المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ١٦

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجزء السادس عشر

دَار آل بُروم

للنشر والتوزيع

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

شرح

سنن النسائي

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دَار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

صَ بُ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوال 055541026)

ص: 4

‌98 - (بَابُ تَرْكِ مَسْحِ الجَبْهَةِ بَعْدَ التَّسْلِيم)

1356 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ -وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ- عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الَّذِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ حِينِ يَمْضِي عِشْرُونَ لَيْلَةً، وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، يَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهِ، وَيَرْجِعُ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ فِي شَهْرٍ، جَاوَرَ فِيهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَمَرَهُمْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ:"إِنِّي كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَأُنْسِيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي كُلِّ وَتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ".

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: مُطِرْنَا لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ: فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِي مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ: وَقَدِ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ: وَوَجْهُهُ مُبْتَلٌّ طِينًا وَمَاءً).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفي، ثقة ثبت [10] تقدّم 1/ 1.

2 -

(2)(بكر بن مضر) بن محمد المصريّ، ثقة ثبت [8] تقدّم 122/ 173.

3 -

(ابن الهاد) يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة مكثر [5] تقدّم 73/ 90.

4 -

(محمد بن إبراهيم) بن الحارث التيمي، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة له أفراد [4] تقدّم 60/ 75.

5 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدني، ثقة فقيه [3] تقدّم 1/ 1.

6 -

(أبو سعيد الخُدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدّم 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي

(1)

قوله: "ابن سعيد" ساقط من بعض النسخ.

ص: 5

سلمة، وفيه أبو سعيد رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ) رضي الله تعالى عنه، وفى رواية للبخاري من طريق يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال:"سألت أبا سعيد، وكان صديقًا لي"، وفي رواية له: "سألت أبا سعيد، هل سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟، فقال: نعم

" فذكر الحديث. ولمسلم من طريق معمر، عن يحيى: "تذاكرنا ليلة القدر في نفر من قُريش، فأتيت أبا سعيد"، فذكره، وفي رواية همام عند البخاريّ: "انطلقت إلى أبي سعيد، فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل، فنتحدّثَ؟ فخرج، فقلت: حدثني ما سمعتَ من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر

" فأفاد بيان سبب السؤال.

وفيه تأنيس الطالب للشيخ في طلب الاختلاء به ليتمكّن مما يُريد من مسألته. قاله في "الفتح"

(1)

(قَالَ) أي أبو سعيد (كانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، يُجَاوِر) أي يعتكف، وذلك قبل أن يَعلَمَ كون ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (فِي العَشْرِ الَّذِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ) أي شهر رمضان. وفي رواية للبخاريّ من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة:"اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان". ولمسلم من طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد: "اعتكف العشر الأوسط من رمضان، يلتمس ليلة القدر قبل أن تُبَان له، فلما انقضين أَمَرَ بالبناء، فقُوّض

(2)

، ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر، فأَمَرَ بالبناء، فأُعيد"، وزاد في رواية عُمارة بن غزيّة، عن محمد بن إبراهيم أنه "اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم اعتكف العشر الأواخر"، ومثله في رواية همّام المذكورة، وزاد فيها: "أن جبريل أتاه في المرّتين، فقال له: إن الذي تطلب أَمَامك".

وهو بفتح الهمزة والميم: أي قُدّامك.

قال الطيبي: وَصَفَ الأوّلَ والأوسط بالمفرد، والأخير بالجمع، إشارةً إلى تصوير ليلة القدر في كل ليلة من ليالي العشر الأخير دون الأولين انتهى.

(فَإِذَا كَانَ مِنْ حِينِ يَمْضِي عِشْرُونَ لَيْلَةً) اسم "كان" ضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

"فتح" جـ 4 ص 787.

(2)

بالبناء للمفعول من التقويض، يقال: قَوَّضتُ البناء تقويضاً: نقَضتُهُ من غير هدم. قاله في "المصباح".

ص: 6

و"من" بمعنى "في"، كما قوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية: [الجمعة: 9]، والجار والمجرور خبرها، و"حين" مضاف إلى جملة "يمضي"، ويجوز إعرابه، وبناؤه على الأصح، فيُجرّ بالكسرة، ويُبنى على الفتح، لإضافته إلى فعل معرب، كما قال ابن مالك:

وَابْنِ أَوَ أعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيا

وَأخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

أي فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في وقت مضيّ عشرين ليلة من رمضان.

ويحتمل أن تكون "كان" تامّة، و"من" زائدة على رأي بعض النحاة في زيادتها في الإثبات، و"حين" فاعل "كان"، أي إذا جاء وقت مضيّ الليلة العشرين من رمضان (وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ) جملة معطوفة على جملة "يمضي"، أي واستقبال إحدى وعشرين منه (يَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهِ) جواب "إذا" (وَيَرْجِعُ) وفي نسخة:"ورجع"(مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ) أي يعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم، من أزواجه، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.

والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته في رمضان أنه يعتكف العشر الأوسط منه طلباً لليلة القدر، فإذا مضى عشرون ليلة من رمضان رجع إلى ييته لظنه أن ليلة القدر انقضى وقت طلبها، ورجع أيضاً من اعتكف معه تلك الليالي إلى بيوتهم. والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ فِى شَهْرٍ، جَاوَرَ) أي اعتكف (فيهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا) أي يرجع إلى بيته في صبيحتها، وهي الليلة العشرون من رمضان.

وفي رواية للبخاري من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة:"فخرج صبيحة عشرين، فخطبنا". وهي أصرح في المراد.

(فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَمَرَهُمْ بِمَا شَاءَ اللهُ) أي من أمور الدين (ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي كُنّتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ) أي العشر الأوسط (ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُجَاورَ هَذِهِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ) يعني أنه تبيّن له بالوحي أن الاعتكاف المطلوب في العشر الأواخر، لا في الأوسط. والله تعالى أعلم (فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ) بصيغة اسم المفعول، أي محلّ اعتكافه من المسجد (وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ) وفي رواية للبخاريّ:"إني أريت ليلة القدر". يعني أنه أراه الله تعالى في منامه تعيين تلك الليلة (فَأُنْسِيتُهَا) بالبناء للمفعول، وفي البخاريّ:"فأنسيتها، أو نسيتها" بالشك. قال في "الفتح": شك من الراوي، هل أنساه غيره إياها، أو نسيها هو من غير واسطة، ومنهم من ضبط "نُسّيتها" بضم أوله، والتشديد، فهو بمعنى "أنسيتها"، والمراد أنه أُنسي علم تعيينها في تلك السنة انتهى.

وسبب نسيانها هو ما أخرجه البخاريّ من حديث عُبَادة بن الصامت رضي الله عنه، قال:

ص: 7

خرج النبي صلى الله عليه وسلم، ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال:"خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرُفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة". وقوله: "تلاحى": أي تخاصم.

(فَالْتَمِسُوهَا) أي اطلبوها، واجتهدوا في إحيائها بالعمل الصالح (فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي كُلِّ وِتْرٍ) أي من لياليه، وهي الليلة الحادية والعشرون، والثالثة والعشرون، والخامسة والعشرون، والسابعة والعشرون، والتاسعة والعشرون (وَقَدْ رَأَيْتُنِي) أي رأيت نفسي في المنام (أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ) أي عليهما، وذلك علامةٌ على أن تلك الليلة كانت ليلة القدر فى تلك السنة.

(قَال أَبُو سَعِيدٍ: مُطِرْنَا) بالبناء للمفعول، يقال: مَطَرَت السماء تَمْطُرُ مَطَراً، من باب طلب، فهي ماطرة، في الرحمة. وأمطرت بالألف أيضاً لغة، قال الأزهريّ: يقال: نَبَتَ البَقْلُ، وأنبت، كما يقال: مَطَرت السماءُ وأمطرت، وأمطرت بالألف لا غير في العذاب انتهى

(1)

.

(لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ) أي قطر الماءُ من سقفه. يقال: وَكَفَ البيتُ بالمطر، والعينُ بالدمع وَكْفًا، من باب وَعَدَ، وَوكُوفاً، وَوَكِيفاً: سال قليلاً قَليلاً. قاله الفيّوميّ (فِي مُصَلَّى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي في موضع صلاته (فَنَظَرْتُ إِلّيْهِ، وَقَدِ انْصَرف مِن صَلَاةِ الصُّبْحِ) جملة حالية من الضمير المجرور (وَوَجْهُهُ مُبْتَلٌّ طِينًا وَمَاءً) وفي نسخة: "من طين وماء"، وعلى النسخة الأولى فنصب "طينًا، وماءً" على نزع الخافض، والجملة حال أيضاً، إما مترادفة، أو متداخلة. وفي رواية البخاري "ممتلىء طيناً وماء".

يعني أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم حينما انصرف من صلاة الصبح قد أبتلّ وجهه بالطين والماء، تصديقاً لما ذكره النبي الله عليه وسلم من علامة ليلة القدر في تلك السنة بقوله:"وقد رأيتني أسجُدُ في ماء وطين".

ولا شك أنه لم ينظر إلى وجهه إلا بعد انصرافه من الصلاة، فدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يمسح أثر الطين من وجهه بعد السلام من الصلاة.

وهذا محل الترجمة، حيث إنه يدلّ على عدم مسح الجبهة بعد الصلاة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

(1)

"المصباح" جـ 2 ص 575.

ص: 8

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -98/ 1356 - وفي "الكبرى" -132/ 1279 - و-2/ 3342 - عن قتيبة ابن سعيد، عن بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عنه. وفي -132/ 1095 - وفي "الكبرى" -40/ 681 - و-17/ 3387 - عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم، عن مالك، عن ابن الهاد به. و-17/ 3388 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن هشام، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة به. و-6/ 3348 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر، عن عُمارة بن غَزيّة، عن محمد بن إبراهيم به.

وأخرجه (خ) 1/ 171، 212، و1/ 206 و3/ 60 و3/ 60 و3/ 62 و3/ 64 و3/ 65 و (م) 3/ 171 و3/ 172 (د) 1382 و894 و895 و911 (ق) 1775 و1766 (مالك في الموطإ) 212 (الحميدي) 756 (أحمد) 3/ 7 و3/ 24 و3/ 60 و3/ 74 و3/ 94 (ابن خزيمة) 2171 و2219 و2243 و2220 و2238. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو ترك مسح الجبهة بعد التسليم من الصلاة.

ومنها: جواز السجود على الحائل، وحَمَلَهُ الجمهورُ على الأثر الخفيف، لكن يعكر عليه قوله:"ووجهه ممتلء طينا وماء". وأجاب النووي بأن الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة. وفيما قاله نظر، إذ هو خلاف الظاهر.

ومنها: جواز السجود في الطين.

ومنها: الأمر بطلب الأولى، والإرشاد إلى تحصيل الأفضل.

ومنها: جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقص عليه في ذلك، لاسيما فيما لم يؤذن له في تبليغه،، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع، كما في السهو في الصلاة، أو بالاجتهاد في العبادة، كما في هذه القصّة، لأن ليلة القدر لو عُيّنت في ليلة بعينها حصل الاقتصار عليها، ففاتت العبادة في غيرها، وكأن هذا هو المراد بقوله في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"وعسى أن يكون خيراً لكم".

ومنها: استحباب الاعتكاف في رمضان، وترجيح اعتكاف العشر الأخير منه.

ومنها: أن بعض الرؤيا يقع تعبيره مطابقاً له.

ومنها: ترتب الأحكام على الرؤيا الأنبياء، لأنه وحي. والله تعالى أعلم بالصواب،

ص: 9

وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في مسح الجبهة فى الصلاة، أو بعدها:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد اتفقوا على أن تركه في الصلاة أفضل، فإنه يشبه العَبَثَ، واختلفوا، هل هو مكروه، أم لا؟.

قال ابن المنذر رحمه الله: روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من الجفاء مسح الرجل أثر سجوده في الصلاة، وكره ذلك الأوزاعيّ، وأحمد، ومالك، وقال الشافعيّ: تركه أحبّ إليّ، وإن فعل فلا شيء عليه، ورخّص مالك، وأصحاب الرأي فيه انتهى.

ورُوي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال: لا يمسحُ وجهه من التراب في الصلاة حتى يتشهّد، ويسلّم. وعن سعيد بن جُبير أنه عدّه من الجفاء. وعن الحسن أنه رخّص فيه. وقال سفيان في نفض التراب عن اليدين في الصلاة: يكره، وأما عن الوجه فهو أيسر.

وفي كراهته حديثان مرفوعان:

أحدهما خرّجه ابن ماجه من رواية هارون بن هارون بن عبد الله بن الْهُدَير، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن من الجفاء أن يُكثر الرجل مسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته".

وهارون بن هارون هذا قال البخاريّ: لا يُتابَع على حديثه، وضعّفه التسائيّ، والدارقطنيّ.

والثاني: من رواية سعيد بن عبيد الله بن زياد بن جُبير بن حيّة، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أو يمسح قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده".

أخرجه البزّار فى "مسنده"، والطبرانيّ، والدارقطني، وغيرهم.

وسعيد هذا احتجّ به البخاريّ، ووثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم.

لكنه خولف في إسناد هذا الحديث، فرواه قتادة، والْجُريريّ، عن ابن بُريدة، عن ابن مسعود من قوله.

ورواه كهمس، عن ابن بُريدة، قال: كان يقال ذلك. وهذا الموقوف أصحّ.

وحكى البيهقيّ، عن البخاريّ أنه قال في المرفوع: هو حديث منكر، يضطربون فيه. وأشار الترمذيّ إليه في "باب البول قائماً"، ولم يخرجه، ثم قال: حديث بُريدة في هذا غير محفوظ. قال البيهقي: وقد روي فيه من أوجه كلها ضعيفة.

فأما مسح الوجه بعد الصلاة، فمفهوم ما روي عن ابن مسعود، وابن عباس يدلّ على أنه غير مكروه.

ص: 10

وروى الميموني، عن أحمد أنه كان إذا فرغ من صلاته مسح جبينه. وقد روي من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قضى صلاته مسح بكفّه اليمنى. وله طرق عن أنس، كلها واهية.

وكرهه طائفة لما فيه من إزالة أثر العبادة كما كرهوا التنشيف من الوضوء والسواك للصائم.

وقال عُبيد بن عُمير: لا تزال الملائكة تصلي على الإنسان ما دام أثر السجود في وجهه. أخرجه البيهقي بإسناد صحيح.

وحكى القاضي أبو يعلى روايةً عن أحمد أنه كان في وجهه شيء من أثر السجود، فمسحه رجل، فغضب، وقال: قطعت استغفار الملائكة عني، وذكر إسنادها عنه، وفيه رجل غير مسمّى انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما ذكر أن مسح الجبهة من الطين، ونحوه في الصلاة، أو بعد التسليم منها خلاف الأولى، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولأنه يشبه العَبَث، وأما القول بالكراهة فمما لا دليل عليه، والأحاديث فيه غير ثابتة كما تقدّم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌99 - (بَاب قُعُودِ الإِمَامِ فِي مُصَلاَّهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلال المصنف رحمه الله تعالى على ما ترجم له بحديث الباب غير واضح، لأن الدليل أخصّ من الدعوى، فإن الترجمة عامّة في جميع الصلوات، والحديث خاصّ بصلاة الفجر، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم بالصواب.

1357 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ قَعَدَ فِي مُصَلاَّهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ).

(1)

"شرح صحيح البخاري" جـ 7 ص 357 - 360.

ص: 11

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتيبة بن سعيد) في الباب الماضي.

2 -

(أبو الأحوص) سلّام بن سُليم الحنفي الكوفي، ثقة متقن صاحب حديث [7] تقدّم 79/ 96.

3 -

(سماك) بن حرب الذُّهْلي البكري، أبو المغيرة الكوفي، صدوق، تغيّر بآخره، فريما تلقّن، مضطرب في عكرمة [4] تقدّم 2/ 325.

4 -

(جابر بن سَمُرة) بن جُنادة السُّوائي، الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنه، تقدّم 28/ 816.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد، أنه من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو (79) من رباعيات الكتاب.

والحديث أخرجه مسلم، وشرحه يأتي في الذي بعده، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1358 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، وَذَكَرَ آخَرَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، كُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلاَّهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَيَتَحَدَّثُ أَصْحَابُهُ، يَذْكُرُونَ حَدِيثَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُنْشِدُونَ الشِّعْرَ، وَيَضْحَكُونَ، وَيَتَبَسَّمُ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة، تقدموا، في الذي قبله، سوى:

1 -

(أحمد بن سليمان) الرُّهاويّ الحافظ الثقة [11] تقدم 38/ 42.

2 -

(يحيى بن آدم) الكوفي الحافظ الحجة [9] تقدم 1/ 451.

3 -

(زهير) بن معاوية الجعفي نزيل الجزيرة، أبو خيثمة الكوفي، ثقة ثبت [7] تقدّم 38/ 42.

وقوله: "وذكر آخر"، أي ذكر يحيى بن آدم رجلاً آخر حدّثه مع زهير، قلت: لم أعرف ذلك الرجل، ولا يضرّ كونه مبهماً في صحّة الحديث لكونه ذُكر متابعًا لزهير، وهو ثقة ثبت. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما (كُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟) بتقدير همزة الاستفهام، أي أكنت تجالسه (قَالَ: نَعَمْ) وفي رواية مسلم "نعم

ص: 12

كثيراً"، أي كنت أجالسه وقتاً كثيراً (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر جلس في مصلاه) أي في الموضع الذي صلى فيه الفجر.

وهذا لا يعارض ما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللَّهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت، يا ذا الجلال والإكرام".

لإمكان الجمع بحمل هذا الحديث على أن المراد لم يقعد مستقبل القبلة، إلا المقدار المذكور، ثم يلتفت يمنةً، أو يسرةً، أو يستقبل المأمومين. وقيل: المراد: أنه لم يقعد في الصلاة التي بعدها راتبة، وأما التي لا راتبة بعدها، كصلاة الصبح فكان يقعد، والأول أقرب. والله تعالى أعلم.

(حتى تطلع الشمس) زاد في رواية مسلم: "حسنًا" أي طلوعاً حسناً، بأن ترتفع، ويخرج وقت النهي عن الصلاة.

وفيه فضل هذا الوقت، وقد أخرج الترمذيّ في "جامعه" عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تامة تامّة تامّة". وفي سنده أبو ظلال القَسْملي ضعمْه الأكثرون، لكن الحديث صحيح بشواهده.

وأخرج أبو داود في "سننه" عن أنس أيضاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحبّ إليّ من أن أُعتق أربعةً من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحبّ إليّ من أن أُعتق أربعة". قال الحافظ العراقي: إسناده حسن.

(فيتحدّث أصحابه، يذكرون حديث الجاهلية) جملة في محلّ نصب على الحال من "أصحابه". أي يذكرون الأعمال التي كانوا يعملونها في أيام كونهم غير مسلمين، وإنما كانوا يذكرونها، استقباحًا لها، وشكرًا لما هداهم الله إليه من الدين الحنيف، وأبدلهم أعمالاً صالحة، تنفعهم في الدنيا والآخرة (ويُنشدون الشعر) بضم الياء، من الإنشاد، وهو القراءة.

والشعر: هو الكلام المُقَفَّى الموزون بأوزان مخصوصة قصداً، فلا يسمى ما وقع اتفاقاً شعراً، ولا قائله شاعراً، كقوله صلى الله عليه وسلم:

هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ

وَفِي سَبِيلِ الله مَا لَقيتِ

قال السندي رحمه الله: ولعله الشعر المشتمل على النصائح، أو غير المشتمل على القبائح. انتهى.

ص: 13

(ويتبسّم صلى الله عليه وسلم) يقال: بَسَمَ بَسْمَاً، من باب ضرب: ضَحِك قليلاً من غير صوت، وابتسم، وتَبَسَّمَ كذلك، ويقال: هو دون الضَّحِك. قاله في "المصباح"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث.

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه أخرجه هنا 99/ 1357 و1358، وفي "الكبرى" 33/ 1280، 1281، وفي "عمل اليوم الليلة" رقم 170. وأخرجه (م) 2/ 2/ 132، (د) 1294 (ت) 2850 (أ) 5/ 91 و101 و105 (ابن خزيمة) 757. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو قعود المصلي في مصلاه بعد التسليم.

ومنها: بيان فضل ما بعد صلاة الصبح، حيث كان صلى الله عليه وسلم يخصّه بذكر الله تعالى.

ومنها: جواز الحديث، وذكر أيام الجاهلية في المسجد.

ومنها: جواز إنشاد الشعر في المسجد.

ومنها: جواز الضحك، والتبسّم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌100 - (بَابُ الانْصِرَافِ مِن الصَّلَاةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنف رحمه الله تعالى من هذا الباب بيان مشروعية الانصراف عن جهة اليمين، أو اليسار، فأورد حديث أنس رضي الله عنه الدّال على الانصراف عن اليمين، ثم حديث ابن مسعود رضي الله عنه الدّالّ على الانصراف عن اليسار،

(1)

جـ 1 ص 49.

ص: 14

ثم ختم الباب بحديث عائشة رضي الله عنها المتضمن للانصراف من كلا الجانبين، فبيّن بذلك أنه لا تعارص بين حديثي أنس، وابن مسعود رضي الله عنهما، وأن الانصراف عن الجهتين سواء. والله تعالى أعلم بالصواب.

1359 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، كَيْفَ أَنْصَرِفُ، إِذَا صَلَّيْتُ، عَنْ يَمِينِي، أَوْ عَنْ يَسَارِي؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتبية بن سعيد) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(أبو عوانة) وَضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقة ثبت [7] تقدّم 41/ 46.

3 -

(السّدّيّ) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، أبو محمد القرشي مولاهم الكوفيّ الأعور، وهو السدّيّ الكبير، كان يقعد في سُدَّة باب الجامع، فسمّي السّدّيّ، صدوق يَهَم ورُمي بالتشيّع [4].

روى عن أنس، وابن عباس، ورأى ابن عمر، والحسن بن علي، وأبا هريرة، وأبا سعيد، وروى عن أبيه، ويحيى بن عَبّاد، وعكرمة، وغيرهم. وعنه شعبة، والثوريّ، وأبو عوانة، وغيرهم.

قال سَلْم بن عبد الرحمن: مَرّ إبراهيم النخعي بالسدّيّ، وهو يفسر القرآن، فقال: أما إنه يفسّر تفسير القوم. وقال عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت: سمعت الشعبيّ، وقيل له: إن السدّيّ قد أعطي حظًا من علم القرآن، فقال: قد أعطي حظاً من جهل يالقرآن. وقال عليّ، عن القطّان: لا بأس به، ما سمعتُ أحداً يذكره إلا بخير، وما تركه أحد. وقال أبو طالب، عن أحمد: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي قال: قال يحيى بن معين يوماً عند عبد الرحمن بن مهديّ، وذُكر إبراهيم بن مُهاجر والسدّيّ، فقال يحيى: ضعيفان، فغضب عبد الرحمن، وكره ما قال. قال عبد الله: سألت يحيى عنهما، فقال: متقاربان في الضعف. وقال الدوريّ، عن يحيى: في حديثه ضعف. وقال الْجوزجَانيّ: هو كذّاب شَتّام. وقال أبو زرعة: ليّن. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال النسائي في "الكنى": صالح، وقال في موضع آخر: ليس به بأس .. وقال ابن عديّ: له أحاديث يَرويها عن عدّة شيوخ، وهو عندي مستقيم الحديث، صدوق لا بأس به. وقال أبو جعفر بن الأخرم: لا يُنكر له ابن عباس، قد رأى سعد بن أبي وقّاص. وقال حسين بن واقد: سمحت من السدّيّ، فما قمت حتى سمعته يتناول أبا بكر وعمر، فلم أَعُد إليه. وقال الجوزجاني: حُدّثتُ عن معتمر، عن ليث -يعني ابن أبي سُليم-

ص: 15

قال: كان بالكوفة كذّابان، فمات أحدهما، السدّيّ، والكلبي، كذا قال، وليث أشدّ ضعفاً من السديّ. وقال العجليّ: ثقة عالم بالتفسير، راوية له. وقال العقيلي: ضعيف، وكان يتناول الشيخين. وقال الساجيّ: صدوق فيه نظر. وحُكي عن أحمد: إنه ليُحسن الحديث إلّا أن هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسناداً، واستكلفه. وقال الحاكم في "المدخل" في باب الرواة الذين عيب على مسلم إخراج حديثهم: تعديل عبد الرحمن بن مهدي أقوى عند مسلم ممن جرحه بجرح غير مفسّر. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الطبري: لا يُحتجّ بحديثه. وقال خليفة: مات سنة (127). روى له الجماعة، سوى البخاري، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

4 -

(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه، تقدّم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف رحمه الله تعالى، وهو (80) من رباعيات الكتاب، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وفيه أنس رضى الله تعالى عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثاً، وهو آخر من مات من الصْحابة بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) سنة، وقد جاوز مائة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن السُّدِّيِّ) إسماعيل بن عبد الرحمن، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَيْفَ أَنْصَرِفُ) أي أرجع إلى جهة حاجتي، وليس المراد السؤال عن الانصراف بمعنى السلام؛ لأنه لا تخيير فيه بين اليمين واليسار، وإنما هو عن اليمين، ثم اليسار، وقد تقدّم ذلك في بابه (إِذَا صَلَّيْتُ) أي فرغت من الصلاة (عَن يميني، أو عن يساري؟ قال: أما) بتشديد الميم، وقد تخفف بقلّة، وقد تُبدل ياء، فيقال:"أيما"، وهي حرف شرط، وتفصيل غالباً، وتوكيد، وقد تأتي بلا تفصيل، والظاهر أنها هنا كذلك، لأنه ما ذُكر لها مُعادل، فهي لمجرّد التوكيد (أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه) أي فالسنة أن تنصرف إلى جهة يمينك، فيكون كلامه متضمناً الجوابَ مع الدليل، فكأنه قال له: انصرف عن يمينك، لأن أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن جهة يمينه. والله أعلم.

وقال السندي رحمه الله تعالى: قوله: "فأكثر ما رأيت الخ" إخبار عما رأى، وكذا حديث ابن مسعود الآتي، فلا تناقض، ولازم الحديثين أنه كان يفعل أحياناً هذا، وأحياناً

ص: 16

هذا، فدلّ على جواز الأمرين، وأما تخطئة ابن مسعود، فإنما هي لاعتقاد أحدهما واجباً بعينه، وهذا خطأ بلا ريب، واللائق أن ينصرف إلى جهة حاجته، وإلا فاليمين أفضل بلا وجوب، والظاهر أن حاجته صلى الله عليه وسلم غالباً الذهاب إلى البيت، وبيته إلى اليسار، فلذا أكثر ذهابه إلى اليسار. والله تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فإن قيل: هذا يعارض ما علّقه البخاري فى "صحيحه"، ووصله مسدد في "مسنده الكبير" من طريق سعيد، عن قتادة، قال،: كان أنس ينفتل عن يمينه، وعن يساره، ويَعيب على من يتوخّى ذلك، أن لا ينفتل إلّا عن يمينه، ويقول: يدور كما يدور الحمار.

أجيب: بأن أنساً إنما عاب من يعتقد تحتّم ذلك ووجوبه، وأما إذا. استوى الأمران فجهة اليمين أولى. قاله في "الفتح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -100/ 1359 - وفي "الكبرى" 134/ 1282 - بالسند المذكور.

وأخرجه (م) 2/ 153 (أحمد) 3/ 133 و3/ 179 و3/ 217 و3/ 280 (الدارمي) رقم 1358 و1359. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في أقوال أهل العلم في الانصراف من الصلاة:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما الانصراف: فهو قيام المصلي، وذهابه من موضع صلاته إلى حاجته، فيذهب حيث كانت حاجته، سواء كانت من جهة اليمين، أو اليسار، ولا يستحبّ له أن يقصد جهة اليمين مع حاجته إلى غيرها.

هذا قول جمهور العلماء، ورُوي عن عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، والنخعىّ، وعطاء، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

وإنما كان أكثر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره - يعني كما يأتي فى حديث ابن مسعود رضي الله عنه لأن بيوته كانت من جهة اليسار.

فإن لم يكن له حاجة في جهة من الجهات، فقال الشافعي، وكثير من أصحاب

(1)

"شرح السندي" جـ 3 ص 81.

ص: 17

أحمد: انصرافه إلى اليمين أفضل، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُعجبه التيمن في شأنه كلّه.

وحمل بعضهم على ذلك حديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب.

وحكى ابن عبد البرّ عن الحسن، وطائفة من العلماء أن الانصراف عن اليمين أفضل، وحكاه ابن عمر عن فلان، وأنكره عليه، ولعله يريد ابن عباس رضي الله عنهما.

وسئل عطاء أيهما تستحبّ؟ قال: سواء، ولم يفرّق بين أن يكون له حاجة أو لا.

وسيأتي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها آخر الباب "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصرف عن يمينه، وشماله".

ورَوَى قَبيصةُ بن هُلْب، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا، فينصرف على جانبيه جميعاً، عن يمينه وشماله.

أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن.

وعليه العمل عند أهل العلم، قال: وصحّ الأمران عن النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخص من الأدلّة المذكورة في الباب أن الانصراف لمن كانت له حاجة يكون من جهتها، وإلا فالانصراف من اليمن هو الأفضل لأنه صلى الله عليه وسلم كان يُعجبه التيامن، وبهذا تجتمع الأحاديث المختلفة في هذا الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1360 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ مِنْ نَفْسِهِ جُزْءًا، يَرَى أَنَّ حَتْمًا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلاَّ عَنْ يَمِينِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ انْصِرَافِهِ عَنْ يَسَارِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو حفص عمرو بن علي) الفلّاس البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 4/ 4. وسقط من بعض النسخ قوله:"أبو حفص".

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان الإمام الحجة المشهور [9] تقدم 4/ 4.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران تقدّم قبل بابين.

4 -

(عمارة) بن عُمير التميمي الكوفي، ثقة ثبت [4] تقدم 49/ 608.

5 -

(الأسود) بن يزيد النخعي، مخضرم ثقة مكثر فقيه [2] تقدم 29/ 33.

6 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه، تقدم 35/ 39. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح البخاري" جـ 7 ص 446 - 449.

ص: 18

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات الممصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وفيه ثلاثة من التابعين، كلهم كوفيون، يروي بعضهم عن بعض، وهم الأعمش، وعمارة، والأسود. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن الأسود) أنه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنهِ (لَا يَجعَلَنَّ) بنون التوكيد المشددة (أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ مِنْ نَفْسِهِ جزءاً) الظاهر أنه على حذف مضاف، أي من عبادة نفسه حظاً للشيطان، أو المعنى: من عند نفسه، لا من تسلط الشيطان وغلبته، يعني أنه لا ينبغي له أن يفتح باباً للشيطان بنفسه باعتقاد ما ليس بواجب واجباً. والله تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "من صلاته"(يَرَى) بفتح أوله، أي يعتقد، ويجوز الضم، أي يظنّ.

ووجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها، هو إما أن يكون بياناً للجعل، أو يكون استئنافاً، تقديره: كيف يجعل جزءًا للشيطان من نفسه؟، فقال:"يرى أن حتما عليه أن لا ينصرف الخ". أفاده العيني رحمه الله تعالى.

(أَنَّ حَتْمًا عَلَيْهِ) أي وجوباً، وفي نسخة "حقًّا"، وهو الذي في رواية البخاريّ، وانتصابه على أنه اسم "أنّ"، وقوله (أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلاَّ عَنْ يَمِينِهِ) في تأويل المصدر خبر "أنّ".

والمعنى يرى أن واجباً عليه عدم الانصراف إلا عن يمينه.

وقال السنديّ رحمه الله: وأورد عليه أن "حتمًا"، أو "حقاً" نكرة، وقوله:"أن لا ينصرف" بمنزلة المعرفة، وتنكير الاسم مع تعريف الخبر لا يجوز.

وأجيب بأنه من باب القلب.

قلت: وهذا الجواب يَهدم أساس القاعدة، إذ يَتَأَتَّى مثله في كلّ مبتدإ نكرة، مع تعريف الخبر، فما بقي لقولهم بعدم الجواز فائدة، ثم القلب لا يُقبل بلا نُكتة، فلابُدّ لمن يُجَوّز ذلك من بيان نكتة في القلب ههنا.

وقيل: بل النكرة الْمُخَصَّصَة كالمعرفة.

قلت: ذلك في صحّة الابتداء بها، ولا يلزم منه أن يكون الابتداء بها صحيحاً مع تعريف الخبر، وقد صرّحوا بامتناعه.

ص: 19

ويمكن أن يجعل أسم "أنّ" قوله: "أن لا ينصرف"، وخبره الجارّ والمجرور، وهو "عليه"، ويُجعَل "حقّا"، أو "حتماً" حالاً من ضمير "عليه"، أي يرى أن عليه الانصراف عن يمينه فقط، حال كونه حقّا لازماً، والله تعالى أعلم انتهى

(1)

.

(لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ انْصِرَافِهِ عَنْ يَسَارِهِ)"رأى" هنا بصرية، ولذا لا تتعدّى إلا إلى واحد، وهو "رسول الله"، و"أكثر انصرافه" بالنصب بدل اشتمال من "رسول الله"، و"عن يساره" متعلق به، ويحتمل أن يكون "أكثر" بالرفع على الابتداء، وخبره الجارّ والمجرور، والجملة في محل نصب على الحال من "رسول الله".

وجملة القسم مستأنفة استئنافاً بيانيًّا، وقعت جوابا لسؤال مقدر، تقديره:

لماذا كان اعتقاد وجوب الانصراف عن اليمين نصيباً للشيطان؟ قال لأني قد رأيت أكثر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يساره.

والحاصل أن هذا الاعتقاد حظّ من حظوظ الشيطان من صلاة العبد، لأنه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينصرف عن الجهتين، وأكثر انصرافه عن اليسار، فمن اعتقد وجوب الانصراف من جهة معيّنة، فقد خالف السنة، واتبع خُطُوات الشيطان. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: إن قيل: وقع التعارض بين حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا وبين حديث أنس رضي الله عنه الذي قبله، حيث عبّر كل منهما بأفعل التفضيل، فقال أنس رضي الله عنه:"أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:"أكثر انصرافه عن يساره"، فكيف الجمع بينهما؟.

قلت: جمع العلماء بينهما بأوجه، فقال النووي رحمه الله: يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، فأخبر كلّ منهما بما اعتقد أنه الأكثر، وإنما كره ابن مسعود رضي الله عنه أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين.

