنه عبّر بالإجزاء انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في تقرير مذهب الشافعي القائل بالوجوب في آخر التشهد، فقال بعد أن ذكر أدلة النفاة، وناقشها: ما نصه:

اسمعوا أدلتنا الآن على الوجوب، فلنا عليه أدلّة:

(الدليل الأوّل): قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

ووجه الدلالة أن الله سبحانه أمر المؤمنين بالصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرُهُ المطلق على الوجوب ما لم يقُم دليل على خلافه.

وقد ثبت أن أصحابه رضي الله عنهم سألوه عن كيفيّة هذه الصلاة المأمور بها، فقال: قولوا: "اللَّهم صلّ على محمد

" الحديث، وقد ثبت أن السلام الذي عُلِّموه هو السلام عليه في الصلاة، وهو سلام التشهد، فمخرج الأمرين والتعليمين والمحلّين واحد.

يوضّحه أنه علّمهم التشهد آمراً لهم به، وفيه ذكر التسليم عليه صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن الصلاة عليه، فعلّمهم إيّاها، ثم شبّهها بما علموه من التسليم عليه، وهذا يدلّ على أن الصلاة والتسليم المذكورين في الحديث هما الصلاة والتسليم عليه في الصلاة.

يوضّحه أنه لو كان المراد بالصلاة والتسليم عليه خارج الصلاة، لا فيها لكان لكلّ مُسَلِّم منهم إذا سَلّم عليه يقول له: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يتقيّدون في السلام عليه بهذه الكيفية، بل كان الداخل منهم يقول: السلام عليكم، وربّما قال: السلام على رسول الله، وربما قال: السلام عليك يا رسول الله، ونحو ذلك، وهم لم يزالوا يسلّمون عليه من أوّل الإسلام بتحيّة الإسلام، وإنما الذي علموه قدر زائد عليها، وهو السلام عليه في الصلاة.

يوضحه حديث ابن إسحاق: "كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ "، وقد صحح هذه اللفظة جماعة من الحُفّاظ، منهم ابن خزيمة، وابن حبّان،

(1)

ستأتي تلك الأحاديث في كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.

(2)

راجع "الفتح" جـ 12 ص 453 - 456.

ص: 155

والحاكم، والدارقطنيّ، والبيهقيّ

(1)

.

وإذا تقرر أن الصلاة المسؤول عن كيفيّتها هي الصلاة عليه في نفس الصلاة، وقد خرج ذلك مخرج البيان المأمور به منها في القرآن، ثبت أنها على الوجوب، وينضاف إلى ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولعلّ هذا وجه ما أشار إليه الإمام أحمد بقوله: كنت أتهيّب ذلك، ثم تبينتُ، فإذا هي واجبة.

وعلى هذا الاستدلال أسئلة:

(أحدها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "والسلام كما قد علّمتم"، يحتمل أمرين:(أحدهما): أن يراد به السلام عليه في الصلاة. (والثاني): أن يراد به السلام من الصلاة نفسها، قاله ابن عبد البرّ.

(الثاني): أن غاية ما ذكرتم إنما يدلّ دلالة اقتران الصلاة بالسلام، والسلام واجب في التشهد، فكذا الصلاة، ودلالة الاقتران ضعيفة.

(الثالث): أنا لا نسلّم وجوب السلام، ولا الصلاة، وهذا الاستدلال منكم إنما يَتمّ بعد تسليم وجوب السلام عليه صلى الله عليه وسلم.

الجواب عن هذه الأسئلة:

(أما الأوّل): ففاسد جدًّا فإن في نفس الحديث ما يبطله، وهو أنهم قالوا: هذا السلام عليك يا رسول الله قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟، لفظ البخاريّ في حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

وأيضاً فإنهم إنما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الصلاة والسلام المأمور بهما في الآية، لا عن كيفية السلام من الصلاة.

(وأما السؤال الثاني): فسؤال من لم يفهم وجهَ تقرير الدلالة، فإنا لم نحتجّ بدلالة الاقتران، وإنما استدللنا بالأمر بها في القرآن، وبَيّنّا أن الصلاة التي سألوا النبى صلى الله عليه وسلم أن يعلّمهم إيّاها إنما هي الصلاة التي في الصلاة.

(وأما السؤال الثالث): ففي غاية الفساد، فإنه لا يُعتَرض على الأدلّة من الكتاب والسنّة، بخلاف المخالف، فكيف يكون خلافكم في مسألة قد قام الدليل على قول مُنازعيكم فيها مبطلاً لدليل صحيح، لا معارض له في مسألة أُخرى، وهل هذا إلا عكس طريقة أهل العلم، فإن الأدلة هي التي تبطل ما خالفها من الأقوال، ويُعتَرَضُ بها على من خالف مُوجَبَها، فتقدّم على كل قول اقتضى خلافها، لا أن أقوال المجتهدين

(1)

وقد تقدّم إعلال ابن التركماني لهذا الحديث، وجواب الحافظ عنه.

ص: 156

تُعارض بها الأدلّة، وتُبطل مقتضاها، وتُقدّم عليها، ثمّ إن الحديث حجة عليكم في المسألتين، فإنه دليل على وجوب التسليم والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فيجب المصير إليه.

(الدليل الثاني): أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في التشهد، وأمرنا أن نصلي كصلاته، وهذا يدلّ على وجوب فعل ما فعل في الصلاة، إلا ما خصه الدليل، فهاتان مقدمتان:

أما المقدمة الأولى: فبيانها ما روى الشافعي في "مسنده" عن إبراهيم بن محمد، حدثني سعد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول في الصلاة:"اللَّهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، وآل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

وهذا وإن كان فيه إبراهيم بن أبي يحيى، فقد وثقه جماعة، منهم الشافعي، وابن الأصبهاني، وابن عديّ، وابن عُقدة، وضعّفه آخرون.

وأما المقدّمة الثانية: فبيانها ما رواه البخاريّ في "صحيحه" عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه، قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن شَبَبَةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلةً، فظنّ أنّا اشتقنا إلى أهلنا، وسألَنَا عمن تركنا في أهلنا؟ فأخبرناه، وكان رفيقاً رحيماً، فقال:"ارجعوا إلى أهليكم، فعلّموهم، ومروهم، وصلّوا كما رأيتوني أصلي، وإذا حضرت الصلاة، فليؤذّن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"

(1)

.

(الدليل الثالث): حديث فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له، أو لغيره:"إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليُصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدْعُ بما شاء"

(2)

. رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وصححه ابن حبان، والحاكم.

واعتُرِضَ عليه من وجوه:

أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر هذا المصلي بالإعادة.

وجواب هذا: أن هذا الرجل كان غير عالم بوجوبها، فتركها معتقداً أنها غير واجبة، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وأمره في المستقبل أن يقولها، فأَمْرُهُ بقولها في المستقبل دليل على وجوبها، وترك أمره بالإعادة دليل على أنه يُعذر الجاهل بعدم الوجوب، وهذا كما لم يأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته بإعادة ما مضى من الصلوات، وقد أخبره أنه لا يحسن غير تلك الصلاة عذراً له بالجهل.

فإن قيل: فلم أمره أن يعيد تلك الصلاة، ولم يعذره فيها بالجهل؟

(1)

متفق عليه.

(2)

قد تقدم الكلام عليه في الباب الماضي.

ص: 157

قلنا: لأن الوقت باق، وقد علم أركان الصلاة، فوجب عليه أن يأتي بها.

فإن قيل: فهلّا أمر تارك الصلاة عليه بإعادة تلك الصلاة كما أمر المسيء؟

قلنا: أَمْرُه صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه فيها تحكّم ظاهر في الوجوب، ويحتمل أن الرجل لما سمع ذلك الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بادر إلى الإعادة من غير أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها.

ويحتمل أن تكون تلك الصلاة كانت نفلاً، لا تجب عليه إعادتها. ويحتمل غير ذلك، فلا يُترَك الظاهر من الأمر، وهو دليل مُحْكَمٌ لهذا المشتبه المحتمل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الثاني: أن هذا الدعاء كان بعد انقضاء الصلاة لا فيها، بدليل ما روى الترمذيّ في "جامعه" من حديث رِشدِين في هذا الحديث، بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، إذ دخل رجل، فصلّى، وقال: اللَّهم اغفر لي، وارحمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيها المصلي إذا صلّيت، فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله، وصلّ عليّ، ثم ادعه".

وجواب هذا من وجوه:

أحدها: أن رشدين ضعفه أبو زرعة، وغيره، فلا يكون حُجّة مع استقلاله، فكيف إذا خالف الثقات الأثبات؟! لأنّ كلّ من روى هذا الحديث قال فيه: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته.

الثاني: أن رشدين لم يقل في حديثه: إن هذا الداعي دعا بعد انقضاء الصلاة، ولا يدلّ لفظه على ذلك، بل قال: فصلى، فقال: اللَّهمّ اغفر لي، وهذا لا يدلّ على أنه قال بعد فراغه من الصلاة، ونفسُ الحديث دليل على ذلك، فإنه قال:"إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتحميد الله"، ومعلوم أنه لم يُردْ بذلك الفراغ من الصلاة، بل الدخول فيها، ولاسيّما، فإن عامّة أدعية النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت في الصلاة، لا بعدها، كحديث أبي هريرة، وعليّ، وأبي موسى، وعائشة، وابن عبّاس، وحُذَيفة، وعمّار، وغيرهم، رضي الله عنهما، ولم يقل أحد منهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعد صلاته في حديث صحيح

(1)

.

ولما سأله الصدّيق دعاء يدعو به في صلاته لم يقل: ادع به خارج الصلاة، ولم يقل لهذا الداعي: ادع به بعد سلامك من الصلاة، لاسيما، والمصلي مناجٍ ربّه، مقبل عليه، فدعاؤه ربّه تعالى في هذه الحال أنسب من دعائه له بعد انصرافه عنه، وفراغه من مناجاته.

الثالث: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فاحمد الله بما هو أهله"، إنما أراد به التشهّد في القعود،

(1)

هذا فيه نظر، فقد ثبت دعاؤه صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الصلاة، وسيأتي بيان أدلة ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى.

ص: 158

ولهذا قال: "إذا صلّيت، فقعدت"، يعني في تشهدك، فأمره بحمد الله تعالى، والثناء عليه، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.

الاعتراض الثالث: أن الذي أمره أن يصلي فيه، ويدعو بعد تحميد الله غير معيّن، فلم قلتم: إنه بعد التشهّد؟

وجواب هذا: أنه ليس في الصلاة موضع يشرع فيه الثناء على الله تعالى، ثم الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء إلا في التشهد آخر الصلاة، فإن ذلك لا يشرع في القيام، ولا الركوع، ولا السجود اتفاقاً، فعلم أنه إنما أراد به آخر الصلاة، حالَ جلوسه في التشهد.

الاعتراض الرابع: أنه أمره فيه بالدعاء عقب الصلاة عليه، والدعاء ليس بواجب، فكذا الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

وجواب هذا: أنه لا يستحيل أن يأمر بشيئين، فيقوم الدليل على عدم وجوب أحدهما، فيبقى الآخر على أصل الوجوب.

الثاني: أن هذا المذكور من الحمد والثناء هو واجب قبل الدعاء، فإنه هو التشهد، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به، وأخبر الصحابة رضي الله عنهم أنه فرض عليهم، ولم يكن اقتران الأمر بالدعاء به مسقطاً لوجوبه، فكذا الصلاة على النبي-صلى الله عليه وسلم.

الثالث: أن قولكم: الدعاء لا يجب باطل، فإن من الدعاء ما هو واجب، وهو الدعاء بالتوبة والاستغفار من الذنوب والهداية والعفو وغيرها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من لم يسأل الله يغضب عليه"

(1)

. والغضب لا يكون إلا على ترك واجب، أو فعل محرّم.

الاعتراض الخامس: أنه لو كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرضاً في الصلاة، لم يؤخّر بيانها إلى هذا الوقت، حتى يرى رجلاً لا يفعلها، فيأمره بها، ولكان العلم بوجوبها مستفاداً قبل هذا الحديث.

وجواب هذا: أنا لم نقل: إنها وجبت على الأمة إلا بهذا الحديث، بل هذا المصلي كان قد تركها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مستقرّ معلوم من شرعه، وهذا كحديث المسيء في صلاته، فإن وجوب الركوع والسجود والطمأنينة على الأمة لم يكن مستفاداً من حديثه، وتأخير بيان النبي صلى الله عليه وسلم لذلك إلى حين صلاة هذا الأعرابي، وإنما أمره أن يصلي الصلاة التي شرعها لأمته قبل هذا.

(1)

حديث حسن، أخرجه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 159

الاعتراض السادس: أن أبا داود والترمذي قالا في هذا الحديث، حديثِ فضالةَ:"فقال له، أو لغيره"، بحرف "أو"، ولو كان هذا واجباً على كلّ مكلّف لم يكن ذلك له، أو لغيره.

وهذا اعتراض فاسد من وجوه:

أحدها: أن الرواية الصحيحة التي رواها ابن خُزيمة، وابن حبّان، "فقال له ولغيره" بالواو، وكذا رواه الإمام أحمد، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم.

الثاني: أن "أو" هنا ليست للتخيير، بل للتقسيم، والمعنى أن أي مصلّ صلى، فليقل ذلك، هذا أو غيره، كما قال:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]، ليس المراد التخيير، بل المعنى: أن أيهما كان فلا تُطعه، إما هذا، وإما هذا.

الثالث: أن الحديث صريح في العموم بقوله: "إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتحميد الله"، فذكره.

الرابع: أن في رواية النسائي، وابن خزيمة:"علّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكره، وهذا عام.

الدليل الرابع: ثلاثة أحاديث، كل منها لا تقوم الحجّة به عند انفراده، وقد يُقَوِّي بعضها بعضاً عند الاجتماع.

أحدها: ما رواه الدارقطني من حديث عمرو بن شَمِر، عن جابر -هو الجُعُفي- عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بُريدة إذا صلّيتَ في صلاتك ،فلا تتركنّ التشهد، والصلاة عليّ، فإنها زكاة الصلاة، وسلّم على جميع أنبياء الله ورسله، وسلّم على عباد الله الصالحين".

الثاني: ما رواه الدارقطني أيضًا من طريق عمرو بن شمر، عن جابر، قال: قال الشعبي: سمعت مسروق بن الأجدع يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبل الله صلاةً إلا بطهور، وبالصلاة عليّ". لكن عمرو بن شمر، وجابر لا يحتجّ بهما، وجابر أصلح من عمرو

(1)

.

الثالث: ما رواه الدارقطني من حديث عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جدّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا صلاةَ لمن لم يصلّ على نبيه صلى الله عليه وسلم". رواه الطبراني

(1)

في الحديثين عمرو بن شَمِر واهٍ، وجابرٌ الجعفي ضعيف، فلا يصلح الاحتجاج بهما، وكذا بالثالث كما نبّه عليه ابن القيم رحمه الله، وإنما ذكرهما استيفاءً لما ذكره أصحاب هذا القول من الأدلة، وفي الحقيقة الأدلة الصحيحة الأخرى المتقدمة كافية في الاحتجاج فلا داعي للاحتجاج بمثل هذه الأحاديث الواهية فتبصّر. والله تعالى أعلم.

ص: 160

من حديث أُبيّ بن عباس، عن أبيه، عن جدّه، وعبد المهيمن ليس بحجة، وأُبيّ أخوه، وإن كان ثقة احتجّ به البخاريّ، فالحديث المعروف فيه، إنما هو من رواية عبد المهيمن، ورواه الطبراني بالوجهين، ولا يثبت.

الدليل الخامس: أنه قد ثبت وجوبها عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنهم، وقد تقدّم ذلك

(1)

، ولم يُحفَظ عن أحد من الصحابة أنه قال: لا تجب، وقول الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجّة، ولاسيّما على أصول أهل المدينة والعراق.

الدليل السادس: أن هذا عملُ الناس من عهد نبيّهم إلى الآن، ولو كانت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم غير واجبة، لم يكن اتفاق الأمة في سائر الأمصار والأعصار على قولها في التشهد، وترك الإخلال بها.

وقد قال مقاتل بن حيّان في تفسيره في قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} قال: إقامتها: المحافظة عليها، وعلى أوقاتها، والقيام فيها، والركوع، والسجود، والتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير.

وقد قال الإمام أحمد: الناس عيال في التفسير على مقاتل، قالوا: فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة من إقامتها المأمور بها، فتكون واجبةٌ، وقد تمسّك أصحاب هذا القول بأقيسة، لا حاجة إلى ذكرها.

قالوا: ثم نقول لمنازعينا: ما منكم إلا من أوجب في الصلاة أشياء بدون هذه الأدلّة.

هذا أبو حنيفة يقول بوجوب الوتر، وأين أدلة وجوبه من أدلّة وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويوجب الوضوء على من قهقه في صلاته بحديث مرسل لا يقاوم أدلتنا في هذه المسألة، ويوجب الوضوء من القيء، والرعاف، والحجامة، ونحوها بأدلّة لا تقاوم أدلّة هذه المسألة.

ومالك يقول: إن في الصلاة أشياء بين الفرض والمستحبّ، ليست بفرض، وهي فوق الفضيلة والمستحبّة، يسميها أصحابه سنناً، كقراءة سورة مع الفاتحة، وتكبيرات

(1)

أما أثر ابن مسعود رضي الله عنه، فذكره ابن عبد البرّ في "التمهيد" أنه كان يقول:"لا صلاة لمن لم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم". وأما أثر أبي مسعود رضي الله عنه فرواه عثمان بن أبي شيبة وغيره، عن شريك، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عنه، قال:"ما أدري أن صلاةً لي تمت حتى أصلي فيها على محمد، وعلى آل محمد". وجابر ضعيف. وأما أثر ابن عمر رضي الله عنهما فأخرجه الحسن بن شبيب المعمري بسنده عنه، قال:"لا تكون صلاة إلى بقراءة، وتشهد، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم". انظر "جلاء الأفهام" ص 266.

ص: 161

الانتقالات، والجلسة الأولى، والجهر والمخافتة، ويوجبون السجود في تركها على تفصيل لهم فيه.

وأحمد يسمي هذه واجبات، ويوجب السجود لتركها سهواً.

فإيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يكن أقوى من إيجاب كثير من هذه، فليست دونها.

والمقصود أن تشنيع المشنِّع فيها على الشافعي باطل، فإنّ مسألةً فيها من الأدلّة والآثار مثل هذا كيف يشنّع على الذاهب إليها. والله تعالى أعلم انتهى كلام الإمام المحقق ابن قيّم الجوزية رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا البحث نفيسٌ جدّاً، خلاصته ترجيح القول بإيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير، وقد ناقش الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أدلة الفريقين، وتوصل بعد المناقشة الدقيقة، والدراسة العميقة لأدلتهم إلى ترجيح الإيجاب، وهو الذي لا يظهر لي غيره، لوضوح أدلته.

قال العلامة الأمير الصنعاني رحمه الله تعالى في "العُدّة حاشية العمدة":

وأما الاستدلال النفاة لوجوبها في آخر الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علّم التشهد، وأمر عقبه أن يتخيّر من المسألة ما شاء من لم يعلم ذلك، وموضع التعليم لا يؤخر فيه بيان الواجب، فالجواب من وجوه:

(الأول): أنكم أوجبتم السلام بقوله صلى الله عليه وسلم: "وتحليلها التسليم" مع أنه لم يُذكر فى حديث التشهد، ونحن أوجبنا الصلاة بالأدلّة المقتضية لإيجابها في الصلاة، فلو كان خُلُوّ حديث التشهد مانعاً عن إيجاب الصلاة لكان أيضاً مانعاً إيجاب التسليم، وإن لم يمنعه لم يمنع وجوب الصلاة.

الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كما علّمهم التشهد علّمهم الصلاة عليه، فكيف يكون تعليمه دالّا على وجوبه، ولا يكون تعليمه لهم الصلاة دالّا على وجوبها؟.

فإن قيل: التشهد الذي علّمهم تشهد الصلاة، وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم التي علمهم فمطلقة.

قلنا: بل والصلاة التي علمهم هي في الصلاة أيضاً، إذ في رواية محمد إبراهيم التيمي:"كيف نصلي عليك إذا نحن جلسنا في صلاتنا".

ثمّ لو قدّر أن أحاديث التشهد تنفي وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فكانت أدلّة وجوبها مقدّمة على تلك، لأن نفيها باق على البراءة الأصلية، ووجوبها ناقل عنها، والناقل يقدّم

(1)

راجع "جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" ص 282 - 292. ونقلته ببعض تصرف.

ص: 162

على النافي، فكيف ولا تعارض، فإن غاية أدلّة التشهد أنها ساكتة عن إيجاب غيره، وما سكت عن إيجاب شيء لا يعارض ما قام الدليل على وجوبه، فضلاً عن أن يقدّم عليه.

ثم حديث تعليم التشهد مقدّم على تعليم الصلاة، فإنه صلى الله عليه وسلم علّمهم حين فرضت الصلاة، وتعليمهم الصلاة في الصلاة كان بعد نزول "سورة الأحزاب" عند نزول تخييره نساءه، فلو فرض أن تعليمهم التشهد ينفي الصلاة لكان منسوخاً بتعليمهم إياها آخراً. انتهى كلام الصنعاني رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى: ما قاله الصنعاني رحمه الله تعالى حسنٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة التاسعة:

في اختلاف أهل العلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهّد الأول:

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: في "الأمّ": يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، هذا هو المشهور من مذهبه، وهو الجديد، لكنه يستحب، وليس بواجب، وقال في القديم: لا يزيد على التشهد، وهذه رواية المزني عنه، وبهذا قال أحمد، وأبو حنيفة، ومالك، وغيرهم رحمهم الله.

واحتُجّ للشافعي رحمه الله بما رواه الدارقطني من حديث موسى بن عُبَيدة، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا التشهد: "التحيّات الطيبات الزاكيات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ووسوله"، ثمّ يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه الدارقطني أيضاً من حديث عمرو بن شَمِر، عن جابر، عن عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بريدة إذا جلست في صلاتك، فلا تتركنّ الصلاة عليّ، فإنها زكاة الصلاة"

(1)

.

قالوا: وهذا يعم الجلوس الأول والآخر.

واحتجّ له أيضاً بأن الله تعالى أمر المؤمنين بالصلاة والتسليم على رسوله صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنه حيث شرع التسليم عليه شُرعت الصلاة عليه، ولهذا سأله الصحابة عن كيفية الصلاة عليه، وقالوا: قد علمنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلي عليك؟، فدلّ على أن الصلاة عليه مقرونة بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن المصلي يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيشرع

(1)

تقدم أنه ضعيف جدّاً، لا يصلح للاحتجاج به، فتنبّه.

ص: 163

له أن يصلي عليه.

قالوا: ولأنه مكانٌ شرع فيه التشهد والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، فشرع فيه الصلاة عليه كالتشهد الأخير.

قالوا: ولأن التشهد الأول محل يستحب فيه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستحبّ فيه الصلاة عليه، لأنه أكمل في ذكره.

قالوا: ولأن في حديث محمد بن إسحاق: كيف نصلي عليك إذا نحن جلسنا في صلاتنا؟.

وقال الآخرون: ليس التشهد الأول بمحلّ لذلك، وهو القديم من قولي الشافعي، وهو الذي صححه كثير من أصحابه، لأن التشهد الأوّل تخفيفه مشروع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس فيه كأنه على الرَّضْف

(1)

، ولم يثبت عنه أنه كان يفعل ذلك فيه، ولا علّمه للأمة، ولا يُعرف أنّ أحدًا من الصحابة استحبه، ولأن مشروعية ذلك لو كانت كما ذكرتم من الأمر، لكانت واجبة في هذا المحلّ كما في الأخير، لتناول الأمر لهما، ولأنه لو كانت الصلاة مستحبّة في هذا الموضع لاستحب فيه الصلاة على آله صلى الله عليه وسلم، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفرد نفسه دون آله بالأمر بالصلاة عليه، بل أمرهم بالصلاة عليه، وعلى آله في الصلاة وغيرها، ولأنه لو كانت الصلاة عليه في هذه الموضع مشروعة لشُرع فيها ذكر إبراهيم، لأنها هي صفة الصلاة المأمور بها، ولأنها لو شرعت في هذا الموضع لشرع فيها الدعاء بعدها، لحديث فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه، ولم يكن فرق بين التشهد الأول والأخير.

قالوا: وأما ما استدللتم به من الأحاديث، فمع ضعفها بموسى بن عُبيدة، وعمرو بن شمر، وجابر الجعفي لا تدلّ، لأن المراد بالتشهد فيها هو الأخير، دون الأول لما ذكرناه من الأدلّة. والله تعالى أعلم. أفاده العلامة ابن القيّم رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي ظهر لي مما ذكر من استدلال كل فريق على ما ذهب إليه ترجيح قول الجمهور، وهو عدم مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، لعدم دليل قويّ على المشروعية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

تقدم أن في سنده انقطاعاً؛ لأن أبا عبدة لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شيئاً لكن الحديث صحيح لغيره، فقد ذكرت له شاهداً تقدم برقم (1176) فراجعه تستفد. و"الرَّضْف" بفتح فسكون: الحجارة المحماة على النار أو الشمس.

(2)

"جلاء الأفهام" ص 293 - 295.

ص: 164

‌50 - (باب كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

1286 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أُمِرْنَا أَنْ

(1)

نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، وَنُسَلِّمَ، أَمَّا السَّلَامُ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:"قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زياد بن يحيى) بن زياد بن حَسّان، أبو الخطّاب الحسّاني النُّكري

(2)

العَدَني البصري، ثقة [10].

روى عن عبد الوهاب الثقفي، ومعتمر بن سليمان، وبشر بن المفضل، وغيرهم. وعنه الجماعة، وأبو حاتم، وأبن خزيمة، وغيرهم.

قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (254).

[فائدة]: زياد بن يحيى هذا هو أحد التسعة الذين اتفق أصحاب الأصول بالرواية عنهم دون واسطة، وقد تقدموا غير مرّة. وبالله تعالى التوفيق.

2 -

(عبد الوهّاب بن عبد المجيد) الثقفي البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين [8] تقدّم 42/ 48.

3 -

(هشام بن حَسّان) القُردوسي البصري، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين [6] تقدم 188/ 300.

4 -

(محمد) بن سيرين، أبو بكر الأنصاريّ مولاهم البصري، ثقة ثبت عابد [3] تقدم 46/ 57.

5 -

(عبد الرحمن بن بشر) بن مسعود الأنصاري، أبو بشر المدني الأزرق، مقبول [3].

(1)

وفي نسخة "بأن" بزيادة الباء.

(2)

بنون مضمومة، فكاف ساكنة، بعدها راء: نسبة إلى نُكرة بطن من عبد القيس، ومن أسد بن خزيمة. أفاده في "لبّ اللباب" جـ 2 ص 302.

ص: 165

روى عن أبي مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وخبّاب بن الأرتّ. وعنه محمد ابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وموسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي.

قال ابن سعد: كان قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الدارقطني: أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

روى مسلم حديثاً في العَزْل، وأبو داود في كراهة التسرّع إلى الحكم، والمصنف حديث الباب، وحديث الْعَزْل الذي عند مسلم أيضاً.

[تنبيه]: وقع في "الكبرى" في هذا السند تحريفان، فقد وقع فيه:"عن محمد بن عبد الرحمن بن بشير"، فقوله:"عن محمد بن عبد الرحمن" تصحفت فيه "عن" إلى "بن"، وقوله:"بشير" تصحّف عن بشر بكسر الباء، وسكون الشين المعجمة، فالصواب:"عن محمد، عن عبد الرحمن بن بشر"، ومحمد هو ابن سيرين. فتنبه.

6 -

(أبو مسعود) عُقبة بن عمرو البدريّ رضي الله عنه المذكور في الباب الماضي.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -50/ 1286 - وفي "الكبرى" -85/ 1209 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم 50 - بالإسناد المذكور متصلاً.

والصواب أنه مرسل، لأن عبد الله بن عون خالف هشام بنَ حسّان، وهو أحفظ منه، يقدم عليه في ابن سيرين، فأرسله، فقد أخرجه المصنف رحمه الله في "عمل اليوم والليلة" رقم 51 - عن حميد بن مَسْعدة، عن يزيد بن زريع، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن بشر، قال: قالوا: يا رسول الله

فذكره مرسلاً.

لكنه مرسل صحيح الإسناد، ويشهد له ما تقدّم في الباب الماضي، فيصحّ به. والله تعالى أعلم.

وشرح الحديث، وما يتعلق به يعلم مما تقدم في الباب الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌51 - (نَوعٌ آخَر)

1287 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ

ص: 166

عُجْرَةَ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ؟ قَالَ:"قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".

قَالَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى: وَنَحْنُ نَقُولُ: وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ.

قَالَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا بِهِ مِنْ كِتَابِهِ وَهَذَا خَطَأٌ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(القاسم بن زكريا بن دينار) أبو محمد الكوفي الطحّان، ثقة [11] تقدم 8/ 410.

2 -

(حسين بن علي) الجُعفي الكوفي، ثقة عابد [9] تقدم 74/ 91.

3 -

(زائدة) بن قُدَامة الثقفي الكوفي، ثقة ثبت صاحب سنة [7] تقدم 74/ 91.

4 -

(سليمان) بن مهران الأعمش الكوفي، الإمام الحجة الثبت [5] تقدم 17/ 18.

5 -

(عمرو بن مُرّة) الْجَمَلي الكوفي، ثقة عابد 51، تقدم 171/ 265.

6 -

(عبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاري المدني، ثم الكوفي، ثقة [2] تقدم 86/ 104.

7 -

(كعب بن عُجْرة) الأنصاري المدني، أبو محمد صحابي مشهور رضي الله عنه، تقدم 86/ 104.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث كعب بن عُجرة رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

أخرجه المصنف هنا -51/ 1287 - وفي "الكبرى" -86/ 1210 - عن القاسم بن زكريا، عن حسين الجعفيّ، عن زائدة بن قُدامة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه. وفي -51/ 1288 - وفي "الكبرى" 86/ 1211 - عن القاسم بن زكريا، عن حسين، عن زائدة، عن الأعمش، عن الْحَكَم، عن ابن أبي ليلى به. وفي 51/ 1289 - وفي "الكبرى" -86/ 1212 - وفي "عمل اليوم والليلة" -54 - عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن شعبة، عن الحكم به. وفي "عمل اليوم والليلة" -359 - عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عن سفيان، قال: حفظناه من عبد الكريم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى به.

وأخرجه (خ) 4/ 178 و6/ 151، و8/ 95 (م) 2/ 16 (د) رقم 976، و977، و978 (ت) 483 (ق)904.

(الحميدي) 711، و712 (أحمد) 4/ 241 و4/ 243 (عبد بن حميد) 368

ص: 167

(الدارمي)1348. والله تعالى أعلم.

وشرح الحديث ومتعلقاته تعلم مما تقدم.

وقوله: "قلنا: يا رسول الله". قال في "الفتح": كذا في معظم الروايات عن كعب بن عُجرة "قلنا" بصيغة الجمع، وكذا وقع في حديث أبي سعيد في الباب -يعني الآتي- 53/ 1293 - ومثله في حديث بريدة عند أحمد، وفي حديث طلحة عند النسائي -يعني الآتي 52/ 1290 - وفي حديث أبي هريرة عند الطبري، ووقع عند أبي داود، عن حفص بن عمر، عن شعبة، بسند الباب:"قلنا، أو قالوا" بالشكّ، والمراد الصحابة، أو من حضر منهم، ووقع عند السرّاج، والطبراني من رواية قيس بن سعد، عن الحكم به:"أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا". وقال الفاكهاني: الظاهر أن السؤال صدر من بعضهم، لا من جميعهم، ففيه التعبير عن البعض بالكلّ، ثم قال: ويبعد جدّاً أن يكون كعب هو الذي باشر السؤال منفرداً، فأتى بالنون التي للتعظيم، بل لا يجوز ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله:"قولوا"، فلو كان السائل واحداً لقال له:"قل"، ولم يقل:"قولوا" انتهى.

قال الحافظ: ولم يظهر لي وجه نفي الجواز، وما المانع أن يسأل الصحابي الواحد عن الحكم، فيجيب صلى الله عليه وسلم بصيغة الجمع، إشارةً إلى اشتراك الكلّ في الحكم، ويؤكده أن في نفس السؤال:"قد عرفنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلي؟ " كلها بصيغة الجمع، فدلّ على أنه سأل لنفسه، ولغيره، فحسن الجواب بصيغة الجمع.

لكن الإتيان بنون العظمة في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يُظَنّ بالصحابي، فإن ثبت أن السائل كان متعدداً فواضح، وإن ثبت أنه كان واحداً فالحكمة في الإتيان بصيغة الجمع الإشارةُ إلى أنّ السؤال لا يختصّ به، بن يريد نفسه ومن يوافقه على ذلك، فحمله على ظاهره من الجمع هو المعتمد، على أن الذي نفاه الفاكهانيّ قد ورد في بعض الطرق، فعند الطبري من طريق الأجلح، عن الحكم، بلفظ:"قمت إليه، فقلت: السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة يا رسول الله؟ قال: قولوا: "اللَّهم صلّ على محمد

" الحديث.

قال الحافظ: وقد وقفت من تعيين من باشر السؤال على جماعة، وهم:

كعب بن عُجرة، وبشير بن سعد، والد النعمان، وزيد بن خارجة الأنصاريّ، وطلحة بن عبيد الله، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن بشير

(1)

رضي الله عنهم.

(1)

هذا خطأ سيأتي بيانه.

ص: 168

أما كعب، فوقع عند الطبراني من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، بهذا السند، بلفظ: قلت: يا رسول الله قد علمناه

".

وأما بشير، ففي حديث أبي مسعود عند مالك، ومسلم، وغيرهما، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير ابن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك

الحديث

(1)

.

وأما زيد بن خارجة، فأخرج النسائي من حديثه، قال: أنا سألت رسول صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "صلّوا عليّ، وأجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللَّهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد"

(2)

.

وأخرج الطبريّ من حديث طلحة، قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك، ومخرج حديثهما واحدٌ.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فأخرج الشافعي من حديثه أنه قال: يا رسول الله كيف نصلي؟ ".

وأما حديث عبد الرحمن بن بشر

(3)

، فأخرجه إسماعيل القاضي في كتاب "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"، قال: قلت، أو قيل للنبى صلى الله عليه وسلم، هكذا عنده على الشكّ.

قال الجامع: هكذا قال الحافظ: وعندي أن فيما قاله هذا خطأ:

أما أوّلاً، فإنه قال: عبد الرحمن بن بشير، والصواب. "بن بشر"، ويمكن أن يكون هذا الخطأ من الناسخ، ولكنه كذا وقع عند إسماعيل القاضى بالخطأ أيضاً.

وأما ثانياً، فإن عبد الرحمن بن بشر تابعي، أرسل هذا الحديث، وليس هو ممن باشر السؤال بنفسه، وهو الذي أخرج حديثه إسماعيل القاضي برقم 73 - وهو الذي تقدم للمصنف في الباب الماضي موصولاً، وتقدّم الكلام عليه هناك. والله تعالى أعلم.

قال: وأبهم أبو عوانة في "صحيحه" من رواية الأجلح، وحمزة الزيّات، عن الحكم السائلَ، ولفظه: جاء رجل، فقال: يا رسول الله قد علمنا. ووقع لهذا السؤال سبب أخرجه البيهقيّ، والخلعي من طريق الحسن بن محمد بن الصبّاح الزعفراني: حدثنا إسماعيل بن زكريّا، عن الأعمش، ومسعر، ومالك بن مغول، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرة، قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ

(1)

تقدم للمصنف قبل باب رقم 49/ 1285.

(2)

انظر: "السنن الكبرى" رقم 87/ 1215.

(3)

وقع في "الفتح""بن بشير" وهو خطأ، والصواب "بن بشر"، وسيأتي قريباً بيان الخطأ فيما قاله في "الفتح".

ص: 169

يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية [الأحزاب: 56]، قلنا: يا رسول الله قد علمنا

الحديث.

وقد أخرج مسلم هذا الحديث عن محمد بن بكّار، عن إسماعيل بن زكريا، ولم يسق لفظه، بل أحال به على ما قبله، فهو على شرطه. وأخرجه السرّاج من طريق مالك بن مغول وحده كذلك. وأخرج أحمد، والبيهقي، وإسماعيل القاضي من طريق يزيد بن أبي زياد، والطبراني من طريق محمد بن أبي ليلى، والطبري من طريق الأجلح، والسراج من طريق سفيان، وزائدة، فرّقهما، وأبو عوانة في "صحيحه" من طريق الأجلح، وحمزة الزيّات كلهم عن الحكم مثله. وأخرج أبو عوانة أيضاً من طريق مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله. وفي حديث طلحة عند الطبري: أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} الآية، فكيف نصلي عليك؟

(1)

.

وقوله: "قال ابن أبي ليلى: ونحن نقول: وعلينا معهم". يعني أنهم عندما يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة المذكورة يزيدون قولهم: "وعلينا معهم"، أى وصَلِّ علينا مع النبي صلى الله عليه وسلم وآله.

وأشار بقوله: "ونحن نقول" إلى أنه ليس مرفوعاً، بل هم يقولونه من عند أنفسهم.

والظاهر أن هذا من عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأصحابه، لكن أخرج أحمد في "مسنده" جـ 4 ص 244 - من طريق يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب، قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] قالوا: كيف نصلي عليك يا نبي الله

" الحديث، وفي آخره: قال: ونحن نقول: وعلينا معهم، قال يزيد: فلا أدري أشيء زاده ابن أبي ليلى من قبل نفسه، أو شيء رواه عن كعب انتهى. لكن يزيد ضعيف.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وتَعَقَّب ابنُ العربي هذه الزيادة -يعني "وعلينا معهم"- قال: هذا شيء أنفرد به زائدة، فلا يعوّل عليه، فإن الناس اختلفوا في معنى الآل اختلافًا كثيراً، ومن جملته أنهم أمته، فلا يبقى للتكرار فائدة، واختلفوا أيضاً في جواز الصلاة على غير الأنبياء، فلا نرى أن نُشرك في هذه الخصوصية مع محمد وآله أحداً.

وتعقبه الحافظ العراقي في شرح الترمذي بأن زائدة من الأثبات، فانفراده لو انفرد لا يضرّ مع كونه لم ينفرد، فقد أخرجها إسماعيل القاضي في كتاب "فضل الصلاة" من طريقين عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ويزيد استَشهَدَ به مسلم.

(1)

راجع "الفتح" جـ 12 ص 442 - 443.

ص: 170

وعند البيهقي في "الشُّعَب" من حديث جابر نحو حديث الباب، وفي آخره "وعلينا معهم".

وأما الإيراد الأول، فإنه يختصّ بمن يرى أن معنى الآل كلّ الأمّة، ومع ذلك فلا يمتنع أن يعطف الخاصّ على العام، ولاسيما فى الدعاء.

وأما الإيراد الثانى، فلا نعلم من منع تبعاً، وإنما الخلاف في الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً، وقد شُرع الدعاء للآحاد بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث "اللَّهم إنى أسألك من خير ما سألك منه محمد"، وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم انتهى ملخّصاً.

وحديث جابر ضعيف، ورواية يزيد أخرجها أيضاً أحمد بن فضيل عنه، وزاد في آخره:"فلا أدري أشيء زاده عبد الرحمن من قبل نفسه، أو رواه عن كعب"، وكذا أخرجه الطبريّ من رواية محمد بن فضيل، ووردت هذه الزيادة من وجهين آخرين مرفوعين:

أحدهما: عند الطبراني من طريق فطر بن خليفة، عن الحكم بلفظ: يقولون: "اللَّهم صلّ على محمد"

إلى قوله: "وآل إبراهيم، وصلّ علينا معهم، وبارك على محمد

مثله، وفي آخره:"وبارك علينا معهم"، ورواته موثّقون.

قال الحافظ رحمه الله: لكنه فيما أحسب مدرج، لما بيّنه زائدة عن الأعمش.

ثانيهما: عند الدارقطني من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه مثله، لكن قال:"اللَّهم" بدل الواو في "وصلّ"، وفي "وبارك"، وفيه عبد الوهّاب بن مجاهد، وهو ضعيف انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فظهر بهذا أن ثبوت هذه الزيادة مرفوعةً محلّ نظر، وإنما الظاهر أنها موقوفة.

فإن قيل: كيف جاز لهم أن يزيدوها، دون أن يعلّمهم النبي صلى الله عليه وسلم؟

أجيب: بأنهم زادوه عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسم في تعليمه التشهدَ: "ثم ليتخيّر بعد من الدعاء ما شاء"، فإنه عام يشمل هذا وغيره، والله تعالى أعلم.

وقوله: "قال أبو عبد الرحمن: حدثنا به من كتابه، وهذا خطأ""أبو عبد الرحمن" هو النسائي صاحب الكتاب.

يعني أن شيخه القاسم بن زكريا حدثهم بهذا الحديث من كتابه، لا من حفظه، فقال: "عن سليمان، عن عمرو بن مُرّة

"، وهو خطأ، والصواب "عن سليمان، عن

(1)

"فتح" جـ 12 ص 447.

ص: 171

الحكم

"، كما بينه في الرواية التالية، وإنما كان هذا صواباً، لموافقته لما رواه الحفّاظ، كما تقدم، وسيأتي أيضاً من رواية شعبة، عن الحكم.

والظاهر أن هذا الصواب مما حدثهم به من حفظه.

والحاصل أنه أخطأ في تحديثه من الكتاب، وأصاب في تحديثه من الحفظ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم بيّن المصنف رحمه الله الصواب لسند هذا الحديث، فقال:

1288 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ

(1)

، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ

(2)

، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ". قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنُ: وَنَحْنُ نَقُولُ: وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ

(3)

مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهِ: عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ غَيْرَ هَذَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).

رجال هذا الإسناد، هم الذين ذكروا في السند السابق، غير واحد، وهو:

1 -

(الحكم) بن عُتيبة، أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، ربما دلّس [5] تقدم 86/ 104.

والحديث هو السابق، أراد المصنف رحمه الله تعالى بذكره بيان الخطإ الذي وقع في سنده السابق، حيث أخطأ فيه شيخه القاسم بن زكريا، فخالف الحُفّاظ

(4)

حينما حَدَّث به من كتابه، بجعل "عمرو بن مرّة" بدل الحكم، فبين المصنف رحمه الله تعالى الصواب بهذا. والله تعالى أعلم.

زاد في "الكبرى" بعد قوله: ولا نعلم أحدًا قال فيه: "عمرو بن مرة غير هذا": ما لفظه: "وهو عن الحكم مشهور".

(1)

هكذا في النسخة "الهندية"، وفي المطبوعة:"وآل إبراهيم".

(2)

هكذا في "الهندية"، وفي المطبوعة:"وآل إبراهيم".

(3)

وفي بعض النسخ: "وهذا الصواب، والأول خطأ، وبالله التوفيق".

(4)

قد تقدم ذكر الحفاظ الذين رووه عن الحكم في كلام الحافظ السابق، وقد أخرجه الحافظ في "نتائج الأفكار" جـ 2 ص 185 من طريق أبي سعيد بن الأعرابي، عن الحسن بن محمد الزعفراني، عن إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش، ومسعر، ومالك بن مغول، ثلاثتهم عن الحكم به.

ص: 172

وقوله: "غير هذا" الظاهر أن الإشارة إلى شيخه القاسم، أي لا نعلم أحدًا من الحفاظ قال في هذا السند:"عمرو بن مرّة" غير هذا الشيخ. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ذكر المصنف رحمه الله حديث من طريق شعبة، عن الحكم، تقوية لما ذكره من الصواب، فقال:

1289 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: قَالَ لِي

(1)

كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ

(2)

، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة، تقدموا في السند الماضي، سوى:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي، ثقة [10] تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك الإمام الحجة الثبت المروزي [8] تقدم 32/ 36.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت [7] تقدم 24/ 26.

وقوله: "قال لي كعب بن عُجرة"، وفي رواية البخاري: لقيني كعب بن عجرة.

قال في "الفتح": وعين المحاربي، عن مالك بن مغول، عن الحكم المكان الذي التقيا به، فأخرجه الطبريّ من طريقه بلفظ: "أن كعباً قال له، وهو يطوف. انتهى

(3)

.

وقوله: "ألا أهدي لك هديّةً" بضم همزة المضارع، من أَهْدَى، كأعطى وزنا ومعنى، يقال: أهديت للرجل كذا بالألف: بعثتُ به إليه إكراماً، فهو هَدِيَّةٌ بالتثقيل، لا غير. قاله في "المصباح".

و"الهدية" كالعطيّة وزنا ومعنًى.

زاد البخاري في "كتاب الأنبياء" من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده، قال:"سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم".

وقوله: "قلنا: يارسول الله" في هذا السياق إضمارٌ، تقديره: فقال عبد الرحمن: نعم، فقال كعب: قلنا الخ.

ووقع ذلك صريحاً في رواية شبابة، وعفّان عن شعبة، بلفظ:"قلت: بلى، قال"،

(1)

سقطى لفظة "لي" من بعض النسخ.

(2)

وفي "الهندية": "وعلى آل محمد".

(3)

"فتح" جـ 12 ص 442.

ص: 173

وفي رواية عبد الله بن عيسى المذكورة،:"فقلت: بلى، فأَهْدِها لي، فقال". أفاده في "الفتح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌52 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1290 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَمِّعُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الإمام الحجة الثبت [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(محمد بن بشر) العبدي البصري، ثقة حافظ [9] تقدم 5/ 882.

3 -

(مجمِّع

(1)

بن يحيى) بن يزيده بن جارية الأنصاري الكوفي، ويقال: ابن زيد، صدوق [5] تقدم 35/ 675.

4 -

(عثمان موهب) هو عثمان بن عبد الله بن موهب التيمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو المدني الأعرج، مولى آل طلحة، نسب لجده، ثقة [4] تقدم 10/ 468.

5 -

(موسى بن طلحة) بن عُبيد الله التيمي المدني نزيل الكوفة، ثقة جليل ويقال: إنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم[2] تقدم 5/ 468.

6 -

(طلحة بن عُبيد الله) بن عثمان بن عمرو التيمي، أبو محمد المدني، أحد العشرة، استشهد يوم الجمل، رضي الله عنه، تقدم 4/ 458.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث طلحة بن عُبيد الله هذا صحيح، انفرد به المصنف رحمه الله تعالى من بين أصحاب الأصول، أخرجه هنا -52/ 1290 - وفي "الكبرى" -87/ 1213 - وفي "عمل اليوم والليلة" -52 - بالإسناد المذكور، وفي 52/

(1)

"مُجَمِّع" بضم أوله، وفتح الجيم، وتشديد الميم المكسورة. و"جارية" بالجيم.

ص: 174

1291 -

و"الكبرى" -87/ 1214 - بالإسناد الآتي.

وأخرجه (أحمد) 1/ 162. وشرحه وبيان المسائل المتعلَقة به قد تقدمت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1291 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى نَبِيَّ اللَّهِ

(1)

صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو الفضل البغدادي، قاضي أصبهان، ثقة [11] تقدم 17/ 480.

2 -

(يعقوب بن إبراهيم) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] تقدم 196/ 314.

3 -

(شريك) بن عبد الله النخعيّ الكوفي القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله صدوق يخطىء كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع [8] تقدم 25/ 29.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، والحديث صحيح، وقد مضى البحث فيه. وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1292 -

(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ خَارِجَةَ، قَالَ: أَنَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: "صَلُّوا عَلَيَّ، وَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، وَقُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سعيد بن يحيى بن سعيد الأمويّ) أبو عثمان البغداديّ، ثقة ربما أخطأ [10] تقدم 43/ 737.

قوله: "في حديثه عن أبيه": يعني أنه أخبرهم بهذا الحديث في جملة الأحاديث التي أخبرهم بها عن أبيه.

(1)

وفي نسخة "أتي النبي".

ص: 175

2 -

(يحيى بن سعيد) بن أبان بن سعيد بن العاص الأموي، أبو أيوب الكوفي، نزيل بغداد، لقبه الجمل صدوق يُغرب، من كبار [9] تقدم 43/ 737.

3 -

(عثمان بن حكيم) بن عباد بن حُنَيف الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنى، ثم الكوفيّ، ثقة [5] تقدّم 38/ 944.

4 -

(خالد بن سَلَمَة) بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المعروف بالفأفاء، أبو سلمة، ويقال: أبو القاسم الكوفي مدني الأصل، صدوق رمي بالإرجاء والنصب [5].

روى عن عبد الله البهيّ، وعيسى وموسى ابني طلحة بن عبيد الله، وابن المسيِّب، وغيرهم. وعنه أولاده: عكرمة، ومحمد، وعبد الرحمن، والسفيانان، وعثمان بن حكيم، وغيرهم.

قال البخاري عن ابن المديني: له نحو عشرة أحاديث. وقال أحمد، وابن معين، وابن المديني: ثقة، وكذا قال ابن عمّار، ويعقوب بن شيبة، والنسائيّ. وقال أبو حاتم: شيخ يُكتب حديثه. وقال ابن عديّ: هو فى عداد من يُجمَع حديثه، ولا أرى برواياته بأسًا، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: هرب من الكوفة إلى واسط لَمّا ظهرت دعوة بني العباس، فقتل مع ابن هبيرة، وقال محمد حميد، عن جرير: كان الفأفاء رأساً في المرجئة، وكان يبغض علياً، وقال يعقوب بن شيبة: يقال: إن بعض الخلفاء

(1)

قطع لسانه، ثم قتله، ذكره ابن المديني يوماً، فقال: قُتل مظلوماً. وقال أبو داود، عن الحسن بن علي الخلّال، سمعت يزيد بن هارون يقول: دخلت المسوِّدة واسط سنة (132) فنادى مناديهم بواسط: الناس آمنون، إلّا ثلاثةً: العوّام بن حوشب، وعُمر بن ذَرّ، وخالد بن سلمة المخزوميّ، فأما خالد، فقتل، وأما العوّام فهرب، وكان يحرّض على قتالهم، وكان عمر بن ذرّ يقصّ بهم، ويحرّض على قتالهم عندنا بواسط. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(موسى بن طلحة) بن عبيد الله المذكور في السند السابق.

6 -

(زيد بن خارجة) بن أبي زهير بن مالك الأنصاري الخزرجيّ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه موسى بن طلحة. قال ابن منده: شهد بدراً. وقال ابن عبد البرّ: وهو الذي تكلّم بعد الموت، وكانت وفاته في خلافة عثمان رضي الله عنهما لا يختلفون في ذلك.

(1)

هو أبو جعفر المنصور العباس. قاله في "تهذيب الكمال".

ص: 176

انفرد به النسائي، وليس له عنده إلا حديث الباب، فقط. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث زيد بن خارجة رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف رحمه الله، لم يخرجه أحد من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا -52/ 1293 - وفي "الكبرى" -87/ 1215 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم -53 - عن سعيد ابن يحيى الأمويّ، عن أبيه، عن عثمان بن حكيم، عن خالد بن سلمة، عن موسى طلحة، عنه. وفي "النعوت" من "الكبرى" -6/ 7672 - عن محمد بن معمر، عن أبي هاشم المخزوميّ، عن عبد الواحد بن زياد، عن عثمان بن حكيم، عن خالد بن سلمة، قال: سمعت موسى بن طلحة، وسأله عبد الحميد كيف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سألت زيد بن خارجة الأنصاريّ، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: "صلّوا عليّ، ثم قولوا: اللَّهم بارك على محمد، وآل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"

(1)

.

ورواه (أحمد) في "مسنده" 1/ 199 - عن علي بن بحر، عن عيسى بن يونس، عن عثمان بن حكيم، عن خالد بن سلمة، أن عبد الحميد بن عبد الرحمن دعا موسى بن طلحة حين عرّس على ابنه، فقال: يا أبا عيسى كيف بلغك في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟، فقال موسى: سألت زيد بن خارجة عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال زيد: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسي كيف الصلاة عليك؟، قال:"صلوا، واجتهدوا، ثمّ قولوا: اللَّهمّ بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد".

[تنبيه]: اختلف في إسناد هذا الحديث، فرواه مُجمِّع بن يحيى، وشريك بن عبد الله القاضي، كلاهما، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، ورواه يحيى ابن سعيد، وعبد الواحد بن زياد، وعيسى بن يونس، ثلاثتهم عن عثمان بن حكيم، عن خالد بن سلمة، عن موسى بن طلحة، عن زيد بن خارجة.

قال الحافظ أبو الحجّاج المزيّ رحمه الله: قال علي بن المديني: لا أرى خالد بن سلمة إلّا حفظه.

وسئل أحمد بن حنبل عن مجمِّع بن يحيى، وعثمان بن حكيم؟، فقال: لا أعلم عثمان بن حكيم إلا أثبت منه انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر من قول ابن المديني رحمه الله تعالى أنه يرى أن رواية خالد بن سلمة رحمه الله هي المحفوظة.

(1)

"السنن الكبرى" للمصنف جل 4 ص 396.

(2)

"تحفة الأشراف" جـ 3 ص 229.

ص: 177

لكن الذي يظهر لي أن الحديث محفوظ بالطريقين، فإن عثمان بن موهب ثقة، فالظاهر أن موسى بن طلحة روى الحديث عن أبيه، وعن زيد بن خارجة رضي الله عنهما.

وأما اختلاف الألفاظ فيحمل على أن بعض الرواة اختصره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌53 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1293 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ -وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ- عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ

(1)

عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ، وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ

(2)

، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ"

(3)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(بكر بن مضر) المصريّ، ثقة ثبت [8] تقدم 122/ 173.

3 -

(ابن الهاد) يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثي، أبو عبد الله المدني، ثقة مكثر [5] تقدم 73/ 90.

4 -

(عبد الله بن خَبَّاب) الأنصاريّ النجّاري مولاهم المدني، ثقة [3].

روى عن أبي سعيد. وعنه القاسم بن محمد، وهو من أقرانه، وعبيد الله بن عمر العمريّ، وابن إسحاق، ويزيد بن الهاد، وغيرهم.

قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن عديّ: حدّث عنه أئمة الناس، وهو صدوق لا بأس به. وقال الْجُوزجاني: سألتهم عنه، فلم أرهم يتفقون على حَدِّه ومعرفته. وقال البخاري: روى عنه إسحاق بن يسار، وسمع منه

(1)

وفي "الهندية""هذا التسليم عليك".

(2)

وفي "الهندية""وعلى آل محمد".

(3)

زاد البخاري "وآل إبراهيم".

ص: 178

محمد بن إسحاق في خلافة عمر بن عبد العزيز. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان، هذا (1293) وحديث (4429).

5 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدّم 169/ 262.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، وأخرجه المصنف هنا 53/ 1293 وفي "الكبرى" 87/ 1216. وأخرجه (خ) -6/ 151، و8/ 95 (ق) 903 (وأحمد) 3/ 47.

والكلام عليه يعلم مما تقدم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌54 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1294 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَأَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ -فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ- كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَأَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ -قَالَا جَمِيعًا- كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَقَطَ عَلَيْهِ مِنْهُ شَطْرٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(قتيبة بن سعيد) المذكور قبله.

2 -

(الحارث بن مسكين) المصري القاضي، ثقة فقيه [10] تقدم 9/ 9.

قوله: "والحارث" عطف على قتيبة، وسند الحارث نازل، لأنه روى عن مالك بواسطة. والله تعالى أعلم.

ص: 179

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتَقي المصري الفقيه، ثقة، من كبار [10] تقدم 19/ 20.

4 -

(مالك) إمام دار الهجرة الحجة المشهور [7] تقدم 7/ 7.

5 -

(عبد الله بن إبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم) الأنصاريّ المدني القاضي، ثقة [5] تقدّم 118/ 163.

6 -

(أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم) الأنصاري النّجَّاري المدني القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: يكنى أبا محمد، ثقة عابد [5]

(1)

تقدم 118/ 163.

7 -

(عمرو بن سُلَيم الزرقي) الأنصاري المدني، ثقة من كبار التابعين، تقدم 37/ 730.

8 -

(أبو حميد الساعدي) المنذر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: عمرو، وقيل: غير ذلك الصحابي المشهور رضي الله عنه، تقدّم 36/ 729. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه، وشرح معظمه يعلم مما تقدّم، وسيتبين ما تَبَقَّى فيما يأتي، إن شاء الله تعالى.

وقوله: "قال أبو عبد الرحمن" هو النسائى رحمه الله تعالى "أنبأنا قتيبة بهذا الحديث مرتين، ولعله أن يكون قد سقط عليه منه شطر".

يعني أن قتيبة أنبأهم بهذا الحديث مرتين، ولكنه فيهما لم يرو الحديث تامًّا، فلعلّه قد ذهب من حفظه بعض ألفاظه، فلم يتمّه.

و"الشطر": معناه الجزء، وهو قوله:"كما صليت على آل إبراهيم"، كما بين في كلامه السابق أن اللفظ المذكور للحارث بن مسكين. والله تعالى أعلم.

ولنتكلّم على المسائل الباقية:

المسألة الأولى: في بيان تخريجه:

أخرجه المصنف هنا -54/ 1294 - وفي "الكبرى" 88/ 1217 - عن قتيبة، والحارث بن مسكين- وفي "عمل اليوم والليلة" -59 - عن الحارث بن مسكين -وفي

(1)

هكذا جعله في "ت" من الطبقة الخامسة، والظاهر أنه من الثالثة؛ لأنه من أقران عمرو بن سليم، ولذا قال في "الفتح": وروايته عن عمرو بن سليم من رواية الأقران، وولده من صغار التابعين، ففي السند ثلاثة من التابعين، في سند واحد، والسند كله مدنيون. انتهى "فتح" جـ 12 ص 462، فعلى هذا فأبو بكر من الطبقة الثالثة، وولده من الخامسة. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

ص: 180

"التفسير" 11168 - عن محمد بن سلمة، ثلاثتهم عن ابن القاسم، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن عمرو بن سُلَيم، عنه.

وأخرجه (خ) 4/ 178، و8/ 96 (م) 2/ 16 (د) 979 (ق) - 905 (مالك في "الموطإ") 120 (أحمد) 5/ 424. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في قوله: "وأزواجه":

وهو جمع زوج، وقد يقال: زوجة، والأول أفصح، وبها جاء القرآن، قال تعالى:{آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] وقال: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90].

ومن الثاني قول ابن عباس رضي الله عنهما في عائشة رضي الله عنها: "إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة". وقال الفرزدق: [من الطويل]

وَإِنَّ الَّذِي يَبْغِي لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي

كَسَاعٍ إِلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا

(1)

وقد يُجمَع "زوجة" على زوجات.

وجملة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي دخل بهنّ إحدى عشرة:

أولاهنّ: خديجة بنت خُويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ بن كلاب.

تزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته، فآمنت به ونصرته، فكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين فى الأصحّ، وقيل: بأربع، وقيل: بخمس.

الثانية: سودة بنت زَمْعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حِسل ابن عامر بن لؤيّ، تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة رضي الله عنهما، ولما كبرت، وهبت يومها لعائشة رضي الله عنهما إرضاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت حِبّه، فكان يَقسم لنسائه ولا يَقسم لها، وهي راضية بذلك. توفيت في آخر خلافة عمر رضي الله عنه.

الثالثة: الصدّيقة بنت الصّدّيق عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وبنى بها بالمدينة، أوّل مَقْدَمه في السنة الأولى، وهي بنت تسع سنين، ومات عنها، وهي بنت ثماني عشرة سنة، وتوفيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة رضي الله عنه، سنة ثمان وخمسين.

الرابعة: حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكانت قبله عند خُنَيس بن حُذَافة

(1)

"يستبيلها": أي يأخذ بولها في يده.

ص: 181

السَّهْميّ، وكان صحابياً شهد بدراً، توفيت سنة سبع، وقيل: ثمان وعشرين.

الخامسة: أمّ حَبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رَمْلة بنت صخر بن حَرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، هاجرت مع زوجها عُبَيد الله بن جحش إلى الحبشة، فتنصّر هناك ومات، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي هناك، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أميّة الضَّمْريّ إلى النجاشيّ يخطبها، وولي نكاحها عثمان بن عفّان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص.

السادسة: أم سلمة هند بنت أبي أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد، ومات بالمدينة من جرح أصابه بأحد رضي الله عنه.

توفيت سنة (62) ودفنت بالبقيع، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتاً، وقيل: بن ميمونة رضي الله عنها.

السابعة: زينب بنت جحش من بني خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهي بنت عمته أُميمة بنت عبد المطّلب، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنهما، وطلقها، فزوجه الله تعالى إياها، وأنزل عليه قوله:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] فقام فدخل عليها بلا استئذان، وكانت تَفْخَر بذلك على سائر أزواجه صلى الله عليه وسلم، وتقول: زوّجكنّ أهاليكنّ، وزوّجني الله من فوق سبع سماواته.

توفيت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع رضي الله عنها.

الثامنة: زينب بنت خُزَيمة الهلالية، وكانت تحت عبد الله بن جحش، اسُتشهد يوم أحد، فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة، وكانت تسمى أم المساكين، لكثرة إطعامها المساكين، ولم تلبث عنده صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً شهرين أو ثلاثة، فتوفيت رضي الله عنها.

التاسعة: جُويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وكانت سُبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها سنة ست من الهجرة، وتوفيت سنة (56) رضي الله عنها.

العاشرة: صفية بنت حُييّ من ولد هارون عليه السلام، سبيت من خيبر، وكانت تحت كنانة بن أبي الْحُقيق، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، فأعتقها، وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، وتوفيت سنة (36)، وقيل:(50) رضي الله عنها.

الحادية عشرة: ميمونة بنت الحارث الهلالية، رضي الله عنها، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بسَرِفَ، وبنى بها فيها، وماتت فيها، وهي على سبعة أميال من مكة، وهي آخر من تزوّجها من

ص: 182

أمهات المؤمنين، توفيت سنة (63) رضي الله عنها.

فهؤلاء جملة من دخل بهن من النساء.

قال الحافظ أبو محمد المقدسي وغيره: وعقد على سبع، ولم يدخل بهنّ.

فالصلاة على أزواجه صلى الله عليه وسلم تابعة لاحترامهنّ، وتحريمهن على الأمّة، وأنهنّ نساؤه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن فارقها في حياتها، ولم يدخل بها لا يثبت لها أحكام زوجاته اللاتي دخل بهنّ، ومات عنهنّ صلى الله عليه، وعلى أزواجه، وذرّيته وسلّم تسليماً

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدم الكلام على أزواجه صلى الله عليه وسلم نظماً من كلام الحافظ العراقي رحمه الله تعالى في "أبواب الغسل" رقم -170/ 264 - ، وتقدم هناك فوائد كثيرة، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثالثة:

في قوله "وذرّيته"، وفيه بحثان:

البحث الأول: فى اشتقاقها، وفيه ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنها من ذرَأَ اللهُ الخلقَ: أي نشرَهم، وأظهرهم، إلا أنهم تركوا همزها استثقالاً، فأصلها ذُرِّيئَةٌ بالهمز فُعِّيلَةٌ من الذّرْء. وهذا اختيار صاحب "الصَّحَاح" وغيره.

القول الثاني: أن أصلها من الذّرّ، وهو النمل الصغار، وكان قياس هذه النسبة "ذَرّيّة" بفتح الذال، وبالياء، لكنهم ضموا أوّلها، وهمّزوا آخرها، وهذا من باب تغيير النسب.

وهذا القول ضعيف من وجوه:

منها: مخالفة باب النسب.

ومنها: إبدال الراء ياء، وهو غير مقيس.

ومنها: أنه لا اشتراك بين الذّرّيّة والذّرّ إلا في الذال والراء، وأما في المعنى فليس مفهوم أحدهما مفهوم الآخر.

ومنها: أن الذرّ من المضاعف، والذُّرّيّة من المعتلّ، أو المهموز، فأحدهما غير الآخر.

القول الثالث: أنها من ذَرا يذرُو: إذا فرّق، من قوله تعالى:{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] وأصلها على هذا ذَرْيَوَة فَعْلَيَة من الذّرْو، ثم قلبت الواو ياء لسبق إحداهما بالسكون.

(1)

راجع "جلاء الأفهام" ص 173 - 201.

ص: 183

والقول الأول أصح، لأن الاشتقاق والمعنى يشهدان له، فإن أصل هذه المادّة من "الذرء"، قال الله تعالى:{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] وفي الحديث: "أعوذ بكلمات الله التامّات التي لا يُجاوزهن بَرّ، ولا فاجر من شرّ ما خلق، وذرَأَ، وبَرَأَ"

(1)

وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] وقال تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [النحل: 13]. فالذُّرّيّة فُعْلية منه بمعنى مفعولة، أى مذروءة، ثم أبدلوا همزها، فقالوا: ذُرّيّة.

البحث الثاني: في معناها:

(اعلم): أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن الذرية تقال على الأولاد الصغار والكبار أيضاً، وإنما الخلاف، هل تقال على الآباء، أم لا؟ ، ففيه قولان:

(أحدهما): أنهم يُسَمَّون ذرّيّة أيضاً، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41].

(الثاني): أنه أنكر ذلك جماعة من أهل اللغة، وقالوا: لا يجوز هذا في اللغة، والذرّيّة كالنسل والعقب، لا تكون إلا للعمود الأسفل، ولهذا قال تعالى:{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} [الأنعام: 87]، فذكر جهات النسب الثلاث من فوق، ومن أسفل، ومن الأطراف.

قالوا: وأما الآية التي أستشهد بها، فلا دليل فيها، لأن الذرية فيها لم تضف إليهم إضافة نسل وإيلاد، وإنما أضيفت إليهم بوجه ما، والإضافة تكون بأدنى ملابسة، واختصاص، كما في قول الشاعر:[من الطويل]

إِذَا كَوْكَبُ الْخَرْقَاءِ لَاحَ بِسُحْرَةٍ

(2)

سُهَيْلٌ أَذَاعَتْ غَزْلَهَا فِي الْقَرَائِبِ

فأضاف إليها الكوكب، لأنها كانت تغزل إذا لاح وظهر، وقيل في الآية: غير ذلك.

إذا ثبت هذا فالذّرّيّة الأولاد وأولادهم، وهل يدخل فيها أولاد البنات؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد:

(إحداهما) يدخلون، وهو مذهب الشافعي.

(والثانية): لا يدخلون، وهو مذهب أبي حنيفة.

واحتجّ من قال بدخولهم بأن المسلمين مجمعون على دخول أولاد فاطمة رضي الله عنها في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم المطلوب لهم من الله الصلاة، لأن أحداً من بناته لم يُعقب غيرُها، فمن

(1)

أخرجه أحمد 3/ 419 بسند رجاله ثقات، وأخرجه مالك في "الموطإ" 2/ 950 مرسلاً.

(2)

"السُّحْرَةُ" بضم، فسكون: السَّحَرُ.

ص: 184

انتسب إليه صلى الله عليه وسلم من أولاد ابنته، فإنما هو من جهة فاطمة خاصّةً، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته:"إن ابني هذا سيد"

(1)

فسماه ابنه، ولما أنزل الله سبحانه آية المباهَلَة:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الآية [آل عمران: 61] دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة، وحسناً، وحسيناً، وخرج للمباهلة.

قالوا: وأيضاً، فقد قال الله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} [الأنعام: 84 - 85] ومعلوم أن عيسى لم ينتسب إلى إبراهيم إلا من جهة أمه مريم عليهما السلام.

وأما من قال بعدم دخولهم، فحجته أن ولد البنات إنما ينتسبون إلى آبائهم حقيقةً، ولهذا إذا وَلَّدَ الهذليُّ، أو التيميُّ، أو العدويُّ هاشميةً لم يكن ولدها هاشمياً، فإن الولد في النسب يتبع أباه، وفي الحرية والرّقّ أمه، وفي الدين خير الأبوين ديناً، ولهذا قال الشاعر [من الطويل]:

بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا

بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ

ولو أوصى، أو وقف على قبيلة لم يدخل فيها أولاد بناتها من غيرها.

قالوا: وأما دخول أولاد فاطمة رضي الله عنها في ذرّيّة البني صلى الله عليه وسلم، فلشرف هذا الأصل العظيم، والوالد الكريم الذي لا يُدَانيه أحد من العالمين سَرَى، ونَفَذَ إلى أولاد البنات، لقوّته، وجلالته، وعظم قدره، ونحن نرى من لا نسبة له إلى هذا الجناب العظيم من العظماء والملوك وغيرهم تسري حرمة إيلادهم وأبوّتهم إلى أولاد بناتهم، فتلحظهم العيون بلحظ أبنائهم، ويكادون يُضرِبون عن ذكر آبائهم صفحاً، فما الظن بهذا الإيلاد العظيم قدرُهُ، الجليل خَطَره.

قالوا: وأما تمسككم بدخول المسيح في ذرّيّة إبراهيم فلا حجة لكم فيه، فإن المسيح لم يكن له أب، فنسبه من جهة الأب مستحيل، فقامت أمه مقام أبيه، ولهذا ينسبه الله سبحانه إلى أمه، كما ينسب غيره من ذوي الآباء إلى أبيه، وهكذا كلّ من انقطع نسبه من جهة الأب، إما بلعان، أو غيره، فأمه في النسب تقوم مقام أبيه وأمه، ولهذا تكون في هذه الحال عصبته في أصحّ الأقوال، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو مقتضى النصوص، وقول ابن مسعود رضي الله عنه وغيره، والقياس يشهد له بالصحّة، لأن النسب في الأصل للأب، فإذا انقطع من جهته عاد إلى الأم، فلو قُدّر

(1)

أخرجه البخاري، وأصحاب السنن.

ص: 185

عوده من جهة الأب رجع من الأمّ إليه. انتهى مختصراً من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة:

استدل الإمام البخاري رحمه الله تعالى بحديث الباب على جواز الصلاة على غير الأنبياء، فقال في "صحيحه":

"باب هل يُصَلّى على غير النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

ثم أسند عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه، قال: كان إذا أتى رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بصدقته، قال:"اللَّهم صل عليه"، فأتاه أبي بصدقته، فقال:"اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى".

ثم ذكر حديث أبي حميد رضي الله عنه المذكور في الباب.

قال في "الفتح": قوله: "بابٌ هل يُصَلّى على غير النبى صلى الله عليه وسلم". أي استقلالاً، أو تبعاً، ويدخل في الغير الأنبياءُ والملائكة والمؤمنون.

فأما مسألة الأنبياء، فورد فيها أحاديث:

(فمنها): حديث علي رضي الله عنه في الدعاء بحفظ القرآن، ففيه:"وصلّ عليّ، وعلى سائر النبيين". أخرجه الترمذي، والحاكم.

وحديث بُرَيدة رضي الله عنه رفعه: "لا تتركن في التشهد الصلاة عليّ وعلى أنبياء الله" الحديث، أخرجه البيهقي بسند واه.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "صلّوا على أنبياء الله" الحديث، أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف.

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "إذا صلّيتم علي، فصلُّوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثني". أخرجه الطبراني، وسنده ضعيف أيضًا.

وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم، عن عكرمة، عنه، قال:"ما أعلمُ الصلاةَ تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم"، وهذا سند صحيح.

وحُكي القول به عن مالك، وقال: ما تُعُبِّدْنا به. وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره.

وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز. وقال سفيان: يكره أن يصلى إلا على

(1)

"جلاء الأفهام" ص 202 - 208.

ص: 186

نبيّ، ووجدت بخط بعض شيوخي مذهب مالك: لا يجوز أن يُصلَّى إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء، وما ينبغي لنا أن نتعدّى ما أُمرنا به.

وخالفه يحيى بن يحيى، فقال

(1)

: وأحتجّ بأن الصلاة دعاء بالرحمة، فلا يُمنع إلا بنصّ، أو إجماع.

قال عياض: والذي أميل إليه قول مالك، وسفيان، وهو قول المحققين من المتكلمين، والفقهاء قالوا: يُذكَرُ غير الأنبياء بالرضا والغفران، والصلاةُ على غير الأنبياء -يعني استقلالاً- لم يكن من الأمر المعروف، وإنما أُحدثت في دوله بني هاشم.

وأما الملائكة، فلا أعرف فيه حديثًا نصّا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت، لأن الله تعالى سمّاهم رُسُلاً.

وأما المؤمنون، فاختُلف فيهم، فقيل: لا تجوز إلا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصّةً، وحكي عن مالك كما تقدّم.

وقالت طائفة: لا تجوز مطلقاً، استقلالاً، وتجوز تَبَعاً فيما ورد به النصّ، أو ألحق به، لقوله تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الآية [النور: 63]، ولأنه لما علّمهم السلام، قال:"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، ولما علّمهم الصلاة مصر ذلك عليه، وعلى أهل بيته.

وهذا القول اختاره القرطبى في "المفهم"، وأبو المعالي من الحنابلة، وهو اختيار اين تيمية من المتأخرين.

وقالت طائفة: تجوز تبعاً مطلقاً، ولا تجوز استقلالاً. وهذا قول أبي حنيفة وجماعة.

وقالت طائفة: تكره استقلالاً، لا تبعاً، وهي رواية عن أحمد. وقال النووي: هو خلاف الأولى.

وقالت طائفة: تجوز مطلقاً، وهو مقتضى صنيع البخاريّ رحمه الله، فإنه صدّر بالآية، وهي قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ، ثم عقبه بالحديث الدالّ على الجواز مطلقاً،، وعقّبه بالحديث الدّالّ على الجواز تبعاً.

فأما الأول، فسيأتي شرحه في "كتاب الزكاة" -13/ 2459 - إن شاء الله تعالى. ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عُبَادة رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه، وهو يقول: "اللَّهم اجعل

(1)

هكذا عبارة "الفتح"، ولعله سقط منه "يجوز"، أو نحوه، فليحرر.

ص: 187

صلواتك، ورحمتك، على آل سعد بن عبادة". أخرجه أبو داود، والنسائي بسند جيد.

وفي حديث جابر رضي الله عنه: "أن امرأته، قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: صلِّ عليّ وعلى زوجي، ففعل". أخرجه أحمد مطوّلاً ومختصراً، وصححه ابن حبّان.

وهذا القول جاء عن الحسن، ومجاهد، ونصّ عليه أحمد في رواية أبي داود، وبه قال إسحاق، وأبو ثور، وداود، والطبريّ.

واحتجّوا بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبى هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:"إن الملائكة تقول لروح المؤمن: صلى الله عليك، وعلى جسدك".

وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهما أن يخصّا من شاءا بما شاءا، وليس ذلك لأحد غيرهما.

وقال البيهقي رحمه الله: يحتمل قول ابن عباس رضي الله عنهما بالمنع إذا كان على وجه التعظيم، لا ما كان إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة انتهى ما في "الفتح" ببعض تصرّف

(1)

.

ولقد حقق الموضوع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وناقش الأدلّة، وأجاد وأفاد، ثم قال في آخر البحث: ما نصه:

وفصل الخطاب في هذه المسألة أن الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون آله وأزواجه وذريته، أو غيرهم، فإن كان الأول فالصلاة عليهم مشروعة، مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وجائزة مفردة.

وأما الثاني: فإن الملائكة، وأهل الطاعة عموماً الذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم جاز ذلك أيضاً، فيقال: اللَّهم صلّ على ملائكتك المقرّبين، وأهل طاعتك أجمعين، وإن كان شخصاً معيناً، أو طائفة معيّنةً كُره أن يتخذ الصلاة عليه شعاراً، لا يُخلّ به، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه، ولاسيّما إذا جعلها شعاراً له، ومنع منها نظيرَه، أو من هو خير منه، وهذا كما تفعل الرافضة بعلي رضي الله عنه، فإنهم حيث ذكروه قالوا: عليه الصلاة والسلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه، فهذا ممنوع، لاسيما إذا اتُخذ شعاراً، لا يُخَلّ به، فتركه حينئذ متعيّن، وأما إن صلى عليه أحياناً بحيث لا يجعل ذلك شعاراً كما يصلي على دافع الزكاة، وكما قال ابن عمر للميت: صلى الله عليه،

(2)

وكما صلى

(1)

"فتح" جـ 12 ص 461 - 462.