وقال الحافظ رحمه الله: ويمكن أن يُجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يُحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد، لأن حُجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت من جهة يساره، ويُحمل حديث أنس على ما سوى ذلك، كحال السفر.

ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما رُجّح ابن مسعود، لأنه أعلم، وأسنّ، وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تُكلّم فيه، وهو السدّيّ، وبأنه متّفق عليه، بخلاف حديث أنس في الأمرين،

(1)

"شرح السندي" جـ 3 ص 82.

ص: 20

وبأن رواية ابن مسعود تُوافق ظاهر الحال، لأن حُجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على جهة يساره.

قال: ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بين الحديثين بوجه آخر، وهو أن من قال: كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة، ومن قال: أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حال استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة، فعلى هذا لا يختصّ الانصراف بجهة معيّنة، ومن ثمَّ قال العلماء: يستحبّ الانصراف إلى جهة حاجته، لكن قالوا: إذا استوت الجهتان في حقّه فاليمين أفضل، لعموم الأحاديث المصرّحة بفضل التيامن، كحديث عائشة رضي الله عنها:"كان يُحبّ التيامن ما استطاع، في طهوره، وتنعّله، وترجّله، وفي شأنه كله" متفق عليه.

قال الجامع عفا الله عنه: أولى الجمع عندي هو الذي قاله النووي رحمه الله تعالى.

وحاصله أن كلّا منهما قال: إنه أكثرُ حَسَبَ اعتقاده، وإلا فالواقع يؤيّد ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه، حيث إن أكثر صلاته صلى الله عليه وسلم كان في مسجده، وكانت حُجره إلى جهة اليسار، فيكون أكثر انصرافه إليها.

وقد وقع التصريح بذلك عند أحمد من طريق عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أن ابن مسعود حدّثه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عامّة ما ينصرف من الصلاة على يساره إلى الحُجُرات".

فتبيّن بهذا أن الانصراف إلى جهة الحاجة هو السنة، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذ الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -100/ 1360 - وفي "الكبرى 134/ 1283 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 1/ 216 (م) 2/ 153 (د) 1042 (ق) 930 (الحميدي) 127 (أحمد) 1/ 383 و1/ 408 و1/ 429 و1/ 459 و1/ 464 (الدارمي) 1357 (ابن خزيمة) 1714 والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية الانصراف من اليسار.

ومنها: أن اعتقاد مشروعية ما ليس مشروعًا حظ من حظوظ الشيطان.

ومنها: ما قاله ابن الْمُنَيّر رحمه الله: فيه أن المندوبات قد تنقلب مكروهات، إذا رُفعت

ص: 21

عن رتبتها، لأن التيمن مستحبّ في كل شيء، أي من أمور العبادة، لكن لمّا خشي ابن مسعود رضي الله عنه أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته. والله أعلم انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1361 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرِيُّ، أَنَّ مَكْحُولاً حَدَّثَهُ، أَنَّ مَسْرُوقَ بْنَ الأَجْدَعِ حَدَّثَهُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ قَائِمًا وَقَاعِدًا، وَيُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلاً، وَيَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظلي المروزي الإمام الحجة المشهور [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(بقيّة) بن الوليد الحمصي، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، لكنه هنا صرح بالتحديث [8] تقدم 45/ 592.

3 -

(الزُّبَيديّ) محمد بن الوليد بن عامر، أبو الّهُذيل الحمصيّ القاضي. ثقة ثبت، من كبار أصحاب الزهري [7] تقدّم 455/ 56.

4 -

(مكحول) الشاميّ، أبو عبد الله، ثقة فقيه، كثير الإرسال مشهور [5] تقدم 4/ 635.

5 -

(مسروق بن الأجدع) بن مالك الهَمْدانيّ الوادعي، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم [2] تقدم 90/ 112.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، تقدّمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، وبقية قد صرّح بالتحديث، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه عائشة رضي الله تعالى عنها من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عائِشَةَ) رضي الله تعالى عنها، أنها (قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ قَائِماً وَقَاعِداً) أي يشرب أحياناً قائماً، وأحياناً قاعداً، وكذا التقدير فيما بعده.

وفيه جواز الشرب قائماً وقاعداً، ويُجمع بينه وبين حديث النهي عن الشرب قائماً

(1)

"فتح" جـ 2 ص 609.

ص: 22

بحمل النهي على التنزيه بدليل هذا الحديث، ونحوه، وهذا هو المذهب الراجح، وإليه أشار الحافظ العراقي رحمه الله تعالى في "ألفية السيرة" حيث قال:

يَشْرَبُ قَاعِداً وَمِنْ قِيَامِ

كشُرْبِهِ مِن زَمْزَمِ الْحَرَامِ

وَشُرْبِهِ مِنْ قِرْبَةٍ مُعَلَّقَهْ

دَلَّ بِهِ لِلرُّخْصَةِ الْمُحَقَّقَهْ

وقد تقدم الكلام عليه مستوفًى في 103/ 136 - فراجعه تستفدْ، وبالله تعالى التوفيق.

(وَيُصَلِّى حَافِيًا) أي بلا لبس نعل، ولا خُفّ، يقال: حَفِي الرجلُ يَحْفَى، من باب تَعِبَ، حَفَاءً، مثل سَلَام: مَشَى بغير نعل، ولا خُفّ، فهو حافٍ، والجمع حُفَاة مثل قاض وقُضاة

(1)

(وَمُنْتَعِلاً) أي لابساً نَعْلاً، وفيه جواز الصلاة حافياً ومنتعلاً، وقد تقدم تمام البحث فيه في -24/ 775 - فراجعه تستفد (وَيَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ) هذا محل الترجمة، حيث دلّ على مشروعية الانصراف من الصلاة عن جهتي اليمين واليسار. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا صحيح، انفرد به المصنف رحمه الله عن أصحاب الأصول، أخرجه هنا -100/ 1361 - وفي "الكبرى" -134/ 1284 - بالإسناد المذكور.

وأخرجه أحمد 6/ 87. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الحديث من رواية بقية بن الوليد، وقد صرّح بالتحديث.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وهذا إسناد جيِّد.

لكن رواه عبد الله بن سالم الحمصيّ -وهو ثقة ثبت- عن الزبيديّ، عن سليمان بن موسى، عن مكحول بهذا الإسناد. قال الدارقطني: وقوله: أشبه بالصواب انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: أعلّ الدارقطني رحمه الله تعالى رواية بقية هذه، برواية عبد الله بن سالم، حيث أدخل بين الزُّبيديّ ومكحول سليمان بن موسى، ورجح روايته على رواية بقية، لأنه أوثق منه.

قلت: لكن العلة هذه لا تؤثّر في صحة الحديث، لأن سند عبد الله بن سالم صحيح، فيصحّ الحديث به على أنه يمكن الجمع بأن الزُّبيديّ سمعه أولاً بواسطة سليمان، ثم لقي مكحولاً فحدثه به، كما سبق نظيره غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المصباح المنير" جـ 1 ص 143.

ص: 23

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌101 - (بَابُ الْوَقْتِ الَّذِي يَنْصَرِفُ فيهِ النِّسَاءُ مِنَ الصَّلَاةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة بيان الوقت الذي ينبغي للنساء اللاتي يصلين جماعة في المسجد أن يصرفن فيه إلى بيوتهنّ، وهو وقت سلام الإمام، الذي دلّ عليه قوله:"إذا سلّم"، فلا ينبغي لهنّ أن يتأخرن عنه، مثل الرجال، لئلا يحصل اختلاطهنّ مع الرجال في الطرقات، فتقع الفتنة، والله تعالى أعلم بالصواب.

1362 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ، فَكَانَ إِذَا سَلَّمَ انْصَرَفْنَ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، فَلَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(علي بن خشرم) المروزي، ثقة، من صغار [10] تقدم 8/ 8.

2 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاقا السبيعيّ الكوفي، ثقة مأمون [8] تقدم 8/ 8.

3 -

(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو الإمام الحجة المشهور الدمشقي [7] تقدم 45/ 56.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الشهير [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(عروة) بن الزبير الفقيه الثبت المدني [3] تقدم 40/ 44.

(عائشة) رضي الله تعالى عنها المذكورة في السند الماضي.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم شرحه والكلام على مسائله في 25/ 545 بما فيه الكفاية، فإن شئت فراجعه هناك تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "متلفّعات" بعين مهملة بعد الفاء، أي متلففات.

وقوله: "بمروطهن": جمع مِرط بكسر الميم جمع مرط: هو الكساء.

ص: 24

وقوله: "ما يُعرفن من الغلس" ببناء الفعل للمفعول، و"من" تعليلية، أي لا يعرفهنّ أحد لأجل شدة الظلام. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌102 - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ مُبَادرَةِ الإِمَامِ بِالانْصِراف منَ الصَّلَاةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن أراد المصنف رحمه الله بالانصراف الانصرافَ من الصلاة بالسلام، فاستدلاله بحديث الباب واضح، وإن أراد الانصراف إلى الحاجة بعد السلام فالاستدلال به بعيد؛ لأن سياق الحديث ظاهر في كون المراد بالانصراف هو السلامَ؛ بدليل أنه ذَكَرَ الركوع، والسجود، والقيام، ولم يذكر السلام، فدلّ على أن المراد بالانصراف هو السلام.

وأيضاً قوله: "فإني أراكم من وراء ظهري" يدلّ على أن المبادرة التي نهاهم عنها هي الواقعة في الصلاة قبل توجهه إليهم.

فتبين بهذا أن الحق كون المراد بالانصراف هو الانصراف من الصلاة بالسلام، فتبصّر.

وقد قدمنا تحقيق ما قاله أهل العلم في حكم الانصراف بعد السلام قبل الإمام، وأن الراجح جواز الانصراف قبل الإمام، إلا إذا كان هناك نساء، فيتأخّر مع الإمام حتى ينقلبن إلى بيوتهنّ قبل الاختلاط بالرجال في باب "جلسة الإمام بين التسليم والانصراف" -77/ 1332 - بما فيه الكفاية، فراجعه هناك. والله تعالى أعلم بالصواب.

1363 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "إِنِّي إِمَامُكُمْ، فَلَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالاِنْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ أَمَامِي، وَمِنْ خَلْفِي"، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"، قُلْنَا: مَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(علي بن حُجْر) المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9] تقدم 13/ 13.

ص: 25

2 -

(علي بن مُسهر) القرشي الكوفي، قاضي الموصل، ثقة، له غرائب بعدما أضرْ [8] تقدم 52/ 66.

3 -

(الْمُختار بن فُلْفُل) البصريّ، مولى عمرو بن حُريث، صدوق له أوهام [5] تقدم 21/ 904.

4 -

(أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه المذكور قبل باب. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من الرباعيات، وهي أعلى الأسانيد للمصنف رحمه الله، وهو (81) من رباعيات الكتاب، وأن رجاله رجال الصحيح، وفيه أنس رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله تعالى عنه (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ) أي يوما من الأيام (ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "إِنِّي إِمَامُكُمْ) بكسر الهمزة. قال السنديّ رحمه الله: فيه أن امتناع التقدّم عليه لكونه إماماً، فيعمّ الحكمُ كلَّ إمام، لا لكونه نبياً، ليختصّ به انتهى (فَلَا تُبَادِرُونِي) أي لا تسابقوني (بِالرُّكُوعِ، وَلَا بالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بالانْصِرَافِ) قد سبق أول الباب أن الصواب كون المراد بالانصراف هنا بمعنى السلام، فمعناه: لا تبادروني بالسلام للخروج من الصلاة. والله تعالى أعلم.

(فَإِنِّي أَرَاكمْ مِنْ أَمَامِي، وَمِنْ خَلْفِي") أي رؤية حقيقية، أعطاه الله تعالى إياها، آية على نبوته، وقد تقدم أقوال أهل العلم في هذه الرؤية مستوفًى في -106/ 1054 - فراجعه تستفد (ثُمَّ قَالَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فيه إثبات اليد لله تعالى على ما يليق بعظمته (لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً"، قُلْنَا: مَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ الله؟، قَالَ:"رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ") أي فهما سبب لكثرة البكاء وقلة الضحك، فالجنة شوقاً إليها، وخوفاً من الحرمان منها. والنار خوفاً من الدخول فيها، والاحتراق بلهيبها. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم بيان مسائله في "باب الأمر بإتمام الركوع" -106/ 1054 - فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 26

‌103 - (بَابُ ثَوَابِ مَنْ صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ)

1364 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -وَهُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَضَانَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، مِنَ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا، حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ كَانَتْ سَادِسَةٌ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ، قَامَ بِنَا، حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟، قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ"، ثُمَّ كَانَتِ الرَّابِعَةُ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا بَقِيَ ثَلاثٌ مِنَ الشَّهْرِ، أَرْسَلَ إِلَى بَنَاتِهِ، وَنِسَائِهِ، وَحَشَدَ النَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ، قَالَ دَاوُدُ: قُلْتُ: مَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدري البصريّ، ثقة [10] تقدم 42/ 47.

2 -

(بشر بن المفضّل) البصريّ ثقة ثبت عابد [8] تقدم 66/ 82.

3 -

(داود بن أبي هند) القُشيري مولاهم البصريّ، ثقة متقن، كان يَهِم بآخره [5] تقدم 21/ 538.

4 -

(الوليد بن عبد الرحمن) الْجُرَشيّ -بضم الجيم، وبالشين المعجمة- الحمصيّ الزّجّاج، ثقة [4]. كان على خَرَاج الْغُوطة أيام هشام.

روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وجُبير بن نُفير، وغيرهم. وعنه داود ابن أبي هند، ويعلى بن عطاء، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، وغيرهم.

قال الغَلَابيّ، عن ابن معين: روى داود بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الْجُرَشيّ، وهو ثقة. وقال ابن خراش: ثقة، وكان ممن قدم على الحجّاج. وقال أبو زرعة الدمشقيّ في الطبقة الثالثة: قديم، جيّد الحديث. وقال أبو حاتم، ومحمد بن عَون: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال البخاريّ: الوليد بن عبد الرحمن الجُرشيّ مولى لآل أبي سُفيان الأنصاريّ، قاله شُعيب، وأراه الوليد بن أبي مالك، قال ابن عساكر: هذا وَهَم، وكذا قوله: مولى لآل أبي سفيان، فإنه عربيّ انتهى.

قال الحافظ: ويجوز أن يكون مولى بالحلف، وإن كان عربي الأصل، فقد تابع

ص: 27

البخاريّ على ما قال أبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وابن حبّان، ووقع عند الطحاويّ في روايته لحديثه عن الحارث بن عبد الله بن أوس، عن الوليد بن عبد الرحمن بن الزّجّاج. روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث.

5 -

(جُبَير بن نُفير) الحضرميّ الحمصيّ، ثقة جليل مخضرم [2] تقدم 50/ 62.

6 -

(أبو ذر) الغفاري جُندب بن جُنَادة، وقيل: غيره الصحابي المشهور رضي الله عنه تقدم 203/ 322. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالحمصيين غير الصحابيّ، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: داود، والوليد، وجبير. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَضَانَ) فيه جواز إطلاق لفظ "رمضان" بدون ذكر "شهر"، خلافاً لمن كره ذلك، وسيأتي في محله، إن شاء الله تعالى.

(فَلَمْ يَقُمْ بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي لم يصلّ بنا صلاة الليل (حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ) أي سبع ليال من شهر رمضان (فَقَامَ بِنَا، حَتَّى ذَهَبَ نَحوٌ مِن ثُلُثِ اللَّيْلِ) أي صلى بنا الليلة السابعة مما بقي من الشهر، وهي الليلة الثالثة والعشرون، ومَدّ القيام حتى مضى زمن يُقدّر بأنه نحو ثلث الليل (ثُمَّ كانَتْ سَادِسَةٌ)"كان" هنا تامّة، بمعنى "جاء"، أي ثم جاءت ليلة سادسة مما بقي من الشهر، وهي الليلة الرابعة والعشرون التالية لليلة القيام (فَلَمْ يَقُمْ بِنَا) أي لم يصلّ بنا تلك الليلة السادسة (فَلَمَّا كانَتِ الْخَامِسَةُ، قَامَ بنَا) أي لما جاءت الليلة الخامسة مما بقي من الشهر، وهي الليلة الخامسة والعشرون صلى بنا (حَتَّى ذَهَبَ نَحوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ) أي من نصفه (قُلْنَا: يَا رَسولَ اللَّهِ) وفي رواية أبي داودة فقلتُ: يا رسول الله (لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ)"لو" للتمنّي، و"نفلتنا" بتشديد الفاء، وتخفيفها، والنّفَلُ محرّكةً في الأصل: الغنيمة والهبة، جمعها أَنفالٌ، ونَفَلَه النفَلَ مخفّفًا، ونَفَلَه مشدّدًا، وأنفله بالألف: أعطاه إيّاها. قاله المجد اللغوي.

والمعنى: نتمنّى أن تزيدنا في قيام هذه الليلة على النصف حتى يستوعبَ القيامُ كلّها، وتنفلنا من الأجر الذي يحصل من ثواب الصلاة فيها.

ص: 28

ويحتمل أن تكون "لو" شرطية، ويقدر جوابها، أي لو نفلتنا لكان خيراً لنا، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) يعني أنه إذا صلى العشاء جماعة مع الإمام، ثم صلى بعدها معه ما تيسّر له حتى ينصرف الإمام حصل له ثواب قيام ليلة كاملة، بخلاف من صلى الفرض، ثم رجع، فإنه يحصل له قيام نصف ليلة، لما في حديث عثمان رضي الله عنه عند مسلم وغيره مرفوعاً:"من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كلّه"، ولفظ أبي داود، والترمذي:"من صلى العشاء في جماعة، كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة".

(ثُمَّ كَانَتِ الرَّابِعَةُ) أي جاءت الليلة الرابعة مما بقي من الشهر، وهي ليلة السادس والعشرين (فَلَمْ يَقُمْ بنَا، فَلَمَّا بَقِيَ ثَلَاثٌ مِنَ الشَّهْر) أي ثلاث ليال منه.

[تنبيه]: ووقع في نسخ "المجتبي" هنا تصحيف "ثلاث" إلى "ثلث"، ووقع في "الكبرى"، وكذا في "كتاب قيام الليل" من "المجتبى" رقم -4/ 1605 - "ثلاث" على الصواب. فتنبه.

(أَرْسَل إِلَى بَنَاتِهِ، وَنِسَائِهِ، وَحَشَدَ النَّاسَ) أي جمعهم، يقال حَشَدتُ القومَ حَشْداً، من باب قَتَل، وفي لغة من باب ضَرَب: إذا جمعتهم، وَحَشَدُوا، يُستعمل لازماً ومُتعدّياً. قاله الفيّوميّ

(1)

.

وعلى هذا يحتمل في "الناسُ" وجهان، النصب على المفعولية، والرفع على الفاعلية، والله تعالى أعلم.

(فَقَامَ بنَا حَتَّى خَشِينَا أَن يَفُوتَنَا الفَلَاحُ) بفتح الفاء، وتخفيف اللام يأتي تفسيره.

ولفظ أبي داود: "فلمّا كانت الثالثة جمع أهله، ونساءه، والناسَ، فقام حتى خَشِينا أن يتفوتنا الفلاح".

يعني أنه قام بهم الليلة السابعة والعشرين (ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْر) من بقيّته، يعني أنه لم يصلّ بهم الليلة الثامنة والعشرين، فما بعدها.

(قَالَ دَاوُدُ) هو ابن أبي هند الراوي عن الوليد بن عبد الرحمن (قُلْتُ: مَا الفَلَاحُ؟) أي ما هو المعني بالفلاح الذي خَشُوا فَوتَهُ (قَالَ: السُّحُورُ) بضم السين: هو تناول الطعام وقت السحر، وبفتحها اسم لما يُتسحّر به من الطعام والشراب.

(1)

"المصباح المينر" جـ 1 ص 136.

ص: 29

قال في "النهاية": وأكثر ما يُروى بالفتح. وقيل: الصواب بالضمّ، لأنه بالفتح الطعام، والبركةُ والأجرُ والثواب في الفعل، لا في الطعام انتهى

(1)

.

و"الفلاح": البقاء، والفوز، والظَّفَر، وسمّي السحور فلاحاً لأن بقاء الصوم به

(2)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -203/ 1364 - و"الكبرى" -137/ 1287 - عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضّل، عن داود بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن جُبير بن نُفير، عنه. وفي -4/ 1605 - و"الكبرى" -5/ 1298 - عن عُبيد الله بن سعيد، عن محمد بن الْفُضيل، عن داود به.

وأخرجه (د) 1375 - (ت) 806 (ق) 1327 (أحمد)(5/ 159 و5/ 163 (الدارمي) 1784 و1785 (ابن خزيمة)1206. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان ثواب من صلّى مع الإمام حتى ينصرف.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخوّلهم بقيام الليل، لئلا يثقل عليهم، كما كان ذلك ديدنه صلى الله عليه وسلم في الموعظة، فكان يقوم بهم ليلة، ويدع القيام ليلة أخرى.

ومنها: تأكّد مشروعية القيام في الأفراد من ليالي العشر الأواخر من رمضان، لأنها مظنة الظّفَر بليلة القدر، وسيأتي البحث عنه في موضعه، إن شاء الله تعالى.

ومنها: زيادة الاعتناء بقيام الليلة السابعة والعشرين، وحث الناس على ذلك.

ومنها: استحباب ندب الأهل إلى فعل الطاعات، وإن كانت غير واجبة.

ومنها: مشروعية السحور في رمضان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"النهاية" جـ 2 ص 347.

(2)

"النهاية" جـ 3 ص 469.

ص: 30

‌104 - (بَابُ الرُّخْصَةِ لِلإِمَام فِي تخَطِّي رقَاب النَّاسِ)

قال الجامع عفا الله عنه: ترجمة المصنف رحمه الله تعالى قريبة من ترجمة الإمام البخاري رحمه الله تعالى، حيث قال:"باب من صلى بالناس، فذكر حاجة، فتخطاهم".

والغرض من هذه الترجمة بيان أن قعود الإمام في مصلاه بعد التسليم الذي تقدم ذكره في -99/ 1357 - و1358 - محلّه إذا لم يعرض له ما يحتاج معه إلى القيام، وإلا فله الانصراف، ولو أدّى ذلك إلى تخطي رقاب الناس.

وبهذا تحصل المناسبة بين هذه الترجمة، والأبواب السابقة، لأنها كلها تتحدث عما يتعلّق بأحكام الانصراف والله تعالى أعلم بالصواب.

1365 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَكَّارٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، سَرِيعًا، حَتَّى تَعَجَّبَ النَّاسُ لِسُرْعَتِهِ، فَتَبِعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: "إِنِّي ذَكَرْتُ، وَأَنَا فِي الْعَصْرِ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ، كَانَ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَنَا، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن بكار) بن أبي ميمونة -واسمه زيد- القرشي الأمويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الحضرميّ الحَرّاني، صدوق، كان له حفظ [10].

روى عن بشر بن السريّ، ومَخْلَد بن يزيد، ووكيع، وغيرهم. وعنه النسائي، وقال: لا بأس له، وأبو عروبة، وأبو بكر الباغَنديّ، وغيرهم.

وقال أبو زيد يحيى بن رَوح الحرّاني: سألت أبا عبد الرحمن بن بَكّار -حرّانيٌّ، من الحفّاظ ثقة، وكان مخلد بن يزيد يسأله-: لم لا تكتب عن يعلى بن الأشدق؟ فذكر قصّة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

قال أبو عروبة: مات في صفر سنة (244). انفرد به المصنّف، روى عنه في هذا الكتاب (3) أحاديث.

2 -

(بشر بن السريّ) أبو عَمْرو الأفوه البصريّ الواعظ، سكن مكة، ثقةٌ متقن، طُعن

ص: 31

فيه برأي جهم، ثم اعتذر، وتاب منه [9].

رَوى عن الثوريّ، وحماد بن سلمة، وعُمَر بن سعيد بن أبى حسين، وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل، وأحمد بن بكّار، ويحيى آدم، وغيرهم.

قال عمرو بن على: سألت عبد الرحمن بن مهديّ، عن حديث إبراهيم بن طهمان، فقال: ممن سمعته؟ فقلت: حدثنا بشر بن السريّ، فقال: سمعتَهُ من بشر، وتسألني عنه؟، لا أحدثك به أبدًا. وقال أحمد بن حنبل: حدثنا بشر بن السريّ، وكان متقناً للحديث عجباً، وقال أحمد: سمعنا منه، ثم ذكر حديث {نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، فقال: ما أدري ما هذا؟ أيش هذا؟ فوَثَبَ به الحميديّ، وأهل مكة، فاعتذر، فلم يُقبل منه، وزهد الناس فيه، فلما قدمت مكة المرّة الثانية، كان يجيء إلينا، فلا نكتب عنه. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال ابن عديّ: له غرائب عن الثوريّ، ومسعر، وغيرهما، وهو حسن الحديث، ممن يُكتب حديثه، ويقع في أحاديثه من النكرة، لأنه يروي عن شيخ مُحتَمَل، فأما هو في نفسه فلا بأس به. وقال عبّاس، عن يحيى: رأيته يَستقبل القبلة، يدعو على قول يرمونه برأي جَهْم، ويقول: معاذ الله أن أكون جهميًّا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال البَرْقاني، عن الدارقطني: مكيّ ثقة، وفي موضع آخر: وجدوا عليه في أمر المذهب، فحلف، واعتذر إلى الحميديّ في ذلك، وهو في الحديث صدوق. وقال العُقيليّ: هو في الحديث مستقيم. وقال العجليّ، وعمرو بن علي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وقال البخاريّ: كان صاحب مواعظ، يتكلّم، فسمّي الأفوه، قال: وقال محمود: مات سنة (195) وقال غيره: مات سنة (196) وهو ابن (63) سنة. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (8) أحاديث.

3 -

(عُمر بن سعيد بن أبي حُسين النوفلي) المكيّ، ثقة [6].

روى عن ابن أبي مليكة، والقاسم بن محمد، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم. وعنه الثوريّ، ووهب بن خالد، وبشر بن السريّ، وغيرهم.

قال أحمد: مكي قرشي ثقة، من أمثل من يكتبون عنه. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. ووثقه العجليّ، وابن البَرْقيّ، ومحمد بن مسعود العَجميّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى أبي داود، فأخرج له في "المراسيل"، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى" هنا تصحيف "عُمرَ" بالضم إلى "عَمْرو" بالفتح،

ص: 32

وهو غلط، والصواب الضم، ووقع في "الكبرى" على الصواب. فتنبّه.

4 -

(ابن أبي مُليكة) عبد الله بن عُبيد الله بن عبد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله بن جُدعان التيمي المكيّ، ثقة فقيه [3] تقدم 101/ 132.

5 -

(عُقبة بن الحارث) بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قُصيّ، أبو سِرْوعة النوفليّ المكيّ، أسلم يوم الفتح، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر الصديق، وجُبير بن مُطعم. وعنه عبد الله بن أبي مليكة، وعُبيد بن أبي مريم المكيّ، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.

قال أبو حاتم: أبو سروعة قاتل خُبيب، له صُحبة، اسمه عقبة بن الحارث بن عامر، وليس هو عندي بعقبة بن الحارث الذي أدركه ابن أبي مُليكة، ذاك قديم.

وقال الزبير بن بكّار: عُقبة، وهو أبو سروعة الذي قَتَلَ خُبيب بن عديّ. وحكى ابن عبد البرّ عن الزبير أنه قال: أبو سِرْوعة هو عُقبة بن الحارث، فيما قال أهل الحديث، وأما أهل النسب، فيقولون: إن عُقبة أخو أبي سِرْوَعَة، وإنهما أسلما جميعاً يوم الفتح، وقيل: بل كان أخاه لأمه، وهو أثبت عند مصعب. وقال العسكريّ: من قال: إن أبا سروعة هو عقبة هذا فقد غلط.

قال الحافظ: كذا قال، وقد أطبق أهل الحديث على أنه هو، وقولهم أولى إن شاء الله تعالى.

وذكر ابن البَرْقيّ أن عباد بن عبد الله بن الزبير روى أيضاً عن أبي سروعة. روى له الجماعة، سوى مسلم، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و3330 حديث: "وكيف بها، وقد زعمت أنها أرضعتكما

". والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وأنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، فحرّانيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاري: "صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم"(الْعَصْرَ بِالمَدِينَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ) أي رجع إلى بيته. وعند البخاري: "فسلّم"(يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، أي حال كونه متخطياً رقابهم. وللبخاريّ: "فتخطىّ رقاب الناس إلى

ص: 33

بعض حُجر نسائه" (سَرِيعاً) حال من فاعل "انصرف" أيضاً، فهما حالان مترادفان، أو من فاعل "يتخطى" فهما متداخلان (حَتَّى تَعَجَّبَ النَّاسُ لِسُرْعَتِهِ) وفي رواية البخاري: "فعجب الناس من سرعته"، وفي رواية له: "ففزع الناس من سرعته".

وكان من عادة الصحابة رضي الله عنهم الفزع والخوف إذا رأوا منه صلى الله عليه وسلم غيرَ ما يَعهَدونه، خشية أن ينزل فيهم شيء يسوؤهم.

(فَتَبِعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ) أي ليعرف سبب استعجاله في الانصراف (فَدَخَلَ) أي النبي صلى الله عليه وسلم (عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ، ثُمَّ خَرَجَ) زاد البخاريّ: "فرأى أنهم عَجبوا من سُرعته"(فَقَالَ) مبيناً لهم سبب استعجاله على غير عادته، ومعتذراً إليهم في ذلك (إِنِّي ذَكَرْتُ، وَأَنا فِي الْعَصْرِ شَيْئاً مِنْ تِبْرٍ) بكسر التاء المثناة، وسكون الموحدة: ما كان من الذهب غير مضروب، فإن ضُرب دنانير، فهو عَيْن، وقال ابن فارس: التِّبْر ما كان من الذهب والفضّة غير مَصُوغ. وقال الزّجّاج: التِّبْر كلُّ جوهر قبل استعماله، كالنحاس، والحديد، وغيرهما انتهى

(1)

.

(كَانَ عِنْدَنَا) جملة في محلّ جرّ صفة لـ"تبر"(فَكَرِهْتُ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَنَا) أي لأنه من تبر الصدقة، ففي رواية البخاريّ أنه كان تبراً من الصدقة (فَأمَرْت بِقِسْمَتِهِ) وفي رواية البخاري:"فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته". ومعنى "يحبسني" أي يشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى، وفَهم ابن بطّال منه معنى آخر، فقال: فيه أن تأخير الصدقة تحبس صاحبها يوم القيامة انتهى. ذكره في "الفتح"

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عُقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -104/ 1365 - وفي "الكبرى" -138/ 1288 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 1/ 215 و2/ 84 و2/ 140 و8/ 76 (أحمد) 4/ 7 و384 و4/ 8 و384. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

(1)

"المصباح".

(2)

"فتح" جـ 2 ص 608.

ص: 34

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز انصراف الإمام بعد السلام، بدون أن يجلس، وأن ما تقدّم من استحباب الجلوس بعد السلام محله إذا لم تعرض له حاجة، وإلا فله الخروج، وإن أدّى ذلك إلى تخطي رقاب الناس، كما أن له أن يتخطّى الصفوف في حال دخوله أيضًا، وأما غيره، فيُكره له ذلك.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وظاهر كلام أحمد أنه يُكره للإمام أيضاً، قال إسحاق بن هانىء: سألت أبا عبد الله عن الرجل يُصلي بالقوم، فإذا فرغ من الصلاة خرج من رجلين، أفهو مُتَخَطٍّ؟ قال: نعم، وأَحَبْ إليّ أن يتنحّى عن القبلة قليلاً حتى ينصرف النساء، فإن خرج مع الحائط، فهذا ليس بمتخطٍّ.

وظاهر هذا كراهة تخطيهم للإمام، وقد يكون مراده إذا لم يكن له حاجة تدعوه إلى ذلك. انتهى

(1)

.

ومنها: أنه يدلّ أن الإسراع بالقيام عقب السلام من غير تمهل لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تعجّبوا من سرعته في هذه المرة، وعَلم منهم ذلك، فلذا أعلمهم بعذره.

ومنها: استحباب الاعتذار للإمام، أو غيره إلى أصحابه، إذا فعل فعلاً غير معهود لهم، ورأى منهم الاستغراب لذلك، لئلا تتغير خواطرهم عليه.

ومنها: أن التفكّر في الصلاة في أمر لا يتعلق بالصلاة لا يفسدها، ولا ينقص من كمالها، وأن إنشاء العزم في أثناء الصلاة على الأمور الجائزة لا يضرّ.

ومنها: جواز الاستنابة في تفريق الصدقة مع القدرة على المباشرة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌105 - (بَابٌ إِذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ: هَلْ صَلَّيْتَ، هَلْ يَقُولُ: لَا؟)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة جواز قول القائل: ما صليت، وأن ذلك لا يُعاب عليه إذا لم يُفرّط في ترك الصلاة، لقوله

(1)

"شرح صحيح البخاري" جـ 7 ص 442 - 443.

ص: 35

-صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"، وقد فاتته الصلاة بسبب اشتغاله بالكفار أيامَ الخندق.

ونظير هذه الترجمة ترجمة الإِمام البخاري في "صحيحه"، على جواز القول:"فاتتنا الصلاة"، حيث قال:"باب قول الرجل فاتتنا الصلاة".

قال: وكره ابن سيرين أن يقول: فاتتنا الصلاة، ولكن ليقل: لم ندرك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أصح.

وغرضه الردّ على ابن سيرين رحمه الله، في قوله المذكور بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الفوات، حيث قال "إذا أتيتم الصلاة، فعليكم بالسكينة، فما أدركتم، فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا ". والله تعالى أعلم بالصواب.

1366 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- عَنْ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَوَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا"، فَنَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدري، الثقة المذكور قبل باب.

2 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

3 -

(خالد بن الحارث) الهُجَيمي البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

4 -

(هشام) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدَّسْتُوَائي البصري، ثقة ثبت [7] تقدم 30/ 34.

5 -

(يحيى بن أبي كثير) اليمامي البصري، ثقة ثبت يدلس، ويرسل (5) 23/ 24.

6 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف المدني، ثقة فقيه [3] تقدم 1/ 1.

7 -

(جابر بن عبد الله) بن عَمرو بن حَرَام الأنصاري السَّلَمي الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما تقدم 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه إسماعيل فإنه من أفراده، وأنه مسلسل بالبصريين إلى يحيى، والباقيان مدنيان،

(1)

ويوجد في النسخة "الهندية": ما نصه: "هذا آخر كتاب التشهد، والسلام، والسهو" انتهى.

ص: 36

وفيه جابر رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث)

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله تعالى عنهما (أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (يَوْمَ الْخَنْدَقِ) متعلق بـ"جعل" الآتي، وكذا ما بعده.

وأراد بـ"يوم الخندق" غزوة الخندق، وتسمَّى "الأحزاب"، فأما تسميتها بالخندق، فلأجل الخندق

(1)

الذي حُفر حول المدينة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أشار بذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه فيما ذكر أصحاب المغازي، حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حُوصرنا خَندَقنا علينا، فأَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حولَ المدينة، وعمل فيه بنفسه، ترغيبًا للمسلمين، فسارعوا إلى عمله، حتى فرغوا منه، وجاء المشركون فحاصروهم.

وأما تسميتها بـ"الأحزاب" فلاجتماع طوائفَ من المشركين على حرب المسلمين، وهم قُريش، وغَطَفَان، واليهود، ومن تبعهم، وقد أنزل الله تعالى في هذه القصّة صدر "سورة الأحزاب"

(2)

.

(بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ)"جعل" هي من أفعام الشروع التي ترفع المبدأ، وتنصب الخبر، واسمها ضمير عمر، وخبرها جملة "يَسُبّ".

وإنما سبّهم لأنهم كانوا السببَ في تأخيرهم الصلاة عن وقتها، إنما المختار، كما وقع لعمر رضي الله عنه، وأما مطلقاً، كما وقع لغيره.

(وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ) لفظة "كاد" من أفعال المقاربة، فإذا قلت: كاد زيد يقوم فُهم منه أنه قارب القيام، ولم يقم، قال: والغالب فيها أن لا يقترن خبرها بـ"أن"، بخلاف "عسى"، فإن الغالب فيها أن يقترن بها، كما قال في "الخلاصة":

كَكَانَ كادَ وَعَسَى لَكِنْ نَدَرْ

غَيْرُ مُضَارعِ لِهَذَيْنِ خَبَرْ

وَكوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعْدَ عَسَى

نَزْرٌ وَكَادَ الأَمْرُ فِيهِ عُكِسَا

وقد وقع خبرها هنا في رواية المصنف مقترنا بها، وكذا عند مسلم في قوله:"أن تغرب"، ومثله في رواية البخاريّ في "غزوة الأحزاب".

قال في "الفتح" هو من تصرّف الرواة، وهل تسوغ الرواية بالمعنى في مثل هذا، أولاً؟ الظاهر الجواز؛ لأن المقصود الإخبار عن صلاته العصر، كيف وقعت، لا

(1)

"الخندق" كجعفر: حَفِيرٌ حول أسوار المدن، معرب كَنْدَه. قاله في "ق".

(2)

"فتح" جـ 8 ص 148.

ص: 37

الإخبار عن عمر هل تكلّم بالراجحة، أو المرجوحة.

وإذا تقرر أن معنى "كاد" المقاربة، فقدل عمر رضي الله عنه:"ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب": معناه أنه صلى العصر قُرْب غروب الشمس، لأن نفي الصلاة يقتضي إثباتها، وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فتحصّل من ذلك لعمر ثبوت الصلاة، ولم يثبت الغروب. قاله اليعمري رحمه الله تعالى.

وقال الكرماني رحمه الله: لا يلزم من هذا السياق وقوع الصلاة في وقت العصر، بل يلزم منه أن لا تقع الصلاة، لأنه يقتضي أن كيدودته كانت عند كيدودتها، قال: وحاصله غرفًا ما صليت حتى غربت الشمس انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ولا يخفى ما بين التقريرين من الفرق، وما ادعاه من العرف ممنوع، وكذا العندية، للفرق الذي أوضحه اليعمري من الإثبات والنفي، لأن "كاد" إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، كما قال فيها الْمَعَرِّيُّ مُلغزًا:

إِذَا نُفِيَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَثْبَتَتْ

وَإنْ أَثْبَتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ

هذا إلى ما في تعبيره بلفظ "كيدودة" من الثقل. والله الهادي إلى الصواب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ من ترجيح قول اليعمريّ، والردّ على الكرماني بناء على القول المرجوح عند النحاة، فما قاله الكرماني هو الموافق للقول الراجح عندهم، وهو أن "كاد" كسائر الأفعال، نفيها نفي، وإثباتها إثبات، ودونك عبارة السمين الحلبي في "تفسيره" عند قوله تعالى:{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20].

واعلم أن خبرها إذا كانت هي منفية منفيّ في المعنى، لأنها للمقاربة، فإذا قلت: كاد زيد يفعل كان معناه قارب الفعل، إلا أنه لم يفعل، فإذا نفيت انتفى خبرها بطريق الأولى؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أولى، ولهذا كان قوله تعالى:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] أبلغ من أن لو قيل: لم يرها؛ لأنه لم يقارب الرؤية، فكيف له بها؟.

وزعم جماعة، منهم ابن جنّي، وأبو البقاء، وابن عطية أن نفيها إثبات، وإثباتها نفي، حتى ألغز أبو العلاء المعَرّيّ فيها، فقال:

أَنَحْوِيَّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ

جَرَتْ في لِسَانَي جُرْهُمِ وَثَمُودِ

إِذَا نُفِيَتْ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَثْبَتّتْ

وَإنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ

انتهى

(1)

.

(1)

"الدُّرُّ المصون في علوم الكتاب المكنون" جـ 1 ص 139 - 140.

ص: 38

فتحصل هذا أن الصحيح في معناها أن إثباتها إثبات، ونفيها نفي، كسائر الأفعال، فعلى هذا فما قاله الكرماني هو الراجح، فظاهر الحديث أن عمر رضي الله عنه لم يصل العصر، مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وبقية الصحابة رضي الله عنهم.

فقول الحافظ: فإن قيل: الظاهر أن عمر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف اختصّ بأن أدرك صلاة العصر قبل غروب الشمس، بخلاف بقية الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم؟.

فالجواب أنه يحتمل أن يكون الشغل وقع بالمشركين إلى قرب غروب الشمس، وكان عمر حينئذ متوضئًا، فبادر، فأوقع الصلاة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلمه بذلك في الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها قد شرع يتهيأ للصلاة، ولهذا قام عند الإخبار هو وأصحابه إلى الوضوء.

مبني على القول المرجوح أيضًا.

وقد اختُلف في سبب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ذلك اليوم، فقيل: كان ذلك نسيانًا، واستُبعد أن يقع ذلك من الجميع، ويمكن أن يُستدَلّ له بما رواه أحمد من حديث أبي جمعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب يوم الأحزاب، فلمّا سلّم قال:"هل علم رجل منكم أني صلّيت العصر؟ "، قالوا: لا يا رسول الله، فصلى العصر، ثم صلى المغرب انتهى.

وفي صحّة هذا الخبر نظر، لأنه مخالف لما في "الصحيحين" من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر:"والله ما صليتها"، ويمكن الجمع بينهما بتكلّف.

وقيل: كان عمدًا، لكونهم شغلوه، فلم يمكّنوه من ذلك، وهو أقرب، لاسيما، وقد وقع عند أحمد، والنسائي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أن ذلك كان قبل أن يُنزل الله في صلاة الخوف:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].

وقد اختُلف في هذا الحكم، هل نسُخ أو لا؟، كما سيأتي في "كتاب صلاة الخوف"، إن شاء الله تعالى انتهى

(1)

.

(حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ، تَغْرُبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَوَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا") هذا محل الترجمة، فإنه يدلّ على أنه إذا قيل للرجل: هل صلّيت، ولم يصلّ يجوز أن يقول: ما صليت.

(فَنَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بُطْحَانَ) قال النووي رحمه الله: هو بضم الباء الموحّدة، وإسكان الطاء، وبالحاء المهملتين، هكذا هو عند المحدّثين في رواياتهم، وفي ضبطهم

(1)

"فتح" جـ 2 ص 266 - 267.

ص: 39

وتقييدهم، وقال أهل اللغة: هو بفتح الباء، وكسر الطاء، ولم يُجيزوا غير هذا، وكذا نقله صاحب "البارع" أبو عُبيد البكري. وهو واد بالمدينة انتهى.

(فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ) أي صلاها بهم جماعةً، كما وقع التصريح بذلك في رواية الإسماعيليّ من طريق يزيد بن زُريع، عن هشام، بلفظ:"فصلّى بنا العصر".

وهذا يقتضي أن الذي فاتهم من الصلاة العصرُ.

لكن وقع في "الموطإ" من طريق أخرى أن الذي فاتهم الظهر والعصر، وفي حديث أبي سعيد أنه الظهر والعصر، والمغرب، وإنهم صلَّوا بعد هُويّ من الليل. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله". وفي قوله: "أربع" تجوّز؛ لأن العشاء لم تكن فاتت.

قال اليعمري رحمه الله تعالى: من الناس مَن رجّح ما في "الصحيحين"، وصرّح بذلك ابن العربي رحمه الله، فقال: إن الصحيح أن الصلاة التي شُغل عنها واحدة، وهي العصر.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: ويؤيده حديث علىّ في مسلم: "شغلونا عن الصلاة الوُسطَى صلاة العصر".

ومنهم من جمع بأن الخندق كانت وقعته أيامًا، فكان ذلك في أوقات مختلفة في تلك الأيام، قال اليعمري: وهذا أولى.

قال الحافظ: ويقرّبه أن روايتي أبى سعيد، وابن مسعود رضي الله عنهما ليس فيهما تعرّض لقصّة عمر رضي الله عنه، بل فيهما أن قضاءه للصلاة وقع بعد خروج وقت المغرب، وأما رواية حديث الباب، ففيها أن ذلك كان عقب غروب الشمس

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما رجحه اليعمري رحمه الله تعالى هو الأرجح عندي.

وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم شغل في أيام عن صلوات مختلفة، ففي يوم عن صلاة العصر فقط، وفي يوم عن العصر والمغرب، وفي يوم عن أربع صلوات، فبهذا تجتمع الأحاديث المختلفة في الباب، والجمع مهما أمكن أولى من إهمال بعض الروايات الصحيحة. والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ صَلّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ) فيه مشروعية الترتيب بين الفائتة والوقتية، وكذلك بين

(1)

المصدر السابق جـ 2 ص 267 - 268.

ص: 40

الفوائت، والأكثرون على وجوبه مع الذكر، لا مع النسيان، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجب الترتيب فيها، وقد تقدّم الخلاف في ذلك مُستوفًى في باب "كيف يُقضَى الفائت من الصلاة؟ " رقم -55/ 621 - فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -105/ 1366 - وفي "الكبرى" -139/ 1289 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ)(1/ 154 و1/ 164 و1/ 155 و2/ 18 و5/ 144 (م) 2/ 113 (ت) 180 (ابن خزيمة)995. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو أنه إذا سئل الرجل هل صليت، جاز أن يقول: ما صلّيت.

ومنها: جواز اليمين من غير استحلاف، إذا اقتضت مصلحة ذلك، من زيادة طمأنينة، أو نفي توهّم.

ومنها: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن التأني مع أصحابه، وتألفهم، وما ينبغي الاقتداء به في ذلك.

ومنها: مشروعية قضاء الفوائت في الجماعة، لما تقدّم من رواية الإسماعيلي، وبه قال أكثر أهل العلم، إلا الليث، مع أنه أجاز صلاة الجمعة جماعة، إذا فاتت.

ومنها: أنه استَدَلَّ به من قال: لا يُشرع الأذان للفائتة، وأجاب من قال به بأن المغرب كانت حاضرة، ولم يذكر الراوي الأذان لها، وقد عُرف من عادته صلى الله عليه وسلم الأذان للحاضرة، فدل على أن الراوي ترك ذكر ذلك، لا أنه لم يقع في نفس الأمر، وتعقّب باحتمال أن تكون المغرب لم يتهيأ إيقاعها إلا بعد خروج وقتها على رأي من يذهب إلى القول بتضييقه، وعكس ذلك بعضهم، فاستدلّ بالحديث على أن وقت المغرب متسع؛ لأنه قدّم العصر عليها، فلو كان ضيقًا لبدأ بالمغرب، ولاسيما على قول الشافعي في قوله بتقديم الحاضرة، وهو الذي قال بأن وقت المغرب ضيق، فيحتاج إلى الجواب عن هذا الحديث. وهذا في حديث جابر رضي الله عنه، وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فلا يتأتى فيه

ص: 41

هذا، لما تقدّم أن فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد مضيّ هُويّ من الليل

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توِفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌13 - (كِتَابُ الْجُمُعَةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذه الترجمة مسائل:

المسألة الأولى: في ضبط لفظ "الجمعة"، وفي سبب تسمية اليوم به، وبيان أوّل من سماه به:

قال ابن منظور رحمه الله في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية [الجمعة: 9]: خفّفها الأعمش، وثقّلها عاصم، وأهل الحجاز، والأصل فيها التخفيف "جُمْعَة"، فمن ثقّل أتبع الضمّة الضمّة، ومن خفّف فعلى الأصل، والقرّاء قرؤوها بالتثقيل، ويقال: يوم الْجُمْعَة -أي بالتسكين- لغة بني عُقَيل، ولو قرىء بها كان صوابًا، قال: والذين قالوا: الجُمُعَة -أي بالضم- ذهبوا بها إلى صفة اليوم أنه يَجْمَعُ الناسَ، كما يقال: رجل هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ ضُحَكَةٌ، وهو الْجُمْعَة -بسكون الميم- والْجُمُعَة -بضمها- والجُمَعَة -بفتحها- وهو يوم الْعَرُوبة، سُمّي بذلك لاجتماع الناس فيه، ويُجمَعُ على جمُعات وجُمع، وقحِل: الجُمْعَة على تخفيف الجُمُعة والجُمْعَة لأنها تجمع الناس كثيرًا، كما قالوا: رجل لُعَنَة يُكثرُ لَعْن الناس، ورجل ضحَكَة يُكثر الضحك.

وزعم ثَعْلب أنّ أوّل من سمّاه به كعب بن لؤيّ جدّ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له: العَرُوبة. وذكر السُّهَيلي في "الرَّوْض الأُنُف" أن كعب بن لؤيّ أوّل من جَمَّعَ يوم العَرُوبة، ولم تُسَمَّ العروبة الجمعةَ إلا مذ جاء الإِسلام، وهو أول من سماها الجمعة، فكانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم، فيخطبهم، ويُذكّرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ويُعْلِمهم أنه من ولده، ويأمرهم باتباعه صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، وينشد في ذلك أبياتًا، منها:[من البسيط]

يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فَحْوَاءَ دَعْوَتِهِ

إِذَا قُرَيْشٌ تُبَغِّي الْحَقَّ خِذْلانَا

انتهى المقصود من كلام ابن منظور رحمه الله تعالى

(2)

.

(1)

"فتح" جـ 2 ص 826.

(2)

"لسان العرب" جـ 1 ص 681.

ص: 42

وقال في "الفتح": و"الجمعة بضمّ الميم على المشهور، وقد تسكّن، وقرأ بها الأعمش، وحكى الواحديّ عن الفرّاء فتحها. وحكى الزّجّاج الكسر أيضًا.

واختلف في تسمية اليوم بذلك، مع الاتفاف على أنه كان يُسمّى في الجاهليّة العَرُوبةَ -بفتح العين المهملة، وضم الراء، وبالموحّدة- فقيل: سمي بذلك لأن كمال الخلائق جمُع فيه. ذكره أبو حُذيفة النجّاريّ في "المبتدإ" عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف.

وقيل: لأن خلق آدم جمُع فيه، ورد ذلك من حديث سلمان رضي الله عنه، أخرجه أحمد، وابن خُزيمة، وغيرهما في أثناء حديث، وله شاهد عن أبي هُريرة رضي الله عنه، ذكره ابن أبي حاتم، موقوفًا بإسناد قويّ، وأحمد مرفوعًا بإسناد ضعيف.

وهذا أصحّ الأقوال، ويليه ما أخرجه عبد بن حُميد عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصّة تجمّع الأنصار مع أسعد بن زُرَارة، وكانوا يُسمّون يوم الجمعة يوم العَرُوبة، فصلّى بهم، وذكّرهم، فسمّوه الجمعة حين اجتمعوا إليه. ذكره ابن أبي حاتم موقوفاً.

وقيل: لأن كعب بن لؤيّ كان يَجمَع قومه فيه، فيُذكّرهم، ويأمرهم بتعظيم الحرم، ويُخبرهم بأنه سيُبعث منه نبيّ. رَوَى ذلك الزبير في "كتاب النسب" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مقطوعًا، وبه جزم الفرّاء وغيره.

وقيل: إن قُصَيّا هو الذي كان يَجمعهم. ذكره ثعلب في "أماليه".

وقيل: سُمّي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه، وبهذا جزم ابن حزم، فقال: إنه اسم إسلاميّ، لم يكن في الجاهلية، وإنما كان يُسمى العَرُوبة انتهى.

وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: إن العروبة اسم قديم كان للجاهليّة، وقالوا في الجمعة: هو يوم العروبة، فالظاهر أنهم غيّروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تُسمّى: أوّل، أهون، جبار، دبار، مؤنس، عروبة، شبار.

وقال الجوهرى: كانت العرب تُسمي يوم الاثنين أهون في أسمائهم القديمة، وهذا يُشعر بأنهم أحدثوا لها أسماء، وهي هذه المتعارفة الآن، كالسبت، والأحد، إلى آخرها.

وقيل: إنّ أوّل من سمّى الجمعة العروبة كعب بن لؤيّ، وبه جزم الفراء وغيره، فيحتاج من قال: إنهم غيّروها إلا الجمعة، فأبقوه على تسمية العروبة إلى نقل خاص

(1)

.

(1)

"فتح" جـ 3 ص 3 - 4.

ص: 43

وقال ولي الدين رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدّم: وقيل: لاجتماع آدم عليه السلام مع حواء في الأرض، رواه الحاكم في "مستدركه" من حديث سلمان الفارسي-رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان ما يوم الجمعة؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"ياسلمان يوم الجمعة جمع فيه أبوكم وأمكم".

قال: فهذه خمسة أقوال في سبب تسميتها بذلك انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثانية: في أسماء الجمعة:

قال ولي الدين رحمه الله: (اعلم) أن يوم الجمعة هو الاسم الذي سماه الله تعالى به، وله أسماء أُخر:

(الأول): يوم العروبة -بفتح العين المهملة، وكان هو اسمه في الجاهلية، قال أبو جعفر النحّاس في كتابه "صناعة الكتاب" لا يعرفه أهل اللغة إلا بالألف واللام، إلا شاذا، قال: ومعناه اليوم البيّن المعظم، من أعرب: إذا بيّن، قال: ولم يزل يوم الجمعة معظما عند أهل كل ملّة.

ثم اعترضه ولى الدين بأنه لم تعرفه الأمم المتقدّمة، وأوّل من هُدي له هذه الأمة، كما في حديث الباب.

وقال أبو موسى المديني في ذيله على "الغريبين": والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام، قال: وكأنه ليس بعربي.

(الثاني): من أسمائه حَرْبة، حكاه أبو جعفر النحّاس، أي مرتفع عال كالحربة، قال: وقيل: ومن هذا اشتقّ المحراب.

(الثالث): يوم المزيد، وروى الطبراني في "معجمه الأوسط" بإسناد ضعيف عن أنس رضي الله عنه، عن النبي-صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام أنه قال:"ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد"، ذكره في أثناء حديث طويل.

(الرابع): حج المساكين، سماه بعضهم بذلك، قال الحافظ أبو الفضل العراقي في "شرح الترمذيّ": وكأنه أخذه من الحديث الذي رواه الحارث بن أبي أُسامة في "مسنده" من رواية الضحاك بن مُزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، والحديث ضعيف، وكان شعبة ينكر أن يكون الضحّاك سمع من ابن عباس، وقال ابن حبان: لم يشافه أحدًا من الصحابة، زعم أنه لقي ابن عباس، وقد وُهِّمَ انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب،

(1)

"طرح التثريب" جـ 3 ص 158 - 159.

ص: 44

وإليه المرحع والمآب.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم متى شُرعت الجمعة؟:

ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الجمعة إنما فرضت بالمدينة.

واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} والآية، لأن هذه السورة مدنية، وأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة بمكة قبل الهجرة.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله ونصّ الإمام أحمد رحمه الله على أن أول جمعة جُمعت في الإِسلام هي التي جُمعت بالمدينة مع مصعب بن عمير رضي الله عنه، وكذا قال عطاء، والأوزاعيّ، وغيرهما.

وزعمت طائفة من الفقهاء أن الجمعة فُرضت بمكة قبل الهجرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصليها بمكة قبل أن يُهاجر.

واستدلّوا لذلك بما أخرجه النسائيّ في "الكبرى" -3/ 1655 - وسيأتي أيضًا هنا ملحقًا برقم -1368 - من حديث مُعافَى بن عمران، بن إبراهيم بن طهمان، عن محمد ابن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"إن أول جمعة جُمعت بعد جمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بجُواثا بالبحرين، قرية لعبد القيس".

وقد أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من طريق أبي عامر العَقَديّ، عن إبراهيم بن طهمن، عن أبي جمرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"إن أوّل جمعة جُمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجُوَاثَى من البحرين".

وكذا رواه وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، ولفظه:"إن أوّل جمعة جُمعت في الإِسلام بعد جمعة جُمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة لَجُمعة جُمعت بجُوَاثا، قرية من قُرى البحرين". أخرجه أبو داود.

وكذلك رواه ابن المبارك، وغيره، عن إبراهيم بن طهمان.

فتبيّن بذلك أن المعافى وَهِم في إسناد الحديث ومتنه، والصواب رواية الجماعة عن إبراهيم بن طهمان.

ومعنى الحديث أن أول مسجد جُمَع فيه بعد مسجد المدينة مسجد جُوَاثا، وليس معناه أن الجمعة التي جُمعت بجواثا كانمت في الجمعة الثانية من الجمعة التي جُمعت بالمدينة، كما قد يُفهم من بعض ألفاظ الروايات، فإن عبد القيس إنما وفَدُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، كما ذكره ابن سعد، عن عروة بن الزبير، وغيره، وليس المراد به -أيضًا- أن أوّل جمعة جُمعت في الإِسلام في مسجد المدينة، فإن أوّل جمعة جُمعت بالمدينة في

ص: 45

نَقيع الْخَضِمَات

(1)

قبل أن يقدَمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن يَبني مسجدَهُ.

يدلَّ على ذلك حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أنه كان كلما سمع أذان الجمعة استغفر لأسعد بن زُرارة، فسأله ابنه عن ذلك؟ فقال: كان أوّل من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في نقيع الخضمات في هَزْم النَّبِيت من حَرَّة بني بياضة. قيل له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعين رجلاً. أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه مطوّلًا.

وروى أبو إسحاق الفَزَاريّ في كتاب "السير" له عن الأوزاعيّ، عمن حدّثه، قال: بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عُمير القُرشيّ إلى المدينة قبل أن يهاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"اجمع مَنْ بها من المسلمين، ثم انظر اليوم الذي تُجمّر فيه اليهود لسبتها، فإذا مال النهار عن شطره، فقم فيهم، ثمّ تزلّفوا إلى الله بركعتين".

قال: وقال الزهريّ، فجمّع بهم مُصعب بن عُمير في دار من دور الأنصار، فجمّع بهم، وهم بضعة عشر. قال الأوزاعيّ: وهو أول من جمّع بالناس.

قال ابن رجب: وقد أخرج الدارقطني -أظنه في "أفراده"- من رواية أحمد بن محمد ابن غالب الباهلي، نا محمد بن عبد الله، أبو زيد المدني، نا المغيرة بن عبد الرحمن، نا مالك، عن الزهريّ، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يَستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجمّع بمكة، ولا يُبيّنَ لهم، وكتب إلى مصعب بن عُمير:"أما بعد، فانظر اليوم الذي تُجمّر فيه اليهود لسبتهم. فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقرّبوا إلى الله بركعتين".

قال: فأوّل من جَمّع مصعب بن عمير حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فجمع عند الزوال من الظهر، وأظهر ذلك.

قال ابن رجب رحمه الله: وهذا إسناد موضوع، والباهلي هو غلام خليل كذّاب مشهور بالكذب، وإنما هذا من أصله من مراسيل الزهريّ، وفي هذا السياق ألفاظ منكرة.

وأخرج البيهقيّ من رواية يونس، عن الزهريّ، قال: بلغنا أن أول ما جُمعت الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمّع بالمسلمين مصعب بن عُمير.

وروى عبد الرزاّق في "كتابه"، عن معمر، عن الزهريّ، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عُمير إلى أهل المدينة ليُقرأهم القرآن، فاستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُجمّع

(1)

بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين: موضع حماه عمر لخيل المسلمين، وهو من أودية الحجاز قاله في "معجم البلدان" جـ 5 ص 348.

ص: 46

بهم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يومئذ بأمير، ولكنه انطلق يُعلّم أهل المدينة.

وذكر عبد الرزّاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: مَن أوّلُ من جَمَّع؟

قال: رجل من بني عبد الدار، زعموا، قلت: أفبأمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: فمَهْ؟!.

وأخرجه الأثرم من رواية ابن عُيينة، عن ابن جُريج، وعنده: قال: نعم، فمَنْ؟ قال ابن عُيينة: سمعت من يقول: هو مصعب بن عُمير.

ولذلك نص الإِمام أحمد في رواية أبي طالب على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أَمَرَ مصعبَ بن عمير أن يجمّع بهم بالمدينة، ونص أحمد أيضًا على أن أوّل جمعة جُمعت في الإسلام هي الجمعة التي جُمعت بالمدينة مع مصعب بن عمير. وقد تقدّم مثله عن عطاء، والأوزاعيّ.

فتبيّن بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الجمعة بالمدينة، ولم يُقمها بمكة، وهذا يدلّ على أنه كان قد فُرضت عليه الجمعة بمكة.

وممن قال: إن الجمعة فُرضت بمكة قبل الهجرة أبو حامد الإسفرايينيّ من الشافعية، والقاضي أبو يعلى في "خلافه الكبير"، وابن عَقيل في "عُمدة الأدلة" وهما من الحنابلة، وكذلك ذكره طائفة من المالكية، منهم السُّهَيليّ، وغيره.

وأما كونه لم يفعله بمكة، فيُحمَل على أنه إنما أُمِرَ بها أن يُقيمها في دار الهجرة، لا في دار الحرب، وكانت مكة إذ ذاك دار حرب. ولم يكن المسلمون يتمكنون فيها من إظهار دينهم، وكانوا خائفين على أنفسهم، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة.

وقد رُوي عن ابن سيرين أنّ تجميع الأنصار بالمدينة إنما كان عن رأيهم من غير أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكلّيّة، وأن ذلك كان قبل فرض الجمعة.

قال عبد الله بن أحمد في "مسائله": نا أبي، نا إسماعيل -هو ابن عُليّة- نا أيوب، عن محمد بن سيرين، قال: نُبّئت أن الأنصار قبل قُدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم المدينة قالوا: لو نظرنا يوماً، فاجتمعنا فيه، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله علينا به، فقالوا: يوم السبت، ثم قالوا: لا نُجامع اليهود في يومهم، قالوا: يوم الأحد، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم، قالوا: فيوم العَرُوبة -قال: وكانوا يُسَمُّون يوم الجمعة يوم العَرُوبة- فاجتمعوا في بيت أبي أُمامة أسعد بن زُرَارة، فذُبحت لهم شاة، فكَفَتهم.

وروى عبد الرزّاق في "مُصَنفه" عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: جمع أهلُ المدينة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سمَّوها الجمعة، فقالت الأنصار: لليهود يومُ يجتمعون فيه كل ستة أيام، وللنصارى أيضًا مثل ذلك، فهلُمّ، فلنجعلْ يوماً نجمتع فيه، ونذكر الله عز وجل، ونصلي، ونشكره، أو

ص: 47

كما قالوا، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصاري، فاجعلوا يوم العروبة، -وكان يُسمُّون يوم الجمعة يوم العَرُوبة- فاجتمعوا إلى أسعد بن زُرَارة، فصلى بهم، وذكرهم، فسمَّوه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه، فذبح أسعد بن زُرارة لهم شاة، فتغذَوا، وتعَشَّوا من شاة واحدة ليلتهم، فأنزل الله بعد:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الجمعة: 9].

فوقع في كلام الإِمام أحمد أن هذه هي الجمعة التي جمّعها مصعب بن عُمير، وهي التي ذكرها كعب بن مالك في حديثه أنهم كانوا أربعين رجلاً.

قال الحافظ ابن رجب: وفي هذا انظر، ويحتمل أن يكون هذا الاجتماع من الأنصار كان باجتهاد هم قبل قدوم مصعب إليهم، ثم لما قدم مصعب عليهم جمّع بهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الإِسلام حينئذ قد ظهر، وفشا، وكان يمكن إقامة شعار الإِسلام في المدينة.

وأما اجتماع الأنصار قبل ذلك، فكان في بيتا أسعد بن زُرارة قبل ظهور الإِسلام بالمدينة وفُشُوّه، وكان باجتهاد منهم، لا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى باختصار

(1)

. وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في خواص يوم الجمعة:

ذكر الإِمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى للجمعة ثلاثا وثلاثين خصوصية مفصلة، ودونك ملخّصها:

1 -

قراءة سورة السجدة في فجره.

2 -

استحباب كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وفي ليلته.

3 -

صلاة الجمعة.

4 -

الأمر بالاغتسال في يومها.

5 -

التطيب فيه.

6 -

السواك فيه.

7 -

التبكير للصلاة.

8 -

أن يشتغل بالصلاة، والذكر، والقراءة حتى يخرج الإِمام.

9 -

الإنصات للخطبة وجوبا لمن يسمعها على الأصحّ.

10 -

قراءة سورة الكهف في يومها، وفيه حديث صحيح.

11 -

عدم كراهة الصلاة فيه وقت الزوال عند الشافعي، ومن وافقه، واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية.

12 -

قراءة "سورة الجمعة"، و"المنافقين"، أو "سبح"، و"الغاشية" في صلاة الجمعة.

13 -

أنه يوم عيد متكرر في الأسبوع.

14 -

استحباب لبس أحسن الثياب فيه.

15 -

استحباب تجمير المسجد فيه.

16 -

أنه لا يجوز السفر في يومه لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها، وأما

(1)

"شرح صحيح البخاري" جـ 8 ص 62 - 70.

ص: 48

قبله، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: المنع، والجواز، والثالث يجوز للجهاد فقط.

17 -

أن للماشي إلى الجمعة بكك خطوة أجر سنة، صيامها وقيامها، وفيه حديث صححه ابن خزيمة.

18 -

أنه يوم تكفير السيئات.

19 -

أن جهنم تُسجر كلّ يوم إلا يوم الجمعة.

20 -

فيه ساعة الإجابة.

21 -

فيه صلاة الجمعة التي خُصّت بخصائص لا توجد في غيرها، من الاجتماع، والعدد المخصوص، وتقديم الخطبة، وغير ذلك.

22 -

أن فيه الخطبة التي يُقصد بها الثناء على الله تعالى، وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وتذكير العباد بأيام الله، وتحذيرهم من بأسه، ونقمته، ووصيتهم بما يُقرّبهم إليه، وإلى جنانه، ونهيم عما يقربهم من سخطه، وناره، فهذا هو مقصود الخطبة، والاجتماع لها.

23 -

أنه اليوم الذي يُستحب أن يُتَفَرَّغَ فيه للعبادة.

24 -

أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملاً على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة، جعل الله تعالى التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان، وقائمًا مقامه.

25 -

أن للصدقة فيه مزيّة على سائر الأيام.

26 -

أنه يوم يتجلّى الله عز وجل فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة، وزيارتهم له، فيكون أقربهُم إلى الإِمام أقربَهم إلى الجنة.

27 -

أنه قد فُسّر الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه بيوم الجمعة.

28 -

أنه اليوم الذي تفزع منه السموات والأرض، والجبال، والبحار، والخلائق كلها، إلا الإنس والجن، من أجل أن القيامة تقوم فيه.

29 -

أنه اليوم الذي ادّخره الله لهذه الأمة، وأضلّ عنه أهل الكتاب قبلهم.

30 -

أنه خِيرَة الله من أيّام الأسبوع، كما أن شهر رمضان خيرته من شهور العام، وليلة القدر خيرته من الليالي، ومكة خيرته من الأرض، ومحمد صلى الله عليه وسلم خيرته من خلقه.

31 -

أن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم، وتوافيها في يوم الجمعة، فيعرفون زُوّارهم، ومن يمرّ بهم، ويُسلّم عليهم

(1)

.

32 -

أنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم.

33 -

أنه يوم اجتماع الناس، وتذكيرهم بالمبدإ والمعاد. انتهى ما قاله ابن القيم رحمه

(1)

هذه الخاصية أكثر ما لها من الأدلة هي المنامات، فتحتاج لثبوتها إلى دليل مرفوع قويّ، فليُتَأَمَّل.

ص: 49

الله تعالى باختصار، وقد توسع رحمه الله تعالى في هذا الموضوع، وذكر الأدلّة على هذه الخصائص، فمن شاء التوسع في ذلك فليراجعه

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌1 - (إِيجَابِ الْجُمُعَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على إيجاب الجمعة.

ومحل استدلال المصنف رحمه الله قوله: "كتب الله عز وجل عليهم"، وهو واضح، لأن الكتابة معناها الإيجاب، كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [البقرة: 183].

وقال السندي رحمه الله تعالى: والظاهر أن الحكم بالنظر إلى الكلّ واحد، فحيث إن ذلك الحكم هو الوجوب بالنسبة إلى قوم، تعين أنه الوجوب بالنظر إلى الآخرين، والله تعالى أعلم انتهى

(2)

.

وقال الإِمام البخاريّ رحمه الله تعالى: "باب فرض الجمعة" لقول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].

قال في "الفتح": واستدلال المصنف بهذه الآية على فرضيّة الجمعة سبقه إليه الشافعيّ رحمه الله في "الأم"، وكذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثم قال: فالتنزيل، ثمّ السنّة، يدلان على إيجابها، قال: وعُلم بالإجماع أن يوم الجمعة هو الذي بين الخميس والسبت.