(2)

أخرجه إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة" بسند صحيح، ولفظه:"عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يكبر على الجنازة، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: اللهم بارك فيه، وصل عليه، واغفر له، وأورده حوض نبيك".

ص: 188

النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة وزوجها

(1)

، وكما روي عن علي من صلاته على عمر رضي الله عنهما، فهذا لا بأس به.

وبهذا التفصيل تتفق الأدلّة، وينكشف وجه الصواب. والله تعالى ولي التوفيق انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حققه العلامة ابن القيم رحمه الله حسنٌ جدّاً، فالحق جواز الصلاة على غير الأنبياء من المؤمنين استقلال ما لم يمنع منه مانع، كما بينه ابن القيم في كلامه المذكور. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: اختلفوا في "السلام"، هل هو في معنى "الصلاة"، فيكره أن يقال: السلام على فلان، أو قال فلان عليه السلام؟ فكرهه طائفة، منهم: أبو محمد الجُوَيني، ومنع أن يقال: عن علي عليه السلام.

وفرّق آخرون بينه وبين الصلاة، فقالوا: السلام يشرع في حقّ كل مؤمن حيّ وميت، وحاضر وغائب، فإنك تقول: بلّغ فلاناً مني السلام، وهو تحية أهل الإسلام، بخلاف الصلاة، فإنها من حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول المصلي:"السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين"، ولا يقول: الصلاة علينا، وعلى عباد الله الصالحين، فعلم الفرق. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أنه مثل الصلاة، فإن كان شعاراً لبعض الناس، كقول الشيعة: علي عليه السلام، فيكره، وإلا فلا، كما تقدم التفصيل في كلام ابن القيّم في الصلاة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة:

أورد المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب -"بابٌ كيف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"- أنواعاً من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن خمسة من الصحابة رضي الله عنهم، هم: أبو مسعود البدري، وكعب بن عُجْرة، وطلحة بن عبيد الله، وزيد بن خارجة، وأبو سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنهم.

وذكر ممن رُويت عنه فيما مضي 46/ 1283 ابنَ مسعود، و47/ 1283 - طلحةَ بنَ عبيد الله، و48/ 1284 - فَضَالةَ بن عُبيد.

وسيأتي له في 55/ 1296 - أبو هريرة، وفي -55/ 1297 - أنس بن مالك رضي

(1)

أخرجه أحمد، وأبو داود بسند قويّ كما تقدم من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

"جلاء الأفهام" ص 379.

(3)

"جلاء الأفهام" ص 379.

ص: 189

الله تعالى عنهم.

فجملة مَن رُوي عنه أحاديثُ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند المصنف عشرة أنفس.

وقد ورد عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم غير هؤلاء، وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "جَلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" هؤلاء، وزاد عليهم غيرهم، فممن زاده:

على بن أبي طالب، وأبو هريرة، وبُرَيدة بن الحصيب، وسهل بن سعد الساعديّ، وعمر بن الخطاب، وعامر بن ربيعة، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، وأوس ابن أوس، والحسن، والحسين ابنا علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبراء بن عازب، ورُوَيفع بن ثابت الأنصاريّ، وجابر بن عبد الله، وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبو أُمامة الباهلي، وعبد الرحمن بن بشر بن مسعود

(1)

، وأبو بردة بن نيار، وعمار بن ياسر، وجابر بن سمرة، وأبو أمامة بن سهل ابن حُنيف، عن رجل من الصحابة، ومالك بن الحُويرث، وعبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبَيديّ، وعبد الله بن عباس، وأبو ذرّ، وواثلة بن الأسقع، وأبو بكر الصديق، وعائشة، وعبد الله بن عمرو، وأبو الدرداء، وسعيد بن عمير الأنصاريّ، عن أبيه عُمير، وهو من البدريين، وحَبّان بن منقذ رضي الله تعالى عنه أجمعين.

وذكر ابن القيم رحمه الله ما لهؤلاء من الأحاديث بأسانيدها، وتكلم عليها بما يكفي ويشفي، فلْيُرَاجع كتابه المذكور. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة:

في ذكر قاعدة فى هذه الصلوات التي اختلفت ألفاظها، ومثلُها الأذكار، والأدعيةُ التي رُويت بأنواع مختلفة، كأنواع الاستفتاحات، وأنواع التشهدات في الصلاة، وأنواع الأذكار، والأدعية التي في الركوع، والسجود، وفي الرفع منهما:

قد سلك بعض المتأخرين

(2)

في ذلك مسلك الجمع بينها، فقال: يستحب له أن يجمع بين تلك الألفاظ المختلفة، ورأى أن ذلك أفضل ما يُقال فيها، فرأى أنه يستحبّ للمصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "اللهم صل على محمد النبي الأمّي، وعلى آل محمد، وأزواجه، وذرّيّته، وارحم محمداً، وآل محمد، وأزواجه، وذرّيّته، كما

(1)

لكن هذا تابعي كما تقدم، وهو الراوي عن أبي مسعود عند المصنف رقم 50/ 1286 فلا يعدّ حديثه مستقلاً مثل أحاديثهم، فتنبّه.

(2)

هو النووي رحمه الله ذكر نحو هذا في "شرح المهذّب"، وكذا في "التحقيق"، و"الفتاوى"، كما قاله في "الفتح" جـ 12 ص 446 - 447.

ص: 190

صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم"، وكذلك في البركة والرحمة.

وكذا الداعي بدعاء الصدّيق رضي الله عنه يقول: "اللَّهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً كبيراً .... الخ".

ويقول في دعاء الاستخارة: "اللَّهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، وعاجل أمري، وآجله"، ونحو ذلك.

قال: ليصيب ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يقيناً فيما شكّ فيه الراوي، ولتجتمع له الأدعية فيما اختلفت ألفاظها.

ونازعه في ذلك آخرون

(1)

وقالوا: هذا ضعيف من وجوه:

(أحدها): أن هذه طريقة مُحدَثة، لم يَسبقْ إليها أحد من الأئمة المعروفين.

(الثاني): أن صاحبها إن طَرَدها لزمه أن يَستَحبّ للمصلي بجميع أنواع الاستفتاحات، وأن يتشهد بجميع أنواع التشهدات، وأن يقول في ركوعه وسجوده جميع الأذكار الواردة فيه، وهذا باطل قطعاً، فإنه خلاف عمل الناس، ولم يستحبّه أحد من أهل العلم، وهو بدعة، وإن لم يطردها تناقض، وفرّق بين متماثلين.

(الثالث): أن صاحبها ينبغي له أن يستحبّ للمصلي والتالي أن يجمع بين القرءات المتنوّعة في التلاوة في الصلاة وخارجها، قالوا: ومعلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحبّ ذلك للقارىء في الصلاة، ولا في خارجها، إذا قرأ قراءة عبادة وتدبّر، وإنما يَفعَلُ ذلك القُرّاءُ أحياناً ليمتحنوا بذلك حفظ القارىء لأنواع القراءات، وإحاطته بها، واستحضاره إيّاها، والتمكن من استحضارها عند طلبها، فذلك تمرين، وتدريب، لا تعبّد يُستحبّ لكلّ تال وقارىء، ومع هذا ففي ذلك للناس كلام ليس هذا موضعه.

بل المشروع في حقّ التالي أن يقرأ بأيّ حرف شاء، وإن شاء أن يقرأ بهذا مرّةً وبهذا مرّة جاز ذلك

وكذلك المصلي إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء يصلي بلفظ كعب بن عُجرة، وإن شاء بلفظ أبي حُميد الساعديّ، وإن شاء بلفظ أبي سعيد الخدري، وإن شاء بلفظ أبي

(1)

قال في "الفتح": وقال الأذرعي: لم يُسْبَق إلى ما قال، والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات، ويقول كل ما ثبت، هذا مرّة، وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة في حديث واحد. انتهى.

قال الحافظ: وكأنه أخذه من كلام ابن القيم، ثم ذكر معنى كلام ابن القيم رحمه الله. راجع "الفتح" جـ 12 ص 446 - 448.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تبين من كلام الأذرعي أن النووي هو أول من قال بهذا الجمع. والله تعالى أعلم.

ص: 191

طلحة رضي الله تعالى عنهم، وإن شاء صلى بهذا مرة، وبهذا مرةً، وهكذا، ولا يجمع بين ألفاظها المختلفة.

وكذلك إذا تشهد، فإن شاء تشهد بتشهد ابن مسعود، وإن شاء تشهد بتشهد ابن عباس، وإن شاء بتشهد ابن عمر، وإن شاء بتشهد عائشة رضي الله عنهم أجمعين.

وكذلك في الاستفتاح إن شاء استفتح بحديث علي، وإن شاء بحديث أبي هريرة، وإن شاء باستفتاح عمر رضي الله عنهم أجمعين، وإن شاء فعل هذا مرةً، وفعل هذا مرةً.

وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع، إن شاء قال:"اللَّهم ربنا لك الحمد"، وإن شاء قال:"ربنا لك الحمد"، وإن شاء قال:"ربنا ولك الحمد"، ولا يستحبّ له أن يجمع بين ذلك.

وكذلك الداعي بدعاء الصديق رضي الله عنه يقول مرةً: "ظلمت نفسي ظلماً كثيراً"، ومرّة يقول:"كبيراً"، ولا يجمع بين اللفظتين.

وقد احتجّ غير واحد من الأئمة، منهم الشافعي رحمه الله على جواز الأنواع المأثورة في التشهدات، ونحوها بالحديث الذي رواه أصحاب الصحيح، والسنن، وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"أنزل القرآن على سبعة أحرف"، فجَوّز النبي صلى الله عليه وسلم، القراءة بكلّ حرف من تلك الأحرف، وأخبر أنه "شاف كاف"، ومعلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ بتلك الأحرف على سبيل البدل، لا على سبيل الجمع، كما كان الصحابة يفعلونه.

(الرابع): أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين تلك الألفاظ المختلفة في آن واحد، بل إما أن يكون قال هذا مرة، وهذا مرة، كألفاظ الاستفتاح، والتشهد، وأذكار الركوع، والسجود، وغيرها، فاتباعه صلى الله عليه وسلم يقتضي أن لا يجمع بينها، بل يقال هذا مرة، وهذا مرة، وإما أن يكون الراوي قد شكّ في أيّ الألفاظ قال، فإن ترجّح عند الداعي بعضها صار إليه، وإن لم يترجّح عنده بعضها كان مخيّراً بينها، ولم يشرع له الجمع، فإن هذا نوع ثالث لم يُروَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيعود الجمع بين تلك الألفاظ في آن واحد على مقصود الداعي بالإبطال، لأنه قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففعل ما لم يفعله قطعاً.

(الخامس): أن المقصود إنما هو المعنى، والتعبير عنه بعبارة مؤدية له، فإذا عبّر عنه بإحدى العبارتين حصل المقصود، فلا يَجمع بين العبارات المتعددة.

(السادس): أن أحد اللفظين بدل عن الآخر، فلا يُستحبّ الجمع بين البدل والمبدل معاً، كما لا يستحبّ ذلك في المبدلات التي لها أبدال. والله تعالى أعلم. أفاده العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى وهو بحث نَفِيس، وتحقيق أَنِيس والله تعالى أعلم

(1)

.

(1)

"جلاء الأفهام" ص 258 - 262.

ص: 192

وقال في "الفتح" بعد ذكر معنى كلام ابن القيم رحمه الله المذكور: ما نصه:

والذي يظهر أن اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر سواءً، كما في "أزواجه"، و"أمهات المؤمنين" فالأولى الاقتصار في كل مرة على أحدهما، وإن كان اللفظ يستقلّ بزيادة معنى ليس في اللفظ الآخر البتة، فالأولى الإتيان به، ويحمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر. وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئاً ما، فلا بأس بالإتيان به، احتياطاً.

وقالت طائفة، منهم الطبريّ: إن ذلك الاختلاف مباح، فأيّ لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله، وأبلغه، واستدلّ على ذلك باختلاف النقل عن الصحابة، فذكر ما نُقل عن عليّ رضي الله عنه، وهو حديث موقوف طويل، أخرجه سعيد بن منصور، والطبري، والطبراني، وابن فارس، وأوله:"اللَّهمّ داحي المدحُوّات" إلى أن قال: "اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحيتك على محمد عبدك، ورسولك

" الحديث.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "اللَّهم اجعل صلواتك، وبركاتك، ورحمتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبين، محمد عبدك ورسولك

" الحديث. أخرجه ابن ماجه، والطبريّ

(1)

. انتهى ما في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى من أولوية الإتيان باللفظ فيما إذا اختلف المعنى عندي محلُّ ذلك إذا كان من حديث صحابي واحد، وذلك كأن يختلف الرواة على حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، ونحوه.

وأما إذا كان الاختلاف في أكثر من صحابي واحد، فلا ينبغي الإتيان به، لأن ذلك يُحمل على اختلاف التعليم النبوي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علّم صيغ الصلاة عليه بألفاظ مختلفة، تسهيلاً على الأمة، كما اختلف تعليمه في صيغ التشهدات، وفي أحرف القرآن، كل ذلك للتوسيع والتسهيل، فلا ينبغي أن يُتجاوز تعليمه بالجمع المذكور.

وخلاصة الأمر في ذلك أن هذا الاختلاف في صيغ الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم من جنس الاختلاف في أحرف القرآن، فيكون من المباح الذي خُيّر فيه المصلي، فبأي صيغة من الصيغ الواردة الصحيحة صَلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى بما أمره الله تعالى به، فينبغي له أن يأتي بهذه الصيغة تارةً، وبهذه الصيغة تارة أخرى، حتى يستعمل كلَّ ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم منها، وأما الجمع بين تلك الصيغ، فهو خروج عن التعليم النبوي كُلِّها،

(1)

ضعيف لاختلاط أحد رواته، وهو المسعوديّ.

(2)

"فتح" جـ 12 ص 448.

ص: 193

فمن فعل ذلك لم يكن ممتثلاً للأمر جزماً، ولم يخرج عن العهدة بيقين. فليُتَنَبَّهْ لهذا الأمر الدقيق، فإنه من مزالّ الأقدام.

وقد تقدم نظير هذا البحث في "كتاب الافتتاح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السابعة:

ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ما حاصله: إن أكثر الأحاديث الصحاح والحسان، بل كلّها مصرّحة بذكر "محمد، وآل محمد"، وبذكر "آل إبراهيم"، فقط، أو بذكر "إبراهيم" فقط، قال: ولم يجىء في حديث صحيح بلفظ "إبراهيم، وآل إبراهيم" معًا، وإنما أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن السَّبّاق، عن رجل من بني الحارث، عن ابن مسعود، ويحى مجهول، وشيخه مبهم، فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قويّ، لكنه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النسائي، والدارقطنيّ من حديث طلحة.

وتعقبه الحافظ رحمه الله في "الفتح" بأنه وقع في "صحيح البخاري" في "أحاديث الأنبياء" في ترجمة إبراهيم عليه السلام من طريق عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، بلفظ:"كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"، وكذا في قوله:"كما باركت". وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدريّ من رواية محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الله بن زيد، عنه، أخرجه الطبريّ، بل أخرجه الطبريّ أيضاً في رواية الحكم

(1)

، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أخرجه من طريق عمرو بن قيس، عن الحكم بن عُتيبة، فذكره بلفظ:"على محمد، وآل محمد، إنك حميد مجيد"، وبلفظ:"على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

وأخرجه أيضاً من طريق الأجلح، عن الحكم مثلَه سواءً، وأخرجه أيضاً من طريق حنظلة بن عليّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه أبو العباس السرّاج من طريق داود بن قيس، عن نعيم المجمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟، قال:"قولوا: "اللَّهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت، وباركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

ومن حديث بُريدة رفعه: "اللَّهم اجعل صلواتك، ورحمتك، وبركاتك على محمد،

(1)

هكذا في "الفتح""في رواية الحكم"، ولعل الصواب "من رواية الحكم" بـ"من". والله أعلم

ص: 194

وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم"، وأصله عند أحمد. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فتبيّن بهذا أن ما قاله ابن القيم رحمه الله من عدم صحة الحديث بالجمع بين "إبراهيم"، و"آل إبراهيم" غير صحيح، فقد صح الجمع بينهما في "صحيح البخاري" وغيره. فتنبّه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثامنة:

وقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه كما رواه البيهقي عنه مرفوعاً، زيادة "وارحم" ولفظه:"إذا تشهد أحدكم في الصلاة، فليقل: اللَّهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، وأرحم محمداً، وآل محمد كما صليت، وباركت، وترحّمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". وأخرجه الحاكم، وصححه، واغترّ بتصحيحه قوم، فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق، وهو مجهول، عن رجل مبهم.

نعم أخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود موقوفًا عليه، ولفظه: "اللَّهم اجعل صلواتك، ورحمتك، وبركاتك على محمد عبدك ورسولك

" الحديث. وفي سنده المسعودي، وهو مختلط.

وقد بالغ ابن العربي في إنكار ذلك، فقال: حَذَارِ مما ذكره ابن أبي زيد من زيادة "وترحّم"، فإنه قريب من البدعة، لأنه صلى الله عليه وسلم علّمهم كيفية الصلاة عليه بالوحي، ففي الزيادة على ذلك استدراك عليه انتهى.

قال الحافظ: فإن كان إنكاره لكونه لم يصحّ فمسلّم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال:"ارحم محمداً" مردودة، لثبوت ذلك في عدّة أحاديث، أصحها في التشهد:"السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله، وبركاته".

قال: ثم وجدت لابن أبي زيد مستنداً، فأخرج الطبري في "تهذيبه" من طريق حنظلة ابن عليّ، عن أبي هريرة رفعه:"من قال: اللَّهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وترحّم على محمد، وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة، وشفعت له". ورجال سنده رجال الصحيح، إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاص، الراوي له عن حنظلة بن علي، فإنه مجهول

[تنبيه]: هذا كله فيما يُقال مضموماً إلى السلام، أو الصلاة، وقد وافق ابنَ العربي

ص: 195

الصيدلانيُّ من الشافعية على المنع، وقال أبو القاسم الأنصاريّ شارح "الإرشاد": يجوز ذلك مضافاً، ولا يجوز مفرداً، ونقل عياض عن الجمهور الجواز مطلقاً، وقال القرطبي في "المفهم": إنه الصحيح، لورود الأحاديث به، وخالفه غيره، ففي "الذخيرة" من كتب الحنفية عن محمد يكره ذلك، لإيهامه النقص، لأن الرحمة غالباً إنما تكون عن فعل ما يلام عليه، وجزم ابن عبد البرّ، فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "رحمه الله"، لأنه قال:"من صلى عليّ"، ولم يقل:"من ترحم علي"، ولا "من دعالي"، وإن كان معنى الصلاة الرحمة

(1)

، ولكنه خُصّ هذا اللفظ تعظيماً له، فلا يُعدَل عنه إلى غيره. ويؤيده قوله تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] انتهى.

قال الحافظ: وهو بحث حسنٌ، لكن في التعليل الأول نظر، والمعتمد الثاني. والله أعلم انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجح عندي أنه لا يزاد في الصلاة الإبراهيمية "وترحم" لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والحاصل أنه لا يزاد إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق صحيح، لأن الزيادة على تعليمه صلى الله عليه وسلم يكون استدراكاً على الوحي.

وأما الترحم في غير ذلك كأن يقال عند سماع اسمه: "رحمه الله" كما يقال ذلك عند ذكر اسم العلماء، فالأولى أن لا يفعل لعدم ثبوت دليل يُعتَمَد عليه، فتنبه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة التاسعة: في زيادة لفظ "سيدنا" في الصلاة الإبراهيمية:

(اعلم): أن هذه المسألة مما شاع وذاع النزاع فيه بين المتأخرين، وليس فيها أثر صحيح من المتقدمين، وقد سئل عنها الحافظ ابن حجر رحمه الله، فأجاب فيها بجواب قاطع للنزاع، لمن كان قصده الاتباع، لا لمن شأنه الابتداع، ودونك نص الفتوى:

قال الحافظ محمد بن محمد بن محمد الغرابيلي (790 - 835) وكان ملازماً للحافظ رحمه الله:

سئل -أي الحافظ ابن حجر- أمتع الله بحياته عن صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، أو خارج الصلاة، سواء قيل بوجوبها، أو ندبيتها، هل يشترط فيها أن يصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة، كأن يقول مثلاً: اللَّهم صل على سيدنا محمد، أو على سيد الخلق، أو

(1)

تقدم أن الصحيح أن صلاة الله معناها: ثناؤه على عبده. فتنبّه.

(2)

"فتح" جـ 12 ص 449.

ص: 196

على سيد ولد آدم؟ أو يقتصر على قوله: اللَّهم صل على محمد؟، وأيهما أفضل، الإتيان بلفظ السيادة، لكونها صفة ثابتة له صلى الله عليه وسلم، أو عدم الإتيان به لعدم ورود ذلك في الآثار؟

فأجاب رضي الله عنه:

نعم اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم، كما لم يكن يقول عند ذكره صلى الله عليه وسلم:"صلى الله عليه وسلم" وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذُكر، لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً لجاء عن الصحابة، ثم عن التابعين، ولم نقف في شىء من الآثار عن أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم قال ذلك، مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك.

وهذا الإمام الشافعي أعلى الله درجته، وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه:"اللَّهم صل على محمد" إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده، وهو قوله:"كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون"، وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه "سبحان الله عدد خلقه" فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين، ورآها قد أكثرت التسبيح وأطالته، "لقد قلت بعدك كلمات، لو وُزنت بما قلت لوزنتهنّ"، فذكر ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء.

وقد عقد القاضي عياض باباً في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب "الشفا" ونقل فيه آثاراً مرفوعة عن جماعة من الصحابة والتابعين ليس في شيء منها عن أحد من الصحابة وغيرهم لفظ "سيدنا".

منها حديث علي رضي الله عنه أنه كان يعلمهم كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول:"اللَّهم داحي المدحوّات، وبارىء المسموكات، اجعل سوابق صلواتك، ونوامي بركاتك، وزوائد تحيتك على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أغلق".

وعن علي رضي الله عنه أيضاً أنه كان يقول: "صلوات الله البرّ الرّحيم، والملائكة المقرّبين، والنبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، وما سبح لك من شيء يا رب العالمين على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وإمام المتقين

" الحديث.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: "اللَّهمّ اجعل صلواتك، وبركاتك، ورحمتك على محمد عبدك ورسولك، إمام الخير، ورسول رب العالمين

" الحديث.

وعن الحسن البصريّ أنه كان يقول: من أراد أن يشرب بالكأس الأروى من حوض المصطفى، فليقل:"اللَّهم صل على محمد، وعلى آله وأصحابه، وأزواجه، وأولاده، وذرّيّته، وأهل بيته، وأصهاره، وأنصاره، وأشياعه، ومحبيه".

ص: 197

فهذا ما أُوثره

(1)

من "الشفا" مما يتعلق بهيئة الصلاة عليه عن الصحابة، ومن بعدهم، وذكر فيه غير ذلك.

نعم ورد في حديث ابن مسعود أنه كان يقول في صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم اجعل فضائل صلواتك ورحمتك، وبركاتك على سيد المرسلين

" الحديث. أخرجه ابن ماجه، ولكن إسناده ضعيف.

وحديث علي المشار إليه أوّلاً أخرجه الطبراني بإسناد لا بأس به، وفيه ألفاظ غريبة رويتها مشروحة في كتاب "فضل النبي صلى الله عليه وسلم" لأبي الحسن بن الفارس.

وقد ذكر الشافعية أن رجلاً لو حلف لَيُصلّينّ على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة، فطريق الْبَرّ أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم صلّ على محمد كلما ذكره الذاكرون، وسها عن ذكره الغافلون".

وقال النووي: والصواب الذي ينبغي الجزم به أن يقال: "اللَّهم صل على محمد، وعلى آل محيد، كما صلّيت على آل إبراهيم

" الحديث

وقد تعقّبه جماعة من المتأخرين بأنه ليس في الكيفيتين المذكورتين ما يدلّ على ثبوت الأفضلية فيهما من حيث النقل، وأما من حيث المعنى فالأفضلية ظاهرة في الأول.

والمسألة مشهورة في كتب الفقه، والغرض منها أن كلّ من ذكر هذه المسألة من الفقهاء قاطبة لم يقع في كلام أحد منهم "سيدنا"، ولو كانت هذه الزيادة مندوبة ما خفيت عليهم كُلِّهم حتى أغفلوها، والخير كله في الاتباع، والله أعلم. انتهى فتوى الحافظ رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما قاله الحافظ رحمه الله أن هذه الزيادة من البدع المستحدثة في المتأخرين، فاستحسان بعض أهل العلم من المتأخرين لها مردود، لأنه لا حجة له في ذلك، ولم يؤثر عن أحد من السلف، وإنما هو مجرد استحسان بهوى، فيبطله قوله صلى الله عليه وسلم الحديث المتفق عليه:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وفي رواية لمسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رَدّ".

ونحن نعلم، ونعتقد، وكذا كل مسلم، فضلاً عن أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم سيدنا، وسيد ولد آدم أجمعين، وسيد البرية كلهم، لكن تعليمه لنا بدون ذكر لفظ السيادة يدلّ على أنه

(1)

هكذا نسخة ما نقله الشيخ الألباني من مخطوطة الفتوى في كتابه "صفة الصلاة" بلفظ "أوثره" من الإيثار، ولعل الصواب "أَثَرْتُهُ" أي نقلته. والله أعلم.

(2)

ذكر هذه الفتوى الشيخ الألباني رحمه الله في "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم"، وذكر أنه نقلها من خط الحافظ محمد بن محمد بن محمد الغرابيلي (790 - 835)، وهو من محفوظات المكتبة الظاهرية.

ص: 198

ليس من الأمور المطلوبة في صيغ الصلاة، فلا ينبغي لنا أن نتعدّى تعليمه صلى الله تعالى عليه وسلم.

ومعلوم أيضاً أن القرآن أفضل الأذكار، ومع ذلك فله محل يجوز فيه، ومحل يُنهَى عنه فيه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "نهُيتُ أن أقرأ راكعًا، أو ساجداً

" الحديث، وقد تقدّم في باب القراءة.

والحاصل أنه لا يزاد لفظ "سيدنا" في الصلاة الإبراهيمية، كما أنه لا يشرع ذلك في قراءة القرآن، فلا يقول القارىء مثلاً عند قرءة آية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}: سيدنا {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} ، وكذا في الآذان لا يقول:"أشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله".

ومن غريب ما اتفق لي أني سمعت في بعض البلدان بعضَ المؤذنين يقون ذلك، وهذا من غربة الإسلام، وظهور الجهل، وسيطرته على أرجاء المعمورة، كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله:"بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء". رواه مسلم.

فعليك أيها المسلم الحريص على دينه أن لا تتبع من أقوال من ينتسب إلى العلم إلا ما استند إلى دليل صحيح، من كتاب أو سنة، أو إجماع، ولا تكن إمّعَةً يُجيب كل ناعق، فتكونَ من الخاسرين. جعلنا الله تعالى ممن يتولاه، وجنبنا الابتداع والزيغ، والانحراف في الاعتقاد، والقول، والعمل، إنه ولي ذلك، والقادر عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌55 - (باب الْفَضْلِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

1295 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ-

(1)

قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَالْبِشْرُ

(2)

يُرَى فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ

(1)

وفي بعض النسخ قوله: "يعني ابن المبارك" ساقط.

(2)

وفي "الهندية": "والبشرى يُرَى في وجهه".

ص: 199

جَاءَنِي جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَمَا يُرْضِيكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ، إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ، إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا").

قال الجامع عفا الله تعالى عله: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم برقم -47/ 1283 - رواه المصنف هناك عن إسحاق بن منصور الْكَوسج، عن عَفّان بن مسلم، عن حماد بن سلمة به، أورده استدلالاً على فضل التسليم، وأورده هنا استدلالاً على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد تقدم الكلام عليه مستوفًى هناك.

[تنبيه]: فإن قيل: تقدم في رواية عفّان المذكورة أن البُشْرَى كانت من الله تعالى، ولفظه: "أتاني الملك، فقال: يا محمد إن ربّك يقول: أما يرضيك

" الحديث.

وهنا البُشْرى من جبريل، فكيف التوفيق بينهما؟

أجيب: بأنه لا تخاف بين الروايتين، لإمكان الجمع بينهما بأن صلاة جبريل تابعة لصلاة الله تعالى، فإذا صلى الله تعالى على المصلي صلَّى جبريل عليه، فهو نظير الحديث المتفق عليه: "إذا أحبّ الله عبدًا نادى جبريلَ، إن الله يحبّ فلاناً، فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء

" الحديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1296 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(علي بن حُجْر) المروزي، ثقة حافظ من صغار [9] تقدم 13/ 13.

2 -

(إسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير الأنصاري الزُّرقي المدني، ثقة ثبت (8) تقدم 16/ 17.

3 -

(العلاء بن عبد الرحمن) الْحُرَقي، أبو شِبْل المدني، صدوق ربما وهم [5] تقدم 107/ 143.

4 -

(أبوه) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهني المدني، مولى الْحُرَقَة، ثقة [3] تقدّم 107/ 143.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدّم 1/ 1.

(1)

وفي نسخة: "ثنا".

ص: 200

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم. وشرحه يعلم مما سيأتي في الحديث التالي، ولنتكلم هنا على تخريجه:

أخرجه المصنف رحمه الله هنا -55/ 1296 - وفي "الكبرى" -89/ 1219 - بالسند المذكور، وأخرجه (م) -2/ 17 (د) 1530 (ت) 485 (أحمد) 2/ 262، و2/ 372، و375 (الدارمي) 2775 (البخاري في "الأدب المفرد")645. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1297 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن منصور) الْكَوْسج النيسابوري، ثقة تبت [11] تقدم 72/ 88.

2 -

(محمد بن يوسف) الفريابي، ثقة فاضل [9] تقدم 14/ 418.

3 -

(يونس بن أبي إسحاق) السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوق يهم قليلاً [5] تقدم 16/ 652.

4 -

(بُريد بن أبي مريم) مالك بن ربيعهَ السَّلُوليّ البصريّ، ثقة [4] تقدم 55/ 621.

5 -

(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه، تقدّم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وفيه أنس رضي الله تعالى عنه أحد المكثرين السبعة. وآخر من مات من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالبصرة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى عليّ صلاةً واحدةً) "من" شرطية، وجوابها قوله (صلى الله عليه عشر صلوات) قال الشوكاني رحمه الله: المراد بالصلاة من الله الرحمة لعباده

(2)

، وأنه يرحمهم رحمة بعد رحمة حتى تبلغ رحمته ذلك العدد. وقيل: المراد بصلاته عليهم إقباله عليهم بعطفه،

(1)

وفي "الهندية": "عن أنس".

(2)

تقدم أن المعنى الصحيح لصلاة الله ثناؤه، فتنبه.

ص: 201

وإخراجهم من ظلمة إلى رفعة ونور، كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43] انتهى. وقال عياض: معناه: رحمه، وضاعف أجره، كقوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ} الآية [الأنعام: 160]. قال القاري: والظاهر أن هذا أقلّ المضاعفة. قال عياض: ويجوز أن تكون الصلاة على وجهها، وظاهرها كلاما يسمعه الملائكة، تشريفاً للمصلي، وتكريماً له، كما جاء:"وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" انتهى.

وقد استشكل بأنه كيف يجوز أن تكون الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم واحدة، وعلى المصلي عشراً؟.

وأجيب بأن الواحدة صفة فعل المصلي، وجزاءها عشر صلوات من الله عليه على ما قال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} .

ولا يُفهم منه أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تكون واحدة، فإن فضل الله واسع، ولو سلمنا أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تكون واحدة، فإن هذه الصلاة الواحدة من الله تساوي في الشرف مائة ألف صلاة، أو تزيد في الشرف والكرامة بمائة ألف مرّة، كما أن الجوهرة الواحدة الثمينة النفيسة تساوى فى الثمن مائة ألف فلس

(1)

. والله تعالى أعلم.

(وحُطّت عنه عشر خطيئات) ببناء الفعل للمفعول، أي غُفرت، وسُترت، ووضعت، ولعلّه اختير لفظ "حُطت" لمقابلة قوله (ورفعت له عشر درجات) في الدنيا بتوفيقه للطاعات، وفي القيامة بتثقيل الحسنات، وفي الجنة بزيادة الكرامات.

قال الطيبي رحمه الله: الصلاة من العبد طلب التعظيم والتبجيل لجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة من الله تعالى، أي في الجزاء، إن كانت بمعنى الغفران، فيكون من باب المشاكلة من حيث اللفظ، وإن كانت بمعنى التعظيم، فيكون من الموافقة لفظاً ومعنى، وهذا هو الوجه، لئلا يتكور معنى الغفران، أي مع الحطّ.

ومعنى الأعداد المخصوصة محمول على المزيد والفضل في المعنى المطلوب. كذا في "المرقاة".

قال ابن العربي رحمه الله: إن قيل: قد قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، فما فائدة هذا الحديث؟.

قلنا: فيه أعظم فائدة، وذلك أن القرآن اقتضى أن من جاء بحسنة تضاعف عشرة،

(1)

انظر "المراعاة" جـ 3 ص 260.

ص: 202

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حسنة، فمقتضى القرآن أن يُعطى عشر درجات في الجنة، فأَخبَر أن الله تعالى يصلي على من صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم عشراً، وذِكرُ الله العبدَ أعظم من الحسنة مضاعفةً.

قال: ويُحقق ذلك أن الله تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلا ذكره، وكذلك جعل جزاء ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم ذكره لمن ذكره.

قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: ولم يقتصر على ذلك حتى زاده كتابة عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفعه عشر درجات، كما ورد في الأحاديث انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذ الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

[تنبيه]: ذكروا لهذا الحديث علةً، وهي ما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى في "عمل اليوم والليلة" رقم 62 - 63 - قال: خالف مخلدُ بنُ يزيد يحيى بنَ آدم، فرواه عن يونس بن أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم، عن الحسن، عن أنس رضي الله عنه.

قال العلامة ابن القيّم رحمه الله: وهذه العلة لا تقدح فيه شيئاً، لأن الحسن لا شك في سماعه من أنس، وقد صُرِّح سماعُ بُريد بن أبي مريم من أنس أيضاً هذا الحديثَ، كما في "صحيح ابن حبان" و"مستدرك الحاكم"

(1)

ولعلّ بريداً سمعه من الحسن، ثم سمعه من أنس، فحدّث به على الوجهين، فإنه قال: كنت أُزامل الحسن في محمد

(2)

، فقال: حدثنا أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره، ثم إنه حدثه به أنس، فرواه عنه كما تقدّم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى

(3)

. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

(اعلم): أنه انفرد به المصنف رحمه الله من بين أصحاب الأصول، أخرجه هنا -55/ 1297 - وفي "الكبرى" -89/ 1220 - وفي "عمل اليوم والليلة" 362 - عن إسحاق بن منصور، عن محمد بن يوسف، عن يونس بن أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عنه. وفي "عمل اليوم والليلة" 62 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى بن آدم، عن يونس به بمعناه. و-63 - عن عبد الحميد بن محمد، عن مخلد بن يزيد، عن يونس بن

(1)

قلت: قد صرّح أيضاً بالسماع في رواية المصنف هنا.

(2)

لعله ابن سيرين.

(3)

"جلاء الأفهام" ص 34 - 35.

ص: 203

أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن الحسن البصريّ، عن أنس. و363 - عن عبد الله بن محمد بن تميم، عن حجاج عن يونس به. و364 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي نعيم، عن يونس به. ولم يقل:"يرفع له بها عشر درجات".

وأخرجه (أحمد) 3/ 261 و (ابن حبان) في "صحيحه" رقم -2390 - ، (والحاكم) في "مستدركه" 1/ 551 وقال: صحيح الإسناد، وأقرّه الذهبي. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: قد ذكر المصنف رحمه الله تعالى من أحاديث فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حديث أبي طلحة، وحديث أبي هريرة، وحديث أنس رضي الله تعالى عنهم، وبقيت أحاديث قوية تصلح للحجية، نذكرها تتميماً للفوائد، ونشرًا للعوائد:

(فمنها): حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه مرفوعاً: "من صلى عليّ من أمتي صلاةً مخلصاً من قبله صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه بها عشر سيئات". أخرجه المصنف في "عمل اليوم والليلة" رقم -65 - وصححه ابن حبان.

(ومنها): حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاةً". أخرجه الترمذي، وحسنه، وصححه ابن حبان.

(ومنها): حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: "صلاة أمتي تُعرض عليّ في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم عليّ صلاةً كان أقربهم مني منزلةً". قال الحافظ: ولا بأس بسنده.

(ومنها): حديث أوس بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ من أفضل أيّامكم يومَ الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ"، فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أَرَمْتَ؟ يعني بَليتَ، قال:"إنّ الله حَرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". رواه أحمد 4/ 8، وأبو داود -1047 و1531 - والمصنف -5/ 1374 - وصححه ابن حبان، والحاكم.

(ومنها): حديث: "البخيلُ من ذُكرت عنده، فلم يصل عليّ". أخرجه الترمذي، والمصنفط في "عمل اليوم والليلة" رقم -55 - 56 - ، وابن حبان، والحاكم، وإسماعيل القاضي، وأطنب في تخريج طرقه، وبيان الاختلاف فيه من حديث علي، ومن حديث ابنه الحسين رضي الله عنهما. ولا يقصر عن درجة الحَسَن.

(ومنها): حديث: "من نسي الصلاة عليّ خَطِىء طريق الجنة". أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، والبيهقي في "الشعَب" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وابن أبي

ص: 204

حاتم من حديث جابر رضي الله عنه، والطبراني من حديث حسين بن علي رضي الله عنهما، وهذه الطرق يشدّ بعضها بعضاً.

(ومنها): حديث "رَغِمَ أنفُ رجل ذكرت عنده، فلم يصلّ عليّ". أخرجه الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "من ذُكرت عنده، ولم يصلّ علي، فمات، فدخل النار، فأبعده الله". وله شاهد عنده، وصححه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذَرّ رضي الله عنه في الطبراني، وآخر عن أنس رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة، وآخر مرسل عن الحسن، عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبّان من حديث أبي هريرة، ومن حديث مالك بن الْحُوَيرث، ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني، ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي، وعند الحاكم من حديث كعب بن عُجْرة بلفظ:"بَعُد مَن ذُكرتُ عنده، فلم يصلّ عليّ"، وعند الطبرانيّ من حديث جابر رضي الله عنه، رفعه:"شَقِيَ عبدٌ ذُكرت عنده، فلم يصلّ عليّ" وعند عبد الرزّاق من مرسل قتادة: "من الْجَفَاء أن أُذكَرَ عند رجل، فلا يصلي عليّ".

(ومنها): حديث أبَي بن كعب رضي الله عنه: "أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أُكثر الصلاة، فما أجعل لك من صلاتي؟ قال: "ما شئت"، قال: الثلث؟، قال: "ما شئت، وإن زدت، فهو خير"، إلى أن قال: أجعل لك كل صلاتي؟ قال: "إذن تُكفى همَّك

" الحديث. أخرجه أحمد، وغيره بسند حسن.

قال الحافظ رحمه الله تعالى بعد أن ساق هذه الأحاديث: ما نصه: فهذا الجيّد من الأحاديث الواردة في ذلك، وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة، وواهية. وأما ما وضعه القُصّاص في ذلك، فلا يُحصَى كثرةً، وفي الأحاديث القوية غُنْيةٌ عن ذلك.

[تنبيه]: قال الحَليمي رحمه الله: المقصود بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التقرّب إلى الله بامتثال أمره، وقضاءُ حقّ النبي صلى الله عليه وسلم علينا.

وتبعه ابن عبد السلام رحمه الله، فقال: ليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعةً له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكنّ الله تعالى أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لَمَّا علم عجزنا عن مكافأة نبيّنا صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة عليه.

وقال ابن العربي رحمه الله: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه، لدلالة ذلك على نُصُوع العقيدة، وخلوص النيّة، وإظهار المحبة، والمداومة على الطاعة، والاحترام للواسطة الكريمة صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع

(1)

"فتح" جـ 12 ص 458 - 459.

ص: 205

والمآب.

المسألة الرابعة:

في ذكر الفوائد الحاصلة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة، فمنها:

1 -

امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.

2 -

موافقته سبحانه في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفت الصلاتان، فصلاتنا عليه دعاء وسؤال، وصلاته سبحانه ثناء وتشريف، وإفضال.

3 -

موافقته ملائكته فيها.

4 -

حصول عشر صلوات من الله تعالى على المصلي مرّة.

5 -

أنه يرفع له عشر درجات.

6 -

أنه يكتب له عشر حسنات.

7 -

أنه يُمحَى عنه عشر سيئات.

8 -

أنه يُرجى إجابة دعائه، إذا قدّمها أمامه، فهي تصاعد الدعاء إلى رب العالمين.

9 -

أنها سبب لشفاعته صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له، أو أفردها.

10 -

أنها سبب لغفران الذنوب.

11 -

أنها سبب لكفاية الله العبدَ ما أهمّه.

12 -

أنها سبب لقرب العبد منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.

13 -

أنها تقوم مقام الصدقة لذي العسرة.

14 -

أنها سبب لقضاء الحوائج.

15 -

أنه سبب لصلاة الله على المصلي، وصلاة ملائكته عليه.

16 -

أنها زكاة للمصلي وطهرة له.

17 -

أنها سبب لتبشير العبد بالجنّة قبل موته.

18 -

أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.

19 -

أنها سبب لرد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وَالسلامَ على المصلي، والمسلّم عليه.

20 -

أنها سبب لتذكّر العبد ما نسيه.

21 -

إنها سبب لطيب المجلس، وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة.

22 -

أنها سبب لنفي الفقر.

23 -

أنها تنفي عن العبد اسم البخل، إذا صلى عليه عند ذكره صلى الله عليه وسلم.

24 -

أنها ترمي صاحبها على طريق الجنة، وتخطىء بتاركها عن طريقها.

25 -

أنها تُنجي من نتن المجلس الذي لا يذكر فيه الله ورسوله، ويُحمَد، ويُثنَى عليه

ص: 206

فيه، ويُصلَّى على رسوله صلى الله عليه وسلم.

26 -

أنها سبب لتمام الكلام الذي ابتُدىء بحمد الله، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.

27 -

أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط.

28 -

أنه يخرج بها العبد عن الجفاء.

29 -

أنها سبب لإبقاء الله تعالى الثناء للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض، لأن المصلي طالب من الله تعالى أن يثني على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكرمه، ويُشرفه، والجزاء من جنس العمل.

30 -

أنه سبب للبركة في ذات المصلي، وعمله، وعمره، وأسباب مصالحه، لأن المصلي داع ربه أن يبارك عليه، وعلى آله، وهذا الدعاء مستجاب، والجزاء من جنس العمل.

31 -

أنها سبب لنيل رحمة الله له، لأن الرحمة إما معنى الصلاة، كما قاله طائفة، وإما من لوازمها، وموجَبَاتها على القول الصحيح، فلابدّ للمصلي عليه من رحمة تناله.

32 -

أنها سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وسلم، وزيادتها، وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتمّ إلا به، لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه له، وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره، وإحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقرّ لعين المحبّ من رؤية محبوبه، ولا أقرّ لقلبه من ذكره، وإحضار محاسنه، فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه، والثناء عليه، وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك، ونقصانه بحسب زيادة الحبّ ونقصانه في قلبه، والحس شاهد بذلك، حتى قال بعض الشعراء:[من الوافر]

عَجبْتُ لِمَنْ يَقُولُ ذَكَرْتُ حِبِّي

وَهَلْ أَنْسَى فَأَذْكُرَ مَنْ نَسِيتُ

فتعجب هذا المحب ممن يقول: ذكرت محبوبي، لأن الذكر يكون بعد النسيان، ولو كمل حبّ هذا لما نسي محبوبه.

وقال آخر: [من الطويل]

أُرِيدُ لأَنسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا

تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ

فهذا أخبر عن نفسه أن محبته لها مانع له من نسيانها.

وقال آخر: [من المتقارب]

يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ

وَتَأبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ

فأخبر أن حبهم، وذكرهم قد صار طبعاً له، فمن أراد منه خلاف ذلك أبت عليه

ص: 207

طباعه أن تنتقل عنه، والمثل المشهور "من أحب شيئاً أكثر من ذكره".

وفي هذا الجناب الأشرف أحقّ ما أنشد:

لَوْ شُقَّ عَنْ قَلْبِي فَفِي وَسَطِهِ

ذِكْرُكَ وَالتَّوْحِيدُ فِي سَطْرِ

فهذا قلب المؤمن توحيد الله تعالى، وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم مكتوبان فيه، لا يتطرّق إليهما محو، ولا إزالة.

33 -

أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سبب لمحبته للعبد، فإنها إذا كانتا سبباً لزيادة محبة المصلي عليه له، فكذلك هي سبب لمحبّته هو للمصلي عليه صلى الله عليه وسلم.

34 -

أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنه كلما أكثر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وذكره استولت محبّته على قلبه، حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره، ولا شكٌّ في شيء مما جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوباً مسطوراً في قلبه، لا يزال يقرؤه على تعاقب أحواله، ويقتبس الهدى والفلاح، وأنواع العلوم منه، وكلما ازداد في ذلك بصيرة وقوّةٌ ومعرفةً ازدادت صلاته عليه صلى الله عليه وسلم.

ولهذا كانت صلاة أهل العلم العارفين بسنته، وهديه، المتبعين له عليه خلافَ صلاة العوامّ عليه، الذين حظُّهم منها إزعاج أعضائهم بها، ورفع أصواتهم، وأما أتباعه العارفون بسنته، العالمون بما جاء به، فصلاتهم عليه نوع آخر، فكلما أزدادوا فيما جاء له معرفةً ازدادوا له محبّةً، ومعرفةً بحقيقة الصلاة المطلوبة له من الله تعالى.

وهكذا ذكر الله سبحانه كلما كان العبد به أعرف، وله أطوع، وإليه أحبّ، كان ذكره غير ذكر الغافلين اللاهين، وهذا أمر إنما يُعلَم بالْخُبْر، لا بالْخَبَر، وفرقٌ بين من يذكر صفات محبوبه الذي قد ملك حبُّهُ جميعَ قلبه، ويُثني عليه بها، ويمجّده بها، وبين مّنْ يذكرها إمّا أَمَارَةً، وإمّا لفظاً، لا يدري ما معناها، لا يطابق فيه قلبه لسانه، كما أنه فرْقٌ بين بُكاء النائحة، وبكاء الثَّكْلَى، فذِكْرُهُ صلى الله عليه وسلم، وذكر ما جاء به، وحمدُ الله سبحانه على إنعامه علينا، ومنته بإرساله هو حياةُ الوجود وروحه، كما قيل:[من الكامل]

رُوحُ الْمَجَالِسِ ذِكْرُهُ وَحَدِيثُهُ

وَهُدًى لِكُلِّ مُلَدَّدٍ

(1)

حَيْرَانِ

وَإِذَا أُخِلَّ بِذِكْرِهِ فِي مَجْلِسٍ

فَاُولَئِكَ الأَمْوَاتُ فِي الْحَيَّانِ

35 -

أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه صلى الله عليه وسلم، وذكره عنده، كما تقدّم الحديث بذلك، وكفى بالعبد نُبْلاً أن يُذكر اسمه بالخير بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قيل في هذا المعنى:[من الطويل]

(1)

"الْمُلَدَّدُ": الحيران.

ص: 208

وَمَنْ خَطَرَتْ مِنْهُ بِبَابِكَ خَطْرَةٌ

حَقِيقٌ بِأنْ يَسْمُو وَأَنْ يَتَقدَّمَا

وقال الآخر: [من البسيط]

أَهْلاً بِمَا لَمْ أَكُنْ أَهْلاً لِمَوْقِعِهِ

قَوْلُ المُبَشِّرِ بَعْدَ الْيَأْسِ بِالْفَرَجِ

لَكَ الْبِشَارَةُ فَاخْلعْ مَا عَلَيْكَ فَقَدْ

ذُكِرْتَ ثَمَّ عَلَى مَا فِيكَ مِنْ عِوَجِ

36 -

أنها سبب لتثبيت القدَم على الصراط، والجواز عليه، لحديث عبد الرحمن بن سَمُرَة رضي الله عنه، الذي رواه عنه سعيد بن المسيب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:"ورأيت رجلاً من أمتي يَزْحَف على الصراط، ويحبو أحياناً، ويتعلّق أحياناً، فجاءته صلاته عليّ، فأقامته على قدميه، وأنقذته". رواه أبو موسى المديني، وبنى عليه كتابه في "الترغيب والترهيب"، وقال: هذا حديث حسنٌ جداً.

37 -

أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أداء لأقلّ القليل من حقّه، وشكر له على نعمته التي أنعم الله تعالى بها علينا، مع أن الذى يستحقه من ذلك لا يُحصى علماً ولا قدرة، ولا إرادةً، ولكن الله سبحانه لكرمه رضي من عباده باليسير من شكره، وأداء حقّه.

38 -

أنها متضمنة لذكر الله تعالى، وشكره، ومعرفة إنعامه على عبيده بإرساله، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد تضمنت صلاته عليه ذكر الله تعالى، وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهله، كما عرّفنا ربَّنا، وأسماءَهُ، وصفاته، وهدانا إلى طريق مرضاته، وعرّفنا ما لنا بعد الوصول إليه، والقُدُوم عليه، فهي متضمنة لكلّ الإيمان، بل هي متضمنة للإقرار بوجوب الربّ المدعوّ، وعلمه، وسمعه، وقدرته، وإرادته، وحياته، وكلامه، وإرسال رسوله، وتصديقه في أخباره كلها، وكمال محبّته، ولا ريب أن هذه هي أصول الإيمان، فالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم متضمنة لعلم العبد ذلك، وتصديقه به، ومحبّته له، فكانت من أفضل الأعمال.

39 -

أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من العبد هي دعاء، ودعاء العبد وسؤاله نوعان:

(أحدهما): سؤاله حوائجه، ومهماته، وما ينوبه في الليل والنهار، فهذا دعاء وسؤال، وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.

(الثاني): سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه صلى الله عليه وسلم، ويزيد في تشريفه، وتكريمه، وإيثارة ذكره، ورفعه، ولا ريب أن الله تعالى يُحبّ ذلك، ورسوله يُحبّه، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله، ورغبته، وطلبه إلى محابّ الله ورسوله، وآثر ذلك على طلبه حوائجه، ومحابّه هو، بل كان هذا المطلوب من أحبّ الأمور إليه، وآثرها عنده، فقد آثر ما يحبه الله ورسوله على ما يحبه هو، فقد آثر الله ومحابّه على ما سواه، والجزاء من جنس العمل، فمن آثر الله على غيره، آثره الله على غيره.

ص: 209

وههنا نكتةٌ حسنةٌ لمن علّم أمته دينه، وما جاء به، ودعاهم إليه، وحضّهم عليه، وصَبَرَ على ذلك، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم له من الأجر الزائد على أجر عمله مثلُ أجور من اتبعه، فالداعي إلى سنته ودينه، والمعلّم الخير للأمة إذا قصد توفيرَ هذا الحظّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصرفه إليه، وكان مقصوده بدعاء الخلق إلى الله التقرّب إليه بإرشاد عباده، وتوفير أجور المطيعين له على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفيتهم أجورهم كاملةً، كان له من الأجر في دعوته، وتعليمه بحسب هذه النية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة:

ذكر العلماء المواطن التي يطلب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

قال في "الفتح": ومن المواطن التي اختُلف في وجوب الصلاة عليه فيها: التشهد الأول، وخطبة الجمعة، وغيرها من الخطب، وصلاة الجنازة.

ومما يتأكّد، ووردت فيه أخبار خاصةٌ، أكثرها بأسانيد جيّدة: عقب إجابة المؤذن، وأوّل الدعاء، وأوسطه، وآخره، وفي أوّله آكد، وفي آخر القنوت، وفي أثناء تكبيرات العيد، وعند دخول المسجد، والخروج منه، وعند الاجتماع، والتفرّق، وعند السفر، والقدوم، وعند القيام لصلاة الليل، وعند ختم القرآن، وعند الهمّ والكرب، وعند التوبة من الذنب، وعند قراءة الحديث، وتبليغ العلم، والذكر، وعند نسيان الشيء، وورد ذلك أيضاً في أحاديث ضعيفة، وعند استلام الحجر، وعند طنين الأذن، وعند التلبية، وعقب الوضوء، وعند الذبح، والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضاً، وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة في حديث صحيح، كما تقدّم انتهى

(2)

.

وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في "جَلاء الأفهام" هذه المواطن المذكورة، وزاد عليها حتى أوصلها إلى أحد وأربعين موطناً، وذكر أحاديثها، واستوفاها بما لا تجده مجموعاً في كتاب غيره، وإن كان كثير من تلك الأحاديث ضعيفة، إلا أن فيه خيراً كثيراً، فراجعه من ص 263 - إلى ص 358 تظفر بكنز عظيم. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

خاتمة -نسأل الله تعالى حسنها-:

ذكر الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان الْبُسْتي رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاةً":

(1)

"جلاء الأفهام" ص 359 - 369.

(2)

"فتح" جـ 12 ص 460.

ص: 210

ما نصّه:

في هذا الخبر دليلٌ على أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في القيامة يكون أصحابَ الحديث، إذ ليس في هذه الأمّة قوم أكثر صلاةً عليه صلى الله عليه وسلم منهم انتهى

(1)

.

وقال أبو نعيم فيما نقله الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" ص 35: وهذه منقبة شريفة يختصّ بها رُواة الآثار، ونقَلَتها، لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يُعرَف لهذه العصابة نَسخاً وذكراً. انتهى.

وقال العلامة صديق حسن خان في كتابه "نزل الأبرار": بعد أن ساق أحاديث كثيرةً في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والإكثار منها: ما نصه:

"لاشكّ في أن أكثر المسلمين صلاةً عليه صلى الله عليه وسلم هم أهل الحديث، ورواة السنّة المطهرة، فإن من وظائفهم في هذا العلم الشريف التصلية عليه أمامَ كل حديث، ولا يزال لسانهم رطباً بذكره صلى الله عليه وسلم، وليس كتاب من كتب السنّة، ولا ديوان من دواوين الحديث على اختلاف أنواعها من "الجوامع" و"المسانيد" و"المعاجم" و"الأجزاء" وغيرها إلا وقد اشتمل على آلاف الأحاديث، حتى إن أصغرها حجماً كتاب "الجامع الصغير" للسيوطي فيه عشرة آلاف حديث، وقس على ذلك سائر الصحف النبويّة، فهذه العصابة الناجية، والجماعة الحديثية أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وأسعدهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي - ولا يساويهم في هذه الفضيلة أحد من الناس، إلا من جاء بأفضل مما جاءوا به، ودونه خَرْطُ القَتَاد.

فعليك يا باغي الخير، وطالب النجاة بلا ضير أن تكون محدّثًا، أو متطفّلاً على المحدثين، وإلّا فلا تكن

(2)

فليس فيما سوى ذلك من عائدة تعود إليك" انتهى

(3)

.

جعلنا الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا من هؤلاء المحدثين الذين هم أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، إنه سميع قريب مجيب الدعوات، ومفيض البركات، آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"صحيح ابن حبان" جـ 3 ص 192 - 193.

(2)

هكذا نسخة "نزل الأبرار"، والظاهر أنه أسقط تمام الكلام اختصاراً، أي "فلا تكن غير ذلك"، أو نحوه، والله أعلم.

(3)

راجع "نُزُلَ الأبرار" ص 161.

ص: 211

‌56 - (باب تَخْيِيرِ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

1298 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا جَلَسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ، قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ

(1)

السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ، وَفُلَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدُ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، يَدْعُو بِهِ").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم للمصنف بعدّة طرق، وتقدّم شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به برقم -190/ 1162 - .

واستدلاله به هنا على ما ترجم له واضح، فإنه يدلّ على التخيير في الدعاء بعد التشهد الأخير، بكل مُباح يَحتاج إليه المصلي من أمور الدنيا والآخرة، وهذا هو المذهب الراجح، وخالف في ذلك بعضهم، فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد فى القرآن، وقيل: غير ذلك، وقد أشبعت الكلام على هذا فيما سبق برقم -190/ 1163 - فإن أردت الاستفادة فارجع إديه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

و"عمرو بن علي": هو الفلّاس، و"يحيى": هو القطان، و"شقيق": هو أبو وائل، و"عبد الله": هو ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

وقوله: "بَعْدُ" من الظروف المبنية على الضمّ لقطعها عن الإضافة، ونية معناها.

وقوله: "أعجبه إليه": أي أحسن الدعاء وأحبه إلى المصلي، وكونه من الأدعية الواردة أولى.

وقوله: "يدعو به" جملة في محل نصب على الحال من فاعل "ليتخيّر"، أي ليتخير حال كونه داعيًا به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

وفي بعض النسخ: "عن عباد الله".

ص: 212

‌57 - (الذِّكْرِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ)

1299 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَخُو سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ

(2)

، قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنَّ فِي صَلَاتِي، قَالَ:"سَبِّحِي اللَّهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشْرًا، وَكَبِّرِيهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ، يَقُلْ: نَعَمْ نَعَمْ").

رجال هذا الإسناد. خمسة:

1 -

(عُبَيد بن وكيع بن الْجَرَّاح) الكوفي، روى عن أبيه، وعنه المصنف، وانفرد به، وقال: شُوَيخ، لا بأس به [11]، وروى عنه في هذا الكتاب حديثين، هذا، وحديث رقم (5458) وأعاده برقم (5486).

2 -

(وكيع بن الجرّاح) الكوفي الإمام الحجة الشهير [9] تقدم 23/ 25.

3 -

(عكرمة بن عَمَّار) العجلي، أبو عَمّار اليمامي بصري الأصل، صدوق يَغلَط [5].

روى عن الهِرْمَاس بن زياد، وله صحبة، وإياس بن سلمة، وسالم بن عبد الله، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وغيرهم. وعنه شعبة، والثوري، وابن المبارك، ووكيع، ويحيى القطّان، وغيرهم.

قال المفضل الغلّابي: حدثنا رجل من أهل اليمامة، وسألته عن عكرمة؟، فقال: هو عكرمة بن عمّار بن عُقبة بن حبيب بن شهاب بن ذُباب بن الحارث بن حمضانة بن الأسعد بن جُذَيمة بن سعد بن عِجْل. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: عكرمةُ مضطرب الحديث عن يحيى بن أبي كثير، وقال أيضاً عن أبيه: عكرمة مضطرب الحديث عن غير إياس بن سلمة، وكان حديثه عن إياس صالحاً. وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أحمد بن حنبل يضعّف رواية أيوب بن عُتبة، وعكرمة بن عمّار، عن يحيى بن أبي كثير، وقال: عكرمة أوثق الرجلين. وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله هل كان باليمامة أحد يقدّم على عكرمة اليمامي مثل أيوب بن عُتبة، وملازم بن

(1)

قوله: "أخو سفيان بن وكيع" سقط من بعض النسخ.

(2)

قوله: "بن مالك" سقط من بعض النسخ.

ص: 213

عمرو، وهؤلاء؟ فقال: عكرمة فوق هؤلاء، أو نحو هذا، ثمّ قال: روى عنه شعبة أحاديث، وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين: ثقة، وقال الغلّابي، عن يحيى: ثبت، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صدوق ليس به بأس. وقال أبو حاتم، عن ابن معين: كان أمّياً، وكان حافظاً، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: أيوب بن عتبة أحبّ إليك، أو عكرمة بن عمّار؟ فقال: عكرمة أحبّ إلي، وأيّوب ضعيف. وقال ابن المدينيّ: أحاديث عكرمة، عن يحيى بن أبي كثير ليس بذاك، مناكير، كان يحيى ابن سعيد يضعّفها، وقال في موضع آخر: كان يحيى يضعف رواية أهل اليمامة، مثل عكرمة، وضَرْبه، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كان عكرمة عند أصحابنا ثقة ثبتاً. وقال العجلي: ثقة يروي عنه النضر بن محمد ألف حديث. وقال البخاريّ: مضطرب فى حديث يحيى بن أبي كثير، ولم يكن له كتاب. وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة، وفي حديثه عن يحيى بن أبى كثير اضطراب، كان أحمد بن حنبل يقدّم عليه ملازم بن عمرو. وقال النسائيّ: ليس به بأس، إلا في حديث يحيى بن أبي كثير. وقال أبو حاتم: كان صدوقاً ربّما وهم في حديثه، وربما دلّس، وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير بعض الأغاليط. وقال الساجيّ: صدوق، وثقه أحمد، ويحيى، إلا أن يحيى بن سعيد ضعفه في أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير، وقدّم ملازماً عليه. وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: عكرمة بن عقار ثقة عندهم. وروى عنه ابن مهدي، ما سمعت فيه إلّا خيراً، وقال في موضع آخر: هو أثبت من ملازم، وهو شيخ أهل اليمامة. وقال علي بن محمد الطنافسي: ثنا وكيع، عن عكرمة ابن عَمّار، وكان ثقة. وقال صالح بن محمد الأسديّ: كان ينفرّد بأحاديث طوال، ولم يشركه فيها أحد، قال: وقدم البصرة، فاجتمع إليه الناس، فقال: ألا أراني فقيهاً، وأنا لا أشعر!، وقال صالح بن محمد أيضاً: إن عكرمة بن عمار صدوق، إلا أن في حديثه شيئاً، روى عنه الناس. وقال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاريّ الحافظ: عكرمة بن عمار ثقة، روى عنه الثوريّ، وذكره بالفضل، وكان كثير الغلط، ينفرد عن إياس بأشياء، لا يشاركه فيها أحد. وقال ابن خراش: كان صدوقاً، وفي حديثه نُكْرة. وقال الدارقطني: ثقة. وقال ابن عديّ: مستقيم الحديث إذا روى عنه ثقة. وقال عاصم بن علي: كان مستجاب الدعوة.

قال معاوية بن صالح: مات في إمارة المهدي، وقال ابن معين وغيره: سنة (159) وكذا ذكر ابن حبّان في "الثقات"، وقال: في روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، كان يحدّث من غير كتابه. وقال أبو أحمد الحاكم: جُلُّ حديثه عن يحيى ليس بالقائم.

ص: 214

وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتاً. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: أنا أقول: إنه ثقة، وأحتجّ به، وبقوله. علق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (6) أحاديث.

4 -

(إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري المدني، ثقة حجة [4] تقدّم 54/ 68.

5 -

(أنس بن مالك) رضي الله عنه. تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أَنَّ فيه روايةَ تابعي، عن تابعي، وفيه أنس رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه، سقط من بعض النسخ لفظ "بن مالك"، أنه (قال: جاءت أم سُليم) بنت مِلْحان بن خالد الأنصارية، والدة أنس الراوي عنها، واختلف في اسمها، فقيل: سهلة، وقيل: غير ذلك، واشتهرت بكنيتها، كانت من الصحابيّات الفاضلات، ماتت رضي الله عنها في خلافة عثمان رضي الله عنه، تقدمت ترجمتها في 43/ 737 (إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله علّمني كلمات أدعو بهنّ) جملة في محل نصب صفة لـ"كلمات". ولفظ الترمذي: "أقولهن"(في صلاتي) هذا يدلّ على أن هذا الذكر من التسبيح، والحمد، والتكبير يكون في الصلاة قبل التحلّل بالسلام (قال: سبحي الله عشراً) أي قولي سبحان الله عشر مرّات، فـ"عشراً" منصوب على أنه صفة لمقدر، أي مرّات عشراً، وكذا ما بعده (واحمديه عشراً) بفتح الميم، فعل أمر من الحمد ثلاثيّا (وكبريه عشراً، ثمّ سليه حاجتك) قال السندي رحمه الله: كأنه أخذ منه كون هذا الذكر بعد التشهد، إذ المعهود سؤال الحاجات هناك، وإلّا فلا دلالة في لفظ الحديث على ذلك، وقد جاء الدعاء في السجود وغيره انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استنباط المصنف رحمه الله تعالى صحيح، لأن ما بعد التشهد محل للدعاء، كما دل عليه حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه المتقدم:"ثم ليتخير بعدُ من الدعاء ما شاء"، فإن فيه أنّ ما بعد التشهد محل للدعاء، ولما قال صلى الله عليه وسلم لأم سليم رضي الله تعالى عنها:"ثم سليه حاجتك" عرفنا أن سؤالها يكون في محل

(1)

"شرح السندي" جـ 3 ص 51.

ص: 215

السؤال، وهو ما بعد التشهد، ولا يعترض على ذلك بما ثبت من كون السجود محلّ الدعاء أيضًا، لأننا لا نمنع أن يُعمل به هناك أيضاً. والله تعالى أعلم.

(يقل) بالجزم على أنه جواب الأمر، وفي نسخة "يقول" بالرفع على الاستئناف، (نعم نعم) جواب للطلب، أي أعطيكِ مطلوبك، وكُرّر للتأكيد.

وفيه أن "نعم" يجاب بها الجملة الطلبية للوعد بالمطلوب، والتوجه إلى الطالب. وفي رواية أحمد "قد فعلت، قد فعلت". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس رضي الله تعادى عنه هذا حسنه بعضهم، وصححه ابن خزيمة

(1)

، وهو كذلك، وإن كان فيه عكرمة بن عمّار، وقد تكلموا فيه، كما تقدّم، لأنه يشهد له حديث فضالة المتقدم -48/ 1284.

والحاصل أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن، إن سلم من عنعنة عكرمة، فإنه وصف بالتدليس

(2)

. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -57/ 1299 - وفي "الكبرى" 91/ 1222 - وأخرجه (ت) -481 - (وأحمد) 3/ 120 - (وابن خزيمة)850. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية الذكر بعد التشهد. ومنها: استحباب تقديم الذكر على الدعاء، ليكون وسيلةً لقبوله.

ومنها: جواز التسبيح، والحمد، والتكبير داخل الصلاة عند إرادة الدعاء، قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى في "صحيحه":

"باب إباحة التسبيح، والتحميد، والتكبير في الصلاة عند إرادة المرء مسألة حاجة يسألها ربّه عز وجل، وما يُرجى في ذلك من الاستجابة

(3)

انتهى. والله تعالى أعلم

(1)

انظر "صحيح ابن خزيمة" جـ 2 ص 31.

(2)

نبه الحافظ في "النكت الظراف" 1/ 85 بأن أبا حاتم أعله بالإرسال، فقال: رواه الأوزاعي عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أم سليم، وهو مرسل، وهو أشبه من حديث عكرمة بن عمار. انتهى.

(3)

"صحيح ابن خزيمة" جـ 2 ص 31.

ص: 216

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌58 - (بَابُ الدُّعَاء بَعْدَ الذِّكْرِ)

1300 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ أَخِي أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، يَعْنِي وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَكَعَ، وَسَجَدَ، وَتَشَهَّدَ دَعَا، فَقَالَ فِي دُعَائِهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: "تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟ "، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الحافظ الثبت تقدم 1/ 1.

2 -

(خلف بن خليفة) الأشجعي مولاهم، أبو أحمد الكوفي، نزيل واسط، ثم بغداد، صدوق اختلط في الآخر [8] تقدم 110/ 149.

3 -

(حفص بن أخي أنس) أبو عمر المدني، صدوق [4].

قيل: هو ابن عبد الله، أو ابن عبيد الله بن أبي طلحة، وقيل: ابن عمر بن عبد الله، أو ابن عبيد الله بن أبي طلحة، وقيل: ابن محمد بن عبد الله.

روى عن عمه. وعنه خلف بن خليفة، وعكرمة بن عمار، وأبو معشر المدني، وعامر بن يساف.

قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال الدارقطني: ثقة. وقال ابن حبّان في "الثقات": حفص بن عبد الله بن أبي طلحة صحب أنسا إلى الشام. وقال البخاريّ: روى عنه ابنه عبد الله، وروى له أحمد في "مسنده" عدّة أحاديث من رواية خلف بن خليفة عنه، عن أنس، قال في بعضها: عن حفص بن عمر، وقال في بعضها: عن حفص ابن أخي أنس، فيترجّح أن اسم أبيه عمر. أخرج له البخاري في "الأدب

ص: 217

المفرد"، وأبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وحديث رقم (5472).

4 -

(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيّات المصنف، وهو (78) من رباعيات الكتاب، وفيه أنس رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) وقد جاوز مائة، وفيه أن حفص ابن أخي أنس هذ أول محل ذُكر فيه من الكتاب، وليس له فيه إلا حديثان، كما مر آنفاً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً) زاد في رواية أحمد: "في الحلقة"(يعني ورجل قائم يصلي) إنما قال: "يعني" لشكه، هل قال:"رجل"، أو "إنسان"، أو نحو ذلك، ولم يتبين لي القائل، وعند أبي داود:"أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، ورجل يصلي". بدون "يعني"، وعند أحمد:"ورجل قائم يصلي".

وهذا الرجل هو أبو عيّاش الزُّرَقي، واسمه زيد بن صامت رضي الله عنه، فقد بيّنه أحمد في "مسنده" جـ 3 ص 265 - فقال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي، ثنا سلمة بن الفضل، قال: حدّثني محمد بن إسحاق، عن عبد العزيز بن مسلم، عن عاصم، عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، عن أنس بن مالك، قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي عَيّاش زيد ابن صامت الزُّرقيّ، وهو يصلي، وهو يقول: اللَّهم إني أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلّا أنت، يا منّان، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى".

وهو ظاهر في أن هذا الدعاء كان في الصلاة، لا بعدها.

(فلما ركع، وسجد، وتشهّد دعا) ولأحمد: "فلما ركع، وسجد جلس، وتشهد، ثم دعا، فقال: اللَّهم

" الحديث.

وهذا محل الترجمة، فإنه دعا بعد التشهد، وهو ذكر، فدلّ على مشروعية الدعاء بعد الذكر، والظاهر أنه دعا قبل التسليم من الصلاة (فقال في دعائه: اللَّهم) تقدم معنى هذه الكلمة في شرح حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (إني أسالك بأن لك الحمد) الجارّ والمجرور متعلق بمحذوف حال من الفاعل، والمسؤول محذوف لإرادة التعميم،

ص: 218

والتقدير -والله أعلم- اللَّهم إني أسألك الخير كلّه متوسلا إليك بالثناء عليك بهؤلاء الكلمات (لا إله إلا أنت المنّان) من الْمَنّ، وهو العطاء، أي المعطي ابتداءً، ولله المنّة على عباده، ولا منّة لأحد منهم عليه، تعالى علوّا كبيراً. وقال ابن الأثير: هو المنعم المعطي، من الْمَنْ بمعنى الإحسان إلى من لا يَستثيبه، ولا يَطلب الجزاء عليه، وهو من أبنية المبالغة، كالسَّفّاك، والوهّاب انتهى

(1)

.

ويطلق المنّ أيضاً على تعداد النعم، وهو في جانب الله تعالى ممدوح، وفي جانب الخلق مذموم، وهو المنهي عنه في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} الآية [البقرة: 264].

وفي رواية لأحمد: "الحنّان" بدل "المنان". وهو بتشديد النون: بمعنى الرحيم، قال ابن الأثير: الحنّان: الرحيم بعباده، فَعّال من الرحمة للمبالغة

(2)

.

(بديع السموات والأرض) بالرفع على الوصفية، ويحتمل النصب على الحالية، أو على النداء، أي خالقهما، ومبدعهما، لا على مثال سبق، وفي "اللسان":"بديع" فعيل، بمعنى فاعل، مثل قدير بمعنى قادر. وهو صفة من صفات الله تعالى، لأنه بدأ الخلق على ما أراد على غير مثال تقدمه. انتهى (يا ذا الجلال) أي العظمة والكبرياء (والإكرام) أي إكرام عباده المؤمنين بإنعامه عليهم.

وقال القرطبي: أي هو أهل لأن يُكْرَمَ عما لا يليق به من الشرك، كما تقول: أنا أكرمك عن هذا، ومنه إكرام الأنبياء والأولياء انتهى

(3)

.

وقال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام: الفرق بين "الجلال" و"الجمال" إنما يحصل باعتبار أثريهما، إذ أثر هذه الهيبةُ، والأخرى المحبّة، وتارة المهابة، وهما شيء واحد، فتارة يخلق الله مُشاهدة المحبة، وتارة المَهَابة، و"الإكرامُ": الإحسانُ، وإفاضة النعم. انتهى

(4)

.

(يا حيّ) قال الطبري عن قوم: إنه يقال: حيّ قيّوم كما وصف نفسه، ويُسلّم ذلك دون أن يُنظر فيه. وقيل: سمى نفسه حياً لصرفه الأمور مصاريفها، وتقديره الأشياء مقاديرها. وقال قتادة: الحيّ الذي لا يموت، وقال السدّيّ: المراد بالحيّ الباقي (يا قيوم) أي القائم بتدبير ما خلق، قاله قتادة. وقال الحسن: معناه القائم على كلّ نفس بما

(1)

انظر "لسان العرب" جـ 6 ص 4279.

(2)

راجع "لسان العرب" جـ 2 ص 1029.

(3)

"تفسير القرطبي" جـ 17 ص 165.

(4)

راجع "زهر الربى" جـ 3 ص 52 - 53.

ص: 219

كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها. وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول، ولا يزول

(1)

(إني أسالك) جملة مؤكدة لقوله: "إني أسألك" الماضي (فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتدرون) وفي نسخة: "تدرون" دون همزة الاستفهام (بما دعا) أي بالشيء الذي دعا به. فـ"ما" موصولة، ويحتمل أن تكون استفهامية، أي بأيّ شىء دعا، ولم تسقط ألفها على قلة، كقوله:[من الوافر]

عَلَى مَا قَامَ يَشتِمُنِي لَئِيمٌ

كَخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ

وقرىء: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم) وفي نسخة: "الأعظم"(وإذا سئل به أعطى) فيه أن هذا الدعاء فيه اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.

قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: وقد اختلف في تعيين الاسم الأعظم على نحو من أربعين قولاً، قد أفردها السيوطي بالتصنيف. قال ابن حجر: وأرجحها من حيث السند: "الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد". -يعني الآتي في الحديث التالي-.

وقال ابن الجزري: وعندي أن الاسم الأعظم: "لا إله إلا هو الحي القيوم". وذكر ابن القيّم فى "الهدي" أنه "الحي القيّوم"، فينظر في وجه ذلك انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -58/ 1300 - وفي "الكبرى" -92/ 1223 - بالسند المذكور. وأخرجه (د) 1495 (أحمد) 3/ 158 و3/ 245 (البخاري) في "الأدب المفرد"705. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب الدعاء بعد تقديم الذكر

(1)

"تفسير القرطبي" جـ 3 ص 271.

(2)

"تحفة الذاكرين" ص 52.

ص: 220

والثناء على الله تعالى.

ومنها: بيان فضل هذا الدعاء، وأن فيه اسم الله الأعظم الذي يستجيب به دعاء الداعي، فينبغي تقديمه قبل طلب الحاجة حتى يستجاب الدعاء.