وقال الشيخ الموفّق رحمه الله: الأمر بالسعي يدلّ على الوجوب، إذ لا يجب السعي إلا إلى واجب.

واختلف في وقت فرضيتها، فالأكثر على أنها بالمدينة، وهو مقتضى ما تقدّم أن فرضيتها بالآية المذكورة، وهي مدنية، وقال الشيخ أبو حامد: فُرضت بمكة، وهو

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" جـ 1 ص 375 - 425 بتحقيق الأرنؤوطين.

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 87.

ص: 50

غريب. وقد تقدّم تمام البحث في ذلك في المسألة الثالثة من الباب الماضي، وبالله تعالى التوفيق.

وقال الزين ابن المنيّر رحمه الله تعالى: وجه الدلالة من الآية الكريمة مشروعية النداء لها، إذ الأذان من خواصّ الفرائض، وكذا النهي عن البيع؛ لأنه لا يُنهى عن المباح -يعني نهي تحريم- إلا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويُضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها.

قال: وأما وجه الدلالة من الحديث، فهو من التعبير بالفرض، لأنه للإلزام، وإن أطلق على غير الإلزام كالتقدير، لكنه متعيّن له لاشتماله على ذلك الصرف لأهل الكتاب عن اختياره، وتعيينه لهذه الأمة، سواء كان ذلك وقع لهم بالتنصيص، أم بالاجتهاد.

وفي سياق القصّة إشعار بأن فرضيتها على الأعيان، لا على الكفاية، وهو من جهة إطلاق الفرضية، ومن التعميم في قوله:"فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع". انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

1367 -

(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ عز وجل لَهُ -يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ- فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سعيد بن عبد الرحمن المخزُوميّ) أبو عبد الله المكّيّ، ثقة، من صغار [10] تقدّم 41/ 1277.

2 -

(سفيان) بن عُيينة الإِمام الحجة المثبت المشهور [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(أبو الزناد) عبد الله بن ذكران المدني، ثقة فقيه [5] تقدم 7/ 7.

4 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرمُز المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 7/ 7.

5 -

(ابن طاوس) عبد الله، أبو محمد اليماني، ثقة فاضل عابداً [6] تقدم 49/ 958.

6 -

(طاوس) بن كيسان الحميري مولاهم، أبو عبد الرحمن اليماني، ثقة فقيه فاضل [3] تقدّم 27/ 31.

7 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح" جـ 3 ص 4 - 5.

ص: 51

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، والترمذي، ومنها: أن قوله: "وابن طاوس الخ" بالجرّ عطف على "أبي الزناد"، فسفيان له في هذا الحديث شيخان: أبو الزناد، وعبد الله بن طاوس. ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، والابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة، روى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه قال (قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ الآخرُونَ السَّابقُونَ) زاد في رواية الشيخين: "يوم القيامة". وفي رواية لمسلم: "نحن الآخرون، ونحن السابقون".

و"الآخرون" -بكسر الخاء المعجمة، والمعنى نحن المتأخرون زمانًا، والأولون منزلةً.

والمراد أن هذه الأمة، وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة بأنهم أول من يُحشر، وأول من يُحاسب، وأول من يُقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة. وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيّ لهم قبل الخلائق

(1)

، وسيأتي للمصنف في الحديث التالي.

وقال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله: والتقييد بيوم القيامة يردّ قولَ من قال: إن المراد سبقهم بيوم الجمعة على الأيام بعده التي هي تبع له، وقولَ من قال: إن المراد سبقهم بالقبول والطاعة التي حُرمُوها، وقالوا: سمعنا وعصينا.

وصحّ وصف هذه الأمّة بالآخرية، والسبق باعتبارين، فلما اختلف الاعتبار لم يكن في ذلك تناف.

فإن قلت: كون هذه الأمة آخر الأمم أمر واضح، فما فائدة الإخبار به؟.

قلت: يحتمل أنه ذُكر توطئة لوصفهم بالسبق يوم القيامة، وأنه لا يُتخيّل من تأخرهم في الزمن تأخّرهم في الحظوظ الأُخروية، بل سابقون فيها.

ويحتمل أن يُراد بذلك الدلالة على أنهم آخر الأمم، وأن شريعتهم باقية إلى آخر

(1)

"فتح" جـ 3 ص5.

ص: 52

الدهر، ما دام التكليف موجودًا، فسائر الأمم، وإن سبقوا، لكن انقطعت شرائعهم، ونُسخت، بخلاف هذه الأمة، فإن شريعتها باقية مستمرّة، وهذا الاحتمال أمكن من الأوّل، لأنه يكون حينئذ في وصفهم بالآخريّة شرف، كما أن في وصفهم بالسبق شرفًا، وعلى الأول يكون ذكره مجرّد توطئه. والله تعالى أعلم انتهى

(1)

.

(بَيْدَ أَنَّهُمْ) بموحّدة، ثم تحتانيّة سا كنة، مثل "غير" وزنًا ومعنًى. وبه جزم الخليل والكسائيّ، ورجحه ابن سيده. وروى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعيّ، عن الربيع، عنه أن معنى "بيد""من أجل". وكذا ذكره ابن حبّان، والبغويّ، عن المزني، عن الشافعيّ. وقد استبعده عياض، ولا بعد فيه، بل معناه إنا سبقنا بالفضل، إذ هُدينا للجمعة، مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلّوا عنها مع تقدّمهم، ويشهد له ما في "فوائد ابن المقري" من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ:"نحن الآخرون في الدنيا، ونحن السابقون، أول من يدخل الجنة؛ لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا". وفي "موطأ" سعيد بن عُفير، عن مالك، عن أبي الزناد، بلفظ. "ذلك بأنهم أوتوا الكتاب".

وقال الداوديّ: هي بمعنى "على"، أو "مع". قال القرطبيّ: إن كانت بمعنى "غير"، فنصب على الاستثناء، هان كانت بمعنى "مع"، فنصب على الظرفية.

وقال الطيبيّ: هي للاستثناء، وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ، والمعنى نحن السابقون للفضل، غير أنهم أوتو الكتاب من قبلنا، ووجه التأكيد فيه ما أُدمج فيه من معنى النسخ، لأن الناسخ هو السابق في الفضل، وإن كان متأخرًا في الوجود، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله:"نحن الآخرون" مع كونه أمراً واضحًا. قاله في "الفتح".

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: "بيد" بفتح الباء الموحدة، وإسكان الياء المثناة من تحتُ، وفتح الدال المهلمة، وحكى بعضهم أنه يقال فيها "ميد" بالميم، والمشهور أنها بمعنى "غير"، وقد جزم بذلك في "الصحاح"، وقال: يقال: هو كثير المال بيد أنه بخيل، وذكر في "المحكم" مثل ذلك عن حكاية ابن السِّكّيت، ثم قال: وقيل: هي بمعنى "على"، حكاه أبو عُبيد، والأول أعلى، وحكى في "المشارق" قولًا آخر أنها بيعنى "إلّا"، ثم قال: وقد تأتي بمعنى "من أجل"، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"بيد أني من قريش"، وقد قيل ذلك في الحديث الأول، وهو بعيد انتهى. وأنشدوا على مجيئها بمعنى "من أجل" قولَ الشاعر [من الرجز]:

عَمْدًا فَعَلْتُ ذَاكَ بَيْدَ أَنِّي

أَخَافُ إِنْ هَلَكْتُ لَمْ تُرِنّي

(2)

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" جـ 3 ص 152 - 153.

(2)

في نسخة "الطرح""أن تزني"، وفي "اللسان""لم تُرِنِّي"، ولعله الصواب، ومعناه: لم تصيحي بالبكاء.

ص: 53

وقد ذكر ابن مالك أن "بيد" في قوله صلى الله عليه وسلم: "بيد أني من قُريش" بمعنى "غير"، مثل قوله [من الطويل]:

وَلَا عَيبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ

بِهنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

وسبقه إلى ذلك ابن الأثير في "النهاية"، وإنما استبعد القاضي عياض كون "بيد" في الحديث الذي نشرحه بمعنى "من أجل"، لتعلّقه بأقرب مذكور، وهو "السابقون"، فهو استثناء منه في المعنى، كأنه استثنى من سبقنا كون أهل الكتاب أوتوا الكتاب من قبلنا، ويتحد

(1)

في المعنى كونها بمعنى "غير"، وكونها بمعنى "على"، وكونها بمعنى "إلّا".

أما إذا جعلناه متعلّقًا بقوله: "الآخرون" اتجه كونها بمعنى "من أجل"، أي نحن الآخرون من أجل أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وهو بعيد كما قال، لبعده في اللفظ، ولأنه لا يحتاج إلى توجيه كوننا الآخرين بهذا، فإنّ هذا أمر معلوم، إنما الذي يحتاج إلى توجيه كوننا السابقين، وقد بين وجهه، وهو السبق يوم القيامة إلى الحظوظ الأخروية من الإراحة من كرب الموقف، ودخول الجنة.

وقد يقال: إذا كان السبق مقيداً بكونه يوم القيامة، فلا حاجة إلى أن يُستثنى إيتاؤهم الكتاب قبلنا؛ لأن هذا ليس يوم القيامة، وإنما هو في الدنيا، فالمذكور أوّلًا، وهو سبقنا يوم القيامة، لا استثناء فيه، فإذا أن يقال: إن هذا في معنى الاستثناء المنقطع، وإما أن يقال: إيتاؤهم الكتاب قبلنا في الدنيا يظهر له ثمرة يوم القيامة، فيكون هذا من سبقنا إلى الحظوظ الأُخروية، أي إلا ثمرة إيتائهم قبلنا الكتاب يظهر فيه سبقهم يوم القيامة، وفيه بُعد، وهو محتاج إلى زيادة نظر.

وذكر القاضي عياض أنه وقع عند بعض رواة مسلم "بأيد" بكسر الباء، بعدها همزة مفتوحة، كقوله تعالى:{بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} ، أي بقوة أعطاناها الله، وفَضّلنا بها لقبول أمره وطاعته، قال: وعلى هذا تكون "إنهم" مكسورة لابتداء الكلام، واستئناف التفسير، قال: وقد صحّت، والصواب الأول عند أكثرهم انتهى.

[واعلم]: أن الحديث في "مسند الشافعي" من طريق طاوس، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ "بَيْدَ" كما هو الرواية المشهورة.

ومن طريق أبي الزناد، عن الأعرج، وطريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة بلفظ "بايد"، واختلفت النسخ في ضبطه، ففي بعضها مفتوح الآخر، مثل "بيد"، إلا أنه زاد ألفاً بعد الباء، فكسر لذلك الياء لالتقاء الساكنين، وفي

(1)

هكذا نخسة "الطرح""ويتحد" ولعل الصَّواب "ويَتَّجِهُ" والله أعلم.

ص: 54

بعضها "بأيد"، ومعناه بقوّة، كما حكاه القاضي عن بعض رواة مسلم، والأولُ هو الذي ذكره في "النهاية"، فقال: وجاء في بعض الروايات "بايد أنهم"، ولم أره في اللغة بهذا المعنى، ثم قال: وقال بعضهم: إنها "بأيد" أي بقوّة. ورواه البيهقي في "سننه" من غير وجه عن ابن عُيينة، عن أبي الزناد "بايد"، وهو مضبوط في الأصل بفتح آخره، والشافعي لما رواه كذلك من طريق أبي الزناد رواه عن ابن عُيينة، عنه انتهى كلام ولي الدين رحمه الله تعالى

(1)

.

(أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا) أي أعطوه. واللام للجنس، والمراد التوراة والإنجيل، والضمير في قوله:"وأوتيناه" للقرآن. وقال القرطبي: المراد بـ"الكتاب" التوراة. وفيه نظر، لقوله:"وأوتيناه من بعدهم"، فأعاد الضمير على الكتاب، فلو كان المراد التوراة لما صحّ الإخبار؛ لأنا إنما أوتينا القرآن. قاله في "الفتح".

(وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي الكتاب، والمراد القرآن (وَهَذَا الْيَوْمُ) المراد باليوم يوم الجمعة، وأُشير إليه بـ"هذا" لكونه ذُكر في أول الكلام، كما هو في الرواية التالية عن أبي هريرة، وحذيفة رضي الله عنهما، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أضلّ الله عز وجل عن الجمعة من كان قبلنا

" الحديث.

(الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِمْ) لابدّ من تقدير مضاف؛ لأنه لا يصحّ وصف اليوم بأنه كُتب عليهم، فيقدّر: إما افتراضَ تعظيمه، وإما افتراضَ عبادة فيه، إما هذه العبادة المخصوصة المشروعة، وإما غيرها. أفاده ولي الدين.

وفي قوله: "كتب" دليل لوجوب الجمعة، فإن "كَتَب" معناه أوجب، وكذا استدلّ البخاري رحمه الله في "صحيحه" على فرض الجمعة، مع أن لفظه "فُرض عليهم".

فإن قلت: إن أريد صلاة الجمعة على الوجه المخصوص، فكيف صحّ الاستدل له بهذا الحديث، وليس فيه تعيين شيء؟.

أجيب: بأنه لما ذكر في الحديث أن المكتوب علينا هُدينا له، والذي عرفنا من شرعنا هدايتنا له هو الصلاة على الوجه المخصوص، مع ما لذلك من سوابق ولواحق دلّ ذلك على أن هذا هو المكتوب عليهم. والله تعالى أعلم. أفاده ولي الدين رحمه الله تعالى

(2)

.

(فَاخْتَلَفُوا فيه) أي اختلف أهل الكتاب في شأن ذلك اليوم المكتوب عليهم، هل يلزم تعيينه، أم يجوز استبداله بغيره؟.

(1)

"طرح التثريب" جـ 3 ص 131 - 154.

(2)

"طرح" جـ 3 ص 156.

ص: 55

قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فُرض عليهم بعينه، فتركوه؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه، وهو مؤمن، وإنما يدل -والله أعلم- أنه فُرض عليهم يوم من الجمعة، ووُكل إلى اختيارهم، ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أيّ الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة. ومال عياض إلى هذا، ورجحه بأنه لو كان فرض عليهم بعينه لقيل: فـ"خالفوا"، بدل "فاختلفوا".

وقال النووي: يمكن أن يكونوا أمروا به صريحًا، فاختلفوا، هل يلزم تعيّنه، أم يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك، فأخطؤوا انتهى.

قال الحافظ: ويشهد له ما رواه الطبريّ بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124] قال: أرادوا الجمعة، فأخطؤوا، وأخذوا السبت مكانه.

ويحتمل أن يُراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق السدّيّ التصريح بأنهم فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، فأبوا، ولفظه:"إن الله فرض على اليهود الجمعة، فأبوا، وقالوا: ياموسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئًا، فاجعله لنا، فجُعل عليهم". وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} ، وغير ذلك، وكيف لا، وهم القائلون:{سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ؟. قاله في "الفتح".

(فَهَدَانَا اللَّهُ عز وجل لَهُ) أي بالثبات عليه حين شرع لنا العبادة فيه.

وقال في "الفتح": قوله: "فهدانا الله له": يحتمل أن يُراد بأن نصّ لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزّاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين، قال: جَمَّعَ أهلُ المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى كذلك، فهلُمّ، فلنجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر الله تعالى، ونصلي، ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زُرارة، فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية [الجمعة: 9]، وهذا، وإن كان مرسلاً، فله شاهد بإسناد حسن، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وغير واحد من حديث كعب بن مالك، قال: "كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زُرَارة

" الحديث.

فمرسل ابن سيرين يدلّ على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد.

ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي، وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها

ص: 56

ثَمَّ، فقد ورد فيه حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عند الدارقطني، ولذلك جَمَّعَ بهم أولَ ما قدم المدينة، كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا، فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق.

وقيل في الحكمة في أختيارهم الجمعة: وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة، فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات، وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه انتهى.

(-يَعْني يَوْمَ الْجُمُعَةِ-) كلام جيء به لبيان مرجع اسم الإشارة في قوله: "وهذا اليوم الذي كتب الله عز وجل عليهم"، أي يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"وهذا اليوم" يومَ الجمعة.

والعناية يحتمل أن تكون من أبي هريرة رضي الله عنه، أو ممن دونه. والله تعالى أعلم.

(فَالنَّاسُ لَنَا فيه تَبَعٌ) بفتح التاء المثناة، والباء الموحّدة، جمع تابع، كالخَدَم جمع خادم.

قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: الظاهر أن معناه إنا أول من هداه الله للجمعة، وأقام أمرها، وعظّم حرمتها، فمن فعل ذلك، فهو تبع لنا.

وفي "صحيح مسلم" وغيره -وهوالحديث التالي عند المصنف- عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة، والسبت، والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيّ لهم"، وفي رواية:"بينهم قبل الخلائق".

ورواه البزّار في "مسنده" بلفظ: "المغفور لهم قبل الخلائق".

ويحتمل أن يُسْتدلّ به على أن الجمعة أول الأسبوع، ولا أعلم قائلا به، والله أعلم انتهى كلام ولي الدين رحمه الله تعالى.

(الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَد) وفي رواية أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن خُزيمة:"فهو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد".

والمعنى أنه لنا بهداية الله تعالى، ولهم باعتبار اختيارهم، وخطئهم في اجتهادهم.

قال القرطبيّ رحمه الله: "غدًا" هنا منصوب على الظرف، وهو متعلّق بمحذوف، وتقديره: اليهود يُعظّمون غداً، وكذا قوله:"وبَعدَ غد"، ولابد من هذا التقدير؛ لأن ظرف الزمان لا يكون خبرًا عن الْجُثّة انتهى.

وقال ابن مالك: الأصل أن يكون المخبر عنه بظرف الزمان من أسماء المعاني، كقولك غدًا التأهُّبُ، وبعد غد الرحيلُ، فيقدّر هنا مضافان، يكون ظرفا الزمان خبرين

ص: 57

عنهما، أي تعييد اليهود غداً، وتعييد النصارى بعد غد انتهى، وسبقه إلى نحو ذلك عياض، وهو أوجه من كلام القرطبي. قاله في "الفتح". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 1367 - وفي "الكبرى" -2/ 1654 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 1/ 68 و2/ 2 و4/ 60 و9/ 8 و175 (م) 3/ 6 (الحميدي) 945 (أحمد) 2/ 243 و249 (ابن خزيمة)1720. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو إيجاب الجمعة.

ومنها: أن الهداية والإضلال من الله تعالى، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.

ومنها: أن سلامة الإجماع من الخطإ مخصوص بهذه الأمة.

ومنها: أن استنباط معنى من الأصل يعود عليه بالإبطال باطل.

ومنها: أن القياس مع وجود النصّ فاسد.

ومنها: أن الاجتهاد في زمن نزول الوحي جائز.

ومنها: أن الجمعة أول الأسبوع شرعًا، ويدلّ على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سَبتًا، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود، فتبعوهم في ذلك.

ومنها: أن فيه بيانًا واضحًا لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السابقة زادها الله تعالى شَرَفًا وفضلًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم صلاة الجمعة:

قال الإِمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم على أن الجمعة واجبة على الأحرار البالغين الذين لا عُذر لهم انتهى

(1)

.

وقال ابن العربي رحمه الله تعالى: الجمعة فرض بإجماع الأمة. وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": أجمع المسلمون على وجوب الجمعة. وقد حكى الخطابي

(1)

"الأوسط" جـ 4 ص 17.

ص: 58

الخلاف في أنها من فُروض الأعيان، أو من فُروض الكفايات، وقال: قال أكثر الفقهاء: هي من فروض الكفايات، وذكر ما يدلّ على أن ذلك قول للشافعيّ، وقد حكاه المرعشيّ عن قوله القديم، قال الدارمي: وغلّطوا حاكيه، وقال أبو إسحاق المروزيّ: لا يجوز حكاية هذا عن الشافعي، وكذلك حكاه الروياني عن حكاية بعضهم، وغلّطه. قال العراقي: نعم هو وجه لبعض الأصحاب، قال: وأما ما ادعاه الخطّابي من أن أكثر الفقهاء قالو: إن الجمعة فرض على الكفاية، ففيه نظر، فإن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على أنها فرض عين، لكن بشروط يشترطها أهل كلّ مذهب.

وقال ابن العربي: وحكى ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة. ثم قال: قلنا: له تأويلان:

أحدهما: أن مالكاً يطلق السنة على الفرض.

الثاني: أنه أراد سنة على صفتها، لا يشاركها فيه سائر الصلوات، حسب ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله المسلمون، وقد روى ابن وهب عن مالك: عزيمةُ الجمعة على كلّ من سمع النداء انتهى.

ومن جملة الأدلّة على أن الجمعة من فرائض الأعيان قول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].

ومنها: حديث أبي هريرة المذكور في الباب.

وقد استنبط منه البخاري في "صحيحه" فرضية صلاة الجمعة، وبوّب عليه "باب فرض الجمعة"، وصرّح النووي، والحافظ بأنه يدلّ على الفرضية.

ومنها حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم في جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبيّ، أو مريض". رواه أبو داود. وصححه غير واحد.

ومنها: حديث حفصة رضي الله عنها الآتي -2/ 1371 - عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"رواح الجمعة واجب على كلّ محتلم". وهو حديث صحيح.

ومنها: حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: "لقد هَمَمت أن آمر رجلاً يُصلي بالناس، ثمّ أحرّق على رجال يتخلّفون عن الجمعة بيوتهم". رواه أحمد، ومسلم.

ومنها: حديث أبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره:"لينتهينّ أقوام عن وَدْعهم الجمعات، أو ليَختمنّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنّ من الغافلين". رواه أحمد، ويأتي للمصنف -2/ 1370 - من حديث ابن عمر،

ص: 59

وابن عباس رضي الله عنهم.

ومنها: حديث أبي الْجَعْد الضَّمْري -وله صحبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك ثلاثَ جُمع تهاونًا، طبع الله على قلبه". رواه الخمسة، ويأتي للمصنف -2/ 1369.

قال العلامة الشوكاني رحمه الله: والحق أن الجمعة من فرائض الأعيان على سامع النداء، ولو لم يكن في الباب إلا حديث طارق، وحفصة الآتيين لكانا مما تقوم به الحجة على الخصم، والاعتذار عن حديث طارق بالإرسال قد ردّ بأنه إرسال صحابي، وبأنه يشهد له حديث حفصة المذكور.

وكذلك الاعتذار بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان صغيرًا لا يتسع هو ورحبته لكل المسلمين، وما كانت تقام الجمعة في عهده صلى الله عليه وسلم بأمره إلا في مسجده، وقبائلُ العرب كانوا مقيمين في نواحي المدينة مسلمين، ولم يُؤمروا بالحضور. مدفوع بأن تخلّف المتخلفين عن الحضور بعد أمر الله تعالى به، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم والتوعد الشديد لمن لم يحضر لا يكون حجة، إلا على فرض تقريره صلى الله عليه وسلم للمتخلفين على تخلفهم، واختصاص الأوامر بمن حضر جمعته صلى الله عليه وسلم من المسلمين، وكلاهما باطل.

أما الأول: فلا يصحّ نسبة التقرير إليه بعد همه بإحراق المتخلفين عن الجمعة، وإخباره بالطبع على قلوبهم، وجعلها كقلوب المنافقين.

وأما الثاني: فمع كونه قصرًا للخطابات العامّة بدون برهان، تردّه أيضًا تلك التوعّدات، للقطع بأنه لا معنى لتوعّد الحاضرين، ولتصريحه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك الوعيد للمتخلفين.

وضيق مسجده صلى الله عليه وسلم لا يدل على عدم الفرضيّة، إلا على أن الطلب مقصور على مقدار ما يتسع له من الناس، أو عدم إمكان إقامتها في البقاع التي خارجه، وفي سائر البقاع، وكلاهما باطل.

أما الأول، فظاهر، وأما الثاني فكذلك أيضًا، لإمكان إقامتها في تلك البقاع عقلًا وشرعًا.

لا يقال: عدم أمره صلى الله عليه وسلم بإقامتها في غير مسجده يدلّ على عدم الوجوب؛ لأنا نقول: الطلب العامّ يقتضي وجوب صلاة الجمعة على كلّ فرد من أفراد المسلمين، ومن لا يمكنه إقامتها في مسجده صلى الله عليه وسلم، لا يمكنه الوفاء بما طلبه الشارع إلا بإقامتها في غيره، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب كوجوبه، كما تقرر في الأصول انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما حققه العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في هذه

ص: 60

المسألة هو الحق الذي لا مرية فيه.

وحاصله أن الجمعة فرض عين على الرجال الأحرار البالغين الذين لا عذر لهم، لوضوح أدلته المذكورة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في العدد الذي تنعقد به الجمعة:

(اعلم): أن جملة ما للعلماء من الأقوال في هذه المسألة -على ما ذكره في "الفتح"- خمسة عشر قولًا:

(1)

تصحّ من الواحد. نقله ابن حزم، وحكاه الدارمي عن القاشاني، وحكي عن الحسن بن صالح.

(2)

اثنان كالجماعة، وهو قوله النخعيّ، وأهل الظاهر.

(3)

اثنان مع الإمام، وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وحُكي عن الأوزاعي، وأبي ثور.

(4)

ثلاثة معه، وهو قول أبي حنيفة، وروي عن الأوزاعي، وأبي ثور أيضاً، واختاره المزني، والسيوطي، وحكاه عن الثوري، والليث.

(5)

سبعة، وحكي عن عكرمة.

(6)

تسعة. وحكي عن ربيعة.

(7)

اثنا عشر. وحكي عن ربيعة في رواية، ونقل عن الزهري، والأوزاعي، ومحمد بن الحسن.

(8)

مثله غير الإِمام. نقل عن إسحاق.

(9)

عشرون. وهو رواية ابن حبيب عن مالك.

(10)

ثلاثون، في روايته أيضاً عن مالك.

(11)

أربعون، وهو قول الشافعي، وطائفة.

(12)

أربعون غير الإِمام، روي عن الشافعي أيضًا، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وطائفة.

(13)

خمسون. روي عن أحمد، وفي رواية عن عمر بن عبد العزيز.

(14)

ثمانون. حكاه المازريّ.

(15)

جمع كثير بغير قيد، حكى عن مالك. قال الحافظ: ولعلّ هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل انتهى.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله بعد ذكر هذه الأقوال: إنه لا مستند لاشتراط ثمانين، أو ثلاثين، أو عشرين، أو تسعة، أو سبعة، كما أنه لا مستند لصحتها من الواحد المنفرد.

وأما من قال: إنها تصحّ باثنين، فاستدلّ بأن العدد واجب بالحديث، والإجماع، ورأى أنه لم يثبت دليل على اشتراط عدد مخصوص، وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينها وبين الجماعة، ولم يأت نصّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا، وهذا القول هو الراجح عندي.

وقال في موضع آخر: وقد انعقدت سائر الصلوات باثنين بالإجماع، والجمعه صلاة، فلا تختص بحكم يُخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. وقد قال عبد الحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث. وكذلك قال السيوطيّ: لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص انتهى كلام

ص: 61

الشوكاني رحمه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الشوكاني رحمه الله حسن جدًّا.

وحاصله أن الجمعة تنعقد باثنين، فما فوق، لحديث طارق بن شهاب رضي الله عنه مرفوعًا: "الجمعة حق واجب على كلّ مسلم في جماعة

" الحديث، وقد تقدم أنه حديث صحيح، وقد أجمعوا على أن أقل الجماعة في سائر الصلوات اثنان، فوجب كون أقل عدد الجماعة في الجمعة اثنين أيضًا، إذ لا فرق بينها وبين غيرها من الصلوات في هذا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة: في اختلاف أهل العلم في الأماكن التي تجب الجمعة على أهلها:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم في الأمصار والقرى التي يجب على أهلها الجمعة:

فقال طائفة: كل قرية فيها جماعة أن يصلّوا الجمعة، روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"إن أول جمعة جمّعت بعد جمعة بالمدينة، لَجُمعة جمّعت بجُوَاثَى من البحرين".

وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمّعون، ولا يعيب ذلك عليهم.

وروينا عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل المياه بين مكة والمدينة أن يُجمّعوا.

وقال طائفة: كلّ قرية عليهم أمير يُجمّع فبها، وروينا عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب أيما قرية فيها أمير، يقضي، ويقيم الحدود، فإنه يُجمّع فيها. وقال الأوزاعي: كل مدينة، أو قرية عليها أمير، أُمرُوا بالجمعة، فليجمّع بهم أميرهم. وقال الليث بن سعد: كل مدينة، أو قرية فيها جماعة، وعليهم أمير أُمروا بالجمعة، فليُجمّع بهم.

وقالت طائفة: لا جمعة، ولا تشريق إلا في مصر جامع، يُروى هذا القول عن علي رضي الله عنه.

وبه قال النخعي، وكان الحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين، يقولان: لا جمعة إلا في مصر، أو قال: في الأمصار.

وقال الحسن: إن عمر مصّر سبعة أمصار، أو قال: مصّر الأمصار سبعة: المدينة، والبحربن، والبصرة، والكوفة، والجزيرة، والشام، ومصر.

وقال النعمان، وابن الحسن: لا تجب الجمعة، إلا على أهل الأمصار، والمدائن، وحكي عن يعقوب أنه قال: تفسير المصر الجامع والمدينة: كلّ مصر، ومدينة فيها منبر

(1)

وقاض يُنفّذ الأحكام، ويجوز حكمه، ويقيم الحدود، قال: فهذا مصر جامع،

(1)

هكذا نسخة "الأوسط""منبر"، ولعل الصواب "أمير". والله أعلم.

ص: 62

فيه الجمعة.

وقالت طائفة: كل قرية فيها أربعون رجلاً، والقرية: البناء بالحجارة، واللبن، والجريد، والشجر، وتكون بيوتها مجتمعة، ويكون أهلها لا يظعنون شتاءً، ولا صيفاً، إلا ظعن حاجة، فإذا كانوا أربعين رجلاً أحرارا بالغين رأيت -والله أعلم- أن عليهم الجمعةَ، فإذا صلّوا الجمعة أجزأت.

هذا قوله الشافعي، ومال إلى هذا أحمد بن حنبل، وإسحاق، ولم يشترطا الشروط التي اشترطها الشافعي.

وقد روينا عن عمر بن عبد العزيز قولًا ثالثًا، أنه قال: أيما قرية فيها أربعون، فصاعدًا، عليهم إمام يقضي بينهم، فليخطب، وليصلّ ركعتين، ففي هذه الرواية عن عمر أنه ذكر إمامًا يقضي بينهم، ولم يشترط ذلك الشافعي، وأحمد، وإسحاق، واشترط الشافعيّ شروطًا لم يذكرها عمر بن عبد العزيز، وأحمد، وإسحاق.

وفيه قول خامس: وهي الرواية الرابعة عن عمر بن عبد العزيز، كتب عمر أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلًا، فليؤمّهم رجل منهم، وليخطب عليهم، وليصلّ يهم الجمعة.

وفيه قول سادس: وهو إذا لم يحضر الإمامَ إلا ثلاثة صلى الإمام الجمعة. قال الوليد. سألت الأوزاعيّ عن إمام الجمعة لم يحضره جماعة؟ قال: فليُجمّع بهم، قلّوا أو كثروا، قيل له: وإن لم يكن إلا ثالث ثلاثة؟ قال: نعم. وحكى غير الوليد عن الأوزاعيّ أنه قال: إذا كانوا ثلاثة. فليُجمّعوا، إذا كان فيهم أميرهم.

وكان أبو ثور يقول: الجمعة كسائر الصلوات، إلا أن فيها خطبة، وقصرًا من الأربع، فمتى كان إمام، وخطب بهم صلى الجمعة.

واحتجّ بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كتب إلى عمر بن الخطاب، يسأله عن الجمعة بالبحرين، فكتب إليه أن جمعوا حيثما كنتم.

وقد روينا عن مكحول أنه قال: إذا كانت القرية فيها الجماعة صلّوا الجمعة ركعتين.

وسئل مالك عن القرية التي تكون فيها جماعة المسلمين؟ قال مالك: إنا نقول: إذا كان فيها مسجد، يقيمون الصلاة يجمّعون فيه، وأسواقها قائمة، وبيوتها متصلة، ليس كبيوت أهل البادية، فأرى أن يجمّعوا، وقال مالك في القرية التي اتصل دُورها: فأرى أن يجمّعوا الجمعة، كان عليهم وال، أو لم يكن.

قال ابن المنذر: ورأيت في حكاية الميموني، عن أحمد أنه قال: كان عكرمة يقول: إذا كانوا سبعة جمّعوا، قال: ورأيته كأنه يعجبه.

ص: 63

وحكاية أحمد قولَ عكرمة قولٌ سابع.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أوجب الله تعالى على الخلق اتباع كتابه، وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله جلّ ذكره:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، وقال الله جلّ ذكره:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الجمعة: 9] فاتباع ظاهر كتاب الله عز وجل يجب، ولا يجوز أن يُستثنى من ظاهر الكتاب جماعة، دون عدد جماعة بغير حُجّة، ولو كان لله في عدد دون عدد مراد لبيّن ذلك في كتابه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما عمّ، ولما يخصّ كانت الجمعة على كلّ جماعة في دار إقامة على ظاهر الكتاب، وليس لأحد مع عموم الكتاب أن يُخرج قومًا من جملته بغير حجة يُفزَعُ إليها، وهذا يلزم مَن مذهبُهُ القول بعموم الكتاب، وأن لا يُحال ظاهر منه إلى باطن، ولا عامّ إلى خاصّ، إلا بكتاب، أو سنة، أو اتفاق.

وقد اختلفت الروايات عن عمر بن عبد العزيز، وقد ذكرناها، ولو لم تختلف الروايات عنه ما وجب الاستثناء من ظاهر الكتاب بقوله.

وليس لاحتجاج من احتجّ بقصة أسعد

(1)

في أن لا تجزىء جمعة بأقلّ من أربعين حجةٌ، إذ ليس في شيء من الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا كان عددهم كذا أن يُصلّوا، وإن نقصوا من ذلك العدد لم يُصلّوا، إنما كتب أن يصلى بمن معه، ولو ورد كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعددهم أقلّ من أربعين، فترك أن يصلي بهم لكان تاركًا لما أمره به.

ودفع بعض أهل العلم قول من زعم أن الجمعة إنما تُصَلّى في مصر، أو مدينة يكون فيها قاض ينَفِّذ الأحكام، ويقيم الحدود بأن بعض أصحابه قد صلى بالمدينة الجمعة، وليس فيها منبر، ولا قاض، ولا كانت الحدود تُقام بها في ذلك الوقت.

وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة، وليس فيها منبر، وليس المنبر، والقاضي، والحدود من أمر الصلاة بسبيل.

وقال أحمد بن حنبل في قول علي رضي الله عنه: "لا جمعة، ولا تشريق، إلا في مصر جامع": الأعمش لم يسمعه من سعد انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى مختصراً

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي رجحه الإِمام ابن المنذر من وجوب الجمعة على كل جماعة في مكان، سواء كان مدينة، أو قرية بدون عدد معين، هو

(1)

في نسخة "الأوسط""سعد"، والصواب "أسعد"، وهو ابن زرارة، وقد تقدم حديثه.

(2)

"الأوسط" جـ 4 ص 26 - 30.

ص: 64

المذهب الراجح لوضوح أدلته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السابعة: في اختلاف أهل العلم فيمن يجب عليه شهود الجمعة:

ذهبت طائفة إلى أنه محب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله. روي ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، والحسن، وعطاء، ونافع، وعكرمة، والحكم، والأوزاعي. واحتجوا بحديث "الجمعةُ على من آواه الليل إلى أهله". وهو حديث ضعيف، فيه مُعارك بن عباد ضعيف، وعبد الله بن سعيد المقبري، متروك، فلا يصح الاحتجاج به، كما قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى.

وذهبت طائفة إلى أنها تجب على من سمع النداء، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، حكاه عنهم الترمذيّ، وحكي عن عبد الله بن عمرو، ومالك. واحتجوا بحديث:"الجمعةُ على من سمع النداء". رواه أبو داود، وهو حديث ضعيف، فيه عنعنة الوليد بن مسلم، وهو مدلس، قاله العراقي.

وروي عن مالك أنها تلزم من سمع النداء بصوت الصيّت من سور البلد. وعن عطاء تلزم مَن على عشرة أميال، وقال الزهري. مَن على ستة أميال، وقال ربيعة: مَن على أربعة أميال، وروي عن مالك ثلاثة، وروي عن الشافعي فرسخ، وكذا روي عن أحمد

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي القول بوجوبها على من سمع النداء، أو كان في قوّة من يسمع، لكونه داخل المدينة، لعموم قوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية. ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم وغيره، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله ليس في قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخّص له، فلما ولى دعاه، فقال:"هل تسمع النداء بالصلاة؟ "، قال: نعم، قال:"فأجب". ورَوَى نحوه أبو داود بإسناد حسن عن ابن أم مكتوم، قال الحافظ العراقي رحمه الله: فإذا كان هذا في مطلق الجماعة، فالقول به في خصوصية الجمعة أولى انتهى

(2)

.

وأما من لا يسمع النداء لبعد مكانه، أو لكونه خارج المدينة، فلا يجب عليه إتيانها، لعدم السماع، بل يجب عليهم إقامتها في محلهم، لكونهم من أهل وجوب الجمعة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1368 -

(أَخْبَرَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ

(1)

راجع "نيل الأوطار" جـ 3 ص 268 - 269.

(2)

المصدر المذكور جـ 3/ 268.

ص: 65

الأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَضَلَّ اللَّهُ عز وجل عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ عز وجل بِنَا، فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ، وَالسَّبْتَ، وَالأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ لَنَا تَبَعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(واصل بن عبد الأعلى) بن هلال الأسديّ، أبو القاسم، أو أبو محمد الكوفي، ثقة [10] تقدم 39/ 831.

2 -

(ابن فُضَيل) محمد، أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق رمي بالتشيع [9] تقدم 18/ 799.

3 -

(أبو مالك الأشجعي) سعد بن طارق الكوفي، ثقة [4] تقدم 110/ 149.

4 -

(أبو حازم) سلمان الأشجعي الكوفي، ثقة [3] تقدم 173/ 270.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه المذكور في السند الماضي.

6 -

(ربعي بن حراش

(1)

) أبو مريم العَبْسي الكوفي، ثقة عابد مخضرم [2] تقدم 8/ 508.

7 -

(حُذيفة) بن اليمان الصحابي المشهور ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدم 2/ 2. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالكوفيين، وفيه رواية تابعي عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبي حَازمٍ) سلمان الأشجعي (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (وَعَنْ ربْعِيِّ ابْنِ حرَاشِ) عطف على "أبي حازم"، فأبو مالك الأشجعي له طريقان لهذا الحديث:

إحداهما: عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

والثانية: عن ربعي بن حراش، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه.

(عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله تعالى عنه (قَالَا) أي أبو هريرة، وحذيفة رضي الله تعالى

(1)

قوله: "رْبعيّ" بكسر الراء، وسكون الموحدة، آخره ياء مشدّدة، وقوله:"حِرَاش" بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الراء المهملة، آخره شين معجمة.

ص: 66

عنهما (قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَضَلَّ اللهُ عز وجل أي خلق فيهم الضلال، وهو ضدّ الهداية، وفيه نسبة الإضلال إلى الله تعالى، فالهداية والضلال من الله سبحانه وتعالى، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، كما نطق به الكتاب في غير ما آية:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]، ولبعضهم:

أَضَلُّ مَنْ شَاءَ وَمَنْ شَاءَ هَدَى

مَا بِيَدِ الْعَبْدِ ضَلَالٌ وَهُدَى

(عَن الْجُمُعَة) أي عن تعظيمها، وعبادة الله تعالى فيها (مَنْ كَانَ قَبْلَنَا) المراد اليهود، والنصارى، بدليل قوله (فَكَانَ لِلْيَهُود يَوْمُ السَّبْت) أي بدلاً عن الجمعة، وقد تقدّم الكلام على اختيارهم السبت (وَكَانَ للنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَد) أي بدلًا من الجمعة أيضاً (فَجَاءَ اللَّهُ عز وجل بنَا) أي خلقنا، وأوجدنا بعد هؤلاء (فَهَدَانَا لِيَوْم الْجُمُعَة) أي دلنا على تعظيمه، وعبادته فيه، ووفقنا لذلك (فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ، وَالسَّبْتَ، وَالأَحَدَ) هذا فيه دلالة أن أوّل الأسبوع الشرعيّ يومُ الجمعة، وقد تقدم ذلك في شرح الحديث السابق (وَكذَلِكَ هُمْ لنَا تَبَعٌ يَوْمَ الْقِيَامَة) أي كما أنهم تبع في هذه الأيام المذكورة، هم تبع لهذه الأمة يوم القيامة، بحيث يكونون بعدها في الحساب، والميزان، والقضاء، ودخول الجنة، وغير ذلك مما يقع في ذلك اليوم (وَنَحْنُ الآخرُونَ) بكسر الخاء المعجمة، أي المتأخرون وجودًا (من أَهْل الدُّنْيَا) الجار والمجرور حال من "المتأخرون"، أي حال كوننا من جملة أهل الدنيا (وَالأَوَّلُون يَومَ الْقِيَامَة) أي المتقدّمون على جميع الأمم في الفضل الذي في يكون هناك، وأهمه الإراحة من هول الموقف، كما بينه بقوله (الْمَقْضيُّ لهُمْ) صفة لـ"الأوّلون"(قبلَ الْخَلَاِئق) متعلق بـ"المقضي"، أي الذين يُقضَى لهم قبل الناس ليدخلوا الجنّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

هذا الحديث أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 1368 - وفي "الكبرى" -1/ 1652 - بالسند المذكور.

وأخرجه (م) 3/ 7 - (ق)1083. وفوائده تقدمت في الحديث الماضي. وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: كتب في هامش "النسخة الهندية": ما نصّه: وُجد في هامش الأصل: ما نصه:

ص: 67

1368 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ، جُمِعَتْ، بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، جُمُعَةٌ بِجُوَاثَا بِالْبَحْرَيْنِ، قَرْيَةٌ لِعَبْدِ الْقَيْسِ").

وهذا الحديث في "الكبرى" برقم -3/ 1655 - وترجم له بـ"باب بدء الجمعة".

فحيث لم أطمئن أنه من "المجتبى" لم أجعل له رقما مستقلاًّ، بل جعلت له وقم سابقه، وشرحته احتياطًا.

فرجاله: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الله بن عمار) الْمُخَرِّميّ، أبو جعفر، نزيل الْمَوْصل، ثقة حافظ [10]، تقدم 20/ 1220، من أفراد المصنف.

2 -

(الْمُعَافَى) بن عمران، أبو مسعود الموصلي، ثقة عابد فقيه، من كبار [9] تقدم 36/ 1271.

3 -

(إبراهيم بن طَهْمَان) الْخُرَاسانى، أبو الحسن سكن نيسابور، ثم مكة، ثقة يُغْرب، وتكلم فيه بالإرجاء، ويقال: رجع عنه [7] تقدم 7/ 409.

4 -

(محمد بن زياد) الجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدني، نزيل البصرة، ثقة ثبت، ربما أرسل [3] تقدم 89/ 110.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه المذكور قبله. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه، فمن أفراده، وفيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه رَأْسُ المكثرين من الرواية. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، كذا قال المعافى بن عمران، فأخطأ فيه، فقد خالف الحفاظ من أصحاب إبراهيم بن طهمان، كوكيع، وأبي عامر العقَدي، وغيرهما، فقالوا:"عن ابن عباس رضي الله عنهما"، وهو الذي أخرجه البخاري، وغيره، قال الحافظ: وهو خطأ من المعافى، ومن ثَمّ تَكلّم محمد بن عبد الله بن عمّار في إبراهيم بن طهمان، ولا ذنب له فيه، كما قاله صالح جَزَرَة، وإنما الخطأ في إسناده من المعافَى.

ويحتمل أن يكون لإبراهيم فيه إسنادان انتهى

(1)

.

(1)

"فتح" جـ 3 ص 37.

ص: 68

قَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ، جُمِعَتْ) بالبناء للمفعول، أي اجتمع الناس لأدائها. زاد وكيع في روايته عن ابن طهمان:"في الإسلام"، أخرجه أبو داود (بَعْدَ جمُعَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ) هذا خطأ بلا شكّ، والصواب ما في رواية وكيع "بالمدينة"(جُمعَةٌ بجُوَاثَا) بضم الجيم، وتخفيف الواو، وقد تُهمز، ثم مثلّثة خفيفة (بالْبَحْرَيْن) الجارّ والمجرور بدل مما قبله، أو متعلق بحال محذوف من "جواثى". وفي رواية البخاري:"من البحرين" وفي رواية وكيع. "قرية من قُرَى البحرين"(قَرْية لعَبدِ القَيْس) يحتمل الجرّ بدلاً من "البحرين"، ويحتمل أن يكون بالرفع خبرًا لمحذوف، أي هي قرية لعبد القيس، و "عبد القيس" اسم قبيلة.

وفيه إشعار بتقدم إسلام عبد القيس على غيرهم، من أهل القُرى.

وقد استدل البخاريّ بهذا الحديث على مشروعية الجمعة في القرى والمدن، فقال: في "صحيحه": "باب الجمعة في القرى والمدن".

قال في "الفتح": ووجه الدلالة أن الظاهر أن عبد القيس لم يُجَمّعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، لما عُرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدلّ جابر، وأبو سعيد رضي الله عنهما على جواز العزل بأنهم فعلوه، والقرآن ينزل، فلم يُنهَوا عنه.

وحكى الجوهريّ، والزمخشريّ، وابن الأثير: أن جُوَاثى اسم حصن بالبحرين، وهذا لا يُنافي كونها قرية، وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي، أنهما مدينة، وما ثبت في نفس الحديث من كونها قرية أصح، مع احتمال أن تكون في الأول قرية، ثم صارت مدينة انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

هذا الحديث خطأ من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما الصواب أنه من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه البخاري، وغيره من روايته، والخطأ من المعافى بن عمران، وأيضاً قوله:"بمكة" منكر، فإن المعروف أنه بالمدينة، وقد تقدم الكلام عليه في المسألة الثالثة في "كتاب الجمعة". والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: أن هذا الحديث بهذا السياق من أفراد المصنف رحمه الله تعالى،

(1)

"فتح" جـ 3 ص 36 - 37.

ص: 69

وقد أخرجه (خ) 2/ 5 و5/ 214 (د) 1068 (ابن خزيمة) 1725 - كلهم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌2 - (بَابُ التَّشْدِيدِ في التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ)

1369 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ سُفْيَانَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يعقوبن إبراهيم) الدَّوْرقيّ البغدادي، ثقة [10] تقدم 21/ 22.

2 -

(يحيى بن سعيد) القَطّان البصري الحجة المشهور [9] تقدم 2/ 2.

3 -

(محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص الليثي المدني، صدوق له أوهام [6] تقدم 16/ 17.

4 -

(عَبيدة بن سُفيان) -بفتح العين المهملة، وكسر الموحدة-

(1)

ابن الحارث بن الحضرمي، واسمه عبد الله بن عماد بن أكبر، الحضرمي المدني، ثقة [3].

روى عن أبي هريرة، وأبي الجعد الضمري، وزيد بن خالد الْجُهني. وعنه ابنه عمرو، ويقال: عُمر، وبُسر بن سعيد، وإسماعيل بن أبي خالد، ومحمد بن عمرو بن علقمة.

قال العجليّ: مدني تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان شيخاً قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى البخاريّ، له في مسلم حديث:"يحرم كل ذي ناب من السباع"، وله في هذا الكتاب، هذا الحديث، و (4324) حديث:"كل ذي ناب من السباع، فأكله حرام".

(1)

وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى": "عبيدة" بضم العين، وفتح الباء الموحدة بضبط القلم، وهو غلط، فإنه بفتح فكسر، كما ضبطناه هنا. فتنبّه.

ص: 70

5 -

(أبو الْجَعْد الضمري) قيل: اسمه أدرع، وقيل: عمرو بن بكر، وقيل: جُنَادة. قال الترمذيّ: سألت محمدا عنه، فلم يعرف اسمه، وقال: لا أعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذا الحديث -يعني حديث الباب- ولا يُعرف إلا من حديث محمد بن عمرو.

وروى عن سلمان الفارسيّ، وعنه عَييدة بن سفيان الحضرمى. وقال ابن سعد: بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يُجيّش قومه لغزوة الفتح، ولغزوة تبوك.

وقال الخزرجي في "الخلاصة": له أربعة أحاديث، وعند الأربعة حديث انتهى.

وفي "الإصابة": وقال ابن الّبَرْقيّ: قتل مع عائشة رضي الله عنها في وقعة الجَمَل، وقال البغويّ: سكن المدينة، وكانت له دار في بني ضَمْرة، وعزاه لابن سعد، وزاد: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه يَحشُر قومه لغزوة الفتح، وبعثه أيضًا إلى قومه حين أراد الخروج إلى تبوك، يَستنفر قومه، فخرج إليهم إلى الساحل، فنفروا معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم انتهى

(1)

. أخرج له الأربعة. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، غير أبي الجعد، فإنه من رجال الأربعة، وأن صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له إلا أربعة أحاديث، منها عند أصحاب السنن هذا الحديث فقط، كما تقدّم عن "الخلاصة". والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبي الجَعْد الضَّمْريِّ -وَكَانَتْ لهُ صُحْبَةٌ-) زاد الترمذي: "فيما زعم محمد بن عمرو"، يعني أن محمد بن عمرو قال: إن أبا الجعد كانت له صحبة (عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وللترمذي: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"(قَالَ: "مَنْ تَرَكَ) أي ممن تجب عليه (ثَلَاثَ جُمع) بضم، ففتح، جمع جُمعة. ولفظ ابن خُزيمة في "صحيحه" -1857 - من طريق سفيان الثوري، عن محمد بن عمرو "من ترك الجمعة ثلاثًا، من غير عُذر -قال في خبر ابن إدريس- طُبع على قلبه"، وفي خبر وكيع "فهو منافق".

قال الباجي رحمه الله: وأما اعتبار العدد في الحديث، فانتظار للفَيْئة، وإمهال منه تعالى عبده للتوبة.

وقال الشوكاني رحمه الله: يحتمل أن يراد حصول الترك مطلقاً، سواء توالت الجمعات، أو تفرّقت، حتى لو ترك في كلّ سنة جمعة لَطَبَع الله على قلبه بعد الثالثة،

(1)

"الإصابة" جـ 12 ص 61.

ص: 71

وهو ظاهر الحديث.

ويحتمل أن يراد ثلاث جُمَع متوالية، كما في حديث أنس عند الديلميّ في "مسند الفردوس"، مرفوعًا:"من ترك ثلاث جُمع متواليات من غير عُذر، طبع الله على قلبه". لأن موالاة الذنب، ومتابعته مُشعرة بقلّة المبالاة به.

ولأبي يعلى الموصلي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "من ترك ثلاث جمع متواليات، فقد نَبَذَ الإسلامَ وراء ظهره". هكذا ذكره موقوفاً، وله حكم الرفع، لأن مثله لا يُقال من قبل الرأي، كما قال العراقي.

وعن عبد الله بن أبي أوفى-رضي الله عنه عند الطبراني في "الكبير"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع النداء يوم الجمعة، ولم يأتها، ثم سمع النداء، ولم يأتها، ثلاثًا طُبع على قلبه، فجُعل قلبَ منافق". قال العراقي: إسناده جيّد انتهى

(1)

.

(تهَاوُنًا بَها) منصوب على أنه مفعول لأجله، أي لأجل تهاونه بحق الجمعة، ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال؛ لأن وقوع المصدر المنكّر حالاً كثيرٌ في الاستعمال، كما قال ابن مالك:

وَمَصْدَرٌ مُنَكّرُ حَالًا يَقَعْ

بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ

أي حال كونه متهاونا بها.

قال الحافظ العراقي رحمه الله: المراد بالتهاون التكاسل، عن غير عذر. فعلى هذا يكون مفعولًا مطلقًا مبينًا للنوع.

وفي "اللمعات": الظاهر أن المراد بالتهاون التكاسل، وعدم الجدّ في أدائها، وقلة الاهتمام بها، لا الإهانة والاستخفاف، فإن الاستخفاف بفرائض الله كفر.

وفيه أن الطبع المذكور إنما يكون على قلب من ترك ذلك تهاونًا، فينبغي أن تحمل الأحاديث المطلقة على هذا الحديث المقيد بالتهاون، وكذلك تحمل الأحاديث المطلقة على المقيدة بعدم العذر انتهى

(2)

.

(طَبَعَ الله عَلَى قَلْبِه) أي ختم عليه، وغشّاه، ومنعه الألطاف، أو صيّر قبله قلبَ منافق.

وفي "اللسان": قال أبو إسحاق النحوي: معنى طَبَعَ في اللغة، وخَتَم واحد، وهو التغطية على الشيء، والاستيثاق من أن يصحله شيء، كما قال الله تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ

(1)

"نيل الأوطار" جـ 3 ص 264.

(2)

"المرعاة" جـ 4 ص 446.

ص: 72

أَقْفَالُهَا}، وقال عز وجل:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} معناه غَطَّى على قلوبهم، وكذلك {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} .

قال ابن الأثير: كانوا يَرون أن الطبع هو الرَّيْنُ، قال مجاهد: الرَّيْن أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشدّ من ذلك كله.

هذا تفسير الطبْع بإسكان الباء، وأما طَبَعُ القلب بتحريك الباء، فهو تلطيخه بالأدناس، وأصل الطبع: الصدَأُ يكثُرُ على السيفُ وغيره.

وقال أيضًا: الطبع بالسكون: الختم، وبالتحريك: الدَّنَس، وأصله من الوَسَخ والدَّنَس يغشَيَان السيف، ثم استعير فيما يُشبه ذلك من الأوزار والآثام وغيرهما من المقابح انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي الجعد الضَّمْريّ رضي الله عنه هذا صحيح.

[تنبيه]: قال في "التلخيص الحبير": اختلف في حديث أبي الجعد على أبي سلمة، فقيل: عنه هكذا، وهو الصحيح، وقيل: عن أبي هريرة، وهو وَهَم، قاله الدارقطني في "العلل"، وهو في "الأوسط" من طريق أبي معشر، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبي هريرة، وقال: تفرد به حسان بن إبراهيم عن أبي معشر.

ورواه أحمد، والحاكم من حديث أبي قتادة، وإسناده حسن، إلا أنه اختُلف فيه على أَسيد بن أبي أَسيد راويه عن عبد الله بن أبي قتادة، فقيل: عنه، عن عبد الله، عن أبيه، وقيل: عنه، عن عبد الله، عن جابر، وصحح الدارقطني طريق جابر، وعكس ابن عبد البرّ. وأبو نُعيم في "المعرفة" من حديث أبي عبس بن جبر، والطبراني من حديث أسامة، وفيه جابر الجُعْفي، ومن حديث ابن أبي أوفى. ورواه أبو بكر بن علي المروزيّ في "كتاب الجمعة" له من طريق محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زُراوة، عن عمه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من ترك الجمعة ثلاثًا طَبَع الله على قلبه، وجعل قلبَهُ قلبَ منافق". وأخرجه أبو يعلى أيضًا، ورواته ثقات، وصححه ابن المنذر.

وفي "الموطإ" عن صفوان بن سُليم، قال مالك: لا أدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ قال:"من ترك ثلاث مرار من غير عذر، ولا علّة، طبع الله على قلبه"، واستشهد له

(1)

"لسان العرب" جـ 4 ص 2635.

ص: 73

الحاكم بما رواه من حديث أبي هريرة بلفظ: "ألا هل عسى أن يتخذ أحدكم الصبّة

(1)

من الغنم على رأس ميل، أو ميلين، فيرتفع، حتى تجيء الجمعة، فلا يشهدها، ثم يُطبع على قلبه". وفي إسناده معديّ بن سليمان، وفيه مقال. وعند أحمد، والطبراني من حديث حارثة بن النعمان نحوه. وعند الطبراني في"الأوسط" من حديث ابن عمر نحوه أيضًا. ورواه أبو يعلى عن ابن عباس: "من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات، فقد نبذ الإِسلام وراء ظهره"، ورجاله ثقات.

وفي الباب حديث سعيد بن المسيب، عن جابر مرفوعًا:"إن الله افترض عليكم الجمعة في شهركم هذا، فمن تركها استخفافًا بها، وتهاونًا، ألا فلا جَمَعَ الله شمله، ألا لا بارك الله له، ألا ولا صلاة له". أخرجه ابن ماجه، وفيه عبد الله البَلَويّ، وهو واهي الحديث، وأخرجه البزار من وجه آخر، وفيه علي بن زيد بن جُدْعان، قال الدارقطني: إن الطريقين كلاهما غير ثابت، وقال ابن عبد البرّ: هذا الحديث واهي الإسناد انتهى ما في "التلخيص الحبير"

(2)

.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 1369 - وفي "الكبرى" -4/ 1656 - بالسند المذكور.

وأخرجه (د) 1052 (ت) 500 (ق) 1125 (أحمد) 3/ 424 (الدارمي) 1579 (ابن خزيمة) 1857 و1858. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو التشديد في التخلف عن الجمعة.

ومنها: أنه يفيد وجوب الجمعة؛ لأن الوعيد المذكور لا يكون إلا على ترك واجب.

ومنها: أن التهاون، والتكاسل عن أداء ما أوجب الله تعالى من الطاعة سبب للطبع على القلب، كما قال الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، أعاذنا الله تعالى بمنه وكرمه من الخذلان، وجنّبنا أسباب السخط والحرمان، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وإنه بعباده رَءُوفٌ رحيم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

[تنبيه]: وقع في هامش "النسخة الهندية" هنا: ما نصه: وُجد بهامش الأصل: ما نصُّهُ:

1369 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَسِيدِ بْنِ أَبِي أَسِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ

(1)

بالضم جماعة الغنم.

(2)

"التلخيص الحبير" جـ 2 ص 52 - 53.

ص: 74

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث في "الكبرى" برقم -4/ 1657 - فحيث لم أطمئنّ من كونه من أحاديث "المجتبى" لم أجعل له رقما مستقلًّا، بل هو برقم ما قبله؛ لأنه إنما ذكر احتياطًا.

فرجاله: ستة:

1 -

(عمرو بن سواد) بتشديد الواو المصري، ثقة [11] تقدم 45/ 594.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري، ثقة حافظ عابد [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن المدني، ثقة فقيه فاضل [7] تقدم 41/ 685.

4 -

(أَسِيد بن أبي أسيد) بفتح الهمزة، وكسر السين المهملة -البرّاد، أبو سعيد المديني، واسم أبيه: يزيد [5].

روى عن أبيه، وأمه، ونافع مولى أبي قتادة، وعبد الله بن أبي قتادة، وغيرهم. وعنه ابن أبي ذئب، وابن جُريج، والدّراوردي، وغيرهم.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وأخرج حديثه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وقال الدارقطني: يُعتَبَر به. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة.

5 -

(عبد الله بن أبي قتادة) الأنصاري المدني، ثقة [2] تقدم 23/ 24.

6 -

(جابر بن عبد الله) رضي الله تعالى عنهما، تقدم 31/ 35.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وقال الدارقطني: إنه أصحّ من حديث أبي الجعد.

وشرحه تقدم في الذي قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1370 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنِ الْحَضْرَمِيِّ بْنِ لَاحِقٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي سَلاَّمٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَاءَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، يُحَدِّثَانِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ -وَهُوَ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ-: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَيَكُونَنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(محمد بن معمر) الحضرميّ البصريّ، صدوق، من صغار [11].

روى عن حَبّان بن هلال، وعنه أبو داود،، النسائي، وقال: صالح. وقال في

ص: 75

"مشيخته": صدوق كتبت عنه شيئًا يسيرًا، تفرد به أبو داود، والمصنف. وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث

2 -

(حَبّان) بن هلال، أبو حَبيب البصريّ، ثقة ثبت [9] تقدم 44/ 590.

[تنبيه]: وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى""حبان" بكسر الحاء بضبط القلم، وهو خطأ، والصواب أنه بالفتح، وقلت في الفرق بين حَبّان بالفتح، وحِبّان بالكسر بيتين

(1)

من [الرجز]:

حَبَّانُ بِالْفَتْحِ ابْنُ مُنْقِذٍ وَمَنْ

وَلَدَهُ وَابْنُ هِلَالٍ وَاكْسِرَنْ

ابْنَ عَطِيَّةٍ مَعَ ابْنِ مُوسَى

وَمَنْ رَمَى سَعْدًا فَنَالَ بُوسَا

3 -

(أبان) بن يزيد العطار، أبو يزيد البصري، ثقة له أفراد [7] تقدم 9/ 787.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) اليمامي. ثقة ثبت يُدَلِّسُ، ويرسل [5] تقدم 23/ 24.

5 -

(الحَضْرَميّ بن لاحق) -بلفظ النسبة- التميمي السعديّ الأعرجي اليماميّ القاصّ، لا بأس به [6].

روى عن ابن عباس، وابن عمر مرسلاً. وعن القاسم بن محمد، وأبي صالح السقان، وزيد بن سلّام، وغيرهم. وعنه سليمان التيميّ، وسنان بن ربيعة، وعكرمة بن عَمّار، ويحيى بن أبي كثير.

قال البخاري: وقال هشام الدستوائي: حضرميّ بن إسحاق، وهو وَهَم.

وقال عبد الله بن أحمد: سالت أبي عن الحضرميّ الذي حدّث عنه سليمان التيميّ؟ قال: كان قاصًّا، فزعم معتمر، قال: قد رأيته، قال: أحمد: لا أعلم يروي عنه غير سليمان التيميّ، قال عبد الله: وسألت يحيى بن معين، فقال: ليس به بأس، وليس هو بالحضرميّ بن لاحق. وقال أبو حاتم: حضرمي اليماميّ، وحضرمي بن لاحق هما عندي واحد. وقال عكرمة بن عَمّار: كان فقيهًا، وخرجت معه إلى مكة سنة مائة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وفرق بين الحضرمي بن لاحق، وحضرمي الذي يروي سليمان التيمي، فقال في الثاني: لا أدري من هو؟، ولا ابن من هو؟. وكذلك قال ابن المديني: حضرمي شيخ بالبصرة، روى عنه التيميّ، مجهول. وكان قاصّا، وليس هو بالحضرمي بن لاحق.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أنهما اثنان انتهى. انفرد به أبو داود، والمصنف وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

(1)

أصل البيتين للحافظ العراقي في "ألفية المصطلح"، إلا أني أدخلت التغير في البيت الأول، راجع "ألفيته" في "باب المؤتلف والمختلف" ص 50 بتحقيق أحمد محمد شاكر رحمه الله.

ص: 76

6 -

(زيد) بن سلّام بن أبي سلّام الحَبَشيّ، ثقة [6].

روى عن جدّه، وعديّ بن أرطاة، وعبد الله بن فَرُّوخ، وعبد الله بن زيد بن الأزرق. وعنه أخوه معاوية، ويحيى بن أبي كثير، والحَضْرمي بن لاحق.

قال النسائي، وأبو زرعة الدمشقي، والدارقطني: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق. وقال يحيى بن حَسّان، عن معاوية بن سلّام: أخذ مني يحيى بن أبي كثير كُتُب أخي زيد بن سلّام. وقال ابن معين: لم يلقه يحيى. وقال الأثرم: قلت لأحمد: يحيى سمع من زيد؟ قال: ما أشبهه؟. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال العجلي: شاميّ لا بأس به. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون. وله في هذا الكتاب (3) أحاديث فقط.

7 -

(أبو سلّام) مَمْطُور الأسود الحَبَشيّ الأعرج الدمشقيّ، ويقال. النُّوبي، وقيل: إن الحَبَشيّ نسبة إلى حَيّ من حمير، ثقة يرسل [3].

روى عن ثَوْبان، وعَمْرو بن عَبَسَة، وأبي مالك الأشعريّ، والحَكَم بن ميناء، وغيرهم. وعنه حفيداه زيد، ومعاوية ابنا سلام، ومكحول الشامي، والأوزاعي، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام. وقال أبو مُسهر. قلت لمعاوية ابن سلام: ما اسم جدّك؟ قال: ممطور، قلت: فمَن المولى عليك؟ فغضب، يعني أنه عربي. وقال العجلي: شاميّ تابعي ثقة. وقال البَرْقانيّ: سمعت الدارقطنيّ يقول: زيد ابن سلّام بن أبي سلّام، عن جدّه ثقتان. وقال أبو نصر بن ماكولا: ليس هو من الحبشة، إنما هو منسوب إلى بطن من حمير، ذكره ابن معين، وأبو عُبيد. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن معين، وابن المديني: لم يسمع من ثوبان. وقال أحمد. ما أراه سمع منه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول. رَوَى ممطور عن ثوبان، وعَمْرو بن عَبَسَة، والنعمان، وأبي أمامة مرسل، فسألت أبي: هل سمع من ثوبان؟ فقال: لا أدري. وقال الدارقطني: بينه وبين أبي مالك الأشعري عبدُ الرحمن بن غَنْم. وقال أبو زرعة الدمشقي: أخبرني مروان، قال: قلت لمعاوية: سمع جدّك من كعب؟ قال: لا أدري. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون. وله في هذا الكتاب (6) أحاديث فقط.

[تنبيه]: وقع في "النسخة الهندية""عن ابن أبي سلّام" وهو غلط فاحشٌ، والصواب ما في النسخ المطبوعة "عن أبي سلام" بحذف "ابن"، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

8 -

(الحكم بن ميناء) -بكسر الميم، بعدها تحتانية، ثم نون، ومدٌّ- الأنصاريّ

ص: 77

مولاهم المدني، صدوق [2].

رأى بلالًا يمسح على الخفّين. ورَوَى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عُمر، وابن عباس، وغيرهم. وعنه ابنه شُبَيث، وأبو سلّام الأسود، وسعد بن إبراهيم، وغيرهم.

قال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: مدنيّ يُروَى عنه. وقال ابن سعد: شهد أبوه ميناء تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي حاتم: شيخ. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

أخرج له مسلم، وأبو داود في فضائل الأنصار، والمصنّف، وابن ماجه. له عندهم حديث الباب فقط، وهو مختلف في إسناده، كم سيأتي، إن شاء الله تعالى.

[تنبيه]: وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى""الحكم بن أبي ميناء" بزيادة "أبي"، وهو غلط فاحشٌ، والصواب ما في "الهندية"، و"الكبرى""الحكم بن ميناء" بحذفها. فتنبّه. والله تعالى أعلم.

9 -

(ابن عباس) عبد الله رضي الله تعالى عنهما، تقدم 27/ 31.

10 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما، تقدم 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من تساعيات المصنف رحمه الله تعالى فهو من أنزل الأسانيد، كما تقدم بيان ذلك غير مرة. (ومنها): أن رجاله موثقون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعي، والابن عن أبيه، ورواية الكبير عن الصغير، فإن يحيى من الطبقة الخامسة، والحضرمي بن لاحق من السادسة، وروايته عن زيد من رواية الأقران، وفيه ابن عباس، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم كل منهما من المكثرين السبعة، ومن العبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن الْحَكَم بْن مينَاءَ) الأنصاريّ (أنَّهُ سَمعَ ابْنَ عَبَّاس، وابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهم (يُحَدَّثَان) جملة في محلّ نصب على الحال (أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ -وهو على أعواد منبره-) جملة في محل نصب على الحال من فاعل "قال". والأعود جمع عُود بالضم: أي على درجات منبره، وقال الصنعاني رحمه الله: أي منبره الذي كان من عُود، لا على الذي كان من الطين، ولا على الجذع الذي كان يستند إليه انتهى.

وفائدة ذكره الدلالةُ على كمال التَّذَكُّرِ، والإشارةُ إلى اشتهار هذا الحديث.

(لَيَنْتَهيَنَّ أَقْوَامٌ) اللام موطئة للقسم المقدر، والنون المشددة للتوكيد، والجملة جواب القسم المقدر، أي والله لينتهينّ أقوام. وإنما أبهمهم كراهية كسر قلوب من

ص: 78

يُعَيِّنهم لو عَيَّن أشخاصًا، لأن النصيحة، في الملإ فضيحة.

(عَنْ وَدْعهِمُ الْجُمُعَات) -بفتح الواو، وسكون الدال: مصدر وَدَعَ، أي عن تركهم إياها، والتخلف عنها من غير عذر، من وَدَعَ الشيءَ يَدَعُهُ وَدْعًا: إذا تركه.

وقول النحاة: إن العرب أماتوا ماضيه ومصدره، واسم فاعله، استغناء بتَرَكَ تَرْكًا، فهو تارك: محمول على أن الغالب عدم استعمال ذلك، استغناء بما هو أخفّ، لا أنهم لم يستعملوا ذلك أصلًا.