ومنها: أن بعض أسماء الله تعالى فيه من السر ما ليس في غيره، وإن كانت أسماؤه كلها عظيمة مقدسة، إلا أن لبعضها تأثيراً في قضاء الحاجة، واستجابة الدعوة أكثر وأعظم، وهذا لا يُعلم إلا عن طريق الوحي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1301 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ أَبُو بُرَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَنْظَلَةُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنَّ مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ، إِذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ، وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ بِأَنَّكَ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ غُفِرَ لَهُ" ثَلَاثًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن يزيد أبو بُريد

(1)

البصري) الْجَرْمي، صدوق [11] من أفراد المصنف، تقدم 100/ 130.

2 -

(عبد الصمد بن عبد الوارث) التَّنُّوري البصري، صدوق ثبت في شُعبة [9] تقدم 122/ 174.

3 -

(أبوه) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَري مولاهم أبو عُبيدة التّنّوري البصري، ثقة ثبت، رمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8] تقدم 6/ 6.

4 -

(حُسين المعلم) هو ابن ذكوان العَوْذيّ البصري، ثقة ربّما وهم [6] تقدم 122/ 174.

5 -

(ابن بُريدة) هو عبد الله بن بُريدة بن الحُصيب الأسلمي، أبو سهل المروزي قاضيها، ثقة [3] تقدم 25/ 393.

6 -

(حنظلة بن عليّ) بن الأسقع الأسلميّ، ويقال: السلميّ المدني، ثقة [3].

روى عن حمزة بن عمرو، وخُفَاف بن إيماء، ورافع بن خَديج، وربيعة بن كعب، ومِحْجَن بن الأدرع، وأبي هريرة. وعنه عبد الله بن بُريدة، وعبد الرحمن بن حرملة،

(1)

"بُرَيد" بالموحدة والدال المهملة بينهما تحتانية مصغراً.

ص: 221

والزهري، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، سوى الترمذي، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وحديث رقم (2300) وأعاده برقم (2301).

7 -

(مِحْجَن بن الأدرع) -بكسر أوله، ثم حاء مهملة ساكنة، ثم جيم مفتوحة- الأسلميّ. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه حنظلة بن عليّ الأسلميّ، ورجاء بن أبي رجاء الباهليّ، وعبد الله بن شقيق، سكن البصرة، وهو الذي اختطّ مسجدها، وكان قديم الإسلام، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"وأنا مع ابن الأدرع".

فقد ذكر ابن إسحاق في "المغازي" عن سفيان بن فَرْوة الأسلمي، عن أشياخ من قومه من الصحابة، قالوا: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتناضل، فبينا محجن بن الأدرع يُناضل رجلاً منّا من أسلم، قال:"ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا، وأنا مع ابن الأدرع"، فألقى نَضْلَة قَوْسَهُ من يده، وقال: والله لا أرمي معه، وأنت معه، فإنه لا يُغلب من كنت معه، فقال:"ارموا، وأنا معكم كُلِّكم". قال أبو عمر: يقال: إنه مات في أواخر خلافة معاوية رضي الله عنهما. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنف، وليس له عندهما غير حديث الباب، كما قال الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أنه مسلسل بالبصريين إلى حسين المعلم، وابن بريدة مروزي، والباقيان مدنيان، وفيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن حَنظلة بن علي الأسلميّ رحمه الله تعالى (أن محجن بن الأدرع) رضي الله تعالى عنه (حدّثه) أي حنظلةَ بن علي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، إذا رجل) وفي رواية أحمد جـ 4 ص 338 - "فإذا هو برجل"، ومثله في "المعجم الكبير" للطبراني جـ 20/ 296 - (قد قضى صلاته، وهو يتشهد، فقال) ولأحمد: "وهو يقول"(اللَّهم إني أسالك يا الله)"اللَّهم أصله "يا الله"، وإنما كرره لإظهار الذلّة والافتقار (بأنك الواحد الأحد) ولأبي داود: "يا الله الأحد". و"الأحد" بمعنى الواحد، كما ذكره ابن عبّاس، وأبو

(1)

"تهذيب الكمال" 27 ص 267 - 269.

ص: 222

عبيدة، ويؤيّده قراءة الأعمش:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وهو تعالى واحد في ذاته، وصفاته، وأفعاله. وقد يفرّق بين "الواحد" و"الأحد" بأن الأحد في النفي نصّ في العموم، بخلاف الواحد، فإنه محتمل للعموم وغيره.

(الصمد) قال ابن الأنباريّ: لا خلاف بين أهل اللغة أنه السيّد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم. وقال قتادة: هو الذي يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه

(1)

. وقيل: تفسيره ما بعده، وهو قوله (الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) وفيه التوسل بأسماء الله تعالى الحسنى، وصفاته العليا (أن تغفر لى ذنوبي) في تأويل المصدر مفعول "أسأل"(إنك أنت الغفور الرحيم) تعليل للمسألة، أي إنما سألتك مغفرة ذنوبي لكونك متصفاً بالمغفرة والرحمة (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي النسخة "الهنديّة""النبي"، ولأحمد:"قال: فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم"(قد غفر له ثلاثاً) أي قالها ثلاث مرّات.

ولفظ أحمد: "قد غُفر له، قد غفر له، قد غفرله ثلاث مرّات". ونحوه للطبراني في "الكبير". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث محجن بن الأدرع رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -58/ 1301 - وفي "الكبرى" 92/ 1224 - بالسند المذكور. وأخرجه (د) 985 - (أحمد) 4/ 338 - (ابن خُزيمة)724. وفوائد الحديث تعلم مما قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

راجع "لسان العرب" جـ 4 ص 2495 - 2496. و"المنهل العذب المورود" جـ 6 ص 98 - 99.

ص: 223

‌59 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدُّعَاءِ)

1302 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضى الله عنهم-، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: "قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) تقدم في الباب الماضي.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الفقيه الحجة المصريّ [7] تقدم 31/ 35.

3 -

(يزيد بن أبي حبيب) المصري، ثقة فقيه [5] تقدّم 134/ 207.

4 -

(أبو الخير) مرثد بن عبد الله اليَزَني المصري، ثقة فقيه [3] تقدّم 38/ 582.

5 -

(عبد الله بن عمرو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَعْد ابن سَهْم السَّهْميّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الْحَرَّة على الأصح، بالطائف على الراجح، رضي الله عنهما، تقدم 89/ 111.

6 -

(أبو بكر الصّدّيق) عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرّة التيمي، الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه في الغار، وقيل: اسمه عتيق، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب، أسلم أبواه، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وأولاده: عبد الرحمن، وعائشة، ومحمد، وابن عباس، وابن الزبير وغيرهم.

قال إبراهيم النخعي: كان يُسمّى الأوّاه لمراقبته، وقال ميمون بن مهران: لقد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمانَ بَحِيراء الراهب، واختلف بينه وبين خديجة حتى تزوّجها، وذلك قبل أن يولد عليّ. وقال أبو أحمد العسكريّ: كانت إليه الأشناق

(1)

في الجاهلية، وهي الديات، كان إذا حمل شيئاً، فسأل فيه قُريشاً صدّقوه، وأمضوا حَمَالته

(2)

، وإن احتملها غيره لم يصدّقوه، وخَذَلوه. وذكر ابن سعد عن ابن شهاب أن

(1)

"الأَشْنَاقُ" بفتح الهمزة جمع شَنَقٍ محركة: هو الأرش، أي الدية. أفاده في "ق".

(2)

"الحَمَالة" بالفتح كالسحابة: الدية. قاله في "ق".

ص: 224

أبا بكر، والحارث بن كَلَدَة أكلا حَريرة أُهديت لأبي بكر، فقال الحارث -وكان طبيباً-: ارفع يدك، والله إن فيها لسمّ سنة، فلم يزالا عليلين حتى ماتا عند انقضاء السنة في يوم واحد.

ولي الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سنتين وشيئاً، وقيل: عشرين شهراً. توفي رضي الله تعالى عنه يوم الاثنين في جمادى الأولى سنة (13) عن (63) سنة، وصلى عليه عمر، ودُفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومناقبه وفضائله كثيرة جدًا، مدوّنة في كتب العلماء، وهي في مجلّد لطيف في "تاريخ ابن عساكر". أخرج له الجماعة، له (142) اتفق الشيخان على (6) وانفرد البخاري بـ (11) ومسلم بحديث، وله في هذا الكتاب (22) حديثاً. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وكلهم من رجال الجماعة. ومنها: أنه مسلسل بالمصريين. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابي. ومنها أن فيه الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، وهذا أول باب ذُكر فيه من هذا الكتاب. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن عمرو، عن أبى بكر الصديق رضي الله عنهما) هكذا النسخ بتثنية الضمير، والأولى أن يكون بلفظ "عنهم" بالجمع؛ لأن عمرو بن العاص والد عبد الله صحابي أيضاً، فليُتنبّه.

قال في "الفتح": مقتضى هذا أن الحديث من مسند الصدّيق رضي الله عنه، وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسي، عن الليث، فإن لفظه عن أبي بكر، قال:"قلت: يا رسول الله". أخرجه البزّار من طريقه، وخالف عمرُو بن الحارث الليثَ، فجعله من مسند عبد الله بن عمرو، ولفظه:"عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو، يقول: إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم"، هكذا رواه ابن وهب، عن عمرو، ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة الحديث انتهى

(1)

.

أنه (قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي) الظاهر أنه يريد عقب التشهد الأخير، والصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم، والاستعاذةِ من الأربع، وإليه جنح البخاريّ في

(1)

"فتح" جـ 2 ص 585.

ص: 225

"صحيحه" حيث قال: "باب الدعاء قبل السلام"، ثم ذكر حديث أبي بكر هذا.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله في الكلام على هذا الحديث: يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين محلّه، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين، إما السجود، وإما بعد التشهد، لأنهما أُمِرَ فيهما بالدعاء، ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد بظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحلّ.

ونازعه الفاكهاني رحمه الله، فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلّين المذكورين، أي السجود والتشهد.

وقال النووي رحمه الله: استدلال البخاريّ صحيح، لأن قوله:"في صلاتي" يعمّ جميعها، ومن مظانّه هذا الموطن.

قال الحافظ رحمه الله: ويحتمل أن يكون سؤال أبي بكر عن ذلك كان عند قوله: لما علّمهم التشهّد: "ثم ليتخيّر من الدعاء ما شاء"، ومن ثم أعقب المصنف -يعني البخاريّ- الترجمةَ بذلك -يعني قوله:"باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد، وليس بواجب"- انتهى.

وقال العيني رحمه الله: ظاهر الحديث عموم جميع الصلاة، ولكن المراد بعد التشهد الأخير قبل السلام، لأن لكلّ مقام من الصلاة ذكرًا مخصوصاً، فتعيّن أن يكون مقامه بعد الفراغ من الكلِّ، وهو آخر الصلاة، وبيانه أن للصلاة قياماً، وركوعاً، وسجوداً، وقُعُوداً، فالقيام محلّ قراءة القرآن، والركوع والسجود لهما دعاءان مخصوصان، والقعود محلّ التشهد، فلم يبق للدعاء محل إلا بعد التشهد قبل السلام انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يؤيّد هذا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم ليتخيّر من الدعاء ما شاء"، لكن الأولى ما تقدم عن الفاكهاني، فينبغي الدعاء به في السجود أيضاً، لأنه محل الدعاء أيضاً، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاجتهاد في الدعاء فيه. والله تعالى أعلم.

[فائدة]: المواضع التي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو فيها في الصلاة سبعة كما قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"، ونظمها الصنعاني رحمه الله بقوله [من الطويل]:

مَوَاضِعُ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ لِأَحْمَدِ

إِذَا مَا دَعَا قَدْ خصَّصُوهَا بِسَبْعَةِ

عَقِيبَ افْتِتَاحٍ ثمَّ بَعْدَ قِرَاءَة

وَحَالَ رُكُوعٍ وَاعْتِدَالٍ وَسَجْدَةِ

وَبَيْنَهُمَا بَعْدَ التّشَهُّدِ هذِهِ

مَوَاضِعُ تُرْوَى عَنْ ثِقَاتِ بِصِحَّةِ

انتهى "العدّة حاشية العمدة" جـ 3 ص 40. وزاد في "الفتح" ثامناً، وهو أنه كان يدعو في حال القراءة إذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية عذاب استعاذ. انتهى "فتح" جـ 12 ص 417.

ص: 226

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد نظمت الثامن بقولي:

وّزِدْ ثَامِناً وَهْوَ الدُّعَاءُ إِذَا تَلَا

وَمَرَّ بآيَةِ بها ذِكْرُ رَحْمَةِ

فَيَسْأَلُ رَحْمَةً وَإِنْ آيَةٌ بَها

تَعْذِيبٌ لأُمَّةٍ أنابَ بِعَوْذَةِ

(قال: قل: اللَّهم إني ظلمت نفسي) أي بملابسة ما يوجب العقوبة، أو ينقص الحظّ والأجر (ظلمًا كثيراً) يُروَى بالمثلّثة، وبالموحّدة، فيتخير الداعي بين اللفظين، ولا يجمع بينهما، لأنه لم يُروَ إلا أحدهما، والأولى أن يأتي بهذا مرّة، وبهذا مرّة، فيكون قد أتى بما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم بيقين، وقد تقدم البحث في هذا مستَوفًى في المسألة السادسة برقم -54/ 1294 - فراجعه تستفد.

قال العلامة المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله: في الحديث دليل على أن الإنسان لا يَعرَى من ذنب وتقصير، كما قال عليه الصلاة والسلام: "استقيموا، ولن تحُصوا

" وفي الحديث: "كلّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوّابون"، وربما أخذوا ذلك من حيث الأمر بهذا القول مطلقاً من غير تقييد بحالة، فلو كان ثمّة حال لا يكون فيها ظلم ولا تقصير لما كان هذا الإخبار مطابقاً للواقع، فلا يؤمر به انتهى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله: فيه أن الإنسان لا يعرى عن تقصير، ولو كان صدّيقاً.

وقال السندي رحمه الله بعد نقل كلام الحافظ: بل فيه: أن الإنسان كثير التقصير، وإن كان صديقاً، لأن النعم عليه غير متناهية، وقوّته لا تطيق أداء أقلّ قليل من شكرها، بل شكره من جملة النعم أيضاً، فيحتاج إلى شكره هو أيضاً كذلك، فما بقي إلا العجز والاعتراف بالتقصير الكثير، كيف، وقد جاء في جملة أدعيته صلى الله عليه وسلم "ظلمت نفسي" انتهى

(2)

.

(ولا يغفر الذنوب إلا أنت) هو مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} ، ففيه الإقرار بوحدانية الباري سبحانه وتعالى، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار، كما قال تعالى:"علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به"

(3)

وقد وقع في هذا الحديث امتثال لما أثنى الله تعالى عليه في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}

(1)

"إحكام الأحكام" جـ 3 ص 40 - 41.

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 53.

(3)

هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن عبداً أصاب ذنباً، فقال: يا رب إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي، فقال له ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، فغفر له

" الحديث.

ص: 227

[آل عمران: 135]، فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثنائه بالاستغفار لوّح بالأمر به، كما قيل: إن كلّ شيء أَثنى اللهُ على فاعله، فهو آمر به، وكلّ شيء ذَمَّ فاعلَه فهو ناه عنه. قاله في "الفتح".

(فاغفر لي مغفرة من عندك) قال الطيبي رحمه الله: دلّ التنكير على أن المطلوب غُفران عظيم، لا يدرك كُنْهُهُ، ووَصَفَهُ بكونه من عنده سبحانه وتعالى مُريداً لذلك العِظَمِ، لأن الذي يكون من عند الله لا يُحيط به وصف.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: يحتمل وجهين:

(أحدهما): الإشارة إلى التوحيد المذكور، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، فافعله لي أنت.

(الثاني): -وهو أحسن- أنه إشارة إلى طلب مغفرة مُتفَضَّل بها، لا يقتضيها سبب من العبد، من عَمَل حَسَن، ولا غيره، فهي رحمة من عنده بهذا التفسير، ليس للعبد فيها سبب، وهذا تبرّؤٌ عن الأسباب، والإدلال بالأعمال، والاعتقاد في كونها موجبة للثواب وجوباً عقليّاً انتهى

(1)

.

قال في "الفتح": وبهذا الثاني جزم ابن الجوزيّ، فقال: المعنى: هَبْ لي المغفرة تفضلاً، وإن لم أكن لها أهلاً بعملي انتهى.

(وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) هما صفتان ذكرتا ختماً للكلام على جهة المقابلة لما قبله، فـ"الغفور" مقابل لقوله:"اغفر لي"، و"الرحيم" مقابل لقوله:"ارحمني"، وقد وقعت المقابلة ههنا للأول بالأول، والثاني بالثاني، وقد يقع على خلاف ذلك بأن يُراعَى القربُ، فيجعل الأول للأخير، وذلك على حسب اختلاف المقاصد، وطلب التفنن في الكلام، ومما يُحتاج إليه في علم التفسير مناسبة مقاطع الآي لما قبلها. قاله ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -59/ 1302 - وفي "الكبرى" -93/ 1225 - بالسند المذكور.

(1)

"إحكام الأحكام" بحاشية "العدّة" جـ 3 ص 41 - 43.

ص: 228

وأخرجه (خ) 1/ 211، و8/ 89. و (م) 8/ 74 (ت) رقم 3531 - (ق) 3835. و (أحمد) 1/ 3، و1/ 7. و (عبد بن حُميد) -5 - و (ابن خُزيمة) 845. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: استحباب طلب التعليم من العالم، خصوصاً في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم

(1)

.

قال الكرماني رحمه الله: هذا الدعاء من الجوامع، لأن فيه الاعترافَ بغاية التقصير، وطلبَ غاية الإنعام، فالمغفرة ستر الذنوب، ومحوها، والرحمة إيصال الخيرات، ففي الأول طلب الزحزحة عن النار، وفي الثاني طلب الجنة، وهذا هو الفوز العظيم.

ومنها: أن فيه ردّا على من زعم أنه لا يستحقّ اسم الإيمان إلا من لا خطيئة له، ولا ذنب، لأن الصدّيق من أكبر أهل الإيمان، وقد علّمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول:"إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت". قاله الطبريّ رحمه الله تعالى.

ومنها: أن فيه مشروعيّةَ الدعاء في الصلاة، وفضلَ هذا الدعاء على غيره، وطلبَ التعليم من الأعلى، وإن كان الطالب يعرف ذلك النوع، وخص الدعاء بالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم:"أقرب ما يكون العبد من ربّه، وهو ساجد". وفيه أن المرء ينظر في عبادته إلى الأرفع، فيتسبب في تحصيله، وفي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر هذا الدعاء إشارة إلى إيثار أمر الآخرة على أمر الدنيا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌60 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدُّعَاءِ)

1303 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَيْوَةَ، يُحَدِّثُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إِنِّي لأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ"، فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: رَبِّ أَعِنِّي عَلَى

(1)

راجع "الفتح" جـ 12 ص 416.

ص: 229

ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يونس بن عبد الأعلى) بن مَيْسَرة الصَّدَفي، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10] تقدم 1/ 449.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري، ثقة حافظ عابد [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(حَيْوة) بن شُريح بن صفوان التُّجِيبي، أبو زرعة المصري، ثقة ثبت فقيه زاهد [7] تقدم 17/ 478.

4 -

(عُقبة بن مسلم) التُّجِيبي، أبو محمد المصري القاصّ، إمام المسجد العتيق بمصر، ثقة [4].

روى عن ابن عمر، وابن عمرو، وعقبة بن عامر الجهني، وأبي عبد الرحمن الحُبُليّ، وغيرهم. وعنه حيوة بن شُريح، والوليد بن أبي الوليد، وجعفر بن ربيعة، وغيرهم.

قال العجلي: مصريّ تابعي ثقة، ووثقة يعقوب بن سفيان، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن يونس: توفي قريباً من سنة (120).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، والمصنف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(أبو عبد الرحمن الْحُبُليّ) -بضم المهملة والموحّدة- عبد الله بن يزيد الْمَعَافري المصري، ثقة [3].

روى عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر، والصُّنابحي، وعْيرهم. وعنه عقبة بن مسلم، وحُميد بن هانىء، وشُرَحبيل بن شَريك، وغيرهم.

قال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد، والعجلي: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات".

قال ابن يونس: يقال: توفي بإفريقية سنة (100) وكان صالحاً فاضلاً. وقال ابن خلفون: يقال: إنه توفي بقُرْطُبة. وقال أبو بكر المالكي في "تاريخ القيروان": بعثه عمر ابن عبد العزيز إلى إفريقية ليفقههم، فبَثّ فيها علماً كثيرًا، ومات بها، ودفن بباب تونس. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد" والباقون، وله في هذا الكتاب (8) أحاديث.

6 -

(الصُّنَابحيّ) عبد الرحمن بن عُسَيلة -بمهملتين مصغرًا- ابن عِسْل بن عسال المراديّ، أبو عبد الله الصُّنَابحي، ثقة، من كبار التابعين [2].

ص: 230

رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده قد مات قبله بخمس ليال، أو ستّ، ثمّ نزل الشام.

رَوَى عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وبلال، ومعاذ بن جبل، وغيرهم. وعنه أسلم مولى عمر، وأبو الخير مَرْثَد بن عبد الله اليزني، وأبو عبد الرحمن الحُبُليّ، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: هؤلاء الصُّنَابحيون الذين يُروَى عنهم في العدد ستة، وإنما هما اثنان فقط، الصّنَابحيْ الأحمسي، وهو الصُّنَابح الأحمسي، هذان واحد، من قال فيه: الصنابحي، فقد أخطأ، وهو الذي يَروى عنه الكوفيّون، والثاني: عبد الرحمن بن عُسَيلة، كنيته أبو عبد الله، لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بل أرسل عنه، وروى عن أبي بكر، وغيره، فمن قال: عن عبد الرحمن الصُّنَابحيّ فقد أصاب اسمه، ومن قال: عن أبي عبد الله الصنابحيّ، فقد أصاب كنيته، وهو رجل واحد، ومن قال: عن أبي عبد الرحمن، فقد أخطأ، قلب اسمه، فجعله كنيته، ومن قال: عن عبد الله الصنابحيّ، فقد أخطأ، قلب كنيته، فجعلها اسمه، هذا قول علي ابن المدينيّ، ومن تابعه، وهو الصواب عندي.

وذكر ابن حبّان في "الثقات" عبدَ الرحمن بنَ عُسيلة نحو ما ذكره ابن سعد، وقال ابن يونس: شهد فتح مصر. وقال ابن معين: تأخر إلى زمن عبد الملك بن مروان، وكان عبد الملك يجلسه معه على السرير. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة.

وكان كثير المناقب، فمن أجلها ما أخرجه الطبراني في مسند عبادة من طريق ابن مُحَيريز، قال: عُدْنا عبادة بن الصامت، فأقبل أبو عبد الله الصنابحي، فقال عبادة: من سرّه أن ينظر إلى رجل عُرج به إلى السماء، فنظر إلى أهل الجنّة، وأهل النار، فرجع، وهو يعمل على ما رأى، فلينظر إلى هذا.

وذكره البخاريّ في "التاريخ الأوسط" في فصل من مات ما بين السبعين إلى الثمانين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

7 -

(معاذ بن جبل) بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو عبد الرحمن، الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم 42/ 587. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى.

ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، سوى شيخه، وعقبة بن مسلم، فانفرد بهما هو، وأبو داود، وابن ماجه، وعقبة أيضاً أخرج له البخاري في "الأدب المفرد".

ص: 231

ومنها: أنه مسلسل بالمصريين إلى الصّنابحي، فإنه ومعاذاً شاميان.

ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، عقبة، والحبلي، والصّنابحي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن معاذ بن جبل) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: أخذ بيدى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه إشارة إلى تمام المحبّة بينهما، وفي رواية "عمل اليوم والليلة" رقم -109 - : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يوماً

"، ونحوه لأحمد، وفي رواية له: "قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يامعاذ

" (فقال: إني لأحبك يا معاذ) وفي "عمل اليوم والليلة": "يا معاذ والله إني لأحبك".

وفيه مزيد تشريف منه صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله تعالى عنه، وترغيب له فيما يريد أن يلقيه عليه من الذكر (فقلت: وأنا أحبك يا رسول الله) وفي رواية لأحمد: "فقلت: يا رسول الله وأنا والله أحبّك"، وفي رواية له، وهي رواية "عمل اليوم والليلة":" فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا أحبك"(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تَدَعْ) أي فلا تترك، وهو مما هُجر ماضيه في الأكثر، استغناءً عنه بـ"تَرَكَ"، وقد ورد قليلاً، وقُرىء {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} .

أي إذا كنت تحبني، أو إذا أردت ثبات هذه المحبّة، حتى تؤتي ثمرتها، وهي كون المحب مع محبوبه في الجنة، فلا تترك أن تقول الخ.

وفي رواية لأحمد: "فإني أوصيك بكلمات تقولهنّ في كلّ صلاة

"، وفي "عمل اليوم والليلة": "أوصيك يا معاذ، لا تدعنّ في دبر كلّ صلاة أن تقول

" (أن تقول) في تأويل المصدر مفعول "تدع" (في كلّ صلاة) أي في آخرها قبل الخروج منها، وهذا هو الظاهر من هذه الرواية، وهو الذي مال إليه المصنف حيث أورده في جملة الدعوات التي يُدعَى بها في الصلاة قبل التحلل منها.

وقيل: يدعو بها بعد الخروج من الصلاة، لما تقدّم في رواية "عمل اليوم والليلة"، بلفظ:"في دبر كلّ صلاة"، وهي عند أحمد، وأبي داود أيضاً.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا تخالف بين الروايتين، إذ الدبر يطلق على المتصل بالشيء، كدبر الحيوان، فيكون المعنى في آخر الصلاة قبل الخروج منها، أو يحمل على الحالتين، فيدعو بها في الصلاة، قبل السلام، وبعده، لكن المعنى الأول هو الأشبه بظاهر الحديث. والله تعالى أعلم ..

(ربّ أعنّي) وفي "عمل اليوم والليلة": "اللَّهم أعني"، وهي التي في رواية أحمد،

ص: 232

وأبي داود (على ذكرك) أي على إكثار ذكرك، والمداومة عليه.

قال الطيبي رحمه الله: هو قريب من معنى حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يعني الذي تقدّم في "باب فضل السجود" -169/ 1138 - حين سأله مرافقته صلى الله عليه وسلم في الجنّة، فقال:"أعنّي على نفسك بكثرة السجود" حيث علّق المحبة به بملازمة الذكر، والمرافقة بكثرة السجود.

والمراد من الإعانة على ذكره شرحُ الصدر، وتيسيرُ الأمر، وإطلاقُ اللسان، وإليه يلمح قول الكليم عليه الصلاة والسلام:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} إلى قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 25 - 34].

(وشكرك) أي وأعني على إدامة شكرك.

والمراد به توالي النعم الْمُستَجلِبة لتوالي الشكر، وإنما طلب الإعانة عليه لأنه عَسِرٌ جدا إلا لمن وفقه الله تعالى، ولذلك قال الله تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13](وحسن عبادتك) أي وأعني على أن أُحْسِنَ عبادتك التي أمرتني بها.

والمراد التجردُ عما يَشْغَلُهُ عن الله تعالى، ويُلهيه عن ذكره، وعن عبادته، ليتفرّغ لمناجاته سبحانه وتعالى، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"وجعلت قُرَّة عيني في الصلاة"

(1)

، وأخبر عن هذا المقام حينما فَسّر الإحسان بقوله:"أنا تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"

(2)

.

زاد في "عمل اليوم والليلة": "وأَوصَى بذلك معاذ الصّنَابحيَّ، وأوصى به الصّنابحي أبا عبد الرحمن، وأوصى به أبو عبد الرحمن عُقْبة بن مسلم". وهو عند أحمد، وأبي داود أيضاً. وسيأتي الكلام عليه.

ووجه تخصيص الوصية بهذه الكلمات الثلاث كونها مشتملة على جميع خيرات الدنيا والآخرة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

حديث صحيح أخرجه أحمد، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه:"حُبِّبَ إليّ من دنياكم: النساء، والطيب، وجُعِلَتْ قُرّةُ عيني في الصلاة".

(2)

متفق عليه.

ص: 233

أخرجه هنا -60/ 1303 - وفي "الكبرى" -94/ 1226 - عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن حَيْوَة بن شُريح، عن عُقبة بن مسلم، عن أبى عبد الرحمن الحُبُلي، عن الصنابحي، عنه. وفي "عمل اليوم والليلة" -109 - عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن أبيه، عن حيوة به.

وأخرجه (د) -1522 - (أحمد) 5/ 244، و5/ 247 (ابن خزيمة)751. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة:

قد تقدّم في رواية "عمل اليوم والليلة" من طريق عبد الله بن يزيد المقرىء زيادة "وأوصى بذلك معاذ الصُّنَابحيَّ

" الحديث.

وهذا هو النوع المسمى في فنّ "المصطلح" بـ"المُسَلْسَل"، وهو: ما تتابع رجال إسناده على صفة، أو حالة للرّواة تارةً، وللرواية تارةً أخرى.

وصفات الرجال إما أقوال، أو أفعال.

فالمسلسل بأحوال الرواة القولية، كحديث معاذ رضي الله تعالى عنه هذا، حيث تتابع الرواة بقولهم: "وأنا أحبك، فقل

"، فقد تسلسل ذلك حتى وصل إلينا من طريق بعض شيوخنا.

والمسلسل بأحوال الرواة الفعلية كمسلسل التشبيك باليد، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه "شبّك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقال: خلق الله الأرض يوم السبت

" الحديث، فقد تسلسل تشيبك كلّ واحد من رواته بيد من رواه عنه حتى وصل إلينا عن طريق بعض شيوخنا أيضاً.

وله أنواع كثيرة، وأفضله ما دلّ على الاتصال، ومن فوائده زيادة الضبط.

وتفاصيله مذكورة في "التدريب" وغيره من كتب المصطلح.

وقد أشار إليه الحافظ العراقي رحمه الله في "ألفية المصطلح":

مُسَلْسَل الْحَدِيثِ مَا تَوَارَدَا

فِيهِ الرُّوَاة وَاحِداً فَوَاحِدَا

حَالاً لَهُمْ أَوْ وَصْفاً أَوْ وَصْفَ سَنَدْ

كَقَوْلِ كلِّهِمْ سَمِعْتُ فَاتَّحدْ

وَقَسْمَهُ إِلَى ثَمَانِ مُثلِ

وَقَلَّمَا يَسْلَمُ ضُعْفاً يَحْصُلِ

وَمِنْهُ ذُو نَقْصٍ بِقَطْعِ السلْسَلَهْ

كَأوَّلِيَّةٍ وَبَعْضٌ وَصَلَه

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في فوائده:

ص: 234

منها: مشروعية الدعاء بهذا الدعاء في الصلاة.

ومنها: بيان فضل معاذ رضي الله تعالى عنه، حيث كان يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أنه ينبغي لمن قيل له: أُحبّك أن يقول للقائل: وأنا أحبك، إذ بذلك تتقوّى المحبّة وتدوم.

ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يطلب من ربه العون على طاعته، فإنه لا حول، ولا قوّة له إلا به سبحانه وتعالى، فالموفق من وفقه الله تعالى لطاعته، واستعمله في مرضاته. وفقنا الله تعالى لما يحبه، ويرضاه.

"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهّاب"، "ربنا أتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌61 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدُّعَاءِ)

1304 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو داود) سليمان بن مَعْبد بن كوسجان

(1)

المروزي السِّنْجِيّ

(2)

النحوي، مولى إسحاق القراب، ثقة صاحب حديث رَحّال أديب [11].

رَوَى عن عبد الرزاق، والنضر بن شُميل، وسليمان بن حرب، وغيرهم. وعنه

(1)

"كوسجان" بمهملة، ثم جيم.

(2)

"السنجيّ" بكسر المهملة، بعدها نون ساكنة، ثم جيم: نسبة إلى سِنْج قرية بمرو. قاله في "لب اللباب" جـ 2 ص 31.

ص: 235

مسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو حاتم، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة، وقال الخطيب: رحل في طلب العلم إلى العراق، والحجاز، واليمن، ومصر، وقدم بغداد، وذاكر الحُفّاظ بها. وقال الحازمي: كان أديباً شاعراً، وله تاريخ. وقال مسلمة: مروزي ثقة، ونقل الصريفيني عن ابن خراش توثيقه. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (259) زاد غيره "في ذي الحجة".

انفرد به مسلم، والترمذي، والنسائي. وقال صاحب "الزهرة": روى عنه مسلم تسعة أحاديث

(1)

.

2 -

(سليمان بن حرب) الأزدي الواشحي، أبو أيوب البصري، نزيل مكة وقاضيها، ثقة إمام حافظ [9] تقدّم 181/ 288.

3 -

(حماد بن سلمة) أبو سلمة البصري، ثقة عابد، تغير حفظه بآخره، من كبار [8] تقدم 181/ 288.

4 -

(سعيد الْجُرَيري) هو ابن إياس، أبو مسعود البصري، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين

(2)

[5] تقدّم 32/ 672.

5 -

(أبو العلاء) بن الشِّخِّير هو: يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير العامري البصري، ثقة [2] تقدّم 32/ 672.

6 -

(شدّاد بن أوس) بن ثابت الأنصاريّ، أبو يعلى الصحابي، ابن أخي حسّان بن ثابت رضي الله عنهما، تقدّم 172/ 1141. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن شدّاد بن أوس) رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته) أي بعد التشهد. قاله القاري. وقال ابن حجر الهَيتمي: أي في آخرها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن حجر والقاري رحمهما الله هو الذي يقتضيه صنيع المصنف رحمه الله حيث أورده في جملة الدعوات التي يُدعى بها بعد التشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

لكن لا يقتضيه لفظ الحديث، فإنه مطلق، ولذا قال الشوكاني رحمه الله: هذا الدعاء ورد مطلقاً في الصلاة، غير مقيد بمكان مخصوص انتهى.

(1)

لم يذكر في برنامج الحديث مرويات النسائي عنه؛ لأنه ترجم لسليمان بن سبق خطأ، فليتنبه.

(2)

لكن سماع حماد بن سلمة عنه قبل اختلاطه، فحديثه صحيح. راجع "تهذيب الكمال" جـ 4 ص 7.

ص: 236

اللَّهم إلا أن يقال: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء بعد التشهد يؤيد كونه فيه، وأن كان لا يستلزمه.

والحاصل أن محله لا يخلو أن يكون إما في حال السجود، وإما بعد التشهد، وإما فيهما، فحصلت المناسبة لذكره في هذا الموضع. والله تعالى أعلم.

وعند أحمد في رواية: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا كلمات ندعو بهنّ في صلاتنا، أو قال: في دبر صلاتنا".

(اللَّهمّ إني أسألك الثبات) وفي "الهنديّة""الثبوت"(في الأمر) أي الدوام على جميع أمور الدين، ولزوم الاستقامة عليها.

وسؤال الثبات في الأمر من جوامع الكلم النبوية، لأن من ثبّته الله في أموره عُصم عن الوقوع في الموبقات، ولم يصدر منه أمر خلاف ما يرضاه الله تعالى. قاله في "النيل".

(والعزيمة على الرشد)"العزيمة": تكون بمعنى إرادة الفعل، وبمعنى الجدّ في طلبه، والمناسب هنا هو الثاني. قاله في "النيل" أيضاً.

وفي "المرعاة": "العزيمة": عَقدُ القلب على إمضاء الأمر، يقال: عَزَمَ الأمرَ، وعليه: عقد ضميره على فعله، وعزم الرجلُ: جدّ في الأمر.

و"الرشد" -بفتحتين، أو بضم، فسكون-: بمعنى الصلاح، والفلاح، والصواب، والاستقامة على طريق الحقّ. قيل: المراد لزوم الرشد ودوامه، وفي رواية الترمذي:"أسألك عزيمة الرشد" يعني الجدّ في أمر الرشد بحيث يُنجز كلّ ما هو رشد من أموره.

(وأسالك شكر نعمتك) أي التوفيق لشكر نعمتك (وحسن عبادتك) أي إيقاعها على الوجه الحسن المرضيّ عندك (وأسالك قلباً سليماً) أي من العقائد الفاسدة، والميل إلى الشهوات العاجلة ولذّاتها، وتتبع ذلك الأعمال الصالحات، إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها إلى الجوارح، كما أن صحة البدن عبارة عن حصول ما ينبغي من استقامة المزاج، والتركيب، والاتصال، ومرضه عبارة عن زوال أحدها.

وقيل: المراد سليماً من الغلّ والغش، والحقد، والإحن، وسائر الصفات الرديّه، والأحوال الدنيّة.

(ولساناً صادقاً) أي محفوظاً من الكذب، لا يبرز منه إلّا الحقّ المطابق للواقع (وأسألك من خير ما تعلم) قال الطيبي رحمه الله:"ما" موصولة، أو موصوفة، والعائد محذوف، و"من" يجوز أن تكون زائدة على مذهب من يزيدها في الإثبات، أو بيانية، والمُبَيَّن محذوف، أي أسألك شيئاً هو خير ما تعلم، أو تبعيضية، سأله إظهاراً لهضم

ص: 237

النفس، وأنه لا يستحقّ إلا يسيراً من الخير انتهى (وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم) أي لأجل ما تعلمه مني من الذنوب والتقصير في طاعتك. وفي رواية الترمذي "مما تعلم" أي من الذي تعلمه. وزاد الترمذي: "إنك أنت علام الغيوب".

وقالى العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في "تحفة الذاكرين" في شرح هذا الحديث: ما نصّه:

سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ربّه الثبات في الأمر، وهي صيغة عامّة، يندرج تحتها كلّ أمر من الأمور، وإذا وقع الثبات للإنسان في كلّ أموره أجراها على السداد والصواب، فلا يَخشى من عاقبتها، ولا تعود عليه بضرر.

وسأله عزيمة الرشد، وهي الجدّ في الأمر بحيث يُنجز كلّ ما هو رشد من أموره. و"الرشد": هو الصلاح، والفلاح، والصواب.

ثم سأله شكر نعمته، وحسن عبادته، لأن شكر النعمة يوجب مزيدها، واستمرارها على العبد، فلا تنزع منه، وحسن العبادة يوجب الفوز بسعادة الدنيا والآخرة.

وسأله اللسان الصادق، لأن الصدق هو ملاك الخير كله.

وسأله سلامة القلب، لأن من كان كذلك يَسلَم عن الحقد، والغلّ، والخيانة، ونحو ذلك.

وسأله أن يُعيذه من شرّ ما يعلم سبحانه. وسأله من خير ما يعلم، لإحاطة علمه سبحانه بكلّ دقيقة وجليلة بما يعلمه البشر، وبما لا يعلمونه، فلا يبقى خير ولا شرّ إلا وهو داخل في ذلك.

واستغفره مما يعلمه سبحانه، لأنه يعلم بكلّ ذنب، مما يعلمه العبد، ومما لا يعلمه، وما أوقع تتميم هذا الدعاء بهذه الجملة الواقعة موقع التأكيد لما قبلها، وهي قوله:"إنك أنت علّام الغيوب" انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه حسن.

(اعلم): أن هذا الحديث، وإن كان رجاله ثقات، إلا أنه منقطع، سقط من إسناده رجل من بني حنظلة بين العلاء وبين شداد بن أوس، فقد أخرجه أحمد 4/ 54

و

(1)

"تحفة الذاكرين" ص 285 - 286.

ص: 238

الترمذيّ -3407 - في الدعوات، والطبراني -7175، و7176، و7177 - من طرق عن سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن الحنظلي، أو عن رجل من بني حنظلة، عن شدّاد بن أوس، وأخرجه الطبراني -7178 - وقال: عن رجل من بني مجاشع.

والحنظلي لا يعرف.

وأخرجه ابن حبّان برقم -935، والطبراني -7157 - من طريق هشام بن عمّار، عن سُويد بن عبد العزيز، عن الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطية، عن مسلم بن مشكم، عن شدّاد.

وسويد بن عبد العزيز ضعيف، وباقي رجاله ثقات.

وأخرجه أحمد 4/ 123 - من طريق روح، وابن أبي شيبة 10/ 271، والخرائطي في "فضيلة الشكر" ص 34 من طريق عيسى بن يونس، كلاهما عن الأوزاعيّ، عن حسّان ابن عطيّة، قال: كان شدّاد بن أوس

ورجاله ثقات، إلا أن حسّان بن عطيّة لم يُدرك شدّاداً.

وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 508 - من طريق عمر بن يونس بن القاسم اليمامي، عن عكرمة بن عمّار، سمعت شدّاداً أبا عمّار يحدّث عن شدّاد بن أوس. وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

وفي عكرمة بن عمّار كلام يحطّه عن رتبة الصحيح إلى الحسن.

وأخرجه الطبراني -7135 - من طريق جعفر بن محمد الفريابي، وسليمان بن أيوب ابن حذلم الدمشقي، قالا: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقيّ، حدثنا إسماعيل بن عيّاش، حدّثني محمد بن يزيد الرحبيّ الدمشقيّ، عن أبي الأشعث الصنعاني -شراحيل ابن آدة- عن شدّاد بن أوس، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا شدّاد إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فاكنز هؤلاء الكلمات: اللهمّ إني أسألك الثبات في الأمر

". وهذا سند حسن، رجاله ثقات، غير محمد بن يزيد، فقد أورده ابن أبي حاتم 8/ 127، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وروى عنه جمع، فمثله يكون حسن الحديث

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فهذه الطرق يشدّ بعضها بعضاً، فيتقوّى الحديث بها، فيكون حسناً، بل لا يبعد أن يكون صحيحاً لغيره، كما صححه ابن حبّان، والحاكم، كما مرّ.

(1)

راجع تخريج "صحيح ابن حبان" للشيخ شعيب الأرنؤط جـ 5 ص 311 - 312.

ص: 239

والحاصل أن هذا الحديث لا ينزل عن درجة الحسن لما ذكر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -61/ 1304 - وفي "الكبرى" -95 - 1227 بالسند المذكور. وتقدم تخريجه فى المسألة السابقة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌62 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1305 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ صَلَاةً، فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَقَدْ خَفَّفْتَ، أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلَاةَ!، فَقَالَ: أَمَّا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعَوَاتٍ، سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ -هُوَ أَبِي، غَيْرَ أَنَّهُ كَنَى عَنْ نَفْسِهِ- فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ؟ ثُمَّ جَاءَ، فَأَخْبَرَ بِهِ الْقَوْمَ: "اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يحيى بن حبيب بن عربيّ) البصري، ثقة [10] تقدم 60/ 75.

2 -

(حمّاد) بن زيد بن درهم الحافظ الثبت الحجة [8] تقدم 3/ 3.

3 -

(عطاء بن السائب) الثقفي الكوفى، صدوق اختلط، لكن رواية حماد بن زيد عنه قبل الاختلاط [5] تقدم 152/ 243.

4 -

(أبوه) السائب بن مالك، ويقال: ابن يزيد، ويقال: ابن زيد، أبو يحيى، ويقال: أبو كثير الكوفي، والد عطاء ثقة [2].

ص: 240

رَوَى عن سعد، وعليّ، وعمّار، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم. وعنه ابنه عطاء، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو البَخْتَريّ.

قال ابن معين: ثقة. وقالى العجليّ: كوفي تابعي ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وجزم بأنه ابن زيد، ورجّح بأن كنيته أبو عطاء. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": إن السائب والد عطاء ليست له صحبة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (7) أحاديث.

5 -

(عمّار بن ياسر) بن عامر بن مالك العَنْسيّ، أبو الْيَقْظَان، مولى بني مخزوم الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم 195/ 312. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم موثقون، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن السائب بن مالك رحمه الله أنه (فال: صلّى بنا) أي صار إماماً لنا في صلاة (عمار بن ياسر) رضي الله عنهما (صلاةً، فأوجز فيها) وفي الرواية التالية: "فأخفها"، أي صلّى صلاةً خفيفة (فقال له بعض القوم: لقد خففت، أو أوجزت الصلاة) شكّ من الراوي، وفي الرواية التالية: "فكأنهم أنكروها، فقال: ألم أتمّ الركوع والسجود؟ قالوا: بلى

". وفي رواية لأحمد عن أسود بن عامر، عن شريك: "صلّى عمّار صلاةً فجَوَّز فيها، فسُئل، أو فقيل له، فقال: ما خَرَمتُ من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(فقال) أي عمّار رضي الله عنه (أمّا) بتشديد الميم (على ذلك فقد دعوت فيها) أي أمّا مع التخفيف والإيجاز، فقد دعوت الخ، أو أمّا على تقدير اعتراضكم بالتخفيف، فأقول: قد دعوت الخ.

والظاهر أن "أمّا" هذه لمجرد التأكيد، وليس لها عديل في الكلام، كـ "أما" الواقعة في أوائل الخطب في الكتب بعد ذكر الحمد والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم:"أمّا بعد فكذا وكذا". أفاده السندي رحمه الله تعالى.

(بدعوات سمعتهنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي "الهنديّة""دعوات" بإسقاط الباء. وجملة "سمعتهن" في محلّ جرّ صفة لـ "دعوات".

قال السنديّ رحمه الله تعالى: وجمع الدعوات باعتبار أنّ كلّ كلمة دَعْوة -بفتح الدّال- أي مرّةٌ من الدعاء، فإن الدَّعْوَةَ للمرّة، كالْجَلْسة انتهى.

ص: 241

وفي الرواية التالية: "قال: أمّا إني دعوت فيها بدعاء، كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به

".

والظاهر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به في الصلاة، فلذا دعا به فى الصلاة، وبهذا يتجه إيراد المصنف رحمه الله الحديثَ في جملة أنوع الدعوات التي يُدْعَى بها في الصلاة بعد التشهد. والله تعالى أعلم.

(فلمّا قام) أي قام عمّار رضي الله عنه عن ذلك المجلس (تبعه رجل من القوم) أي ليسأله عن تلك الدعوات. قال عطاء بن السائب (هو أبي) مبتدأ وخبره، أي الرجل الذي قام ليسأل عمّاراً عن تلك الدعوات هو السائب والد عطاء (كير أنه كَنى عن نفسه) بتخفيف النون، ويجوز تشديدها، أي لم يُصرّح باسمه، بل قال:"تبعه رجل من القوم"(فسأله عن الدعاء) أي سأل الرجل عمّاراً عن ذلك الدعاء؟ (ثم جاء) معطوف على مقدّر، أي فأخبره به عمّار، ثم جاء (فأخبر به القوم) أي الذين كانوا مع عمّار رضي الله عنه حين ذَكَرَ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بتلك الدعوات.

(اللَّهمّ بعلمك الغيب) هذه الجملة مستأنفة، وقعت جواباً لسؤال مقدر، فكأنه قيل: ما هو الدعاء الذي أخبر به القوم، فقال:"اللَّهم بعلمك الخ". والجارّ والمجرور متعلّق بمقدر، أي أسأَلُكَ بعلمك الخ.

وقال المناوي رحمه الله تعالى: الباء للاستعطاف، والتذلّل، أي أنشدك بحقّ علمك ما خفي على خلقك، مما استأثرت به

(1)

(وقدرتك على الخلق) أي جميع المخلوقات، من إنس، وجنّ، وملك، وغيرهم (أحيني ما علمت الحياة خيراً لي وتوفّني أذا علمت الوفاة خيراً لي) عبر بـ "ما" في الحياة، لاتصافه بالحياة حالاً، وبـ"إذا" الشرطيّة في الوفاة لانعدامها حال الدعاء. أي إذا كانت الوفاة بهذا الوصف، فتوفني.

(اللَّهم وأسألك خشيتك) عطف على المقدر السابق، و"اللَّهم" معترضة، ذُكرت تأكيداً للأول (في الغيب والشهادة) أي في السرّ والعلانية، أو المشهد والمغيب، فإن خشية الله تعالى رأس كلّ خير. وفي نسخة "يعني في الغيب والشهادة" بزيادة "يعني".

(وأسالك كلمة الحقّ) وفي نسخة "كلمة الْحِكَم"، وفي الرواية التالية:"وكلمة الإخلاص في الرضا والغضب"، والمعنى متقارب، أي أسألك النطق بالحقّ (في الرضا والغضب) أي في حالتي رضا الخلق منّي، وغضبهم عليّ فيما أقوله، فلا أُداهن، ولا أُنافق، أو في حالتي رضاي وغضبي، بحيث لا تلجئني شدّة الغضب إلى النطق بخلاف الحقّ، ككثير من الناس إذا اشتدّ غضبهم أخرجهم من الحق إلى الباطل، وذلك من

(1)

"فيض القدير" جـ 2 ص 146.

ص: 242

أخلاق أهل النفاق، كما ثبت في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً:"أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر". فالفجور عند المخاصمة هو الميل عن الحق، والتكلم بالباطل. والله تعالى أعلم.

(وأسألك القصد) أي التوسّط (في الفقر والغنى) أي في حال قلّة المال، وكثرته، ومعنى التوسط فيه: أن لا يكون فيه إسراف، ولا تقتير، فإن الغنَى يبسط اليد ويطغي النفس، ويحمل على التبذير الذي نهى الله عنه، قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} الآية [الإسراء: 27] وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} الآية [الشورى: 27].

والفقر يحمل على التسخط بقضاء الله تعالى، وربّما يحمل على فعل الحرام، كالغصب، والسرقة، وغير ذلك، فالمطلوب من العبد أن يتوسط في الحالتين، فلا يتجاوز الحد فيهما.

(وأسألك نعيماً لا ينفد) وفي نسخة: "لا يَبيد" وهو بفتح الموحّدة، من باد يَبيد، كباع يبيع: إذا ذهب، وانقطع، أي أسألك نعيماً لا ينقطع، ولا يَفنَى، وليس ذلك إلّا نعيم الآخرة، فكأنه سأل الله تعالى الجنّة.

(وأسألك قُرّةَ عين) اختُلف فى معناها: فقال بعضهم: بَرَدَتْ وانقطع بُكاؤها، واستحرارها بالدمع، فإن للسرور دَمعَةً باردةً، وللحُزْن دمعةً حارّةً، وقيل: هو من القَرَار، أي رأت ما كانت مُتَشَوِّفَةً إليه، فقَرَّت ونامت، وقيل: أعطاه حتى تَقَرَّ عينه، فلا تطمح إلى من فوقه. وقيل: أقرّ اللهُ عينَهُ: أنام الله عينَهُ، والمعنى صادف سُرُوراً يُذهبُ سهَرَه، فينام

(1)

.

ثم إنه يحتمل أن يكون المراد أن تقرّ عينه بتلذذه بطاعة مولاه سبحانه وتعالى، ودوام ذكره، وكمال محبّته، والأنس به، كما في الحديث الصحيح:"وجعلت قرّة عيني في الصلاة".

ويحتمل أن يكون المراد أن تقَرَّ عينه بأولاده وذرّيته حيث يراهم مطيعين لله سبحانه وتعالى.

(لا تنقطع) بل تستمرّ حتى تتصل بنعيم الجنّة، وأعلاها النظر إلى وجهه الكريم، كما

(1)

راجع "لسان العرب" جـ 5 ص 3580.

ص: 243

يأتي قريباً.

(وأسألك الرضا بعد القضاء) أي بما قدّرته عليّ في سابق علمك، حتى أتلقّاه بوجه منبسط، وقلب منشرح، وأعلَمَ أن كلّ قضاء قضيته عليّ، فهو نافذ، لا مَحالة، فأتأدب مع قضائك، ولا أقلق، ولا أتسخط (وأسألك برد العيش بعد الموت) برفع الروح إلى منازل السعداء، ودرجات المقرّبين، وفَسْح القبر، وجعله روضةً من رياض الجنّة.

وفيه إشارة إلى أن العيش في هذه الدار لا يبرُد لأحد، بل هو مشوب بالنكد، والكدر، وممزوج بالآلام الباطنة، والأسقام الظاهرة.

(وأسألك لَذَّةَ المْظر إلى وجهك) أي الفوز بمشاهدة وجهك الكريم.

وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم، كما قال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23].

وقد جاء تفسير "الحسنى" في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآية [يونس: 26] بالنظر إلى وجهه الكريم، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، وقال:"إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النار النار نادى مناد: يا أْهل الجنّة إن لكم عند الله موعدّاً، يُريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يُثقّل موازيننا؟ ألم يبيّض وجوهنا، ويُدخدنا الجنّة، ويجيرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحبّ إليهم من النظر إليه، ولا أقرّ لأعينهم".

وأخرج ابن جرير بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يبعث يوم القيامة منادياً يُنادي يا أهل الجنّة -بصوت يسمع أوّلهم وآخرهم- إن الله وعدكم الحُسنى وزيادةً، فالحسنى الجنّة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عز وجل".

قال المناوي رحمه الله: قيد النظر باللذّة، لأن النظر إلى الله تعالى إما نظر هيبة وجلال في عرصات القيامة، أو نظر لطف وجمال في الجنّة، إيذاناً بأن المسؤول هذا انتهى

(1)

.

(والشوق إلى لقائك) قال المجد اللغوي رحمه الله: "الشوق": نزاع النفس، وحركة الْهَوَى، جمعه: أشواق، وقد شاقني حُبُّها: هاجني انتهى.

قال العلامة ابن القيّم رحمه الله: جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا، وهو الشوق إلى لقائه، وأطيب ما في الآخرة، وهو النظر إليه.

ولمّا كان كلامه موقوفاً على عدم ما يضرّ في الدنيا، ويفتن في الآخرة قال (في غير

(1)

"فيض القدير" جـ 2 ص 146.

ص: 244

ضرّاء مضرّة) أي في غير مشقّة مُؤلمة. فـ"الضرّاء" فَعْلاء من الضّرّ. قال الفيّومي: الضّرّ: الفاقة، والفقر، بضم الضاد اسم، وبفتحها مصدر، وضَرَّه يضُرُّه، من باب قتل: إذا فعل به مكروهاً، وأضرّ به يتعدّى بنفسه ثلاثياً، وبالباء رباعياً، قال الأزهريّ: كلّ ما كان سُوءَ حال، وفقر، وشدّة في بدن فهو ضُرٌّ بالضم، وما كان ضدّ النفع، فهو بفتحها، وفي التنزيل:{مَسَّنِيَ الضُّرُّ} الآية [الأنبياء: 83]. قال: و"الضرّاء": نقيض السّرّاء، ولهذا أطلقت على المشقّة انتهى.

قال الطيبي رحمه الله: متعلَّقُ الظرف مشكل، ولعله يتصل بالفقرة الأخيرة، وهى "الشوق إلى لقائك"، سأل شوقاً إليه في الدنيا بحيث يكون في ضرّاء غير مُضرّة، أي شوقاً لا يؤثّر في سلوكي، وإن ضرّني مضرّةً ما، قال [من الطويل]:

إِذَا قُلْتُ أَهْدَى الْهَجْرُ لِي حُلَلَ الْبَلَا

تَقُولِينَ لَوْلَا الهَجْرُ لَمْ يَطِبِ الْحُبُّ

وَإِنْ قُلْتُ كَرْبِي دَائِمٌ قُلْتِ إِنَّمَا

يُعَدُّ مُحِبّاً مَنْ يَدُومُ لَهُ الكَرْبُ

ويجوز اتصاله بقوله: "أحيني" إلخ، ومعنى "ضرّاء مضرّة" الضرّ الذي لا يُصبَرُ عليه.

وفي الرواية التالية: "وأعوذ بك من ضرّاء مُضرّة".

(ولا فتنة مُضلّة) أي موقعة في الحَيرة، مُفضية إلى الهلاك (اللَّهمّ زيّنّا بزينة الإيمان) هي زينة الباطن، إذ لا مُعوّل إلّا عليها، لأن الزينة زينتان، زينة البدن، وزينة القلب، وهي أعظمها قدراً، وإذا حصلت حصلت زينة البدن على أكمل وجه في العُقبى.

ولمّا كان كمال العبد في كونه عالمًا بالحقّ، متّبعًا له، معلمًا لغيره قال (واجعلنا هُدَاةً مُهتدين) وصف الهداة بالمهتدين، لأن الهادي إذا لم يكن مهتدياً في نفسه لم يصلح هادياً لغيره، لأنه يوقع الناس في الضلال من حيث لا يشعر.

وهذا الحديث أفرده بعضهم بالشرح، كما قال المناوي رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عمّار بن ياسر رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

هذا الحديث من أفراد المصنف، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه

(1)

"فيض القدير" جـ 2 ص 147.

ص: 245

هنا -62/ 1305 - وفي " الكبرى" - 96/ 1228 - بالسند المذكور. وفي 62/ 1306 - وفي "الكبرى" -96/ 1229 - بالسند الآتي. وأخرجه (أحمد) 4/ 264. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1306 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: صَلَّى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِالْقَوْمِ صَلَاةً، أَخَفَّهَا، فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهَا، فَقَالَ: أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَمَّا إِنِّي دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ، "اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الإِخْلَاصِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد) الزهري، أبو الفضل البغدادي، قاضي أصبهان، ثقة [11] تقدم 17/ 480.

2 -

(عمه) يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني نزيل بغداد، ثقة فاضل من صغار [9] تقدم 196/ 314.

3 -

(شريك) بن عبد الله النخعي القاضي الكوفي، صدوق يخطىء كثيراً، وتغير حفظه منذ ولي القضاء [8] تقدّم 25/ 29.

4 -

(أبو هاشم الواسطي) الرّمّاني يحيى بن دينار، وقيل: ابن الأسود، وقيل: ابن نافع، ثقة [6] تقدّم 188/ 296.

5 -

(أبو مجلَز) لاحق بن حُميد السدوسي البصري، ثقة من كبار [3] تقدّم 188/ 296.

6 -

(قيس بن عُبَاد)

(1)

الضُّبَعيّ

(2)

أبو عبد الله البصريّ، ثقة مخضرم [2] تقدم 23/ 808.

7 -

(عمار بن ياسر) رضي الله عنه المذكور في السند الماضي.

(1)

بضم العين المهملة، وتخفيف الموحدة.

(2)

بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدّة.

ص: 246

وشرح الحديث، ومتعلّقاته سبقت في الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌63 - (بَابُ التَّعَوُّذِ فِي الصَّلَاةِ)

1307 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: حَدِّثِينِي بِشَيْءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهوية الإمام الثبت الحجة النيسابوري [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي نزيل الرّيّ وقاضيها، ثقة ثبت [8] تقدم 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عَتَّاب الكوفي الإمام الثبت الحجة [6] تقدّم 2/ 2.

4 -

(هلال بن يساف) -بكسر التحتانية- وقد تفتح، ويقال: ابن إساف الأشجعي مولاهم الكوفي، ثقة [3] تقدم 39/ 43.

5 -

(فَرْوة بن نوفل) الأشجعي الكوفي، ثقة [3].

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعن أبيه، وعلي بن أبي طالب، وعائشة، وغيرهم. وعنه هلال بن يساف، وأبو إسحاق السبيعيّ، وشريك بن طارق، وغيرهم.

ذكره ابن حبّان في ثقات التابعين، وقال: قد قيل: إن له صحبة. وذكره أيضاً في الصحابة، وساق له من رواية عبد العزيز بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل، قال: أتيت المدينة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما جاء بك؟ "، قلت: جئت لتعلّمني كلمات

الحديث، قال ابن حبّان: القلب يميل إلى أن هذه اللفظة ليست بمحفوظة، لأن عبد العزيز بن مسلم ربما وهم، فأفحش انتهى.

ص: 247

وقد روى هذا الحديث أبو داود الحَفَريّ، عن الثوريّ، عن أبي إسحاق، عن فروة ابن نوفل، عن أبيه، وكذا أخرجه أصحاب السنن الثلاثة من طريق زُهير بن مُعاوية، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، وهو الصواب، واختلف فيه على أبي إسحاق اختلافاً كثيراً. وقال ابن عبد البرّ في الصحابة: حديثه مضطرب، وفروة بن نوفل الأشجعيّ من الخوارج، خرج على المغيرة بن شعبة في صدر خلافة معاوية، فبعث إليهم المغيرة، فقُتلوا سنة (45) وليس لفروة بن نوفل صحبة، ولا رؤية، وإنّما يروي عن أبيه، وعائشة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن فروة بن نوفل له صحبة؟ فقال: ليست له صحبة، ولأبيه صحبة.

أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده برقم (5525) و (5526) و (5527) و (5528).

6 -

(عائشة) رضي الله تعالى عنها، تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن فَرْوة بن نوفل) الأشجعي رحمه الله تعالى، أنه (قال: قلت لعائشة) أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها (حدثيني بشيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به في صلاته) يعمّ كلّ أجزاء الصلاة، لكن خصّ بأدلة أخرى أن المراد مواضع الدعاء منها، كحال السجود، وبعد التشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي الرواية الآتية -58/ 5523 - من رواية عبدة بن أبي لبابة، عن هلال بن يساف، أنه سأل عائشة رضي الله عنهما ما كان أكثر ما يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته؟ قالت: كان أكثر ما كان يدعو به: "اللَّهم إني أعوذ بك

" (قالت) وفي نسخة: "فقالت" (نعم) كلمة معناها التصديقُ إن وقعت بعد الماضي، نحو هل قام زيد، والوعدُ إن وقعت بعد المستقبل، نحو هل تقوم، ومنه هذا الحديث، فعائشة رضي الله تَعِدُه بأن تحدّثه بما سأل عنه، فـ"نعم" تُبقي الكلام على ما هو عليه من إيجاب، أو نفي، بخلاف "بلى"، فإنها للإيجاب بعد النفي، وقد تقدم بسط الكلام عليهما في أكثر من موضع.

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللَّهم إني أعوذ بك من شرّ ما عملت) أي من شرّ ما

ص: 248

اكتسبته مما يقتضي العقوبة في الدنيا والآخرة (ومن شرّ ما لم أعمل) أي أتحصّن بك من أن أعمل في المستقبل ما يتسبب في إيصال العقوبة إليّ.

واستعاذتُهُ صلى الله عليه وسلم من هذا تعليم للأمة، ولبيان أنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

وقيل: استعاذ من أن يصيبه شر عمل غيره، كما قال الله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الآية [الأنفال: 25]

(1)

.

وقال السندي رحمه الله تعالى: قوله: "من شرّ ما عملت الخ": أي من شرّ ما فعلت، من السيّئات، وما تركت من الحسنات، أو من شرّ كلّ شيء مما يتعلّق به كسبي، أو لا. والله تعالى أعلم انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -63/ 1307 - وفي "الكبرى" -97/ 1230 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن فروة بن نوفل، عنها. وفي 58/ 5525 - عن محمد بن قُدامة، عن جرير به. وفي -58/ 5526 - عن هناد بن السريّ، عن أبي الأحوص، عن حُصين، عن هلال به. وفي 59/ 5527 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حصين به. و59/ 5528 - عن محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة، عن حُصين به.

وفي -58/ 5523 - عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن موسى بن شيبة، عن الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن هلال بن يساف، أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أكثر ما يدعو به رسول صلى الله عليه وسلم قبل موته؟، فذكرته. وفي 58/ 5524 - عن عمران بن بكّار، عن أبي المغيرة، عن الأوزاعيُّ به، بلفظ: "سُئلت عائشة ما كان أكثر ما يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم؟

".

وأخرجه (م) 8/ 79، و80 (د) 1550 (ت) 3839 (وأحمد) 6/ 31، و6/ 100، و6/ 213، و6/ 278، و6/ 139، و6/ 257. (وعبد ابن حميد) 1529. والله

(1)

"المنهل العذب المورود" جـ 8 ص 810.

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 56.

ص: 249

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌64 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1308 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي صَلَاةً بَعْدُ إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن بشار) بُندار أبو بكر العبدي البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

2 -

(محمد) بن جعفر غُندر البصري، ثقة حافظ [9] تقدّم 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصري [7] تقدم 24/ 26.

4 -

(أشعث) بن أبي الشعثاء المحاربي الكوفي، ثقة [6] تقدّم 90/ 112.

5 -

(أبوه) سُليم بن الأسود بن حنظلة، أبو الشعثاء المحاربي الكوفي، ثقة من كبار [3] تقدّم 90/ 112.

6 -

(مسروق) بن الأجدع الهمداني، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم [2] تقدم 90/ 112.

7 -

(عائشة) رضي الله عنهما تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، وأن شيخه أحد التسعة الذين اتفق بالرواية عنهم الأئمة الستة أصحاب الأصول دون واسطة، وفيه رواية الابن عن أبيه، ورواية تابعيّ عن تابعي، وفيه عائشة من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة رضي الله عنها) أنها (قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر؟) سيأتي للمصنف رحمه الله 21/ 1476 - سبب سؤال عائشة رضي الله عنها عن ذلك من رواية عمرة عنها،

ص: 250

قالت: سمعت عائشة تقول: جاءتني يهوديّة، تسألنى، فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر، فلمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله أيعذب الناس في القبور؟ فقال: "عائذاً بالله

" الحديث.

(فقال: نعم عذاب القبر حقّ) ظاهره أن هذا الجواب كان عقب سؤالها رضي الله عنها، لكن سيأتي أن جوابه صلى الله عليه وسلم كان بعد أن أنكر ذلك على يهودية، ثمّ أوحي إليه، ففي الرواية الآتية في "كتاب الجنائز" 115/ 2064 - من رواية عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي امرأة من اليهود، وهي تقول: إنكم تفتنون في القبور، فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنما تُفتن يهودُ، وقالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور"، قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ يستعيذ من عذاب القبر.

وأخرج مسلم من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخلت عليّ امرأة من اليهود، وهي تقول: هل شَعَرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"إنما يُفتَن يهود"، قالت عائشة، فلبثنا ليالي، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل شَعَرت أنه أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور"، قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب القبر.

وأخرج أحمد بإسناد على شرط البخاريّ، عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأمويّ، عن عائشة رضي الله عنها: أن يهودية كانت تخدمها، فلا تصنع عائشة لها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهوديّة: وقاك الله عذاب القبر، قالت: فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟، قال: كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة، ثمّ مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق".

(قالت عائشة) رضي الله عنها (فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاةً) وفي نسخة "صلى صلاة"(بعدُ) بالبناء على الضم، لأنه من الظروف التي تبنى على الضم لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها، أي بعد أن سألته عائشة رضي الله عنها عن عذاب القبر؟، فأعلمه الله بالوحي أنه حقّ، وأجابها بذلك (إلا تعوّذ من عذاب القبر) هو ضرب من لم يُوفَّق للجواب عند السؤال بمقامع من حديد، وغيره من أنواع العذاب، كشدة الضغطة، ووحشة الوحدة، والمراد بالقبر البرزخ، والتعبير به للغالب، أو كلّ ما استقرّ فيه أجزاؤه فهو قبره.

وفيه إثبات عذاب القبر، والرّدّ على المنكر لذلك من المعتزلة، وسيأتي الكلام عليه

ص: 251

مستوفًى في "كتاب الجنائز"، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -64/ 1308 - وفي "الكبرى" -98/ 1231 - بالإسناد المذكور.

وأخرجه (خ) في "الجنائز" 3/ 123 و (م) في "الصلاة" جـ 2 ص 92. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية التعوذ فى الصلاة.

ومنها: إثبات عذاب القبر.

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من خوفه من عذاب الله تعالى، مع أنه سبحانه وتعالى قد غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1309 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

أَبِي، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: «"للَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ"، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ، فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عثمان) بن سعيد القرشي مولاهم، أبو حفص الحمصيّ، صدوق [10] تقدم 21/ 535.

2 -

(أبوه) عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي مولاهم، أبو عمرو الحمصيّ، ثقة عابد [9] تقدّم 69/ 85.

3 -

(شعيب) بن أبي حمزة دينار، أبو بشر الحمصيّ، ثقة عابد، من أثبت الناس في

(1)

وفي نسخة "حدّثني".

ص: 252

الزهري [7] تقدّم 69/ 85.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام المدني الشهير الحجة الثبت [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(عروة بن الزبير) بن العوّام أبو عبد الله المدني الفقيه الثقة الثبت [3] تقدم 40/ 44.

6 -

(عائشة) رضي الله عنها تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيّات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقاث، وأن النصف الأول منه حمصيون، والثاني مدنيون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي عن خالته، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن الزهري)، (قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة) رضي الله تعالى عنها (أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة) هذا مطلق لا يخصّ محلاً من الصلاة، لكن يعين أنه بعد التشهّد ما أخرجه أحمد -6/ 200 - وصححه ابن خزيمة -واللفظ له- من رواية ابن جُريج، أخبرني عبد الله بن طاوس، عن أبيه، أنه كان يقول بعد التشهد كلمات، يعظّمهنّ جدّاً، قلت: في المثنى كليهما؟، قال: بل في المثنّى الأخير بعد التشهّد،، قلت: ما هو؟، قال:"أعوذ بالله من عذاب القبر، وأعوذ بالله من عذاب جهنّم، وأعوذ بالله من شرّ المسيح الدّجّال، وأعوذ بالله من عذاب القبر، وأعوذ بالله من فتنة المحيا والممات"، قال: كان يعظّمهنّ.

قال ابن جريج: أخبرنيه عن أبيه، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولمسلم من طريق محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "إذا تشهّد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللَّهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم

" الحديث، هذه رواية وكيع عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عنه، ورواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي،، بلفظ: "إذا فرغ أحدكم من التشهّد الأخير، فليتعوذ بالله من أربع

" فذكره.

فهذا -كما قال في "الفتح"

(1)

- فيه تعيين هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهّد، فيكون سابقاً على غيره من الأدعية، وما ورد الإذن فيه أن المصلي يتخيّر من الدعاء ما

(1)

"فتح" جـ 2 ص 583.

ص: 253

شاء يكون بعد هذه الاستعاذة، وقبل السلام.

(اللَّهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر) تقدّم الكلام فيه في الذي قبله (وأعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال) قال أهل اللغة: الفتنة: الامتحان والاختبار. قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره انتهى. وتطلق على القتل، والإحراق، والنميمة، وغير ذلك.

والمسيح -بفتح الميم، ومحفيف المهملة المكسورة، وآخره حاء مهملة- يطلق على الدجّال، وعلى عيسى ابن مريم عليه السلام، ولكن إذا أريد الدجّال قُيّد له.

وقال أبو داود في "السنن": المسيح مثقّل الدجّال، ومخفف عيسى، والمشهور الأول. وأما ما نقل الفربري في رواية المستملي وحده عنه، عن خلف بن عامر، وهو الهمداني أحد الحُفّاظ أن المسيح بالتشديد والتخفيف واحد، يقال للدجّال، ويقال لعيسى، وأنه لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين، فهو رأي ثالث.

وقال الجوهريّ: من قال بالتخفيف فلمسحه الأرض، ومن قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين. وحكى بعضهم أنه قال بالخاء المعجمة في الدّجّال، ونسب قائله إلى التصحيف.

واختلف في تلقيب الدجّال بذلك، فقيل: لأنه ممسوح العين، وقيل: لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحاً، لا عين فيه، ولا حاجب، وقيل: لأنه يمسح الأرض إذا خرج.

وأما عيسى عليه السلام، فقيل: سُمّي بذلك لأنه خرج من بطن أمّه ممسوحاً بالدهن، وقيل: لأن زكريّا مسحه، وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلّا برىء، وقيل: لأنه كان يمسح الأرض بسياحته، وقيل: لأن رجله كانت لا أخمص لها، وقيل: للبسه المسوح، وقيل: هو بالعبرانية ما شيخا، فعرب المسيح، وقيل: المسيح الصدّيق. وذكر صاحب "القاموس" أنه جمع في سبب تسمية عيسى بذلك خمسين قولاً، أوردها في "شرح المشارق"

(1)

.

و"الدّجّال": الخَدّاع الكَذّاب. فَعّال، من الدَّجل، وهو الخدع، والكذب، والتغطية، والمراد به هنا الكذاب المعهود الذي سيظهر في آخر الزمان، وفي معناه كلّ مفسد مضلّ.

والمراد بفتنة المسيح الدجّال هي ما يظهر على يديه من الخوارق للعادة التي يضلّ بها من ضعف إيمانه، كما اشتملت عليه الأحاديث الكثيرة التي بيّنت خروجه في آخر

(1)

المصدر السابق جـ 2 ص 584.

ص: 254

الزمان، وما يظهر معه من تلك الأمور، أعاذنا الله تعالى من شر فتنته، بمنّه وكرمه آمين.

(وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)"المحيا" بالقصر مَفْعَل من الحياة، كالممات من الموت، والمراد الحياة والموت، ويحتمل أن يريد زمان ذلك، ويريد بذلك محنة الدنيا وما بعدها، ويحتمل أن يريد بذلك حالة الاحتضار، وحالة المسألة في القبر، وكأنه استعاذ من فتنة هذين المقامين، وسأل التثبيت فيهما. قاله القرطبي.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: فتنة المحيا ما يَعرض للإنسان مدّة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها -والعياذ بالله- أمر الخاتمة عند الموت.

وفتنة الممات يجوز أن يُراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، ويجوز أن بها فتنة القبر، وقد صحّ -يعني في حديث أسماء الآتي في الجنائز- "إنكم تفتنون في قبوركم مثل، أو قريباً من فتنة الدجّال"، ولا يكون مع هذا الوجه متكرراً مع قوله:"عذاب القبر"، لأن العذاب مترتب عن الفتنة، والسبب غير المسبب.

وقيل: أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر، وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الحيرة، وهذا من العامّ بعد الخاصّ، لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجّال داخلة تحت فتنة المحيا.

وأخرج الحكيم الترمذيّ في "نوادر الأصول" عن سفيان الثوريّ أن الميت إذا سئل "من ربّك" تراءى له الشيطان، فيشير إلى لنفسه إنّي أنا ربّك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له حين يسأل، ثمّ أخرج بسند جيّد إلى عمرو بن مرّة:"كانوا يستحبّون إذا وُضع الميت في القبر أن يقولوا: اللَّهمّ أعذه من الشيطان". قاله في "الفتح".

(اللَّهمّ إني أعوذ بك من المأثم) أي مما يأثم به الإنسان، أو مما فيه إثم، أو مما يوجب الإثم، أو الإثم نفسه، مصدر وُضع موضع الاسم.

(والمَغْرَم) قال الجزري: هو مصدر وُضع موضع الاسم، يريد به مغرم الذنوب والمعاصي. وقيل: المغرم كالغرم، وهو الدين، ويريد به ما استُدين فيما يكرهه الله، أو فيما يجوز، ثمّ عجز عن أدائه، فأما دين احتاج إليه، وهو قادر على أدائه، فلا يُستعاذ منه انتهى

(1)

.

وقال الحافظ: المغرم الدين، يقال: غرم -بكسر الراء- أي ادَّانَ، قيل: المراد به ما

(1)

"المرعاة" جـ 3 ص 292.

ص: 255

يُستدان فيما لا يجوز، أو فيما يجوز، ثم يعجز عن أدائه، ويحتمل أن يراد به ما هو أعمّ من ذلك، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين. وقال القرطبي: المغرم الغرم، وقد نبّه في الحديث على الضرر اللاحق من المغرم انتهى

(1)

.

وقال السنديّ: بعد ذكر الأقوال السابقة: قلت: والظاهر أن المراد ما يُفضي إلى المعصية بسبب ما انتهى

(2)

.

(فقال له قائل) هي عائشة رضي الله عنها، كما بينته رواية المصنف -9/ 5454 - من طريق معمر، عن الزهري، ولفظها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يتعوّذ من المغرم والمأثم، قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تتعوذ من المغرم؟، قال:"إنه من غرم حدّث، فكذب، ووعد فأخلف".

(ما أكثر ما تستعيذ من المغرم)"ما" الأولى تعجبية، و"أكثر" -بفتح الراء- فعل تعجب، و"ما" الثانية مصدريّة، والمصدر المؤوّل منصوب على أنه مفعول فعل التعجّب. كأن هذا القائل رأى أن الدين إنما يتعلق بضيق الحال، ومثله لا يحترز عنه أصحاب الكمال. قاله السندي رحمه الله تعالى.

(فقال: إن الرجل) المراد الجنس، وغالب حاله (إذا غرم) -بكسر الراء- أي لزمه دين، والمراد استدان، واتخذ ذلك دأبه وعادته، كما يدلّ عليه السياق (حدّث) -بتشديد الدّال- أي أخبر عن ماضي الأحوال لتمهيد عذره في التقصير (فكذب) لأنه إذا تقاضاه ربّ الدين، ولم يحضر ما يؤدي به دينه يكذب ليتخلص من يده، ويقول: لي مال غائب إذا حضر أؤدي دينك (ووعد) أي في المستقبل بأن يقول: أعطيك غداً، أو في المدّة الفلانية (فأخلف) في وعده.

وبما تقرّر عُلم أن "غرم" شرط، و"حدّث" جزاء، و"كذب" عطف على الجزاء مرتب عليه، و"وعد" عطف على "حدّث"، لا على "غرم"، و"أخلف" مرتب عليه.

وحاصل الجواب أن الدين يؤدي إلى خلل بالدين، فلذلك وقعت العناية بالمسألة.

واستُشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذكر مع أنه معصوم مغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر.

وأجيب بأجوبة:

(أحدها): أنه قصد التعليم لأمته.

(ثانيها): أن المراد السؤال منه لأمته، فيكون المعنى هنا: أعوذ بك لأمتي.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 584 - 585.

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 57.

ص: 256

(ثالثها): سلوك طريق التواضع، وإظهار العبوديّة، ولزوم خوف الله، وإعظامه، والافتقار إليه، وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقق الإجابة، لأن ذلك يُحصّل الحسنات، ويرفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك، لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة له لا يترك التضرّع، فمن لم يتحقّق له ذلك أحرى بالملازمة.

وأما الاستعاذة من فتنة الدجّال مع تحققه أنه لا يدركه، فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين. وقيل على الثالث يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقق عدم إدراكه، ويدلّ عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم: "إن يَخرُج، وأنا فيكم، فأنا حجيجه

" الحديث. أفاده في "الفتح"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -64/ 1309 - وفي "الكبرى" - 98/ 1232 - عن عمرو بن عثمان، عن أبيه، عن شُعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، عنها. وفي -9/ 5454 - عن محمد بن عثمان بن أبي صفوان، عن سلمة بن سعيد بن عطيّة، وكان خير أهل زمانه، عن معمر، عن الزهريّ به. وفي -22/ 5472 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن بقيّة، عن سليمان سُليم الحمصيّ، عن الزهريّ به.

وأخرجه (خ -1/ 211 - ، و3/ 154، و9/ 75 (م) - 2/ 92، و2/ 93 (د) رقم 880 (ابن خزيمة)852. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: مشروعية الدعاء بهذا الدعاء في الصلاة.

ومنها: إثبات عذاب القبر، خلافاً لمن نفاه من المعتزلة، والتعوذ منه.

ومنها: التعوذ من فتنة الأشياء المذكورة فيه.

ومنها: تعظيم شأن الدين، وأنه سبب للوقوع في الإثم.

ومنها: تحريم الكذب، وخلف الوعد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع

(1)

"فتح" جـ 2 ص 585.

ص: 257

والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1310 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، عَنِ الْمُعَافَى

(1)

، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ ح وَأَنْبَأَنَا

(2)

عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ

(3)

مِنْ أَرْبَعٍ، مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا بَدَا لَهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن عبد الله بن عمّار الموصلىّ) أبو جعفر، الْمُخَرِّمي، نزيل الموصل، ثقة حافظ [10] تقدم 20/ 1220.

2 -

(عليّ بن خشرم) المروزيّ، ثقة، من صغار [10] تقدّم 8/ 8.

3 -

(المُعافى) بن عمران الأزديّ الفهمي، أبو مسعود الموصلىّ، ثقة عابد فقيه، من كبار [9] تقدّم 36/ 1217.

4 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعيّ، أبو إسرائيل الكوفي، ثقة مأمون [8] تقدّم 8/ 8.

5 -

(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الإمام الفقيه الحجة [7] تقدم 45/ 56.

6 -

(حسّان بن عطية) المحاربي مولاهم، أبو بكر الدمشقيّ، ثقة فقيه عابد [4].

رَوَى عن أبي أمامة، وعنبسة بن أبي سفيان، وخالد بن معدان، ومحمد بن أبي عائشة، وغيرهم. وعنه الأوزاعيّ، وأبو غسّان المدني، والوليد بن مسلم، وغيرهم.

قال حنبل عن أحمد، وعثمانُ الدارميُّ عن ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان قدريّا. وقال سعيد بن عبد العزيز: هو قدريّ، فبلغ ذلك الأوزاعيّ، فقال: ما أغرّ سعيدًا بالله، ما أدركت أحدًا أشدّ اجتهادًا، ولا أعمل منه. وقال الجُوزجانيّ: كان ممن يتوهم عليه القدر. وقال العجلي: شامي ثقة. وقال الأوزاعيّ: كان حسّان يتنحّى إذا صلّى العصر في ناحية المسجد، فيذكر الله حتى تغيب الشمس.

(1)

وفىِ نسخة "عن مُعَافَى".

(2)

وفي نسخة "وأخبرني".

(3)

وفي نسخة "فليتعوذ من أربع".

ص: 258

وقال خالد بن نزار: قلت للأوزاعيّ: حسّان بن عطيّة عمن قال؟ فقال لي: مثل حسّان كنا نقوله عمن؟. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره البخاريّ في "الأوسط" في فصل من مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة، وقال: كان أفضل أهل زمانه. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث فقط.

7 -

(محمد بن أبي عائشة) المدني مولى بني أُميّة، سكن دمشق، خرج إليها مع بني أميّة حين أخرجهم ابن الزبير، يقال: اسم أبيه عبد الرحمن

(1)

، حجازيّ ليس به بأس [4].

رَوَى عن أبي هريرة، وجابر، وعمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وعنه حسّان بن عطيّة، وأبو قلابة، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وأبو إسحاق الحجازيّ، شيخ لبقيّة.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكر ابن أبي حاتم أنه أخو موسى بن أبي عائشة، وقال سألت أبي عنه؟، فقال: ليس بمشهور، قليل الحديث انتهى.

قال الحافظ: وقع له -أي لابن أبي حاتم- وَهَمّ في ذكر الرواة عنه، وذلك أنه صحّف أبا قلابة، فقال: روى عنه أبو عوانة، ثمّ ضمّ إليه شعبة، والثوريّ، وهؤلاء إنما رووا عنه بواسطة، فسبحان من لا يسهو انتهى.

أخرج له البخاري في "جزء القراءة" حديثاً واحداً، والباقون إلا الترمذي، له عندهم حديث الباب، وعند أبي داود حديث آخر: "ذهب أصحاب الدثور بالأجور، يصلّون كما نصلي

" في الذكر عقب الصلاة. والله تعالى أعلم.

8 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدّم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيّات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم موثقون، وأن فيه كتابة (ح) إشارة إلى الانتقال إلى سند آخر، وقد أشبعت الكلام عليها في مواضع كثيرة فيما مضى من هذا الشرح، فللمصنف رحمه الله تعالى في هذا الحديث سندان إلى الأوزاعي، أحدهما محمد بن عبد الله الموصلي، عن المعافى، عنه، والثاني علي بن خشرم، عن عيسى بن يونس، عنه، وأن لفظ الحديث المذكور هنا هو لفظ عيسى بن يونس، وأما المعافى فرواه بمعناه، وفيه رواية تابعيّ عن تابعي، وفيه أبو هريرة أكثر من

(1)

عبارة "تهذيب الكمال" جـ 25 ص 430: "ويقال: محمد بن عبد الرحمن بن أبي عائشة".

ص: 259

روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن محمد بن أبي عائشة) أنه (قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تشهّد أحدكم) وفي رواية مسلم "إذا فرغ أحدكم من التشهّد الآخر

" ومعناه آخر الصلاة، فيشمل ما فيه تشهد واحد، كالصبح، وفيه تقييد لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور قبله، حيث قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة

"، فبين في هذا الحديث أن التعوذ يكون بعد الأخير.

وفيه ردّ على ابن حزم فيما ذهب إليه من وجوب التعوذ أيضاً في التشهّد الأول.

قال النووي رحمه الله: فيه التصريح باستحبابه في التشهد الأخير، والإشارة إلى أنه لا يستحبُّ في الأول، وهكذا الحكم، لأن الأوّل مبني على التخفيف انتهى.

(فليتعوّذ بالله) ظاهره وجوب الاستعاذة من هذه الأربع، وإليه ذهب طاوس، حيث أمر ابنه بإعادة الصلاة لتركها، وهو مذهب ابن حزم، وحمله الجمهور على الندب، وادعى بعضهم الإجماع على الندب، وهو لا يتمّ مع مخالفة من ذكر.

قال العلامة الشوكاني رحمه الله: والحقّ الوجوب، إن علم تأخّر هذا الأمر عن حديث المسيء صلاته، لما عرّفناك في شرحه. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كونه للوجوب هو الظاهر. والله تعالى أعلم.

(من أربع) أي من أربع خصال (من عذاب جهنم) الجارّ والمجرور بدل من الجاز والمجرور قبله بدل تفصيل من مجمل، وقدم التعوذ من عذاب جهنم لكونه أشدّ وأبقى (وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات ومن شرّ المسح الدجّال) قيل: أخره لأنه إنما يقع في آخر الزمان قربَ الساعة.

قال القاري: قيل: له شرّ وخير، فخيره أن يزداد المؤمن إيمانًا، ويقرأ ما هو مكتوب بين عينيه، من أنه كافر، فيزداد إيماناً، وشرّه أن لا يقرأه الكافر، ولا يعلمه انتهى.

(ثمّ يدعو لنفسه بما بداله) هذا مما يؤكّد أن الأمر بالتعوذ من الأمور الأربعة للوجوب، حيث خيّر المصلي أن يدعو بما يشاء هنا، بخلاف ما تقدّم، فقد أمره دون تخيير. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

ص: 260

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -64/ 1310 - وفي "الكبرى" -98/ 1233 - بالإسناد المذكور.

وأخرجه (م) -2/ 93 - (د) رقم -983 - (ق) 909 - (أحمد) 2/ 236، و2/ 477، (الدارمي) -1350 - ، و1351 - (ابن خزيمة)721. والله تعالى أعلم.

وفوائد الحديث تعلم مما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌65 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الذِّكْرِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ)

1311 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ: "أَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفي البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان، أبو سعيد البصري الإمام الحجة الثبت [9] تقدم 4/ 4.

[تنبيه]: كون يحيى المذكور في السند هو القطانَ هو ظاهر عمل الحافظ أبي الحجّاج المزّيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف" جـ 2 ص 278، فإنه بعدما ذكر حديثاً رواه عمرو بن علي، ومحمد بن المثنّى، ويعقوب بن إبراهيم، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد

ذكر حديث الباب، فقال: س في الصلاة عن عمرو بن علي، عن يحيى به اهـ. فظاهره أنه يحيى بن سعيد المتقدّم.

فإن قلت: روى الحافظ أبو محمد الدارمي رحمه الله تعالى في "سننه" جـ 1 ص 80 رقم -206 - هذا الحديث عن محمد بن أحمد بن خلف، عن يحيى بن سُليم، عن جعفر بن محمد

فيحتمل أن يكون يحيى في سند المصنف هو ابن سليم.

قلت: الظاهر أن يحيى في سند المصنف هو القطان، كما أفاده صنيع الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى الذي أشرت إليه آنفاً، فقد أخرج الحديث أحمد في "مسنده" جـ 3

ص: 261

ص 319 - عن يحيى، ولم ينسبه، فالظاهر أنه القطان، لأن أحمد كان كثير الرواية عن يحيى القطان، وأما ابن سليم فكان أحمد يتكلم فيه، ويضعفه، ولم يرو عنه إلّا حديثاً واحداً.

لكن لا يُدفع أن يكون هو ابن سليم، لأنه في طبقته. والله تعالى أعلم.

ويحيى بن سُليم هو القرشي الطائفي، نزيل مكة، صدوق سيء الحفظ [9] تقدم 71/ 87. والله تعالى أعلم.

3 -

(جعفر بن محمد) الهاشميّ، أبو عبد الله المدنيّ، المعروف بالصادق صدوق فقيه إمام [6] تقدّم 123/ 182.

4 -

(أبوه) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو جعفر المدني، المعروف بالباقر، ثقة فاضل [4] تقدّم 123/ 182.

5 -

(جابر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، تقدّم 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح، وأن شيخه أحد مشايخ الستة بلا واسطة، وفيه جابر رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن جابر) رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى صلاته بعد التشهّد) فيه استحباب هذ الذكر في الصلاة بعد التشهد، وقبل السلام، على ما هو رأي المصنف رحمه الله تعالى حيث أورده هنا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن الذي يظهر لي أنّ المراد بالصلاة والتشهد ليس الصلاةَ المعهودة، ولا التشهدَ المعروف، وهو "التحيّات لله الخ"، وإنما المراد الخطبة، كما سيأتي الكلام عليه قريباً.

(أحسن الكلام كلام الله) فيه مدح كلام الله تعالى، والمراد كتاب الله عز وجل، كما بينته الرواية الآتية في "كتاب الجمعة": "إن أصدق الحديث كتاب الله

"، وفي رواية أحمد: "إن أحسن الحديث كتاب الله عز وجل"

الحديث.

وهو بمعنى قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]

ص: 262

فكلام الله تعالى أحسن من كلام غيره من المخلوقين، فقد أخرج الترمذي، وحسّنه، مرفوعاً "وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقة".

فكتاب الله تعالى هو الجامع لجميع أصناف المعلومات، وهو المحتوي على جميع حقائق التشريعات، ففيه نبأُ مَن قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعّب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلُقُ على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته أن قالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجنّ: 1]، من عَلِمَ علمَهُ سَبَق، ومن قال به صَدَق، ومن حَكَمَ به عَدَل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم

(1)

.

(وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) قال القرطبيّ: بضم الهاء، وفتح الدّال فيهما، وبفتح الهاء، وسكون الدال فيهما، وهما من أصل واحد، والهُدَى بالضم: الدلالةُ والإرشاد، والهَدْيُ بالفتح: الطريقُ، يقال: فلان حَسَنُ الهَدْي: أي المذهب في الأمور كلها، أو السيرة انتهى.

والمعنى أن أحسن السيرة، وأجمل الهيئة، وأكمل الطريقة هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هدي غيره فهو ضلال، وإن كان متسماً ظاهراً بصفة العبادة، ولذا لما رأى صلى الله عليه من بعض أصحابه تعمّقاً في العبادة أنكر عليهم ذلك.

ففي "صحيح البخاري" من حديث أنس رضي الله عنه: جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا أُخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالُوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر، قال: أحدهم: أمّا أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوّج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أَمَا والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقُدُ، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني"

(2)

.

وفيه أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم من الأعمال

(1)

أخرجه الترمذي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً، لكنه ضعيف بسبب الحارث الأعور، ولذا لم أورده على أنه حديث مرفوع، وإنما هو كلام حق، وَوَصْفٌ مطابق للقرآن. فتنبّه.

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه" جـ 7 ص 2.

ص: 263

أمرهم بما يُطيقون، قالوا: لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، فيغضبُ، حتى يعرف الغضب في وجهه، ثمّ يقول:"إن أتقاكم، وأعلمكم بالله أنا"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -65/ 1311 - وفي "الكبرى" -99/ 1234 - عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن جعفر الصادق، عن أبيه، عنه، مختصراً. وفي 22/ 1578 - عن عتبة بن عبد الله، عن ابن المبارك، عن سفيان الثوريّ، عن جعفر به، مطولاً.

وأخرجه (م) 3/ 11 مطولاً (د) رقم 2954 - (ق) 2416 - (أحمد) 3/ 310، و3/ 319، و3/ 337، و3/ 371 (ابن خزيمة) - 1785. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: هذا الحديث أورده المصنف رحمه الله تعالى هنا مستدلاً على مشروعية هذا الذكر في الصلاة بعد التشهد، وهذا يدلّ على أنه يرى أن المراد بالصلاة في قوله:"في صلاته بعد التشهد" الصلاة المعهودة، والتشهد هو قوله:"التحيّات لله الخ".

لكن الذي يظهر لي أن المراد بالصلاة الخطبةُ، بدليل أن هذا الحديث مختصر من حديث جابر رضي الله تعالى عنه الآتي للمصنف في "كتاب الجمعة" رقم 22/ 1578 من طريق سفيان الثوري، عن جعفر، بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته

وفيه "إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم

الحديث.

وأصرح منه ما عند أحمد رحمه الله، فقد رَوَى الحديثَ عن يحيى شيخ المصنف بسنده

ولفظُهُ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته بعد التشهّد: "إن أحسن الحديث كتاب الله عز وجل، وأحسن الهدي هدي محمد

" الحديث.

فدلّ على أن المراد ليس تشهد الصلاة، وإنما هو تشهد الخطبة، وسماها صلاةً لأنها من مقدماتها، فخطبة الجمعة كجزء من صلاتها، ولذلك جعلها الجمهور من شرط صحتها، كما سيأتي الكلام عليه في محله، إن شاء الله تعالى.

(1)

المصدر السابق جـ 1 ص 11 - 12.

ص: 264

والحاصل أن استدلال المصنف رحمه الله بهذا الحديث على مشروعية هذا الذكر عقب تشهد الصلاة محل نظر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌66 - (بَابُ تَطْفِيفِ الصَّلَاةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "التطفيف" مصدر طَفَّفَ، يقال: طَفَّفه، فهو مُطَفِّفٌ: إذا كال، أو وزن، ولم يوف.

والمراد به هنا نقص إتمام الركوع والسجود في الصلاة. والله أعلم بالصواب.

1312 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَهُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ

(2)

، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي، فَطَفَّفَ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مُنْذُ كَمْ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ: مَا صَلَّيْتُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَوْ مِتَّ، وَأَنْتَ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمِتَّ عَلَى غَيْرِ فِطْرَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُخَفِّفُ، وَيُتِمُّ وَيُحْسِنُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) الرُّهَاوي، ثقة حافظ [11] تقدم 38/ 42.

2 -

(يحيى بن آدم) أبو زكريّا الكوفي، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] تقدم 1/ 451.

3 -

(مالك بن مِغْوَل) أبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبت، من كبار [7] تقدم 98/ 127.

4 -

(طلحة بن مُصرِّف) بن عمرو بن كعب اليامي الكوفي، ثقة قارىء فاضل [5] تقدم 191/ 306.

5 -

(زيد بن وهب) الْجُهَني، أبو سليمان الكوفي، ثقة مخضرم جليل [2] تقدم 26/ 30.

6 -

(حُذيفة) بن اليمان حليف الأنصار صحابي مشهور ابن صحابي رضي الله عنهما، تقدم 2/ 2. والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة "حدثنى".

(2)

وفي بعض النسخ "مالك بن مِغْوَل".

ص: 265

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده، ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن حذيفة) رضى الله تعالى عنه (أنه رأى رجلاً) لم يعرف اسمه، وعند ابن خزيمة، وابن حبان، من طريق الثوري، عن الأعمش أنه كان عند أبواب كندة، ومثله لعبد الرزاق عن الثوريّ (يصلي) جملة في محلّ نصب صفة لـ"رجلاً"(فطفف) من التطفيف، وهو يطلق على النقص والزيادة

(1)

والمراد هنا الأول، ففي رواية البخاري:"رأى رجلاً لا يُتمّ الركوع والسجود"، وفي رواية عبد الرّزّاق "فجعل ينقُر، ولا يتم ركوعه"(فقال له حذيفة: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين عاماً) وفي نسخة "سنة".

فإن قيل: هذا الكلام مشكل، لأن حذيفة رضي الله عنه مات سنة ست وثلاثين، فعلى هذا يكون ابتداء صلاة الرجل قبل الهجرة بأربع سنين، أو أكثر، ولعلّ الصلاة لم تكن فُرضت بعدُ، فكيف يصح قوله: منذ أربعين سنة؟

أجيب: بأنه أطلق ذلك، وأراد المبالغة، وزاد في "الفتح": أو لعله ممن كان يصلي قبل إسلامه، ثم أسلم، فحصلت المدّة المذكورة من الأمرين انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله في "الفتح" بعيد، كما لا يخفى. والله تعالى أعلم.

(قال: ما صليت منذ أربعين سنة) هو نظير قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته "فإنك لم تصل".

وقال التيمي في شرح البخاري: معنى "ما صليت" أي صلاة كاملة، وقيل: نَفَى الفعلَ عنه بما نُفِي عنه من التجويد، كقوله:"لا يزني الزاني، حين يزني وهو مؤمن"، نفى عنه الإيمان لمثل ذلك (ولو متّ) بضم الميم، وكسرها (وأنت تصلي هذه الصلاةَ) جملة في محلّ نصب على الحال (لمتّ على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: والمراد بـ "فطرة محمد" صلى الله عليه وسلم) شرعه ودينه انتهى.

واستُدلّ به على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى أن الإخلال بها مبطل للصلاة.

(1)

المشهور في كتب اللغة أن التطفيف هو النقص، لكن أشار في "اللسان" إلى أنه يكون بمعنى الوفاء والنقص. راجعه في مادة "طفف".

ص: 266

وعلى تكفير تارك الصلاة، لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخلّ ببعض أركانها، فيكون نفيه عمن أخلّ بها كلها أولى.

وهذا بناء على أن المراد بالفطرة: الدين، وقد أطلق الكفر على من لم يصلّ، كما تقدم في بابه، وهو إما على حقيقته عند قوم، وإما على المبالغة في الزجر عند آخرين.

قال الخطابي: معنى "الفطرة": الملة، أو الدين، قال: ويحتمل أن يكون المراد بها هنا السنة، كما جاء "خمس من الفطرة"

الحديث، ويكون حذيفة قد أراد توبيخ الرجل ليرتدع في المستقبل، ويرجحه وروده من وجه آخر بلفظ "سنة محمد".

قال التيمي: وسميت الصلاة فطرة لأنها أكبر عُرَى الإيمان.

وفيه أن الصحابي إذا قال: سنة محمد، أو فطرته كان حديثًا مرفوعاً، وقد خالف فيه قوم، والراجح الأوّل. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما المثل المضروب في هذا الحديث لمن لا يُتمّ ركوعه، ولا سجوده، ففي غاية الحسن، فإن الصلاة هي قوت قلوب المؤمنين وغذاؤها بما اشتملت عليه من ذكر الله، ومناجاته وقربه، فمن أتمّ صلاته، فقد استوفى غذاء قلبه وروحه، فما دام على ذلك كملت قوّته، ودامت صحّته وعافيته، ومن لم يُتمّ صلاته، فلم يستوف قلبُهُ وروحُة قوتها وغذاءها، فجاع قلبه، وضعف، وربما مرض، أو مات، لفقد غذائه، كما يَمْرَض الجسد، ويَسقم، إذا لم يكمل بتناول غذائه وقوته الملائم له انتهى

(2)

.

(ثمّ قال) حذيفة رضي الله تعالى عنه (إن الرجل ليخفف) في صلاته بأن يخفف في القراءة مثلا (ويتم) ركوعها وسجودها، وسائر واجباتها (ويحسن) أداءها.

يعني أن التخفيف لا يتنافى مع الإتمام والإحسان في الصلاة.

والحاصل أن التخفيف ليس مذموماً مطلقاً، بل إنما يذم إذا كان مُخلاً ببعض أركان الصلاة، أو واجباتها، كما يأتي بيان ذلك في حديث الباب التالي، وأما إذا أتى بذلك، وأحسن فيه، ولكنه خفف فيما يطلب فيه التطويل، كالقراءة مثلاً، فلا يذمّ، وإن كان خلاف الأولى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

(1)

"فتح" جـ 2 ص 528 - 529.

(2)

"شرح البخاري" جـ 7 ص 162.

ص: 267

حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -66/ 1312 - وفي "الكبرى" -100/ 1235 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 1/ 108 و200 و206 (أحمد) 5/ 384 و396. والله أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان تحريم التطفيف في الصلاة وهو النقص من ركوعها وسجوها ونحوهما.

ومنها: أن من لم يقم الصلاة بأركانها، وواجباتها كما ينبغي يسمى غير مصلّ.

ومنها: أن من أتم الصلاة بأركانها وواجباتها، فهو محسن، وإن خفف في بعض مستحباتها.

ومنها: أن الصحابي إذا قال: "سنة محمد صلى الله عليه وسلم"، أو "فطرته" كان حديثاً مرفوعاً حكماً، هذا هو المذهب الراجح عند أهل العلم، وقد خالف في ذلك بعض العلماء.

قال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في "ألفية المصطلح" مشيراً إلى هذا:

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنّة" مِنْ صَحَابِي

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌67 - (بَابُ أَقَلِّ مَا يُجْزِىءُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ)

وفي النسخة "الهندية""باب أقلّ ما تُجزىء به الصلاة".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دلالة الحديث على الترجمة واضحة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال لمن لم يصلّ بالصفة المذكورة في هذا الحديث:"إنك لم تصلّ"، فدل على أن أقلّ ما يُجزىء ما كان بالصفة المذكورة في هذا الحديث، وأيضاً قال:"فإذا أتممت صلاتك على هذا فقد تمّت، وما انتقصت من هذا، فإنما تنتقصه من صلاتك". والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 268

1313 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَلِيٍّ -وَهُوَ ابْنُ يَحْيَى- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمٍّ لَهُ بَدْرِيٍّ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمُقُهُ، وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فَرَجَعَ، فَصَلَّى، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ جَهِدْتُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: "إِذَا قُمْتَ تُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَتَوَضَّأْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ، ثُمَّ ارْكَعْ، فَاطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَاعِدًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ، ثُمَّ افْعَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام المصري الفقيه الحجة [7] تقدم 31/ 35.

3 -

(ابن عجلان) هو محمد المدني، صدوق [5] تقدم 36/ 40.

4 -

(علي بن يحيى) بن خلّاد الزُّرَقيّ الأنصاري، ثقة [4] تقدم 27/ 667.

5 -

(أبو عليّ) هو يحيى بن خَلَّاد بن رافع بن مالك بن العجلان العجلاني الأنصاري الرزقي المدني، له رؤية، ثقة [2] تقدم 27/ 667.

(عم يحيى بن خلّاد) هو رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان الأنصاري البدري، صحابي ابن صحابي رضي الله عنهما تقدم 27/ 667.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم مستوفى الشرح برقم -105/ 1053، وتقدّم الكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد. والله تعالى ولي التوفيق.

قوله: "يرمقه": أي ينظر إليه شَزْراً

(1)

. وفي "المصباح": رمقه بعينه رَمْقاً، من باب قتل: أطال النظر إليه.

وقوله: "جهدت" من باب منع: أي بذلت وُسْعي وطاقتي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1314 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ

(1)

يقال: نظر إليه شَزْرا: إذا نظر إليه بمؤخر عينه كالمعرض المتغضِّبِ. أفاده في "المصباح".

(2)

وفي نسخة "حدثنا".

ص: 269

قَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَلاَّدِ بْنِ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمٍّ لَهُ بَدْرِيٍّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْمُقُهُ فِي صَلَاتِهِ، فَرَدَّ عليه السلام، ثُمَّ قَالَ لَهُ:"ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ عليه السلام، ثُمَّ قَالَ:"ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، حَتَّى كَانَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، فَقَالَ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَقَدْ جَهِدْتُ، وَحَرَصْتُ، فَأَرِنِي، وَعَلِّمْنِي، قَالَ: "إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُصَلِّيَ، فَتَوَضَّأْ، فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَاعِدًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ، فَإِذَا أَتْمَمْتَ صَلَاتَكَ عَلَى هَذَا، فَقَدْ تَمَّتْ، وَمَا انْتَقَصْتَ مِنْ هَذَا فَإِنَّمَا تَنْتَقِصُهُ

(1)

مِنْ صَلَاتِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة، تقدموا في السند الماضي، سوى:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي، ثقة [10] تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) الإمام الحافظ الحجة المروزي [8] تقدم 32/ 36.

3 -

(داود بن قيس) الفَرّاء الدبّاغ المدني، ثقة فاضل [5] تقدّم 96/ 120.

والحديث صحيح، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1315 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ وَتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ، وَطُهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ لِمَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهِنَّ إِلاَّ عِنْدَ الثَّامِنَةِ، فَيَجْلِسُ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل، وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا، يُسْمِعُنَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن بشار) بُندار أبو بكر البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

2 -

(يحيى) بن سعيد، أبو سعيد القطان الإمام الحجة الثبت البصري [9] تقدم 4/ 4.

3 -

(سعيد) بن أبي عَرُوبة مِهْرَان البصري، ثقة ثبت يدلس واختلط بآخره [6] تقدم 34/ 38.

(1)

وفى نسخة "تنقُصُه".

ص: 270

[تنبيه]: أشار في هامش "الهندية" إلى أنه وقع في بعض النسخ "شعبة" بدل "سعيد".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن "سعيداً" هو الصواب، لأنه صرح به ابن ماجه في "سننه"، فقد أخرجه من طريقه رقم -1191 - ، فقال: سعيد بن أبي عروبة، وكذا الحافظ أبو الحجاج المزّي في "تحفة الأشراف" جـ 11 ص 408 - صرّح بأنه سعيد ابن أبي عروبة، ولم يشر إلى رواية شعبة أصلاً، وأيضاً هو الذي في "السنن الكبرى" للمصنف. والله تعالى أعلم.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري الإمام الحجة يدلس [4] تقدم 30/ 34.

5 -

(زُرَارة بن أوفى) العامريّ الحَرَشيّ، أبو حاجب البصري قاضيها، ثقة عابد [3] تقدم 27/ 917.

6 -

(سعد بن هشام) بن عامر الأنصاريّ المدنيّ ابن عمّ أنس، ثقة [3].

روى عن أبيه، وعائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، وسَمُرَة بن جُندُب، وأنس رضي الله عنهم. وعنه زُرَارة بن أوفى، وحُميد بن هلال، وحميد بن عبد الرحمن الحميريّ، والحسن البصريّ.

قال النسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، إن شاء الله تعالى. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: قُتل بأرض مُكران غازياً. وذكر البخاريّ أنه قُتل بأرض مُكران على أحسن أحواله. قال أبو بكر الحازمي: "مُكران" بضم الميم بلدة بالهند. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22).

7 -

(أمّ المؤمنين) هي عائشة رضي الله عنها، تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بثقات البصريين إلى سعد بن هشام، فهو مدني، كعائشة رضي الله تعالى عنها. ومنها: أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: قتادة، عن زرارة، عن سعد، ورواية زرارة عن سعد من رواية الأقران، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن سعد بن هشام) أنه (قال: قلت يا أم المؤمنين أنبئيني) أي أخبريني (عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عن عدده، وكيفيته (قالت: كنا نعدّ له) بضم أوله، من الإعداد، أي

ص: 271

نهُيء له (سواكه، وطهوره) بفتح الطاء، أي الماء الذي يتوضأ به (فيبعثه الله) أي يوقظه من نومه (لما شاء أن يبعثه) بكسر لام "لما" وهي لام الجرّ، وهي هنا للتوقيت، كقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية [الإسراء: 78]. و"ما" موصولة، أي في الوقت الذي أراد الله أن يوقظه فيه.

ويحتمل أن تكون "لَمّا" -بفتح اللام، وتشديد الميم- بمعنى "حين"، أي حين أراد الله أن يبعثه (من الليل) بيان لـ"ما"(فيتسوّك) أي يستعمل السواك في فيه (ويتوضأ، ويصلي ثمان ركعات) هذا سيأتي للمصنف -2/ 1601 - الإشارة إلى أنه خطأ في الحديث، وأن الصواب "يصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة

"، وسيأتي الكلام عليه مُستوفًى هناك، إن شاء الله تعالى.

(لا يجلس فيهن إلّا في الثامنة) هذا محل المطابقة للترجمة، فإنه يدلّ على أن الجلوس على رأس كل ركعتين في النفل غير لازم، بل إذا صلى تسع ركعات، وجلس في الثامنة جاز ذلك، وكان أقلّ ما يجزىء من صلاة النفل، وأما الفرض، فأقلّ ما يجزىء أن يجلس في كلّ ركعتين، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته.

(فيجلس، فيذكر الله عز وجل أي بقراءة التشهد، وغيره (ويدعو، ثم يسلم تسليماً يُسمعنا) من الإسماع، أي يجهر به. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وهو طرف من حديث عائشة رضي الله عنها الآتي في "كتاب قيام الليل" برقم -2/ 1601 - وسيأتي تمام شرحه، والكلام على مسائله هناك، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌68 - (بَابُ السَّلَامِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية السلام من الصلاة.

1316 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -يَعْنِي ابْنَ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ- قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ -وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ -وَهُوَ ابْنُ الْمِسْوَرِ الْمَخْرَمِيُّ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ

ص: 272

أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) ابن علية، قاضي دمشق، ثقة [11] تقدم 22/ 489.

2 -

(سليمان بن داود) بن داود بن علي

(1)

بن عبد الله بن عباس الهاشمي، أبو أيوب البغدادي الفقيه، ثقة جليل [10].

رَوَى عن ابن أبي الزناد، وإبراهيم بن سعد، وابن عيينة، وغيرهم. وعنه البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، وروى له الأربعة بواسطة هارون الحمال، وأحمد بن الحسن الترمذيّ، والحسن بن عليّ الخلّال، ومحمد ابن إسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وغيرهم.

قال الحسن بن محمد الزعفراني: قال لي الشافعي: ما رأيت أعقل من رجلين: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشميّ. وقال ابن خراش: بلغني عن أحمد بن حنبل: لو قيل لي: اختر للأمة رجلاً استَخْلفه عليهم استخلفت سليمان بن داود. وقال العجلي، وابن سعد، ويعقوب بن شيبة، وأبو حاتم، والنسائي، والدارقطني، والخطيب: ثقة، زاد يعقوب: صدوق، وزاد النسائي: مأمون، وقال العجلي: كتبت عنه، وكان عاقلاً.

قال ابن سعد: توفي ببغداد سنة (219)، وكذا قال ابن أبي خيثمة، وغيره، وقال أبو حسّان الزيادي: مات سنة (220).

روى له البخاري في "خلق أفعال العباد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث.

3 -

(إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدني نزيل بغداد، ثقة حجة تُكُلّم فيه بلا قادح [8] تقدم 196/ 314.

4 -

(عبد الله بن جعفر) بن عبد الرحمن بن الْمِسْور بن مَخْرَمة بن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف الزهري الْمَخْرَمِيُّ

(2)

، أبو محمد المدني، ليس به بأس [8].

روى عن إسماعيل بن محمد بن سعد، وسعد بن إبراهيم، وعثمان بن محمد بن الأخنس، وغيرهم. وعنه إبراهيم بن سعد، وبشر بن عُمر، وإسحاق بن جعفر، وغيرهم.

(1)

قال الخطيب البغداديّ: كان داود بن علي مات، وابنه حمل، فلما وُلد سموه باسمه. انتهى "تاريخ بغداد" جـ 9 ص 31.

(2)

"المَخْرَميُّ" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وفتح الراء الخفيفة: نسبة إلى جدّه مخرمة بن نوفل.

ص: 273

قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس به بأس صدوق، وليس بثبت. وقال أبو زرعة: هو أحبّ إليّ من يزيد بن عبد الملك النوفليّ. وقال حنبل عن أحمد: ثقة ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: رأيت أحمد وابن معين يتناظران في ابن أبي ذئب والْمَخْرَمي، فقدّم أحمد المَخْرَميّ، فقال له يحيى: المَخْرَميّ شيخ، وليس عنده من الحديث بعض ما عند ابن أبي ذئب، وقدّمه على المخرميّ تقديماً متفاوتاً، قال يعقوب: فقلت لابن المديني بعد ذلك: أيهما أحبّ إليك؟ قال: ابن أبي ذئب، وهو صاحب حديث، وأَيْش عند المخرميّ؟ والمخرميّ ثقة. وقال ابن خراش: صدوق. وقال بكّار بن قُتيبة: ثنا أبو المطرّف، ثنا المخرمي، ثقة. وقال البَرْقيّ: ثبت. وقال الترمذيّ: مدني ثقة عند أهل الحديث، وقال في "العلل" عن محمد بن إسماعيل: صدوق ثقة. وقال النسائي -كما سيأتي في الحديث التالي-: عبد الله بن جعفر هذا ليس به بأس، وعبد الله بن جعفر بن نجيح والد علي بن المديني متروك الحديث. وقال الحاكم: ثقة مأمون، وليس بابن جعفر المسكوت عنه -يعني المدائني

(1)

الضعيف- وقال ابن حبّان: كان كثير الوهم، فاستحقّ الترك، كذا قال، وكأنه أراد غيره، فالتبس عليه.

وقال ابن سعد: كان من أكثر رجال أهل المدينة علماً بالمغازي، والفتوى، ولم يزل يُؤمّل فيه أن يلي القضاء حتى مات، ولم يَلِهِ. قال محمد بن عمر: قال ابن أبي الزناد: لا أحسبه أقعده عن ذلك إلا خروجه مع محمد بن عبد الله بن حسن، قال: ومات بالمدينة سنة (170) وكان له يوم مات بضع وسبعون سنة، وكذا أرخه يعقوب بن شيبة. علق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده بعده، وحديث رقم (2007) "الحدوا لي لحداً

"، وأعاده بعده (2008).

5 -

(إسماعيل بن محمد) بن سعد بن أبي وقاص الزهري، أبو محمد المدني، ثقة حجة [4] تقدم 97/ 125.

6 -

(عامر بن سعد) بن أبي وقّاص الزهري المدني، ثقة [3] تقدم 131/ 1094.

7 -

(سعد) بن أبي وقاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب أحد العشرة رضي الله عنه، تقدم 96/ 121. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى عنها. ومنها: أن رجاله رجال

(1)

هكذا نسخة "تت""المدائني" والظاهر أن الصواب "المديني"، وهو والد علي بن المديني. فتأمل.

ص: 274

الصحيح، غير شيخه، وشيخ شيخه. ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. ومنها: أن صحابيه من العشرة المبشرين بالجنة، وآخر من مات منهم. وأول من رمى بسهم في سبيل الله. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن سعد) بن أبي وقّاص رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسلّم) وفي الرواية التالية "كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلّم". و"أرى" بفتح الهمزة، أى أُبصر (عن يمينه) قال الطيبي: أي مُجاوزاً نظره عن يمينه، كما يُسلّم أحد على من في يمينه (وعن يساره) فيه مشروعية أن يكون التسليم إلى جهة اليمين، ثمّ إلى جهة اليسار.

وفي الرواية التالية زيادة: "حتى يُرَى بياض خده". قال الأبهريّ: أي وجنته الخالية عن الشعر، وكان مشرباً بالحمرة انتهى.

والمعنى حتى أرى بياض خده الأيمن في الأولى، والأيسر في الثانية، وفيه دليل على المبالغة في الالتفات إلى جهة اليمين، وإلى جهة اليسار.

قال النووي رحمه الله تعالى: فيه دلالة لمذهب الشافعي، والجمهور من السلف والخلف أنه يسنّ تسليمتان، وقال مالك، وطائفة: إنما تسنّ تسليمة واحدة، وتعلّقوا بأحاديث ضعيفة، لا تقاوم هذه الأحاديث الصحيحة، ولو ثبت شيء منها حمل على أنه فعل ذلك لبيان جواز الاقتصار على تسليمة واحدة.

وأجمع العلماء الذين يعتدّ بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة، فإن سلّم واحدة استحبّ له أن يسلّمها تلقاء وجهه، وإن سلّم تسليمتين جَعَل الأولى عن يمينه، والثانية عن يساره، ويلتفت في كلّ تسليمة حتى يرى من عن جانبه خدّه، هذا هو الصحيح، وقال بعض أصحابنا: حتى يرى خديه مَن عن جانبه. ولو سلّم التسليمتين عن يمينه، أو عن يساره، أو تلقاء وجهه، أو الأولى عن يساره، والثانية عن يمينه صحّت صلاته، وحصلت التسليمتان، ولكن فاتته الفضيلة في كيفيتهما انتهى

(1)

.

وسيأتي تحقيق الخلاف بين العلماء في حكم التسليمتين، وأدلتهم في المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

(1)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 83.

ص: 275

حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -68/ 1316 - وفي "الكبرى" 102/ 1239 - عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن سليمان بن داود الهاشميّ، عن عبد الله بن جعفر المَخْرَمي، عن إسماعيل ابن محمد، عن عامر بن سعد، عنه. وفي -68/ 1317 - و"الكبرى" -102/ 1240 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي عامر العَقَديّ، عن عبد الله بن جعفر به.

وأخرجه (م) 2/ 91 (ق) 915 (أحمد) 1/ 172 و1/ 180 و1/ 186 (عبد بن حُميد) 144 (الدارمي) 1352 (ابن خزيمة) 726 و727 و1712. والله تعالى أعلم.

[فائدة]: أخرج ابن خزيمة في "صحيحه" جـ 1 ص 359 رقم 726 - من طريق ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال:"رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يُسلّم عن يمينه، وعن يساره حتى يُرى بياض خدّه".

فقال الزهريّ: لم نسمع هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إسماعيل: أكلَّ حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم سمعت؟ قال: لا، قال: والثلثين؟ قال: لا، قال: فالنصف؟ قال: لا، قال: فهذا في النصف الذي لم تسمع انتهى. وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه" جـ 5 ص 331 - 333 رقم 1992. وفي سنده مصعب بن ثابت، قال عنه في "ت" لين الحديث، وكان عابدًا. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في مذاهب العلماء في حكم السلام من الصلاة:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ ": أكثر العلماء على أنه لا يخرج من الصلاة بدون التسليم، واستدلّوا بحديث "تحليلها التسليم".

وممن قال من الصحابة: تحليل الصلاة التسليم: ابن مسعود، وابن عباس، وحكاه الإمام أحمد إجماعاً.

وذهب طائفة إلى أنه يخرج من الصلاة بفعل كلّ مناف لها، من أكل، أو شرب، أو كلام، أو حدث، وهو قول الحكم، وحماد، والثوريّ، وأبي حنيفة وأصحابه،، والأوزاعيّ، وإسحاق، ولم يفرّقوا بين أن يوجد المنافي باختيار المصلي، أو بغير اختياره، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: إن وُجد باختياره خرج من الصلاة بذلك، وإن وُجد بغير اختياره بطلت صلاته، وجعل الفرض الخروج منها بفعل المنافي باختيار المصلي لذلك، وخالفه صاحباه في اشتراط ذلك.

وقد حُكي عن طائفة من السلف أنّ من أحدث بعد تشهده تمّت صلاته،

ص: 276

منهم: الحسن، وابن سيرين، وعطاء -على خلاف عنه- والنخعي، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وقد أنكر صحّته أحمد، وأبو حاتم الرازي، وغيرهما، وروي أيضاً عن ابن مسعود من طريق منقطع.

واستُدلّ لهؤلاء بحديث ابن مسعود: "إذا قلت هذا، أو قضيت هذا، فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد"، وقد اختلف في رفعه ووقفه على ابن مسعود، واختُلف في لفظه أيضاً، فرواه بعضهم، وقال: قال ابن مسعود: "فإذا فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف". خرّجه البيهقي. وهذه الرواية تدلّ على أنه إنما خيّره إذا فرغ من صلاته، وإنما يفرغ بالتسليم، بدليل ما روى شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال:"مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلّم الإمام فقم إن شئت".

قال البيهقي: وهذا أثر صحيح، وقال: ويكون مراد ابن مسعود الإنكار على من زعم أن المأموم لا يقوم حتى يقوم إمامه.

وحمل أبو حنيفة، وإسحاق حديثَ "تحليلها التسليم" على التشهد، وقالوا: يسمى التشهد تسليماً، لما فيه من التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين. وهذا بعيد جدًّا.

واستدلّوا أيضاً بما روى عبد الرحمن بن زياد الإِفريقي، أن عبد الرحمن بن رافع، وبكر بن سوادة أخبراه عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا أحدث، وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلّم جازت صلاته". أخرجه الترمذيّ، وقال: إسناده ليس بالقويّ، وقد اضطربوا في إسناده، والإفريقي ضعّفه القطّان، وأحمد بن حنبل. وخرّجه أبو داود بمعناه. وخرّجه الدارقطني، ولفظه:"إذا أحدث بعدما يرفع رأسه من آخر سجدة، واستوى جالساً تمّت صلاته".

وقد روي بهذا المعنى عن الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، وهذا اضطراب منه في إسناده كما أشار إليه الترمذي، ورفعه منكر جداً، ولعله موقوف، والإفريقي لا يُعتمد على ما ينفرد به.

قال حرب: ذكر هذا الحديث لأحمد، فردّه، ولم يصحّحه.

وقال الْجُوزجاني: هذا الحديث لا يبلغ القوة أن يدفع أحاديث "تحليلها التسليم".

وأجاب بعضهم عن هذا، وعن حديث ابن مسعود -على تقدير صحّتها- بالنسخ، واستدّل بما رَوَى عُمر بن ذرّ، عن عطاء بن أبي رباح، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قعد في آخر صلاته قدر التشهد أقبل على الناس بوجهه، وذلك قبل أن ينزل التسليم. خرّجه البيهقي، وخرّجه وكيع في كتابه عن عمر بن ذرّ، عن عطاء بمعناه، وقال: حتى نزل

ص: 277

التسليم.

وروي عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي في أول الإسلام ركعتين، ثم أمر أن يصلي أربعاً، فكان يسلّم بين كل ركعتين، فخشينا أن ينصرف الصبي والجاهل يرى أنه قد أتمّ الصلاة، فرأيت أن يخفى الإمام التسليمة الأولى، ويعلن بالثانية، فافعلوا. خرّجه الإسماعيلي، وإسناده ضعيف.

ولم يقل بذلك أحد من علماء المسلمين أن الصلاة الرباعية المكتوبة يُسلَّم فيها مرتين، مرة في التشهد الأول، ومرة في الثاني، ولكن الإمام يسرّ السلام الأول، ويُعلن بالثاني، والأحاديث كلّها تدلّ على أنه لم يكن يُسلَّم فيها إلا مرة واحدة في التشهد الثاني خاصّة انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بتصرف يسير

(1)

.

وقال النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم":

وأعلم أن السلام ركن من أركان الصلاة، وفرض من فروضها، لا تصحّ الصلاة إلا به، هذا مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم.

وقال أبو حنيفة، رحمه الله: هو سنة، ويحصل التحلل من الصلاة بكلّ شيء يُنافيها، من سلام، أو كلام، أو حدَث، أو قيام، أو غير ذلك.

واحتجّ الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلّم، وثبت في "صحيح البخاري" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، وبالحديث الآخر:"تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" رواه أحمد، وأصحاب السنن إلا النسائي، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، يصلح للاحتجاج به.

وقد استدل به الجمهور على وجوب السلام، قالوا: إن الإضافة تقتضي الحصر، فكأنه قال: جميع تحليلها التسليم، أي انحصر تحليلها في التسليم، لا تحليل لها غيره.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلّم من صلاته، ويديم ذلك، ويواظب عليه، ولا يُخلّ به، وقد قال:"صلّوا كما رأيتموني أصلي". ولأنه قد تواتر العمل عليه من لدن صاحب الشريعة إلى يومنا هذا، وتلقّاه الكافّة عن الكافّة طبقة عن طبقة، فهو ثابت متواتر عملاً.

وأما ما قيل: من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلّم السلام المسيء في صلاته، ولو وجب لأمره به، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه كلّ

(1)

"شرح البخاري" جـ 7 ص 376 - 380.

(2)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 83.

ص: 278

الواجبات، بدليل أنه لم يعلّمه التشهد، والقعود، وغيرهما، ويحتمل أنه اقتصر على تعليمه مارآه أساء فيه.

وأما ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلى الظهر خمساً، فلما سلّم أخبر بصنيعه، فثنى رجله، فسجد سجدتين"، أخرجه الجماعة عن ابن مسعود رضي الله عنه بطرق متعددة، وألفاظ مختلفة.

قال الطحاوي: في هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعةً من غيرها قبل التسليم، ولم ير ذلك مُفسداً للصلاة، فدلّ ذلك على أن السلام ليس من أصلها، ولو كان واجباً وجوب السجدة في الصلاة لكان حكمه أيضاً كذلك، ولكنه بخلافه، فهو سنة.

ففيه أنه ليس فيه إلا تأخير السلام، لا تركه رأساً، وهذا لا يدلّ على كون السلام من غير أصل الصلاة، مع أن ذلك كان في حالة النسيان، وعلى ظنّ عدم الزيادة والإدخال، والكلام هنا فيمن ترك السلام عمداً، وخرج من الصلاة بغير السلام مما ينافي الصلاة.

وأما ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "إذا أحدث الرجل، وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلّم، فقد جازت صلاته"، أخرجه أبو داود، والترمذيّ.

ففيه أنه حديث ضعيف مضطرب، قد تفرّد به عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم الإفريقي، وقد ضعفه أكثر الحفّاظ، قال الترمذي رحمه الله بعد إخراجه: ليس إسناده بذاك القويّ، وقد اضطربوا في إسناده انتهى. فقد جمع بين ضعف الراوي، والاضطراب.

وفيه أيضاً أنه مخالف للحديث الصحيح المذكور "وتحليلُها التسليم"، فلا يقوى على معارضته.

قال الخطّابي رحمه الله تعالى في "المعالم" جـ 1 ص 175: هذا الحديث ضعيف، وقد تكلّم الناس في بعض نقلته، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد، والتسليم انتهى.

وأما ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فعلّمه التشهد في الصلاة، ثم قال:"إذا قلت هذا، أو قضيت هذا، فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد". أخرجه أحمد، وأبو داود، والدارقطنيّ.

ففيه أن قوله: "إذا قلت هذا الخ" مدرج من قول ابن مسعود، قال الدارقطني: الصحيح أن قوله: "إذا قلت هذا، فقد قضيت صلاتك" من كلام ابن مسعود، فصله شَبَابة، عن زهير بن معاوية، وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب ممن أدرجه، وقد اتفق مَن روى تشهد ابن مسعود على حذفه. كذا في "المنتقى".

قال الشوكاني: أما حديث ابن مسعود، فقال البيهقي في "الخلافيات": إنه كالشاذّ

ص: 279

من قول عبد الله، وإنما جعله كالشاذّ، لأن أكثر أصحاب الحسن بن الْحُرّ لم يذكروا هذه الزيادة، لا من قول ابن مسعود مفصولة من الحديث، ولا مدرجة في آخره، وإنما رواه بهذه الزيادة عبد الرحمن بن ثابت، عن الحسن، فجعلها من قول ابن مسعود، وزهير بن معاوية عن الحسن، فأدرجها في آخر الحديث في قول أكثر الرواة عنه، ورواها شبابة ابن سَوّار عنه مفصولة، كما ذكره الدارقطني.

وقد روى البيهقي من طريق أبي الأحوص، عن ابن مسعود ما يخالف هذه الزيادة بلفظ:"مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلم الإمام، فقم إن شئت". قال: وهذا الأثر صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: قد صحّ عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضاً، وذكر رواية أبي الأحوص هذه عنه.

قال البيهقيّ: إن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم التشهد لابن مسعود كان قبل فرض التسليم، ثم فُرض بعد ذلك.

وقد صرّح بأن تلك الزيادة المذكورة في الحديث مدرجة جماعةٌ من الحفّاظ: منهم الحاكم، والبيهقي، والخطيب.

وقال البيهقي في "المعرفة": ذهب الحفّاظ إلى أن هذا وهم من زهير بن معاوية.

وقال النوويّ في "الخلاصة": اتفق الحفاظ على أنها مدرجة انتهى.

وقد رواه عن الحسن بن الحرّ حسين الجعفي، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن أبان، فاتفقوا على ترك هذه الزيادة في آخر الحديث، مع اتفاق كلّ من روى التشهد عن علقمة وغيره عن ابن مسعود على ذلك انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.

وقد تأول القاضي أبو بكر بن العربي في "شرح الترمذي" جـ 2 ص 199 - حديث ابن مسعود هذا بأنه إنما يعني به فقد قضيت صلاتك، فاخرج منها بتحليل كما دخلتها بإحرام انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما تقدم أن هذه الزيادة مدرجة من كلام ابن مسعود، وقد عارضها ما صحّ عنه عند البيهقي، وابن حزم من إيجابه السلام فرضاً، فلا تكون حجة أصلاً، وقد صح لدينا قوله صلى الله عليه وسلم:"وتحليلها التسليم" مع مواظبته على التسليم من الصلاة من دون أن يوجد منه إخلال بذلك، ولو مرة واحدة، وقد قال:"صلّوا كما رأيتوني أصلي"، فهذه الأدلة ظاهرة في إيجاب السلام من الصلاة.

(1)

راجع "نيل الأوطار" جـ 2 ص 351 - 352. و"مرعاة المفاتيح" جـ 3 ص 297 - 299.

ص: 280

والحاصل أن ما عليه الجمهور من كون السلام من واجبات الصلاة التي لا تتم الصلاة إلا به هو الحق، لوضوح أدلّته.

وأما ما حاول به الشوكاني من ترجيح القول بعدم الوجوب فمما لا يعتمد عليه، لأنه لم يذكر دليلاً مقنعاً يردّ به أدلة الجمهور، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم التسليمتين:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم في عدد التسليم، فقالت طائفة: يسلم تسليمتين عن يمينه، وعن شماله، روي هذا القول عن أبى بكر الصدّيق، وعلي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وعبد الله ابن مسعود، ونافع بن الحارث، وعطاء بن أبي رباح، وعلقمة، والشعبي، وأبي عبد الرحمن السُّلَميّ، وبه قال سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.

وقالت طائفة: يسلّم تسليمة واحدة، كذلك قال ابن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة أم المؤمنين، وسلمة بن الأكوع، والحسن، ومحمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز. وبه قال مالك، والأوزاعيّ، وقال عمّار بن أبي عمّار: كان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين عن أيمانهم، وعن شمائلهم، وكان مسجد المهاجرين يسلّمون تسليمة واحدة.

وفيه قول ثالث: وهو أن هذا من الاختلاف المباح، فالمصلي مخيّر، إن شاء سلّم تسليمة، وإن شاء سلّم تسليمتين، قال بهذا القول بعض أصحابنا.

وكان إسحاق يقول: تسليمة تُجزي، وتسليمتان أحبّ إليّ.

قال ابن المنذر رحمه الله: وكلّ من أحفظ عنه من أهل العلم يُجيز صلاة من اقتصر على تسليمة، وأحبّ أن يسلم تسليمتين، للأخبار الدّالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجزيه أن يسلّم تسليمة انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قال ابن المنذر رحمه الله تعالى من مشروعية التسليمتين، وهو الذي عليه الجمهور كما تقدم هو المذهب الراجح، لكثرة الأحاديث الصحاح على وفقه.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: ثبت

(1)

"الأوسط" جـ 3 ص 220 - 223.

ص: 281

عندنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه كان يُسلّم عن يمينه، وعن شماله حتى يُرى بياض خدّه.

وقال العُقيلي: الأحاديث الصحاح عن ابن مسعود، وسعد بن أبي وقّاص، وغيرهما فى تسليمتين.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلّم تسليمة واحدة من وجوه لا يصحّ منها شيء. قاله ابن المديني، والأثرم، والعقيليّ، وغيرهم.

وقال الإمام أحمد: لا يُعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسليمة الواحدة إلا حديثٌ مرسلٌ لابن شهاب الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

ومراسيل ابن شهاب من أوهى المراسيل وأضعفها.

ومن أشهرها حديث زهير بن محمد، عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلّم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، ثم يميل إلى الشقّ الأيمن شيئاً. أخرجه الترمذي من رواية عمرو بن أبي سلمة التِّنِّيسيّ، عن زهير به، وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، قال محمد بن إسماعيل: زُهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه.

وأخرجه ابن ماجه من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زُهير به مختصراً.

وأخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، وأخطأ فيما قال، فإن روايات الشاميين عن زهير مناكير عند أحمد، ويحيى بن معين، والبخاريّ، وغيرهم.

قال أحمد في رواية الأثرم: أحاديث التنّيسي عن زُهير بواطيل، قال: وأظنّه قال: موضوعة، قال: فذكرت له هذا الحديث فى التسليمة الواحدة، فقال مثل هذا.

وذكر ابن عبد البرّ أن يحيى بن معين سُئل عن هذا الحديث؟ فضعّفه. وقال أبو حاتم الرازي: هو منكر، إنما هو عن عائشة موقوف، وكذا رواه وُهيب بن خالد، عن هشام، وكذا رواه الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن هشام، عن أبيه، موقوفاً، قال الوليد: فقلت لزهير: فهل بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاريّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّم تسليمة واحدة. قال العقيلي: حديث الوليد أولى -يعني من حديث عمرو بن أبي سلمة- قال: وعمرو في حديثه وَهَم. قال الدارقطني: الصحيح وقفه، ومن رفعه فقد وَهِمَ.

وأخرج النسائي من حديث سعد بن هشام، عن عائشة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل أنه كان يسلّم تسليمة يُسمعنا

(1)

.

(1)

سيأتي للمصنف رقم 42/ 1719.

ص: 282

وأخرجه الإمام أحمد، ولفظه: يسلم تسليمة واحدة "السلام عليكم" يرفع بها صوته حتى يُوقظنا.

وقد حمله الإمام أحمد على أنه كان يجهر بالواحدة، ويسرّ الثانية.

ورَوَى عبد الوهّاب الثقفي عن حميد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسلّم تسليمة واحدة. أخرجه الطبراني، والبيهقي، ورفعه خطأ، إنما هو موقوف، كذا رواه أصحاب حميد، عنه، عن أنس من فعله.

ورَوَى جريرُ بن حازم، عن أيوب، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة. أخرجه البزّار في "مسنده"، وأيوب رأى أنساً، ولم يسمع منه، قاله أبو حاتم. وقال الأثرم: هذا حديث مرسل، وهو منكر، وسمعت أبا عبد الله يقول: جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب.

وروى رَوح بن عطاء بن أبي ميمونة، ثنا أبي، عن الحسن، عن سَمُرَة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلّم في الصلاة تسليمة واحدة قُبَالة وجهه، فإذا سلّم عن يمينه سلّم عن يساره. أخرجه الدارقطني، والعقيليّ، والبيهقيّ، وغيرهم، وأخرجه بَقِيُّ بن مَخْلَد مختصراً. وروح هذا ضعّفه ابن معين وغيره، وقال الأثرم: لا يُحتجّ به.

وفي الباب أحاديث أُخَر لا تقوم بها حجة، لضعف أسانيدها.

وقد اختلف الصحابة، ومن بعدهم في ذلك، فمنهم من كان يُسلّم ثنتين، ومنهم من كان يُسلّم واحدة.

قال عمّار بن أبي عمّار: كان مسجد الأنصار يُسلّمون تسليمتين، ومسجد المهاجرين يُسلّمون تسليمة واحدة.

وأكثر أهل العلم على التسليمتين.

وممن رُوي عنه ذلك من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وعمّار، وسهل بن سعد، ونافع بن عبد الحارث. وروي عن عطاء، والشعبي، وعلقمة، ومسروق، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمرو بن ميمون، وأبي وائل، وأبي عبد الرحمن السُّلَمي، وهو قول النخعي، والثوريّ، وأبى حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عُبيد، وأبي ثور، وحكي عن الأوزاعي.

ورُوي التسليمة الواحدة عن ابن عمر، وأنس، وعائشة، وسلمة بن الأكوع، وروي عن عثمان، وعلي أيضاً، وعن الحسن، وابن سيرين، وعطاء أيضاً، وعمر بن عبد العزيز، والزهريّ، وهو قول مالك، والأوزاعيّ، والليث، وهو قولٌ قديم للشافعيّ، وحكاه أحمد عن أهل المدينة، وقال: ما كانوا يُسلّمون إلا واحدة، قال:

ص: 283

وإنما حدثت التسليمتان في زمن بني هاشم، يعني في ولاية بني العبّاس. وقال الليث: أدركت الناس يُسلّمون تسليمة واحدة.

وقد اختُلف على كثير من السلف فى ذلك.

فروي عنهم التسليمتان، وروى عنهم التسليمة الواحدة، وهو دليل على أن ذلك كان عندهم سائغاً، وإن كان بعضه أفضل من بعض، وكان الأغلب على أهل المدينة التسليمة الواحدة، وعلى أهل العراق التسليمتان.

وحُكي للشافعي قول ثالث قديم أيضاً، وقيل: إن الربيع نقله عنه، فيكون حينئذ جديداً: أنه إن كان المصلي منفرداً، أو في جماعة قليلة، ولا لغط عندهم فتسليمة واحدة، وإلا فتسليمتان.

والقائلون بالتسليمتين أكثرهم على أنه لو اقتصر على تسليمة واحدة أجزأه، وصحّت صلاته، وذكره ابن المنذر إجماعاً ممن يَحفَظ عنه من أهل العلم

(1)

.

وذهبت طائفة منهم إلى أنه لا يخرج من الصلاة إلا بلتسليمتين معاً، وهو قول الحسن بن حيّ، وأحمد في رواية عنه، وبعض المالكيّة، وبعض أهل الظاهر.

واستدلّوا بقوله عليه السلام: "تحليلها التسليم"، وقالوا: التسليم إلى ما عُهد منه فعله، وهو التسليمتان، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، وقد كان يُسلّم تسليمتين.

ومن ذهب إلى قول الجمهور قال: التسليم مصدر، والمصدر يصدق على القليل والكثير، ولا يقتضي عدداً، فيدخل فيه التسليمة الواحدة.

واستدلّوا بأن الصحابة قد كان منهم من يُسلّم تسليمتين، ومنهم من يُسلّم تسليمة واحدةً، ولم ينكر هؤلاء على هؤلاء، بل قد روي عن جماعة منهم التسليمتان، والتسليمة الواحدة، فدلّ على أنهم كانوا يفعلون أحياناً هذا، وأحياناً هذا، وهذا إجماع منهم على أن الواحدة تكفي.

قال أكثر أصحاب أحمد: ومحلّ الخلاف عن أحمد في الصلاة المكتوبة، فأما التطوّع فيُجزىء فيه تسليمة، واستدلّوا بحديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وقد سبق ذكره.

وأخرج الإمام أحمد من حديث إبراهيم الصائغ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة، يُسمعناها.

وقد تأوّل حديث عائشة في هذا المعنى على أنه كان يُسمعهم واحدةً، ويُخفي

(1)

دعوى الإجماع في هذا محلّ نظر؛ لما يأتي قريباً من قال بوجوب الثانية أيضاً، فتنبّه.

ص: 284

الثانية، وقد نص أحمد على ذلك، وأن الأُولى تكون أرفع من الثانية في الجهر.

وقد روى أبو رزين قال: سمعت عليّا يُسلّم في الصلاة عن يمينه، وعن شماله، والتي عن شماله أخفض. ومن أصحاب أحمد من قال: يجهر بالثانية، ويخفض بالأولى، وهو قول النخعي. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى ببعض تصرف

(1)

.

وقال العلّامة الشوكاني رحمه الله بعد أن ذكر اختلاف أهل العلم في هذه المسألة:

والحقّ ما ذهب إليه الأولون -يعني القائلين بمشروعية التسليمتين- لكثرة الأحاديث الواردة بالتسليمتين، وصحة بعضها، وحسن بعضها، واشتمالها على الزيادة، وكونها مثبتة، بخلاف الأحاديث الواردة بالتسليمة الواحدة، فإنها مع قلتها ضعيفة لا تنتهض للاحتجاج بها، ولو سُلّم انتهاضها لم تصلح لمعارضتها أحاديثَ التسليمتين، لما عرفت من اشتمالها على الزيادة.

وأما القول بمشروعية ثلاث

(2)

فلعلّ القائل به ظن أن التسليمة الواحدة -يعني في حديث عائشة وغيرها- غير التسليمتين، فجمع بين الأحاديث بمشروعية الثلاث، وهو فاسد، وأفسد منه ما رواه في "البحر" عن البعض من أن المشروع واحدة في المسجد الصغير، وثنتان في المسجد الكبير. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الشوكاني رحمه الله تعالى حسنٌ جدّاً.

وحاصله ترجيح قول الجمهور في مشروعية التسليمتين، وتفنيد الأقوال الأخرى لعدم استنادها إلى دليل يصلح للاعتماد عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1317 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: كُنْتُ أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ هَذَا لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحٍ وَالِدُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ).

(1)

"شرح صحيح البخاري" جـ 7 ص 366 - 375.

(2)

نقله الشوكاني عن عبد الله بن موسى بن جعفر من أهل البيت، فإنه ذهب إلى أن الواجب ثلاث يميناً وشمالاً، وتلقاء الوجه. انظر "نيل الأوطار" جـ 2 ص 345.

ص: 285

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدموا، إلا اثنين، وهما:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهوية الإمام الحافظ الحجة الفقيه النيسابوري [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(أبو عامر العَقَديّ) -بفتح المهملة، والقاف- عبد الملك بن عمرو البصري، ثقة [9] تقدم 2/ 327.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الإسناد أعلى من الذي قبله، لأن المصنف وصل إلى عبد الله بن جعفر هنا بواسطتين، بخلافه هناك، فإنه بثلاث وسائط.

[تنبيه]: عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم، أبو جعفر البصري، مدني الأصل، والد علي، ضعيف من [8] يقال: تغير حفظه بآخره.

قال ابن معين: ليس بشيء. وقال عمرو بن عليّ: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: منكر الحديث جداً، يحدّث عن الثقات بالمناكير، يكتب حديثه، ولا يحتجّ به، وكان عليّ لا يحدثنا عن أبيه، فكان قوم يقولون: عليّ يعُقّ أباه، فلما كان بآخره حدّث عنه. وقال الْجُوزَجَاني: واهي الحديث، كان فيما -يقولون- مائلاً عن الطريق. وقال عبدان الأهوازي: سمعت أصحابنا يقولون: حدّث عليّ عن أبيه، ثم قال: وفي حديث الشيخ ما فيه. وقال النسائي: متروك الحديث، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال ابن عديّ: وعامة حديثه لا يُتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه ممن يكتب حديثه. وكلام الأئمة فيه كثير، انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" جـ 14 ص 379 - 384. و"تهذيب التهذيب" جـ 5 ص 174 - 176. أخرج له الترمذي، وابن ماجة.

والحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسانده في الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌69 - (بَابُ مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ السَّلَامِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على بيان موضع اليدين في حال السلام من الصلاة.

وموضع الاستدلال من الحديث قوله: "أن يضع يده على فخذه"، فإنه يدلّ على أن

ص: 286

السنة في حال السلام وضع اليدين على الفخذين، وعدم الإشارة بهما يميناً، أو شمالاً. والله تعالى أعلم.

1318 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ الْقِبْطِيَّةِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ

(1)

: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَأَشَارَ مِسْعَرٌ بِيَدِهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ:"مَا بَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرْمُونَ بِأَيْدِيهِمْ، كَأَنَّهَا أَذْنَابُ الْخَيْلِ الشُّمُسِ، أَمَا يَكْفِي أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ، عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن منصور) النسائي، ثقة [10] تقدم 108/ 147.

[تنبيه]: وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى""عمرو بن علي" بدل "عمرو بن منصور"، وما هنا هو الذي في النسخة "الهندية"، و"السنن الكبرى" للمصنف، وهو الذي ذكره الحافظ أبو الحجّاج المزيّ في "تحفة الأشراف" جـ 2 ص 163.

وعمرو بن علي هو الفلّاس المتقدّم قبل ثلاثة أبواب، وهو من شيوخ الأئمة الستة، أصحاب الأصول، وأما عمرو بن منصور، فهو من أفراد المصنف، وهو يروي عن أبي نعيم، ولم يَذكر في "تهذيب الكمال"، ولا في "تهذيب التهذيب" عمرو بن علي ممن روى عن أبي نعيم، فالظاهر أن الذي في النسخ المطبوعة خطأ، والصواب عمرو بن منصور. والله تعالى أعلم.

2 -

(أبو نعيم) الفضل بن دُكين الكوفي، ثقة ثبت [9] تقدم 11/ 516.

3 -

(مسعر) بن كِدَام بن ظُهير الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل [7] تقدّم 8/ 8.

4 -

(عُبيد الله بن القبطية) الكوفي، ثقة [4] تقدّم 5/ 1185.

5 -

(جابر بن سمرة) بن جُنَادة السُّوَائي، الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما تقدم 28/ 816.

والحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وبيان مسائله برقم -5/ 1184 - أورده المصنف هناك مستدلاً على النهي عن الإشارة باليدين في الصلاة، رواه -5/ 1184 - عن قتيبة بن سعيد، عن عَبْثر، عن الأعمش، عن المسيَّب بن رافع، عن تميم بن طَرَفَة، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.

(1)

وفي بعض النسخ "قال".

ص: 287

و-5/ 1185 - عن أحمد بن سليمان، عن يحيى بن آدم، عن مسعر به. والله تعالى أعلم.

قوله: "يرمون بأيديهم" أي يشيرون بها.

وقوله: "كأنها": أي الأيدي.

وقوله: "الشمس" -بسكون الميم، وضمها، مع ضم الشين المعجمة فيهما، وهي التي لا تستقرّ، بل تضطرب، وتتحرك بأذنابها وأرجلها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌70 - (كَيْفَ السَّلَامُ عَلَى الْيَمِينِ)

1319 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنِ الأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضى الله عنهما- يَفْعَلَانِ ذَلِكَ").

رجاله هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن المثنّى) أبو موسى العَنَزيّ البصري الحافظ الثبت [10] تقدم 64/ 80.

2 -

(معاذ بن معاذ) البصري، ثقة متقن من كبار [9] تقدم 34/ 38.

3 -

(زُهير) بن معاوية بن حُدَيج الكوفي، ثقة ثبت [7] تقدم 38/ 42.

4 -

(أبو إسحاق) السبيعي عمرو بن عبد الله الكوفي، ثقة مكثر عابد اختلط بآخره [3] تقدم 38/ 42.

5 -

(عبد الرحمن بن الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي، ثقة [3] تقدّم 38/ 42.

6 -

(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة مخضرم مكثر فقيه [2] تقدم 29/ 33.

7 -

(علقمة) بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد [2] تقدم 61/

ص: 288

77.

8 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه، تقدم 35/ 39.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، وقد تقدم في -124/ 1083 - رواه هناك عن عمرو بن علي، عن معاذ بن معاذ، ويحيى ابن سعيد، كلاهما عن زهير به، وتقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به هناك، فراجعه تستفد. وبالله تعالى التوفيق.

قوله: "السلام عليكم ورحمة الله الخ": إما مقول لقول مقدّر حالٍ مؤكدةٍ، أي يسلّم حال كونه قائلاً: السلام عليكم الخ، أو جملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر، تقديره: ماذا كان يقول في تسليمه؟.

وقوله: "حتى يُرى بياض خدّه": -بضم الياء مبني للمفعول، و"بياض" بالرفع نائب فاعله، وفي الرواية الآتية في الباب التالي:"حتى يُرَى بياض خده الأيمن"، "حتى يُرَى بياض خده الأيسر"، "فالأيمن" بالجر صفة لـ"خده"، وكذا "الأيسر". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1320 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: قَالَ

(1)

ابْنُ جُرَيْجٍ: أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ:"اللَّهُ أَكْبَرُ"

(2)

كُلَّمَا وَضَعَ، "اللَّهُ أَكْبَرُ" كُلَّمَا رَفَعَ، ثُمَّ يَقُولُ:"السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" عَنْ يَمِينِهِ، "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" عَنْ يَسَارِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الحسن بن محمد الزعفراني) أبو علي البغدادي، صاحب الشافعي، ثقة [10] تقدم 21/ 427.

2 -

(حجّاج) بن محمد الأعور المِصِّيصِيّ، ثقة ثبت اختلط في الآخر [9] تقدم 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج المكي، ثقة فقيه فاضل، يدلّس ويُرسل [6] تقدم 28/ 32.

4 -

(عمرو بن يحيى) بن عُمَارة بن أبي حسن المازني المدني، ثقة [6] تقدم 80/ 97.

(1)

وفي نسخة "حدثنا"، وفي أخرى "عن".

(2)

وفي النسخة "الهندية""كان يقول: الله أكبر".

ص: 289

5 -

(محمد بن يحيى بن حبّان)

(1)

بن منقذ الأنصاري المدنيّ، ثقة فقيه [4] تقدم 22/ 23.

6 -

(عمه) واسع بن حَبَّان بن مُنقذ بن عمرو الأنصاريّ المازني المدنيّ، صحابي ابن صحابي، وقيل: بل هو تابعي ثقة [2] تقدّم 22/ 23.

7 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدّم 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وفيه رواية الراوي عن عمه، وتابعي، عن تابعي، وفيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن واسع بن حَبّان) بفتح المهملة، وتشديد الموحّدة (أنه سأل عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما (عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عن صفتها، وهيئتها (فقال) أي ابن عمر رضي الله عنهما (الله أكبر) وفي "الهنديّة" "كان يقول: الله أكبر" (كلّما وضع) أي خفض رأسه، ولفظ أحمد من طريق الدّراوَزديّ: "كلّما وضع رأسه، وكلما رفعه" (الله أكبر كلما رفع) أي رأسَهَ، يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبّر في صلاته قائلاً: "الله أكبر" كلما قام، وكلما نزل عن القيام.

فإن قلت: هذا الحديث بظاهره يشمل الرفع من الركوع، فيدلّ على أنه يكبّر فيه أيضاً.

قلت: لا يدخل فيه، للأدلة الأخرى، فقد صحت أحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول:"سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، فيخصّص عموم هذا الحديث بتلك الأحاديث.

والحاصل أن المراد من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الله أكبر" كلما نزل إلى الركوع، وإلى السجود، ويكبر كلما رفع رأسه من السجود إلى القيام، ومن السجود إلى الجلوس. والله تعالى أعلم.

(ثم يقول: "السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله عن يساره) وليس فيه عند أحمد لفظ "ورحمة الله" في اليسار، كرواية الدراوردي الآتية في الباب التالي.

وفيه مشروعية السلام من الجانيبن، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة.

ص: 290

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح

(1)

.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

هو من أفراد المصنف رحمه الله، لم يخرجه أحد من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا -70/ 1320 - وفي الكبرى -104/ 1243 - عن الحسن بن محمد الزعفراني، عن حجاج الأعور، عن ابن جُريج، عن عمرو بن يحيى، عن محمد بن يحيى بن حَبّان، عن عمه واسع بن حَبّان، عنه. وفي 71/ 1321 - و"الكبرى" -105/ 1244 - عن قتيبة، عن عبد العزيز الدراورديّ، عن عمرو بن يحيى به.

وأخرجه (أحمد) 2/ 71، و2/ 152 (ابن خزيمة) رقم 576. وزاد ابن خزيمة: قال أبو بكر: اختلف أصحاب عمرو بن يحيى في هذا الإسناد. فقال: إنه سأل عبد الله بن زيد بن عاصم، خرّجته في "كتاب الكبير" انتهى. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بعد ذكر هذا الحديث: ما نصه: وهذا إسناد جيد، قال ابن عبد البرّ، هو إسناد مدني صحيح، إلا أنه يُعَلُّ بأن ابن عمر كان يُسلم تسليمة واحدة، فكيف يَروي هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يخالفه.

وقد ذكر البيهقي أنه اختلف في إسناده، لكنه رجّح صحّته.

وراه أيضاً بقية عن الزُّبيديّ، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر مرفوعاً أيضاً.

قال أبو حاتم: هو منكر، وقال الدارقطني: اختلف فيه على بقية في لفظه، روي أنه كان يسلّم تسليمتين، وروي تسليمة واحدة، وكلها غير محفوظة.