وقيل: قولهم مردود، والحديث حجة عليهم، قال التوربشتي رحمه الله: لا عبرة بما قال النحاة، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحجة القاضية على كلّ ذي فصاحة انتهى.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وأصل المضارع الكسر، ومن ثَمَّ حُذفت الواو، ثمّ فُتح لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدّمين: وزعصت النحاة أن العرب أماتت ماضيَ "يَدَعُ"، ومصدرَه، واسم الفاعل، وقد قرأ مجاهد، وعروة، ومقاتل، وابن أبي عَبْلَة، ويزيد النحويّ:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} بالتخفيف، وفي الحديث:"ليَنتَهينّ أقوام عن وَدْعهم الجمعات"، أي عن تركهم، فقد رُويت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونُقلت من طريق القُرّاء، فكيف يكون إماتةً، وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذا سبيله، فيجوز القول بقلّة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فمما أنشدوا لاستعمال ماضيه -كما أورده ابن منظور رحمه الله تعالى-

(2)

قوله الشاعر:

وَكانَ مَا قَدَّمُوا لأَنْفُسِهِمْ

أَكْثَرَ نَفْعًا مِنَ الَّذِي وَدَعُوا

وقول الآخر:

لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلي مَا الَّذِي

غَالَهُ حَتَّى وَدَعَهْ

وقول الآخر:

سَلْ أَمِيرِي مَا الَّذِي غَيَّرَهُ

عَنْ وِصَالِي اليَوْمَ حَتَّى وَدَعَهْ

وقول الآخر:

فَسَعَى مَسعَاتَهُ في قَوْمِهِ

ثُمَّ لَمْ يُدْرِكْ وَلَا عَجْزًا وَدَعْ

ومن استعمال اسم الفاعل له قوله:

فَأيُّهُمَا مَا أَتْبَعَنَّ فَإِنَّنِي

حَزِينٌ عَلَى تَرْكِ الَّذِي أَنَا وَادِعُ

(1)

"المصباح المنير" جـ 1 ص 653.

(2)

راجع "لسان العرب" جـ 6 ص 4797.

ص: 79

وقول الآخر:

عَلَيْهِ شَرِيبٌ لَيِّنٌ وَادِعُ الْعَصَا

يُسَاجِلُهَا حَمَّاتُهُ وَتُسَاجِلُهْ

فقول السيوطي في شرحه: الظاهر أن استعماله هنا من الرواة المولدين الذين لا يُحسنون العربية. غير صحيح، كيف يمكن أن يُغَلّط الرواة الثقات الذين يُعتمد على حفظهم، مع أن أهل اللغة قد أثبتوا استعمال العرب الماضي منه، وقرأ به من قدمنا ذكره من القرّاء، وكذا أثبتوا له اسم الفاعل، وثبت في هذا الحديث استعمال المصدر له؟، إن هذا لشيء غريب!!.

وغاية ما يقال في مثل هذا: إن استعمال الماضي، والمصدر، واسم الفاعل منه قليل، لا يكثر كثرة استعمال المضارع والأمر منه.

قال السندي رحمه الله ردًّا على كلام السيوطي المذكور: ما نصه: لا يخفى على من تتبع كتب العربية أن قواعد العربية مبنية على الاستقراء الناقص، دون التامّ عادة، وهي مع ذلك أكثريّات، لا كليّات، فلا يناسب تغليط الرواة. والله تعالى أعلم انتهى وهو تَعَقُّبٌ جيّد. والله تعالى أعلم.

(أَوْ لَيَخْتَمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ) أي يطبع عليها، ويُغطّيها بالرَّيْن، كناية عن إعدام اللطف، وأسباب الخير، يعني ليمنعنهم لطفه وفضله. وقال القرطبي: الختم عبارة عما يخلقه الله تعالى في قلوبهم من الجهل والجفاء، والقسوة

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصواب حمل الختم على ظاهره، وأنه سبحانه وتعالى يجعل على قلوبهم بسبب ذنوبهم شيئاً يمنع قلوبهم عن اتباع الحق، ووصول الخير إليه، لما أخرجه الترمذي في "جامعه" -3334 - ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" -418 - وفي "السنن الكبرى" جـ 6 ص 509 - ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إنّ العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكتت في قلبه نُكتة سوداء، فإذا هو نزع، واستغفر وتاب صُقل قلبُهُ، وإن عاد زيد فيها، حتى تَعلُو قلبه، وهو الرَّانُ الذي ذكره الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} "[المطففين: 14]. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي. والله تعالى أعلم.

قيل: ومن خُتم على قلبه بالرين قد يتيقظ للخير في بعض الأوقات، بخلاف الغافل عن مولاه، فلا يتفطن أصلًا، فلهذا ترقّى، فقال (وَلَيَكُونُنَّ) بضم النون الأولى، من الكَوْن، ولفظ أحمد:"ثم ليُكتَبُنّ" من الكتابة (منَ الْغَافلينَ) أي من جملة من استولت

(1)

"المرعاة" جـ 4 ص 444 - 445.

ص: 80

عليهم الغفلة، ونَسُوا الله، فنسيهم.

وفي"الكبرى"، و"صحيح مسلم""ثم ليكوننّ من الغافلين"، أي ثمّ يُترقىّ بهم في الشرّ إلى هذه المرتبة.

قال الطيبي رحمه الله: "ثمّ" لتراخي الرتبة، فإن كونهم من جملة الغافلين المشهود عليهم بالغفلة أدعى لشقائهم، وأنطق لخسرانهم من مطلق كونهم مختومًا عليهم. وقيل: المراد: من الدائمين في الغفلة.

قال القاض رحمه الله: والمعنى: أن أحد الأمرين كائن لا مَحَالةَ، إما الانتهاء عن ترك الجمعات، أو ختم الله تعالى على قلوبهم، فإن اعتياد ترك الجمعة يُغَلِّب الرّينّ على القلب، ويُزهِّد النفوس في الطاعة، وذلك يؤدي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين، أي عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال، وعن ترك ما يضرّهم منها.

والحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة، والتساهل فيها، ومن أدلّة أنها من فروض الأعيان

(1)

.

وهذا كله فيمن تركها تهاونا وتكاسلًا من غير عذر، لما تقدم من الأدلة التي قيدته بعدم العذر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 1370 - وفي "الكبرى" -4/ 1658 - عن محمد بن معمر، عن حَبّان بن هلال، عن أبان بن يزيد العطار، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحضرمي بن لاحق، عن زيد بن سلّام، عن جده أبي سلّام، عن الحكم بن ميناء، عنهما. وفي "الكبرى" -4/ 1659 - عن إبراهيم بن يعقوب، عن سعيد بن الربيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلّام به.

ثم قال: قال علي: ثم كتب به إليّ عن ابن عمر، وأبي هريرة، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -على أعواد منبره-: "لينتهينّ أقوام

" الحديث.

وأخرجه (م) من حديث ابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهم 3/ 10 - و (ق)(794) (أحمد

(1)

"المرعاة" جـ 4 ص 445.

ص: 81

1/ 239 و1/ 254 (الدارمي) 1578 (ابن خزيمة)1855. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو التشديد في التخلّف عن الجمعة. ومنها: أن ترك الجمعة تكاسلًا يكون سببا لختم القلوب، فلا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكرا، بل تكون من الغافلين الذين قال الله تعالى فيهم:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

ومنها: أنه ينبغي للواعظ والمذكر أن يُبهم الأشخاص الذين يريد أن يعظهم، ويذكّرهم، ولا يسميهم بأسمائهم، لئلا تعود النصيحة عليهم فضيحة، فلا يقبلوها، فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مواعظه، وخطبه أن يقول:"ما بال أقوام"، "ما بال رجال"، ولا يسميهم بأسمائهم، وذلك أدعى لقبول النصح، وامتثال الأوامر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1371 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمود بن غيلان) العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزي نزيل بغداد، ثقة [10] تقدم 33/ 37.

[تنبيه]: كون شيخ المصنف هو "محمودَ بنَ غيلان" في هذا الحديث هو الذي وقع في نصح "المجتبى"، والذي في "الكبرى" أنه "محمود بن خالد"، وقال الحافظ أبو الحجّاج المزيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف" جـ 11/ ص 288 - : ما نصه: (س) فيه، -يعني أخرجه النسائي في كتاب الصلاة-

(2)

عن محمود بن خالد -قال أبو القاسم- يعني ابن عساكر-: وفي كتابي "عن محمود بن غيلان"- عن الوليد بن مسلم، عن المفضل ابن فَضالة انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لعل المصنف رواه عنهما جميعا، فإنهما من شيوخه،

(1)

وفي نسخة "أخبرنا".

(2)

وقع "تحفة الأشراف" بلفظ "في كتاب الطهارة"، وهو خطأ، بل هو "في كتاب الصلاة". فتنبه.

ص: 82

وكلاهما يرويان عن الوليد بن مسلم.

ومحمود بن خالد، هو السلميّ، أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، من صغار [10] تقدم 45/ 565. والله تعالى أعلم.

2 -

(الوليد بن مسلم) أبو العبّاس الدمشقي، ثقة، كثير التدليس والتسوية [8] تقدم 5/ 454.

3 -

(الْمُفضّل بن فَضَالة) بن عُبيد بن ثُمامة القِتبانيّ، أبو معاوية القاضي المصريّ، ثقة فاضل عابد [8] تقدم 42/ 586.

4 -

(عيّاش بن عبّاس) القتبانيّ الحميريّ، أبو عبد الرحيم، ويقال: أبو عبد الرحمن المصريّ، ثقة [5].

(1)

.

رأى عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وروى عن جُنادة بن أبي أميّة، والصحيح أن بينهما رجلًا، وشُيَيم بن بيتان، وبُكير بن الأشجّ، وسالم أبي النضر، وعيسى بن هلال، وغيرهم. وعنه ابناه عمر، وعبد الله، والمفضل بن فضالة، وابن لهيعة، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو بكر البزّار: مشهور. وذكره ابن حبّان فى "الثقات". قال ابن يونس: يقال: توفي سنة (133).

روى له البخاري في "جزء القراءة"، والباقون. وله في هذا الكتاب (6) أحاديث.

5 -

(بُكير بن الأشجّ) هو ابن عبد الله بن الأشجّ، نُسب لجدّه، المخزومي مولاهم المدني، نزيل مصر، ثقة [5] تقدم 135/ 211.

6 -

(نافع) العدوي مولى أبن عمر، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 12/ 12.

7 -

(ابن عمر) رضي الله عنه تقدم في السند الماضي.

8 -

(حفصة) بنت عمر بن الخطاب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وشقيقة ابن عمر رضي الله تعالى عنهم، تقدمت 39/ 583. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من ثمانيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، وأن فيه رواية صحابي عن صحابية هي أخته، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن

(1)

جعله في "ت" من السادسة، وفيه نظر؛ لأنه رأى الصحابي عبد الله بن الحارث بن جَزْء، فيكون من الخامسة مثل الأعمش رأى أنسا، ولم يرو عنه، فجُعل من الخامسة، فتنته.

ص: 83

بعض: عياش عن بكير وعن نافع. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ حَفْصَةَ) رضي الله تعالى عنها (زَوْج النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بالجر بدل من "حفصة"، أو عطف بيان، ويحتمل القطع إلى الرفع، والنصب (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"رَوَاحُ الْجُمُعَة) بفتح الراء، وتحفيف الواو، كالذهاب وزنًا ومعنى. أي الذهاب إليها أي وقت كان، وقيل: يختصّ بما بعد الزوال، وسيأتي تحقيق القول في ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى، فقوله: "رواح" مبتدأ خبره قوله (وَاجبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلم) وفي نسخة "على كلّ مسلم".

و"المحتلم": اسم فاعل، من احتلم، يقال: حَلَمَ الصبيُّ من باب قَتَلَ، واحتلَمَ: أدرك، وبلغ مَبلَغَ الرجال، فهو حالم، ومُحتلم. قاله الفيومي

(1)

.

ولفظ أبي داود: "على كلّ محتلم رَوَاحُ الجمعة، وعلى كلّ مَن راحَ إلى الجمعة الغسلُ".

وخصّ المحتلم بالذكر، لأن الاحتلام أكثر ما يبلغ به الرجال، كقوله:"لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"، لأن الحيض أغلب ما يبلغ به النساء.، قاله الزركشيّ رحمه الله تعالى.

وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى: هذه اللفظة: "على كلّ محتلم رواح الجمعة" من اللفظ الذي نقول: إن الأمر إذا كان لعلة فالتمثيل، والتشبيه به جائز، متى كانت العلّة قائمة، فالأمر واجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علَّم أن على المحتلم رواحَ الجمعة، لأن الاحتلام بلوغٌ، فمتى كان البلوغ، وإن لم يكن احتلامٌ، وكان البلوغ بغير احتلام، ففرض الجمعة واجب على كلّ بالغ، وإن كان بلوغه بغير احتلام، ولو كان على غير أصلنا، وكان على أصل من خالفنا في التشبيه والتمثيل، وزعم أن الأمر لا يكون لعلة، ولا يكون إلا تعبّدًا، لكان من بلغ عشرين سنة، وثلاثين سنة، وهو حرّ عاقل، فسمع الأذان للجمعة في المصر، أو على باب المسجد لم يجب عليه رواح الجمعة، إن لم يكن احتلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم أن رواح الجمعة على المحتلم، وقد يَعيش كثير من الناس السنين الكثيرة، فلا يحتلم أبدًا، وهذا كقوله عز وجل:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59]. ولو لم يجز الحكم بالتشبيه والنظير

(2)

كان من بلغ ثلاثين سنة، ولم يحتلم لم يجب عليه

(1)

"المصباح" جـ 1 ص 148.

(2)

هكذا نسخة "صحيح ابن خزيمة" بلفظ "والنظير" ولعله "والتنظير". فتأمل.

ص: 84

الاستئذان، وهذا كخبر النبي صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة"، قال في الخبر:"وعن الصبيّ حتى يحتلم"، ومن لم يحتلم، وبلغ من السنّ ما يكون إدراكًا من غير احتلام، فالقلم عنه غير مرفوع، إذ النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بقوله:"حتى يحتلم" أن الاحتلام بلوغ، فمتى كان البلوغ، وإن كان بغير احتلام، فالحكم عليه، والقلم جار عليه، كما يكون بعد الاحتلام انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله تعالى

(1)

.

والحديث يدلّ على وجوب الذهاب إلى صلاة الجمعة على كلّ بالغ.

واستدلال المصنف به على الترجمة من حيث كونه نص على وجوب الرواح إلى الجمعة على كل محتلم، فمن تخلف عنها، فقد خالف الأمر، ودخل تحت الوعيد الذي بينه الله سبحانه وتعالى بقوله:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

لكن عموم الحديث مخصوص بغير المريض، والمسافر

(2)

والمرأة، والمملوك، فإن صلاة الجمعة لا تحب عليهم، وإن كانوا بالغين؛ لما أخرجه أبو داود من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه،عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الجمعة حقٌ واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة، عبد مملوك، أو امرأة، أو صبيّ، أو مريض". وهو حديث صحيح، كما تقدّم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث حفصة رضي الله تعالى عنها هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 1371 - وفي "الكبرى" -4/ 1660 - بالإسناد المذكور

وأخرجه (د)(342) ابن خزيمة 1721. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"صحيح ابن خزيمة" جـ 3 ص 110 - 111.

(2)

دليل عدم الوجوب على المسافر أنه صلى الله عليه وسلم مع كثرة أسفاره لم يصل الجمعة فيها، وقد صح عنه أنه صلى الظهر بعرفة، فدل على أنه لا تجب الجمعة على المسافر. والله تعالى أعلم.

ص: 85

‌3 - باب كَفَّارَةِ مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلال المصنف رحمه الله تعالى بحديث الباب على الترجمة فيه نظر لا يخفى؛ لأنه ضعيف، كما ستقف عليه، فلا يُستفاد منه ثُبُوت الكفارة لمن ترك الجمعة بغير عذر، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب.

1372 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ قُدَامَةَ بْنِ وَبَرَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِنِصْفِ دِينَارٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) الرُّهاوي، ثقة حافظ [11] تقدم 38/ 42.

2 -

(يزيد بن هارون) أبو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد [9] تقدم 153/ 244.

3 -

(همام) بن يحيى بن دينار العَوْذي، البصري، ثقة ربّما وهم [7] تقدم 5/ 465.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، من كبار [4] تقدم 30/ 34.

5 -

(قدَامة بن وَبَرَة) -بموحّدة، وفتحات- العُجَيليّ

(1)

البصريّ، مجهول [4].

روَى عن سمرة بن جُندب حديث الباب، وعنه قتادة. قال أبو حاتم، عن أحمد: لا يُعرف. وقال مسلم بن الحجاج: قيل لأحمد بن حنبل: يصحّ حديث سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من ترك الجمعة عليه نصف دينار"؟، فقال: قُدَامة يرويه، لا نعرفه، رواه أيوب أبو العلاء، فلم يصل إسناده، كما وصل هَمَّام، قال: نصف درهم، أو درهم، خالفه في الحكم، وقصر من الإسناد. وقال عثمان الدارمي، قلت ليحيى بن معين: قُدَامة بن وَبَرَة ما حاله؟، فقال: ثقة. وقال البخاري: لم يصحّ سماعه من سمرة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن خزيمة في "صحيحه": لا أقف على سماع قتادة من قُدامة، ولست أعرف قُدامة بن وَبَرَةَ بعدالة ولا جرح. وقال الذهبي: لا يعرف. روى له أبو داود، والنسائي.

6 -

(سمرة بن جُندب) بن هلال الفزاري، حليف الأنصار الصحابي المشهور، مات

(1)

في "ت""العجلي"، وفي "تت" و"تهذيب الكمال""العجيلي" مصغرًا. فليحرر.

ص: 86

رضي الله تعالى عنه بالبصرة سنة (58) وتقدم 25/ 393.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: شرح الحديث واضح، وهو حديث ضعيف؛ لجهالة قُدامة بن وَبَرَة، وعدم صحة سماعه من سَمُرة، وعنعنعة قتادة، وهو مدلس، كما أشار إليه ابن خزيمة، ووقوع الاضطراب فيه، كما أشار إليه الإِمام أحمد.

والحديث أخرجه المصنف هنا -3/ 1372 - وفي "الكبرى" -5/ 1661 - بالسند المذكور.

وأخرجه (د) 1053 (أحمد) 5/ 8 (ابن خزيمة) 1861، وقال: إن صحّ الخبر، فإني لا أقف على سماع قتادة، عن قُدامة بن وبَرَة، ولست أعرف قُدامة بعدالة، ولا جرح انتهى.

وأخرجه في "الكبرى" -5/ 1662 - عن نصر بن عليّ، عن نوح بن قيس، عن أخيه خالد بن قيس، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من ترك الجمعة متعمّدًا، فعليه دينار، فإن لم يجد، فنصف دينار"، وفي موضع آخر ليس فيه "متعمّدًا" انتهى.

وأخرجه (ق)1128.

وهو ضعيف أيضًا، لأن فيه عنعنةَ قتادة، والحسن، وأيضًا قيل: الحسن لم يسمع من سمرة سوى حديث العقيقة. والله تعالى أعلم.

وقد أشار بعضهم إلى أن هذا الحديث من رواية الحسن، عن سمرة يوجد في هامش بعض نسخ "المجتبى". والله تعالى أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌4 - (بَابُ ذِكْرِ فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)

1373 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ عليه السلام، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا").

(1)

وفي "الهندية": "حدثنا".

ص: 87

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي، ثقة [10] تقدم 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك الإِمام الحجة المشهور [8] تقدم 32/ 36.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيليّ، ثقة ثبت [7] تقدم 9/ 9.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإِمام الحجة الثبت [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(عبد الرحمن الأعرج) بن هُرمز المدني ثقة ثبت [3] تقدم 7/ 7.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح، سوى شيخه، فقد تفرد به هو والترمذيّ، وأنه مسلسل بالمدنيين من الزهري، ويونس أيلي، والباقيان مروزيان، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال (قَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: خَيْرُ يَوْم) مبتدأ، وخبره "يوم الجمعة".

وصيغة "خير" ومثله "شرّ" يستعملان للمفاضلة، ولغيرها، فإذا كانا للمفاضلة، فأصلهما:"أخير" و"أشرّ"، على وزن أفعل، كما قال في "الكافية":

وَغَالِبًا أَغْناهُمُ خَيْرٌ وَشَرُ

عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وأَشَرُّ

وأما إذا لم يكونا للمفاضلة فلا حذف فيهما، ووزنهما فَعْلٌ، نحو قوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} الآية [البقرة: 180]، وقوله:{وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

و"خير" في هذا الحديث للمفاضلة، ومعناه أن يوم الجمعة أفضل من كلّ يوم طلعت فيه الشمس

(1)

.

(طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ"يوم"، جيء بها للتنصيص على التعميم، كما في قوله تعالى:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، فإن الشيء إذا وُصف بصفة تعمّ جنسه يكون تنصيصًا على اعتبار استغراقه أفراد الجنس

(2)

.

(1)

"نيل الاوطار" جـ 3 ص 286،

(2)

"المرعاة" جـ 4 ص 422.

ص: 88

وظاهر قوله: "طلعت فيه الشمس" أن يوم الجمعة لا يكون أفضل من أيام الجنة.

ويمكن أن لا يُعتبر هذا القيد، ويكون يوم الجمعة أفضل أيام الجنة، كما أنه أفضل أيام الدنيا، لما ورد من أنّ أهل الجنة يزورون ربهم فيه.

ويجاب بأنا لا نعلم أنه يسمّى في الجنة يوم الجمعة، والذي ورد أنهم يزورون ربهم بعد مضيّ جمعة

(1)

، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذيّ، وابن ماجه، قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها، نزلوا فيها بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون

" الحديث

(2)

.

(يَوْمُ الْجُمُعَة) فيه أن أفضل الأيام يومُ الجمعة، فيكون أفضل من يوم عرفة، وبه جزم ابن العربي.

ويشكل على ذلك ما أخرجه ابن حبان في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه، مرفوعًا: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة

" الحديث.

وقد جمع الحافظ العراقي، فقال: المراد بتفضيل الجمعة بالنسبة إلى أيام الجمعه، أي الأسبوع، وتفضيل يوم عرفة بالنسبة إلى إيام السنة. وصرّح بأن حديث أفضلية الجمعة أصحّ

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ويؤيد تفضيل الجمعة على الإطلاق ما أخرجه أحمد في "مسنده" جـ 3 /ص 430 - وابن ماجه في "سننه" رقم -1084 - بإسناد حسن -كما قال الحافظ العراقي- عن أبي لبابة البدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيّدُ الأيام يومُ الجمعة، وأعظمُها عند الله تعالى، وأعظمُ عند الله تعالى من يوم الفطر، ويوم الأضحى، وفيه خمسُ خلال: خلق الله عز وجل فيه آدم عليه السلام، وأهبط الله تعالى فيه آدم إلى الأرض، وفيه تَوَفَّي اللهُ تعالى آدمَ، وفيه ساعةٌ، لا يَسأل العبدُ فيها ربّه شيئًا إلا آتاه الله تعالى إياه، ما لم يسأل حرامًا، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مُقرَّب، ولا سماء، ولا أرض، ولا رياح، ولا جبال، ولا بحر، إلا هنّ يُشفقن من يوم الجمعة".

(فيه خُلق آدمُ عليه السلام أي في آخر ساعة منه، كما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هُريرة رضي الله عنه، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه

(1)

هكذا في "نيل الاوطار": "بعد مضي جمعة"، والذي في الحديث أنه يؤذن لهم "في مقدار يوم الجمعة" فليتأمل.

(2)

"نيل الأوطار" جـ 3 ص 286 - 287 لكن الحديث ضعيف.

(3)

"نيل الأوطار" جـ 3 ص 286.

ص: 89

يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدوابّ يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة، من ساعات يوم الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل"

(1)

.

(وَفيه أُدْخلَ الْجَنَّةَ) فيه دليل على أن آدم عليه السلام لم يُخلق في الجنّة، بل خلق خارجها، ثم أدخل فيها.

قيل: إن خلقه، وإدخاله كانا في يوم واحد، ويحتمل أنه خلق يوم الجمعة، ثمّ أمهل إلى جمعة أخرى، فأدخل فيها الجنّة، وكذا الاحتمال في يوم الإحراج.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا كله مما لا دليل عليه. والله تعالى أعلم.

(وَفيه أُخْرجَ منْهَا) قال ابن كثير رحمه الله: إن كان يومُ خلقه يومَ إخراجه، وقلنا: الأيام الستة كهذه الأيام، فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام الدنيا، وفيه نظر، وإن كان إخراجه في غير اليوم الذي خلق فيه، وقلنا: إن كل يوم بألف سنة، كما قال ابن عباس، والضحاك، واختاره ابن جرير، فقد لبث هناك مدة طويلة انتهى.

وقيل: كان إخراجه في اليوم الذي خُلق فيه، لكن المراد من اليوم الإطلاق الثاني، أي ما مقداره كألف سنة، فيكون مكثه فيها زمانًا طويلًا

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مثل هذا الخلاف مما لا فائدة فيه، حيث لم يستند إلى نص صحيح، فلا ينبغي الاشتغال به. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: زاد مسلم رحمه الله في أحر هذا الحديث: "ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة".

قيل: هذه القضايا ليست لذكر فضيلة يوم الجمعة، لأن إخراج آدم، وقيام الساعة، لا يعدان فضيلة، وإنما هو لبيان ما وقع فيه من الأمور العظام.

وقيل: بل جميعها فضائل، وخروج آدم عليه السلام ليس طردًا، كخروج إبليس، وإنما كان خروجه منها مسافرًا لقضاء أوطار، من وجود الذرَيّة الطيبة، من الرسل، والأنبياء، والصالحين، والعود إلى تلك الدار، وموته سبب لنيل ما أُعدّ له، ولذرّيّته الصالحين، من الكرامات. وقيام الساعة أعظم سبب لظهور رحمة الله تعالى، وإنجاز وعده لعباده الصالحين وتعجيل جزائهم.

(1)

هذا الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه"، وتكلم فيه علي بن المديني والبخاري، وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وسمعه أبو هريرة منه، فاشتبه على بعض الرواة، فجعلوه مرفوعًا. انظر "تفسير ابن كثير" في "سورة البقرة" جـ 1 ص 72.

(2)

راجع "المرعاة" جـ 4 ص 422 - 423.

ص: 90

وقال القرطبي رحمه الله تعالى: كون يوم الجمعة أفضل الأيام لا يرجع ذلك إلى عين اليوم؛ لأن الأيام متساوية في أنفسها

(1)

، وإنما يَفضُلُ بعضُها بعضاً بما يُخَصّ به من أمر زائد على نفسه، ويوم الجمعة قد خُصّ من جنس العبادات بهذه الصلاة المعهودة التي يجتمع لها الناس، وتتفق هممهم، ودواعيهم، ودعواتهم فيها، ويكون حالهم فيها كحالهم يوم عرفة، ليُستجاب لبعضهم في بعضهم، ويُغفر لبعضهم ببعض، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الجمعة حج المساكين"

(2)

. أي يحصل لهم فيها ما يحصل لأهل عرفة، ثم إن الملائكة يَشهدونهم، ويكتبون ثوابهم، ولذلك سُمي هذا اليومُ اليوم المشهود، ثم يحصل لقلوب العارفين من الألطاف، والزيادات حسبما يدركونه من ذلك، ولذلك سمي يوم المزيد، ثم إن الله تعالى قد خصه بالساعه التي فيه، وبأن أوقع فيه هذه الأمور العظيمة التي هي خلق آدم عليه السلام الذي هو أصل البشر، ومن ولده الأنبياءُ، والأولياءُ، والصالحون، ومنها إخراجه من الجنة التي حصَلَ عنده إظهار معرفة الله تعالى، وعبادته في هذا النوع الآدمي، مع إجرامه، ومخالفته، ومنها موته الذي بعده وُفّي به أجره، ووصل إلى مأمنه، ورجع إلى المستقرّ الذي خرج منه، ومن فَهمَ هذه المعاني فَهمَ فضيلة هذا اليوم، وخصوصيّته بذلك، فحافظ عليه، وبادر إليه انتهى

(3)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 1373 - وفي "الكبرى" -6/ 1663 - عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عنه، وفي "الكبرى" 6/ 1664 - عن هارون بن موسى، عن أبي ضمرة، عن يونس به.

وأخرجه (م) 3/ 6 رقم 854 - (ت) 488 (أحمد) 2/ 401 و2/ 18 و2/ 512 و2/ 540 (ابن خزيمة)1729. والله تعالى أعلم.

(1)

قال الجامع: كلام القرطبي هذا فيه نظر لا يخفى؛ لأن ظاهر النص يدل على أن فضله في نفسه وذلك بتفضيل من الله تعالى، ولكون فضله في نفسه حصلت فيه هذه الأمور العظام. والله تعالى أعلم.

(2)

حديث ضعيف أخرجه ابن زنجويه في "ترغيبه"، والقضاعي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. راجع "ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألباني رحمه الله ص 394.

(3)

"المفهم" جـ 2 ص 490 - 491.

ص: 91

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل يوم الجمعة.

قال النووي رحمه الله: في هذا الحديث فصيلة يوم الجمعة، ومزيّته على سائر الأيام، وفيه دليل لمسألة غريبة حسنة، وهي لو قال لزوجته: أنت طالق في أفضل الأيام، وفيها وجهان لأصحابنا -يعني الشافعية- أصحهما تطلق يوم عرفة، والثاني يوم الجمعة لهذا الحديث، وهذا إذا لم يكن له نية، فأما إن أراد أفضل أيام السنة، فيتعين يوم عرفة، وإن أراد أفضل أيام الأسبوع، فيتعين الجمعة، ولو قال أفضل ليلة تعيّنت ليلة القدر، وهي عند أصحابنا، والجمهور منحصرة في العشر الأواخر من رمضان، فإن كان هذا القول قبل مضيّ أول ليلة من العشر طلقت في أول جزء من الليلة الأخيرة من الشهر، وإن كان بعد مضيّ ليلة من العشر، أو أكثر لم تطلق إلا في أول جزء من مثل تلك في السنة الثانية، وعلى قول من يقول: هي منتقلة، لا تطلق إلا في أولى جزء من الليلة الأخيرة من الشهر. والله أعلم انتهى

(1)

.

ومنها: أن هذه الأشياء، من خلق آدم، وإدخاله الجنة، وإخراجه منها، وكذا قيام الساعة فضائل عظيمة، كما ذكرنا وجهه سابقًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌5 - (إِكْثَارِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

1374 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ عليه السلام، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ أَرَمْتَ؟ أَيْ يَقُولُونَ: قَدْ بَلِيتَ -قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ

(1)

"شرح صحيح مسلم" جـ 6 ص 142.

ص: 92

وَجَلَّ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن منصور) الكوسج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت [11] تقدم 72/ 88.

2 -

(حسين) بن علي بن الوليد الجعفي المقرىء الكوفي، ثقة عابد [9] تقدم 74/ 91.

3 -

(عبد الرحمن بن يزيد بن جابر) الأزديّ، أبو عُتبة الشاميّ الدّارانيّ، ثقة [7] تقدم 45/ 595.

4 -

(أبو الأشعث الصنعاني) شَرَاحيل بن آدة -بالمدّ، وتخفيف الدال- ويقال: شراحيل بن شُرَحْبيل بن كُليب بن آدة، ويقال: شَراحيل بن كُليب، ويقال: شَرَاحيل بن شَراحيل، ويُقال: شُرَحْبيل بن شُرَحبيل، وهو من صنعاء الشام، وقيل. من صنعاء اليمن، ثقة [2].

روى عن شدّاد بن أوس، وثوبان، وأوس بن أوس الثقفي، وعُبَادة بن الصامت، وغيرهم. وعنه أبو قلابة، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ومسلم بن يسار المكي، وغيرهم.

قال العجلي: شاميّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل اليمن، وقال: كان ينزل دمشق، قال: وتُوفي زمن معاوية. وقال دُحَيم: شهد فتح دمشق. وقال ابن معين: كان من الأبناء سكن دمشق. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: شراحيل بن شُرَحْبيل بن كُليب بن آدة، قال: ومن قال: شَرَاحيل بن آدة، فقد نسبه إلى جدّه. وقال ابن الجوزيّ: روايته عن ثوبان منقطعة، كذا قال.

روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون. وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

5 -

(أوس بن أوس) الصحابي الثقفي، سكن دمشق، ومات بها. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الاغتسال يوم الجمعة. وعنه أبو الأشعث الصنعانيّ، وعُبَادة بن نُسَيّ، وغيرهما.

قال الدُّوري، عن يحيى بن معين: أوس بن أوس، وأوس بن أبي أوس واحد، وقيل: إن ابن معين أخطأ في ذلك؛ لأن أوس بن أبي أوس، هو أوس بن حُذيفة.

قال الحافظ: تابع ابنَ معين على ذلك جماعةٌ، والتحقيق أنهما اثنان، وإنما قيل في أوس بن أوس هذا أوس بن أبي أوس، وقيل في أوس بن أبي أوس: أوس بن أوس غلطًا. أخرج له الأربعة، وله عندهم هذا الحديث فقط، كرره المصنف أربع مرات. والله تعالى أعلم.

ص: 93

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالشاميين من عبد الرحمن، وشيخه مروزي، وحسين كوفي، وأن صحابيه من المقلين، فليس له إلا هذا الحديث عن أصحاب السنن. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ) رضي الله تعالى عنه، (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) ولفظ أبي داود:"قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"(قَالَ: إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) بنصب "يوم" على أنه اسم "إنّ" مؤخرًا. قيل: فيه إشارة إلى أن يوم عرفة أفضل، أو مساو، لأن زيادة "من" تدلّ على أن يوم الجمعة من جملة الأفاضل من الأيام، وليسر هو أفضل الأيام مطلقًا انتهى. وفيه ما تقدم.

ولفظ البيهقي في "السنن الكبرى" جـ 3 ص 248: "أفضلُ أيامكم يومُ الجمعة

" بدون "من".