وقال الأثرم: هو حديث واه، وابن عمر كان يسلّم واحدةً، قد عُرف ذلك عنه من وجوه، والزهريّ كان ينكر حديث التسليمتين، ويقول: ما سمعنا بهذا. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما إعلال الحديث بمخالفة ابن عمر رضي الله عنهما له عملاً، فهو مذهب بعض أهل العلم، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله وغيره، فقد ذكر ابن رجب رحمه الله في "شرح علل الترمذي" 2/ 888 - 891 - : أنه قد ضعّف الإمام أحمد وكثير من الحُفّاظ أحاديث كثيرةً بمثل هذا. وذكر لذلك أمثلة.

(1)

وقد صرّح ابن جريج بالإنباء في رواية المصنف، وكذا في "مسند أحمد" جـ 2 ص 152 ولفظه:"فقال: أخبرني عمرو بن يحيى، وكذا في "صحيح ابن خزيمة" رقم 576، ولفظه: "أخبرنا"، فبذلك زال ما يخاف من تدليسه.

ص: 291

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الراوي إذا خالف مرويّه فالمعتبر روايته، لا عمله ورأيه، لاحتمال أن يكون ذلك لمانع من معارض، أو غيره. انظر تحقيق المسألة في كتب "المصطلح"، كـ "التدريب" جـ 1 ص 315.

وأما إنكار الزهري لهذا الحديث، فقد ذكره البيهقي في "السنن الكبرى" جـ 2 ص 178 - بعد إخراجه حديث سعد بن إبي وقّاص رضي الله عنه الذي تقدم للمصنف برقم 68/ 1316 - من طريق إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد، عن أبيه، بلفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلّم تسليمتين

" الحديث، قال: فذكرت هذا الحديث عند الزهريّ، فقال: هذا حديث لم أسمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له إسماعيل بن محمد: أكلَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعتَ؟ قال الزهريّ: لا، قال: فثلثيه؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ فوقف الزهريّ عند النصف، أو عند الثلث، فقال له إسماعيل: اجعل هذا الحديث فيما لم تسمع انتهى. وأخرجه بنحوه ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌71 - (كَيْفَ السَّلَامُ عَلَى الشِّمَالِ)

1321 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ- عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ

(1)

، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: أَخْبِرْنِى عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَيْفَ كَانَتْ؟ قَالَ: فَذَكَرَ التَّكْبِيرَ، قَالَ: يَعْنِي

(2)

وَذَكَرَ "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" عَنْ يَمِينِهِ، "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" عَنْ يَسَارِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة، تقدموا في الذي قبله، سوى:

1 -

(قتيبة) بن سعيد، ثقة ثبت تقدم 1/ 1.

2 -

(عبد العزيز) بن محمد الدَّرَاورديّ المدني، صدوق، يحدث من كُتُب غيره، فيُخطىء [8] تقدم 84/ 101.

(1)

لفظة "ابن حبان" ساقطة من بعض النسخ.

(2)

ولفظ النسخة الهندية: "فذكر التكبير، قال: يعني وذكر كلمة، معناها: وذكر السلام عليكم إلخ".

ص: 292

قوله: "فذكر التكبير" هو معنى قوله فيما مضى: "فقال: اللهأكبر كلما وضع، الله أكبر كلما رفع".

وقوله: "السلام عليكم الخ" في محل نصب مفعول "ذَكَر" محكيّ.

ولم يزد "ورحمة الله" في اليسار، فقال السندي رحمه الله: مقتضاه أنه يزيد في اليمين "ورحمة الله" تشريفاً لأهل اليمين بمزيد من البرّ، ويقتصر على اليسار على قوله:"السلام عليكم"، وقد جاء زيادة "ورحمة الله" في اليسار أيضاً، وعليه العمل، فلعلّه كان يترك أحياناً انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن حذفه من تصرف بعض الرواة، بدليل الرواية السابقة، فقد ثبتت الزيادة فيها، فلا يُستَدلّ بهذه الرواية على إثبات حذفها. فتبصّر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: نقل في "تحفة الأشراف" جـ 6 ص 257 - بعد ذكر رواية الدراورديّ هذه عن النسائي أنه قال: هذا منكر، والدراوريّ ليس بالقويّ. انتهى.

ولم أر هذا الكلام للنسائي، ولا أدري في أيّ نسخة من "المجتبى"، أو "الكبرى" وقع له هذا الكلام، والذي في "تهذيب التهذيب" جـ 6 ص 354 - وغيره في ترجمة الدراوردي: ما نصّه:

"قال النسائي: ليس بالقويّ، وقال في موضع آخر: ليس به بأس، وحديثه عن عُبيد الله بن عمر منكر" انتهى.

وغاية ما يُفهم من هذا أن النسائي يرى أن روايته عن عبيد الله بن عمر هي المنكرة، وهنا لم يرو عنه، وقد وافقه في هذه الرواية ابن جُريج.

والحديث صحيح، وقد البحث عنه في الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1322 -

(أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ، عَنِ ابْنِ دَاوُدَ -يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيَّ- عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ خَدِّهِ عَنْ يَمِينِهِ "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ"، وَعَنْ يَسَارِهِ "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زيد بن أخزم) -بمعجمتين- الطائي النَّبْهَانِيّ

(1)

، أبو طالب البصريّ، ثقة حافظ

(1)

"النَّبْهَانِي" بفتح، فسكون: نسبة إلى نبهان، بطن من طيئ. قاله في "لب اللباب" جـ 2 ص 291.

ص: 293

[11]

.

روى عن عبد الله بن داود الْخُرَيبي، وأبي داود الطيالسي، ويحيى القطاّن، وغيرهم. وعنه الجماعة، سوى مسلم، وروى له النسائيّ أيضاً بواسطة زكريا السِّجّزيّ، وأبو حاتم، وابنُ خزيمة، وغيرهم.

قال أبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث، وقال الدارقطني: ثقة، وقال صالح بن محمد: صدوق في الرواية، وقال مسلمة: ثقة. قال إبراهيم بن محمد الكنديّ: ذبحه الزنج سنة (257).

أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (3724)"العمرى جائزة".

2 -

(عبد الله بن داود) بن عامر بن الرَّبيع الْهَمْداني، ثم الشعبيّ، أبو عبد الرحمن الْخُرَيبيّ، كوفي الأصل، سكن الخُرَيبة -بضم المعجمة، وفتح الراء- وهي محلّة بالبصرة، وقيل: كان ينزل عَبّادان، ثقة عابد [9].

روى عن الأعمش، وابن جُريج، وعلي بن صالح، وغيرهم. وعنه الحسن بن صالح، وزيد بن أخزم، وطلحة بن يحيى بن طلحة، والأوزاعي، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة عابداً ناسكاً. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة صدوق مأمون. وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عنه، وعن أبي عاصم؟، فقال: ثقتان. قال الدارمي: الْخُرَيبيّ أعلى. وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: كان يميل إلى الرأي، وكان صدوقاً. وقال الدارقطني: ثقة زاهد. وقال ابن عُيينة: ذاك أَحَدُ الأَحَدين، وقال مرّة: ذاك شيخنا القديم. وقال الكُدَيميّ: سمعته يقول: ما كذبت قطّ إلا مرّة واحدةً، كان أبي قال لي: قرأتَ على المعلّم؟ قلت: نعم، وما كنت قرأت عليه. وقال أبو نصر بن ما كولا: كان عَسِراً في الرواية. وقال محمد بن أبي مسلم الكَجّي، عن أبيه: أتينا عبد الله بن داود ليُحدّثنا، فقال: اسقُوا البُستان، فلم نسمع منه غير هذا. وقال ابن قانع: كان ثقة. وقال الخليليّ: أَمْسَكَ عن الرواية قبل موته. قال الذهبي: فلذا لم يسمع منه البخاريّ.

قال عباس العَنْبَريّ: سمعته يقول: وُلدتُ سنة (126). وقال ابن سعد: مات في شوّال سنة (213)، وفيها أرّخه غير واحد. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (11)، وقيل: سنة (13). وقال البخاريّ: مات قريباً من أبي عاصم. أخرج له الجماعة إلا مسلماً، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث.

3 -

(عليّ بن صالح) بن صالح بن حَي الهَمْدَاني، أبو محمد الكوفيّ أخو حسن، ثقة

ص: 294

عابد [5] تقدم 192/ 307.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني، ثقة عابد، اختلط بآخره [3] تقدّم 38/ 42.

5 -

(أبو الأحوص) عوف بن مالك بن نَضْلَة الْجُشَميّ الكوفي، ثقة مشهور بكنيته [3] تقدّم 50/ 849.

6 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، تقدّم 35/ 39. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، وقد تقدّم في باب "كيف السلام على اليمين" -70/ 1319 - أخرجه هناك من طريق زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، وتقدّم الكلام عليه هناك.

قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" متعلّق بمحذوف، أي حال كونه راوياً عن كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله:"كأنّي أنظر إلى بياض خده" من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي إلى خدّه الأبيض.

وقوله: "كأنّي أنظر إلى بياض خدّه" تشبيه للحال بالماضي لشدّه تصوّره، واستحضاره حتّى كأنّه حاضر مُشاهَد.

وقوله: "عن يمينه" الظرف خبر مقدّم، وقوله:"السلام عليكم" مبتدأ مؤخّر محكيّ، ومثله قوله:"وعن يساره الخ". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1323 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا طريق آخر لحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو حديث صحيح، ورجاله تقدّموا، سوى:

1 -

(محمد بن آدم) بن سليمان الْجُهنيّ، صدوق [10] تقدم 93/ 115.

2 -

(عمر بن عُبيد) بن أبي أمية الطنَافسيّ الكوفي، صدوق [8] تقدّم 155/ 246.

قوله: "حتى يبدوَ بياض خده" برفع "بياض" على الفاعلية، ومعنى بُدُوّه ظهوره لمن يراه، فهو في معنى قوله:"كأني أنظر إلى بياض خدّه"، وذكر الصفة التي هي البياض للدلالة على تحقّق الأمر، فالإتيان بالوصف كإقامة البرهان على الدعوى. قاله بعض

(1)

وفي النسخة "الهندية""أخبرني".

ص: 295

المحققين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1324 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ مِنْ هَاهُنَا وَبَيَاضُ خَدِّهِ مِنْ هَاهُنَا).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا طريق آخر لحديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو حديث صحيح.

ورجاله هم المتقدّمون، سوى:

1 -

(عمرو بن علي) الفلّاس الصيرفي الحافظ الثقة [10] تقدم قبل باب.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ الإمام الحافظ الحجة [9] تقدم 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة الثبت [7] تقدم 33/ 37.

قوله: "السلام عليكم الخ" مقول لحال مقدر، تقديره قائلاً:"السلام عليكم ورحمة الله". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1325 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، وَأَبِى الأَحْوَصِ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ"، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ"، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَيْسَرِ).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا طريق آخر لحديث ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً وهو حديث صحيح، ورجاله هم المذكورون قريبًا سوى:

1 -

(إبراهيم بن يعقوب) بن إسحاق الْجُوزَجَانيّ -بضم الجيم الأولى- نزيل دمشق، ثقة حافظ رُمي بالنَّصْب [11] تقدم 122/ 174.

[تنبيه]: وقع في النسخة "الهنديّة""يعقوب بن إبراهيم"، وما هنا هو الذي في "الكبرى"، و"تحفة الأشراف"، والظاهر أن الصواب ما هنا، لكونه موافقاً لما في "الكبرى"، و"تحفة الأشراف"، ولأن الجُوزجاني هو الذي ذكره في "تحفة الأشراف" ممن روى عن علي بن الحسن بن شقيق، ولم يذكر يعقوب بن إبراهيم فيمن روى عنه، راجع "تحفة الأشراف" جـ 20 ص 371. والله تعالى أعلم.

2 -

(عليّ بن الحسن بن شَقِيق) أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة حافظ، من كبار

ص: 296

[10]

تقدّم 22/ 906.

3 -

(الحسين بن واقد) أبو عبد الله القاضي المروزي، ثقة له أوهام [7] تقدّم 5/ 463. والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا، والكلام على صِيغ السلام:

المسألة الأولى: أخرج المصنف رحمه الله تعالى حديث ابن مسعود رضي الله عنه من رواية أبي إسحاق بعدة طرق:

فأخرجه 124/ 1083 - و173/ 1142 و70/ 1319 - من طريق زهير بن معاوية- و180/ 1149 من طريق أبي الأحوص سَلَّام بن سُليم كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، وعلقمة، كلاهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

و71/ 1322 - من طريق علي بن صالح- و71/ 1323 - من طريق عمر بن عُبيد- و71/ 1324 - من طريق سفيان الثوري- ثلاثتهم عنه، عن أبي الأحوص، عن عبد الله رضي الله عنه.

و71/ 1325 - من طريق الحسين بن واقد، عنه، عن علقمة، والأسود، وأبي الأحوص، ثلاثتهم عن عبد الله رضي الله عنه.

وأخرجه أيضاً أبو داود رقم -996 - من رواية إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، والأسود، كلاهما عن عبد الله. ومن رواية شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله رضي الله عنه.

قال الحافظ رحمه الله في "نتائج الأفكار" جـ 2 ص 221: ما حاصله: إن الدارقطنيّ رحمه الله رجّح في "العلل" روايةَ زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، وعلقمة، كلاهما عن ابن مسعود رضي الله عنه على روايته عن أبي الأحوص عن ابن مسعود.

قال الحافظ: والأولى عدم الترجيح، ويحمل على أن له في هذا الحديث شيخين انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثانية: في اختلاف أهل العلم في صيغ السلام:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: واختلفوا في صفة التسليم، فقالت طائفة: صفة التسليم: "السلام عليكم ورحمة الله". وهذا مرويّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، وإليه ذهب أكثر العلماء، ولو اقتصر على قوله:"السلام عليكم" أجزأه عند جمهورهم،

ص: 297

ولأصحاب أحمد فيه وجهان.

وقالت طائفة: يزيد "وبركاته"، ومنهم الأسود بن يزيد، كان يقولها في التسليمة الأولى، وقال النخعي: أقولها، وأخفيها، واستحبّه طائفة من الشافعية.

وقد أخرج أبو داود من حديث وائل بن حُجر أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يُسلّم عن يمينه:"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وعن شماله:"السلام عليكم ورحمة الله"

(1)

.

ومن أصحاب أحمد من قال: إنما فعل ذلك مرّة لبيان الجواز.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي الكلام على هذه الزيادة في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

قال: وكان من السلف من يقول في التسليمة الأولى: "السلام عليكم ورحمة الله"، ويقتصر في الثانية على:"السلام عليكم". وروي عن عمّار، وغيره، وقد تقدّم حديث ابن عمر المرفوع بموافقة ذلك

(2)

.

وقالت طائفة: بل يقتصر على قوله: "السلام عليكم" بكلّ حال، وهو قول مالك، والليث بن سعد، وروي عن عليّ وغيره، وكذلك هو في بعض روايات حديث جابر بن سمرة المرفوع، وفي بعضها زيادة "ورحمة الله"، وقد أخرجه مسلم بالوجهين انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بتصرّف يسير

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الراحج عندي قول من قال: إنه يقول في التسليمتين: "السلام عليكم ورحمة الله"، لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بذلك، وأما ماورد من الاقتصار على "السلام عليكم"، أو زيادة "وبركاته"، فيُحمل على بيان الجواز، فيُعمل به في بعض الأوقات، وأما اتخاذه مذهباً دائماً، فغير صواب؛ لمخالفته لأكثر الأحاديث الصحيحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثالثة: في الكلام على زيادة "وبركاته" في التسليم:

(اعلم): أن المصنف رحمه الله تعالى أخرج حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا بعدّة طرق، وبألفاظ مختلفة، كما تقدّم ذلك كلّه، وليس في واحدة منها، ولا في الأحاديث التي أخرجها من أحاديث غيره زيادة "وبركاته"، وقد ثبت زيادتها عند غيره، وقد كنت سابقاً

(1)

هكذا في بعض نسخ أبي داود ليس في التسليم الثاني زيادة لفظة "وبركاته"، وثبتت في بعض النسخ، وثبوتها هو الصحيح كما سيأتي تحقيق ذلك في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.

(2)

تقدم للمصنف برقم 71/ 1321 من طريق الدراورديّ.

(3)

راجع "فتح الباري" للحافظ ابن رجب جـ 7 ص 375 - 376.

ص: 298

كتبت في ذلك رسالة ردًّا على من أنكر ثبوتها، ودونك نص الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

[أمّا بعد]: فهذه رسالة سمّيتها:

[رفع الغين عمن يُنكر ثبوت زيادة "وبركاته" في تسليم الصلاة من الجانبين].

وما حملني على كتابتها إلّا إنكار بعض الناس مشروعيةَ ذلك في اليسار، معتمداً على قول بعض أهل العلم، من أهل عصرنا

(1)

: إن زيادة "وبركاته" في التسليم الثاني غير ثابتة، معتمدًا على بعض نسخ أبي داود، مع ثبوتها في بعض نسخه، وهي الصحيحة، كما سيتبين بَعْدُ، إن شاء الله تعالى، فسارعت إلى الكتابة، خشية أن تُنسَى هذه السنّة الثابتة.

(تنبيه): إني لست أُريد بكتابتي هذه الرسالة الحطَّ على أهل العلم، وإنّما أريده بيان الحقّ الذي أوجبه الله تعالى على من عَلِمَه، وذمّ أهل الكتاب بسبب تركه وإهماله، فقال عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].

(اعلم): أنه ورد زيادة "وبركاته" في التسليم من الجانبين من حديث وائل بن حُجر رضي الله عنه مرفوعاً، ومن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً، ومن حديث عمّار بن ياسر رضي الله عنه موقوفاً.

فأما حديث وائل رضي الله عنه، فأخرجه أبو داود في "سننه" على ما هو في النسخة الصحيحة، فإن نسخه قد اختلفت، فسقط من بعضها زيادتها في الثانية، وثبت في بعضها فيهما، وهي الصحيحة عندي، لما يأتي.

فأما النسخ التي ثبتت فيهما، فهي النسخة الهندية، وتوجد في "المكتبة المحموديّة" في المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة، ونصّها جـ 1 ص 138 - :

حدّثنا عَبْدة بن عبد الله، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا موسى بن قيس الحضرميّ، عن سلمة بن كُهيل، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يُسلّم عن يمينه:"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وعن شماله:"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

(1)

هو الشيخ المحدث الكبير والعلامة الشهير محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، فإنه أنكر ثبوتها في التسليمة الثانية. انظر "إرواء الغليل" جـ 2 ص 30 - 32.

ص: 299

والنسخة الثانية هي النسخة التي ضِمْنَ الكتب التسعة التي طُبعت على منهج "المعجم المفهرس"، فقد ثبتت فيها من الجانبين أيضاً.

والنسخة الثالثة هي التي حقّقها عزت دعاس ص 607 - وهذه النسخة يحتمل أن تكون مأخوذة من النسختين السابقتين، أو من إحداهما، ويحتمل أن تكون نسخة أخرى. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه النسخ هي الصحيحة عندي، كما أشرت إليه سابقاً، دون النسخ الأخرى التي لا تثبت الزيادة لأمرين:

(الأول): أن المحقّقين من حُفّاظ الحديث أثبتوا هذه الزيادة في الجانبين من حديث وائل بن حُجْر رضي الله تعالى عنه في مؤلّفاتهم، وعَزَوا ذلك إلى "سنن أبي داود":

فمن هؤلاء المحققين:

الحافظ المجتهد العلّامة ابن دقيق العيد

(1)

رحمه الله تعالى في كتابه "الإلمام" جـ 1 ص 115 - فقد أثبتها فيهما، وعزا ذلك إلى أبي داود.

ومنهم: الحافظ ابن عبد الهادي

(2)

رحمه الله تعالى في كتابه "المحرّر" جـ 1 ص 207 - فإنه أثبتها فيهما، وعزا ذلك إلى أبي داود،

ومنهم: الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، في كتابه "بلوغ المرام"، فإنه أثبتها فيهما، وعزا ذلك إلى أبي داود.

وقال في "التلخيص الحبير" جـ 1 ص 271 - : ما نصه:

[تنبيه]: وقع في "صحيح ابن حبّان" من حديث ابن مسعود زيادة "وبركاته"، وهي عند ابن ماجه أيضاً، وهي عند أبي داود أيضاً في حديث وائل بن حُجْر، فيُتَعجّب من ابن الصلاح، حيث يقول. إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث انتهى.

والحاصل أن اتفاق هؤلاء الأئمّة على إثباتها فيهما، وعَزْوِ ذلك إلى أبي داود يؤكّد أن نسخ "سنن أبي داود" التي فيها الإثبات من الجانبين هي الصحيحة، وأما النسخ التي أثبتت في الأول فقط -وعليها كتب الشرّاح- فقد دخلها الخلل. والله تعالى أعلم.

(1)

هو الإمام الفقيه الحافظ المحدّث تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القُشيري المَنفَلوطي، صاحب التصانيف العديدة، وُلد سنة 615 هـ ومات سنة 702 هـ. راجع "طبقات الحفاظ" ص 513.

(2)

هو الإمام الأوحد المحدث الحافظ الناقد الفقيه البارع المقرىء النحوي اللغوي ذو الفنون، شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قُدَامة المقدسي الحنبلي، أحد الأذكياء، وُلِدَ في رجب سنة 705 هـ ومات في جمادى الأولى سنة 744 هـ. انظر "طبقات الحفاظ" ص 520 - 521.

ص: 300

(الأمر الثاني): صحّة ثبوتها في الجانبين من حديث غير وائل رضي الله تعالى عنه، فقد ثبتت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً، وفي حديث عمار رضي الله عنه موقوفًا، كما أشرت إليه سابقًا

(1)

.

فأما حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فأخرجه ابن ماجه، وابنا خزيمة، وحبّان في "صحيحيهما"، وأبو العبّاس السّرّاج

(2)

في "مسنده"، وابن حزم في "الْمُحَلَّى"، وأخرجه عبد الرزّاق في "مصنفه" موقوفاً عليه.

فأما رواية ابن ماجه، فقد ثبتت في النسخة الصحيحة منه، كما عزاها إليه الحافظ رحمه الله تعالى فىِ "التلخيص الحبير" جـ 1 ص 271.

قال العلّامة الصنعانيّ رحمه الله تعالى في "سُبُل السلام" جـ 1 ص 379: ما نصه: قال المصنّف: إلّا أنه قال ابن رسلان في "شرح السنن": لم نجدها في ابن ماجه. قلت: راجعنا سنن ابن ماجه من نسخة صحيحة مقروءة، فوجدنا فيه ما لفظه:

"باب التسليم" حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، حدثنا عُمر بن عُبيد، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسلّم عن يمينه، وعن شماله حتى يُرَى بياضُ خدّه "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" انتهى بلفظه.

وقال محقّق "شرح السنّة" للبغوي الشيخ شعيب الأرناؤوط: ما نصّه: وعند ابن ماجه في نسخة خطيّة في دار الكتب الظاهرية زيادة "وبركاته"، وقد سقطت بتحقيق فُؤاد عبد الباقي، وهي زيادة صحيحة، نصّ عليها في "التلخيص" انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وقد صرّح الحافظ أيضاً في "نتائج الأفكار" جـ 2 ص 223 بأنها ثابتة في ابن ماجه، وسيأتي نصّه قريباً، إن شاء الله تعالى.

ثم وجدت نسخة محققة أثبتت الزيادة المذكورة في "سنن ابن ماجه"، وهي النسخة الجديدة التي حققها الشيخ خليل مأمون شيحا مع شرح السندي، وتعليقات "مصباح الزجاجة" المطبوعة بتاريخ 1416 هـ - 1996 م. وهي نسخة محققة على نسخة خطيّة مقروءة، كُتب عليها سماعات الحفاظ، كالحافظ المنذري رحمه الله وغيره، كما بيّن ذلك المحقق المذكور في الكلام على وصف النسخة الخطيّة أول الكتاب جـ 1 ص 12 - 15.

(1)

فأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه المرفوع فصحيح، وأما الموقوف ففيه كلام سيأتي، فالعمدة هو المرفوع. وأما حديث عمار رضي الله عنه فرجال إسناده ثقات.

(2)

هو الحافظ الإمام الثقة شيخ خُرَاسان محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران النيسابوري صاحب "المسند" و"التاريخ" وُلد سنة 216 هـ، ومات في ربيع الآخر سنة 313 هـ عن بضع وتسعين سنة. اهـ "طبقات الحفاظ" باختصار ص 311.

ص: 301

والحاصل أن النسخة الصحيحة لـ "سنن أبي داود" بالنسبة لحديث وائل بن حجر رضي الله عنه، و"سنن ابن ماجه" بالنسبة لحديث ابن مسعود رضي الله عنه هي النسخة التي أثبتت زيادة "وبركاته" في الجانبين، للأدلّة المذكورة. والله تعالى أعلم.

وأما رواية ابن خزيمة رحمه الله تعالى، فقال في "صحيحه" جـ 1 ص 360:

نا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، وزياد بن أيوب، قال إسحاق: حدثنا عمر، وقال زياد: حدثني عير بن عُبيد الطنافسيّ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلّم عن يمينه حتى يُرى بياضُ خدّه "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وعن شماله حتى يبدو بياض خدّه "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" انتهى

(1)

.

وأما رواية ابن حبّان رحمه الله تعالى، فقال في "صحيحه" جـ 5 ص 333 رقم 1993 بتحقيق شعيب الأرنؤوط:

أخبرنا الفضل بن الحباب، قال: حدّثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسلّم عن يمينه، وعن يساره حتى يُرَى بياض خدّه "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" انتهى.

(1)

أعلّ الشيخ الألباني رحمه الله هذه الرواية فيما كتبه على "صحيح ابن خزيمة"، فقال: إسناده ضعيف، أبو إسحاق هو السبيعي مختلط مدّلس (د) حديث (999) من طريق زياد بن أيوب، وآخرون دون قوله:"وبركاته" انتهى.

قال الجامع: أما اختلاط أبي إسحاق فليس اختلاطاً شديداً كما بينه الحافظ الذهبي في "الميزان" جـ 3 ص 270 ونصه: أبو إسحاق من أئمة التابعين بالكوفة وأثباتهم إلا أنه شاخ ونسي، ولم يختلط، وقد سمع منه سفيان بن عيينة، وقد تغير قليلاً، وقال أيضاً: وقال الفسوي: فقال بعض أهل العلم: كان قد اختلط، وإنما تركوه مع ابن عيينة لاختلاطه انتهى.

فتبين بهذا أن اختلاطه ليس بشديد مع أنهم إنما تكلموا في رواية ابن عيينة عنه فقط، فدل على أن رواية غيره لا تُترك. فتنبّه.

وأما تدليسه فقد طعن به، لكنه صرح بالسماع من أبي الأحوص عند الإمام أحمد في "مسنده"، ونصه: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، ثنا الحسن، عن أبي إسحاق، ثنا أبو الأحوص، عن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وعن يساره حتى يُرى بياض خده "السلام عليكم ورحمة الله" وحميد بن عبد الرحمن هو الرؤاسي الكوفي، وثقه ابن معين وغيره، والحسن هو ابن صالح بن حي ثقة فقيه عابد. فهذا سند صحيح صرح فيه أبو إسحاق بسماع هذا الحديث من أبي الأحوص، فزال عنه تهمة التدليس، فهو وإن لم تُذكر فيه الزيادة إلا أنه تبين لنا به صحة سماع أبي إسحاق من أبي الأحوص في هذا الحديث. ومن الغريب أن الشيخ الألباني صحح الحديث في "صحيح النسائي"، ولم يعلّه بأبي إسحاق، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

ص: 302

قال الجامع عفا الله تعالى: هكذا نسخة "الإحسان بترتيب ابن حبّان" بإثباتها في الثاني دون الأول، عكس ما في بعض نسخ أبي داود، وهو تصرف من النساخ بلا شكّ، بدليل أن الحافظ أبا بكر الهيثمي رحمه الله أثبتها في كتابه "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" في الجهتين، وكتابه مختصر من "صحيح ابن حبّان"، وكذا عزا الحافظ رحمه الله تعالى ثبوتها إلى "صحيح ابن حبان" في كتابه "نتائج الأفكار" جـ 2 ص 223. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

وأما رواية أبي العبّاس السّرّاج، فقد أخرجها الحافظ في أماليه "نتائج الأفكار" جـ 2 ص 221 - 223 - من طريقه، فقال:

أخبرني شيخنا الإمام أبو الفضل ابن الحسين الحافظ رحمه الله، أخبرني أبو الحرم ابن أبي الفتح، قال: قُرىء على سيدة بنت موسى المازنية، ونحن نسمع، عن زينب بنت عبد الرحمن الشعري، قالت: أنا أبو المظفّر عبد المنعم ابن الإمام أبي القاسم القُشيريّ، أنا أبي، أنا أبو الحسين الْخَفّاف، ثنا أبو العبّاس السرّاج، ثنا عبد الله بن عمر -يعني ابن أبان- ثنا وكيع، وأبو نعيم، قالا: ثنا سفيان -هو الثوريّ- عن أبي إسحاق -هو السبيعي- عن أبي الأحوص -هو عوف بن مالك- عن عبد الله -هو ابن مسعود-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يُسلّم عن يمينه، وعن يساره حتى يُرَى بياض خدّيه "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

قال: هكذا في أصل سماعنا من مسند السرّاج بخط الحافظ مجد الدين بن النجار، وكذلك وجدته بخط الحافظ زكيّ الدين البرزالي، وهو من روايتهما جميعاً عن زينب بنت عبد الرحمن.

وهكذا أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" عن أبي خليفة، عن محمد بن كثير، عن سفيان الثوريّ، وذكر فيه "وبركاته".

لكن أخرجه أبو داود عن محمد بن كثير، فلم يذكرها، وكذا من رواية وكيع، وكذا الترمذي، والنسائي من رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان.

قال: وبهذا الإسناد إلى السرّاج: ثنا هَمّام السَّكُوني -هو الوليد بن شُجَاع بن الوليد- ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، فذكر مثله. لكن قال:"عن شماله"، وقال:"أَرَى".

وأخرجه ابن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن عُمر بن عُبيد، عن أبي الأحوص

(1)

عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، وفيه:"وبركاته".

(1)

هكذا في نسخة "النتائج" بزيادة أبي الأحوص، وهو سلاح بن سُلَيم بين عُمَر بن عُبيد، وأبي =

ص: 303

قال: فهذه عدّة طرق ثبت فيها "وبركاته" بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ -يعني النووي رحمه الله أنها رواية فردة

(1)

.

وأما رواية ابن حزم رحمه الله تعالى، فقال في كتابه "المحلّى" جـ 3 ص 275 - :

حدّثنا حمام، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الأعرابي، ثنا الدّبريّ، ثنا عبد الرزّاق، عن سفيان الثوريّ ومعمر، كلاهما عن حمّاد بن أبي سليمان، عن أبي الضّحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: ما نسيت فيما نسيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يُسلّم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" حتى يُرى بياض خدّه، وعن يساره:"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" حتى يُرى بياض خدّه أيضاً انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: رجال هذا الإسناد ثقات غير حماد بن أبي سليمان فصدوق، له أوهام. والله أعلم.

وأخرجه عبد الرزّاق موقوفا على ابن مسعود، فقال في "مصنّفه" جـ 2 ص 219:

عبد الرزّاق، عن معمر، عن خُصيف الْجَزَريّ، عن أبي عُبيدة بن عبد الله، أن ابن مسعود كان يُسلّم عن يمينه "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وعن يساره "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، يجهر بكلتيهما.

قال الجامع عفا الله عنه: فيه خُصيف متكلّم فيه، قال في "ت": صدوق سيء الحفظ، خلط بآخره، ورمي بالإرجاء انتهى، وفيه أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، فهو منقطع. والله أعلم.

وأما حديث عمّار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما، فأخرجه عبدالرّزّاق في "مصنّفه" أيضاً موقوفاً عليه، فقال جـ 2 ص 220:

عبد الرزّاق عن معمر، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّب، أن عمّار بن ياسر

= إسحاق، لكن الذي في نسخة ابن ماجه بإسقاطه، وقد تقدم للنسائي برقم 71/ 1323 وليس فيه أبو الأحوص أيضاً، وهو الظاهر؛ لأن عمر بن عبيد ممن يروي عن أبي إسحاق بدون واسطة كما هو مذكور في ترجمته في "تهذيب التهذيب". وهو أيضاً ما في "تحفة الأشراف" 7/ 124 - 125. والله تعالى أعلم.

(1)

نصّ عبارة النووي رحمه الله في كتابه "الأذكار" ص 56 - 57: (واعلم): أن الأكمل في السلام أن يقول عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله" وعن يساره "السلام عليكم ورحمة الله"، ولا يستحب أن يقول معه:"وبركاته"؛ لأنه خلاف المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وان كان قد جاء في رواية لأبي داود، وقد قال به جماعة من أصحابنا، منهم: إمام الحرمين، وزاهر السرخسي، والروياني في "الحلية"، ولكنه شاذ والمشهور ما قدمناه. والله أعلم اهـ.

قال الجامع: قد عرفت الجواب عن هذا في كلام الحافظ رحمه الله تعالى.

ص: 304

كان يسلّم عن يمينه "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وعن يساره مثل ذلك انتهى.

قال الجامع: رجال إسناده ثقات. والله أعلم.

قال العلّامة الصنعاني رحمه الله تعالى في "سبل السلام" عند شرح حديث وائل بن حُجْر رضي الله تعالى عنه المتقدّم: ما نصّه:

وحديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة

(1)

بأحاديث مختلفة، ففيها صحيح، وحسن، وضعيف، ومتروك، وكلها بدون زيادة "وبركاته" إلّا في رواية وائل هذه، ورواية عن ابن مسعود عند ابن ماجه، وعند ابن حبّان، ومع صحّة إسناد حديث وائل -كما قال المصنف- يعني الحافظ ابن حجر - يتعيّن قبول زيادته، إذ هي زيادة عدل، وعدم ذكرها في رواية غيره ليس رواية لعدمها انتهى كلام الصنعاني رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه:

خلاصة القول في هذه المسألة أن زيادة "وبركاته" ثابتة في التسليم من الصلاة من الجانبين، فمن قبل زيادتها في التسليمة الأولى، فليقبلها في الثانية أيضاً، لثبوتها فيها بما ثبتت به الأولى، ولا يؤثّر على ذلك عدم وجودها في بعض النسخ، لما قدّمنا أن ذلك من تصرف النُّسّاخ. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ثم إن زيادة "وبركاته" إنما يستحبّ في بعض الأوقات، فلا ينبغي التزامها في جميع الصلوات، لأن أكثر من نقل صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكرها، فلو كان صلى الله عليه وسلم التزمها لما أهملوها، فدلّ على أنه كان يزيدها في بعض الأوقات، فحفظها بعض الصحابة، ولم يعمل بها في معظم الأوقات، فلم يحفظها الأكثرون. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

أسأل الله تعالى العظيم، ربّ العرش الكريم بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلى أن يهدينا الصراطَ المستقيم، وأن يرزقنا اتباع سنة حبيبه المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، وأن يختم لنا بالحُسنى، إنه سميع قريب مجيب الدعوات، وغافر الزلّات.

اللَّهمّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد

(1)

بل ذكر الحافظ رحمه الله في "نتائج الأفكار" جـ 2 ص 219: ما حاصله: أنه ورد عن نحو عشرين من الصحابة رضي الله عنهم. انتهى.

ص: 305

مجيد. اللَّهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنلى حميد مجيد. السلام على النبي ورحمة الله وبركاته.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} .

"سبحانك اللَّهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك". انتهت الرسالة.

كتبها وحررها راجي رحمة ربه الكريم/ محمد ابن الشيخ العلامة/ عليّ ابن آدم بن موسى الإتْيوبي الولّوي، عفا الله تعالى عنه وعن والديه آمين. 25/ 9/ 1415 هـ.

‌72 - (باب السَّلَامِ بِالْيَدَيْنِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّمت هذه الترجمة، والحديث المذكور فيها برقم -5/ 1184 - بلفظ "باب ردّ السلام بالأيدي في الصلاة"، ومعنى الترجمتين متقارب، فلا يظهر لي وجه التكرار. والله تعالى أعلم بالصواب.

1326 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ الْقِبْطِيَّةِ- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنَّا إِذَا سَلَّمْنَا قُلْنَا بِأَيْدِينَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا شَأْنُكُمْ، تُشِيرُونَ بِأَيْدِيكُمْ، كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ، إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَلْتَفِتْ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَا يُومِىءْ بِيَدِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهَاويّ، ثقة حافظ [11] تقدّم 38/ 42، من أفراد المصنف.

2 -

(عُبيد الله بن موسى) بن أبي المختار، واسمه باذام العَبْسيّ مولاهم، الكوفي، أبو محمد الحافظ، ثقة يتشيّع [9].

روى عن إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وإسرائيل، وغيرهم. وعنه البخاري، وروى هو والباقون له بواسطة.

قال الميموني: ذُكر عند أحمد عبيدُ الله بن موسى، فرأيته كالمنكر له، وقال: كان

ص: 306

صاحب تخليط، وحدّث بأحاديث سوء، قيل له: فابن فُضيل؟ قال: كان أستر منه. وأما هو فأخرج تلك الأحاديث الرديّة، وقال معاوية بن صالح: سألت ابن معين عنه؟ فقال: اكتب عنه. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، حسن الحديث، وأبو نعيم أتقن منه، وعبيد الله أثبتهم في إسرائيل، كان إسرائيل يأتيه فيقرأ عليه القرآن. وقال العجلي: ثقة، وكان عالماً بالقرآن، رأساً فيه، وقال أيضاً: ما رأيته رافعاً رأسه، وما رآني ضاحكاً قطّ. وقال الآجريّ عن أبي داود: كان محترقاً شيعيًّا، جاز حديثه. وقال ابن عديّ: ثقة. وقال ابن سعد: قرأ على عيسى بن عمر، وعلى عليّ بن صالح، وكان ثقةً صدوقاً، إن شاء الله تعالى، كثير الحديث، حسَنَ الهيئة، وكان يتشيّع، ويروي أحاديث في التشيّع منكرة، وضُعّف بذلك عند كثير من الناس، وكان صاحب قرآن. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يتشيّع. وقال يعقوب بن سفيان: شيعيّ، وإن قال قائل: رافضي لم أُنكر عليه، وهو منكر الحديث. وقال الْجُوزَجَاني: وعبيد الله بن موسى أغلى، وأسوأ مذهبًا، وأروى للعجائب. وقال الحاكم: سمعت قاسم بن قاسم السيّاريّ: سمعت أبا مسلم البغداديّ الحافظ يقول: عبيد الله بن موسى من المتروكين، تركه أحمد لتشيّعه، وقد عُوتب أحمدُ على روايته عن عبد الرزّاق، فَذَكَرَ أن عبد الرزّاق رجع. وقال ابن شاهين: في "الثقات": قال عثمان ابن أبي شيبة: صدوق ثقة، وكان يضطرب في حديث سفيان اضطرابًا قبيحًا. وقال ابن عديّ: قال البخاريّ: عنده "جامع سفيان"، ويُستصغر فيه. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة، ما أقر به من يحيى بن يمان، أرجو أن يكون صدوقاً، وليس حديثه بالقويّ. وقال ابن قانع: كوفي صالح يتشيع. وقال الساجيّ: صدوق، كان يُفْرط في التشيّع. قال أحمد: روى مناكير، وقد رأيته بمكة، فأعرضت عنه، وقد سمعت منه قديماً سنة (185) وبعد ذلك عتبوا عليه تركه الجمعة مع إدمانه على الحجّ.

وقال أبو حاتم: سمعت منه سنة (213). وقال ابن سعد: مات في ذي القَعدَة سنة (213)، وكذا أرّخه غيره. وقال يعقوب بن شيبة: مات سنة (14). وذكر القراب أنه ولد سنة (128). أخرج له الجماعة، وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ (27) حديثًا، وروى في مواضع عن غير واحد، عنه، وله في هذا الكتاب (28) حديثاً.

3 -

(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، أبو يوسف الكوفي، ثقة تكلّم فيه بلا حجة [7] تقدم 75/ 1006.

4 -

(فُرَات) بن أبي عبد الرحمن الْقَزّاز التميميّ، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله البصري، سكن الكوفة، ثقة [5].

ص: 307

روى عن أبي الطفيل، وسلمان الأشجعي، وعُبيد الله بن القبطية، وغيرهم. وعنه ابنه الحسن، وشعبة، وإسرائيل، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال سفيان: كان ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والباقيان تقدّما قبل بابين.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم قبل بابين، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله في -5/ 1184، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادة ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌73 - (تَسْلِيمُ الْمَأمُومِ

(1)

حِينَ يُسَلِّمُ الإِمَامُ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجمة المصنف رحمه الله تعالى هذه بمعنى ترجمة الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه"، حيث قال:"باب يسلّم حين يسلّم الإمام".

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يَستَحبّ إذا سلّم الإمام أن يُسلّم مَن خلفه انتهى.

قال الزين ابن الْمُنَيّر رحمه الله: ترجم بلفظ الحديث، وهو محتمل لأن يكون المراد أنه يبتدىء السلام بعد ابتداء الإمام له، فيَشرَع المأموم فيه قبل أن يتمّه الإمام، ويحتمل أن يكون المراد أن المأموم يبتدىء السلام إذا أتمّه الإمام، قال: فلمّا كان محتملًا للأمرين وَكَلَ النظر فيه إلى المجتهد انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ويحتمل أن يكون أرأد أن الثاني ليس بشرط، لأن اللفظ يحتمل صورتين، فأيهما فعل المأموم جاز، وكأنه أشارإلى أنه يندب أن لا يتأخّر المأموم في سلامه بعد الإمام، متشاغلاً بدعاء وغيره، ويدلّ على ذلك ما ذكره عن ابن عمر انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

وفي نسخة "سلام المأموم".

(2)

"فتح" جـ 2 ص 589.

ص: 308

1237 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: كُنْتُ أُصَلِّي بِقَوْمِي

(1)

بَنِي سَالِمٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ، فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مَعَهُ بَعْدَمَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنْتُ لَهُ

(2)

، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ:"أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ"، فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ

(3)

أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي، ثقة [10] تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) المروزي الإمام الحافظ الحجة المشهور [8] تقدم 32/ 36.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة اليمني، ثقة ثبت [7] تقدم 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(محمود بن الربيع) بن سُرَاقة بن عمرو الخزرجي، أبو نعيم، أو أبو محمد المدني، صحابي صغير، جلّ روايته عن الصحابة، تقدم 10/ 788.

6 -

(عتبان بن مالك) -بكسر أوله، وسكون ثانيه- ابن عمرو العجلاني الأنصاري السلمي، صحابي مشهور مات في خلافة معاوية رضي الله عنهما، تقدم 10/ 788.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عتبان بن مالك رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه، وقد تقدم برقم 10/ 788 - باب "إمامة الأعمى" وتقدم شرحه مُستَوفًى هناك، وكذا بيان المسائل المتعلّقة به، فمن أراد الاستفادة، فليراجع هناك.

قوله: "قد أنكرت بصري" على صيغة المتكلّم، وتقدم أنه قال:"وأنا رجل ضرير البصر"، وفي رواية "وهو أعمى"، وقد تقدّم وجه التوفيق بين هذه الروايات في الباب المذكور، وحاصله أن المراد أنه ضعف بصره، وقارب العمى، والله تعالى أعلم.

وقوله: "وأن السيول" جمع سيل، وهو الماء الجاري أيام الأمطار.

وقوله: "فلوددت" بكسر الدال الأولى: أي تمنيت.

(1)

وفي النسخة "الهندية""لقومي" باللام.

(2)

سقط لفظ "له" من بعض النسخ.

(3)

وفي "الهندية": "أحببت".

ص: 309

وقوله: "فغدا علي" بتشديد الياء، أي جاءني غُدوة، أي في أول النهار عند اشتداد حر الشمس.

وقوله: "وسلّمنا حين سلّم" هذا موضع الترجمة، فإنه يدل على أن السنة أن يسلم المأموم وقت سلام إمامه، فلا يتقدّم عليه، ولا يتأخر عنه مشتغلاً بالدعوات، بل يسلم عقب تسليمه.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ظاهره يقتضي أنهم سلّموا مع سلامه، لأن الحين معناه الوقت، فظاهر اللفظ يقتضي أن سلامهم كان في وقت سلامه، مقارناً له، وليس هذا هو المراد -والله أعلم- وإنما المراد أنهم سلّموا عقب سلامه من غير تأخّر عنه، وعبّر عن ذلك باتحاد الوقت والحين، فإن التعاقب شبيه بالتقارن، وهو أيضاً المراد -والله أعلم- من المرويّ عن ابن عمر وغيره من السلف فى السلام مع الإمام، وأنهم أرادوا بالمعيّة التعاقب، دون التقارن انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى حسن جدًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌74 - (بَابُ السُّجُودِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة مشروعية السجود بعد الفراغ من الصلاة استدلالاً بحديث عائشة المذكور في الباب، لأن المراد من قولها:"ويسجد سجدة قدرَ ما يقرأ أحدكم خمسين آية" هو السجود بعد الفراغ من الصلاة.

لكن في هذا الاستدلال نظر لا يخفى، إذ الظاهر من الحديث بيان طول سجوده صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل بقدر ما يكون مثل قراءة القارىء خمسين آية.

وأصرح من هذا رواية البخاري جـ 2 ص31 - من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، ولفظه: "كان يصلي إحدى عشرة ركعةً، كانت تلك صلاته -تعني بالليل-

ص: 310

فيسجد السجدة الواحدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه

" الحديث. فإن اسم الإشارة عائد إلى ما ذكر قبله، وهو وصف صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، فهو صريح في أنّ تلك السجدة كانت في نفس الصلاة، أرادت عائشة رضي الله عنها بذلك بيان مقدار طول السجدة الواحدة في صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، لا أنّه يسجد سجدة بعد سلامه من الصلاة بالمقدار المذكور، فإن هذا بعيد من معنى ظاهر الحديث.

وأصرح منه رواية أبي داود رقم 1336 - من طريق الأوزاعي، عن الزهري، ولفظه: "ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية

".

وأحسن من صنيع المصنف رحمه الله صنيع الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" حيث استدل بالحديث على استحباب طول السجود في صلاة الليل، فقال. "باب طول السجود في قيام الليل"، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب، وهو استدلال واضح. والله تعالى أعلم بالصواب.

1328 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ

(1)

، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ:

(2)

قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، وَيَسْجُدُ سَجْدَةً قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ.

وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَدِيثِ. مُخْتَصَرٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سليمان بن داود بن حَمّاد بن سعد) الْمَهْريّ، أبو الربيع المصريّ، ثقة [11] تقدم 63/ 79.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري الحافظ الثقة العابد [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي العامري، أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل [7] تقدّم 41/ 685.

4 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري، أبو أيوب المصري، ثقة حافظ فقيه [7] تقدم 63/ 79.

5 -

(يونس بن يزيد) الأيليّ، ثقة، من كبار [7] تقدم 9/ 9.

(1)

سقط لفظ "بن يزيد" من بعض النسخ.

(2)

لفظة "قال" ساقطة من بعض النسخ.

ص: 311

6 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم المذكور في السند الماضي.

7 -

(عروة) بن الزبير المدني الثقة الثبت الفقيه [3] تقدّم 40/ 44.

8 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت 5/ 5.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله في -41/ 685 - باب "إيذان المؤذنين الأئمّة بالصلاة"، فليُرَاجَع هناك. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "وبعضهم يزيد على بعض في الحديث" هذا من كلام ابن وهب، يعني أن ابن أبي ذئب، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد أخبروه بهذا الخبر، وفي إخبار بعضهم زيادة على بعض في الحديث، وهنا قاعدة مهمة ذكرت في كتب "مصطلح الحديث"، بينتها في الباب المذكور، فراجعها تستفد. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "مختصر" خبر لمبتدإ محذوف، أي هذا الحديث مختصر، وتمامه كما تقدّم في الباب المذكور:

"فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر ركع ركعتين خفيفتين، ثمّ اضطجع على شقّه الأيمن حتى يأتيه المؤذن بالإقامة، فيخرج معه" انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌75 - (بَابُ سَجْدَتَي

(1)

السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَالكَلَامِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مناسبة ذكر المصنف رحمه الله تعالى لهذا الباب، والذي بعده هنا، وإن كانا من أبواب السهو كون الأبواب السابقة واللاحقة في الكلام على السلام.

ثم إنه أراد بالسلام والكلام ما كان سهواً، أو على ظن تمام الصلاة، بدليل الحديث المذكور، فإن سلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكلامه كان على ظن تمام الصلاة، وكذا الصحابة الذين تكلموا أثناء الصلاة كانوا ظانين أنه حدث النقص في الصلاة، فجازت صلاتهم، فأما إذا

(1)

وفي نسخة "سجدة السهو"، وفي الأخرى "سجود السهو".

ص: 312

سلّم بنية قطع الصلاة، أو تكلّم عمداً، فقد بطلت صلاته. والله تعالى أعلم بالصواب.

1329 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ حَفْصٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَلَّمَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن آدم) الْجُهَني المصِّيصيّ، صدوق [10] تقدّم 93/ 115.

2 -

(حفص) بن غياث بن طلق النخعي الكوفي، ثقة فقيه تغير قليلاً في الآخر [8] تقدم 86/ 105.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الحافظ الحجة الثبت أبو محمد الكوفي [5] تقدم 17/ 18.

4 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعي الفقيه الثقة العابد الكوفي [5] تقدم 29/ 33.

5 -

(علقمة) بن قيس النخعي الفقيه الثقة الثبت العابد الكوفي [2] تقدم 61/ 77.

6 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه تقدم 35/ 39. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود. ومنها: أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير شيخه، فمصّيصيّ. ومنها: أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين الكوفيين يروي بعضهم عن بعض: سليمان، وإبراهيم، وعلقمة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم سَلَّمَ) أي من صلاة الظهر، كما بُيِّن في الروايات الأخرى (ثم تكلم) أي لظنه أنه صلى الصلاة على الوجه المطلوب (ثم سجد سجدتي السهو) أي بعدما ذكّروه، وهذا الحديث مختصر من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الطويل، وقد تقدّم بطوله برقم 25/ 1243 "باب التحرّي" من طريق الفضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم:

ولفظه: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً، فزاد فيها أو نقص، فلمّا سلّم قلنا: يا نبي الله، هل حدَثَ في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك، فذكرنا له الذي فعل، فثَنَى رجله، فاستقبل القبلة، فسجد سجدتي السهو، ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال: "لو حدَثَ في الصلاة شيء لأنبأتكم به"، ثم قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فأيكم شكّ في صلاته شيئاً، فليتحرّ الذي يرى أنه صواب، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو".

ص: 313

ولفظه من طريق شعبة، عن منصور: "صلى صلاة الظهر، ثم أقبل عليهم بوجهه

" الحديث.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه المصنف هكذا مختصراً هنا -75/ 1329 - وفي "الكبرى" -109/ 1252 - بالسند المذكور.

وأخرجه (م) 2/ 86 (ت) رقم 393 (ق) 1218 (الحميدي) رقم 96 (أحمد) 1/ 376 و456 (ابن خزيمة) 1058 و1059.

وقد تقدّم البحث فيه مُستوفًى في الباب المذكور، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌76 - (السَّلَامُ بَعْدَ سجْدَتَيِ السَّهْوِ)

1330 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْضَمُ بْنُ جَوْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ، وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ سَلَّمَ.

قَالَ: ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عكرمة بن عمّار) العجلي، أبو عمّار اليمامي، بصريّ الأصل، صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] تقدم 57/ 1299.

2 -

(ضَمْضَم بن جَوْس) بن الحارث بن جَوْس اليمامي، ثقة [3] تقدم 12/ 1202.

3 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم 1/ 1.

والباقيان تقدما قبل بابين. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه فتفرد به هو والترمذيّ، وضمضم فمن رجال الأربعة، وفيه رواية تابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

ص: 314

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي بعد أن صلّى ركعتين من صلاة الظهر، أو العصر، كما تقدم ذلك في حديث أبي هريرة الطويل في قصّة ذي اليدين من طرق متعددة (ثم سجد سجدتي السهو) بعدما ذكّره ذو اليدين بأنه صلى ركعتين فقط، وصدّقه بقية الصحابة الذين صلوا معه (وهو جالس) جملة حالية في محلّ نصب من فاعل "سجد"(ثم سلّم) هذا محل الترجمة، فإنه يدل على مشروعية السلام بعد سجدتي السهو.

وقد تقدم أنه اختلف في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في إثبات السجدتين في هذه القصة، وأكثر الرواة عنه على إثباتهما، وقد نفاهما الزهري في روايته عنه، فمنهم من وهمه في ذلك، وهم أكثر الْحُفّاظ، ومنهم مَن أوّل كلامه، وتمام البحث في ذلك قد مرّ مُستوفَى في الباب -23 - "ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين"، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(قال) يحتمل أن يكون الفاعلُ ضميرَ ضمضم، أو من دونه (ذكره) أي ذكر أبو هريرة هذا الحديث (في حديث ذي اليدين) أي في جملة حديث قصّة ذي اليدين الطويل.

يعني أن هذا الحديث طرف من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي ذكره في قصة ذى اليدين. والله تعالى أعلم.

وقد ساق الإمام أحمد رحمه الله الحديث بطوله في "سنده" جـ 2 ص 423 - فقال:

ثنا حسن بن موسى، ثنا شيبان بن عبد الرحمن، ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، قال: بينما أنا أصلي صلاة الظهر سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركعتين، فقام رجل من بني سُليم، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة، أم نسيت؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم تُقصر، ولم أنسه"، قال: يا رسول الله إنما صلّيت ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحَق ما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا نعم، قال: فقام، فصلى بهم ركعتين آخرتين.

قال يحيى: حدثني ضَمْضَم بن جَوْس أنه سمع أبا هريرة يقول: ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين.

وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه من رواية أبي سلمة، وغيره بعدة طرق من حديث -1224 إلى-1235 - . والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 315

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -76/ 1330 - وفي "الكبرى" -110/ 1253 - و114/ 569 - عن سويد ابن نصر، عن ابن المبارك، عن عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس، عنه. وفي "الكبرى" -114/ 570 - عن إبراهيم بن يعقوب، عن الحسن بن موسى، عن شيبان بن عبد الرحمن، عن يحيى بن أبي كثير، عن ضمضم، عنه. وفي -124/ 602 - عن أبي بكر بن إسحاق، عن أبي زيد الهَرَويّ سعيد بن الربيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى به، بلفظ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، فقال في الركعين الأوليين، فلم يقعد حتى إذا كان في آخر صلاته، فسجد سجدتين قبل أن يسلّم، ثم سلّم".

رواية علي بن المبارك فيها مخالفة لرواية شيبان، وغيره، لكنه متكلم في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فلا تضرّ مخالفته له. والله تعالى أعلم.

وأخرجه (د) رقم 1016 - و (أحمد) كما تقدم قريباً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1331 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ثَلَاثًا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ الْخِرْبَاقُ: إِنَّكَ صَلَّيْتَ ثَلَاثًا، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يحيى بن حبيب بن عربيّ) البصري، ثقة [10] تقدم 60/ 75.

2 -

(حماد) بن زيد البصري الحافظ الثبت الحجة [8] تقدم 3/ 3.

3 -

(خالد) بن مهران الحذّاء البصري الحافظ ثقة يرسل [5] تقدم 7/ 634.

4 -

(أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال [3] تقدم 103/ 322.

5 -

(أبو المهلَّب) الجرمي البصري، عم أبي قلابة، عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: غيره، ثقة [2] تقدّم 23/ 1236.

(6)

(عمران بن حُصَين) الصحابي المشهور ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدم 201/ 321.

ص: 316

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عمران رضي الله عنه هذا صحيح تقدم برقم 23/ 1236، و1237 - باب "ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين" وتقدّم هناك شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله، فإن شئت الاستفادة، فراجعه. وبالله تعالى التوفيق.

واستدلال المصنف رحمه الله تعالى به لما ترجم له واضح، إذ قوله:"ثمّ سلّم" صريح في كونه سلم بعد سجدتي السهو. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌77 - (جَلْسَةُ الإِمَامِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالانْصِرَافِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الجلسة" هنا بفتح الجيم، لا بكسرها، لأن المراد به المرة من الجلوس، لا الهيئة، قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":

وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كجَلْسَهْ

وَفِعْلَةٌ لِهَيْئَةٍ كَجِلْسَهْ

أورد المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها، استدلالاً على استحباب جلوس الإمام بين تسليمه، والانصراف إلى حاجته، وهو استدلال واضح. والله تعالى أعلم بالصواب.

1332 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: رَمَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاتِهِ، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، وَرَكْعَتَهُ

(1)

، وَاعْتِدَالَهُ

(2)

، بَعْدَ الرَّكْعَةِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالاِنْصِرَافِ قَرِيبًا

(3)

مِنَ السَّوَاءِ).

(1)

وفي نسخة "وركوعه".

(2)

وفي نسخة "فاعتداله".

(3)

وفي نسخة "قريب".

ص: 317

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) الرُّهَاوي، ثقة حافظ [11] تقدم 38/ 42.

2 -

(عمرو بن عون) بن أوس بن الْجَعْد الواسطيّ، أبو عثمان البزّاز الحافظ، مولى أبي العَجْفَاء السُّلّميّ، سكن البصرة، ثقة ثبت [10].

روى عن الحمّادين، وهُشيم، وأبي عوانة، وغيرهم. وعنه البخاريّ، وأبو داود، وروى البخاري أيضاً، والباقون بواسطة عبد الله بن محمد المُسنَديّ، وحجاج بن الشاعر، وعبد الله الدارمي، وأحمد بن سليمان الرُّهَاوي، وغيرهم.

قال إبراهيم بن الجنيد سمعت يحيى بن معين يقول: حدثنا عمرو بن عون، وأطنب في الثناء عليه. وقال العجلي: ثقة، وكان رجلاً صالحاً. وقال الدُّوريّ: سمعت يزيد ابن هارون يقول: عمرو بن عون ممن يَزداد كلّ يوم خيراً. وقال أبو زرعة: قلّ من رأيت أثبت منه. وقال أبو حاتم: ثقة حجة، وكان يحفظ حديثه. وقال مسلمة في "الصلة": ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (225)، كذا قال حاتم بن الليث الجوهريّ، وكذا قاله البخاريّ، وأبو داود ظنًّا، وكذا جزم ابن قانع نقلاً عن حفيده، وزاد:"في شعبان". أخرج له الجماعة. وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ (11) حديثاً. وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (4681) "الرجل أحقّ بعين ماله

".

3 -

(أبو عوانة) وَضَّاح بن عبد الله اليشكري الواسطيّ، ثقة ثبت [7] تقدم 41/ 46.

4 -

(هلال) بن أبي حُميد، ويقال: ابن حميد، ويقال: ابن عبد الله، ويقال: ابن عبد الرحمن، ويقال: ابن مِقْلَاص الجُهَنيّ مولاهم، أبو عمرو، ويقال: أبو أمية، ويقال: أبو الجهم الكوفي الصيرفيّ الجِهْبِذ الوَزّان، ثقة [6].

روى عن عبد الله بن عُكَيم، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعروة بن الزبير، وأبي بشر. وعنه مسعر، وإسرائيل، وأبو عوانة، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: لا بأس به، حدّثنا حامد، حدثنا سفيان، قال: كان هلال الوزّان شيخاً قد كبر، وكان يكتب على البيدر في كلّ شهر بعشرة دراهم. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، ولكنه فرّق بين هلال بن عبد الرحمن، وهلال بن مقلاص، وهلال بن أبي حميد، وأشار البخاريّ إلى أن هلال بن أبي حميد أصحّ، وقال: قال وكيع: هلال بن حميد، ومرّة هلال بن عبد الله، ولا يصحّ. أخرج له الجماعة سوى ابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (4251) "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب

".

ص: 318

5 -

(عبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاري المدني، ثم الكوفي، ثقة [2] تقدم 86/ 104.

6 -

(البراء بن عازب) الأنصاري الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما تقدم 86/ 105.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث البراء رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه، وتقدّم برقم 114/ 1065 - باب "قدر القيام بين الرفع من الركوع والسجود"، وتقدم تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

واستدلّ به المصنف رحمه الله تعالى هنا على مشروعية الجلوس بين التسليم من الصلاة، والانصراف منها إلى جهة حاجته، وهو استدلال واضح.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: فهذا الحديث صريح في أنه كان يجلس بعد تسليمه قريباً من قدر ركوعه، أو سجوده، أو جلوسه بين السجدتين، ثم ينصرف بعد ذلك انتهى

(1)

.

وقوله: "رَمَقْتُ" من باب قتل، يقال: رَمَقَه بعينه رَمْقًا: أطال النظرَ إليه. قاله في "المصباح".

وقوله: "وركعته": أي ركوعه.

وقوله: "قريباً من السواء" أي إن ركوعه يقارب قيامه، وكذا غيره، هذا هو المتبادر من لفظ الحديث، وقد جاء صريحاً في صلاة الليل.

ويحتمل أن المراد كان قيامه في ركعاته مقارباً، وكذا الركوع، أي قيام كلّ ركعة يقارب قيام الأخرى، وركوعها ركوعها، وهكذا، وهذا بعيد من حيث دلالة اللفظ، ومن حيث أنه مخالف لما عُلم من تطويله الركعة الأولى.

ويحتمل أن المراد أنه إذا طوّل في القيام طوّل في الركوع والسجود بقدره، وإذا خفّف خفّف في الكلّ أيضاً بقدره، وعلى قياسه، والله تعالى أعلم.

قاله السندي رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأخير هو الراجح عندي. والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: هذا الحديث صريح في إطالة النبي صلى الله عليه وسلم للرفع من الركوع والسجود، وأن رفعه منهما كان قريباً من ركوعه وسجوده، فدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يناسب بين أركان الصلاة، وهي الركوع، والسجود، والرفع منهما،

(1)

"شرح صحيح البخاري" جـ 7 ص 436.

ص: 319

ويقارب بين ذلك كلّه، فإن أطال منها شيئاً أطال الباقي، وإن أخفّ منها شيئاً أخفّ الباقي انتهى كلامه

(1)

.

قال الجامع: كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى يؤيّد ما رجّحته آنفاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1333 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةُ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الصَّلَاةِ قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ الرِّجَالُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلَمَة) المرادي المصري، ثقة [10] تقدم 19/ 20.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري الحافظ الثبت العابد [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيلي، ثقة، من كبار [7] تقدم 9/ 9.

4 -

(ابن شهاب) الزهري الإمام المشهور تقدم قريباً.

5 -

(هند بنت الحارث الفراسية) ويقال لها: القرشية، وكانت تحت مَعبد بن المقداد ابن الأسود، ثقة [3].

روت عن أمّ سلمة، وكانت من صواحباتها، وروى عنها الزهري، ذكرها ابن حبّان في "الثقات"، وقال ابن سعد: اسمها على الأصحّ الزَّهْراء، ثمّ قال: وقال الزُّبيدي: أخبرنا الزهريّ أن هندا بنت عبد المطلب.

وذكر البخاريّ في "صحيحه" الخلاف في مَعْبَد بن المقداد، وكانت تدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقال الليث، عن يحيى بن سعيد: حدثه ابن شهاب، عن امرأة من قريش، عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. أخرج لها الجماعة سوى مسلم، ولها في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(أم سلمة) هند بنت أبي أمية الهلالية، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، تقدمت 123/ 183. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعي،

(1)

"صحيح البخاري". جـ 7 ص 207.

ص: 320

عن تابعية، وأن هند بنت الحارث ليس لها ذكر في هذا الكتاب إلا في هذا الباب. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن يونس) بن يزيد الأيلي، أنه قال (قال ابن شهاب) وفي نسخة "عن ابن شهاب، قال"(أخبرتني هند) يجوز منعه من الصرف للعلمية والتأنيث، ويجوز صرفه لسكون وسطه، والأوّل أولى لاجتماع العلتين، وإن قاوم إحداهما خفة سكون وسطه، قال في "الخلاصة":

وَجْهَانِ فِي الْعَادِمِ تَذْكِيرًا سَبَقْ

وَعُجْمَةً كَهِنْدَ وَالْمَنْعُ أَحَقّ

(بنت الحارث الفراسية) بكسر الفاء، وتخفيف الراء، آخره مهملة: نسبة إلى فراس بطن من كنانة.

وهند تابعية، ولا يعرف لها راو غير الزهري، ولم يخرج لها مسلم، كما سبق.

وقد اختلف في نسبتها، فمنهم من قال: الفراشية، ومنهم من قال: القرشية، فمن قال: من أهل النسب: إن كنانة جماع قريش، فلا مغايرة بين النسبتين، ومن قال: إن جماع قريش فهر بن مالك، فيحتمل أن يكون اجتماع النسبتين لهند على أن إحداهما بالأصالة، والأخرى بالمحالفة. قاله في "الفتح"

(1)

.

(أن أم سلمة) رضي الله عنها (أخبرتها) أي أخبرت هنداً، زاد البخاري "وكانت من صواحباتها"(أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فى وقته (كنّ إذا سلّمن من الصلاة) التي صلينها جماعة في المسجد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم (قُمن) أي من مكانهن، وخرجن إلى بيوتهنّ (وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي قعد في مكانه الذي صلّى فيه ليعقد الرجال بقعوده حتى لا تقع الفتنة باختلاط الرجال بالنساء في الطرقات.

ففي رواية البخاري من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم، قال ابن شهاب: فأُرَى -والله أعلم- أن مكثه لكي يَنْفُذ النساء قبل أن يدركهنّ من انصرف من القوم".

(ومن صلى من الرجال) في محلّ رفع عطف على "رسول الله"، أي وثبت الرجال الذين صلّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما شاء الله)"ما" مصدرية ظرفية، أي مدة مشيئة الله تعالى، أو موصولة، مفعول "مكث"، أي مكث الوقت الذي شاء الله تعالى أن يمكث فيه.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 606.

ص: 321

وقد أفادت رواية البخاري من طريق جعفر بن ربيعة، عن ابن شهاب مقدار ذلك المكث، ولفظه:"كان يسلّم، فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم". ففيه أن مكثه كان بمقدار انصراف النساء، ودخولهن بيوتهن.

قال في "الفتح": وأفادت هذه الرواية الإشارة إلى أقلّ مقدار كان يمكثه صلى الله عليه وسلم انتهى.

(فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال) أي الذين مكثوا معه لكي ينصرف النساء قبل أن يراهنّ الرجال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -77/ 1333 - وفي "الكبرى" -111/ 1256 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 1/ 212، و1/ 215، 1/ 219، و1/ 220 (د) رقم 1040 (ق) 932 (أحمد) 6/ 296، و6/ 310، و6/ 316 (ابن خزيمة) 1718، و1719. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو استحباب الجلوس بين التسليم والانصراف.

ومنها: مراعاة الإمام أحوال المأمومين.

ومنها: الاحتياط في اجتناب ما قد يُفضي إلى المحذور.

ومنها: اجتناب مواضع التُّهَم، وكراهةُ مخالطة الرجال للنساء في الطرقات، فضلاً عن البيوت.

ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا كلهم رجالاً فقط أنه لا يستحبّ هذا المكث، وعليه حمل ابن قُدَامة حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول:"اللَّهمّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" الآتي برقم 82/ 1338.

ومنها: أن النساء كنّ يحضرن صلاة الجماعة في المسجد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 322

المسألة الرابعة: في مذاهب أهل العلم في حكم المكث في المصلَّى بعد السلام من الصلاة:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: والمنقول عن السلف يدلّ على أن الإمام ينحرف عقب سلامه، ثم يجلس إن شاء. روى عبد الرزّاق في كتابه عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبى الأحوص، عن ابن مسعود قال: إذا سلّم الإمام، فليقم، ولينحرف عن مجلسه، قلت: يُجزئه أن ينحرف عن مجلسه، ويستقبل القبلة؟ قال: الانحراف بغرب، أو شرق عن غير واحد، وكان المسؤول معمراً. وروى أيضاً بإسناده عن مجاهد قال: ليس من السنة أن يقعد حتى يقوم، ثم يقعد بعدُ إن شاء. وعن سعيد بن جبير أنه كان يفعله. وعن عطاء قال: قد كان يجلس الإمام بعدما يسلّم، وأقول أنا: قدر ما ينتعل نعليه. وعن أبي عُبيدة أنه قال -لمّا سمع مصعباً يُكبّر ويهلل بعد صلاته مستقبل القبلة-: ما له؟ قاتله الله نَعَّار بالبِدَعِ.

ويُستثنى من ذلك الجلوسُ بعد الفجر، فإنه لو جلس الإمام بعد استقباله الناس إلى أن تطلع الشمس كان حسناً.

ففي "صحيح مسلم" عن جابر بن سمرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقوم من مصلّاه الذي يُصلي فيه الصبح، أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام".

وروى وكيع بإسناده عن النخعي أنه كان إذا سلّم قام، إلا الفجر والعصر، فقيل له في ذلك؟ فقال: ليس بعدهما صلاة.

قال أحمد -في الإمام إذا صلى بقوم الفجرَ، أو العصرَ-: أعجب إليّ أن ينحرف، ولا يقوم من موضعه، وكان أحمد إذا صلى بالناس الصبح جلس حتى تطلع الشمس.

فأما جلوسه بعد الظهر، فقال أحمد: لا يُعجبني. قال القاضي أبو يعلى: ظاهر كلامه أنه يستحبّ بعد الصلاة التي لا يتطوع بعدها، ولا يُستحبّ بعد غيرها، قال: وروى الخلّال بإسناده، عن عابد الطائي، قال: كانوا يكرهرن جلوس الإمام في مصلّاه بعد صلاة يُصلّى بعدها، فإذا كانت صلاة لا يُصلى بعدها، فإن شاء قام، وإن شاء جلس.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بكراهة الجلوس في مكان الصلاة بعدها مما لا دليل عليه، بل هو مصادم للحديث الصحيح "إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، ما لم يحدث، اللَّهم اغفر له، اللَّهم ارحمه". فتنبّه. والله تعالى أعلم.

قال: وحُكي عن أصحاب الشافعي أن المستحبّ للإمام أن يقوم، ولا يجلس في كلّ الصلوات، وقد نصّ الشافعيّ في "المختصر" على أنه يُستحبّ للإمام أن يقوم عقب

ص: 323

سلامه، إذا لم يكن خلفه نساء، فأما المأموم فلا يكره له الجلوس بعد الصلاة في مكانه يذكر الله، خصوصاً بعد الصبح والعصر، ولا نعلم في ذلك خلافاً.

وقد صحّ الحديث في أن الملائكة تصلي على العبد ما دام في مصلاه ما لم يحدث.

ووردت أحاديث في الجلوس بعد الصبح والعصر، وكان السلف الصالح يحافظون عليه.

ومتى أطال الإمام الجلوسَ في مصلّاه، فإن للمأموم أن ينصرف، ويتركه، وسواء كان جلوسه مكروهاً، أو غير مكروه.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا فرغ الإمام، ولم يقم، ولم ينحرف، وكانت لك حاجة فاذهب، ودعه، فقد تمت صلاتك. أخرجه عبد الرزّاق.

وذكر بإسناده عن عطاء قال: كلامه بمنزلة قيامه، فإن تكلّم فليقم المأموم إن شاء.

وإن لم يُطل الإمام الجلوس فالسنّة أن لا يقوم المأموم حتى يقوم الإمام، كذا قال الزهريّ، والحسن، وقتادة، وغيرهم.

وقال الزهريّ: إنما جُعل الإمام ليؤتم به -يشير إلى أن مشروعية الاقتداء لا تنقطع إلا بانصرافه.

وفي "صحيح مسلم"، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيها الناس إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف".

وحديث أم سلمة رضي الله عنها المخرّج في هذا الباب يدلّ عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس يسيراً حتى ينصرف النساء، فلا يختلط بهن الرجال، وهذا يدلّ على أن الرجال كانوا يجلسون معه، فلا ينصرفون إلا مع انصرافه.

وفي هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدعو بعد فراغ صلاته دعاء عاماً للمأمومين، فإنه لو كان كذلك لاشترك في حضوره الرجال والنساء، كما أَمَرَ بشهود النساء العيدين حتى الحيّض، وقال:"يشهدن الخير ودعوة المسلمين". فلو كان عقب الصلاة دعاء عام لشهده النساء مع الرجال أيضاً.

وقال الشافعي في "الأمّ": فإن قام الإمام قبل ذلك، أو جلس أطول من ذلك، فلا شيء عليه. قال: وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وتأخيره حتى ينصرف بعد انصراف الإمام، أو معه أحبّ إليّ.

وظاهر كلام كثير من السلف كراهة ذلك، كما تقدّم.

وفي "تهذيب المدوّنة" للمالكية: ولا يقيم الإمام في مصلّاه إذا سلّم إلا أن يكون في سفر، أو فنائه، وإن شاء تنحّى وأقام. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى

ص: 324

ببعض تغيير

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في "الأم" هو الراجح عندي.

وحاصله أن الإمام إن شاء جلس في مصلّاه، وإن شاء قام، ولا كراهة في شيء من ذلك، وأما المأموم فهو بالخيار بعد السلام، إن شاء جلس مع الإمام، وهو الأحبّ، وإن شاء انصرف، ولا كراهة في ذلك، إلا إذا كان هناك نساء يخاف الاختلاط معهن، فلا يقوم حتى ينصرفن.

وأما القول بكراهة الانصراف قبل الإمام مستدلاً بالحديث المتقدّم، وهو قوله:"ولا بالانصراف" فهو غير صحيح عندي، لأن معنى الانصراف هنا -والله أعلم- هو السلام، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قابله بالركوع، والسجود، والقيام، فنهى عن مسابقته بالركوع، والسجود، والقيام، والانصراف أي السلام، فلا يجوز للمأموم أن يسلّم قبل الإمام، إلا فيما استُثنِيَ بالنصّ، وهو ما إذا طوّل الإمام الصلاة، فللمأموم أن يسلم، ويصلي وحده، لقصة معاذ رضي الله عنه المشهورة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في التطوع في محل الفريضة بعدها:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد اختلف العلماء في تطوع الإمام في مكان صلاته بعد الصلاة، فأما ما قبلها، فيجوز بالاتفاق.

فكرهت طائفة تطوّعه في مكانه بعد صلاته.

وبه قال الأوزاعي، والثوريّ، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه كرهه، وقال النخعي: كانوا يكرهونه.

ورَخّص فيه ابنُ عقيل من أصحاب أحمد، كما رجّحه البخاري، ونقله عن ابن عمر، والقاسم بن محمد.

فأما المروي عن ابن عمر، فإنه لم يفعله، وهو إمام، بل كان مأموماً. كذلك قال الإمام أحمد.

وأكثر العلماء لا يكرهون للمأموم ذلك، وهو قول مالك، وأحمد.

وقد أخرج أبو داود حديثاً يقتضي كراهته من حديث أبي رِمْثة رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر وعمر يقومان في الصفّ المقدّم عن يمينه، وكان رجل قد

(1)

"شرح البخاري" جـ 7 ص 437 - 441.

ص: 325

شهد التكبيرة الأولى من الصلاة، فصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم سلّم عن يمينه، وعن يساره حتى رأيت بياض خدّيه، ثم انفتل، فقام الرجل الذي أدرك التكبيرة الأولى من الصلاة ليشفع، فوثَبَ إليه عمر، فأخذ بمنكبيه، فهزّه، ثم قال: اجلس، فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فَصْلٌ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره، فقال:"أصاب الله بك يا ابن الخطّاب"

(1)

.

وهذا الحديث إنما يدلّ على كراهة أن يَصلَ المكتوبةَ بالتطوّع بعدها من غير فصل، وإن فصل بالتسليم.

ويدلّ عليه أيضاً ما رَوَى السائبُ بن يزيد قال: صلّيت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلمّا سلم قمت في مقامي، فصليت، فلمّا دخل أرسل إليّ، فقال: لا تَعُد لما فعلت، إذا صليت الجمعة، فلا تَصلْها بصلاة حتى تتكلّم، أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا تُوصَل صلاةٌ بصلاة حتى نتكلّم، أو نخرج. أخرجه مسلم

(2)

.

وروى حرب بإسناده عن عطاء أنه قال فيمن صلى المكتوبة: لا يصلي مكانه إلا أن يقطع بحديث، أو يتقدّم، أو يتأخر.

وعن الأوزاعيّ قال: إنما يجب ذلك على الإمام أن يتحوّل من مصلّاه، قيل له: فما يُجزىء من ذلك؟ قال: أدناه أن يزيل قدميه من مكانه. قيل له: فإن ضاق مكانه؟ قال: فليتربع بعد سلامه، فإنه يُجزئه.

ورَوَى أيضًا بإسناده عن ابن مسعود أنه كان إذا سلم قام وتحوّل من مكانه غير بعيد.

قال حرب: وثنا محمد بن آدم، ثنا أبو المليح الرَّقّيّ، عن حبيب، قال: كان ابن عمر يكره أن يُصلي النافلة في المكان الذي يصلي فيه المكتوبة حتى يتقدّم، أو يتأخّر، أو يتكلّم. وهذه الرواية تخالف رواية نافع التي أخرجها البخاري

(3)

.

وقد ذكر قتادة عن ابن عمر أنه رأى رجلاً صلّى في مقامه الذي صلى فيه الجمعة، فنهاه عنه، وقال: لا أراك تصلي في مقامك، قال سعيد: فذكرته لابن المسيب، فقال: إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة.

وعن عكرمة، قال: إذا صليت الجمعة، فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحوّل أو كلام. أخرجهما عبد الرزّاق.

(1)

هذا الحديث ضعيف يأتي الكلام عليه قريباً.

(2)

"صحيح مسلم" جـ 2 ص 601 رقم 883 بنسخة محمد فؤاد.

(3)

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": وقال لنا آدم: ثنا شعبة، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة، وفعله القاسم. انتهى.

ص: 326

ومذهب مالك أنه يكره في الجمعة أن يتنفّل في مكانه من المسجد، ولا ينتقل منه، وإن كان مأموماً، وأما الإمام فيكره أن يصلي بعد الجمعة في المسجد بكلّ حال.

وقد قال الشافعي في "سنن حرملة": حديث السائب بن يزيد عن معاوية هذا ثابت عندنا، وبه نأخذ، قال: وهذا مثل قوله لمن صلى، وقد أقيمت الصلاة. "أصلاتان معًا؟ "، كأنه أحبّ أن يفصلها منها حتى تكون المكتوبات منفردات مع السلام بفصل بعد السلام.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع بعد ركعتي الفجر.

وروى الشافعي عن ابن عُيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يأمر إذا صلى المكتوبة، فأراد أن يتنفّل بعدها أن لا يتنفّل حتى يتكلّم، أو يتقدّم.

قال ابن عبد البرّ: هذا حديث صحيح، قال: وقال الشعبي: إذا صلّيت المكتوبة، ثم أردت أن تتطوّع فاخطُ خطوة، وخالف ابنُ عمر ابنَ عباس رضي الله عنهم في هذا، وقال: وأيّ فصل أفصل من السلام؟.

وقد ذكر الفقهاء من الحنابلة والشافعيّة أن هذا كلّه خلاف الأولى من غير كراهة فيه، وحديث معاوية رضي الله عنه يدلّ على الكراهة انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى ببعض تصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كيف يدّعون عدمَ الكراهة، وقد صحّ حديث معاوية رضي الله عنه المتقدّم، ودلالته على الكراهة واضحة؟، كما أشار إليه ابن رجب رحمه الله، فليُتَنبّه. والله تعالى أعلم.

وكتب الحافظ رحمه الله على قول الإمام البخاري رحمه الله: "ويذكر عن أبي هريرة رفعه: "لا يتطوّع الإمام في مكانه"

(2)

ولم يصحّ انتهى.

ما نصه: قوله: "ولم يصحّ" هو كلام البخاريّ، وذلك لضعف إسناده، واضطرابه، تفرّد به ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف

(3)

، واختلف عليه فيه. وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في "تاريخه"، وقال: لم يثبت هذا الحديث.

وفي الباب عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً أيضاً بلفظ: "لا يصلي الإمام في الموضع

(1)

"شرح صحيح البخاري" جـ 7 ص 430 - 434.

(2)

ذكره بالمعنى، ولفظه عند أبي داود:"أيعجز أحكم أن يتقدم، أو يتأخر، أو عن يمينه، أو عن شماله في الصلاة". ولابن ماجه: "إذا صلى أحكم" زاد أبو داود -يعني "في السبحة". والبيهقيّ: إذا أراد أراد أحكم أن يتطوع بعد الفريضة فليتقدّم

" الحديث. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 605.

(3)

بل متروك كما في "ت"، وفيه حجاج بن عبيد، وشيخه إبراهيم بن إسماعيل مجهولان.

ص: 327

الذي صلى فيه حتى يتحوّل". رواه أبو داود، وإسناده منقطع. وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه، قال: "من السنة أن لا يتطوّع الإمام حتى يتحوّل من مكانه".

وحكى ابن قدامة في "المغني" عن أحمد أنه كره ذلك، وقال: لا أعرفه عن غير عليّ، فكأنه لم يثبت عنده حديث أبي هريرة، ولا المغيرة، وكأن المعنى في كراهة ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة.

وفي مسلم "عن السائب بن يزيد، أنه صلى مع معاوية الجمعة، فتنفّل بعدها، فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تَصِلها بصلاة حتى تتكلّم، أو تخرج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك".

ففي هذا إرشاد إلى طريق الأمن من الالتباس، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة.

ويؤخذ من مجموع الأدلّة أن للإمام أحوالا، لأن الصلاة إما أن تكون مما يُتطوّع بعدها، أو لا يتطوّع، الأول اختُلف فيه هل يتشاغل قبل التطوّع بالذكر المأثور، ثم يتطوّع؟ وهذا هو الذي عليه عمل الأكثرين، وعند الحنفية يبدأ بالتطوّع.

وحجة الجمهور حديث معاوية رضي الله عنه.

ويمكن أن يقال: لا يتعين الفصل بين الفريضة والنافلة بالذكر، بل إذا تنحّى من مكانه كفى.

فإن قيل: لم يثبت حديث التنحّي.

قلنا: قد ثبت في حديث معاوية رضي الله عنه "أو تخرج".

ويترجّح تقديم الذكر المأثور بتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة.

وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبر الصلاة ما قبل السلام. وتعُقّب بحديث "ذهب أهل الدثور"، فإن فيه "تسبحون دبر كلّ صلاة"، وهو بعد السلام جزْماً، فكذا ما شابهه.

وأما الصلاة التي لا يُتطوّع بعدها، فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور، ولا يتعيّن له مكان، بن إن شاءوا انصرفوا، وذكروا، وإن شاءوا مكثوا، وذكروا، وعلى الثاني إن كان للإمام عادة أن يعلّمهم، أو يعظهم، فيستحبّ أن يقبل عليهم بوجهه جميعاً، وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور، فهل يقبل عليهم جميعاً، أو ينفتل، فيجعل يمينه من قبل المأمومين، ويساره من قبل القبلة، ويدعو؟ الثاني هو الذي جزم به أكثر الشافعيّة.

ويحتمل إن قصر زمن ذلك أن يستمرّ مستقبلاً للقبلة، من أجل أنها أليق بالدعاء، ويُحمَلُ الأولُ على ما لو طال الذكر والدعاء انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 605 - 606.

ص: 328

قال بعض المحققين رداً على الاحتمال الأخير: الصواب أن المشروع إقبال الإمام على المأمومين بوجهه بعد السلام، والاستغفار، وقول:"اللَّهم أنت السلام .... الخ" مطلقاً لما تقدّم من الأحاديث الصحيحة. والله تعالى أعلم انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله هذا المحقق حسن جدًّا، وسيأتي تحقيقه في الباب التالي، إن شاء الله تعالى ..

وقد تلخص مما تقدم من أقوال أهل العلم أن القول الراجح أنه لا يتطوّع الإمام ولا المأموم في محلّ المكتوبة، لعموم حديث معاوية رضي الله تعالى عنه المتقدّم.

وأما حديث أبي رمثة المتقدّم فضعيف، لأن في سنده المنهال بن خليفة، وهو ضعيف، وأشعث بن شعبة متكلّم فيه.

وكذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود مرفوعاً: "أيعجز أحدكم أن يتقدّم، أو يتأخر، أو عن يمينه، أو عن شماله في الصلاة" -يعني السُّبْحة، ضعيف أيضاً

(1)

، لأن في سنده ليث بن أبي سُليم متروك، والحجاج بن عُبيد، وشيخه إبراهيم بن إسماعيل مجهولان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌78 - (بَابُ الانْحِرَافِ بَعد التَّسْلِيم)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الانحراف: مصدر انحرف عن كذا: إذا مال عنه. والمراد به هنا ميل الإمام عن جهة القبلة إلى جهة المأمومين. والله تعالى أعلم بالصواب.

1334 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى انْحَرَفَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي البغدادي، ثقة [10] تقدم 21/ 22.

(1)

صححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود"، وقد عرفت ما فيه، وراجع ما قاله في "تهذيب التهذيب" في ترجمة الحجاج بن عبيد.

ص: 329

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان الإمام المشهور [9] تقدم 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام المشهور [7] تقدم 33/ 37.

4 -

(يعلى بن عطاء) العامري، أو الليثي الطائفي، ثقة [4] تقدم 40/ 584.

5 -

(جابر بن يزيد بن الأسود) السُّوَائيّ، أو الْخُزاعيّ، صدوق [3] تقدّم 54/ 858.

6 -

(يزيد بن الأسود) السوائي، ويقال: ابن أبي الأسود الخُزَاعيّ، أو العامري، حليف قريش، صحابي نزل الكوفة رضي الله عنه تقدم 54/ 858.

[تنبيه]: قال السندي رحمه الله: قوله: "انحرف"، أي عن جهة القبلة، ومال إلى القوم، أو انصرف إلى البيت، والأوّل أقرب انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "أو انصرف إلى البيت" غير صحيح، فإن الحديث مختصر، كما تقدم، وفيه أن ذلك كان في مسجد الخيف، في حجة الوداع، وليس ذلك في المدينة، حتى ينصرف إلى البيت، وفي رواية أحمد "ثم انحرف جالسا"، أو "استقبل الناس بوجهه

"، فتنبه. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: حديث يزيد بن الأسود رضي الله تعالى عله هذا صحيح، وتقدّم مطوّلاً برقم 54/ 858 - ومضى شرحه مُستوفى هناك، وكذا بيان مسائله، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها.

ولنتكلم هنا على ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب الانحراف عن القبلة، ومواجهة المأمومين:

(اعلم): أنه قد وردت أحاديث باستحباب إقبال الإمام على المأمومين بعد التسليم، وأن ذلك كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم:

فمنها: حديث الباب.

ومنها: حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صدى صلاةً أقبل علينا بوجهه". أخرجه البخاري.

ومنها: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال:"كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، ليُقبل علينا بوجهه". رواه مسلم، وأبو داود.

ومنها: حديث زيد بن خالد الْجُهَنيّ رضي الله عنه: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس

" الحديث. أخرجه البخاري.

(1)

"شرح السندي" جـ 3 ص 67 - 68.

ص: 330

ومنها: حديث أنس رضي الله عنه قال: "أخّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلما صلى أقبل علينا بوجهه

" الحديث. أخرجه البخاري أيضاً.

فهذه الأحاديث تدلّ على استحباب استقبال الإمام للمأمومين بعد الفراغ من الصلاة، والمواظبة على ذلك، لما يشعر به لفظ "كان"، كما تقرّر في الأصول

وقال النووي رحمه الله تعالى: المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أن لفظة "كان" لا يلزمها الدوام، ولا التكرار، وإنما هي فعل ماض، يدلّ على وقوعه مرة انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن القول بدلالتها على الدوام، إلا أن تدلّ قرينة على خلاف ذلك هو الأرجح، قال الله تعال:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]. وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، وقال:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، إلى غير ذلك من الآيات. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قيل: الحكمة في استقبالهم أن يعلّمهم ما يحتاجون إليه، وعلى هذا يختصّ بمن كان حاله في مثل حاله صلى الله عليه وسلم من الصلاحية للتعليم والموعظة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الاختصاص فيه نظر.

وقيل: الحكمة أن يعرف الداخل انقضاء الصلاة، إذ لو استمرّ الإمام على حاله لأوهم أنه في التشهد مثلاً.

وقال الزين ابن المنَيّر: استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحقّ الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، واستقبالهم حينئذ يرفع الخُيَلاء والترفّع على المأمومين.

وحديث سمرة رضي الله عنه يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يُقبل على جميع المأمومين، وحديث البراء يدل على أنه كان يقبل على من في جهة يمينه.

ويمكن الجمع بينهما بأنه كان تارة يستقبل جميع المأمومين، وتارة يستقبل أهل يمينه.

أو يُجعَلُ حديثُ البراء مفسّرًا لحديث سمرة رضي الله عنه، فيكون المراد بقوله:"أقبل علينا" أي على بعضنا.

أو أنه كان يصلي في الميمنة، فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين. أفاده في "النيل"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول في هذه المسألة أن الأحاديث الصحاح

(1)

"نيل الأوطار" جـ 2 ص 361.

ص: 331

تدلّ على أنه يستحبّ للإمام أن يُقبل على المأمومين بعد السلام، إن شاء من جهة يمينه، وإن شاء أقبل عليهم جميعاً، وله أن يذهب لحاجته، ويترك الإقبال عليهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌79 - (التَّكْبِيرُ بَعْدَ تَسْلِيم الإِمَامِ)

1335 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أَعْلَمُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْبِيرِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(بشر بن خالد العَسكَريّ)

(1)

أبو محمد الفرائضي، نزيل البصرة، ثقة يُغْرب [10] تقدم 26/ 812.

2 -

(يحيى بن آدم) بن سليمان الكوفي، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] تقدم 1/ 451.

3 -

(سفيان بن عيينة) الإمام الحجة المشهور [8] تقدم 1/ 1.

4 -

(عمرو بن دينار) أبو محمد الأثرم الجُحَميّ مولاهم المكي، ثقة ثبت [4] تقدم 112/ 154.

5 -

(أبو معبد) نافذ -بفاء، فمعجمة- مولى ابن عباس المكي، ثقة [4].

روى عن مولاه. وعنه عمرو بن دينار، ويحيى بن عبد الله بن صيفيّ، وأبو الزبير، وسليمان الأحول، والقاسم بن أبي بزّة، وفُرَاتٌ القزّاز.

قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الحُمَيديّ، عن سفيان، عن عمرو بن دينار: أخبرني أبو معبد، وكان أصدق موالي ابن عبّاس. وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: مات بالمدينة سنة (104)، وكان ثقة حسن الحديث. وفيها أرّخه غير واحد. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا، و (2435) حديث: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب

" وأعاده برقم

(1)

نسبة إلى عَسْكَر: اسم موضع.

ص: 332

(2522)

، و (3020) حديث: "عليكم السكينة، وهو كافّ ناقته

"، وأعاده (3052) و (3058).

6 -

(ابن عباس) الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم 27/ 31. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن فيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قال: إنما كنت أعلم) هكذا رواية المصنف بالحصر، وفي رواية البخاري بدن حصر، كما يأتي لفظه قريباً.

وفيه إطلاق العلم على الأمر المستند إلى الظنّ الغالب (انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي انتهاءها (بالتكبير) متعلق بـ "أعلم"، أي بسماعي لتكبير المصلين بعد سلامهم من الصلاة، حيث إنهم يجهرون به.

وفي رواية للبخاريّ من طريق ابن جُريج، عن عمرو بن دينار:"أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال ابن عباس: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، إذا سمعته".

والرواية الأولى أخصّ من رواية ابن جريج المذكورة، لأن الذكر أعمّ من التكبير، ويحتمل أن تكون مفسّرة لها، فكأن المراد أن رفع الصوت بالذكر أي بالتكبير، وكأنهم كانوا يبدؤون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح والتحميد، وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.

قال في "الفتح" 2/ 379 - 380: قوله: "كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن مثل هذا عند البخاريّ له حكم الرفع. خلافاً لمن شذّ، ومنع ذلك، وقد وافقه مسلم، والجمهور على ذلك انتهى

(1)

.

واختُلف في كون ابن عبّاس رضي الله عنهما قال ذلك، فقال عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة، لأنه كان صغيراً ممن لا يواظب على ذلك، ولا يُلزَم به، فكان يعرف انقضاء الصلاة بما ذكر. وقال غيره: يحتمل أن يكون حاضراً في أواخر الصفوف، فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرفه بالتكبير.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 379.

ص: 333

وقال ابن دقيق العيد: يُؤخذ منه أنه لم يكن هناك مُبَلّغ جهير الصوت، يُسمِع مَن بَعُدَ انتهى

(1)

.

وفيه دليل على استحباب الجهر بالذكر عقب الصلاة، قال الطبري: فيه إبانة عن صحّة ما كان يفعله بعض الأمراء من التكبير عقب الصلاة. وتعقبه ابن بطاّل بأنه لم يقف على ذلك عن أحد من السلف، إلا ما حكاه ابن حبيب في "الواضحة" أنهم كانوا يستحبّون التكبير في العساكر عقب الصبح والعشاء تكبيراً عالياً ثلاثاً، قال: وهو قديم من شأن الناس.

قال ابن بطاّل: وفي "العتبية" عن مالك أن ذلك مُحدَث.

قال: وفي السياق إشعار بأن الصحابة لم يكونوا يرفعون أصواتهم بالذكر في الوقت الذي قال فيه ابن عباس ما قال.

قال الحافظ: في التقييد بالصحابة نظر، بل لم يكن حينئذ من الصحابة إلا القليل.

وقال النووي: حمل الشافعي هذا الحديث على أنهم جهروا به وقتاً يَسِيراً لأجل تعليم صفة الذكر، لا أنهم داوموا على الجهر به. والمختار أن الإمام والمأموم يُخفيان الذكر إلا إن احتيج إلى التعليم انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في كون الإخفاء هو المختارَ مع صحة أحاديث الجهر بالذكر نظر لا يخفى، وسيأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث.

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -79/ 1335 - وفي "الكبرى" -113/ 1258 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 1/ 213 (م) 2/ 91 (د) رقم 1002 (الحميدي) 480 (أحمد)، 2221 و1/ 367 (ابن خزيمة)1706. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: زاد في رواية مسلم لهذا الحديث: ما نصه: "قال عمرو -يعني ابن دينار- فذكرت ذلك لأبي معبد، فأنكره، قال: لم أحدّثك بهذا، قال عمرو: قد أخبرنيه قبل ذلك" انتهى

(2)

.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 379 - 380.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 379.

ص: 334

قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم": في احتجاج مسلم بهذا الحديث دليل على ذهابه إلى صحة الحديث الذي يُروَى على هذا الوجه مع إنكار المحدّث له، إذا حدث به عنه ثقة.

وهذا مذهب جمهور العلماء من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين، قالوا: يُحتجّ به إذا كان إنكار الشيخ له لتشكُّكه فيه، أو لنسيانه، أو قال: لا أحفظه، أو لا أذكر أني حدثتك به، ونحو ذلك، وخالفهم الكرخي من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهما، فقال: لا يُحتجّ به.

فأما إذا أنكره إنكاراً جازماً قاطعاً بتكذيب الراوي عنه، وأنه لم يحدثه به قط، فلا يجوز الاحتجاج به عند جميعهم، لأن جزم كلّ واحد يعارض جزم الآخر، والشيخ هو الأصل، فوجب إسقاط هذا الحديث، ولا يَقْدَحُ ذلك في باقي أحاديث الراوي، لأنا لم نتحقق كذبه انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(1)

.

وعبارة "الفتح" 2/ 380: "قال الشافعي بعد أن رواه عن سفيان: كأنه نسيه بعد أن حدّثه به انتهى

(2)

.

وهذا يدلّ على أن مسلمًا كان يرى صحة الحديث، ولو أنكره راويه، إذا كان الناقل عنه عدلاً.

ولأهل الحديث فيه تفصيل: قالوا: إما أن يجزم، أولاً، وإذا جزم، فإما أن يصرّح بتكذيب الراوي عنه، أولاً، فإن لم يجزم بالرّدّ، كأن قال: لا أذكره، فهو متفق على قبوله؛ لأن الفرع ثقة، والأصل لم يَطعَن فيه، وإن جزم، وصرّح بالتكذيب، فهو متفق عندهم على ردّه، لأن جزم الفرع بكون الأصل حدّثه يستلزم تكذيب الأصل في دعواه أنه كذب عليه، وليس قبول قول أحدهما بأولى من الآخر، وإن جزم بالردّ، ولم يصرّح بالتكذيب، فالراجح عندهم قبوله.

وأما الفقهاء فاختلفوا، فذهب الجمهور في هذه الصورة إلى القبول، وعن بعض الحنفيّة، ورواية عن أحمد لا يُقبل، قياساً على الشاهد.

وللإمام فخر الدين في هذه المسألة تفصيل نحو ما تقدّم، وزاد: فإن كان الفرع مترددًا في سماعه، والأصل جازمًا بعدمه سقط، لوجود التعارض.

ومحصّل كلامه آنفاً أنهما إن تساويا فالرّدّ، وإن رُجِّح أحدُهما عُمل به.

وهذا الحديث من أمثلته.

(1)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 84 - 85.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 380.

ص: 335

وأبعَدَ مَن قال: إنما نفى أبو معبد التحديث، ولا يلزم منه نفي الإخبار، وهو الذي وقع من عمرو، ولا مخالفة، وتردّه الرواية التي فيها "فأنكره"، ولو كان كما زعم لم يكن هناك إنكار، ولأن التفرقة بين التحديث والإخبار إنما حدث بعد ذلك، وفي كتب الأصول حكاية الخلاف في هذه المسألة عن الحنفية انتهى

(1)

.

وإلى هذه القاعدة أشار الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث" حيث قال:

وَمَنْ نَفَى مَا عَنْهُ يُرْوَى فَالأَصَحُّ

إسْقَاطُهُ لكِنْ بِفَرْعٍ ما قَدَحْ

أَوْ قَال لَا أذْكُرُهُ أَوْ نَحْوَ ذَا

كَأَنْ نَسِي فَصَحَّحُوا أن يُؤخَذَا

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في مشروعية الجهر بالذكر:

قال النووي رحمه الله تعالى عند شرح حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المذكور: ما نصه:

هذا دليل لما قاله بعض السلف: إنه يستحبّ رفع الصوت بالتكبير والذكر عقب المكتوبة، وممن استحبّه من المتأخرين ابن حزم الظاهريّ، ونقل ابن بطال، وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الاتفاق المذكور غير صحيحة، وسيتبين لك بطلانها في كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، حيث ينقل عن الإمام أحمد رحمه الله وغيره مشروعيةَ الجهر. فتبصر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. وبالله تعالى التوفيق.

قال: وحمل الشافعيّ رحمه الله تعالى هذا الحديث على أنه جهر وقتاً يسيراً حتى يُعلّمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا به دائماً، قال: فأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة، ويُخْفيان ذلك، إلا أن يكون إماماً يريد أن يُتَعلّم منه، فيجهر حتى يَعلَم أنه قد تُعُلِّم منه، ثمّ يُسرّ، وحَمَلَ الحديث على هذا انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى

(2)

.

وقال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى:

[مسألة]: ورفع الصوت بالتكبير إثر كلّ صلاة حسن.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 593 - 594.

(2)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 84.

ص: 336

ثم استدلّ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور، ثم قال: فإن قيل: قد نسي أبو معبد هذا الحديث، وأنكره. قلنا: فكان ماذا؟، عمرو أوثق الثقات، والنسيان لا يَعرَى منه آدميّ، والحجّة قد قامت برواية الثقة انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد دلّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما على وفع الصوت بالتكبير عقب الصلاة المفروضة.

وقد ذهب إلى ظاهره بعض أهل الظاهر، وحكي عن أكثر العلماء خلاف ذلك، وأن الأفضل الإسرار بالذكر، لعموم قوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} الآية [الأعراف: 205] وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} الآية [الأعراف: 55]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن جهر بالذكر من أصحابه: "إنكم لا تدعون أصمّ، ولا غائباً

" الحديث. متفق عليه.

ثمّ ذكر كلام الشافعي رحمه الله المتقدّم، ثمّ قال: وكذلك ذكر أصحابه، وذكر بعض أصحابنا -يعني الحنابلة- مثل ذلك أيضاً، ولهم وجه آخر أنه يكره الجهر به مطلقاً.

وقال القاضي أبو يعلى في "الجامع الكبير": ظاهر كلام أحمد أنه يُسنّ للإمام الجهر بالذكر والدعاء عقب الصلوات، بحيث يُسمِع المأمومَ، ولا يزيد على ذلك. وذَكرَ عن أحمد نصوصاً تدلّ على أنه كان يجهر ببعض الذكر، ويُسرّ بالدعاء.

وهذا هو الأظهر، وأنه لا يختص ذلك بالإمام، فإن حديث ابن عبّاس هذا ظاهره يدلّ على جهر المأمومين أيضاً.

ويدلّ عليه أيضاً ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث ابن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يقول في دبر كلّ صلاة حين يُسلّم: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، لا حول ولا قوّة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة والفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون"، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهُلُّ بهنّ في دبر كلّ صلاة

(2)

.

ومعنى يُهلّ يرفع صوته، ومنه الإهلال في الحجّ، وهو رفع الصوت بالتلبية، واستهلال الصبي إذا وُلد.

وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهرون بالذكر عقب الصلوات، حتى يسمع من يليه.

فأخرج النسائي في "عمل اليوم والليلة" من رواية عون بن عبد الله بن عُتبة، قال:

(1)

"المحلَّى" جـ 4 ص 260.

(2)

"صحيح مسلم" رقم 594.

ص: 337

صلى رجل إلى جنب عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعه حين سلّم يقول:"أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، ثم صلى إلى جنب عبد الله بن عُمر، فسمعه حين سلّم يقول مثل ذلك، فضحك الرجل، فقال له ابن عمر: ما أضحكك؟ قال: إني صليت إلى جنب عبد الله بن عمرو، فسمعته يقول مثل ما قلت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك

(1)

.

وأما النهي عن رفع الصوت بالذكر، فإنما المراد به المبالغة في رفع الصوت، فإن أحدهم كان ينادي بأعلى صوته "لا إله إلا الله، والله أكبر"، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تنادون أصمّ، ولا غائباً"، وأشار إليهم بيده يُسكّتهم، ويخفّضهم. وقد أخرجه الإمام أحمد بنحو من هذه الألفاظ

(2)

.

وقال عطية بن قيس: كان الناس يذكرون الله عند غروب الشمس يرفعون أصواتهم بالذكر، فإذا خفضت أصواتهم أرسل إليهم عمر بن الخطاب أن كرروا الذكر. أخرجه جعفر الفريابي في "كتاب الذكر". وأخرج أيضًا من رواية ابن لهيعة، عن زُهْرَة بن معبد، قال: رأيت ابن عمر إذا انقلب من العشاءين كبّر حتى يبلغ منزله، ويرفع صوته.

وروى محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض من صوته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعه، فإنه أوّاه".

وهذا يدلّ على أنه يُحتَمَلُ ذلك ممن عُرف صدقه وإخلاصه دون غيره.

وأخرج الإمام أحمد من رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين: "إنه أوّاه"، وذلك أنه رجل كان كثير الذكر لله في القرآن، ويرفع صوته في الدعاء". وفي إسناده ابن لهيعة.

وقال الأوزاعيّ في التكبير في الحرس في سبيل الله: أحبّ إلىّ أن يذكر الله في

(1)

راجع "عمل اليوم والليلة" رقم 365، قال النسائي عقب حديثه هذا: يحيى بن أيوب عنده أحاديث مناكير، وليس هو بذلك القوى في الحديث. انتهى. ونقل في "تهذيب التهذيب" للنسائي قولاً آخر، فقال: ليس به بأس. انتهى. و"يحيى" فيه أقوال للعلماء، فمنهم من وثقه كابن معين، والبخاري، ويعقوب بن سفيان، وغيرهم، ومنهم من ضعفه كابن سعد، والعقيلي، وغيرهما، وأحسن الأقوال التوسط، وهو ما قاله ابن عديّ: ولا أرى في حديثه إذا روى عن ثقة حديثا منكرًا، وهو عندي صدوق لا بأس به انتهى.

قال الجامع: هنا حدّث عن جعفر بن ربيعة، وهو ثقة، فحديثه لا ينزل عن الحسن. والله تعالى أعلم.

(2)

هو في "الصحيحين" دون قوله: "وأشار إليهم".

ص: 338

نفسه، وإن رفع صوته فلا بأس.

فأما قول ابن سيرين: يكره رفع الصوت إلا في موضعين: الأذان، والتلبية، فالمراد به -والله أعلم- المبالغة في الرفع كرفع المؤذن والملبي.

وقد رُوي رفع الصوت بالذكر في مواضع، كالخروج إلى العيدين، وأيام العشر، وأيام التشريق بمنى.

وأما الدعاء فالسنة إخفاؤه.

ففي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} الآية [الإسراء: 110] أنها نزلت في الدعاء.

وكذا روي عن ابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وعن سعيد بن جُبير، وعطاء، وعكرمة، وعروة، ومجاهد، وإبراهيم، وغيرهم.

وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يُسرّ دعاءه لهذه الآية، قال: وكان يُكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء.

وقال سعيد بن المسيب: أحدث الناس الصوت عند الدعاء، وكرهه مجاهد وغيره.

ورَوَى وكيع عن الربيع، عن الحسن، والربيعُ عن يزيد بن أبان، عن أنس أنهما كرها أن يُسمع الرجل جليسه شيئاً من دعائه.

وورد فيه رخصة من وجه لا يصح.

أخرجه الطبراني من رواية أبي موسى: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح يرفع صوته حتى يسمع أصحابه، يقول:"اللَّهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري" -ثلاث مرّات- "اللَّهم أصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي" -ثلاث مرّات- "اللَّهم أصلح لي آخرتي التي جعلت إليها مرجعي" -ثلاث مرّات-، وذكر دعاء آخر.

وفي إسناده يزيد بن عياض متروك الحديث، وإسحاق بن طلحة ضعيف.

فأما الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه ليُقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: "ربّ قني عذابك يوم تبعث عبادك".

فهذا ليس فيه أنه كان يجهر بذلك، حتى يسمعه الناس، إنما فيه أنه كان يقوله بينه وبين نفسه، وكان يسمعه منه أحياناً جليسه كما كان يسمع منه من خلفه الآية أحيانًا في صلاة النهار.

ورَوَى هلال بن يساف، عن زاذان، حدثنا رجل من الأنصار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة: "اللَّهم اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التوّاب الغفور"

ص: 339

مائة مرّة. أخرجه ابن أبي شيبة

(1)

، وعنه بقيّ بن مخلد في "مسنده" انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما ذكر في كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وكذا ما تقدم من كلام ابن حزم رحمه الله أن الصواب هو الذي ذهب إليه أحمد، وبعض السلف، من أن رفع الذكر بعد الصلاة مستحب، وأن القول بكراهة ذلك مع صحة الأدلّة، ولاسيما حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المذكور في الباب مما لا وجه له، وأن دعوى اتفاق أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم على عدم القول به من الدعاوي الباطلة.

فهذا الإمام أحمد قد عرفتَ قولَه بالاستحباب، أليس هو من أصحاب المذاهب المتبوعة؟ إن هذا لشيء عجيب!!.

وأنه لا دليل لمن حمل حديث ابن عباس على أن الجهر كان وقتاً يسيراً للتعليم، كما لا دليل لمن ادعى أن الجهر بالتأمين كان لأجل التعليم.

وهذا ابن عباس رضي الله عنهما من أعلم الناس بالسنة يخبرنا إخباراً مطلقاً، دون أن يقيده بوقت دون وقت، وأيضاً فإن فيه لفظة "كان" المشعرة بالمداومة والمواظبة.

والحاصل أن أكثر عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد كان على رفع الصوت بالتكبير عقب المكتوبة. فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌80 - (بَابُ الأَمْرِ بِقِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَاتِ بَعْدَ التَّسْلِيم مِنَ الصَّلَاةِ)

1336 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ حُنَيْنِ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" جـ 13 ص 462 ورجاله إسناده ثقات.

(2)

"شرح صحيح البخاري" جـ 7 ص 398 - 404.

ص: 340

عَلَيْهِ أَنْ أَقْرَأَ الْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) المذكور قبل بابين.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المذكور قبل بابين أيضاً.

3 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة المشهور [7] تقدم 31/ 35.

4 -

(حُنين بن أبي حكيم) الأمويّ مولاهم المصريّ، صدوق [6].

روى عن سالم أبي النضر، ومكحول، وعُليّ بن رباح، وغيرهم. وعنه الليث، وعمرو بن الحارث، وسعيد بن أبي هلال، وابن لَهيعة ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن عديّ: لا أدري البلاء منه، أو من ابن لهيعة، فإن أحاديثه عنه غير محفوظة، قال: ولا أعلم يروي عنه غير ابن لهيعة

(1)

انتهى. تفرد به أبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(علي بن رباح) بن قَصير اللَّخميّ، أبو عبد الله المصري، ثقة، والمشهور فيه عُليّ بالتصغير، وكان يغضب منها، من صغار [3] تقدّم 31/ 560.

6 -

(عقبة بن عامر) الجُهَنيّ الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه سكن مصر، تقدّم 108/ 144. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالمصريين من أوله إلى آخره. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عقبة بن عامر) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوّذات) ولأبي داود "أن أقرأ بالمعوذات". وفي رواية الترمذي: "أمرني أن أقرأ بالمعوّذتين". ولفظ الحاكم في "مستدركه" جـ 1 ص 253: "اقرأوا المعوّذات في دبر كلّ صلاة". وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

و"المعوذات" بصيغة اسم الفاعل: جمع معوّذة، اسم فاعل من عَوَّذَ يُعوّذ تعويذاً: إذا قال: أُعيذك بالله من كلّ شرّ، يعني محصِّنات، سميت بذلك لأنها تعصم صاحبها من كلّ سوء.

(1)

هذا فيه نظر، فقد روى عنه الليث وغيره، كما عرفته آنفاً.

ص: 341

ثم المراد بـ"المعوذات"{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، فالمراد بالجمع ما فوق الواحد، أو جمعهما باعتبار أن ما يستعاذ منه فيهما كثير.

ويحتمل أنه أراد "المعوذتين" مع سورة الإخلاص، وسماها كلها "المعوذات" تغليباً، أو لأن في سورة الإخلاص تعويذاً من الشرك. والله تعالى أعلم.

(دبر كلّ صلاة) منصوب على الظرفية، متعلّق بـ "أقرأ". وفي نسخة "في دبر"، أي عقب السلام من كلّ صلاة، والظاهر تعميم كلّ صلاة، فريضة كانت، أو نافلة.

وفي هذا الحديث دلالة على استحباب قراءة المعوّذات بعد السلام من الصلاة، وقيّده بعضهم بالفريضة، ولم يذكر لذلك مستنداً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

فإن قلت: حُنين بن أبي حكيم لم يوثقه غير ابن حبان، وقال ابن عديّ: أحاديثه غير محفوظة.

قلت: لم ينفرد حُنين برواية هذا الحديث من علي بن رباح، فقد تابعه يزيد بن محمد القرشي -وهو مصري ثقة- عند المصنف في "عمل اليوم والليلة"، والإمام أحمد في "مسنده" جـ 4 ص 155 - فقد أخرجاه من طريق سعيد بن أبي أيوب، عن يزيد بن عبد العزيز، وأبي مرحوم، عن يزيد بن محمد القرشي، عن علي بن رباح به. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا 80/ 1336 - وفي "الكبرى" 114/ 1259 - بالسند المذكور. وفي "عمل اليوم والليلة"

(1)

عن محمد بن أبي عبد الرحمن المقرىء، عن أبيه، عن سعيد بن أبي أيوب، عن يزيد بن عبد العزيز الرُّعَيني، وأبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، كلاهما عن يزيد بن محمد القرشي، عن علي بن رباح، عنه.

وأخرجه (د) رقم 1523 - (ت) 2903 (أحمد) 4/ 155، و4/ 201 (ابن خزيمة)755. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

هكذا عزاه إلى "عمل اليوم والليلة" في "تحفة الأشراف" جـ 7 ص 9940. ولكنّي لم أجده فيه. والله أعلم.

ص: 342

‌81 - (بَابُ الاسْتِغْفَارِ بَعْدَ التَّسْلِيم)

1337 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَدَّادٌ أَبُو عَمَّارٍ، أَنَّ أَبَا أَسْمَاءَ الرَّحَبِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمود بن خالد) السلمي، أبو علي الدمشقي، ثقة، من صغار [10] تقدّم 45/ 595.

2 -

(الوليد) بن مسلم القرشي مولاهم، أبو العبّاس الدمشقي، ثقة كثير التدليس والتسوية [8] تقدم 3/ 454.

3 -

(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقي، ثقة فقيه جليل [7] تقدم 45/ 56.

4 -

(شداد أبو عمار) هو ابن عبد الله القرشيّ الدمشقي مولى معاوية بن أبي سُفيان، ثقة يرسل [4].

روَى عن أبى هريرة، وشدّاد بن أوس، وعمرو بن عَبَسَة، وواثلة، وأبي أسماء الرحَبيّ، وغيرهم. وعنه الأوزاعي، وعكرمة بن عمّار، وعوف الأعرابي، وغيرهم.

قال عكرمة بن عمّار: حدّثنا شداد أبو عمّار، وقد لقي أبا أمامة، وواثلة، وصحب أنساً إلى الشام، وأثنى عليه فضلاً وخيراً. وقال يحيى بن أبي كثير: حدّثنا شدّاد بن عبد الله، وكان مرضياً. وقال العجليّ، وأبو حاتم، والدارقطنيّ: ثقة. وقال عثمان الدارمي، وابن الجنيد، عن ابن معين: ليس به بأس، وكذلك قال النسائي. وقال صالح ابن محمد: صدوق لم يسمع من أبي هريرة، ولا من عوف بن مالك. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد" والباقون، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، و (3140) حديث: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له

".

5 -

(أبو أسماء الرَّحَبيّ) عمرو بن مَرْثَد الدمشقيّ، ثقة [3].

روى عن ثوبان، وأبي ذرّ، وشداد بن أوس، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه شدّاد أبو عمّار، وأبو الأشعث الصنعاني، وأبو قلابة، وغيرهم.

ص: 343

قال العجلي: شامي تابعي ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وقال ابن زَبْر: "الرحَبيّ": نسبة إلى رَحَبَة دمشق، قرية من قُراها، بينها وبين دمشق ميل، رأيتها عامرة.

وذكر أبو سعد ابن السمعاني أنه من رَحَبَة حِمْيَر، وقال: مات في خلافة عبد الملك ابن مروان.

ويُروى عن أبي داود أن اسم أبي أسماء الرحبي عبد الله. وقال أبو الحسن بن سُميع: اسم أبيه أسماء، والأول هو المشهور. أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

6 -

(ثوبان) بن بُجْدُد الهاشميّ مولى النبي صلى الله عليه وسلم، صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام رضي الله عنه، تقدم 170/ 1139. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، وأنه مسلسل بالدمشقيين، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن أبي أسماء الرَّحَبيّ (أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته) قال النووي رحمه الله: المراد بالانصراف السلام، أي سلّم منها.

(استغفر ثلاثاً) زاد مسلم في "صحيحه" بعد روايته لهذا الحديث: قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: "استغفر الله، استغفر الله" انتهى.

وهذا الاستغفار إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحقّ عبادة مولاه، لما يَعرض له من الوسواس والخواطر، فشُرع له الاستغفار، تداركاً لذلك.

وقال السندي رحمه الله تعالى: استغفر صلى الله عليه وسلم تحقيراً لعمله، وتعظيماً لجناب ربّه، وكذلك ينبغي أن يكون حال العابد، فينبغي أن يلاحظ عظمة جلال ربه، وحقارة نفسه وعمله لديه، فيزداد تضرعًا واستغفاراً كلّما يزداد عملاً، وقد مدح الله عباده، فقال:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18].

وقال ابن سيد الناس رحمه الله: هو وفاء بحقّ العبودية، وقيام بوظائف الشكر، كما قال:"أفلا أكون عبداً شكوراً"، وليبين للمؤمنين سنته فعلاً، كما بينها قولاً في الدعاء والضراعة ليُقتَدَى به انتهى.

ص: 344

(وقال) أي بعد الاستغفار (اللَّهم أنت السلام) هو اسم من أسماء الله تعالى، أي أنت السليم من المعايب والآفات، ومن كل نقص.

وقال الصنعاني رحمه الله: المراد ذو السلامة من كل نقص وآفة، مصدر وُصف به للمبالغة انتهى.

وفي تعريف الجزأين إفادة الحصر، أي أنت المختص بالتنزّه عن النقائص والعيوب، لا غيرك.

(ومنك السلام) هذا بمعنى السلامة، أي أنت الذي تعطي السلامة وتمنحها لمن أردتها له، لا من غيرك، أو منك نطلب السلامة من شرور الدنيا والآخرة، أو منك يُرجَى السلام، ويُستوهب، ويُستفاد، أو السلامة من المعايب والآفات مطلوبة منك، أو حاصلة من عندك، فالسالم من سلّمته.

قال الشيخ الْجَزَري رحمه الله تعالى: وأما ما يُزاد بعد قوله: "ومنك السلام" من نحو "وإليك يرجع السلام، فحينا ربنا بالسلام، وأدخلنا دار السلام"، فلا أصل له، بل هو مختلق من بعض القُصّاص انتهى. (تباركت) تفاعلت من البركة، وهي الكثرة والنماء.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "تبارك" بمعنى تعالى، وقال أبو العباس: ارتفع، والمبارك المرتفع. وقال ابن الأنباريّ: تقدّس، وقال الحسن: تبارك تجيء البركة من قبله، وقال الضّحّاك: تَعَظّم، وقال الخليل: تمجّد.

وقال الحسين بن الفضل: تبارك في ذاته، وبارك من شاء من خلقه.

قال العلّامة ابن القيم رحمه الله: وهذا أحسن الأقوال، فتبارُكُهُ سبحانه وصفُ ذاتٍ له، وصفةُ فعلٍ.

وقال ابن عطيّة: معناه عظُم، وكثُرت بركاته، ولا يوصف بهذه اللفظة إلا الله تعالى، ولا تتصرف في لغة العرب، لا يستعمل منها مضارع ولا أمر، قال: وعلّة ذلك أن "تبارك" لما لم يوصف به غير الله دم يَقتض مستقبلاً، إذ الله سبحانه وتعالى قد تبارك في الأزل

(1)

.

(يا) وفي "صحيح مسلم" بحذف حرف النداء (ذا الجلال) أي العظمة (والإكرام) أي الإحسان إلى أوليائه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع "جلاء الأفهام" ص 242 - 246، فقد طول الكلام واستوفاه هناك.

ص: 345

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -81/ 1337 - وفي "الكبرى" -115/ 1260 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم 139 بالسند المذكور.

وأخرجه (م) 2/ 94 (د) 1513 (ت) 305 (ق) 928 (أحمد) 5/ 275، و5/ 279 (الدارمي) 1355 (ابن خزيمة)737. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب الاستغفار بعد التسليم.

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع وإظهار العبودية لله تعالى، فيستغفر ربه، وإن كان قد غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر.

ومنها: أن العبد لا ينبغي له الاتكال على الطاعة، بل يعتقد فيها النقص، وعدم أدائه حقّ العبادة، فيجبر ذلك بالاستغفار، فالاستغفار ليس من الذنوب والمعاصي فقط، بل الطاعة تحتاج إليه أيضًا، لما يقع فيها من السهو والغفلة، وعدم القيام بها حقّ القيام.

ومنها: بيان وصف الله تعالى بأنه السالم من كلّ نقص، وعيب، وبأن السلامة لعباده منه سبحانه وتعالى، لا من غيره، وأنه متصف بالعظمة ذاتًا وصفةً، وبإكرام أوليائه، الذين قال في حقهم:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: أن رواية الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي عند المصنف، وكذا عند مسلم بلفظ:"كان إذا انصرف من صلاته"، ووافقه عبد الحميد بن حبيب عن الأوزاعي، عند أبي نعيم في "المستخرج".

وخالفهما في ذلك جماعة فرووه عن الأوزاعي بلفظ: "كان إذا أراد أن ينصرف". فرواه أحمد من طريق عبد القدوس بن الحجّاج -وهو، والترمذي من طريق عبد الله ابن المبارك- وأبو داود من طريق عيسى بن يونس -وابن خزيمة، وأبو عوانة، وأبو العبّاس السرّاج ثلاثتهم من طريق بشر بن بكر- وابن خزيمة أيضاً من طريق عمرو بن أبي سلمة -وابن حبّان من طريق عمرو بن عبد الواحد- خمستهم عن الأوزاعي اتفقوا على لفظ "إذا أراد أن ينصرف".

ص: 346

وأخرجه ابن خزيمة أيضاً من رواية عمرو بن هاشم البيروتي، عن الأوزاعي بلفظ:"كان يقول قبل السلام".

قال ابن خزيمة رحمه الله: إن كان عمرو بن هاشم حفظه

(1)

، فمحلّ هذا الذكر قبل السلام.

قال الحافظ في "نتائج الأفكار": ورواية "إذا أراد أن ينصرف" موافقة لهذه، ويمكن ردّ رواية "إذا انصرف" إليها، لكن المعروف أن هذا الذكر بعد السلام، ويؤيّده حديث عائشة رضي الله عنها يعني الآتي في الباب التالي.

ثم أخرج حديث عائشة رضي الله عنها ثم قال: ويمكن الجمع بأنه كان يقول ذلك في الموضعين انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الجيع حسنٌ جدًّا.

لكن لا مانع من أن يفسّر الانصراف هنا بالانصراف إلى جهة الحاجة، لا بالانصراف الذي هو السلام، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها، فيكون معنى "إذا أراد أن ينصرف" أي إذا أراد القيام إلى حاجته بعد السلام

(2)

، فيتفق مع حديث عائشة رضي الله عنها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌82 - (الذِّكْرُ بَعْدَ الاسْتِغْفَارِ)

1338 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ صُدْرَانَ، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَائِشَةَ -رضى الله عنها-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَلَّمَ، قَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ").

(1)

قال الجامع: الظاهر أنه لم يحفظه، فقد خالف هؤلاء الحفاظ، وقال عنه أبو حاتم كما في "التهذيب": ليس بذلك، كان صغيراً حين كتب عن الأوزاعي، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. انظر "تهذيب التهذيب" 3/ 309. والحاصل أن روايته بلفظ "قبل السلام" شاذة لا تثبت. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(2)

لا يعارضُ هذا روايةَ عمرو بن هاشم بلفظ "كان يقول قبل السلام" لما عرفت أنها شاذة فتنبّه.

ص: 347

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(محمد بن صُدْرَان) هو ابن إبراهيم بن صدران الأزدي السَّلَميّ

(1)

، أبو جعفر المؤذن البصري، نسب لجدّه، صدوق [10] تقدم 66/ 82.

3 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

4 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام المشهور [7] تقدم 24/ 26.

5 -

(عاصم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصري، ثقة [4] تقدم 148/ 139.

6 -

(عبد الله بن الحارث) الأنصاري، أبو الوليد البصري نسيب ابن سيرين وخَتَنُهُ، ثقة [3].

روى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عمر، وأنس، وغيرهم. وعنه ابنه يوسف، وعاصم الأحول، وأيوب السختياني، وغيرهم.

قال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه، وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال سليمان بن حرب: كان ابن عمّ ابن سيرين ثقة، وتَعَقّب ذلك الدمياطي، قال: بل هو ختنه.

قال الحافظ: وهو كما قال، لكن ما المانع أن يكون ابن عمّه من الأمّ، أو من الرضاع، فلا يتخالف القولان.

ورَوَى يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن نسيب، عن عائشة حديثاً، فقال ابن حبّان في "صحيحه": وهم فيه يحيى، وإنما هو عبد الله بن الحارث نسيب ابن سيرين، سقط عليه "الحارث"، فبقيت عبد الله بن نسيب انتهى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث.

7 -

(عائشة) أمّ المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5، وشرح الحديث يعلم مما قبله، واستدلال المصنف رحمه الله تعالى به على ما بوّب له واضح، فإنه يدلّ على استحباب الذكر بعد الاستغفار. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا أخرجه مسلم.

(1)

قوله: "صدران" بضم الصاد وسكون الدال المهملتين، و"السَّلمي" بفتح المهملة واللام.

ص: 348

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -82/ 1338 - وفي "الكبرى" -116/ 1261 - عن محمد بن عبد الأعلى، ومحمد بن إبراهيم بن صُدْران، كلاهما عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث، عنها. وفي "عمل اليوم والليلة" 95 عن أحمد بن سليمان، عن يزيد بن هارون، عن عاصم به. وفي 96 - منه، وفي "النعوت" من "الكبرى"- عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد به. وفي 97 - عن عبد الله بن الهيثم بن عثمان، عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن عاصم، وخالد الحذاء، كلاهما عن عبد الله بن الحارث عنها. وفي 367 - عن أحمد بن حرب، عن أبي معاوية، عن عاصم به.

وأخرجه (م) 2/ 94 و95 (د) 1512 (ت) 298 و299 (ق) 924 (أحمد) 6/ 62 و6/ 184 و6/ 235 (الدارمي)2354. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌83 - (بَابُ التَّهْلِيلِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ)

وفي نسخة "باب الذكر بعد التسليم".

1339 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، يُحَدِّثُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، لَا نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، أَهْلَ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن شُجَاع المرُّوذيّ) نزيل بغداد، ثقة [10] تقدم 8/ 886.

[تنبيه]: "المروُّذي" -بفتح الميم، وتشديد الراء المضمومة- هذا هو الصواب، ووقع في النسخة الهندية "المروزي"، وهو خطأ. انظر "ت" ص 301.

2 -

(إسماعيل ابن عُلَيّة) الحافظ الحجة الثبت [8] تقدم 18/ 19.

ص: 349

3 -

(الحَجّاج بن أبي عثمان) ميسرة، أو سالم الصوّاف، أبو الصَّلْت الكندي مولاهم البصري، ثقة حافظ [6] تقدم 12/ 790.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم المكي، صدوق [4] تقدّم 31/ 35.

5 -

(عبد الله بن الزبير) بن العوّام القرشي الأسدي أبو بكر، أو أبو خُبيب، أول مولود في الإسلام بالمدينة، من المهاجرين، وولي الخلافة تسع سنين، قتل في ذي الحجة سنة (73) تقدّم 189/ 1161. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الصحيح، إلا شيخه، فتفرد به هو والترمذيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(قال) أبو الزبير (سمعت عبد الله بن الزبير يحدّث على هذا المنبر) لعله أراد منبر مكة (وهو يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم) فيه أنه ينبغى أن يكون هذا الذكر تالياً للسلام، مقدّمًا على غيره، لتقييد القول به بوقت التسليم.

وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عند البخاري تقييده بالمكتوبة، ولفظه: "كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله

الخ".

ولا يعارض ذلك ما تقدّم من حديث ثوبان، وعائشة رضي الله عنهما لإمكان حمله على أوقات مختلفة، فتارةً يقول بعد السلام ما وقع في حديث ثوبان، وعائشة رضي الله عنهما، وتارة يقول ما وقع في حديث عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم.

وعلى هذا فالسنّة أن يأتي بهذه الأذكار على سبيل البدل، لا الجمع، وقيل: يجوز الجمع بينها، لأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينها، ورَوَى كلُّ واحد ما سمعه منه صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى بُعده

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا بُعْدَ في الجمع المذكور، بل هو الظاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس لانتظار انصراف النساء من المسجد ودخولهنّ بيوتهن، وذلك الوقت يسع أكثر من الذكر المذكور بكثير، فالظاهر أنه كان يقول أكثر من ذكر واحد، فينبغي لمن طال جلوسه أن يجمع بين هذه الأذكار. والله تعالى أعلم.

(يقول) زاد الشافعي رحمه الله في روايته: "بصوته الأعلى"، ونصه في "الأمّ" جـ 1 ص 110 - : أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: حدثني موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، أنه

(1)

راجع "المرعاة" جـ 3 ص 318 - 319.

ص: 350

سمع عبد الله بن الزبير، يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من صلاته يقول بصوته الأعلى: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له

" الخ.

إلا أنه ليس عنده كلمة "لا إله إلا الله" بين قوله: "لا حول ولا قوّة إلا بالله"، وقوله:"ولا نعبد إلّا إيّاه". وإبراهيم شيخه متكلّم فيه.

(لا إله إلا الله وحده) أي منفرداً في ذاته (لا شريك له) أي في أفعاله، وصفاته، وعبادته. وقيل: تأكيد بعد تأكيد، لمزيد الاعتناء بمقام التوحيد (له الملك) في تقديم الخبر ما يفيد الحصر، أي لا لغيره (وله الحمد) في الأولى والآخرة، لا لغيره، فلا منعم سواه حتى يستحقّ الحمد (وهو على كل شيء قدير، لا حول لا قوّة إلا بالله) قال الأزهريّ: سمعت المنذريّ، يقول: سمعت أبا الهيثم يقول عن تفسير قوله: "لا حول ولا قوّة إلا بالله"، قال: الحولُ: الحَرَكَةُ، تقول: حالَ الشخصُ: إذا تحرّك، وكذلك كلّ متحوّل عن حاله، فكأن القائل إذا قال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله يقول: لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله. وقال الكسائي،: يقال: لا حول ولا قوّة إلا بالله، ولا حَيْلَ ولا قوّة إلا بالله، وورد ذلك في الحديث: لا حول ولا قوّة إلا بالله، وفُسّر بذلك المعنى: لا حركة، ولا قوّة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل: الحول الحيلةُ، قال ابن الأثير، والأول أشبه انتهى

(1)

.

(لا إله إلا الله لا نعبد) وفي الرواية الآتية في الباب التالي "ولا نعبد" بالواو (إلا إيّاه) إذ لا يستحقّ العبادة سواه (أهل النعمة) بالنصب على الاختصاص، أو المدح، أو البدل من مفعول "نعبد"، أو الرفع بتقدير "هو".

ولفظ الرواية الآتية: "له النعمة". والمراد جنس النعمة، قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} [النحل: 53]، أو له نعمة التوفيق (والفضل) بالجر عطفاً على "النعمة"، وفي الرواية الآتية:"وله الفضل". أي له الفضل بالقبول، أو له التفضّل على عباده (والثناء الحسن) بجرّ "الثناء على العطف أيضاً، و"الحسن" صفة له، أي له لا لغيره الوصف الحسن على ذاته، وصفاته، وأسمائه، وأفعاله. وفي الرواية الآتية: "وله الثناء الحسن".

(لا إله إلا الله مخلصين له الدين) أي الطاعة (ولو كره الكافرون) أي كونَنَا مخلصين دينَ الله، وكوننا عابدين وموحّدين له.

قال الطيبي رحمه الله: "مخلصين" حال عامله محذوف، وهو الدّالّ على مفعول

(1)

راجع "لسان العرب" جـ 2 ص 1057.

ص: 351

"كره"، أي نقول "لا إله إلا الله" حال كوننا مخلصين، ولو كره الكافرون قولنا، و"الدين" مفعول به لـ"مخلصين"، و"له" ظرف قدّم على المفعول به للاهتمام به انتهى.

وتعقّبه بعضهم، فقال: فيه تكلّف، والأولى جعله حالاً من فاعل "نعبد" المذكور انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: التكلف أيضاً موجود فيما قاله، حيث إن فيه الفصل بين الحال وصاحبه بقوله:"أهل النعمة الخ"، فالأولى جواز الوجهين، فإن مثل هذا ليس تكلّفًا يضرّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -83/ 1339 - وفي "الكبرى" -117/ 1262 - عن محمد بن شجاع، عن إسماعيل ابن عُلية، عن الحجّاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير، عنه. وفي 84/ 1340 - و"الكبرى" 118/ 1263 - وفي "عمل اليوم والليلة" 128 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبي الزبير، عنه.

وأخرجه (م) 2/ 96 (د) 1506، و1507 (أحمد) 4/ 4، و4/ 5. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌84 - (عَدَدُ التَّهْلِيلِ وَالذِّكْرِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ليس في حديث الباب ذكر عدد معين للذكر المذكور، اللَّهمّ إلا إذا أراد أنه يقوده مرّةً واحدة، لأن أقلّ ما يُمتَثَلُ به في الأمر، ويتحقق به الاتباع في الفعل حصوله مرّة واحدة.

وسيأتي له بعد باب في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول

ص: 352

ذلك ثلاث مرّات، فكان الأولى له الاستدلال بذلك على إثبات العدد. والله تعالى أعلم بالصواب.

1340 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، يُهَلِّلُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ

(1)

، يَقُولُ:"لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظلي المروزي، ثم النيسابوريّ الإمام الحجة [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(عبدة) بن سليمان الكلابي الكوفي، ثقة ثبت، من صغار [8] تقدّم 7/ 339.

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير المدني الفقيه الثبت [3] تقدم 40/ 44.

والباقيان تقدّما في الذي قبله، وكذا شرح الحديث، والمسألتان المتعلقتان به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

**********

‌85 - (نَوْعٌ آخَرُ مِن الْقَوْلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ)

1341 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، وَسَمِعْتُهُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، بْنِ عُمَيْرٍ كِلَاهُمَا سَمِعَهُ مِنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَانَ

(1)

وفي نسخة "في دبر كل صلاة".

ص: 353

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ:"لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ، مِنْكَ الْجَدُّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن منصور) الْجوَّاز المكي، ثقة [10] تقدم 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة المشهور [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(عبدة بن أبي لبابة) الأسديّ الغاضريّ مولاهم، ويقال: مولى قريش، أبو القاسم البزّاز الكوفي الفقيه نزيل دمشق، ثقة [4].

روى عن ابن عمر، وابن عمرو، وزرّ بن حُبيش، وورّاد، وغيرهم. وعنه ابن أخته الحسن بن الْحُرّ، والأعمش، وابن عيينة، وغيرهم.

قال الميموني عن أحمد: لقي ابنَ عمر بالشام. وقال ابن سعد: كان من فقهاء أهل الكوفة. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان يكنى أبا القاسم، كناه مكحول. وقال الأوزاعي: لم يَقْدَم علينا من العراق أحد أفضل من عبدة بن أبي لبابة، والحسن بن الحرّ، وكانا شريكين. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة من ثقات أهل الكوفة. وقال أبو حاتم، والنسائي، وابن خراش: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن المديني، عن ابن عُيينة: جالست عبدة بن أبي لبابة سنة (123). أخرج له أبو داود في "المسائل"، والباقون، وله فى هذا الكتاب (4) أحاديث.

4 -

(عبد الملك) بن عُمير بن سُويد اللَّخْمي الكوفي، يقال له: الفَرَسيّ، ثقة فقيه، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3] تقدم 41/ 947.

[تنبيه]: وقع هنا في نسخ "المجتبى" اختلاف في هذا الاسم، فالنسخ المطبوعة فيها "عبد الملك بن أعين"، وكذا النسخة الهنديّة، لكن أشار فيها إلى أنه لا يوجد في بعض النسخ "ابن أعين"، وهذه النسخة هي الموافقة لـ "سنن النسائي الكبرى" المطبوعة، فإن فيها "عبد الملك" دون ذكر أبيه.

والظاهر أن هذه النسخة التي أسقطت "ابن أعين" هي الصواب، لأن عبد الملك هنا هو ابن عُمير الفرَسي، لا عبد الملك بن أعين، بدليل أن مسلماً رحمه الله روى الحديث، في "صحيحه" بسند المصنف، فقال: "عبد الملك بن عُمير، ونصه:

وحدثنا ابن أبي عمر المكيّ، حدثنا سفيان. حدثنا عبدة بن أبي لبابة، وعبد الملك بن عُمير، سمعا ورّاداً كاتب المغيرة

وأيضاً أن الحافظ أبا الحجّاج المزي رحمه الله في "تحفة الأشراف" جـ 8 ص 495 - 496 -

ص: 354

بعد أن ذكر سند مسلم المذكور، أحال سند النسائي عليه، فقال:(س) فيه عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عُيينة نحوه.

وأيضاً ذكر في هامش كتاب "الجامع المسند" في جـ 15 ص 399 - عند ذكر سند النسائي: ما نصه: تحرّف في المطبوع من "المجتبى" إلى: عبد الملك بن أعين، وجاء على الصواب في "السنن الكبرى" انتهى.

وهذه النسخة التي ذكرها في الهامش المذكور غير النسخة التي عندي، فإنها كما قدّمت ليس فيها نسبته إلى أبيه، فتبين أن نسخ "الكبرى" فيها اختلاف أيضاً، منها ما لم يُذكر فيها نسبته إلى أبيه، ومنها ما ذكر فيها "ابن عمير"، وكلاهما صواب.

ثم رأيت الشيخ البهكلي اليماني صرّح في شرحه لـ "لمجتبى" -وهو عندي مصور من المخطوطة، وهو شرح لم يكمل- بأنه عبد الملك بن عُمير.

وقد أخرجه البخاري في "صحيحه" من طريق الثوري، وأبي عوانة، وهشيم، وتعليقاً عن شعبة، أربعتهم عن عبد الملك بن عمير.

والحاصل أن الصواب أن عبد الملك المذكور هنا هو ابن عُمير، لا ابن أعين، فالنسخة الصحيحة من "المجتبى" هي التي لم تنسبه إلى أبيه، وأما التي نسبته، فقد تصحّف عليها "ابن عمير" إلى "ابن أعين"، فتفطن. والله تعالى أعلم.

5 -

(ورّاد) -بتشديد الراء- الثقفي، أبو سعيد، أو أبو الورد الكوفي كاتب المغيرة، ومولاه، ثقة [3].

روى عن مولاه المغيرة، ووَفَدَ على معاويه. وروى عنه عبد الملك بن عُمير، والشعبي، وعبدة بن أبي لبابة، والمسيب بن رافع، ورجاء بن حيوة، والقاسم بن مُخيمرة، وأبو سعيد الشامي، وأبو عون الثقفي، وزياد بن علاقة، وعطاء السائب، وغيرهم. ذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(المغيرة بن شُعبة) بن مسعود بن معتّب الثقفي الصحابي المشهور رضي الله عنه، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة، ثم الكوفة، مات سنة (50) تقدّم 16/ 17. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وأنه مسلسل بالكوفيين من عبدة، وفيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

ص: 355

شرح الحديث

عن ورّاد كاتب المغيرة أنه (قال: كتب معاوية) بن أبي سفيان رضي الله عنهما (إلى المغيرة بن شُعبة) وكان المغيرة إذ ذاك أميراً على الكوفة من قِبَلَ معاوية رضي الله تعالى عنهما (أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال) أي المغيرة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاري: "أملى عليَّ المغيرةُ ابن شعبة في كتاب إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول

" (إذا قضى الصلاة) أي المكتوبة، لما في رواية البخاري "في دبر كلّ صلاة مكتوبة

"، وفي الرواية التالية: "دبر كل صلاة إذا سلّم

"، وفي رواية لمسلم: "كان إذا فرغ من صلاته، وسلّم

".

(قال: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد) زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة: "يُحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير -إلى- قدير". ورواته موثقون، وثبت مثله عند البزّار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف، لكن في القول إذا أصبح، وإذا أمسى. قاله في "الفتح"

(1)

(وهو على كلّ شيء قدير، اللَّهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ، منك الجدّ) قال الخطابي: "الجَدّ": الغنى، ويقال: الحظّ، قال: و"مِنْ" في قوله "منك" بمعنى البدل. قال الشاعر: [من الطويل]

فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً

مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى الطَّهْيَانِ

(2)

يريد لنا بدل ماء زمزم انتهى.

وفي "الصحاح": معنى "منك" هنا "عندك"، أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح.

وقال ابن التين: الصحيح عندي أنها ليست بمعنى "البدل"، ولا بمعنى "عند"، بل هو كما تقول: ولا ينفعك مني شيء، إن أنا أردتك بسوء.

قال الحافظ: ولم يظهر لي من كلامه معنى، ومقتضاه أنها بمعنى "عندك"، أو فيه حذف، تقديره "من قضائي"، أو "سطوتي"، أو "عذابي".

واختار الشيخ جمالُ الدين

(3)

في "المغني" الأولَ.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 601.

(2)

"الطهْيَان": خشبة يُبَرَّد عليها الماء. اهـ "لسان العرب".

(3)

هو أبو محمد عبد الله بن يوسف جمال الدين الأنصاري المصري المتوفى سنة (761 هـ) وقد ذكر هذه المسألة في كتابه "مغني اللبيب" جـ 1 ص 320 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

ص: 356

قال ابن دقيق العيد: قوله: "منك" يتعلّق بـ"ينفع"، وينبغي أن يكون "ينفع" قد ضُمّن معنى "يمنع"، أو ما قاربه، ولا يعود "منك" إلى "الجدّ" على الوجه الذي يقال فيه: حظي منك قليل، أو كثير، بمعنى عنايتك بي، أو رعايتك لي، فإن ذلك نافع انتهى

(1)

.

و"الجدّ" مضبوط في جميع الروايات بفتح الجيم، ومعناه الغنى، كما نقله البخاريّ عن الحسن، أو الحظ.

وحكى الراغب أن المراد به هنا أبو الأب، أي لا ينفع أحداً نسبه.

وقال القرطبي: حكي عن أبي عمرو الشيباني أنه رواه بالكسر، وقال: معناه: لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده. وأنكره الطبري. وقال القزّاز في توجيه إنكاره: الاجتهاد في العمل نافع، لأن الله قد دعا الخلق إلى ذلك، فكيف لا ينفع عنده؟، قال: ويحتمل أن يكون المراد أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا، وتضييع أمر الآخرة. وقال غيره: لعل المراد أنه لا ينفع بمجرّده، ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، كما ثبت في حديث "لا يُدخلُ أحداً منكم الجنةَ عمَلُهُ". وقيل: المراد على رواية الكسر السعي التامّ في الحرص، أو الإسراع في الهرب.

وقال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح، وهو الحظّ في الدنيا بالمال، أو الولد، أو العظمة، أو السلطان.

والمعنى لا يُنجيه حظه منك، وإنما يُنجيه فضلك ورحمتك.

[فائدة]: اشتهر على الألسنة فى الذكر المذكور زيادة: "ولا رادّ لما قضيت"، وهي في مسند عبد بن حُميد من رواية معمر، عن عبد الملك بن عُمير، عن ورّاد به، لكن حذف قوله:"ولا معطي لما منعت". ووقع عند الطبراني تامًا من وجه آخر، قاله في "الفتح"

(2)

.

وسيأتي للمصنف في الباب التالي: أنه كان يقول الذكر المذكور ثلاث مرّات، وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

(1)

"إحكام الأحكام" جـ 3 ص 69 بنسخة الحاشية.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 601 - 602.

ص: 357

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -85/ 1341 - وفي "الكبرى" 119/ 1263 - عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة، عن عبدة بن سليمان، وعبد الملك بن عُمير، كلاهما عن ورّاد، عنه. وفي -85/ 1342 - و"الكبرى" -119/ 1264 - عن محمد بن قُدَامة، عن جرير، عن منصور، عن المسيّب أبي العلاء، عن ورّاد به. وفي 86/ 1343 - و"الكبرى"- 120/ 1266 - و"عمل اليوم والليلة" رقم 129 - عن الحسن بن إسماعيل الْمُجَالديّ، عن هشيم عن المغيرة وذكر آخر (ح) وعن يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم، قال: أنبأنا غير واحد، منهم المغيرة، عن الشعبي، عن ورّاد به.

وأخرجه (خ) في "الصلاة" 1/ 214، و"الدعوات" 8/ 90، وفي "الرقاق" 8/ 124، وفي "القدر" 8/ 157 و"الاعتصام" 9/ 117 وفى "الأدب المفرد" رقم 460.

(م) في "الصلاة" 2/ 95، و2/ 96 (د) في "الصلاة" 1505 - (الحميدي) 762 (أحمد) 4/ 245، و4/ 247، و4/ 250 و4/ 251 و4/ 254 و4/ 255 (عبد بن حُميد) 390 و391 (الدارمي) 1356 (ابن خزيمة)742. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو: استحباب هذا الذكر عقب الصلوات، لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأفعال إلى الله تعالى، والمنع، والإعطاء، وتمام القدرة.

قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: والثواب المرتّب على الأذكار يَردُ كثيراً مع خفّة الأذكار على اللسان وقلّتها، وإنما كان ذلك باعتبار مدلولاتها، وأنها كلها راجعة إلى الإيمان الذي هو أشرف الأشياء انتهى.

ومنها: أن فيه المبادرةَ إلى امتثال السنن، وإشاعتها.

ومنها: أن فيه جواز العمل بالمكاتبة بالأحاديث، وإجراؤها مُجرى السماع في الرواية، ولو لم تقترن بالإجازة، والعمل بالخط في مثل ذلك إذا أمن تغييره

(1)

.

واعتلّ بعضهم بأن العمدة حينئذ على الذي بلّغ الكتاب، كأن يكون الذي أرسله أمره أن يوصل الكتاب، وأن يبلغ ما فيه مشافهةً.

وتعُقّب بأن هذا يحتاج إلى نقل، وعلى تقدير وجوده، فتكون الرواية عن مجهول، ولو فرض أنه ثقة عند من أرسله، ومن أُرسل إليه، فتجيء فيه مسألة التعديل على

(1)

اعترض العلامة الصنعاني على هذه الفائدة والتي قبلها بأنها فعل صحابي، بل لها أدلة غير هذا، راجع "العدّة" حاشية "العمدة" له جـ 3 ص 69 - 70.

ص: 358

الإبهام، والمرجّح عدم الاعتداد بها. قاله في "الفتح"

(1)

.

ومنها: أن فيه الاعتمادَ على خبر الشخص الواحد، وله نظائر كثيرة ..

وقد زاد في رواية البخاري في "كتاب القدر" في آخر هذا الحديث أن ورّاداً قال: "ثم وفدت على معاوية، فسمعته يأمر الناس بذلك".

وزعم بعضهم أن معاوية كان قد سمع الحديث المذكور، وإنما أراد استثبات المغيرة، واحتجّ بما في "الموطإ" من وجه آخر عن معاوية أنه كان يقول على المنبر:"أيها الناس، إنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، ولا ينفع ذا الجدّ منه الجدّ، من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ثم يقول: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد".

قال الجامع عفا الله عنه: وفي احتجاجه بما ذُكر نظر لا يخفى، إذ الذي ذكر أنه سمعه منه صلى الله عليه وسلم هو الذي قاله على المنبر في خطبته، لا ما كتب إليه المغيرة أنه كان يقوله في دبر كل صلاة، فتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1342 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ وَرَّادٍ، قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ دُبُرَ الصَّلَاةِ، إِذَا سَلَّمَ: "لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن قُدَامة) المصّيصي، ثقة [10] تقدم 19/ 528.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الكوفي، نزيل الريّ ثقة ثبت [8] تقدم 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر الكوفي الحجة الثبت [5] تقدم 2/ 2.

4 -

(المسيب أبو العلاء) ابن رافع الأسديّ الكاهلي الكوفي الأعمى، ثقة [4] تقدم 5/ 1184.

والباقيان تقدما في الذي قبله، وكذا الكلام على الحديث، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "كتب المغيرة" فيه تجوّز، لما تبيّن من الروايات المتقدّمة أن الكاتب هو ورَّاد، لكنه كتب بأمر المغيرة، وإملائه عليه، وعند مسلم من رواية عبدة، عن ورّاد،

(1)

"فتح" جـ 13 ص 99 - 100 في "كتاب الرقاق" وجـ 2 ص 601 في "الصلاة".

ص: 359

قال: "كتب المغيرة إلى معاوية، كتب ذلك الكتاب له ورّاد". فجمع بين الحقيقة والمجاز. أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقوله: "دبر كل صلاة" منصوب على الظرفية متعلق بـ "يقول". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌86 - (كَمْ مَرَّةً يَقُولُ ذَلِكَ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "كم" استفهامية مبتدأ، "ومرّة" منصوب على التمييز بـ"كم"، كما قال في "الخلاصة":

مَيِّزْ فِي الاسْتِفْهَامِ كَمْ بِمِثْلِ مَا

مَيَّزْتَ عِشْرِينَ كَكَمْ شَخْصًا سَمَا

وجملة "يقول ذلك" خبر المبتدأ. والله تعالى أعلم بالصواب.

1343 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلُ الْمُجَالِدِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُغِيرَةُ، وَذَكَرَ آخَرَ (ح) وَأَنْبَأَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(3)

غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ الْمُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ وَرَّادٍ، كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ، أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ: "لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الحسن بن إسماعيل المُجَالديّ)

(4)

أبو سعيد المصيصي، ثقة [10] تقدم 26/ 432، من أفراد المصنف.

2 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرَقيّ البغدادي، ثقة [10] تقدم 21/ 22.

3 -

(هُشَيم) بن بشير الواسطي الحافظ الحجة [7] تقدّم 88/ 109.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 602.

(2)

وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى "أخبرنا".

(3)

وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى:"أخبرنا".

(4)

نسبة إلى جده مجالد.

ص: 360

قوله: "وذكر آخر": قائل: "وذكر" هو الحسن، وفاعل "ذكر" هو هشيم. والظاهر أنه أراد بآخر مجالدَ بنَ سعيد، كما يأتي في كلام الحافظ.

وقوله: في السند الثاني: "قال: أنبأنا غير واحد، منهم المغيرة" الخ. وعند البخاريّ: "أخبرنا غير واحد، منهم المغيرة، وفلان، ورجل ثالث أيضاً

".

فقال في "الفتح": المراد بفلان مجالد بن سعيد، فقد أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" عن زياد بن أيوب، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، قالا: حدثنا هُشيم، أنبأنا غير واحد، منهم: مغيرة، ومجالد، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي خيثمة عن هشيم. وكذا أخرجه أحمد عن هُشيم، وأخرجه النسائىِ عن يعقوب الدورقي، لكن قال في روايته: عن غير واحد، منهم مغيرة،، ولم يسم مجالداً، وأخرجه أيضاً عن الحسن بن إسماعيل، عن هُشيم، أنبأنا مغيرة، وذكر آخر، ولم يسمّه، وكأنه مجالد، وأخرجه أبو يعلى عن زكريا بن يحيى، عن هُشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، ولم يذكر مع مغيرة أحداً.

وأما الرجل الثالث، فيحتمل أنه داود بن أبي هند، فقد أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" من طريق يحيى بن أبي بُكَير الكرماني، عن هشيم، قال: أنبأنا داود بن أبي هند وغيره عن الشعبي.

ويحتمل أن يكون زكريّا بن أبي زائدة، فقد أخرجه الطبراني من طريق الحسن بن علي بن راشد الواسطي، عن هُشيم، عن مغيرة، وزكريّا بن أبي زائدة، ومجالد، وإسماعيل بن أبي خالد، كلُّهُم عن الشعبي، والحسن المذكورُ ثقةٌ من شيوخ أبي داود، تكلّم فيه عبدانُ بما لا يقدح فيه، وقال ابن عديّ: لم أر له حديثاً منكراً انتهى ما في "الفتح" جـ 2 ص 99 - 100.

4 -

(المغيرة) بن مقسم الضبيّ، أبو هشام الكوفي الأعمى، ثقة متقن، يدلّس [6] تقدّم 188/ 301.