(فِيهِ خُلِقَ آدَمُ عليه السلام، وَفِيهِ قُبِضَ) أي مات، تقدم الكلام على خلقه، وموته في الباب الماضي (وفيه النَّفْخَةُ) قال الطيبيّ رحمه الله: أي النفخة الأولى، فإنها مبدأ قيام الساعة، ومقدّم النشأة الثانية (وَفيه الصَّعْقَةُ) أي الصيحة، والمراد بها الصوت الهائل الذي يموت الإنسان من هوله، وهي النفخة الأولى، قال الله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية [الزمر: 68] فالتكرار باعتبار تغايُر الوصفين. وقال القاري: المراد بالنفخة النفخةُ الثانية، وبالصعقة النفخةُ الأولى، قال: وهذا أولى، لما فيه من التغاير الحقيقي، وإنما سميت النفخة الأولى بالصعقة، لأنها تترتب عليها، وبهذا الوصف تتميّز عن الثانية. وقيل: إشارة إلى صعقة موسى عليه السلام انتهى.

(فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ) تفريع على كون الجمعة من أفضل الأيام (فَإِنْ صلَاتكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ) يعني على وجه القبول فيه، وإلا فهي دائمًا تعرض عليه بواسطة الملائكة. قاله القاري رحمه الله تعالى.

وقال السندي رحمه الله تعالى: هذا تعديل للتفريع، أي هي معروضة عليّ كعرض الهدايا على من أهديت إليه، فهي من الأعمال الفاضلة، ومقرّبة لكم إليّ، كما تقرّب الهديّة المهديَ إلى المهدَى إليه، وإذا كانت بهذه المثابة، فينبغي إكثارها في الأوقات الفاضلة، فإن العمل الصالح يزيد فضلاً بواسطة فضل الوقت، وعلى هذا لا حاجة إلى

ص: 94

تقييد العرض بيوم الجمعة، كما قيل انتهى.

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى في "تحفة الذاكرين" بعد ذكر إبلاغ السلام إليه صلى الله عليه وسلم وعرض الصلاة عليه: ما لفظه: وظاهر الجميع أن كلّ صلاة وسلام تبلغه صلى الله عليه وسلم، وسواء كان ذلك يوم الجمعة، أو في غيره من الأيام والليالي، فلعلّ في العرض عليه زيادة على مجرد الإبلاغ إليه، ويكون ذلك من خصائص الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة انتهى

(1)

.

(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ أَرَمْتَ؟) جملة حالية من الضمير المجرور. و"أرمت" بفتح الراء، وسكون الميم، وفتح التاء على الخطاب، على وزن ضَرَبتَ. يقال: أَرَمَ ما على المائدة يَأْرمه، من باب ضرب: أَكَلَهُ. ويُروَى "أَرِمْتَ " بكسر الراء: أي بليتَ. وقيل: "أُرمت" بضم الهمزة على البناء للمفعول، من الأَرْم، وهو الأَكْل، أي صرت مأكولا للأرض. وقيل:"أرَمَّتْ" -بالميم المشددة، والتاء الساكنة، أي أرَمَّت العظام، أي صارت رَميمًا، من رَمَّ الميت، وأرمَّ: إذا بلي. ويروى "أَرْمَمْتَ" بالميمين، أي صرت رميمًا، فعلى هذا يجوز أن يكون أرمتَ بحذف أحد الميمين، كما قالوا في ظللت، وأحسست ظلت، وأحست، كما قال ابن مالك رحمه الله:

ظِلْتُ وَظَلْتُ فِي ظَلِلْتُ اسْتُعْمِلَا

وَقِرْنَ فِي اقْرِرْنَ وَقَرْنَ نُقِلَا

ثم كُسرت الراء لالتقاء الساكنين، أو فُتحتْ تخفيفًا بنقل حركة الميم الأولى إليها.

وقال السندي رحمه الله تعالى في "شرحه": لابد ههنا أوّلًا من تحقيق لفظ "أرمت"، ثم النظر في السؤال والجواب، وبيان انطباقهما.

فأما "أرمت"، فبفتح الراء، كضربت، أصله أَرْممتَ، من أَرَمَّ بتشديد الميم: إذا صار رميمًا، فحذفوا إحدى الميمين، كما في "ظلت"، ولفظه إما على الخطاب، أو الغيبة، على أنه مسنَدٌ إلى العظام.

وقيل: من "أرم" بتخفيف الميم: أي فني، وكثيرًا ما يُروَى بتشديد الميم، والخطاب، فقيل: هي لغة ناس من العرب. وقيل: بل خطأ، والصواب سكون التاء، لتأنيث العظام، أو أرممت بفكّ الإدغام.

وأما تحقيق السؤال، فوجهه أنهم فهموا عموم الخطاب في قوله:"فإن صلاتكم معروضة" للحاضرين، ولمن يأتي بعده صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن الموت في الظاهر مانع عن

(1)

"تحفة الذاكرين" ص 31.

ص: 95

السماع والعَرْض، فسألوا عن كيفية عرض صلاة من يُصلي عليه بعد الموت، وعلى هذا فقولهم:"وقد أرمت" كناية عن الموت، والجواب بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرم الخ" كناية عن كون الأنبياء أحياءً في قبورهم، أو بيان لما هو خرق للعادة المستمرّة بطريق التمثيل، أي ليجعلوه مقيسًا عليه للعرض بعد الموت الذي هو خلاف العادة المستمرّة.

ويحتمل أن المانع من العرض عندهم فناء البدن، لا مجرّد الموت، ومفارقة الروح البدنَ، لجواز عود الروح إلى البدن ما دام سالما عن التغيّر الكثير، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى بقاء بدن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا ظاهر السؤال والجواب.

بقي أن السؤال منهم على هذا الوجه يُشعر بأنهم ما علموا أن العرض على الروح المجرّد ممكن، فينبغي أن يُبيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمكن العرض على الروح المجرّد، ليعلموا ذلك.

ويمكن الجواب عن ذلك بأن سؤالهم يقتضي أمرين: مساواة الأنبياء عليهم السلام لغيرهم بعد الموت، وأن العرض لا يمكن على الروح المجرد، والاعتقاد الأول أسوأ، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم بالجواب إلى ما يُزيله، وأَخّر ما يزيل الثاني إلى وقت يُناسبه تدريجًا في التعليم

(1)

. والله تعالى أعلم انتهى كلام السنديّ رحمه الله تعالى

(2)

.

(-أَيْ يَقُولُون: قَدْ بَليتَ-)"أي" تفسيرية، ولفظ أبي داود:"قال: يقولون: بليت"، بدون "أي". والظاهر أن التفسير من أوس رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون من غيره، أي يقصدُ الصحابة رضي الله عنهم بقولهم:"أرمت" بليت -بفتح الباء الموحدة، وكسر اللام- أي فَنيتَ، يقال: بلي الثوبُ يبلَى، من باب تَعبَ بلى بالكسر والقصر، وبَلاءً، بالفتح والمدّ: خَلُقَ، فهو بال، وبلي الميتُ: أفنته الأرض. قاله الفيّوِمي

(3)

.

(قَالَ) أي النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام أي منعها من أن تعتدي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأكل أجسادهم، كما تأكل أجسادَ سائر الناس، لكونهم أحياء في قبورهم، تكريمًا لهم، وتفضيلًا على غيرهم. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال صاحب "المنهل العذب المورود": ألحق بعضهم شُهداءَ المعركة الذين قاتلوا لإعلاء كلمة الله عز وجل، بالأنبياء في ذلك -يعني عدم أكل الأرض أجسادهم-

(1)

قال الجامع: قوله: "وأخر ما يزيل إلخ" فيه نظر؛ لا يخفى؛ إذ هو مجرد احتمال لا مستند له، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . والله تعالى أعلم.

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 91 - 92.

(3)

"المصباح المنير" جـ 1 ص 62.

ص: 96

لقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، ولما ذكره بعض المفسرين من أن معاوية رضي الله عنه لمّا أراد أن يُجري العين على قبور الشهداء أمر بأن يُنادى من كان له قتيل، فليُخرجه من هذا الموضع، قال جابر، فخرجنا إليهم، فأخرجناهم، رطاب الأبدان، فأصابت المسحاة -الفأس- أصبع رجل منهم، فقطرت دمًا.

وفيه أن مثل هذا لا يثبت بالقياس، إذ فرق كبير بين الأنبياء وغيرهم، والآية ليست نصّا في أن الأرض لا تأكل أجساد الشهداء. وأكثر المحققين على أن حياة الشهداء بالروح والجسد بحالة لا ندركها في هذه الدار.

وقال بعضهم المراد بحياة الشهداء أن الله تعالى يجعل أرواحهم في حواصل طير خضْر في الجنة، لما أخرجه أبو داود في "كتاب الجهاد" من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمّا أُصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في جوف طير خُضر، تَرد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم، ومشربهم، ومقيلهم، قالوا: من يبلغ عنّا أنّا أحياء في الجنة، نرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن العدوّ عند الحرب، فقال الله سبحانه وتعالى: أنا أبلغهم عنكم، قال: فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.

وما ذكره جابر من أنهم أخرجوا أجساد الشهداء رطابًا، وأن أحدهم أصابته المسحاة، فقطر دمًا، فعلى فرض صحته لا يستلزم اطراد عدم أكل الأرض لجسد كل شهيد، بل لا يستلزم عدم أكلها لأجساد أولئك الشهداء أنفسهم على ممرّ المئات والآلاف من السنين.

وبالجملة فلم نقف على دليل صريح صحيح يفيد أن الأرض لا تأكل أجساد الشهداء انتهى كلام صاحب "المنهل"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أوس بن أوس رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، وسيأتي اختلاف العلماء فيه في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

(1)

"المنهل العذب المورود" جـ 6 ص 187 - 188.

ص: 97

المسألة الثانية: في اختلاف الحُفّاظ في هذا الحديث:

ذهب جمع من الحفّاظ: إلى أن هذا الحديث ضعيف؛ لأن حسينًا الجعفي لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الثقة، وإنما سمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الشاميّ الضعيف، وروى عنه أحاديث منكرة، فغلط في نسبته.

وممن ذكر ذلك البخاريّ، وأبو زرعة، وأبو حاشم، وأبو داود، وابن حبّان، وغيرهم.

وأنكر ذلك آخرون، وقالوا: الذي سمعه منه حسين هو ابن جابر. قال العجليّ: سمع من ابن جابر حديثين في الجمعة. وكذا أنكر الدارقطني على من قال: إن حسينًا سمع من ابن تميم، وقال: إنما سمع من ابن تميم، هو أبو أسامة، وغلط في اسم جدّه، فقال: ابن جابر، وهو ابن تميم. ذكر هذا الكلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح علل الترمذي"

(1)

.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "جَلاء الأفهام" بعد أن أورد الحديث: ما نصه:

وقد أعله بعض الحفّاظ بأن حسينًا الجعفيّ إنما حدث به عن عبد الرحمن عن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس، قال: ومن تأمل هذا الإسناد لم يشكّ في صحته، لثقة رُواته، وشهرتهم، وقبول الأئمة أحاديثهم.

وعلته أن حُسينًا الجعفى لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر،، وإنما سمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم لا يُحتجّ به، فلما حدث به حسين الجعفيّ غلط في اسم الجدّ، فقال: ابن جابر.

وقد بَيَّنَ ذلك الحُفّاظ، ونبّهوا عليه، فقال البخاريّ في "التاريخ الكبير": عبد الرحمن ابن يزيد بن تميم السلمي الشاميّ، عن مكحول سمع منه الوليد بن مسلم عنده مناكير، ويقال: هو الذي روى عنه أبو أسامة، وحسين الجعفي، وقالا: هو ابن يزيد بن جابر، وغلطا في نسبه، ويزيد ابن تميم أصحّ، وهو ضعيف الحديث.

وقال الخطيب: روى الكوفيّون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ووهموا في ذلك، والحمل عليهم في تلك الأحاديث.

وقال موسى بن هارون الحافظ: روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وكان ذلك وَهما منه، هو لم يلق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما لقي عبد الرحمن

(1)

"شرح علل الترمذي" جـ 2 ص 818 - 819.

ص: 98

ابن يزيد بن تميم، فظنّ أنه ابن جابر نفسه، وابن تميم ضعيف، وقد أشار غير واحد من الحفاظ إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة.

وجواب هذا التعليل من وجوه:

أحدها: أن حسين بن علي الجعفي قد صرّح بسماعه له من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال ابن حبَّان في "صحيحه": حدثنا ابن خزيمة، حدثنا أبو كريب، حدثنا حسين ابن عليّ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فصرح بالسماع منه.

وقولهم: إنه ظنّ أنه ابن جابر، وإنما هو ابن تميم، فغلط في اسم جدّه بعيد، فإنه لم يكن يشتبه على حسين هذا بهذا، مع نقده، وعلمه بهما، وسماعه منهما.

فإن قيل: فقد قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "العلل": سمعت أبي يقول: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لا أعلم أحدًا من أهل العراق يحدّث عنه، والذي عندي أن الذي يروي عنه أبو أسامة وحسين الجعفيّ واحد، وهو عبدالرحمن بن يزيد بن تميم، لأن أبا أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة خمسة أحاديث، أو ستة أحاديث منكرة، لا يحتمل أن يُحدث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر مثله، ولا أعلم أحداً من أهل الشام ووى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئًا.

وأما حسين الجعفيّ، فإنه روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث، عن أوس بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة أنه قال:"أفضل الأيام يوم الجمعة، فيه الصيحة، وفيه النفخة، وفيه كذا". وهو حديث منكر، لا أعلم أحدًا رواه غيرُ حسين الجعفي، وأما عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فهو ضعيف الحديث، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة. تم كلامه.

قيل: قد تُكُلِّم في سماع حسين الجعفي، وأبي أسامة من ابن جابر، فأكثر أهل الحديث أنكروا سماع أبي أسامة منه.

قال شيخنا في "التهذيب"

(1)

: قال ابن نمير -وذكر أبا أسامة- فقال: الذي يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابرنرى أنه ليس بابن جابر المعروف، وذُكر لي أنه رجل يُسمّى باسم ابن جابر، قال يعقوب: صدق، هو عبد الرحمن بن فلان بن تميم، فدخل عليه أبو أسامة، فكتب عنه هذه الأحاديث، فروى عنه، وإنما هو إنسان يُسمى باسم ابن جابر، قال يعقوب: وكأني رأيت ابن نُمير يتهم أبا أسامة أنه علم ذلك، وعرف، ولكن تغافل عن ذلك، قال: وقال لي ابن نمير: أما ترى روايته لا تشبه سائر حديثه الصحاح

(1)

هو الحافظ أبو الحجاج المزيّ رحمه الله صاحب "تهذيب الكمال". المتوفى سنة (742 هـ).

ص: 99

الذي روى عنه أهل الشام وأصحابه.

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت محمد بن عبد الرحمن ابن أخي حسين الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد؟ فقال: قدم الكوفة عبد الرحمن ابن يزيد بن تميم، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ثم قدم عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بعد ذلك بدهر، والذي يحدث عنه أبو أسامة ليس هو ابن جابر، هو ابن تميم.

وقال ابن أبي داود: سمع أبو أسامة من ابن المبارك، عن ابن جابر، وجميعًا يُحدثان عن مكحول، وابن جابر أيضًا دمشقيّ، فلما قدم هذا، قال: أنا عبد الرحمن بن يزيد الدمشقيّ، وحدث عن مكحول، فظنّ أبو أسامة أنه ابن جابر الذي روى عنه ابن المبارك، وابن جابر ثقة مأمون يُجمَع حديثه، وابن تميم ضعيف. وقال أبو داود: متروك الحديث حدث عنه أبو أسامة، وغلط في اسمه، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر الشامي، وكلّ ما جاء عن أبي أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد، فإنما هو ابن تميم.

وأما رواية حسين الجعفيّ عن ابن جابر، فقد ذكره شيخنا في "التهذيب"، وقال: روى عنه حسين بن علي الجعفي، وأبو أسامة حماد بن أسامة، إن كان محفوظًا. فجزم برواية حسين عن ابن جابر، وشك في رواية حماد.

ثم بعد أن كتبت ذلك رأيت الدارقطنيّ قد ذكر ذلك أيضاً، فقال في كلامه على كتاب أبي حاتم في "الضعفاء" قوله: حسين الجعفي ووى عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم. خطأ، الذي يروي عنه حسين هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وأبو أسامة يروي عن عبد الرحمن بن يزيد ابن تميم، فيغلَطُ في اسم جدّه. تم كلامه.

وللحديث علّة أخرى، وهي أن عبد الرحمن بن يزيد لم يذكر سماعه من أبي الأشعث، قال علي بن المديني: حدثنا حسين بن علي الجعفى، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، سمعته يذكر عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس

فذكره.

وقال إسماعيل بن إسحاق في كتابه: حدثنا علي بن عبد الله

فذكره.

وليست هذه بعلة قادحة، فإن للحديث شواهد من حديث أبي هريرة، وأبي الدرداء، وأبى أمامة، وأبي مسعود الأنصاريّ، وأنس بن مالك، والحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلاً.

ثْم ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، واستقصاها، فراجع "جلاء الأفهام" ص 46 - 54 تستفد

(1)

.

(1)

"جلاء الأفهام" ص 46 - 54.

ص: 100

وقال الحافظ رحمه الله تعالى في "النكت الظراف": ذكر البخاريّ، وأبو حاتم، وتبعهما ابن حبّان أن حسين بن عليّ الجعفيّ غلط في عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فظنّه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، كما جرى لأبي أسامة فيه، وأن هذا الحديث عن ابن "تميم"، لا عن "ابن جابر"، ولا يكون صحيحًا، وردّ ذلك الدارقطنيّ، فخصّ أبا أسامة بالغلط فيه انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخص من مجموع ما ذُكر ترجيح كون عبد الرحمن بن يزيد الذي روى عنه حسين الجعفي هذا الحديث هو ابن جابر الثقة المعروف، وأن الحديث صحيح، لصحة إسناده، ولشواهده.

وقد صححه من الأئمة: ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي، والنووي في "الأذكار"، وحسنه ابن المنذر، والحافظ ابن حجر، وله شواهد من حديث أبي الدرداء عند ابن ماجه -1637 - ورجاله ثقات، لكنه منقطع، وآخر من حديث أبي أمامة عند البيهقي، وحَسّن إسناده المنذريّ، إلا أن مكحولا قيل: لم يسمع من أبي أمامة، ومن حديث أبي هريرة، وأبى مسعود، وأنس، والحسن، كما تقدم في كلام ابن القيم، فهذه الأحاديث، وإن كان في معظمها مقال، فمجموعها يصلح شاهدًا لحديث الباب.

والحاصل أن حديث الباب صحيح. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -5/ 1374 - وفي "الكبرى" -7/ 1666 - بالسند المذكور.

وأخرجه (د) 1047 و1531 (ق) 1085 و1636 (أحمد) 4/ 8 (الدارمي) 1580 (ابن خزيمة) 1733 و1734. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة.

ومنها: فضل يوم الجمعة على سائر الأيام.

ومنها: أن الأنبياء أحياء في قبورهم، حياةً برزخية، لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، وأما زيادة:"فنبي الله حّي يُرزق" في آخر هذا الحديث عند ابن ماجه، والطبراني، فغير صحيحة؛ لأن في إسنادها انقطاعًا في موضعين، كما بينه الحافظ

(1)

"النكت الظراف" جـ 2 ص 3 - 4.

ص: 101

البوصيرى رحمه الله تعالى

(1)

.

ومنها: أن الله تعالى حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم تُعرض عليه في قبره صلاة أمته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌6 - (بَابُ الأَمْرِ بالسِّوَاكِ يَوْم الْجُمُعَةِ)

1375 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي هِلَالٍ، وَبُكَيْرَ بْنَ الأَشَجِّ، حَدَّثَاهُ

(2)

، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ، وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ".

إِلاَّ أَنَّ بُكَيْرًا لَمْ يَذْكُرْ "عَبْدَ الرَّحْمَنِ"، وَقَالَ فِي الطِّيبِ:"وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(محمد بن سلمة) المرادي المصري، ثقة ثبت [11] تقدم 19/ 20.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري، ثقة حافظ [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(عمرو بن الحارث) أبو أيوب المصري، ثقة ثبت [7] تقدم 63/ 79.

4 -

(سعيد بن أبي هلال) الليثي مولاهم المصري، صدوق [6] تقدم 41/ 686.

5 -

(بُكير بن الأشج) هو ابن عبد الله المدني نزيل مصر، نُسب لجدّه، ثقة [5]. تقدم 135/ 211.

6 -

(أبو بكر بن المنكدر) بن عبد الله بن الهُدَير التيميّ المدني، ثقة [4]، كان أسنّ من أخيه محمد.

(1)

راجع نسخة "ابن ماجه" بشرح السندي الطبعة الجديدة جـ 2 ص 291 رقم الحديث 1637 بتحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا.

(2)

وفي "الهندية": "أخبراه".

ص: 102

روى عن عمه ربيعة بن عبد الله بن الْهُدَير، وجابر، وأبي أمامة، وعَمرو بن سُليم، وغيرهم. وعنه أخوه محمد، وبُكير بن الأشجّ، وسعيد بن أبي هلال، وغيرهم.

قال أبو حاتم: لا يُسمّى. وكذا قال النسائي. وقال الآجرّيّ عن أبي داود: كان من ثقات الناس. وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: كان ثقة قليل الحديث.

روى له الجماعة، سوى ابن ماجه. وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده برقم (1383).

7 -

(عمرو بن سُليم) الزُّرقي الأنصاري المدني، ثقة [2] تقدم 37/ 730.

8 -

(عبد الرحمن بن أبي سعيد) الخدري الأنصاري المدني، ثقة [3] تقدم 1/ 326.

9 -

(أبو سعيد) الخدري سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي، رضي الله عنهم، تقدم 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من ثمانيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالمصريين إلى بُكير، وبعده بالمدنيين، وفيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: بكير، وأبو بكر، وعمرو، وعبد الرحمن، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة، روى (1170). حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) الخدري (عَنْ أَبيه) سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنهما (أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَال: "الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَة وَاجِبٌ) هذا ظاهر في الوجوب، وبه قال بعض العلماء، وحمله الجمهور على أنه أمر مؤكد، وسيأتي تحقيق الخلاف في الباب التالي إن شاء الله تعالى. وليس في رواية مسلم لفظ "واجب"، ولفظه:"غسلُ يوم الجمعة على كل محتلم".

(عَلَى كُل مُحْتَلم) أي بالغ، فيشمل من بلغ بالسنّ، أو الإحبال، والمراد بالبالغ من كان خاليًا عن عذر يُبيح الترك، وإلا فالمعذور مُستثنى بالأدلّة الأخرى.

والمراد الذَّكَر كما هو مقتضى الصيغة، وأيضًا الاحتلام أكثر ما يبلغ به الذكور دون الإناث، وفيهنّ الحيض أكثر.

وعمومه يشمل المصلي وغيره، لكن الحديث الذي بعده وغيره يخصّه بالمصلي

(1)

.

(1)

"شرح السندي" جـ 3 ص 92.

ص: 103

(وَالسِّوَاكُ) عطف على "الغسل".

(وَيَمَسُّ من الطيب) بفتح الميم أفصح من ضمها. قال الفيومي: مسسته، من باب تعب، وفي لغة: مسسته مَسًّا من قتل: أفضيت إليه بيدي من غير حائل، هكذا قيّدوه، والاسم المَسيس. قال: ومَسَّ الماءُ الجسدَ مَسًّا: أصابه، ويتعدّى إلى ثان بالحرف، وبالهمزة، فيقال: مسست الجسد، وأمسستُ الجسد ماءً انتهى.

قال السندي رحمه الله تعالى: وهو خبر بمعنى الأمر.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه عطف على "الغسل" بحذف أن المصدريّة، وحذف "أن" ورفع الفعل جائز عند بعض النحاة، وهو الأصح، ومنه قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، والتقدير هنا: والمسُّ منَ الطِّيب. و"من" بيان مقدم لـ"ما" في قوله (مَا قَدَرَ عَلَيْه) و"ما" مفعول "يمسّ"، أي ومسُّ الشيء الذي قدر عليه من الطيب.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: يحتمل إرادة التأكيد حتى يفعله بما أمكنه، ويحتمل إرادة التكثير، والأول أظهر، ويؤيده قوله:"ولو من طيب المرأة"، وهو المكروه للرجال، وهو ما ظهر لونه، وخفى ريحه، فإباحته للرجل هنا للضرورة، لعدم غيره، وهذا يدلّ على تأكده. والله أعلم

(1)

.

(إِلاَّ أَنَّ بُكَيْرًا) استثناء منقطع، أي لكن بُكير بن الأشجّ خالف سعيد بن أبي هلال في سند هذا الحديث، فـ (لَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ) بن أبي سعيد، بل جعله عن عمرو بن سُليمِ، عن أبي سعيد (و) خالف في متنه أيضًا بالزيادة، فـ (وَقَالَ فِي الطِّيبِ: وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ) يعني أنه قال: ويمس من الطيب، ولو من طيب المرأة.

و"لو" وصلية، فلا تحتاج إلى جواب، والجار والمجرور خبر لـ"كان" المحذوفة مع اسمها، وهو كثير في الاستعمال، كما قال في "الخلاصة":

وَيَحْذِفُونَهَا وَيُبْقُونَ الْخَبَرْ

وَبَعْدَ إِنْ وَلَوْ كَثِيرًا ذَا اشْتَهَرْ

أي ولو كان الممسوسُ كائنًا من طيب المرأة.

[تنبيه]: رواية بُكير بن الأشج التي قال فيها المصنف أنه لم يذكر فيها "عبد الرحمن" وافقه فيها شعبة، فقد رَوَى الحديث البخاري في "صحيحه" عن علي -هو ابن المديني- عن حَرَميّ بن عُمَارة، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن المنكدر، قال: حدثني عَمرو بن سليم الأنصاري، قال: أشهد على أبي سعيد، قال: أشهد على رسول

(1)

أفاده النووي في "شرح مسلم" جـ 6 ص 135.

ص: 104

الله صلى الله عليه وسلم قال: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستنّ، وأن يمسّ طيباً، إن وجده".

قال الحافظ رحمه الله تعالى بعد ذكر نحو ما تقدم عن النسائي: ما حاصله: وكذلك أخرجه أحمد من طريق ابن لَهيعة، عن بكير، ليس فيه عبد الرحمن.

وغفل الدارقطني في "العلل" عن هذا الكلام الأخير، فجزم بأن بُكيرًا وسعيدًا خالفا شُعبة، فزادا في الإسناد "عبدَ الرحمن"، وقال: إنهما ضبطا إسناده، وجوّداه، وهو الصحيح.

وليس كما قال، بل المنفرد بزيادة "عبد الرحمن" هو سعيد بن أبي هلال، وقد وافق شعبةَ، وبُكيرًا على إسقاطه محمد بن المنكدر، أخو أبي بكر، أخرجه ابن خُزيمة من طريقه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من واحد.

والذي يظهر أن عمرو بن سُليم سمعه من عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، ثم لقي أبا سعيد، فحدّثه، وسماعه منه ليس بمنكر؛ لأنه قديم، وُلد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يوصف بالتدليس.

وحكى الدارقطني في "العلل" فيه اختلافا آخر على علي بن المديني شيخ البخاري فيه، فذكر أن الباغنديّ حدث به عنه بزيادة عبد الرحمن أيضًا، وخالفه تمّام عنه، فلم يذكر عبد الرحمن.

وفيما قاله نظر، فقد أخرجه الإسماعيلي، عن الباغندي بإسقاط عبد الرحمن، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن أبي إسحاق بن حمزة، وأبي أحمد الغطريفي، كلاهما عن الباغندي، فهؤلاء ثلاثة من الحفّاظ حدّثوا به عن الباغنديّ، فلم يذكروا عبد الرحمن في الإسناد، فلعلّ الوهم فيه ممن حدث به الدارقطنيّ عن الباغنديّ.

وقد وافق البخاريّ على ترك ذكره محمد بنُ يحيى الذُّهْليُّ عند الجوزقي، ومحمدُ ابنُ عبد الرحيم صاعقةُ عند ابن خُزيمة، وعبدُ العزيز بن سلام عند الإسماعيليّ، وإسماعيلُ القاضي عند ابن منده في "غرائب شعبة"، كلهم عن علي بن المديني، ووافق عليَّ بنَ المدينيّ على ترك ذكره أيضًا إبراهيمُ بنُ محمد بن عَرْعَرَة، عن حرمي بن عُمَارة، عند أبى بكر المرّذي في "كتاب الجمعة" له.

ولم أقف عليه من حديث شعبة إلا من طريق حرميّ، وأشار ابن منده إلى أنه تفرّد به انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع

(1)

"فتح" جـ 3 ص 18.

ص: 105

والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -6/ 1375 - وفي "الكبرى" -7/ 1667 - عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، وبُكير بن الأشجّ، كلاهما عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سُليم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه رضي الله عنه.

وفي 11/ 1383 - وفي "الكبرى" 10/ 168 - عن هارون بن عبد الله، عن الحسن ابن سوّار، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال له.

وفي 8/ 1377 - و"الكبرى" -8/ 1668 - عن قُتيبة، عن مالك، عن صفوان بن سُليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

وأخرجه (خ) 1/ 217 و2/ 3 و3/ 232 (م) 3/ 3 (د) 341 و344 (مالك في الموطإ) 84 (الحميدي) 736 (أحمد) 3/ 6 و3/ 30 و3/ 60 و3/ 65 (الدارمي) 1545 (ابن خزيمة) 1742 و1743 و1744 و1745. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف، وهو الأمر بالسواك يوم الجمعة، وحمله العلماء على الاستحباب

ومنها: مشروعية الغسل للجمعة، وسيأتي الكلام عليه في الباب التالي إن شاء الله تعالى.

ومنها: استعمال الطيب للجمعة، إزالةً للرائحة الكريهة، وبُعْدًا عن إيذاء المسلمين الذين يحضرون الجمعة.

ومنها: أن طيب الرجال مخالف لطيب النساء، وهو أن طيبه ما ظهر ريحه، وخفي لونه، وطيبها ما ظهر لونه، وخفى ريحه.

فقد جاء فيه حديث صحيح، أخرجه الترمذي في "جامعه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"طيب الرجل ما ظهر ريحهه، وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه، وخفي ريحه".

ص: 106

وأخرجه الطبراني، والضياء المقدسي من حديث أنس رضي الله عنه

(1)

.

ومنها: اهتمام الشرع بالنظافة، فقد حَثّ عليها في هذا الحديث، فينبغي للمسلم أن يكون نظيف الجسد، واللباس، والمكان، ولاسيما في الأوقات التي يجتمع الناس فيها، كالجمعة، والعيدين، ونحوها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌7 - (باب الأَمْرِ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

1376 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الحافظ الحجة [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإِمام الحجة المجتهد المدني [7] تقدم 7/ 7.

3 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني الثقة الثبت [3] تقدم 12/ 12

4 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما، تقدم 12/ 12. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو (82) من رباعيات الكتاب. ومنها: أنه أصح الأسانيد على الإطلاق، كما نُقل عن البخاري رحمه الله تعالى، وأنه هو السند المسمَّى بسلسلة الذهب: مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد تقدم تمام البحث فيه، وأن فيه ابن عمر من العبادلة: الأربعة، ومن المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن نافع) وفي رواية ابن وهب، عن مالك أن نافعًا حدّثهم (عَن ابْن عُمَرَ) رضي الله

(1)

راجع "صحيح الجامع" للشيخ الألباني رحمه الله جـ 2 ص 730 رقم 3937.

ص: 107

تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ) المراد به الصلاة، أو المكان الذي تقام فيه الصلاة، وذكر المجيء لكونه الغالب، وإلا فالحكم شامل لمن كان مجاورًا للجامع، أو مقيمًا به. قاله في "الفتح".

وقال ولي الدين رحمه الله: ليس المراد بالمجيء إلى الجمعة أن يكون بينه وبين المكان الذي تقام فيه الجمعة مسافة، يَحتاج إلى قطعها، بل المقيم في المكان الذي يُجمَّع فيه حكمه كذلك، فالمجيء من مكان آخر ليس مقصودًا، وإنما المراد من أراد أن يُصلى الجمعة، فليغتس، وإن كان سبب ورود الأمر بالغسل للجمعة أنهم كانوا ينتابنون الجمعةَ من منازلهم، ومن العوالي، فيأتون في الغبار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تطهرتم ليومكم هذا"، كما في حديث عائشة رضي الله عنهما ولكن الحكم يعم الآتي من بَعُدَ، ومن قَرُبَ، ومَن هو مقيم في مكان الجمعة، والله أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يؤيد ذلك حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتقدم في الباب الماضي: "غسلُ يوم الجمعة وأجب على كلّ محتلم". فإنه أطلق الغسل فعم من كان بعيدًا من الجمعة، ومن كان قريبًا لها. والله تعالى أعلم.

(فَلْيَغْتَسلْ) الفاء للتعقيب، وظاهره أن الغسل يَعقُب المجيء، وليس ذلك مرادًا، وإنما التقدير: إذا أراد أحدكم المجيء إلى الجمعة، وقد جاء مصرحًا به في رواية الليث، عن نافع عند مسلم، ولفظه:"إذا أراد أحدكم الجمعة، فليغتسل"، ونظيره قوله تعالى:{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الآية [المجادلة: 12]، فإن المعنى: إذًا أردتم المناجاة، بلا خلاف.

ويقوى روايةَ الليث حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي -14/ 1388 - "من أغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح

" فإنه صريح في تأخير الرواح عن الغسل.

وعُرف بهذا فساد قول من حمله على ظاهره، واحتجّ به على أن الغسل لليوم، لا للصلاة، لأن الحديث واحد، ومخرجه واحد، وقد بيّن الليث في روايته المرادَ، وقوّاه حديث أبي هُريرة رضي الله عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

(1)

"طرح التثريب" جـ 3 ص 169.

ص: 108

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر "المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -7/ 1376 - وفي "الكبرى" - 8/ 678 - عن قُتيبة، عن مالك، عن نافع، عنه. وفي -25/ 1405 - و"الكبرى" -8/ 677 - عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن نافع، عنه. وفي "الكبرى" -8/ 1676 - عن عبيد الله بن فَضَالة، عن محمد بن المبارك الصوري، عن معاوية، عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع، عنه. وفي 8/ 1679 - عن هَنّاد بن السَّريّ، عن أبي بكر، عن أبي إسحاق، عن نافع، عنه.