5 -

(الشعبي) عامر بن شراحيل الهَمْدَاني الكوفي، ثقة فقيه فاضل مشهور [3] تقدم 66/ 82.

والباقيان تقدما قريباً، وكذا الكلام على الحديث، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: ضعف الشيخ الألباني قوله: "ثلاث مرّات"، لأجل الشذوذ.

وقال قبله الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاري": إنها زيادة غريبة انتهى

(1)

.

(1)

"شرح البخاري" جـ 7 ص 418.

ص: 361

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في تضعيف الزيادة المذكورة نظر، لأنها صحيحة، فقد أخرج البخاري الحديث مع الزيادة في "صحيحه" بالنسخة اليونينية في "كتاب الرقاق" جـ 8 ص 124 - ونصه:

"باب ما يكره من قيل، وقال":

حدثنا علي بن مسلم، حدثنا هُشيم، أخبرنا غير واحد، منهم مغيرة، وفلان، ورجل ثالث أيضًا، عن الشعبي، عن وزاد كاتب المغيرة بن شعبة أن معاوية كتب إلى المغيرة أن اكتب إليّ بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكتب إليه المغيرة: إني سمعته يقول عند انصرافه من الصلاة: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" ثلاث مرّات.

قال: وكان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات انتهى.

وقد ذكر الحافظ في "الفتح" أيضًا أنها موجودة في نسخة الصغاني، فدلّ على أن نسخ البخاري مختلفة، وأصح نسخه هي النسخة اليونينية، كما هو معروف لدى كل من له عناية بـ "صحيح البخاري"، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحير بالاعتساف.

[فائدة]: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد روي في الحديث زيادة "بيده الخير" خرّجها الإسماعيلي من طريق مسعر، عن زياد بن عِلَاقة، عن ورّاد.

وروي فيه أيضاً زيادة: "يحيي ويميت". ذكرها الترمذي في كتابه تعليقاً، ولم يذكر رواتها. وقد خرّجه البزّار بهذه الزيادة من رواية ابن عِلاقة، عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث المغيرة رضي الله عنه بهذه الزيادة. وفي إسنادها ضعف.

وخرّجه أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة:"بيده الخير". وفي إسناده ضعف.

وخرّجه ابن عديّ، وزاد فيه:"يحي ويميت"، وقال: هو غير محفوظ.

وخرّجه أبو مسلم البلخي في "سننه" من حديث أبان بن أبي عيّاش، عن أبي الجوزاء، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:"يحيي ويميت، بيده الخير".

وأبان متروك انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح البخاري" جـ 7 ص 417 - 418.

ص: 362

"إن أريد إلا الا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌87 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الذِّكْرِ بَعْدَ التَّسْلِيم)

1344 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ. قَالَ: حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ -قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَكَانَ مِنَ الْخَائِفِينَ- عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا، أَوْ صَلَّى

(1)

صَلاةً تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ، فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنِ الْكَلِمَاتِ؟ فَقَالَ

(2)

: "إِنْ تَكَلَّمَ بِخَيْرٍ كَانَ طَابِعًا عَلَيْهِنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ إِلَيْكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن إسحاق الصاغاني)

(3)

أبو بكر نزيل بغداد، ثقة ثبت [11] تقدم 13/ 347.

2 -

(أبو سَلَمَة الْخُزَاعيّ منصور بن سلمة) بن عبد العزيز بن صالح البغدادي، ثقة ثبت حافظ، من كبار [10].

رَوَى عن عبد الله بن عمر العمري، ومالك، وخلاد بن سليمان، وغيرهم، وعنه أحمد بن حنبل، ومحمد بن إسحاق الصاغاني، وحجّاج بن الشاعر، وغيرهم.

قال أبو بكر الأعين، عن أحمد: أبو سلمة الخزاعيّ من متثبتي أهل بغداد. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، وقال أيضاً: قال لي أبي يوماً، ورجعنا من عند أبي سلمة الخزاعي: كتبتَ اليوم عن كبش نطّاح. وقال الدارقطني: أحد الثقات الحفّاظ الرُّفَعَاء الذين كانوا يُسألون عن الرجال، ويُؤخذ بقوله فيهم، أخذ عنه أحمد، وابن

(1)

وفي نسخة "أو يصلى".

(2)

وفي نسخة "فقالت".

(3)

"الصاغاني" بفتح المهملة، وتخفيف المعجمة: نسبة إلى الصَّغانيان. قاله في "لب اللباب" جـ 2 ص 72.

ص: 363

معين، وغيرهما علمَ ذلك. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن عديّ: لا بأس به.

قال البخاريّ: يقال: مات سنة تسع، أو سبع ومائتين بطَرَسُوس، وقال مُطيّن: مات سنة، تسع، وقال مرّة: سنة عشر، وفيها أرّخه ابن سعد، وزاد: كان ثقةً، سمع من غير واحد، وكان يَتَمَنَّعُ بالحديث، ثمّ حدث أياماً، ثم خرج إلى الثغر، فمات سنة عشر ومائتين في خلافة المأمون.

أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل"، والمصنف، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

3 -

(خلّاد بن سليمان) الحضرمي، أبو سليمان المصريّ، ثقة عابد [7].

روى عن خالد بن أبي عمران، ونافع مولى ابن عمر، ودَرّاج أبي السمح، وغيرهم. وعنه ابن وهب، وأبو سلمة الخزاعي، وسعيد بن أبي مريم، وغيرهم.

قال أبو سلمة الخُزَاعي: كان من الخائفين. وقال على بن الحسين بن الجنيد الرازي: كان مصرياً ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، إلا أنه ذكره فيمن اسمه "خالد"، ووهم في ذلك.

قال ابن يونس: مولده بإفريقية، توفّي سنة (178)، وكان من الخائفين، وكان خيّاطاً أميًّا لا يكتب. انفرد به المصنف بهذا الحديث فقط.

4 -

(خالد بن أبي عمران) التُّجِيبيّ، أبو عمر التونسيّ، قاضي إفريقية، فقيه صدوق [5]. قال ابن حبّان: واسم أبي عمران زيد.

روى عن عبد الله بن عمر مرسلاً، وعن عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وسالم بن عبد الله، ونافع مولى ابن عمر، وعروة بن الزبير، وغيرهم. وعنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، والليث بن سعد، وخلّاد بن سليمان، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، وكان لا يدلس. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال العجلي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو حاتم: لم يسمع من أبي أمامة. وقال ابن يونس: كان فقيه أهل المغرب، ومفتي أهل مصر والمغرب، وكان يقال: إنه مستجاب الدعوة، توفي بإفريقية سنة (129) قال: وقال ربيعة الأعرج: توفي بإفريقية سنة (125). روى له الجماعة، سوى البخاري، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (4497) وأعاده بعده (4498).

5 -

(عروة) بن الزبير الفقيه الحجة المدني [3] تقدم 40/ 44.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، تقدّمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

ص: 364

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى خلاد بن سليمان، فإنه من أفراده، وهو ثقة عابد، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله تعالى عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس جلساً) تدل "كان" على ملازمته لهذا الذكر، و"المجلس" بكسر الجيم: موضع الجلوس، وهو منصوب على الظرفية لـ"جلس" قياساً، لكون عامله من لفظه، كما قال في "الخلاصة":

وَشَرْطُ كَوْنِ ذَا مَقِيساً أَنْ يَقَعْ

ظَرْفاً لِمَا فِي أَصْلِهِ مَعْهُ اجْتَمَعْ

(أو صلّى) الظاهر أنها أرادت إذا فرغ من الصلاة، وهذا هو وجه إيراد المصنف رحمه الله له في جملة الأذكار التي تقال بعد التسليم، ويؤيده وصف هذا الذكر بكونه طابعاً، لأن الخاتم إنما يُختم به بعد تمام الشيء المختوم في نهايته، أو خارج ظرفه. والله تعالى أعلم.

ثم إن قولها: "صلّى" يعم الفرض والنفل (تكلّم) جواب "إذا"(بكلمات، فسألته عائشة) رضي الله تعالى عنها (عن الكلمات) أي عن ألفاظها (فقال) صلى الله عليه وسلم (إن تكلّم) الفاعل ضمير يعود إلى اسم الفاعل المفهوم من "تكلّم"، أي متكلّم، على رأي البصريين، لأنهم لا يجيزون حذف الفاعل، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فِعْلٍ فاعِلٌ فَإِن ظَهَرْ

فَهُوَ وَإِلَّا فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ

أو محذوف، تقديره "أحد"، أو "متكلّم" مثلاً على رأي الكسائي، لأن عنده يجوز حذفه (بخير كان) ذكر الضمير باعتبار المسؤول عنه، أي كان المسؤول عنه من الكلمات (طابعاً) بفتح الموحدة، وكسرها: الخاتم الذي يُختم به. قاله في "اللسان"، أي خاتماً يُختم به (عليهنّ إلى يوم القيامة) الضمير للخير، وإنما أعاد عليه ضمير المؤنثات مع كونه مذكّرا، لتأويله بالخيرات، وفيه إشارة إلى الترغيب في تكثير الخير، وتقليل الشر، حيث أعاد على الأول ضمير الجماعة، وأفرد ضمير الثاني في قوله:"كان كفارة له".

يعني: أنه إن تكلّم قبل هذا الذكر بخير، كأن يذكر الله تعالى، أو يعلّم الناس، أو يعظهم، ثم ذكر هذا الذكر عقبه كان هذا الذكر خاتماً يُختم به ذلك الخير، فلا يتطرّق إليه خلل إلى قيام الساعة.

ص: 365

وليس المراد التحديد بقيامها، وإنما المراد التأبيد، فلا يفهم منه أن يدخله الخلل بعد قيامها. والله تعالى أعلم.

(وإن تكلّم بغير ذلك) أي بغير الخير، بأن تكلّم بكلام سوء (كان) هذا الذكر (كفّارةً له) أي سبب مغفرة للذنب الحاصل بسببه.

وفيه دليل على استحباب ختم المجلس أي مجلس كان بهذا الذكر.

(سبحانك اللَّهم وبحمدك) هذا تفسير للكلمات، والجملة محكية في محل رفع خبراً لمبتدإ محذوف، تقديره: هي "سبحانك اللَّهم". وقد تقدم الكلام على هذه الجملة في أبواب افتتاح الصلاة بما فيه الكفاية (أستغفرك) أي أطلب منك ستر ذنوبي (وأتوب إليك) أي أرجع إليك من جمع المعاصي.

فإن قيل: كيف يجوز أن يقول: "وأتوب إليك"، وهو متلبس بالذنوب، فيكون كذباً عليه؟.

أجيب: بأن هذا ليس مجرّد إخبار، بل هو في معنى الطلب، كأنه قال: اللَّهم تب عليّ، فأتوبَ، فلا يقال: إنه يكون كذباً، فكيف يقوله من تلبّس بالذنب؟.

والحاصل أنه جاء النصّ والتعليم النبوي بأن يقوله كلّ من عمل صالحاً، أو سوءاً، فيكون للأول طابعاً، وللثاني مَحّاءً، فلا اعتراض على الشارع، بل الواجب أن نتبع السنة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث.

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

هذا الحديث من أفراد المصنف رحمه الله تعالى. أخرجه هنا -87/ 1344 - وفي "الكبرى" -121/ 1267 - و"عمل اليوم والليلة" 400 - عن محمد بن إسحاق الصاغاني، عن أبي سلمة الخزاعي، عن خلّاد بن سليمان، عن خالد بن أبي عمران، عن عروة، عنها. وفي "الكبرى" عن محمد بن سهل بن عسكر، عن سعيد بن أبي مريم، عن خلاد به نحوه. هكذا ذكره الحافظ أبو الحجاج المزيّ رحمه الله تعالى في "تحفة الأشراف" جـ 12 ص 4 - ولم أجد محله. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب هذا الذكر بعد التسليم

ص: 366

من الصلاة.

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الملازمة لهذا الذكر.

ومنها: بيان فضل هذا الذكر، فإنه مع كونه وجيزاً، غزيرُ الفائدة، فهو خاتم يُختم به العملُ الصالح، فلا يدخله بعده نقص ولا تبديل إلى يوم القيامة، ومحّاء يمحو الهفوات، وزَلّات اللسان، وهذا من فضل الله تعالى على عباده المؤمنين، حيث جعل لهم بكلمات معدودة أجراً عظيماً، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. وذلك بسبب اتباعهم لسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال سبحانه وتعالى في حقه:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} .

ومنها: ما كانت عليه عائشة من شدّة الحرص على تعلم الخير، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً، أو يقول قولاً إلا سألت عنه، وأفادت الأمّة به، فلهذا كانت أكثر أمهات المؤمنين حديثاً، فقد ثبت لها من الحديث في دواوين السنة (2210) حديثاً، ولم ينقل عنهنّ نصفه، بل ولا ربعه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع المآب.

المسألة الرابعة: هذا الذكر الوارد في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هو المعروف بكفارة المجلس، وقد ورد أيضاً من أحاديث الصحابة الآخرين، فمنهم: أبو هريرة رضي الله تعالى عنه:

أخرجه الترمذي في "جامعه"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، وابن حبّان في "صحيحه"، والطبراني في "الدعاء"، والحاكم في "المستدرك"، كلهم من رواية حجاج ابن محمد، عن ابن جريج، عن موسى بن عُقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس في مجلس، وكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلّا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك إلا غُفر له ما كان في مجلسه ذلك". هذا لفظ الترمذيّ، وقال: حسن صحيح غريب، لا نعرفه من حديث سُهيل إلا من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي برزة، وعائشة.

وقال الحاكم في "علوم الحديث" بعد أن أخرجه من طريق البخاري: قال البخاريّ: هذا حديث مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهيب، حدثنا موسى بن عُقبة، عن عون بن عبد الله قولَه، قال البخاريّ: هذا أولى، فإنا لا نذكر لموسى بن عقبة سماعاً من سهيل انتهى.

وقد أخرجه أبو داود في "السنن"، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "الدعاء" من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن أبي عمرو، عن سعيد

ص: 367

المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وعن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن سعيد المقبريّ، عن عبد الله بن عمرو، موقوفاً.

وذكر الحافظ العراقي رحمه الله: في "نكته" على ابن الصلاح أن هذا الحديث ورد من رواية جماعة من الصحابة، عدّتهم سبعة زائدة على ما ذكره الترمذي.

قال الحافظ رحمه الله: وقد تتبعت طرقه، فوجدته من رواية خمسة آخرين، فكملوا خمسة عشر نفساً، ومعهم صحابي لم يُسمّ، فلم أضفه إلى العدد، لاحتمال أن يكون أحدهم، ثم سرد أسماءهم، وسيأتي بيان ذلك في آخر هذا الشرح، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌88 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الذِّكّر وَالدُّعَاءِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ)

1345 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا قُدَامَةُ، عَنْ جَسْرَةَ، قَالَتْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَتْ: إِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ، فَقُلْتُ: كَذَبْتِ، فَقَالَتْ: بَلَى، إِنَّا لَنَقْرِضُ مِنْهُ الْجِلْدَ وَالثَّوْبَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ، وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ "، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَتْ، فَقَالَ: "صَدَقَتْ"، فَمَا صَلَّى بَعْدَ يَوْمَئِذٍ صَلَاةً، إِلاَّ قَالَ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: "رَبَّ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ أَعِذْنِي مِنْ حَرِّ النَّارِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك أبو الحُسين الرُّهَاويّ، ثقة حافظ [11] تقدم 38/ 42، من أفراد المصنف.

2 -

(يعلى) بن عُبيد بن أبي أميّة، أبو يوسف الطنافسيّ، ثقة، من كبار [9] تقدم 105/ 140.

3 -

(قُدَامة) بن عبد الله بن عبدة البكري العامريّ، أبو روح الكوفيّ، قيل: هو فُلَيت العامريّ، وثقه ابن حبّان [6] تقدّم 79/ 1010.

ص: 368

4 -

(جَسْرَة) بنت دَجَاجَة العامريّة الكوفية، وثقها العجلي، وابن حبّان، ويقال: لها صحبة [3] تقدّمت 79/ 1010.

وعائشة رضي الله عنها ذكرت في الباب السابق. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وعائشة رضي الله تعالى عنها. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن جسرة) بفتح الجيم، وسكون السين المهملة بنت دَجَاجَة بفتح الدال المهملة، أنها (قالت: حدّثتني عائشة رضي الله عنها، قالت: دخلت عليّ امرأة من اليهود، فقالت) أي تلك اليهودية (إن عذاب القبر من البول) هذا قالته مما تلقته من كتبهم، قالت عائشة (فقلت: كذبت) إنما كذّبتها بناءً على عدم علمها بعذاب القبر قبل ذلك، واعتمدت في ذلك على عادة اليهود في الكذب والتحريف (فقالت) أي اليهوديّة (بلى) ردّ لتكذيب عائشة رضي الله عنها لها في ذلك، أي إن عذاب القبر من البول ثابت، فـ"بلى" إيجاب للمنفيّ، لأن قولها:"كذبت" نفي لما ادعته من عذاب القبر من البول.

(إنا لنقرض) هذه الجملة تعليل لما قبلها، و"نقرض" مضارع قرَضَ الشيء من باب ضَرَب: إذا قطعه بالمِقْرَاضين (منه) أي من أجل البول، فـ"من" تعليلية، كما في قوله تعال:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} الآية [نوح: 25]، وقول الفرزدق في عليّ بن الحُسين:[من البسيط]:

يُغْضِي

(1)

حَيَاءٌ وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ

فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ

(2)

والكلام على تقدير محذوف، أي من التقصير في شأن البول، أو من عدم التنزّه من البول. والله تعالى أعلم.

(الجلد والثوب) قيل: المراد بـ"الجلد": الذي يلبسونه فوق أجسادهم، وبه جزم القرطبيّ، قال: وسمعت بعض أشياخنا يَحمل هذا على ظاهره، ويقول: إن ذلك من الإصر الذي حُمّلوه. ونقل ابنُ سيد الناس عن ابن دقيق العيد أنه كان يذهب إلى هذا. قال الشيخ ولي الدين العراقي: ويؤيده وواية الطبراني: "إن أحدهم كان إذا أصاب شيئاً من جسده بول قَرَضه بالمقاريض"، قال: والحديث إذا جمُعت طرقه

(1)

"الإغضاء": مقاربة ما بين الجفنين، ويطلق على الحلم. أفاده في "المصباح".

(2)

راجع "مغني اللبيب" جـ 1 ص 320.

ص: 369

تبيّن المراد منه انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حمله على ظاهره هو الراجح عندي، كما ذهب إليه ابن دقيق العيد، وأيّده ولي الدين رحمهما الله تعالى، فلا داعي إلى تأويل الجلد بالملبوس، وتقدّم الكلام في هذا في 26/ 30 - "البول إلى السترة يستتر بها" أوائل هذا الشرح، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة) أي من بيته إلى المسجد لأداء الصلاة فيه، ولعله كان يومئذ عند غير عائشة رضي الله تعالى عنها، أو كان عندها، ولكن كانت مخاصمتها لليهوديّة خارج البيت. والله تعالى أعلم.

(وقد ارتفعت أصواتنا) جملة حالية من "رسول الله"، والرابط الواو، أي والحال أنّ أصواتنا مرتفعة (فقال) صلى الله عليه وسلم (ما هذا؟) استفهام عن سبب ارتفاع أصواتهما (فأخبرته) بضم التاء ضميراً للمتكلّم، أي فقالت عائشة رضي الله عنها: أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم (بما قالت) أي اليهودية، من أن عذاب القبر من البول (فقال) صلى الله عليه وسلم (صدقت) أي فيما قالته من عذاب القبر من البول، وهذا قد تقدّم في -64/ 1308 - أنه صلى الله عليه وسلم إنما صدّقها بعدما جاءه الوحي بذلك (فما صلى) أي النبي صلى الله عليه وسلم (بعد يومئذ) أي بعد تصديقه لليهوديّة فيما قالت بعد أن أوحي إليه.

و"بعد" منصوب على الظرفية متعلّق بـ"صلى" مضاف إلى "يوم" وهو مضاف إلى "إذ"، ويجوز جرّه بالكسرة، وبناؤه على الفتح، وهو الأولى، لإضافته إلى مبنيّ، وهو "إذ"، كما قال في "الخلاصة":

وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كإِذْ قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوُ فِعْلٍ بُنِيَا

(صلاة) منصوب على أنه مفعول مطلق لـ"صلّى"(إلّا قال في دبر الصلاة) هذا محل استدلال المصنف رحمه الله على ما بوّب له، لأنه يدلّ على استحباب هذا الذكر دبر الصلاة، لكن في الاستدلال به نظر، لأن دبر الصلاة يشمل ما قبل التسليم، وما بعده، فالظاهر أن هذا الذكر مما يقال قبل السلام وبعده، ولا يتعيّن أن يكون بعده. فتأمل. والله تعالى أعلم.

(ربّ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل)"ربَّ": منادى بحذف حرف النداء، وهو جائز في سَعَة الكلام، كما قال الحريري رحمه الله في "مُلحَة الإعراب":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَاءِ"

(1)

"زهر الربى" جـ 3 ص 72.

ص: 370

وفي الرواية الآتية في "كتاب الاستعاذة" -56/ 5519 - : "اللَّهم رب جبرائيل، وميكائيل، ورب إسرافيل أعوذ بك من حرّ النار، ومن عذاب القبر".

ووجه تخصيص هؤلاء الملائكة بالذكر دون غيرهم من الملائكة، لكونهم السَّفَرَة بين الله تعالى وبين الخلائق، حيث إنّ المقادير الإلهية بين الخلائق تجري على أيديهم، فجبريل له السفارة في الوحي، فإنه ينزل إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالهدى لتبليغ الأمم، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصور للقيام من القبور، والحضور ليوم النشور، ليفوز الشَّكُور، ويُجازَى الكفور، وميكائيل موكّل بالقطر والنبات اللذين يُخلق منهما الأرزاق لجميع الحيوانات. والله تعالى أعلم.

(أعذني من حرّ النار) أي اعصمني، واحفظني منه، والاستعاذة من حرّها إما تعبير عن الأعلى بالأدنى، ويكون الاستعاذة من الأعلى بطريق الأولى، وإما أن يكون الحرّ عبارة عن جميع عذابها الذي أعدّه الله للعصاة من عباده، والأول أقرب. والله تعالى أعلم.

(ومن عذاب القبر) فيه إثبات عذاب القبر، وقد تقدّم الكلام عليه في -64/ 1308 - وسيأتي تمام البحث فيه في "كتاب الجنائز" إن شاء الله تعالى.

والحديث يدلّ على استحباب الدعاء بعد الفراغ من الصلاة بهذا الدعاء، ففيه دعاء الربّ سبحانه بوصفه أنه رب هؤلاء الملائكة المعظمين، ففي الإضافة إليهم إعلام بعظمة ربوبيته، وإظهار عبوديتهم له سبحانه، وإذا كان ربّ هؤلاء فبالأحرى أن يكون ربّ من سواهم ممن احتوى عليه ملكوت السموات والأرض. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا صحيح.

فإن قلت: في إسناده قُدَامة، قال عنه في "ت": مقبول.

قلت: قُدَامة روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبان، وقال الحافظ الذهبي في "الكاشف": وُثّق، ولم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد تابعه أبو حسّان العامريّ، عند المصنف في "كتاب الاستعاذة" -56/ 5519 - وهو صدوق، كما قال في "ت"، وقال فيه أحمد: لا بأس به، وقال أبو حاتم: شيخ، وقال الدارقطني: صالح، وصحح حديثه ابن خزيمة، وحسنه ابن القطان الفاسي. انظر ترجمته في "تت" جـ 1ص 185 - 186 - طبعة مؤسسة الرسالة الجديدة.

ص: 371

وأيضاً للحديث شواهد من أحاديث عائشة رضي الله عنها وغيرها، كما يأتي في "كتاب الاستعاذة".

والحاصل أن الحديث صحيح، ولا وجه لتضعيف بعضهم بسبب هذا الإسناد. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -88/ 1345 - وفي "الكبرى" -122/ 1268 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم -138 - عن أحمد بن سليمان، عن يعلى بن عُبيد، عن قُدَامة بن عبد الله العامري، عن جَسْرة بنت دَجَاجة، عنها. وفي -56/ 5519 - عن أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد، عن أبيه، عن إبراهيم بن طهمان عن سفيان بن سعيد، عن أبي حسّان فُليت العامري، عن جسرة، عنها. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب الدعاء بعد التسليم بهذا الدعاء، وقد تقدم أن الحديث ليس فيه التخصيص بما بعد السلام.

ومنها: إثبات عذاب القبر، وأن أكثره بسبب التقصير في شأن البول.

ومنها: وجوب الاهتمام في الاستبراء من البول، فلا يجوز أن يتوضأ، أو يغتسل حتى يتأكد من انقطاع أئر البول عن ظاهر المخرج، وقد يَتَساهل في هذا كثير من الناس، فيخرجون من محلّ البول، ويَشرَعُون في الوضوء، من غير تأكد من انقطاع أثر البول، وهذا خطر عظيم، قَلّ من يتنبه له، والله المستعان.

ومنها: بيان ما خفف الله تعالى عن هذه الأمة بسبب نبيها المرسل رحمةً للعالمين صلى الله عليه وسلم، من الأمور الشاقّة التي كانت على بني إسرائيل، فقد كان تطهير النجاسة عندهم بقطع محله، فكان في هذه الأمة بالغسل بالماء، وكانت التوبة فيهم بقتل النفس، فكانت فينا بالندم والإقلاع، والاستغفار، والعزم على أن لا يعود. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 372

‌89 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ)

1346 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ كَعْبًا حَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ الَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى، إِنَّا لَنَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ دَاوُدَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ:"اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي جَعَلْتَهُ لِي عِصْمَةً، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي جَعَلْتَ فِيهَا مَعَاشِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ نِقْمَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ".

قَالَ وَحَدَّثَنِي كَعْبٌ أَنَّ صُهَيْبًا حَدَّثَهُ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُهُنَّ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ صَلَاتِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عمرو بن سوّاد بن الأسود بن عمرو) العامري، أبو محمد المصريّ، ثقة [11] تقدم 45/ 594.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري الحافظ الثبت [9] تقدّم 9/ 9.

3 -

(حفص بن ميسرة) العُقَيلي، أبو عُمر الصنعاني نزيل عَسْقلان، ثقة ربما وهم [8].

روى عن زيد بن أسلم، وموسى بن عُقبة، وهشام بن عروة، وغيرهم. وعنه ابن وهب، وآدم بن أبي إياس، وسعيد بن منصور، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد: قال لي أبي: ليس به بأس، قلت: إنهم يقولون: عَرَض على زيد بن أسلم؟ فقال: ثقة. وقال ابن معين: ثقة، إنما يُطعن عليه أنه عَرَضَ، وقال مرّةَ: ليس به بأس، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال في موضع آخر: يُكتب حديثه، ومحلّه الصدق، وفي حديثه بعض الوهم. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة لا بأس به. قال الآجرّيّ، عن أبي داود: يضعّف في السماع. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الساجي: في حديثه ضعف، وقال الأزديّ: رَوَى عن العلاء مناكير يتكلمون فيه.

قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي: لا يُلتفت إلى قول الأزديّ.

ص: 373

قال أحمد، وابن يونس، وغيرهما: توفي سنة (181).

قال أحمد، والبخاريّ، والنسائي: إنه من صنعاء الشام، وهو قول الأكثر، كالفلّاس، ومحمد بن المثئى، ويعقوب بن سفيان، وغيرهم. وقال أبو حاتم: إنه من صنعاء اليمن، قال أبو القاسم: وهو أشبه. قال الحافظ: وصنيع أبي داود يدلّ عليه. أخرج له أبو داود في المراسيل، والباقون، إلا الترمذي، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

4 -

(موسى بن عُقبة) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، ثقة فقيه إمام في المغازي [5] تقدم 96/ 122.

5 -

(عطاء بن أيي مروان) الأسلميّ، أبو مصعب المدفي نزيل الكوفة، ثقة [6]. ووى عن أبيه. وعنه أبنه سعيد، وصالح بن كيسان، وعبد الملك بن عمير، وهما أكبر منه، وموسى بن عُقبة، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، وكذا قال ابن معين، والنسائي. وقال أبو داود: معروف. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية السَّفَّاح.، وكذا قال خليفة، وابن سعد، وزاد: كان قليل الحديث. انفرد به المصنف بهذا الحديث فقط.

6 -

(أبو مروان) مختلف في صحبته، قيل: اسمه سعد، وقيل: مغيث، وقيل: عبد الله بن مصعب، وقيل: غير ذلك.

روى عن عليّ، وأبي ذرّ، وأمّ المطاع الأسلمية، ولها صحبة، وكعب الأحبار، وغيرهم. وعنه ابنه عطاء، وعبد الرحمن بن مهران.

قال العجلي: مدني تابعي ثقة. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. وذكره أبو جعفر ابن جرير الطبريّ في أسماء مَنْ روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أبو مروان مُغيث بن عمرو، روى عنه ابنه عطاء

(1)

. وذكر الواقديّ، عن سعيد بن عطاء بن أبي مروان أنه حدّثه عن أبيه، عن جدّه مُغيث الأسلمى، قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه ما عز بن مالك، فذكر حديثًا. وقال الواقديّ في موضع آخر، عن صدقة بن عُتبة، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن جدّه أبي مغيث، قال: كنت فيمن حضر أهل النُّجَير، فصالح الأشعث بن قيس زيادًا -يعني ابن لبيد- على أن يؤمن من أهل النُّجَير سبعين رجلاً، ففعل. وقال النسائي: أبو مروان الأسلميّ غير معروف.

(1)

هكذا قال الحافظ المزّيّ، قال الحافظ: قلت: الذي ذكره ابن ماكولا في "الإكمال" الذي ذكر الطبري -بضم الميم، وإسكان المهملة، وكسر التاء المثناة، ثم الموحدة. اهـ "تت" جـ 4 ص 586.

ص: 374

انفرد به المصنف.

7 -

(كعب) بن ماتع الحِمْيَريّ، أبو إسحاق المعروف بـ"كعب الأحبار"، مخضرم ثقة [2] من آل ذي رُعَين، وقيل: من ذي الكَلَاع. يقال: أدرك الجاهلية، وأسلم في أيّام أبي بكر، وقيل: في أيام عمر.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعن عمر، وصُهَيب، وعائشة. وعنه معاوية، وأبو هريرة، وابن عبّاس، وأبو مروان الأسلمي، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وقال: كان على دين يهود، فأسلم، وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام، فسكن حمص حتى توفي بها سنة (32) في خلافة عثمان، وفيها أرّخه غير واحد. وقال ابن حبّان: مات سنة (4)، وقيل: سنة (32)، وقد بلغ مائة وأربع سنين.

وقال أبو مسهر: والذي حدّثني غير واحد أن كعبًا كان مسكنه باليمن، فقدم على أبي بكر، ثم أتى الشام، فمات به. وقال علي بن زيد بن جُدعان، عن سعيد بن المسيب: قال العباس لكعب: ما منعك أن تُسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى أسلمت الآن على عهد عمر؟ فقال كعب: إن أبي كتب لي كتابًا من التوراة، ودفعه إليّ، وقال: اعمل بهذا، وختم على سائر كتبه، وأخذ عليّ بحقّ الوالد على ولده أن لا أفضّ الخاتم، فلمّا كان الآن، ورأيت الإسلام يظهر، ولم أر بأسًا، قالت لي نفسي: لعل أباك غيّب عنك علمًا كتمك، فلو قرأته، ففضضتُ الخاتم، فقرأته، فوجدت فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فجئت الآن مسلمًا، فوالى العبّاس.

وقال ابن سعد: قالوا: ذكر أبو الدرداء كعبًا، فقال: إن عند ابن الحميريّ لعلمًا كثيرًا. وقال معاوية بن صالح، عن عبدالرحمن بن جُبير: قال معاوية: ألا إن أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إن عمرو بن العاص أحد الحكماء، ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنّا لمُفَرِّطين.

وروى البخاريّ من حديث الزهريّ، عن حُميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يُحدّث رهطًا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء المُحَدِّثين عن أهل الكتاب، وإن كنّا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.

قال الحافظ: هذا جميع ما له في البخاري، وليست هذه برواية عنه، فالعجب من المؤلف -يعني الحافظ المزيّ- كيف يُرقم له رقم البخاريّ، فيُوهم أن البخاريّ أخرج له.

وقال ابن الزبير: ما كان في سلطاني شيء إلّا قد حدّثني به، ولقد حدّثني أنه يظهر

ص: 375

على البيت قوم. أخرجه الفاكهي.

روى له أبو داود، والترمذيّ، والمصنف، وابن ماجه في "التفسير"، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده برقم (4955).

8 -

(صُهيب) بن سنان، أبو يحيى، وقيل: أبو غسّان النَّمَريّ، المعروف بالرومي، أصله من النَّمِر بن قاسط، سَبَته الروم من نِينَوَى. يقال: كان اسمه عبد الملك، وصهيب لقب، صحابي مشهور، مات بالمدينة سنة (38) تقدم في 6/ 1186.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله تعالى في "نتائج الأفكار" جـ 2 ص 218: ذكر النسائي الاختلاف في هذا السند، وقال: أبو مروان لا يعرف، وذكر غيره أنه صحابي، وعَدَّ هذا الحديث في رواية الصحابة عن التابعين، ويقال: إن اسمه مغيث -بمعجمة ومثلّثة- ويقال: مغيث أبوه، وباعتبار أن يكون تابعيّا يكون في السند أربعة من التابعين في نسق، أولهم موسى ابن عُقبة انتهى. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من ثمانيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم ثقات، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعي، ورواية موسى عن عطاء من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن موسى من الطبقة الخامسة. وعطاء من السادسة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي مروان) الأسلميّ (أن كعبًا) أي كعب الأحبار (حلف له بالله الذي فلق البحر) أي شقّه، يقال: فلقته فَلْقًا، من باب ضرب: شققته (لموسى إنا لنجد) الضمير لأهل الكتاب، بدليل أن المتكلّم واحد منهم، وهو كعب الأحبار (في التوراة) قيل: هي مأخوذة من "وَرَى الزَّنْدُ"، لأنها نور وضياء، وقيل: من التورية، وإنما قلبت الياء ألفًا على لغة طيء، وفيه نظر، لأنها غير عربيه. قاله الفيّومي (أن داود نبي الله صلى الله عليه وسلم)"نبي" بدل من "داود"، أو عطف بيان (كان إذا انصرف من صلاته) أي فرغ منها، وسلم (قال: اللَّهم أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمةً) بكسر العين المهملة، أي عاصما، ومجيء المصدر بمعنى الفاعل كثير، والعاصم: المانع والحامي.

يعني أن الله سبحانه وتعالى جعل الدين مانعًا يمنع العبد عن الوقوع في أسباب

ص: 376

الهلاك في الدنيا والآخرة، ويحميه عن وصول المضرّة إليه، فلا يقع في مخالفة يحصل له بسببها عقاب في الدنيا بإقامة الحد عليه، وفي الآخرة بدخول النار. والله أعلم (وأصلح لي دنياي) أضافها إليه، لكونه يعيش فيها، ويتمتّع بها (التي جعلت فيها معاشي) المراد به مدّة البقاء فيها، وإنما طلب صلاحها، لأن فيه صلاح الدين (اللَّهمّ إني أعوذ برضاك من سخطك) أي ألتجىء إليك متوسلاً برضاك من أَن تسخط علي، وتغضب.

والسخط بفتحتين: مصدر سخط، كفرح، وبضم، فسكون مصدر سماعي له، كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة":

وَفَعِلَ اللَّازِمُ بَابُهُ فَعَلْ

كَفَرَحٍ وَكَجَوًى وَكَشَلَلْ

وقال أيضًا:

وَمَا أَتَى مُخَالِفاً لِمَا مَضَى

فَبَابُهُ النَقْلُ كَسُخْطِ وَرِضَا

(وأعوذ بعفوك من نقمتك) بالكسر، وبالفتح، وككَلِمَة: الْمُكَافأة بالعقوبة، جمعه: نَقِمٌ ككلم، وعِنَب، وكلمات، ونَقَمَ منه، كضَرَب، وعَلِمَ، نَقْمًا، وتِنِقَّاماً، كتِكِلَّام، وانتقم: عاقبه، والأمر: كرهه. قاله في "ق". أي األتجىء إليك بعفوك لي، أن تحل عليّ نقمتك.

(وأعوذ بك منك) أي ألتجىء إليك متوسلاً بصفات جمالك عن صفات جلالك، وفيه إجمال بعد شيء من التفصيل، وتَعَوُّذ بجميع صفات الجمال عن صفات الجلال. وقد تقدّم البحث عنه مستوفى في "أبواب الطهارة" -120/ 169.

(لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد) تقدم قريبا شرح هذه الألفاظ (قال) أي أبو مروان الأسلمي (وحدّثني كعب) أي كعب الأحبار (أن صهيبًا) بن سنان الرُّومي رضي الله عنه (حدّثه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يقولهنّ عند انصرافه من صلاته) هذا موضع استدلال المصنف رحمه الله تعالى على ما ترجم له بقوله: "نوع آحر من الدعاء عند الانصراف من الصلاة"، وهو استدلال واضح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث صهيب رضي الله تعالى عنه هذا حسن.

فإن قلت: قد ضعفه الشيخ الألباني بسبب أبي مروان الأسلميّ، لقول النسائي عنه: ليس بالمعروف. فكيف يحَسّن؟

ص: 377

قلت: أبو مروان روى عنه أبنه عطاء، وعبد الرحمن بن مهران، كما تقدّم، ووثقه العجلي، وابن حبّان، وقال الحافظ الذهبي في "الكاشف" جـ 3 ص 376: مدني ثقة انتهى.

فمن كان حاله هكذا فحديثه لا ينزل عن درجة الحسن.

وقد صحح حديثه هذا ابنُ خزيمة، وابنُ حبّان، وقال الحافظ في "نتائج الأفكار": جـ 2 ص 318: هذا حديث حسن. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -89/ 1346 - وفي "الكبرى" -123/ 1269 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم 137 - وفي "السير" من "الكبرى" -149/ 8827 - عن عمرو بن سوّاد، عن ابن وهب، عن حفص بن ميسرة، عن موسى بن عُقبة، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، أن كعبا حدثه، أن صهيبًا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها:"اللَّهم رب السماوات وما أظللن، ورب الأرضين، وما أقللن، ورب الشياطين، وما أضللن، ورب الرياح، وما ذَرَين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها".

قال أبو عبد الرحمن: حفص بن ميسرة لا بأس به، وعبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف، خالفه عبد الرحمن بن أبي الزناد.

وفي "عمل اليوم والليلة" -545 - عن هارون بن عبد الله، عن سعد بن عبد الحميد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عُقبة، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن مغيث، عن كعب به. و-546 - عن إبراهيم بن يعقوب، عن عبد الله ابن محمد النُّفَيلي، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن أبي مغيث بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم

فذكره.

و-546 - عن زكريا بن يحيى، عن عمرو بن علي، عن عبد الله بن هارون، عن أبيه، عن ابن إسحاق، قال: حدثني من لا أتهم، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن أبي مغيث بن عمرو نحوه.

وأيضًا في "السير" من "الكبرى" -149/ 8826 - وفي "عمل اليوم والليلة" -543 - عن محمد بن نصر، عن أيوب بن سلميان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن أبي سهيل بن مالك، عن أبيه أنه سمع قراءة عمر، وهو يؤم الناس من دار أبي جهم، قال: وقال كعب: والذي فلق البحر لموسى إن صهيبًا حدثني

فذكر نحوه.

ص: 378

قال النسائي: أبو مروان ليس بالمعروف.

قال الحافظ المزي: رواه الفضيل بن سليمان، عن موسى بن عُقبة، كما قال حفص ابن ميسرة.

وقال: "رواه إسماعيل بن أبي أويس، عن عبد الرحمن بن أبى الزناد انتهى. انظر "تحفة الأشراف" جـ 4 ص 200 - 201. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية الدعاء عند الانصراف من الصلاة بالدعاء المذكور.

ومنها: أن الصلاة كانت مشروعة في شرع داود عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يدعو بهذا الدعاء عقبها.

ومنها: كون الدين عصمةً للعبد يعصمه من جميع مكاره الدنيا والآخرة، فينبغي له أن يتضرع إلى ربه أن يصلح له دينه.

ومنها: أن الدنيا معاش العبد، وهي مَتْجَرُهُ يربح فيها الأجر الجزيل الذي جزاءه الخلود المؤبد في الجنة، فلابد له من صلاحها ليتكمن من التجارة فيها، فلذا شرع له الطلب من الله تعالى أن يصلحها له.

ومنها: التعوذ من سخط الله تعالى، ومن نقمته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌90 - (باب التَّعَوُّذِ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ)

1347 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ الشَّحَّامِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ

(1)

: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ"، فَكُنْتُ أَقُولُهُنَّ، فَقَالَ أَبِي: أَيْ بُنَيَّ عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا؟ قُلْتُ: عَنْكَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُهُنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ).

(1)

وفي النسخة "الهندية": "في دبر كلّ صلاة".

ص: 379

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن علي) الفَلّاس البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان الإمام الحجة المشهور [9] تقدم 4/ 4.

3 -

(عثمان الشّحّام) العدوي، أبو سلمة البصريّ، يقال: اسم أبيه عبد الله، وقيل: ميمون، لا بأس به [6].

روى عن عكرمة، ومسلم بن أبي بكرة الثقفي، وأبي رجاء العُطَاريّ. وعنه إسرائيل، ووكيع، ويحيى القطان، وغيرهم.

قال يحيى القطان: تَعرف، وتُنكر، ولم يكن عندي بذاك. وقال أحمد: ليس به بأس. وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأسًا. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: ثقة، أو قال: لا بأس به، قد أعيى القرون -يعني اسم أبيه- فقلت: إنه وُجد بخط ابن معين: اسم أبيه ميمون، فأعجبه ذلك. وقال النسائي: ليس بالقويّ، وقال مرّةً: ليس به بأس، وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وجزم النسائي في "الكنى" بأنه عثمان بن مسلم. وكذا قال أبو أحمد، وقال: ليس بالمتين عندهم، وأسند عن وكيع أنه وثقه. وقال الدارقطني: بصريّ يُعتبر به. وقال ابن عديّ: ليس له كثير حديث، ولا أرى به بأسًا. روى له الجماعة، سوى البخاريّ وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

4 -

(مسلم بن أبي بكرة) نُفيع بن الحارث الثقفي البصري، صدوق [3].

روى عن أبيه. وعنه عثمان الشحّام، وسعيد بن جُمهان، وأبو الفضل بن خَلَف الأنصاريّ، وأبو حفص سعيد بن سَلَمَة.

قال العجلي: بصريّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال خليفة بن خيّاط: مات بعد الثمانين، وقيل: التسعين. روى له الجماعة، سوى البخاري، وابن ماجه، وله فى هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده برقم (5465).

5 -

(أبو بكرة) نُفَيع بن الحارث بن كَلَدَة الثقفي الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه، تقدّم 41/ 836. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو بكرة، وهو ممن لُقّب بصورة الكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن؛ وإنما لُقب بذلك؛ لأنه تدلّى من حصن الطائف ببكرة البئر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم. والله تعالى أعلم.

ص: 380

شرح الحديث

(عن مسلم بن أبي بكرة) الثقفي، أنه (قال: كان أبي) أي أبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه (يقول في دبر الصلاة) وفي نسخة "في دبر كل صلاة"(اللَّهم) أي يا الله (إني أعوذ بك من الكفر والفقر) الظاهر -والله أعلم- أراد الفقر الْمُدْقِع الذي لا يصحبه خير، ولا ورع حتى يتورط بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة، ولا يبالي بسبب فاقته على أيّ حرام وَثَب، ولا في أيّ حالة تورّط. وقيل: المراد به فقر النفس الذي لا يردّه مُلك الدنيا بحذافيرها

(1)

(وعذاب القبر) تقدم الكلام عليه قريبًا.

قال مسلم بن أبي بكرة (فكنت أقولهنّ) أي هؤلاء الكلمات، والظاهر أنه كان يقولهن في دبر الصلوات، كما سمع أباه (فقال أبي: أي بُنيّ) "أَيْ" حرف لنداء القريب، و"بُني" تصغير "ابن" (عمن أخذت هذا) الدعاء (قلت: عنك) متعلق بـ"أخذت" محذوفًا لدلالة السؤال عليه، والجملة مقول القول، أي قلت له: أخذته عنك (قال) أبو بكرة رضي الله عنه (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) بكسر همزة "إن" لكونها محكيّة بالقول (كان يقولهن في دبر الصلاة) أي عقبها.

وهذا محل استدلال المصنف رحمه الله تعالى على ما ترجم له، لأنه يدلّ على استحباب هذا الدعاء عقب الصلاة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -90/ 1347 - وفي "الكبرى" -124/ 1275 - عن عمرو الفلّاس، عن يحيى القطان، عن عثمان الشحّام، عن مسلم بن أبي بكرة، عن أبيه، وفي -16/ 5465 - عن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عديّ، عن عثمان الشحّام به. وفي

"الكبرى"، و"عمل اليوم والليلة" عن محمد بن عبد الله المقرىء، عن أبيه، عن سعيد ابن أبي أيوب، عن عبد الرحمن بن مرزوق، عن أبي سلمة البصري -وهو عثمان الشحّام- به

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

راجع "الفتح" جـ 12 ص 470.

(2)

هكذا ذكر الأخير الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" جـ 9 ص 57 ولم أجد موضعه من "الكبرى"، ولا من "عمل اليوم والليلة". فلينظر. والله تعالى أعلم.

ص: 381

المسألة الثالثة: في مشروعيّة الدعاء عقب الصلاة:

(اعلم): أنه عقد المصنف رحمه الله تعالى أبوابًا كثيرة، من رقم -79/ 1335 - إلى 90/ 1347 - لبيان الأحاديث التي تدلّ على مشروعية الدعاء دبر الصلاة، وأورد فيها أحاديث كثيرة مشتملة على دعوات كثيرة تقرأ عقب الصلاة، وإن كان بعضها مكرراً، وهذه الدعوات، وإن كانت محتملة لأن تكون قبل السلام، إلا أن الظاهر كونها بعد السلام، كما هو رأي المصنف رحمه الله تعالى، فإنه أوردها لذلك.

بعد أن ذكر أبوابا كثيرة للدعوات قبل السلام من رقم 57/ 1299 - إلى -56/ 1311 - .

وقد تبع في هذا الإمامَ البخاريَّ رحمه الله تعالى، حيث إنه عقد في "صحيحه" في "كتاب الدعوات" بابًا للدعاء في الصلاة، وبابًا للدعاء بعد الصلاة.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بعد ذكره بعض الأذكار عقب الصلوات: ما نصه:

وفي الذكر عقب الصلوات المكتوبات أحاديث أخر.

وجمهور أهل العلم على استحبابه، وقد روي عن علي، وابن عباس، وابن الزبير، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، وهو قول عطاء، والثوريّ، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، وخالف فيه طائفة قليلة من الكوفيين.

وقد تقدّم عن عبيدة السلْمَاني أنه عدّ التكبير عقب الصلاة من البدَع، ولعله أراد بإنكاره على مصعب أنه كان يقوله مستقبل القبلة قبل أن ينحرف ويجهر. كذلك هو في كتاب عبد الرزّاق

(1)

.

وإذا صحت السنّةُ، وعمل بها الصحابة، فلا نعدل عنها.

قال: واستحبّ أيضًا أصحابنا، وأصحاب الشافعىّ الدعاء عقب الصلوات، وذكر بعض الشافعية اتفاقًا.

واستدلّوا بحديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الدعاء أسمع؟، قال:"جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات". خرّجه الإمام أحمد، والترمذيّ، وحسّنه

(2)

.

واستدلّوا أيضا بحديث معاذ المتقدم "لا تَدَعنّ في دبر كلّ صلاة أن تقول: اللَّهم أعني على ذكرك

" الحديث.

(1)

راجع "المصنف" جـ 2 ص 245.

(2)

"الترمذي" رقم 399.

ص: 382

وقالت طائفة من أصحابنا، ومن الشافعية: يدعو الإمام للمأمومين عقب صلاة الفجر والعصر، لأنه لا يُتنفّل بعدهما.

وظاهر كلامهم أنه يجهر به، ويؤمّنون عليه، وفي ذلك نظر، وقد ذكرنا فيما تقدّم حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة جهرًا، وأنه لا يصحّ، ولم يصحّ في ذلك شيء عن السلف.

والمنقول عن الإمام أحمد أنه كان يجهر ببعض الذكر عقب الصلاة، ثم يسرّ بالباقي، ويعقد التسبيح والتكبير والتحميد سرًا، ويدعو سرًا.

ومن الفقهاء من يَستَحب للإمام الدعاء للمأمومين عقب كلّ صلاة، وليس في ذلك سنّة، ولا أثر يُتّبع. والله تعالى أعلم انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح": عند قول البخاري رحمه الله: "باب الدعاء بعد الصلاة": ما نصه:

وفي هذه الترجمة ردّ على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع، متمسّكًا بالحديث الذي أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن الحارث، عن عائشة رضي الله عنها:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلّم لا يثبت إلا قدر ما يقول: اللَّهمّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".

والجواب أن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالسًا على هيئته قبل السلام إلا بقدر ما ذُكر، فقد ثبت أنه كان إذا صلّى أقبل على أصحابه. فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل على أصحابه.

قال ابن القيّم في "الهدي النبويّ": وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، سواء الإمام، والمنفرد، والمأموم، فلم يكن ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح، ولا حسن، وخصّ بعضهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما استحسان رآه من رآه عوضًا من السنّة بعدهما، قال: وعامّة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، قال: وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربّه مناجيه، فإذا سلّم منها انقطعت المناجاة، وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته، والقرب منه، وهو مقبل عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه؟، ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحبّ لمن أتى بها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يفرغ منها، ويدعو بما

(1)

"شرح البخاري" جـ 7 ص 420 - 421.

ص: 383

شاء، ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهي الذكر، لا لكونه دبر المكتوبة انتهى كلام ابن القيّم.

قال الحافظ رحمه الله: وما ادعاه من النفي مطلقًا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"يا معاذ إني والله لأحبك، فلا تدع دبر كلّ صلاة أن تقول: اللَّهم أعنّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك". أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبّان، والحاكم.

وحديث أبي بكرة رضي الله عنه في قول: "اللَّهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وعذاب القبر كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهنّ دبر كلّ صلاة". أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وصححه الحاكم.

وحديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه كان يعلّم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلّم المكَتِّبُ الغلمان، ويقول. إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ بهنّ دبر الصلاة:"اللَّهمّ إني أعوذ بك من الجُبْن، وأعوذ بك من البُخْل، وأعوذ بك من أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر" أخرجه البخاري، والنسائي

(1)

.

وحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر كلّ صلاة: "اللَّهمّ ربّنا، وربّ كلّ شيء

" الحديث. أخرجه أبو داود، والنسائي

(2)

.

وحديث صهيب رضي الله عنه رفعه: "كان يقول إذا انصرف من الصلاة: اللَّهم أصلح لي ديني

" الحديث. أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبّان. وغير ذلك.

فإن قيل: المراد بدبر كلّ صلاة قرب آخرها، وهو التشهد.

قلنا: قد ورد الأمر بالذكر دبر كلّ صلاة، والمراد به بعد السلام إجماعًا، فكذا هذا، حتى يثبت ما يخالفه.

وقد أخرج الترمذيّ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: قيل: يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبات". وقال: حسن.

وأخرج الطبري من رواية جعفر بن محمد الصادق، قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة، كفضل المكتوبة على النافلة.

وفهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيّم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقًا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة، وإيراده بعد السلام، وأما إذا انتقل بوجهه، أو قدّم الأذكار المشرعة، فلا يمتنع عنده الإتيان

(1)

سيأتي للمصنف برقم 6/ 5447 في "كتاب الاستعاذة".

(2)

أخرجه أبو داود رقم 1058 والنسائي في "عمل اليوم والليلة" 101 وأحمد 4/ 369.

ص: 384

بالدعاء حينئذ انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

. وهو تحقيق نفيس جدًّا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخص مما ذكر من الأدلّة أن الدعاء عقب الصلاة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً، وفعلاً، فلا يسع أحدًا إنكاره.

وأمّا تأويل قوله: "دبر كلّ صلاة" بأنه قبل السلام، لأن دبر الحيوان منه، فغير مسلّم، لأنه صلى الله عليه وسلم علّمهم تلك الأذكار والدعوات، وأمرهم أن يجعلوها دبر كل صلاة، فلا يصحّ حمل بعضها على ما قبل السلام، كالدعوات، وبعضها على بعده، كالتسبيح، وقراءة أية الكرسيّ، إذ لا دليل على التفريق، ولاسيما وبعضها فيه التصريح بأنه بعد السلام.

فقد أخرج ابن خزيمة في "صحيحه" -رقم 743 - عن عليّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا فرغ من صلاته، فسلّم قال:"اللَّهم اغفر لي ما قدّمت، وما أخّرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدّم، وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت".

والحاصل أن الذكر والدعاء بعد السلام من الصلاة مشروع، كما هو مذهب البخاريّ، والنسائي، وقد تقدّم في كلام الحافظ ابن رجب، أنه مذهب الإمام أحمد، بل نقل أن أصحاب أحمد، وأصحاب الشافعي استحبوا الدعاء عقب الصلوات، وذكره بعض الشافعية اتفاقًا انتهى.

فإذا ثبتت الأحاديث بذلك، وعمل بها أهل العلم، أو بعضهم، فلا وجه للإنكار.

وأما ما اعتاده الناس الآن في كثير من البلدان، من الدعاء الجماعي بعد الصلاة بأن يدعو الإمام، أو غيره، ويُؤمّن القوم فلم، يصحّ له دليل، ولا هو منقول عن السلف، كما تقدّم عن الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، فالحذر كلّ الحذر من إحداث ما لم يكن في عهد السلف، فإن ذلك بلا ريب سبب التلف. اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه برحمتك يا أرحم الراحمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في حكم رفع اليدين عند الدعاء:

(اعلم): أنه لم يذكر المصنف رحمه الله تعالى أحاديث رفع اليدين في الدعاء، وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله تعالى بابًا في "صحيحه". فقال في "كتاب الدعوات":

"باب رفع الأيدي في الدعاء": وقال أبو موسى الأشعريّ: دعا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفع

(1)

"فتح" جـ 12 ص 419.

ص: 385

يديه، حتى رأيت بياض إبطيه.

وقال ابن عمر: رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، وقال:"اللَّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد".

قال أبو عبد الله: وقال الأويسيّ: حدّثني محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد، وشريك، سمعا أنسًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.

قال في "الفتح": وفي الحديث الأول ردّ على من قال: لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء، بل فيه، وفي الذي بعده ردّ على من قال: لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلاً، وتمسك بحديث أنس رضي الله عنه:"لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلّا في الاستسقاء". وهو صحيح، لكن جُمع بينه وبين أحاديث الباب، وما في معناها بأن المنفيّ صفة خاصّة، لا أصل الرفع.

وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كلّ منهما "حتى يُرى بياض إبطيه"، بل يُجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره.

وإما بأن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض، وفي الدعاء يليان السماء.

قال المنذريّ رحمه الله: وبتقدير تعذّر الجمع، فجانب الإثبات أرجح.

قال الحافظ: ولاسيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك، فإن فيه أحاديث كثيرة، أفردها المنذريّ في جزء سَرَد منها النووي في "الأذكار"، وفي "شرح المهذب" جملة، وعقد لها البخاريّ أيضًا في "الأدب المفرد" بابًا ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قَدِمَ الطُّفَيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن دَوْسًا عصت، فادع الله عليها، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، فقال:"اللَّهم اهد دوسًا"، وهو في "الصحيحين"، دون قوله:"ورفع يديه".

وحديث جابر: "أن الطفيل بن عمرو هاجر"، فذكر قصّة الرجل الذي هاجر معه، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم وليديه فاغفر، ورفع يديه". وسنده صحيح، وأخرجه مسلم.

وحديث عائشة رضي الله عنها أنها "رأت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعًا يديه، يقول: اللَّهم إنما أنا بشر

" الحديث، وهو صحيح الإسناد.

ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك: ما أخرجه البخاري في "جزء رفع اليدين": "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه، يدعو لعثمان".

ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه في قصّة الكسوف "فانتهيت إلى

ص: 386

النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رافع يديه يدعو".

وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضًا: "ئم رفع يديه يدعو".

وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع: "فرفع يديه ثلاث مرّات

" الحديث.

ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل في فتح مكة: "فرفع يديه، وجعل يدعو".

وفي "الصحيحين" من حديث أبي حميد رضي الله عنه في قصة ابن اللُّتَبِيَّة "ثم رفع يديه حتى رأيت عُفرة إبطه يقول: اللَّهم هل بلّغت".

ومن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم وعيسى، فرفع يديه، وقال: اللَّهم أمتي".

وفي حديث عمر رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يُسمَعُ عند وجهه كدَوِيّ النَّحْل، فأنزل الله عليه يومًا، ثم سُرّي عنه، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، ودعا

" الحديث. أخرجه الترمذي، واللفظ له، والنسائي، والحاكم.

وفي حديث أسامة رضي الله عنه: "كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناوله بإحدى يديه، وهو رافع يده الأخرى". أخرجه النسائي بسند جيد

(1)

.

وفي حديث قيس بن سعد رضي الله عنه عن أبي داود: "ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وهو يقول: اللَّهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة

" الحديث، وسنده جيّد.

والأحاديث في ذلك كثيرة.

وأما ما أخرجه مسلم من حديث عُمارة بن رُوَيبة -براء، وموحدة، مصغرًا- "أنه وأى بشر بن مروان يرفع يديه، فأنكر ذلك، وقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يزيد على هذا، يشير بالسبّابة".

فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره، وقال: السنّة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، وردّه بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة، وهو ظاهر في سياق الحديث، فلا معنى للتمسّك به في منع رفع اليدين في الدعاء، مع ثبوت الأخبار -الصحيحة- بمشروعيتها.

وقد أخرج أبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، وغيرهما من حديث سلمان رضي الله عنه، رفعه:"إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صِفْرًا".

(1)

سيأتي في "كتاب الحج" برقم 202/ 3011.

ص: 387

بكسر المهملة، وسكون الفاء- أي خالية، وسنده جيد.

قال الطبريّ: وكره رفعَ اليدين في الدعاء ابنُ عمر، وجُبيرُ بن مطعم، ورأى شُرَيح رجلاً يرفع يديه داعيًا، فقال: من تتناول بهما، لا أُمّ لك؟، وساق الطبري ذلك بأسانيده عنهم.

وذكر ابن التين عن عبد الله بن عمر بن غانم أنه نقل عن مالك أن وفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء، قال: وقال في "المدوّنة": ويختصّ الرفع بالاستسقاء، ويجعل بطونهما إلى الأرض.

وأما ما نقله الطبريّ عن ابن عمر، فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين، وقال: ليجعلهما حذو صدره، كذلك أسنده الطبري عنه أيضًا.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه صفة الدعاء.

وأخرج أبو داود، والحاكم عنه من وجه آخر، قال:"المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمدّ يديك جميعًا".

وأخرج الطبريّ من وجه آخر عنه، قال: يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه.

وقد صحّ عن ابن عمر رضي الله عنهما خلاف ما تقدّم، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق القاسم بن محمد:"رأيت ابن عمر يدعو عند القاصّ، يرفع يديه حتى يُحاذي بهما منكبيه باطنهما مما يليه، وظاهرهما مما يلي وجهه" انتهى كلام الحافظ رحمه الله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكر من الأحاديث أن رفع اليدين في الدعاء مشروع، بل هو من أسباب إجابة الدعاء، كما بُيّن ذلك في حديث سلمان رضي الله تعالى عنه:"إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرًا". فلا ينبغي للداعي أن يهمل رفع يديه في دعائه رجاءَ القبول.

وأما القائلون بكراهة رفع اليدين في الدعاء، فيُعتذر عنهم بأنه لم تَصِل إليهم هذه الأحاديث الصحاح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي، إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" جـ 12 ص 428 - 430.

ص: 388

‌91 - (عَدَدِ التَّسْبِيحِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ)

1348 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَلَّتَانِ لَا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُمَا يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ"، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، يُسَبِّحُ أَحَدُكُمْ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيُكَبِّرُ عَشْرًا، فَهِيَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ فِي اللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ"، وَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْقِدُهُنَّ بِيَدِهِ، "وَإِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ"، أَوْ "مَضْجَعِهِ سَبَّحَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهِيَ مِائَةٌ عَلَى اللِّسَانِ، وَأَلْفٌ فِي الْمِيزَانِ"، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَأَيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ سَيِّئَةٍ؟ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ لَا نُحْصِيهِمَا؟، فَقَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ، وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، وَيَأْتِيهِ عِنْدَ مَنَامِهِ، فَيُنِيمُهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يحيى بن حبيب بن عربي) البصري، ثقة [10] تقدّم 60/ 75.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الحافظ الحجة الثبت [8] تقدم 3/ 3.

3 -

(عطاء بن السائب) الثقفي الكوفي، صدوق اختلط، لكن رواية حماد بن زيد عنه قبل الاختلاط [5] تقدّم 152/ 243.

4 -

(أبوه) هو السائب بن مالك، أو ابن يزيد، أو ابن زيد، الثقفي الكوفي، ثقة [2] تقدّم 62/ 1305.

5 -

(عبد الله بن عمرو) بن العاص الصحابي ابن الصحابي، رضي الله عنهما، تقدّم 89/ 111. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، ولا يقال: إن عطاء بن السائب ممن اختلط؛ لأنا نقول: إن حماد بن زيد ممن روى عنه قبل الاختلاط، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

ص: 389

شرح الحديث

(عن عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَلَّتان) هما المفسّران بقوله: "الصلوات الخمس الخ"، وبقوله:"وإذا أوى أحدكم إلى فراشه".

وهما: تثنية "خَلَّة" بفتح المعجمة، وتشديد اللام، كالخَصْلَة وزنًا ومعنى، وفي نسخة "خصلتان"(لا يُحصيهما) من الإحصاء، أي لا يُحافظ، ولا يداوم عليهما (رجل مسلم) إنما خص المسلم لأنه الذي ينتفع، بالأعمال الصالحات، وأما غيره، وإن عملها فلا ينتفع بها، لأنَّ شركه يُحبط عمله، قال الله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23] والله تعالى أعلم.

(إلا دخل الجنة) وفي رواية لأحمد من طريق جرير، عن عطاء بن السائب:"خلّتان من حافظ عليهما أدخلتاه الجنة"(وهما يسير) أفرد الخبر مع كون المبتدأ مثنى، لأن "فعيلاً" بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد، والمثنّى، والجمع، كالجريح، والقتيل (ومن يعمل بهما قليل) يعنى أن الموفق للعمل بهما قليل، لتسلط الشيطان على كثير من الناس، وصَدّه لهم عن الخيرات.

(قال) عبد الله بن عمرو (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) مفسراً إحدى الخَلَّتَين (الصلوات الخمس) مبتدأ، خبره الجملة التي بعده، والرابط محذوف، والتقدير: الصلوات الخمس يُسبّح أحدكم في دبر كل صلاة منها. وفي نسخة "الصلاة"، والمراد الجنس.

(يُسبح أحدكم في دبر كل صلاة) وفي رواية أحمد المذكورة: "في دبر كل صلاة مكتوبة"(عشرًا) أي عشر مرّات (ويحمد) بفتح الياء، والميم المخففة، من باب فَرح، من الحَمْد (عشرًا، ويكبّر عشرًا، فهي خمسون ومائة) مبتدأ وخبره، أي هذه الأعداد مائة وخمسون، لأن الصلاة الواحدة بعدها عشر تسبيحات، وعشر تحميدات، وعشر تكبيرات، فتلك ثلاثون، فإذا ضربت في خمس صلوات، صارت مائة وخمسين، وقد صُرّح بهذا عند المصنّف في "عمل اليوم والليلة" من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، بلفظ:"ما يمنع أحدكم أن يسبّح دبر كلّ صلاة عشرًا، ويكبّر عشرًا، ويَحْمَدَ عشرًا، فذاك في خمس صلوات خمسون ومائة"، ثم ساق الحديث بنحو حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

(1)

(في) وفي نسخة "على"(اللسان، وألفٌ وخمسمائة في الميزان) وذلك لأن كلّ حسنة بعشر أمثالها، فيحصل من تضعيف المائة والخمسين عشر مرّات ألف

(1)

راجع "نيل الأوطار" جـ 2 ص 356.

ص: 390

وخمسائة.

والحديث يدلّ على مشروعيّة التسبيح والتكبير، والتحميد بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة، وتكريره عشر مرّات. وسيأتي ما يدلّ على أعداد مخالفة لهذا، ويأتي وجه الجمع بين الاختلاف في ذلك في الباب التالي إن شاء الله تعالى.

قال عبد الله بن عمرو (وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهنّ بيده) أي يضبطهن، ويحفظ عددهن بيده.

وفي رواية أبي داود من طريق محمد بن قُدامة، عن عَثّام، عن الأعمش، عن عطاء:"بيمينه"، وإسنادها صحيح.

وفيه استحباب عقد التسبيح باليد اليُمْنَى، وسيأتي للمصنف إن شاء الله تعالى:"باب عقد التسبيح" -97/ 1355.

ثم ذكر تفسير الخَلَّة الثانية، بقوله:

(وإذا أوى أحدكم إلى فراشه أو) قال (مضجعه) فـ"أو" للشك من بعض الرواة.

و"المضجع" بفتح الميم، والجيم، كمَقْعَدة موضع الضُّجوع، وهو وضع الجنب في الأرض (سبّح) وفي نسخة "يسبّح"(ثلاثًا وثلاثين وحمد) وفي نسخة "ويحمد"(ثلاثًا وثلاثين، وكبّر أربعًا وثلاثين، فهي مائة على اللسان، وألف في الميزان، قال) عبد الله (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأيكم) اسم استفهام في محلّ الرفع مبتدأ، خبره جملة قوله (يعمل في كلّ يوم وليلة ألفين وخمسمائة سيّئة؟) أي حتى تُساويَ هذه الحسنات، ولا يَبْقَى منها شيء، أي بل السيئآت في العادة أقلّ من هذا، فتغلب عليها الحسنات الحاصلة بهذا الذكر المبارك.

وهذا فيه استبعاد لوقوع السيّئآت الكثيرة من المسلم، فلا ينبغي له أن يتجاسر على السيّئآت الكثيرة، حتى تتجاوز هذه الحسنات، التي تكفر ما قابلته من السيّئآت، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية [هود: 114]، بل يجتهد في البعد عنها، وإن وقعت منه، فليجتهد في تقليلها.

(قيل: يا رسول الله، وكيف لا نحصيهما؟) أي كيف لا نُحافظ عليهما، وقد أخبرتنا بفضلهما.

والمعنى: أنه لا مانع لدينا من المحافظة على هاتين الخلّتين. وفي نسخة: "لا يحصيهما" بالياء، وفي رواية أحمد:"قالوا: كيف من يعمل بهما قليل؟ "(فقال: إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته) أي في داخل صلاته قبل أن يسلّم منها، وإنما يأتيه قبل السلام ليسرع الخروج منها، ولا يجلسَ بعدها ولو قليلا (فيقول: اذكر كذا، اذكر

ص: 391

كذا) زاد أحمد في رواية له: "فلا يقولها".

يعني أنه يذكره الأشياء التي تشغل باله، وتأخذ فكره، وتحمله على إلانصراف مسرعا، ولا يذكر الله تعالى عقب الصلاة، لا كثيرًا، ولا قليلاً.

(ويأتيه عند منامه) بفتح الميم يحتمل أن يكون مصدرًا ميميًّا، أي عند نومه، ويحتمل أن يكون ظرف مكان، أي عند وقت نومه، أو محله (فيُنيمه) بضم حرف المضارعة، من أنامه: إذا حمله على النوم، وفي بعض الروايات:"فينوّمه" من التنويم، زاد أحمد في روايةٍ:"فلا يقولها". أي يحمله على أن ينام دون أن يذكر الله تعالى.

وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد -والله أعلم- بهذا التنبيهَ لهم، حيث رآهم مُتَحَمِّسِين لاغتنام هذه الفضيلة على أن ثَمّ مانعًا قويًّا، وهو الشيطان، فإنه لا يقدر على التغلب عليه إلا مَن أعانه الله تعالى، وكان من عباده الذين قال تعالى في حقهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الحجر: 42].

وهو العدوّ المبين الذي أمر الله تعالى باتخاذه عدوًّا، فقال:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6].

وهو العدو اللَّدُود الذي يصعب الحذر منه، حيث إنه يرانا من حيث لا نراه، كما قال تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} الآية [الأعراف: 27].

ومن المعلوم أن العدو الذي لا يُرَى يَصعُبُ التخلّص منه، فليس هناك إلا الالتجاء إلى من بيده ناصية كل شيء، والتوكل عليه، وهو الله تعالى، فإن من توكل عليه كفاه، ومن تحصّن به وقاه، كما أخبر بذلك في محكم كتابه، فقال:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99]، وقال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الآية: [الزمر: 36]، وقال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الآية: [الطلاق: 3].

فينبغي للعبد أن يكون دائم التوكل عليه، ورافعًا أكفّ الضراعة إليه، إنه سميع عليم، وهو بعباده رؤوف رحيم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح، ولا يضرّ وجود عطاء ابن السائب في سنده -وهو مختلط- لأن حماد بن زيد ممن روى عنه قبل الاختلاط، كما تقدم بيانه في 152/ 243.

وقد حقق الحافظ رحمه الله تعالى الكلام في هذا الحديث في "نتائج الأفكار": فقال:

ص: 392

هذا حديث صحيح، أخرجه أحمد عن عبد الرزاق، عن الثوريّ -وأبو داود من رواية شعبة- والترمذي من رواية ابن علية -والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" جميعًا من رواية حماد بن زيد- أربعتهم عن عطاء بن السائب.

وقول الشيخ -يعني النووي-: إن عطاء بن السائب مختلف فيه من أجل أختلاطه. لا أثر لذلك، لأن شعبة، والثوريّ، وحماد بن زيد سمعوا منه قبل اختلاطه، وقد اتفقوا على أن الثقة إذا تميّز ما حدث به قبل اختلاطه مما بعده قُبِلَ، وهذا من ذلك.

قال: يؤيد ذلك ما نُقل عن أيوب -يعني السختياني-، ثم أورد بسنده عن حماد بن زيد، قال: قَدِمَ عطاءُ بن السائب البصرةَ، فقال لنا أيوب: اذهبوا إليه، فاسألوه عن حديث التسبيح -يعني هذا الحديث-.

ثم أخرج بسنده عن حماد ما هو أصرحُ من هذا، قال: كان أيوب حدثنا بهذا الحديث عن عطاء بن السائب، فذكره بطوله، قال: فلما قدم عطاء بن السائب البصرة، قال لنا أيوب: اذهبوا، فاسمعوا من عطاء.

قال: فدل هذا على أن عطاء حدّث به قديمًا، بحيث حدث به عنه أيوب في حياته، وهو من أقرانه، أو أكبر منه، لكن في كون هذا حُكْمًا من أيوب بصحة هذا الحديث نظر؛ لأن الظاهر أنه قصد لهم علوّ الإسناد. ووالد عطاء الذي تفرّد بهذا الحديث لم يخرج له الشيخان، لكنّه ثقة، ولحديثه شاهد قويّ، فلذلك صححتُه، والله أعلم.

ثم أورد الشاهد الذي أشار إليه بسنده عن الحسن بن عَرَفة، عن المبارك بن سعيد -أخي سفيان الثوري-، عن موسى الْجُهَنيّ، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيَمنَعُ أحَدَكم أن يكبّر في دبر كلّ صلاة عشرًا، ويسبح عشرًا، ويحمد عشرًا، فذلك في خمس صلوات خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، فإذا أوى إلى فرأشه يكبر الله عز وجل أربعًا وثلاثين، ويحمده ثلاثًا وثلاثين، ويُسبّحه ثلاثا وثلاثين، فذلك مائة باللسان، وألف في الميزان"، قال: ثم قال: "وأيكم يعمل في يومه ألفين وخمسين سيئة؟ ".

هذا حديث حسن من هذا الوجه.

أخرجه النسائي في "اليوم والليلة" عن زكريا بن يحيى، عن الحسن بن عرفة. قال النسائي: خالفه شعبة، وغيره في لفظه

(1)

.

ثم أخرج بسنده عن عبد بن حُمَيد، عن جعفر بن عوف، عن موسى الجهني

(2)

، عن

(1)

"عمل اليوم والليلة" رقم (153).

(2)

وقع في "النتائج""الذهلي" بدل "الجهني"، والظاهر أنه تصحيف.

ص: 393

مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيعجز أحدكم أن يكسب في اليوم ألف حسنة، يسبّح الله مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، وعفا عنه بها ألف خطيئة".

هذا حديث صحيح أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن نمير، وعلي بن مسهر، ومروان بن معاوية.

وأخرجه الترمذي، والنسائي من طريق يحيى القطان، كلهم عن موسى الجهني.

وأخرجه أحمد عن عبد الله بن نمير، عن موسى.

وأبو عوانة في "صحيحه" عن أبي بكر بن إسحاق، عن جعفر بن عون، كما سبق.

قال: وتفرّدَ المبارك بنُ سعيد باللفظ الأول، وهو ثقة عند أبن معين وغيره، فاحتمل أن يكون عند موسى الجهني بالإسناد المذكور حديثان. والله أعلم انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى ملخصًا

(1)

. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -91/ 1348 - وفي "الكبرى" -125/ 1271 - عن يحيى بن حبيب بن عربيّ، عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عنه. وفي 97/ 1355 - و"الكبرى" -131/ 1278 - عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، والحسين بن محمد الذارع، كلاهما عن عَثَّام بن علي، عن الأعمش، عن عطاء بن السائب به مختصرًا بلفظ:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح". وفي "عمل اليوم والليلة" رقم -813 - عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، عن أسد بن موسى، عن سليمان بن حيّان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عطاء به. وفي -819 - عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان، عن عطاء به. وفي -820 - عن أحمد بن سليمان، عن يزيد، عن العوَّام، عن عطاء به.

وأخرجه (د) رقم 1502 (ت) 3410 و3411 و3486 (ق) 926 (الحميدي) 583 (أحمد) 2/ 160 و2/ 254 (عبد بن حُميد) 356 (البخاري في الأدب المفرد)1216.

قال الحميدي: قال سفيان: هذا أول شيء سألنا عطاء عنه، وكان أيوب أمر الناس حين قدم عطاء البصرة أن يأتوه، فيسألوه عن هذا الحديث.

وقال عبد الله بن أحمد عقب رواية شعبة: سمعت عُبيد الله القواريريّ، قال: سمعت حماد بن زيد يقول: قدم علينا عطاء بن السائب البصرة، فقال لنا أيوب: ائتوه. فاسألوه

(1)

"نتائج الأفكار" جـ 2 ص 266 - 272.

ص: 394

عن حديث التسبيح -يعني هذا الحديث- انتهى. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله، وهو بيان عدد التسبيح الذي يقال عقب الصلاة.

ومنها: بيان فضل هذه الأذكار، وبيان فضل الله تعالى على هذه الأمة، حيث جعل لها على الأعمال القليلة الأجر الجزيل.

ومنها: الترغيب على ملازمة هذه الأذكار، وعدم التكاسل، والتشاغل عنها، لأنه حرمان عظيم عن الثواب الجسيم.

ومنها: استحباب عقد التسبيح باليد، ولا ينبغي أن يستعمل المسبحة ولا غيرها فيه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعدّها بغير اليد، وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} الآية [الأحزاب: 21].

ومنها: الحث على تكثير الحسنات حتى تذهب السيئآت.

ومنها: بيان حرص الشيطان على تثبيط الإنسان عن اكتساب الخيرات، والصدّ عن ذكر الله تعالى، والحمل على الغفلة حتى تستولي الغفلة عليه، ويكون من الخاسرين، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌92 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنْ عَدَدِ التَّسْبِيحِ)

1349 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ أَسْبَاطٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ، يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُكَبِّرُهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن إسماعيل بن سَمُرَة) الأحمسيّ -بمهملتين- أبو جعفر الكوفي السرّاج، ثقة [10].

ص: 395

روى عن أبي معاوية، وابن عيينة، وأسباط، وغيرهم. وعنه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: سُئل عنه أبي؟ فقال: صدوق، وسمعت منه مع أبي، وهو صدوق ثقة. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو القاسم: مات سنة (260) في جمادى الأولى، ويقال: سنة (58). تفرّد به الترمذي، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، و (2224)"الصوم جنّة".

2 -

(أسباط) بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة القُرشيّ مولاهم، أبو محمد، ثقة ضُعّف في الثوريّ [9].

روى عن الأعمش، ومطرّف بن طَريف، ومحمد بن عجلان، وغيرهم. وعنه أحمد ابن حنبل، وابنه عُبيد، وابن أبي شيبة، وابن نمير، وغيرهم.

قال محمد بن عبد الله بن عمّار الموصلي: قال لنا وكيع: اسمعوا منه، فسمعنا منه، وكان حديثه ثلاثة آلاف. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس به بأس، وكان يُخطىء عن سفيان. وقال أحمد: إنه أحبّ إليّ من الخفّاف. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الغَلَابي عنه: ثقة، والكوفيون يُضعفونه. وقال البَرْقيّ عنه: الكوفيون يُضعّفونه، وهو عندنا ثبتٌ فيما يروي عن مطرّف، والشيبانيّ، وقد سمعت اْنا منه. وقال العقيليّ: ربّما وهم في الشيء. وقال العجلي: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، إلا أن فيه بعض الضعف. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال يعقوب بن شيبة: كوفي ثقة صدوق، توفّي بالكوفة في المحرّم سنة (200). وقال هارون بن حاتم في "تاريخه": حدثني أنه وُلد سنة (105) ومات في أيّام أبى السرايا سنة (199). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث.

3 -

(عَمْرو بن قيس) الْمُلائيّ -بضم الميم، وتخفيف اللام، والمدّ- أبو عبد الله الكوفي، ثقة متقن عابد [6] 99/ 128.

4 -

(الحكم) بن عُتيبة الكِنْديّ، أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت فقيه [5] تقدم 86/ 104.

5 -

(عبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاري المدنيّ، ثم الكوفي، ثقة [2] تقدم 86/ 104.

6 -

(كعب بن عُجْرة) الأنصاري المدني، أبو محمد الصحابي المشهور رضي الله عنه، تقدم 86/ 104. والله تعالى أعلم.

ص: 396

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، وأنه مسلسل بالكوفيين، وفيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن كعب بن عُجْرة) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُعَقِّبات) بضم الميم، وفتح المهملة، وكسر القاف المشددة، اسم فاعل من التعقيب، أي أذكار يَعقُب بعضها بعضًا، أو تُعْقب لصاحبها عاقبةً محمودة.

وقال الهَرَويّ: قال شمر: معناه: تسبيحات تُفعل أعقاب الصلاة، وقال أبو الهيثم: سميت معقّبات لأنها تُفعل مرّة بعد أخرى، وقوله تعالى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} أي ملائكة يعقب بعضهم بعضًا انتهى.

وقال في "النهاية": سميت مُعَقّبات لأنها عادت مرّةً بعد أخرى، أو لأنها تقال عقب الصلاة، والمعقّب من كلّ شيء ما جاء عقب ما قبله انتهى.

و"هي" إما صفة مبتدإ، أقيمت مقام الموصوف، أي كلمات، أو أذكار معقبات، و"لا يخيب" خبره، وإما مبتدأ، و"لا يخيب" صفته، وخبره "يسبّح الله"(لا يَخيب قائلهنّ) بفتح الياء من الخيبة، وهي الحرمان، أي لا يُحرَم من أجرهنّ، أي كيفما كان، ولو عن غفلة، هذا هو ظاهر هذا اللفظ، وقد ذكر بعضهم أنه لا أجر في الأذكار إذا كانت عن غفلة، سوى القراءة، وفيه نظر لا يخفى، والله تعالى أعلم.

(يسبّح الله في دبر كلّ صلاة) قال النووي: هو بضم الدال، هذا هو المشهور في اللغة، والمعروف في الروايات، قال أبو عمر المطرّزيّ في كتابه "اليواقيت": دَبْر كلّ شيء بفتح الدال آخر أوقاته من الصلاة وغيرها، قال: هذا هو المعروف في اللغة، وأما الجارحة، فبالضمّ. وقال الداودي، عن ابن الأعرابي: دُبُر الشيء، ودَبره بالضم والفتح آخر أوقاته، والصحيح الضمّ، ولم يذكر الجوهريّ، وآخرون غيره انتهى

(1)

.

(ثلاثًا وثلاثين) مفعول مطلق على النيابة، أي تسبيحًا ثلاثًا وثلاثين، كما قال في "الخلاصة":

وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ دَلّ

كَجِدَّ كُلَّ الجِدَّ وَافْرَحِ الْجَذَلْ

(ويحمده ثلاثًا وثلاثين، ويكبّره أربعًا وثلاثين) وورد في التكبير أيضًا "ثلاثًا وثلاثين"، ويأتي وجه الجمع في المسألة الثالثة إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم

(1)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 95 - 96.

ص: 397

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث كعب بن عُجرة رضي الله تعالى عنه هذأ أخرجه مسلم.

[تنبيه]: هذا الحديث ذكره الدارقطني رحمه الله في "استدراكاته على مسلم"، وقال: الصواب أنه موقوف على كعب، لأن من رفعه لا يقاومون من وقفه في الحفظ.

قال النووي رحمه الله تعالى: وهذا الذي قاله الدارقطني مردود، لأن مسلمًا رواه من طرق كلها مرفوعة، وذكره الدارقطني أيضًا من طرق أخرى مرفوعة، وإفما روي موقوفًا من جهة منصور وشعبة، وقد أختلفوا عليهما أيضًا في رفعه ووقفه، وبيّن الدارقطنيّ ذلك.

والمذهب الصحيح الذي عليه الأصوليون، والفقهاء، والمحققون من المحدّثين، ومنهم البخاريّ، وآخرون أنه إذا رُوي الحديث موقوفًا ومرفوعًا يحكم بأنه مرفوع، ولو كان الواقفون أكثر من الرافعين، كيف، والأمر هنا بالعكس؟ وذلك لأن هذه زيادة ثقة، فوجب قبولها، ولا تُردّ لنسيان، أو تقصير حصل بمن وقفه. والله أعلم انتهى كلام النووي رحمه الله ببعض تصرّف

(1)

. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -92/ 1349 - وفي "الكبرى" -126/ 1272 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم 155 - عن محمد بن إسماعيل بن سَمُرة، عن أسباط بن محمد، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه. وفي "الكبرى" عن محمود بن غيلان، عن قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن الحكم به. وفي "عمل اليوم والليلة" 156 - عن قُتيبة بن سعيد، عن أبي الأحوص، عن منصور به.

وأخرجه (م) في الصلاة 2/ 98 (ت)3412. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف الروايات في عدد الأذكار التي تُقال عقب الصلوات:

(اعلم): أن الأحاديث وردت بأعداد مختلفة في التسبيح، والتكبير، والتحميد:

أما التسبيح فورد كونه عشرًا، كما في حديث الباب الماضي، وحديث أنس عند الترمذي، والنسائيّ، وحديث سعد بن أبي وقّاص عند النسائي، وعلي بن أبي طالب عند أحمد، وأمّ مالك الأنصارية عند الطبراني.

(1)

"شرح مسلم" جـ 5 ص 95.

ص: 398

وورد ثلاثا وثلاثين، كما في حديث كعب بن عُجرة المذكور في الباب، وهو عند مسلم، والترمذي، وحديث أبي هريرة عند الشيخين، وحديث أبي الدرداء عند النسائي.

وورد خمسًا وعشرين، كما في حديث زيد بن ثابت عند النسائي، وعبد الله بن عمر عند النسائي أيضًا.

وورد إحدى عشرة، كما في بعض طرق حديث ابن عمر عند البزّار.

وورد ستّا، كما في بعض طرق أنس. وورد مرّة، كما في بعض طرق حديث أنس أيضا عند البزّار. وورد سبعين، كما في حديث أبي زُمَيل عند الطبراني في "الكبير"، وفي إسناده جهالة. وورد مائة، كما في بعض طرق حديث أبي هريرة عند النسائيّ، وفيه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، وهو ضعيف.

وأما التكبير، فورد كونه أربعًا وثلاثين، كما في حديث ابن عبّاس عند الترمذي، والنسائي، وحديث كعب بن عُجرة عند مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وأبي الدرداء عند النسائيّ، وأبي هريرة عند مسلم في بعض الروايات، وأبي ذرّ عند ابن ماجه، وابن عمر عند النسائيّ، وزيد بن ثابت عند النسائيّ، وعن عبد الله بن عمرو عند الترمذيّ والنسائيّ.

وورد ثلاثًا وثلاثين من حديث أبي هريرة عند الشيخين، وعن رجل من الصحابة عند النسائي في "عمل اليوم والليلة".

وورد خمسًا وعشرين، كما في حديث زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر عند من تقدّم في التسبيح خمسا وعشرين.

وورد إحدى عشرة، كما في بعض طرق حديث ابن عمر عند البزّار، كما تقدّم في التسبيح.

وعشرًا، كما في حديث الباب المتقدّم، وعن أنس، وسعد بن أبي وقّاص، وعليّ، وأم مالك عند من تقدّم في تسبيح هذا المقدار.

ومائة، كما في حديث من ذكرنا في تسبيح هذا المقدار عند من تقدّم.

وأما التحميد، فورد كونه ثلاثًا وثلاثين، وخمسا وعشرين، وإحدى عشرة، وعشرًا، ومائة، كما في الأحاديث المذكورة في أعداد التسبيح، عند من رواها.

قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى بعدما ذكر ما تقدّم: ما نصّه: وكلّ ما ورد من هذه الأعداد، فحسن، إلا أنه ينبغي الأخذ بالزائد، فالزائد.

وقال الحافظ العراقي رحمه الله في "شرح الترمذي": كان بعض مشايخنا يقول: إن هذه الأعداد الواردة عقب الصلاة أو غيرها من الأذكار الواردة في الصباح والمساء، وغير

ص: 399

ذلك إذا ورد لها عدد مخصوص مع ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها في أعدادها عمدًا لا يحصل له ذلك الثواب الوارد على الإتيان بالعدد الناقص، فلعلّ لتلك الأعداد حكمة وخاصيّةً، تفوت بمجاوزة تلك الأعداد وتعدّيها، ولذلك نُهي عن الاعتداء في الدعاء.

قال: وفيما قاله نظر، لأنه قد أَتَى بالمقدار الذي رُتّب على الإتيان به ذلك الثوابُ، فلا تكون الزيادة عليه مُزيلة له بعد الحصول بذلك العدد الوارد.

وقد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يدلّ على ذلك، ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، في يوم مائة مرّة، كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيّئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومَهُ ذلك حتى يُمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك

" الحديث.

ولمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح، وحين يُمسي: سبحان الله، وبحمده مائة مرّة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثلَ ما قال، أو زاد عليه".

وقد يقال: إن هذا واضح في الذكر الواحد الوارد بعدد مخصوص، وأما الأذكار التي يعقب كلّ عدد منها عدد مخصوص من نوع آخر، كالتسبيح، والتحميد، والتكبير عقب الصلوات، فقد يقال: إن الزيادة في كلّ عدد زيادةً لم يرد بها نص يقطع التتابع بينه وبين ما بعده من الأذكار، وربّما كان لتلك الأعداد المتوالية حكمة خاصة، فينبغي أن لا يزاد فيها على المشروع.

قال العراقي رحمه الله: وهذا محتمل لا تأباه النصوص الواردة في ذلك، وفي التعبّد بالألفاظ الواردة في الأذكار والأدعية، كقوله صلى الله عليه وسلم للبراء رضي الله عنه:"قل: ونبيك الذي أرسلت" انتهى.

قال الشوكاني رحمه الله: وهذا مسلّم في التعبّد بالألفاظ، لأن العدول إلى لفظ آخر لا يتحقق معه الامتثال، وأما الزيادة في العدد، فالامتثال متحقق، لأن المأمور به قد حصل على الصفة التي وقع الأمر بها، وكون الزيادة مغيّرةً له غير معقول.

وقيل: إن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد أتى بالزيادة، فقد حصل الامتثال، وإن زاد بغير نيّة لم يُعَدّ ممتثلا انتهى

(1)

.

(1)

راجع "نيل الأوطار" جـ 2 ص 355 - 357.

ص: 400

وقال في "الفتح": وقد بالغ القرافي رحمه الله في "القواعد"، فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحدودة شرعًا، لأن شأن العظماء إذا حَدُّوا شيئًا أن يوقف عنده، ويُعدّ الخارج عنه مسيئًا للأدب انتهى.

وقد مثله بعض العلماء بالدواء، يكون مثلاً فيه أُوقية سكّر، فلو زيد فيه أوقيّة أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقيّة في الدواء، ثم أستعمل من السكّر بعد ذلك ما شاء لم يتخلّف الانتفاع.

ويؤيّد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكلّ منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بمجموعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص، لما في ذلك من قطع الموالاة، لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة، تفوت بفواتها. والله أعلم انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح أن لا يزاد على العدد المخصوص، تأدّبًا مع الشارع، ولأن الئواب المعلّق بذلك العدد المعيّن لا يوجد يقينًا إلا بالمقدار الذي علّق عليه، فإذا زيد عليه كان محلّ شكّ، ولأن الظاهر أن التعبد يكون بالعدد كما يكون بالألفاظ، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على البراء رضي الله عنه قوله:"ورسولك الذي أرسلت"، فقال:"لا، ونبيك الذي أرسلت"، فتفريق الشوكاني رحمه الله بين الألفاظ والعدد في ذلك محلّ نظر.

وأما استدلالهم بحديث "الصحيحين" حيث قال: "إلا أحد عمل أكثر من ذلك"، فمن أبعد الاستدلال، لأنه نُصّ فيه على أن الزيادة مطلوبة، وإنما المائة أقلّ ما يحصل به الأجر المذكور، فكيف يقاس عليه ما حُدّ بعدد معين من غير إشارة إلى الزيادة، فهيهات هيهات؟.

والحاصل أن الوقوف عند التعليم النبوي كيفًا أو كَمًّا هو المتعين، لكونه محلّ يقين في الامتثال، وحصول الأجر المرتّب عليه، وأما المخالفة في الكيف، أو في الكمّ، فمحلّ شك، والعاقل يبني أمره على اليقين، لا على الشك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" جـ 2 ص 598 - 599.

ص: 401

‌93 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنْ عَدَدِ التَّسْبِيحِ)

1350 -

(أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ حِزَامٍ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أُمِرُوا أَنْ يُسَبِّحُوا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدُوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُكَبِّرُوا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَأُتِيَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي مَنَامِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسَبِّحُوا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُوا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاجْعَلُوهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَاجْعَلُوا فِيهَا التَّهْلِيلَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "اجْعَلُوهَا كَذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(موسى بن حزام الترمذي) أبو عمران نزيل بَلْخَ، ثقة فقيه عابد [11] تقدّم 45/ 952.

2 -

(يحيى بن آدم) بن سليمان الكوفي، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] تقدّم 1/ 451.

3 -

(ابن إدريس) عبد الله الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة فقيه عابد [8] تقدّم 85/ 102.

4 -

(هشام بن حَسّان) الأزدي الفُردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين [6] تقدم 188/ 300.

5 -

(محمد بن سيرين) الأنصاري، أبو بكر بن أبي عمرة البصري، ثقة ثبت عابد كبير القدر [3] تقدم 46/ 57.

6 -

(كثير بن أفلح) المدني مولى أبي أيوب الأنصاري، وكان أحد كُتّاب المصاحف التي كتبها عثمان رضي الله عنه ثقة [2].

روَى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبي سعيد الخدريّ، وابن عمر رضي الله عنهم. وعنه محمد بن سيرين، والزهريّ.

قال النسائي: ثقة. وقال العجلي: تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وكناه أبو أحمد الحاكم أبا يحيى، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن.

وقال البخاريّ: أُصيب يوم الْحَرّة. انفرد به الترمذي، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

7 -

(زيد بن ثابت) بن الضّحّاك الأنصاري النّجّاري الصحابي المشهور رضي الله عنه، تقدّم

ص: 402

122/ 179. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن زيد بن ثابت) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: أُمروا) بالبناء للمفعول، والآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما يأتي في الحديث (أن يُسبّحوا دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، ويحمدوا ثلاثًا وثلاثين، ويُكبّروا أربعا وثلاثين) قال في "الفتح" في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند قوله:"تسبّحون، وتَحمَدون، وتكبّرون ": كذا وقع في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد، وتأخير التكبير، وفي رواية ابن عجلان تقديم التكبير على التحميد خاصّة، وفيه أيضًا قول أبي صالح:"يقول: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله"، ومثله لأبي داود من حديث أم الحكم، وله من حديث أبي هريرة:"تكبّر، وتحمد، وتسبّح"، وكذا في حديث ابن عمر.

وهذا الاختلاف دالّ على أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديث الباقيات الصالحات:"ولا يضرّك بأيّهنّ بدأت".

لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح، لأنه يتضمّن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد لأنه يتضمّن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير، إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال أن لا يكون

(1)

هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدّالّ على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك انتهى

(2)

.

(فأتى رجل) أي أتاه ملك. وفي نسخة: "فأُري" أي أراه الله ذلك (من الأنصار) بيان لـ"رجل"(في منامه) يحتمل أن يكون مصدرًا ميميًا، أي في نومه، ويحتمل أن يكون ظرفًا، أي في وقت نومه، أو محله (فقيل له) أي قال الآتي للرجل الأنصاريّ (أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم) بتقدير همزة الاستفهام، أي أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

وهذا فيه بيان القاعدة المعروفة، وهي أن الصحابي إذا قال: أُمِرنا، أو أُمِر الناسُ، أو أُمِرُوا، أو نحو ذلك يكون مرفوعًا حُكمًا، حيث إن زيدًا قال: في كلامه: "أمروا"، فبين الآتي في سؤاله أن الآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم.

(أن تُسبّحوا) في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا، أي أمرهم بالتسبيح، وقد تقدم نظيره غير مرّة.

(1)

وقع في نسخ "الفتح""أن يكون" والظاهر أن الصواب "أن لا يكون" بزيادة "لا".

(2)

"فتح" جـ 2 ص 596.

ص: 403

(دبر كل صلاة) ظرف متعلّق بما قبله.

قال الأزهري: دُبُر الأمر -يعني بضمتين، ودَبْرَهُ- يعني بفتح، ثم سكون- آخره، وادّعى أبو عمرو الزاهد أنه لا يقال: بالضمّ إلا للجارحة، ورُدّ بمثل قولهم: أعتق غلامه عن دبر.

قال في "الفتح": ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخّر ذلك عن الفراغ، فإن كان يسيرًا بحيث لا يُعدّ مُعْرضًا، أو كان ناسيًا، أو متشاغلاً بما ورد أيضًا بعد الصلاة، كآية الكرسىّ، فلا يضرّ.

وظاهر قوله: "كلّ صلاة" يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه عند مسلم التقييد بالمكتوبة، وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا، هل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلاً بين المكتوبة والذكر، أو لا؟ محلّ نظر، والله أعلم انتهى

(1)

.

(ثلاثا وثلاثين) منصوب على أنه مفعول مطلق على النيابة لـ"تسبحوا"، أي تسبيحا ثلاثا وثلاثين، وقد تقدّم نظيره قريبًا (وتحمدوا ثلاثا وثلاثين، وتكبّروا أربعًا وثلاثين) هكذا في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه "أربعا وثلاثين"، ومثله في حديث ابن عمر الآتي بعده، وحديث أبي الدرداء عنده في "عمل اليوم والليلة" رقم 147 - 151 - وكذا لمسلم من حديث كعب بن عجرة، ونحوه لابن ماجه من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، لكن شكّ بعض رواته في أنهنّ أربع وثلاثون.

ويخالف ذلك ما في رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود، ففيه "ويختم المائة بلا إله إلا الله، وحده لا شريك له الخ"، وكذا لمسلم في رواية عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، ومثله لأبي داود في حديث أم الحكم، ولجعفر الفريابي في حديث أبي ذرّ.

قال النووي رحمه الله: ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبّر أربعًا وثلاثين، ويقول معها:"لا إله إلا الله وحده الخ".

وقال غيره: بل يجمع بأن يختم مرّة بزيادة تكبيرة، ومرّة بلا إله إلا الله، على وفق ما وردت به الأحاديث. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله النووي غير صحيح؛ لأنه خروج عن التعليم النبوي، وإحداث صيغة أخرى، فالصواب ما قاله غيره، فيجعلها أحيانًا أربعًا وثلاثين،

(1)

"فتح" جـ 2 ص 596.

ص: 404

وأحيانًا ثلاثًا، ويختمها بـ"لا إله إلا الله وحده الخ"، فبهذا يحصل العمل بكلّ ما ورد، من غير مخالفة لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

(قال) أي ذلك الأنصاري الذي أُتي في منامه (ندم) أي أَمَرَنا بذلك (قال) أي ذلك الآتي (فاجعلوها) أي الأذكار (خمسا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل) أي قولوا في ضمنها، أو معها:"لا إله إلا الله" خمسا وعشرين، لتكمّلوا المائة، لأنه أفضل الأذكار.

قال الطيبيّ رحمه الله: الفاء للتسبب، مقرّرة من وجه، ومغيرة من وجه، أي إذا كانت التسبيحات هذه، والعدد مائة، فقرّروا العدد، وأدخلوا فيها التهليل انتهى.

(فلمّا أصبح) أي دخل ذلك الأنصاري في الصباح (أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له) أي ذكر إتيان الملك له، وما جرى بينه وبينه من السؤال والجواب، والتعليم (فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (اجعلوها كذلك) أي اجعلوا الأذكار المذكورة كما أمر ذلك الآتي كلَّ واحدة منها خمسا وعشرين، وزيدوا عليها التهليل حتى تكون مائة كاملة.

قال السنديّ رحمه الله: قوله: "فقال: أجعلوها كذلك"، هذا يقتضي أنه الأولى، لكن العمل على الأول لشهرة أحاديثه. والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لكن العمل الخ"، إن أراد عمل كثير من الناس، فمسلّم، ولكن لا قيمة له، وإن أراد العمل بالسنة، ففيه نظر، لأن الحديث صحيح، فلا ينبغي الاقتصار على الأحاديث الأخرى، بل يعمل بهذا أيضًا أحيانا، فيجعلها كلها خمسا وعشرين، ويزيد التهليل كذلك. والله تعالى أعلم.

وقال أيضًا: وليس هذا من العمل برؤيا غير الأنبياء، بل هو من العمل بقوله صلى الله عليه وسلم، فيمكن أنه علم بحقيقة الرؤيا بوحي، أو إلهام، أو بأيّ وجه كان، والله تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله مما لا شك فيه فهو نظيرُ رؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه الأذان، وقول النبى صلى الله عليه وسلم:"إنها لرؤيا حق"، فثبت الأذان بذلك، فهو مما وافق رؤيا الصحابي للوحي السماوي، فثبوته بالوحي، لا بمجرد الرؤيا.

ونظيرُ ذلك موافقات عمر رضي الله تعالى عنه للوحي، في قوله:"يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب".

(1)

"شرح السندي" جـ 2 ص 76 - 77.

ص: 405

وقوله: "لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى؟ فنزلت الآية"، إلى غير ذلك، من موافقاته المعروفة، وقد نظمها السيوطي رحمه الله في أبيات سماها "قطف الثمر في موافقات عمر"، وهي ضمنَ كتابه "الحاوي للفتاوي"

(1)

.

والحاصل أن العمل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، لا بمجرّد رؤيا ذلك الصحابي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه -93/ 1350 - وفي "الكبرى" -127/ 1273 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم -157 - بالإسناد المذكور.

وأخرجه (ت) 3413 (أحمد) 5/ 184 و5/ 190 (عبد بن حميد) 245 (الدارمي) 1361 (ابن خزيمة)752. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان نوع آخر من عدد التسبيح.

ومنها: مشروعية الأذكار بهذه الألفاظ عقب الصلاة.

ومنها: أن قول الصحابي: أُمرنا، أو أُمر الناسُ، أو أمروا من المرفوع حكما، على ما عليه جمهور أهل العلم، من المحدثين، وغيرهم، وخالف في ذلك طائفة من العلماء، وقد تقدّم البحث عن هذا غير مرّة.

ومنها: بيان منزلة رؤيا المؤمن، وكونه جزءا من النبوّة، كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه:"رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوّة"، فلذا صدقه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أمرهم على وفق ما رآه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1351 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، قِيلَ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمَرَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَمَرَنَا أَنْ نُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنُكَبِّرَ أَرْبَعًا

(1)

قد ذكرتها في موضع آخر من هذا الشرح.

ص: 406

وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ مِائَةٌ، قَالَ: سَبِّحُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَاحْمَدُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَكَبِّرُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَهَلِّلُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَتِلْكَ مِائَةٌ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"افْعَلُوا كَمَا قَالَ الأَنْصَارِيُّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبيد الله بن عبد الكريم) بن يزيد بن فَرُّوخ المخزومي، مولى عيّاش ابن مُطَرِّف، أبو زُرعة الرازيّ، إمام حافظ ثقة مشهور [11].

روى عن أبي عاصم، وأبي نُعيم، وقبيصة، ومسلم بن إبراهيم، وخلق كثير.

وعنه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وإسحاق بن موسى الأنصاريّ، وأبو حاتم، وأبو زرعة الدمشقي، وآخرون.

قال النسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: إمام. وقال الخطيب: كان إماما ربّانيّا، حافظًا مكثرًا صادقًا. وقال عبد الله بن أحمد: لمّا قدم أبو زرعة: نزل عند أبي، وكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبى يقول يومًا: ما صلّيت غير الفرض، استأثرت بمذاكرة أبى زرعة. وقال عبد الله بن أحمد في موضع آخر: قلت لأبي: يا أبت، مَن الحُفّاظ؟ قال: يا بُنيّ شباب كانوا عندنا من أهل خُرَاسان، وقد تفرّقوا، قلت: مَن هم؟، قال: محمد ابن إسماعيل، وعُبيد الله بن عبد الكريم، وعبد الله بن عبد الرحمن، والحسن بن شُجاع. وقال عبد اللَّه بن أحمد: سمعت أبي يقول: ما جاوز الجسر أفقه من إسحاق، ولا أحفظ من أبي زرعة. وقال الحسن بن أحمد بن الليث: سمعت أحمد يدعو الله لأبي زرعة. وقال فَضْلك الرازيّ، عن أبي مصعب: ما رأيت مثله بعينيّ. وقال فضلك أيضًا، عن الربيع: إن أبا زرعة آية. وقال عبد الواحد بن غياث: ما رأى أبو زرعة مثل نفسه. وقال ابن وَارَة: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة ليس له أصل. وقال أبو حاتم: رأيت في كتاب إسحاق بخطّه إلى أبي زُرعة: إني أزداد بك كلّ يوم سُرورًا. وقال البردعي: سمعت محمد بن يحيى يقول: لا يزال المسلمون بخير ما أبقى الله لهم مثل أبى زرعة. وقال صالح بن محمد، عن أبي زرعة: أنا أحفظ عشرة آلاف حديث في القراءات. وقال أيضًا: سمعت أبا زرعة يقول: كتبت عن إبراهيم بن موسى الرازي مائة ألف حديث، وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف حديث. قال: فقلت له: بلغني أنك تحفظ مائة ألف حديث، تقدر أن تملي علي ألف حديث من حفظك؟ قال: لا، ولكن إذا ألقي عليّ عرفت. وقال أبو يعلى الموصلي: ما سمعنا يُذكر أحد في الحفظ إلا كان اسمه أكبر من رؤيته، إلا أبو زرعة، فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه. وقال أبو جعفر التُّسْتَريُّ: سمعت أبا زرعة يقول: ما سمع أذني شيئا

ص: 407

من العلم إلا وعاه قلبي، وإن كنت لأمشي في سوق بغداد، فأسمع من الغُرَف صوت المغنّيات، فأضع أصبعي في أذني، مخافة أن يعيه قلبى. وقال أبو حاتم: حدثني أبو زرعة، وما خلّف يعده مثله علمًا وفقهًا وفهمًا وصيانةً وصدقًا، ولا أعلم في المشرق والمغرب مَنْ كان يَفهَم هذا الشأن مثلَه. قال: وإذا رأيت الرّازيِّ ينتقص أبا زرعة، فاعلم أنه مبتدع.

وروى البيهقي، عن ابن وَارَة، قال: كنّا عند إسحاق بنيسابور، فقال رجل: سمعت أحمد يقول: صحّ من الحديث سبعمائة ألف حديث وكسر، وهذا الفتى -يعني أبا زرعة- قد حفظ ستمائة ألف حديث.

قال البيهقيّ: وإنما أراد ما صحّ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة، وفَتَاوَى مَن أَخَذَ عنهم من التابعين.

وقال محمد بن جعفر بن حكمويه: قال أبو زرعة: أحفظ مائة ألف حديث، كما يحفظ الإنسان {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

وقال أبو جعفر التُّسْتَريّ: سمعت أبا زرعة يقول: إن في بيتى ما كتبته منذ خمسين سنة، ولم أطالعه منذ كتبته، وإني أعلم في أيّ كتاب هو؟ في أيّ ورقة هو؟ في أيّ صفح هو؟ في أيّ سطر هو؟.

وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: حضر عند أبي زرعة محمد بن مسلم -يعني ابن وارة- والفضل بن العباس المعروف بفَضْلَك، فجرى بينهم مذاكرة، فذكر محمد بن مسلم حديثًا، فأنكره فضلك الصائغ، فقال: يا أبا عبد الله، ليس هكذا هو، فقال: كيف هو؟ فذكر رواية أخرى، فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة: أَيْشٍ تقول؟ فسكت، فألحّ عليه، فقال: هاتوا أبا القاسم ابن أخي، فدُعي به، فقال: اذهب، فادخل بيت الكتب، فدَعِ القِمَطْر الأوّل والثاني، والثالث، وعُدَّ ستة عشر جزءًا، وائتني بالجزء السابع عشر، فذهب، فجاء بالدفتر، فتصفّح أبو زرعة، وأخرج الحديث، فدفعه إلى محمد بن مسلم، فقرأه، وقال: نعم، غَلِطْنَا.

قال أبو سعيد بن يونس: مات بالزّيّ آخر يوم من ذي الحجّة سنة (264)، وقال ابن المنادي كان مولده سنة مائتين.

وقال ابن حبّان في "الثقات": كان أحد أئمة الدنيا في الحديث، مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ، والمذاكرة، وترك الدنيا، وما فيه الناس، توفي سنة (268) كذا قال. روى عنه مسلم، والترمذيّ، والمصنف، وابن ماجه، وفي "الزهرة": روى عنه مسلم حديثين. وله في هذا الكتاب هذا، و (2281) حديث: "أتدري ما وضع الله عن

ص: 408

المسافر

".

2 -

(أحمد بن عبد الله بن يونس) بن عبد الله بن قيس التميمي اليَرْبُوعيّ الكوفيّ، وقد ينسب لجده ثقة حافظ، من كبار [10].

روى عن الثوريّ، وابن عيينة، وزائدة، والليث، ومالك، وعلي بن الفضيل، وغيرهم.

وعنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والباقون بواسطة، وحجاجُ بن الشاعر، وعبد ابن حُميد، وأبو زرعة الرّازيّ، وغيرهم.

قال أحمد بن حنبل لرجل: اخرج إلى أحمد بن يونس، فإنه شيخ الإسلام. وقال أبو حاتم: كان ثقة متقنًا، آخر من روى عن الثوريّ.

وتَعَقّبه بعضهم بأن آخر من روى عن الثوريّ علي بن الجَعّد، وقد تأخر بعده.

وقال النسائي: ثقة. وقال عثمان بن أبي شيبة: كان ثقة، وليس بحجة. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، صاحب سنة وجماعة. وقال العجليّ: ثقة صاحب سنة، وقال أبو حاتم: كان من صالحي أهل الكوفة، وسُنّييها. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن قانع: كان ثقة مأمونًا ثبتًا.

وقال ابن يونس: أتيت حماد بن زيد، فسألته أن يُملي عليّ شيئًا من فضائل عثمان رضي الله عنه، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، فقال: كوفيّ يطلب فضائل عثمان! والله لا أمليتها عليك، إلا وأنا قائم، وأنت جالس. وقال أبو داود: هو أنبل من ابن أبي فُديك.

قال البخاريّ: مات بالكوفة في ربغ الآخر سنة (194). وقال أبو عبيد الآجرّيّ، عن أبي داود: سمعته يقول: مات الأعمش، وأنا ابن (14) سنة، ورأيت أبا حنيفة، ومسعرًا، وابن أبي ليلى يقضي خارج المسجد من أجل الْحُيَّض.

وقال أبو داود: كان مولده سنة (134). وقال مطين: سنة (133). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

3 -

(علي بن الفُضَيل بن عياض) بن مسعود بن بِشْر التميميّ اليربوعيّ، ثقة عابد [9].

روى عن عبّاد بن منصور، وعبد العزيز بن أبي رَوّاد، وليث بن أبي سُليم، وغيرهم.

وعنه أبوه، وابن عيينة، وأبو بكر بن عيّاش، وشهاب بن عبّاد، وأحمد بن يونس، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة. وقال الخطيب: كان من الوَرَع بمحلّ عظيم، ومات قبل أبيه

ص: 409

بمدّة، وكان سبب موته أنه سمع آية تُقرَأ، فغُشي عليه، وتوفّي في الحال. وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثني عبد الصمد بن يزيد، عن فُضيل بن عياض، قال: بكى عليّ ابني، فقلت: يا بُنيّ ما يُبكيك؟ قال: أخاف أن لا تجمعنا القيامة. وقال فُضيل: وقال لي عبد الله بن المبارك: يا أبا عليّ ما أحسن حال من انقطع إلى ربّه!، فسمع ذلك عليّ ابنه، فسقط مغشيا عليه. وقال ابن عُيينة: ما رأيت أخوف من الفُضيل وابنه. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا الحسن بن عبد العزيز الْجَرْويّ، حدثني محمد بن أبي عثمان، عن فُضيل بن عياض: كانت لنا شاةٌ بالكوفة، فأكلتْ شيئًا يسيرًا من عَلَف لبعض الأمراء، فما شرب -يعني ابنه عليّا- لها لبنًا بعد ذلك. وقال ابن المبارك: خير الناس -يعني في ذلك الوقت- فُضيل بن عياض، وابنه عليّ خير منه. وأخباره في الخوف شهيرة، وفضائله كثيرة جدًّا. روى له المصنف حديثًا واحدًا، وهو حديث الباب فقط.

4 -

(عبد العزيز بن أبي رَوّاد) -بفتح الزاء، وتشديد الواو- واسمه ميمون، وقيل: أيمن، وقيل: يُمْن بن بدر المكي مولى المهلّب بن أبى صُفْرة. صدوق ربما وَهِمَ، ورُمي بالإرجاء [7].

روى عن نافع، وعكرمة، وسالم بن عبد الله، وغيرهم.

وعنه ابنه عبد المجيد، وابن مهديّ، ويحيى القطّان، وعلي بن الفُضيل، وغيرهم.

قال يحيى القطّان: عبد العزيز ثقة في الحديث، ليس ينبغي أن يُترَك حديثه لرأي أخطأ فيه. وقال أحمد: كان رجلاً صالحًا، وكان مرجئًا، وليس هو في التثبت مثل غيره. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة في الحديث، متعبِّدٌ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال يحيى بن سُليم الطائفيّ: كان يرى الإرجاء. وقال ابن المبارك: كان يتكلّم، ودموعه تسيل على خدّه. وقال ابن عديّ: وفي بعض أحاديثه ما لا يُتَابَع عليه.

وقال ابن أبي حاتم: يروي عن محمد بن كعب القُرظيّ وغيره، روى عنه شعبة. وقال عليّ بن الجُنيد: كان ضعيفًا، وأحاديثه منكرات. وقال الحاكم: ثقة عابد مجتهد شريفٌ في النسب. وقال الساجيّ: صدوق يرى الإرجاء. وقال الدارقطنيّ: هو متوسّط في الحديث، وربّما وَهِم في حديثه. وقال العجليّ: ثقة. وقال الْجُوزجاني: كان غاليًا في الإرجاء. وقال شُعيب بن حرب: كنتُ إذا نظرتُ إلى عبد العزيز رأيت كأنه يطّلع إلى القيامة. وقال حفص بن عمرو بن رُفيع: كنّا عند ابن جُريج، فطلع عبد العزيز، وكان ابن جُريج يوقّره ويعظمه، فقال له قائل: يا أبا عبد المجيد، مَن الرافضيّ؟ فقال: من كره أحدًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن جُريج: الحمد لله، كان الناس يقولون، في

ص: 410

هذا الرجل، ولقد كنت أعلم.

قال ابن قانع: مات بمكة سنة (159). وكذا قال عمرو بن علي الفلّاس في "تاريخه"، وابن سعد في "الطبقات"، وقال: وله أحاديث، وكان مرجئًا، وكان معروفًا بالورع والصلاح والعبادة. وخليفةُ فى "التاريخ"، و"الطبقات"، وابنُ أبي عاصم، ويعقوبُ بن سفيان، وأبنُ حبّان في "الضْعفاء"، وقال: يكنى أبا عبد الرحمن، يروي عن عطاء، كان يحدّث على الوهم والحسبان، فسقط الاحتجاج به.

وقال البخاري: قال لي بعض آل أبي رَوّاد: مات قريبًا من سنة (55)، ولا أراه أنا إلا بعده، لأن أبا نعيم، وخلّادًا سمعا منه، ولم يسمعا من ابن جريج، قال: وقال ابن بكير: مات سنة (59). علق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، إلا مسلمًا، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث.

5 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه مشهور [3] تقدم 12/ 12.

6 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم 12/ 12. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف رحمه الله، أخرجه هنا -93/ 1351 - وفي "الكبرى" -127/ 1273 - بالسند المذكور. وأخرجه الطبراني في "الدعاء" رقم (730). وشرحه تقدّم في الحديث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌94 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنْ عَدَدِ التَّسْبِيحِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إيراد المصنف رحمه الله لحديث الباب خلال الأذكار التي تقال دبر الصلاة يدلّ على أنه مما يقال دبرها، وفيه نظر، إذ ليس فيه ما يدلّ على ذلك، فإنه ذكر مطلق غير مقيّد بزمن مخصوص.

ويمكن أن يقال: إنه لمّا بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذا الذكر، وأنه يُفَضَّل على كثير من الأذكار، وكان ما بعد الصلوات من أشرف الأوقات، كما بُيّن في حديث أبي أمامة: "قيل: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟، قال: جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات

ص: 411

المكتوبات"

(1)

كان من الأفضل أن يقال دبر الصلوات.

وأيضًا إنه صلى الله عليه وسلم علّمه لجويرية رضي الله عنها حينما جلست تذكر الله عقب صلاة الصبح، وطوّلت في ذلك، فعلّمها هذا الذكر، فكأنه قال لها: إن أولى ما تشتغلين به بعد الصلاة من الأذكار هو هذا الذكر. والله تعالى أعلم بالصواب.

1352 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ كُرَيْبًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهَا، وَهِىَ فِي الْمَسْجِدِ، تَدْعُو، ثُمَّ مَرَّ بِهَا قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالَ لَهَا: "مَا زِلْتِ عَلَى حَالِكِ؟ "، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: "أَلَا أُعَلِّمُكِ -يَعْنِي- كَلِمَاتٍ تَقُولِيهُنَّ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن بشّار) بُنْدَار البصريّ، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

2 -

(محمد) بن جعفر غُنْدَر البصري، ثقة [9] تقدم 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة المشهور [7] تقدم 24/ 26.

4 -

(محمد بن عبد الرحمن) بن عُبيد القُرشيّ، مولى آل طلحة، كوفيّ ثقة [6].

روى عن السائب بن يزيد، وعيسى، وموسى ابني طلحة، وكريب، وغيرهم. وعنه شعبة، ومسعر، والثوريّ، وغيرهم.

قال البخاريّ: قال لنا عليّ، عن ابن عُيينة: كان أعلم مَنْ عندنا بالعربيّة. وقال عبّاس الدُّوريّ، وغيره، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الترمذيّ، وأبو عليّ الطُّوسيّ، ويعقوب ابن شيبة: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

5 -

(كُريب) بن أبي مسلم مولى ابن عباس، أبو رِشْدين المدني، ثقة [3] تقدم 161/ 253.

6 -

(ابن عبّاس) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدم 27/ 31.

(1)

أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث حسن.

ص: 412

7 -

(جُوَيرية بنت الحارث) بن أبي ضِرَار الخُزَاعيّة الْمُصْطَلِقية، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الْمُرَيْسِع، وكان اسمها بَرَّة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جُوَيرية، وتزوّجها.

روت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عنها عبد الله بن عباس، وعُبيد بن السّبّاق، وأبو أيوب الْمَرَاغِيّ، ومجاهد بن جبر، وكريب، وكُلثُوم بن المصطلق، وعبد الله بن شدّاد بن الهاد.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عبد الله بن جعفر، أخبرنا عُبيد الله بن عمر، عن أيوب، عن أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم سبا جُويرية، فجاء أبوها، فقال: إن ابنتي لا يُسبَى مثلها، فخلّ سبيلها، فقال: أرأيت إن خيّرتهُا، أليس قد أحسنتُ؟ قال: بلى، فأتاها أبوها، فذكر لها ذلك، فقالت: أختار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ رحمه الله: هذا مرسل صحيح الإسناد.

قال الواقديّ: توفّيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وقال غيره: ماتت سنة خمسين، ولها ست وخمسون سنة. أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف، وأن رواته كلهم من رجال الصحيح، وأن شيخه أحد مشايخ الستة بلا واسطة، وفيه رواية صحابي، عن صحابية. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ) رضي الله تعالى عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَيْهَا) وفي رواية مسلم -8/ 83 - "خرج من عندها بُكْرةً، حين صلى الصبح"، وفي رواية أحمد من طريق الحجاج، عن شعبة قالت: أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غَدوةً، وأنا أسبّح، ثم انطلق لحاجته، ثم رجع قريبًا من نصف النهار" (وَهِيَ فِى الْمَسْجِدِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الضمير المجرور في "عليها". أي والحال أنها جَالسةٌ في الموضع الذي صلّت فيه الصبح، وفي رواية مسلم: "وهي في مسجدها" (تَدْعُو) وفي "عمل اليوم والليلة": "فمرّ بها تقرأ في مصلّاها، تسبّح، وتذكر الله" (ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهَا قَرِيبًا) منصوب على الظرفية بالنيابة، والأصل: وقتا قريبًا، أي في وقت قريب (مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ) وفي رواية مسلم: "ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسةٌ" (فَقَالَ لَهَا: مَا زِلْتِ عَلَى حَالِكِ؟) ولمسلم: "فقال: ما زلت على الحال الذي فارقتك عليها"(قَالَتْ: نَعَمْ) وفي "عمل اليوم والليلة": قالت: ما زلت في مكاني منذ تَعْلَمُ" (قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكِ -يَعْنِي- كَلِمَاتٍ)

ص: 413

وفي نسخة بإسقاط لفظة "يعني"(تَقُولِينَهُنَّ) جملة في محلّ جر صفة لـ"كلمات"(سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ).

قوله: "سبحان الله الخ" بدل من "كلمات"، أو عطف بيان، أو خبر لمحذوف، أي هي "سبحان الله الخ".

واختار الحافظ السيوطي رحمه الله في رسالته "رفع السِّنَة في نصب الزِّنَة" أن هذه الكلمات الأربع منصوبات على تقدير الظرف، والتقدير: قدرَ عدد خلقه، وهكذا البواقي، فلما حذف الظرف قام المضاف إليه مقامه في إعرابه. قال: فهذا الإعراب هو المتّجه المطّرد السالم من الانتقاض.

وذكر أيضًا من الوجوه الممكنة في إعرابها أربعة:

أحدها: أن يجعل مفعولا به لفعل، أو وصف مقدّر، أي يبلغ عدد خلقه، أو بالغًا عدد خلقه.

الثاني: أن يكون القول مقدّرًا، و"سبحان الله" مفعولٌ أولُ، و"عدد خلقه" مفعولٌ ثانٍ، على لغة من يُجرى القول مُجرَى الظنّ بلا شرط.

الثالث: أن يكون خبرًا لـ"كان" مقدّرة هي واسمها ضميرًا راجعًا إلى التسبيح، وتقديره إما بصيغة المضارع، أو اسم الفاعل.

الرابع: وهو خاصّ بـ"رضا نفسه" أن يُجعل مفعولاً له، على جعل الرضا بمعنى الإرضاء، كقولك: سبّحْتُ ابتغاءَ وجه الله.

قال: وكلها لا يعوّل عليها، والعمدة على الأول. والله أعلم انتهى المقصود من كلام السيوطي رحمه الله باختصار، وتصرّف. وقد أشبع الكلام في هذا البحث في الرسالة المذكورة بما لا تجده في كتاب غيره

(1)

.

وقال في شرحه المسمى "زهر الربى في شرح المجتبى": قال الشيخ أكمل الدين في "شرح المشارق": تقديره: عددًا كعدد خلقه.

ومعنى: "رضا نفسه": غير منقطع، فإن رضاه عمن رضي عنه من الأنبياء، والأولياء، وغيرهم لا ينقطع، ولا ينقضي.

(1)

راجع "رفع السنة في نصب الزنة" ضمن كتاب "الحاوي للفتاوي" جـ 2 ص 284 - 288.

ص: 414

ومعنى: "وزنة عرشه" أي بمقدار وزنه، يريد عِظَمَ قدره.

وقوله: "ومداد كلماته": يجوز أن يكون المراد قطر البحار، لقوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية [الكهف: 109]، ويجوز أن يكون المراد مصدر مَدَّ، ومداد الكلمات: المدد الواصل من الفيض الإلهي على أعيان الممكنات واحدًا، فواحدًا، بحسب ما يتعلّق بشخصه. وقال في "النهاية":"مداد كلماته"، أي مثل عددها، وقيل: قدر ما يوازيها في الكثرة، عيار كيل، أو وزن، أو ما أشبهه، وهذا تمثيل، يراد به التقريب، لأن الكلام لا يدخل في الكيل والوزن، وإنما يدخل في العدد. والمداد مصدر، كالمدد، وهو ما يكثّر به، ويزاد.

وقال الخطابي: المداد بمعنى المدد، وقيل: جمعه

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله في "شرحه": "عدد خلقه" هو وما عطف عليه منصوبات بنزع الخافض، أي بعدد جميع مخلوقاته، وبمقدار رضا ذاته الشريفة، أي بمقدار يكون سببا لرضاه تعالى، أو بمقدار يرضى به لذاته، ويختاره، فهو مثل ما جاء "وملءَ ما شئت من شيء بعدُ"، وفيه إطلاق النفس عليه تعالى من غير مشاكلة. وبمقدار ثقل عرشه، وبمقدار زيادة كلماته، أي بمقدار يساويهما، يساوي العرش وزنًا، والكلمات عددًا.

وقيل: نصب الكلّ على الظرفيّة بتقدير "قَدْرَ"، أي قدرَ عدد مخلوقاته، وقدرَ رضا ذاته.

فإن قلت: كيف يصحّ تقييد التسبيح بالعدد المذكور، مع أن التسبيح هو التنزيه عن جميع ما لا يليق بجنابه الأقدس، وهو أمر واحد في ذاته، لا يقبل التعدد، وباعتبار صدوره عن المتكلّم لا يمكن اعتبار هذا العدد فيه، لأن المتكلّم لا يقدر عليه، ولو فُرض قدرته عليه أيضًا لما صحّ هذا العدد بالتسبيح إلا بعد أن صدر منه هذا العدد، أو عزم على ذلك، وأما بمجرد أنه قال مرّةً: سبحان الله لا يحصل منه هذا العدد؟.

قلت: لعلّ التقييد بملاحظة استحقاق ذاته الأقدس الأطهر أن يصدر من المتكلّم التسبيحُ بهذا العدد.

فالحاصل أن العدد ثابت لقول المتكلّم، لكن لا بالنظر إلى الوقوع، بل بالنظر إلى الاستحقاق، أي هو تعالى حقيق بأن يقول المتكلّم التسبيحَ في حقّه بهذا العدد. والله تعالى أعلم انتهى كلام السندي رحمه الله تعالى

(2)

. والله تعالى أعدم بالصواب، وإليه

(1)

"زهر الربى" جـ 3 ص 77 - 78.

(2)

"شرح السنديّ" جـ 3 ص 77 - 78.

ص: 415

المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنها هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -94/ 1352 - وفي "الكبرى" -128/ 1275 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم 164 عن محمد بن بشّار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس، عنها. وفي "عمل اليوم والليلة" -164 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شُعبة به. و-165 - عن محمود بن غَيلان، عن أبي أسامة، عن مسعر، عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي رِشْدين به.

قال أبو عبد الرحمن: أبو رشدين هو كُريب مولى ابن عباس، وابنه رشدين بن كريب ضعيف، وأخوه محمد بن كُريب ليس بالقويّ، إلا أنه أصلح قليلاً، وكريب ثقة، وليس في موالي ابن عباس ضعيف، إلا شعبة مولى ابن عباس، فإن مالكًا قال: لم يكن يُشبه القرّاء انتهى.

وأخرجه (م) 8/ 83 (ت) 3555 (ق) 3808 (أحمد) 6/ 324 و6/ 429 (البخاري في الأدب المفرد) 647 (ابن خزيمة)753.

وفي رواية سفيان بن عُيينة في "الأدب المفرد"، و"صحيح ابن خُزيمة" زاد في أول الحديث": "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت جُويرية بنت الحارث، وكان اسمها بَرّة، فحَوّلَ النبي صلى الله عليه وسلم اسمها، وسمّاها جُويرية، وكره أن يقال: خرج من عند بَرّة

".

والله تعالى أعلم.

المسالة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان نوع آخر من عدد التسبيح.

ومنها: بيان ما كانت عليه النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادات.

ومنها: استحباب كثرة الذكر من صلاة الصبح إلى أن يرتفع النهار.

ومنها: أن بعض الأذكار يُفضّل على بعضها.

قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام في "فتاواه" قد يكون بعض الأذكار أفضل من بعض، لعمومها وشمولها، واشتمالها على جميع الأوصاف السلبية والذاتيّة، والفعليّة، فيكون القليل من هذا النوع أفضل من الكثير من غيره، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "سبحان

ص: 416

الله عدد خلقه" انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌95 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1353 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَتَّابٌ -هُوَ ابْنُ بَشِيرٍ-

(1)

عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الأَغْنِيَاءَ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ أَمْوَالٌ، يَتَصَدَّقُونَ، وَيُنْفِقُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا صَلَّيْتُمْ، فَقُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَشْرًا، فَإِنَّكُمْ تُدْرِكُونَ بِذَلِكَ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(علي بن حُجْر) المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9] تقدم 13/ 13.

2 -

(عَتّاب بن بشير) -بفتح أوله- الجَزَريّ، أبو الحسن، أو أبو سهل الحَرّانيّ، مولى بني أُميّة، صدوق يُخطىء [8].

روى عن خُصَيف، وإسحاق بن راشد، وثابت بن عجلان، وغيرهم. وعنه رَوْح بن عُبَادة، والعلاء بن هلال، وعلي بن حُجر، وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس، روى بأَخَرَة أحاديث منكرة، وما أرى أنها إلا من قبل خُصيف. وقال الجُوزجاني، عن أحمد: أحاديث عَتّاب عن خُصيف منكرة. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين ثقة. وقال ابن أبي حاتم: قيل لأبي زرعة: عتّاب أحبّ إليك، أو محمد بن سَلَمَة؟ قال: عتّاب. وقال الآجرّي، عن أبي داود: سمعت أحمد يقول: تركه ابن مهديّ بآخره، قال: ورأيت أحمد كفّ عن حديثه، وذلك أن الخطّابي حدّثه عنه بحديث، فقال لي أحمد: أبو جعفر -يعني النفيلي- يحدث عنه؟ قلت: نعم، قال: أبو جعفر أعلم به. وقال ابن أبي حاتم: ليس به بأس. وقال الساجي: عنده مناكير، حدّث أحمد، عن وكيع، عنه. وقال ابن

(1)

قوله: "هو ابن بشير" ساقط من بعض النسخ.

ص: 417

المدينيّ: حدثتُ أعلى حديثه. وقال الحاكم، عن الدارقطني: ثقة. وقال ابن عديّ: روى عن خُصَيف نسخةً فيها أحاديث أُنكرت، فمنها: عن مقسم، عن عائشة، حديث الإفك، وزاد فيه ألفاظًا، لم يقلها إلّا عتّاب، عن خُصيف، ومع ذلك فأرجو أن لا بأس به. وقال النسائي في "كتاب الجرح والتعديل": ليس بالقويّ.

وقال أيضًا: ليس بذاك. وكذا قال ابن سعد، وذكر أنه مات سنة (190)، وكذا أرّخه ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو داود: مات سنة (188).، وكذا أرخه أبو عروبة، عن إسحاق بن زيد، عن النفيليّ. روى له الجماعة، سوى مسلم، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(خُصَيف) -بالصاد المهملة مصغّراً- ابن عبد الرحمن الجَزَريّ، أبو عون الحَضْرميّ الحرّاني الأمويّ مولاهم، صدوق سيء الحفظ خلط بآخره، ورُمي بالإرجاء [5].

رأى أنسًا، وروى عن عطاء، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم. وعنه السفيانان، وابن جريج، وعتّاب بن بشير، وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد ضعيف الحديث. وقال حنبل عنه: ليس بحجة، ولا قويّ في الحديث. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس بقويّ في الحديث، قال: وقال مرّةً: ليس بذاك، قال أبي: خُصيفٌ شديد الاضطراب في المسند. وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال مرّةً: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح يخلط، وتُكلّم في سوء حفظه. وقال النسائيّ: عتّاب بن بشير ليس بالقويّ، ولا خُصيفٌ، وقال مرّةً: صالح. وقال ابن عديّ: ولِخُصَيف نُسَخٌ، وأحاديثُ كثيرة، وإذا حدّث عن خُصيف ثقة، فلا بأس بحديثه ورواياته، إلّا أن يروي عنه عبد العزيز بن عبد الرحمن، فإن رواياته عنه بواطيل، والبلاء من عبد العزيز، لا من خُصيف. وقال ابن المديني: كان يحيى بن سعيد يُضعّفه. وقال الدارقطنيّ: يُعتبر به، يَهِم. وقال الساجي: صدوق. وقال الآجريّ عن أبي داود: قال أحمد: مضطرب الحديث. وقال جرير: كان خُصيف متمكنا في الإرجاء، يَتَكَلّم فيه. وقال أبو طالب: سئل أحمد عن عتّاب بن بشير، فقال أرجو أن لا يكون به بأس، روى أحاديث بآخره منكرة، وما أرى إلا أنها من قبل خصيف. وقال ابن معين: إنا كنّا نتجنّب حديثه. وقال ابن خُزيمة: لا يُحتجّ به. وقال يعقوب بن سُفيان: لا بأس به. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويّ. وقال الأزديّ: ليس بذاك. وقال ابن حبّان: تركه جماعة من أئمتنا، واحتج به آخرون، وكان شيخًا صالحًا فقيهًا عابدًا، إلا أنه كان يُخطىء كثيرًا فيما يروي، ويتفرّد عن المشاهير بما لا يُتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف

ص: 418

فيه قبول ما وافق الثقات في الروايات، وترك ما لم يُتابع عليه، وهو ممن أستخير الله تعالى فيه. وقد حدّث عبد العزيز عنه، عن أنس بحديث منكر، ولا يعرف له سماع من أنس.

وقال ابن سعد: كان ثقة، مات سنة (137)، وكذا قال البخاريّ. وقال النفيليّ: مات سنة (6). وقال أبو عُبيد وغيره: مات سنة (8). وقال خليفة بن خيّاط: مات سنة (9) وقيل: غير ذلك في تاريخ وفاته. روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث.

4 -

(عكرمة) مولى ابن عباس، ثقة ثبت مُفسّر [3] تقدم 2/ 325.

5 -

(مجاهد) بن جبر، أبو الحجاج المخزوميّ مولاهم المكيّ، ثقة إمام [3] تقدم 27/ 31.

6 -

(ابن عباس) عبد الله البحر رضي الله عنهما، تقدّم 27/ 31. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "إلى النبي صلى الله عليه وسلم".

قال في "الفتح": سُمّي منهم في رواية محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة أبو ذرّ الغفاريّ. أخرجه أبو داود، وأخرجه جعفر الفريابيّ في "كتاب الذكر" له من حديث أبي ذرّ نفسه، وسُمّي منهم أبو الدرداء عند النسائي

(1)

وغيره من طرق عنه، ولمسلم من رواية سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة أنهم قالوا:"يا رسول الله"، فذكر الحديث، والظاهر أن أبا هريرة منهم، وفي رواية النسائي

(2)

، عن زيد بن ثابت، قال:"أمرنا أن نسبّح" الحديث، وهذا يمكن أن يقال فيه إن زيد بن ثابت كان منهم، ولا يعارضه قوله في رواية ابن عجلان عن سُمَيّ عند مسلم:"جاء فقراء المهاجرين"، لكون زيد بن ثابت من الأنصار، لاحتمال التغليب انتهى

(3)

.

(فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الأَغْنِيَاءَ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: "ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العُلَى، والنعيم المقيم، يصلون الخ"(وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ) زاد في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "ويذكرون كما نذكر"،

(1)

"عمل اليوم والليلة" رقم 147 - 151.

(2)

هو الحديث الماضي برقم 93/ 1350.

(3)

"فتح" جـ 2 ص 594.

ص: 419

وللبزّار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "صدّقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا"(وَلَهُمْ أَمْوَالٌ، يَتَصَدَّقُونَ) زاد في نسخة "بها"(وَيُنْفِقُونَ) وفي "الهندية": "ويُعتقون" من الإعتاق، أي يحرّرون الرقاب.

وعند البخاري من حديث أبي هريرة: "ولهم فضل أموال، يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدّقون".

قال في "الفتح": قوله: "يحجون بها" أي ولا نحجّ، يشكل عليه ما وقع في رواية جعفر الفريابي من حديث أبي الدرداء:"ويحجون كما نحجّ"، ونظيره ما وقع هنا:"ويجاهدون"، ووقع في الدعوات من رواية ورقاء، عن سُميّ:"وجاهدوا كما جاهدنا".

لكن الجواب عن هذا الثاني ظاهر، وهو التفرقة بين الجهاد الماضي، فهو الذي اشتركوا فيه، وبين الجهاد المتوقّع، فهو الذي تقدر عليه أصحاب الأموال غالبًا، ويمكن أن يقال مثله في الحجّ، ويحتمل أن يقرأ "يحجون بها" بضم أوله من الرباعي، أي يُعينون غيرهم على الحج بالمال انتهى

(1)

.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَلَّيْتُمْ) أي فرغتم من الصلاة، وَسَلّمْتُم منها.

والظاهر أنه يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، لوقوعه في حديث كعب بن عُجْرة رضي الله عنه عند مسلم مقيّدًا بالمكتوبة. قاله في "الفتح".

(فَقُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ: وَاللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ: وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَشْرًا) زيادة التهليل منكرة لأن روايات الثقات الحفّاظ خالية منها. والفَه تعالى أعلم (فَإِنَّكُمْ تُدْرِكُونَ بِذَلِكَ مَنْ سَبَقَكُمْ) أي من أهل الأموال الذين امتازوا عليكم بالصدقة، والسبقية هنا يحتمل أن تكون معنوية، وأن تكون حسّيّة، قال الشيخ تقي الدين: والأول أقرب.

وقال السنديّ: قوله: "من سبقكم" أي فضلاً، وكذا "مَن بعدكم"، أي فضلاً، ولا عبرة بالسبق والتأخر الزمانيين، والله تعالى أعلم انتهى.

(وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الشيخين: "قال: ألا أحدّثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، تسبحون، وتحمدون، وتكبرون خلف كلّ صلاة، ثلاثًا وثلاثين".

(1)

"فتح" جـ 2 ص 595.

ص: 420

واستشكل تساوي فضل هذا الذكر بفضل التقرّب بالمال مع شدّة المشقة فيه.

وأجاب الكرماني بأنه لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقّة في كل حالة، واستدلّ لذلك بفضل كلمة الشهادة، مع سهولتها على كثير من العبادات الشاقّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا بهذا السند ضعيف، لأن فيه عتّاب أبن بشير، وخُصيفًا، متكلّم فيهما، كما سبق بيان ذلك في ترجمتهما، فزيادة التهليل عشرًا منكرة، لأنها من طريقهما.

لكن أصل الحديث صحيح أخرجه الشيخان، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيره، ولذلك توسعت في شرحه، وإلا فالحديث الضعيف لا يحتاج إلى التوسع في شرحه. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا -95/ 1353 - وفي "الكبرى" -129/ 1276 - بالسند المذكور.

وأخرجه (ت) رقم -410. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان نوع آخر مما يقال بعد الصلاة.

ومنها: أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يُجيب بنفس الفاضل لئلا يقع الخلاف، كذا قال ابن بطّال، وكأنه أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله:"ألا أدلّكم على أمر تساوونهم فيه"، وعدل عن قوله: نعم هم أفضل منكم بذلك.

ومنها: التوسعة في الغِبْطَة، وهي تمني مثل ما للغير من النعمة دون زوالها عنه، بخلاف الحسد، فإنه تمني زوال النعمة عن المنعم عليه، سواء تمناها لنفسه، أو لا، وقيل: مع تمنيها، وهو مذموم.

ومنها: المسابقة إلى الأعمال المحصّلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهم، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاقّ.

ومنها: فضل الذكر عقب الصلوات، واستدل به البخاريّ رحمه الله على فضل الدعاء

ص: 421

عقب الصلاة، لأنه في معناها، ولأنها أوقات فاضلة، يُرتجى فيها إجابة الدعاء.

ومنها: أن العمل القاصر قد يُساوي المتعدّيَ، خلافًا لمن قال: إن المتعدي أفضل مطلقًا. نبّه على ذلك الشيخ عزّ الدين ابن عبد السلام

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: وقع في "صحيح مسلم" في روايته لحديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق ابن عجلان، عن سُميّ: قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلناه، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".

قال ابن بطاّل، عن المهلّب رحمهما الله: في هذا الحديث فضل الغنى نصًا لا تأويلاً، إذا استوت أعمال الغني والفقير، فيما افترض الله عليهما، فللغنيّ حينئذ فضل عمل البرّ من الصدقة ونحوها مما لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلّمين ذهب إلى أن هذا الفضل يخصّ الفقراء دون غيرهم، أي الفضل المرتّب على الذكر المذكور، وغفل عن قوله في نفس الحديث:"إلا من صنع مثل ما صنعتم"، فجعل الفضل لقائله كائنًا من كان.

وقال القرطبي رحمه الله: تأوْل بعضهم قوله: "ذلك فضل الله يؤتيه" بأن قال: الإشارة راجعة إلى الثواب المرتب على العمل الذي يحصل به التفضيل عند الله، فكأنه قال: ذاك الثواب الذي أخبرتكم به لا يستحقّه أحد بحسب الذكر، ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل الله.

قال: وهذا التأويل فيه بُعدٌ، ولكن اضطرّه! إليه ما يعارضه.

وتُعقب بأن الجمع بينه وبين ما يُعارضه ممكن من غير احتياج إلى التعسف.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: ظاهر الحديث القريبُ من النصّ أنه فَضَّلَ الأغنياء بزيادة القربات المالية، وبعض الناس تأول قولَه:"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" بتأويل مُستكرَه، يخرجه عما ذكرناه. كأنه يشير إلى ما تقدّم.

قال: والذي يقتضيه الأصل أنهما إن تساويا، وفضّلت العبادات المالية أنه يكون الغنيّ أفضل، ولا شكّ في ذلك، وإنما النظر إذا تساويا في أداء الواجب فقط، وانفرد كلّ منهما بمصلحة ما هو فيه، وإذا كانت المصالح متقابلة، ففي ذلك نظر، يرجع إلى تفسير الأفضل، فإن فُسّر بزيادة الثواب، فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدّية أفضل

(1)

راجع "الفتح" جـ2 ص 600.

ص: 422

من القاصرة، وإن كان الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل لها من التطهير بسبب الفقر أشرف، فيترجّح الفقراء.

ومن ثَمَّ ذهب جمهور الصوفيْة إلى ترجيح الفقير الصابر.

وقال القرطبي رحمه الله: للعلماء في هذه المسألة خمسة أقوال: ثالثها: الأفضل الكفاف. رابعها: يختلف باختلاف الأشخاص. خامسها: التوقّف.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: قضية الحديث أن شكوى الفقر تبقى بحالها، وأجاب بأن مقصودهم كان تحصيل الدرجات العُلَى، والنعيم المقيم لهم أيضًا، لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقًا اهـ.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: والذي يظهر أن مقصودهم إنما كان طلب المساواة، ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يَعلَم النبي صلى الله عليه وسلم أن متمنّي الشيء يكون شريكًا لفاعله في الأجر، كما ثبت في حديث الترمذيّ رحمه الله

(1)

بأن المنفق والمتمنّي إذا كان صادق النية في الأجر سواء، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:"من سنّ سنّة حسنة، فله أجرها وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيئًا"، فإن الفقراء في هذه القصّة كانوا السبب في تعلّم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في قوله، امتاز الفقراء بأجر السبب، مضافًا إلى التمنّي، فلعل ذلك يقاوم التقرّب بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شَظَف العيش، وشكر الغنيّ على التنعّم بالمال، ومن ثمّ وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أستدلاله بحديث من "سنّ سنّة حسنة الخ" على هذه المسألة فيه نظر، لأن الذين تسببوا هم فقراء الصحابة، فالاشتراك مع الأغنياء في الأجر قاصر عليهم، لا يتعدّاهم إلى غيرهم من الفقراء، لأن غيرهم لم يشاركهم في التسبب، فكيف يستدلّ به على تفضيل الفقير على الغني على الإطلاقّ؟، والله أعلم.

وقال في "كتاب الأطعمة" عند قول البخاري: "بابٌ الطاعمُ الشاكر مثل الصائم الصابر" فيه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

هو ما أخرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاث أُقْسِمُ عليهنّ

" الحديث، وفيه: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه ويعلم فيه لله حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًّا، ولم يرزقه مالاً، وهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملتُ بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء

" الحديث. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(2)

"فتح" جـ 2 ص 600.

ص: 423

ما نصه: وفيه رفع الاختلاف المشهور في الغني الشاكر والفقير الصابر، وأنهما سواء، كذا قيل. ومساق الحديث يقتضي تفضيل الفقير الصابر، لأن الأصل أن المشبه به أعلى درجة من المشبه.

والتحقيق عند أهل الحذق أن لا يجاب في ذلك بجواب كلّي، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأحوال، نعم عند الاستواء من كل جهة، وفُرض رفع العوارض بأسرها، فالفقير أسلم عاقبة في الدار الآخرة، ولا ينبغي أن يُعدل بالسلامة شيء

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌96 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1354 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ -يَعْنِي ابْنَ طَهْمَانَ-

(2)

عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَبَّحَ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، وَهَلَّلَ مِائَةَ تَهْلِيلَةٍ، غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري) أبو علي بن أبي عمرو، صدوق [11] تقدم 7/ 409.

2 -

(أبوه) حفص بن عبد الله بن راشد السلميّ، أبو عمرو النيسابوري قاضيها، صدوق [9] تقدم 7/ 409.

3 -

(إبراهيم بن طَهْمان) الْخُرَاساني، أبو سعيد، سكن نيسابور، ثم مكة، ثقة يُغرب، وتُكُلِّم فيه بالإرجاء، ويقال: رجع عنه [7] تقدم 7/ 409.

4 -

(الحجّاج بن الحجّاج) الباهليّ البصريّ الأحول، ثقة [6] تقدّم 53/ 614.

5 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي، صدوق يدلّس [4] تقدّم 31/ 35.

(1)

"فتح" جـ 10 ص 730 - 731.

(2)

قوله: "يعني ابن طهمان" ساقط من بعض النسخ.

ص: 424

6 -

(أبو علقمة) الفارسيّ المصريّ، مولى بني هاشم، ويقال: حليف الأنصار

(1)

، ثقة، وكان قاضي إفريقية، من كبار [3].

روى عن أبي هريرة، وابن مسعود، وابن عمر، وغيرهم.

وعنه أبو الزبير المكيّ، وصالح بن أبي مريم، وعطاء العامريّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: أحاديثه صحاح. وقال العجلي: مصريّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن يونس: أبو علقمة الفارسيّ مولى أبن عبّاس كان على قضاء إفريقية، وكان أحد الفقهاء الموالي الذين ذكرهم يزيد بن حبيب. روى له البخاري في "جزء القراءة"، والباقون، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه رأس المكثرين من الرواية. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن) شرطية مبتدأ (سبّح) بتشديد الباء. أي قال. سبحان الله (في دبر صلاة الغداة) أي عقب صلاة الصبح، ولو مرّة، وهو الظاهر، ويحتمل أن يُراد الدوام عليه (مائة تسبيحة، وهلّل) بتشديد اللام الأولى: أي قال: لا إله إلا الله (مائة تهليلة، غُفرت له ذنوبه) بالبناء للمفعول، جواب الشرط، وهو الخبر على الأصح، و"ذنوبه" نائب فاعله (ولو) زائدة زيدت لمجرّد الوصل، فلا تحتاج إلى جواب، كقولك: زيد، ولو كثر ماله بخيل، ومثلها "إن"، كزيدٌ، وإن كثر ماله بخيل، فإنها في مثل هذا ليست شرطية، بل هي لمجرّد الوصل، فلا تحتاج إلى جواب

(2)

(كانت) تلك الذنوب في الكثرة (مثل زبد البحر) -بفتحتين-: طُفَاوته

(3)

، وقَذَاه، والجمع أزباد. قاله في "اللسان".

والمراد تشبيه ما فعله من الذنوب قبل هذا الذكر بزَبَد البحر في الكثرة، والظاهر شموله للصغائر والكبائر. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

وقال في "تحفة الأشراف" جـ 11 ص 87: قيل: إنه مولى ابن عباس، وقيل: حليف بني هاشم، وقيل: إنه أنصاري، وقال أبو أحمد بن عديّ: أبو علقمة هذا اسمه مسلم بن يسار. انتهى.

(2)

راجع "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" في النحو جـ 2 ص 198 في مبحث "لو".

(3)

طُفَاوة القِدْر بالضم: ما ظهر وعلا من زَبَدِهَا ودَسَمِهَا. أفاده في "اللسان".

ص: 425

والحديث دليل على استحباب هذا الذكر عقب الصلاة، وقد تقدم الكلام في هذه الأعداد المختلفة في هذه الأذكار بما فيه الكفاية في -92/ 1349. والله تعالى وليّ التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف رحمه الله، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا -96/ 1354 - وفي "الكبرى" -130/ 1277 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم 140 - بالسند المذكور. وفي-141 - عن أحمد بن نصر، عن مكيّ بن إبراهيم، عن يعقوب بن عطاء، عن عطاء بن أبي علقمة بن الحارث بن نوفل، عن أبي هريرة، فذكره.

قال أبو عبد الرحمن النسائيّ: يعقوب بن عطاء بن أبي رباح ضعيف، وعبد الوهّاب ابن مجاهد متروك الحديث، وعبد الله بن طاوس ثقة مأمون، وعبد الله بن سعيد بن جُبير ثقة مأمون، وعكرمة مولى ابن عباس ثقة من أعلم الناس، قاله عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌97 - (بَابُ عَقْدِ التَّسْبِيحِ)

1355 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذَّارِعُ

(2)

، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى الصنعاني) البصري، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(الحُسين بن محمد) بن أيوب الذّارع السعديّ، أبو عليّ البصري، قدم بغدادّ،

(1)

"عمل اليوم والليلة" ص 202 رقم الحديث 141.

(2)

"الذارع" بالذال المعجمة بصيغة اسم الفاعل، وفي "الكبرى""الذرّاع" بصيغة المبالغة، وهو نسبة إلى ذرع الثياب والأرض. ووقع في بعض النسخ "الزارع" بالزاي، وهو تصحيف، فتنبّه. والله أعلم.

ص: 426

صدوق [10].

روى عن يزيد بن زريع، وفُضيل بن سليمان، وعَثّام بن عليّ، وغيرهم. وعنه الترمذيّ، والنسائي،، وأبو بكر البزّار، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق، وكتب عنه في الرحلة الثالثة. وقال النسائي. ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال غيره: مات سنة (247). تفرد به المصنف، والترمذي، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث.

3 -

(عَثّام بن على) بن هُجَير -بجيم مصغّرًا- ابن بُجَير -مصغّرًا أيضاً- ابن زُرعة بن عمرو بن مالك بن خالد بن ربيعة بن الوحيد، وهو عامر بن كعب بن عامر بن كلاب العامريّ الكلابيّ، أبو علي الكوفي، صدوق، من كبار [9].

روى عن الأعمش، وهشام بن عُروة، والثوريّ، وغيرهم. وعنه محمد بن عبد الأعلى، والحسين بن محمد الذارع، ومسدد، وغيرهم.

قال الآجرّيّ، عن أبي داود: سمعت أحمد يقول: عَثّام رجل صالح، قال: وسألت أبا داود عنه؟ فجعل يُثني عليه، ويقول قولا جميلاً. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحبّ إليّ من يحيى بن عيسى الرمليّ. وقال الحاكم عن الدارقطني: ثقة. وذكره ابن شاهين في "الثقات"، وقال: قال عثمان ابن أبي شيبة: كان صدوقًا. وذكر له البزّار حديثًا تفرّد به، وقال: وهو ثقة. وقال ابن سعد: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

قال ابن نمير، والترمذيّ: مات سنة (194). وقال ابن سعد، وأبو داود: مات سنة (195)، روى له الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وحديث رقم (1782).

4 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الإمام الحجة المشهور [5] تقدم 17/ 18.

والباقون تقدموا 91/ 1348. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث تقدّم مطوّلاً بالرقم المذكور، وتقدم شرحه مستَوفًى، وكذابيان مسائله، فلتراجع هناك، تستفد، والله تعالى ولي التوفيق.

ثم إن استدلال المصنف بحديث الباب على ما بوّب له واضح، فإنه يدلّ على استحباب عقد التسبيح باليد، وقد تقدّم في رواية أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم عقدها بيمينه، فيستحبّ عقد التسبيح باليد اليمنى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 427

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبي الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، عفا الله تعالى عنه وعن والديه ومشايخه آمين:

قد انتهيت من كتابة الجزء الخامس عشر من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله تعالى، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتبى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، فى مكة المكرمة زادها الله تعالى تشريفاً وتعظيماً، وجعلني من خيار أهلها حيّاً وميتاً، وأعْظِمْ به تكريماً.

وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة الله، وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء السادس عشر مفتتحاً بالباب 98 "باب ترك مسح الجبهة بعد التسليم" الحديث رقم 1356.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

***

ص: 428