وأخرجه (خ) 2/ 2 (م) 3/ 2 (ق)(1088) مالك في الموطإ (85 (الحميدي) 610 (أحمد) 2/ 3 و2/ 41 و2/ 42 و48 و55 و64 و75 و77 و78 و101 و105 و115 و141 و145 (الدارمى) 1544 (ابن خزيمة) 1750 و1751. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: قال في "الفتح": رواية نافع، عن ابن عمر لهذا الحديث مشهورة جدًّا، فقد اعتنى بتخريج طرقه أبو عوانة في "صحيحه"، فساقه من طريق سبعين نفسًا، رووه عن نافع.

قال الحافظ: وقد تتبعت ما فاته، وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد، لغرض اقتضى ذلك، فبلغت أسماء من رواه عن نافع مائة وعشرين نفسًا.

فمما يُستفاد منه هنا: ذكر سبب الحديث، ففي رواية إسماعيل بن أميّة، عن نافع عند أبي عوانة، وقاسم بن أصبغ:"كان الناس يَغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة، جاءوا، وعليهم ثياب متغيرة، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من جاء منكم الجمعة، فليغتسل".

ومنها: ذكر محلّ القول، ففي رواية الحَكَم بن عُتيبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعواد هذا المنبر بالمدينة يقول

" أخرجه يعقوب الجصاص في "فوائده" من رواية اليسع بن قيس، عن الحكم، وطريق الحكم عند النسائي -25/ 1405 - وغيره من رواية شعبة عنه بدون هذا السياق بلفظ حديث الباب، إلا قوله: "جاء"، فعنده "راح"، وكذا رواه النسائي من رواية إبراهيم بن طهمان، عن أيوب، ومنصور، ومالك، ثلاثتهم عن نافع.

ومنها: ما يدلّ على تكرار ذلك، ففي رواية صخر بن جُويرية، عن نافع، عند أبي مسلم الكجيّ، بلفظ: "كان إذا خطب يوم الجمعة قال

" الحديث.

ومنها: زيادة في المتن، ففي رواية عثمان بن واقد، عن نافع، عند أبي عوانة، وابن خُزيمة، وابن حبان في "صحاحهم"، بلفظ: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء،

ص: 109

فليغتسل، ومن لم يأتها، فليس عليه غسل". ورجاله ثقات، لكن قال البزار: أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه.

ومنها: زيادة في المتن، والإسناد أيضًا، أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن خُزيمة، وابن حبان، وغيرهم من طرق، عن مفضّل بن فَضَالة، عن عيّاش بن عباس القتبانيّ، عن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة واجبة على كلّ محتلم، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل".

قال الطبراني في "الأوسط": لم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلا بُكير، ولا عنه إلا عيّاش، تفرد به مفضل.

قال الحافظ: قلت: رواته ثقات، فإن كان محفوظًا، فهو حديث آخر، ولا مانع أن يسمعه ابن عمر، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن غيره من الصحابة: فقد ثبت في "الصحيحين" من رواية ابن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولاسيما مع اختلاف المتون. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى ببعض تصرف

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم الغسل يوم الجمعة:

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم في وجوب الغسل يوم الجمعة، فقالت طائفة: غسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم محتلم، كذلك قال أبو هريرة، وروينا عن عمر أنه قال في شيء: لأنا أعجز إذًا ممن لا يغتسل يوم الجمعة، وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: ثلاث حق على كل مسلم في يوم الجمعة: الغسل، والسواك، ويمس طيبًا، إن وجده. وتقاول

(2)

عمار بن ياسر رجلًا، فقال: أنا إذًا أشرّ من الذي لا يغتسل يوم الجمعة، وروينا عن ابن عباس أنه قال: ما شعرت أن أحدًا يرى أن له طهورًا يوم الجمعة غير الغسل، حتى قدمت هذا البلد -يعني البصرة-.

وكان الحسن يرى الغسل يوم الجمعة واجبًا، ويأمر به، وكان مالك يقول: من اغتسل يوم الجمعة في أول نهاره، وهو لا يريد به غسل الجمعة، فإن الغسل لا يجزي عنه حتى يغتسل لرواحه.

وقالت طائفة: الغسل سنة، وليس فرضًا، قال عبد الله بن مسعود: غسل يوم الجمعة سنة، وكان ابن عباس يأمر بالغسل، قال عطاء: من غير أن يأثم من تركه، وهو الراوي

(1)

"فتح" 3/ 918.

(2)

نسخة "الأوسط""تأول"، والصواب "تقاول".

ص: 110

للحديث عن ابن عباس، وروينا عن ابن عباس، أنه قال: ليس الغسل بمحتوم.

وممن كان لا يرى الغسل فرضًا لازمًا الأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل والنعمان، وأصحابه.

ثم مال ابن المنذر رحمه الله إلى ترجيح القول بالندبية، راجع كلامه في "الأوسط"

(1)

.

وقال في "الفتح": واستُدلّ بقوله: "واجبٌ" على فرضية غسل الجمعة، وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة، وعمار بن ياسر، وغيرهما، وهو قول أهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر، وجمع جَمٍّ من الصحابة، ومن بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم، لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلا نادرًا، وإنما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة، كقول سعد: ما كنت أظنّ مسلمًا يدع غسل يوم الجمعة، وحكاه ابن المنذر، والخطابي عن مالك، وقال القاضي عياض وغيره: ليس ذلك بمعروف في مذهبه.

قال ابن دقيق العيد: قد نص مالك على وجوبه، فحمله من لم يمارس مذهبه على ظاهره، وأبى ذلك أصحابه انتهى.

والرواية عن مالك بذلك في "التمهيد"، وفيه أيضًا من طريق أشهب عن مالك أنه سئل عنه؟ فقال: حسن وليس بواجب.

وحكاه بعض المتأخرين عن ابن خُزيمة من أصحابنا، وهو غلط عليه، فقد صرّح في "صحيحه" بأنه على الاختيار، واحتجّ لكونه مندوبًا بعدة أحاديث في عدة تراجم.

وحكاه شارح "الغنية" لابن سُريج قولًا للشافعي، واستُغرب. وقد قال الشافعي في "الرسالة" بعد أن أورد حديثي ابن عمر، وأبي سعيد: احتمل قوله: "واجب" معنيين، الظاهر منهما أنه واجب، فلا تُجزىء الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، واحتمل أنه واجب في الاختيار، وكرم الأخلاق والنظافة، ثم استدلّ للاحتمال الثاني بقصة عثمان مع عمر، قال: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دلّ ذلك على أنهما قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار انتهى.

وعلى هذا الجواب عوّل أكثر المصنفين في هذه المسألة، كابن خُزيمة، والطبري، والطحاويّ، وابن حبان، وابن عبد البرّ، وهَلُمَّ جَرّا.

وزاد بعضهم فيه أن من حضر من الصحابة وافقوهما على ذلك، فكان إجماعًا منهم على أن الغسل ليس شرطًا في صحة الصلاة، وهو استدلال قويّ.

(1)

جـ 4/ 39 - 43.

ص: 111

وقد نقل الخطابي وغيره الإجماع على أن صلاة الجمعة بدون الغسل مجزئة، لكن حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا بوجوبه، ولم يقولوا: إنه شرط، بل هو واجب مستقلّ، تصحّ الصلاة بدونه، كأن أصله قصد التنظيف، وإزالة الرائحة الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس، وهو موافق لقول من قال: يَحرُم أكل الثوم على من قصد الصلاة في الجماعة، ويَردّ عليهم أنه يلزم من ذلك تأثيم عثمان.

والجواب

(1)

أنه كان معذورًا؛ لأنه إنما تركه ذاهلًا عن الوقت، مع أنه يحتمل أنا يكون قد اغتسل في أول النهار، لما ثبت في "صحيح مسلم" عن حُمران أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يُفيض عليه الماء، وإنما لم يعتذر بذلك لعمر كما اعتذر عن التأخّر لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة، كما هو الأفضل.

وعن بعض الحنابلة التفصيل بين ذي النظافة وغيره، فيجب على الثاني دون الأول، نظرًا إلى العلة، حكاه صاحب "الهدي".

وحكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قصة عمر وعثمان تدلّ على وجوب الغسل، لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة، واشتغاله لمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رؤوس الناس، فلو كان ترك الغسل مباحًا لما فعل عمر ذلك، وإنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت، إذ لو فعل لفاتته الجمعة، أو لكونه كان اغتسل كما تقدّم.

قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة، وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أولوا صيغة الأمر على الندب، وصيغة الوجوب على التأكيد، كما يُقال: إكرامك عليّ واجب، وهو تأويل ضعيف، إنما يُصار إليه إذا كان المعارض راجحًا على هذا الظاهر.

وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديثُ: "من توضأ يوم الجمعة، فبها، ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"، ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث، قال: وربما تأولوه تأويلًا مستكرهًا، كمن حمل لفظ الوجوب على السقوط انتهى.

فأما الحديث، فعَوَّل على المعارضة به كثير من المصنفين، ووجه الدلالة منه قوله:"فالغسل أفضل"، فإنه يقتضى اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء، ولهذ الحديث طرق، أشهرها، وأقواها رواية الحسن، عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة، وابن خُزيمة، وابن حبان، وله علتان:

إحداهما أنه من عنعنة الحسن، والأخرى أنه اختُلف عليه فيه.

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، ولعل الأوضح في العبارة:"ويجاب عنه بأنه كان معذورًا إلخ".

ص: 112

وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد، وابن عديّ من حديث جابر، وكلها ضعيفة.

وعارضوا أيضًا بأحاديث:

منها: الحديث: "وأن يستنّ، وأن يمسّ طيبًا". قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعاطف، فالتقدير الغسل واجب والاستنان والطيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتفاقًا، فدلّ على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصحّ تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد انتهى.

وقد سبق إلى ذلك الطبري والطحاوي، وتعقبه ابن الجوزيّ بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب، لاسيما، ولم يقع التصريح بحكم المعطوف.

وقال ابن المنيّر في الحاشية: إن سُلّم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه؛ لأن للقائل أن يقول: أُخرج بدليل، فَيَبْقَي ما عداه على الأصل، وعلى أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة، فقد روى سفيان بن عُيينة في "جامعه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة، وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر.

ومنها حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع، وأنصت غفر له". أخرجه مسلم.

قال القرطبي: ذَكَرَ الوضوء وما معه مرتبًّا عليه الثواب المقتضي للصحّة، قدم على أن الوضوء كاف.

وأجيب: بأنه ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد وجه آخر في "الصحيحين" بلفظ:"من اغتسل"، فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدّم غسله على الذهاب، فاحتاج لى إعادة الوضوء.

قال الجامع: وفيه نظر، بل ما قاله القرطبي هو الظاهر. والله تعالى أعلم.

ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن غسل يوم الجمعة، أواجب هو؟ فقال: لا، ولكنه أطهر لمن اغتسل، ومن لم يغتسل، فليس بواجب عليه، وسأخبركم عن بدء الغسل، كان الناس مجهودين، يلبسون الصوف، ويعملون، وكان مسجدهم ضيقًا، فلما آذى بعضهم بعضًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا"، قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكُفُوا العمل، ووُسّع المسجد. أخرجه أبو داود، والطحاوي، وإسناده حسن.

لكن الثابت عن ابن عباس خلافه، وعلى تقدير الصحة فالمرفوع منه ورد بصيغة

ص: 113

الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب، فهو موقوف؛ لأنه من استنباط ابن عباس.

وفيه نظر، إذ لا يلزم من زوال السبب زوال المسبب، كما في الرمل والجمار، وعلى تقدير تسليمه، فلمن قصر الوجوب على من به رائحة كريهة أن يتمسك به.

ومنها: حديث طاوس، قلت لابن عباس: زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم، إلا أن تكونوا جنبًا

" الحديث. قال ابن حبان بعده أن أخرجه: فيه أن غسل الجمعة يُجزىء عنه غسل الجنابة، وأن غسل الجمعة ليس بفرض، إذ لو كان فرضًا لم يُجز عنه غيره انتهى.

وهذه الزيادة "إلا أن تكونوا جنبا" تفرّد بها ابن إسحاق عن الزهري، وقد رواه شعيب عن الزهري بلفظ:"وإن لم تكونوا جنبًا"، وهذا هو المحفوظ عن الزهريّ.

ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها، بلفظ:"لو اغتسلتم"، ففيه عرض وتنبيه، لا حتم ووجوب. وأجيب بأنه ليس فيه نفي الوجوب، وبأنه سابق على الأمر به، والإعلام بوجوبه.

ونقل الزين ابن المنيّر بعد قول الطحاويّ لمّا ذكر حديث عائشة: فدلّ على أن الأمر بالغسل لم يكن للوجوب، وإنما كان لعلة، ثم ذهبت تلك العلّة، فذهب الغسل: وهذا من الطحاوي يقتضي سقوط الغسل أصلًا، فلا يُعدّ فرضًا، ولا مندوبًا، لقوله: زالت العلة الخ، فيكون ثالثا في المسألة انتهى.

ولا يلزم من زوال العلة سقوط الندب تعبّدًا، ولاسيما مع احتمال وجود العلة المذكورة.

ثم إن هذه الأحاديث كلها لو سُلّمت لما دلّت إلا على نفي اشتراط الغسل، لا على الوجوب المجرد، كما تقدّم.

وأما ما أشار إليه ابن دقيق العيد من أن بعضهم أوّله بتأويل مُستَكره، فقد نقله ابن دحية عن القدوريّ من الحنفية، وأنه قال: قوله: "واجب": أي ساقط، وقوله:"على" بمعنى "عن"، فيكون المعنى أنه غير لازم. ولا يَخفَى ما فيه من التكلّف.

وقال الزين ابن المنيّر: أصل الوجوب في اللغة: السقوط، فلما كان في الخطاب على المكلف عبء ثقيل كان كلُّ ما أُكّد طلبه منه يُسمّى واجبًا، كأنه سقط عليه، وهو أعمّ من كونه فرضًا أو ندبًا.

وهذا سبقه ابن بزيزة إليه، ثم تعقبه بأن اللفظ الشرعيّ خاصّ بمقتضاه شرعًا، لا وضعًا، وكأن الزين استشعر هذا الجواب، فزاد أن تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادث.

ص: 114

وأجيب بأن "وجب" في اللغة لم ينحصر في السقوط، بل ورد بمعنى "مات"، وبمعنى "اضطرب"، وبمعنى "لزم"، وعْير ذلك، والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنها بمعنى "لزم"، لاسيما إذا سيقت لبيان الحكم.

وقد تقدّم في بعض طرق حديث ابن عمر "الجمعة واجبة على كلّ محتلم"، وهو بمعنى اللزوم قطعًا، ويؤيده أن في بعض طرق حديث الباب "واجب كغسل الجنابة". أخرجه ابن حبان من طريق الدراورديّ عن صفوان بن سُليم، وظاهره اللزوم.

وأجاب عنه بعض القائلين بالندبية بأن التشبيه في الكيفية، لا في الحكم.

وقال ابن الجوزي: يحتمل أن تكون لفظة "الوجوب" مغيّرة من بعض الرواة، أو ثابتة، ونسخ الوجوب.

ورد بأن الطعن في الروايات الثابتة بالظن الذي لا مستند له لا يُقبل، والنسخ لا يُصار إليه إلا بدليل

ومجموع الأحاديث يدلّ على استمرار الحكم، فإن حديث عائشة أن ذلك كان في أول الحال، حيث كانوا مجهودين، وأبو هريرة، وابن عباس إنما صحبا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حصل التوسع بالنسبة إلى ما كانوا فيه أوّلًا، ومع ذلك، فقد سمع كلّ منهما منه صلى الله عليه وسلم الأمر بالغسل، والحثّ عليه، والترغيب فيه، فكيف يُدَّعَى النسخ بعد ذلك؟. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر كلام الحافظ رحمه الله تعالى أنه يميل إلى ترجيح القول بوجوب غسل الجمعة، وهو الواضح من الأدلّة المتقدّمة، لكن لمّا قامت الأدلة الصارفة عن الوجوب -كما تقدم تفصيلها، في كلام الحافظ رحمه الله تعالى- تعين القول بالاستحباب الأكيد.

وتلك الأدلّة وإن كان في بعضها مقال، إلا أن مجموعها صالح لصرف الوجوب إلى الاستحباب، كما لا يخفى على من تأمل ذلك، ولاسيما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم، مرفوعًا: "من توضأ يوم الجمعة، فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة

" الحديث، فإنه صريح في الاجتزاء بالوضوء عن الغسل، وكقصة عمر مع عثمان رضي الله تعالى عنهما بمحضر جم غفير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وغير ذلك من الأدلة: المتقدم ذكرها في كلام الحافظ رحمه الله تعالى.

ولقد أجاد القول في هذه المسألة العلامة الشوكاني في كتابه "السيل الجرّار"

(2)

فقال:

(1)

جـ 3 ص 13 - 16.

(2)

هذا خلاف ما رجحه في "نيل الأوطار"، فقد مال فيه إلى ترجيح القول بالوجوب، فراجعه جـ 1 ص 349 - 351.

ص: 115

الأحاديثُ الصحيحة في "الصحيحين" وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قاضيةٌ بالوجوب، كحديث "غسلُ الجمعة واجب على كل محتلم"، وحديث "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل"، ونحوهما، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه في "الصحيحين" وغيرهما مرفوعًا:"حقّ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام".

ولكنه ورد ما يدلّ على عدم الوجوب، وهو ما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وابن ماجه

(1)

وابن خزيمة، من حديث الحسن البصريّ، عن سمرة مرفوعًا:"من توضأ يوم الجمعة فبها، ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل".

فإن دلالة الحديث على عدم الوجوب ظاهرة واضحة، وقد أُعلّ بما وقع من الخلاف في سماع الحسن من سمرة، ولكنه قد حسنه الترمذيّ.

ويُقوّي هذا الحديث أنه قد رُوي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأنس، وأبي سعيد، وابن عباس، وجابر رضي الله عنهم، كما حكى ذلك الدارقطني.

قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعائشة، وأنس.

وأخرجه البيهقي من حديث ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد، وجابر.

ويقويه أيضًا ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من توضأ يوم الجمعة، فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع، وأنصت، غُفِرَ له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام".

فإن اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الوضوء في هذا الحديث يدلّ على عدم وجوب الغسل، فوجب تأويل حديث "غسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم" بحمله على أن المراد بالوجوب تأكيد المشروعيّة، جَمعًا بين الأحاديث، وإن كان لفظ الوجوب لا يُصرَف عن معناه، إلا إذا ورد ما يدل على صرفه كما نحن بصدده، لكن الجمع مقدّم على الترجيح، ولو كان بوجه بعيد انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع: هذا الذي حققه الشوكاني رحمه الله تعالى هو التحقيق الحقيق بالقبول، فإنه حسن جدًّا؛ لأن الجمع بين الأحاديث المختلفة مهما أمكن هو المتعيّن، ولاسيما إذا كان طريق الجمع واضحًا، كما نحن فيه.

والحاصل أن غسل يوم الجمعة مستحب استحبابًا أكيدًا بحيث يستحق تاركه التعنيف، والإنكار الشديد عليه، كما تقدم من قصة عمر، وعمار بن ياسر، وغيرهما.

(1)

هكذا نسخة "السيل": بلفظ "وابن ماجه" بالعطف، ولعل الصواب "إلا ابن ماجه"، فإنه أخرجه من حديث جابر بن سمرة، لا من حديث سمرة بن جندب، فتأمل.

(2)

"السيل الجرار على حدائق الأزهار" جـ 1 ص 116 - 117.

ص: 116

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في اشتراط اتصال الغسل بالذهاب إلى الجمعة، وعدمه:

ذهب الجمهور إلى أن ذلك مستحبّ، ولا يشترط اتصاله به، بل متى اغتسل بعد الفجر أجزأه.

ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن مجاهد، والحسن البصريّ، والنخعيّ، وعطاء ابن أبي رباح، وأبي جعفر الباقر، والحكم، والشعبيّ، وحكاه ابن المنذر عن الثوريّ، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وبه قال ابن وهب صاحب مالك

(1)

.

وقال الأثرم: سمعت أحمد سُئل عمن أغتسل، ثم أحدث، هل يكفيه الضوء؟ فقال: نعم، ولم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزى. يُشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، وله صحبة:"أنه كان يغتسل يوم الجمعة، ثم يُحدث، فيتوضأ، ولا يُعيد الغسل"

(2)

.

وذهب مالك إلى أنه يشترط أن يكون الغسل متصلًا بالذهاب إلى الجمعة.

وحكى ابن المنذر: عن الأوزاعي، أنه قال: يجزئه أن يغتسل قبل الفجر للجنابة والجمعة، وحكى ابن حزم عن الأوزاعيّ أنه قال كقول مالك: لا يُجزىء غسل الجمعة إلا متصلًا بالرواح، قال: إلا أن الأوزاعي قال: إن اغتسل قبل الفجر، ونهض إلى الجمعة أجزأه، وحكى إمام الحرمين في "النهاية" وجهًا أنه يُجزىء قبل الفجر، كغسل العيد، قال النووى: وهو شاذ منكر

(3)

.

وأحتُحّ لمالك بحديث الباب "إذا جاء أحدكم الجمعة، فليغتسل".

قال ولي الدين رحمه الله تعالى: وجواب الجمهور عن هذا الحديث أنه تبين برواية مسلم تعليق الأمر بالغسل على إرادة إتيان الجمعة، وليس يلزم أن يكون إتيان الجمعة متصلًا بإرادة ذلك، فقد يريد عقب الفجر إتيانها، ويتأخر الإتيان إلى ما بعد الزوال، ولا شك أن كلّ من تجب عليه الجمعة، وهو مواظب على الواجبات إذا خطر له عقب الفجر أمر الجمعة أراد إتيانها، وإن تأخر الإتيان زمنًا طويلًا، وذلك يدلّ على أنه ليس المدار على نفس الإتيان، بل على إرادته، ليحترز به عمن هو مسافر، أو معذور بغير ذلك من الأعذار القاطعة عن الجمعة والله أعلم انتهى

(4)

.

(1)

"طرح التثريب" 3/ 167 - 168.

(2)

"فتح" 3/ 9.

(3)

"طرح" 3/ 16.

(4)

"طرح" 3/ 10.

ص: 117

وقال في "الفتح": ومقتضى النظر أن يقال: إذا عُرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة والتنظيف رعاية الحاضرين من التأذي بالرائحة الكريهة، فمن خشي أن يصيبه في أثناء النهار ما يُزيل تنظيفه، اسُتحب له أن يؤخّر الغسل لوقت ذهابه، ولعلّ هذا هو الذي لحظه مالك، فشرط اتصال الذهاب بالغسل، ليحصل الأمن مما يُغاير التنظيف. والله تعالى أعلم.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: ولقد أبعد الظاهري إبعادًا يكاد أن يكون مجزومًا ببطلانه، حيث لم يشترط تقدم الغسل على إقامة صلاة الجمعة، حتى لو اغتسل قبل الغروب كفى عنده، تعلقًا بإضافة الغسل إلى اليوم -يعني قوله:"غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"- وقد تبيّن من بعض الروايات أن الغسل لإزالة الروائح الكريهة.

قال: وفُهم منه أن المقصود عدم تأذي الحاضرين، وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة.

وكذلك أقول لو قدمه بحيث لا يتحصّل هذا المقصود لم يُعتدّ به.

والمعنى إذا كان معلومًا كالنصق قطعًا، أو ظنًّا مقارنًا للقطع، فاتباعه، وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ.

وقد حكى ابن عبد البرّ الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة، ولا فَعَل ما أمر به.

وادعى ابن حزم أنه قول جماعة من الصحابة والتابعين، وأطال في تقرير ذلك بما هو بصدد الممنع، والرّدُّ يفضي إلى التطويل بما لا طائل تحته، ولم يورد عن أحد ممن ذُكر التصريحَ بإجزاء الاغتسال بعد صلاة الجمعة، وإنما أورد عنهم ما يدلّ على أنه لا يُشترط اتصال الغسل بالذهاب إلى الجمعة، فأخذ هو منه أنه لا فرق بين ما قبل الزوال، أو بعده، والفرق بينهما ظاهر كالشمس. والله تعالى أعلم انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تحرر مما ذكر أن ما ذهب إليه الجمهور من جواز الاغتسال بعد الفجر، وأن اتصاله بالذهاب غير لازم، وأنه لا يجزىء بعد صلاة الجمعة هو المذهب الحقّ، لوضوح أدلته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة: في اختلاف أهل العلم في اغتسال من لا تجب عليه الجمعة، كالمسافر، والنساء، والصبيان:

(1)

جـ 3 ص 9 - 10.

ص: 118

قال ابن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في اغتسال المسافر يوم الجمعة، فقالت طائفة: ليس على المسافر يوم الجمعة غسل، هكذا قال عطاء، وكان ابن عمر وعلقمة لا يغتسلان في السفر يوم الجمعة.

وقالت طائفة: يغتسل، وإن كان مسافرًا، روينا عن طلحة بن عُبيد الله أنه أغتسل في السفر يوم الجمعة، وروى عن طاوس، ومجاهد، أنهما كانا يفعلان ذلك، وكان أبو ثور يقول: ولا يجب

(1)

ترك الغسل يوم الجمعة في سفر، ولا حضر.

قال ابن المنذر رحمه الله: ليس على المسافر الاغتسال يوم الجمعة؛ لأن المأمور بالاغتسال من أتى الجمعة، وليس ذلك على من لا يأتيها.

وقال أيضًا: واختلفوا في اغتسال النساء، والصبيان، والعبيد إذا حضروا الصلاة، فكان مالك يقول: من حضر الجمعة من النساء والعبيد، فليغتسل، وقال الشافعي في النساء والعبيد، والمسافرين، وغير المحتلمين إن شهدوا الجمعة أجزأتهم، وليغتسلوا، كما يفعل بهم إذا شهدوها

(2)

.

وقالت طائفة: إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة.

قال ابن المنذر: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "من جاء منكم الجمعة، فليغتسل" يدلّ على أن الأمر بالاغتسال لمن أتى الجمعة، فلا معنى لاغتسال من لا يأتي الجمعة من المسافرين، وسائر من رُخّص له في التخلف عن إتيان الجمعة.

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"، فظاهر هذا الحديث يوجب الاغتسال لليوم أتى، أو لم يأتها، وقول من أمر المسافر بالاغتسال يوم الجمعة يوافق ظاهر هذا الحديث انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول من قال: إن الغسل لمن أراد الإتيان إلى الجمعة هو الراجح عندي؛ لأن إطلاق حديث "غسل الجمعة واجب على كل محتلم"، مقيد بمفهوم حديث "من جاء منكم الجمعة فليغتسل". وقد جاء مصرحًا به فيما رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، والبيهقي في "سننه" من طريق عثمان بن واقد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل، من الرجال والنساء". قال ولي الدين رحمه الله: وإسناده صحيح.

(1)

هكذا نسخة "الأوسط""ولا يجب"، ولعل الصواب "ولا يجوز".

(2)

قوله: "كما يفعل بهم إلخ" هكذا في "الأوسط" وفيه ركاكة، فليتأمل.

(3)

"الأوسط" 4/ 47 - 48.

ص: 119

فدل على أن الاغتسال لصلاة الجمعة، لا لليوم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السابعة: في اختلاف أهل العلم هل الغسل للجنابة والجمعة واحد، أم لا؟

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: قال أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم: إن المغتسل للجنابة والجمعة غُسلًا واحدًا يجزئه. وروينا هذا القول عن ابن عمر، ومجاهد، ومكحول، ومالك، والثوريّ، والأوزاعي، والشافعيّ، وأبي ثور، وقال أحمد بن حنبل: أرجو أن يجزئه.

وأخرج عن ابن عمر-رضي الله عنهما، أنه كان يغتسل من الجنابة والجمعة غُسلًا واحدًا.

قال: وروينا أن بعض ولد أبي قتادة دخل عليه يوم الجمعة ينفض رأسه، مغتسلًا، فقال: للجمعة اغتسلت؟ قال: لا، ولكن للجنابة، قال: فأعد غسلًا للجمعة انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مذهب الجمهور في كون الغسل الواحد يكفي للجنابة والجمعة إذا نواهما هو الحقّ، ويدلّ عليه ما رواه ابن حبان في "صحيحه" من طريق ابن إسحاق، قال حدثني محمد بن مسلم الزهري، عن طاوس اليماني، قال: قلت لابن عباس: زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم، إلا أن تكونوا جُنُبًا، ومسوا من الطيب". قال: فقال ابن عباس: أما الطيب، فلا أدري، وأما الغسل، فنعم انتهى.

وجاء في هامش "الإحسان": هذا رواه شعيب، عن الزهري بلفظ:"وإن لم تكونوا جنبًا"، وروايته أصح

(2)

.

وقال في "الفتح": معناه اغتسلوا يوم الجمعة إن كنتم جنبًا للجنابة، وإن لم تكونوا جنبا للجمعة، وأخذ منه أن الاغتسال يوم الجمعة للجنابة يجزىء عن الجمعة، سواء نواه أو لا، وفي الاستدلال على ذلك بُعْد.

نعم رَوَى ابنُ حبان من طريق ابن إسحاق، عن الزهري في هذا الحديث:"اغتسلوا يوم الجمعة، إلا أن تكونوا جنبًا"، وهذا أوضح في الدلالة على المطلوب، لكن رواية شعيب عن الزهري أصح. انتهى.

والحاصل أن هذا الحديث يدل على أن الغسل الواحد يكفى للجنابة والجمعة، إذا نواه عنهما.

(1)

"الأوسط" 4/ 43 - 44.

(2)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 7/ 21 بتحقيق شعيب الأرنؤط.

ص: 120

والظاهر أن استبعاد الحافظ الاستدلال به إنما هو في قوله: "نواه للجمعة أم لا"، لا في الاجتزاء بغسل واحد عنهما، وهو ظاهر؛ لأن العبادة المشتركة لابد من نيتهما معًا حال أدائها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثامنة: في اختلاف أهل العلم فيمن أحدث بعد الاغتسال:

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: واختلفوا في الرجل يغتسل الجمعة، ثم يُحدث، فاستحبت طائفة أن يعيد الاغتسال له.

وبه قال طاوس، والزهري، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، وقال الحسن البصري: يعيد الغسل، وقال إبراهيم التيمي: كانوا يقولون: إذا أحدث بعد الغسل عاد إلى حالته التي كان عليها قبل أن يغتسل.

وقالت طائفة: يُجزيه الوضوء، كذلك قال الحسن، ومجاهد، وكذلك كان يفعل عبد الرحمن بن أبزى، وقال مالك، والأوزاعي: يجزيه الوضوء.

قال ابن المنذر: وكذلك نقول، لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"، وقد أتى من أحدث بعد الاغتسال بالغسل انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن المنذر حسن جدًّا.

وحاصله: أن من اغتسل يوم الجمعة للجمعة، ثم طرأ عليه الحدث، فقد أتى بما أمر به، فإنه لم يؤمر بالصلاة بذلك الغسل، وإنما أمر بالنظافة في حال حضوره للجمعة، فإذا حصلت فقد امتثل الأمر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، ما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌8 - (باب إِيجَابِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

1377 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ").

(1)

"الأوسط" 4/ 46 - 47.

ص: 121

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(صفوان بن سُليم) الزهريّ مولاهم، أبو عبد الله المدني، ثقة مفت عابد رُمي بالقدر [4] تقدم 47/ 59.

2 -

(عطاء بن يسار) الهلالي، أبو محمد المدني، ثقة فاضل واعظ عابد [3] تقدم 64/ 80.

والباقون تقدموا في الباب الماضي، وفي الذي قبله.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله قبل باب ودلالته لما ترجم له واضحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1378 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ غُسْلُ يَوْمٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُميد بن مَسعَدة) الباهليّ البصري، صدوق [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(بشر) بن الْمُفَضل، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت عابد [8] تقدم 66/ 82.

3 -

(داود بن أبي هند) القُشيري مولاهم البصري، ثقة متقن كان يهم بآخره [5] تقدم 21/ 538.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم المكي، صدوق [4] تقدم 31/ 35.

5 -

(جابر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، تقدم 31/ 35. وشرح الحديث يعلم مما سبق. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث فيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلس، لكنه صحيح بالأحاديث السابقة.

وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -8/ 1378 - وفي "الكبرى" 8/ 1669 - بالسند المذكور.

وأخرجه (أحمد) 3/ 304 (ابن خزيمة) 1747 (عبد بن حميد)1072. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 122

‌9 - (باب الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

أي باب ذكر الحديثين الدّالّين على التسهيل في ترك الغسل يوم الجمعة لعدم كونه واجبًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة أن الوجوب المستفاد من حديث الباب الماضي مصروف عن ظاهره بحديثي الباب، فإنهما يدلان على ذلك، كما يأتي إيضاحه قريبا إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

1379 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ، أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا غُسْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَسْكُنُونَ الْعَالِيَةَ، فَيَحْضُرُونَ الْجُمُعَةَ، وَبِهِمْ وَسَخٌ، فَإِذَا أَصَابَهُمُ الرَّوْحُ، سَطَعَتْ أَرْوَاحُهُمْ، فَيَتَأَذَّى بِهَا النَّاسُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَوَ لَا تَغْتَسِلُونَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمود بن خالد) السلمي، أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، من صغار [10]، تقدم 45/ 595.

2 -

(الوليد) بن مسلم، أبو العباس الدمشقي، ثقة كبير التدليس والتسوية [8] تقدم 5/ 454.

3 -

(عبد الله بن العلاء) بن زَبْر -بفتح الزاي، وسكون الموحّدة- ابن عُطارد بن عَمرو بن حُجْر الرَّبَعيّ، أبو زَبْر، ويقال: أبو عبد الرحمن الدمشقي، ثقة [7].

رَوَى عن بُسر بن عُبيد الله، وثور بن يزيد، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وغيرهم. وعنه ابنه إبراهيم، وزيد بن الحباب، والوليد بن مسلم، وغيرهم.

قال حنبل، عن أحمدة مُقارب الحديث. وقال الدوريّ، وابن أبي خَيثمة، وغير واحد، عن ابن معين: ثقة. وكذا قال دُحَيم، وأبو داود، ومُعاوية بن صالح، وهشام بن عَمّار. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وكذا قال محمد بن عَوْف، عن ابن معين. وقال ابن معين: كان ثقة، إن شاء الله. وقال عثمان الدارميّ: سالت عبد الرحمن -يعني دُحَيمًا- عنه؟ فوثقه جدًّا. وقال يعقوب بن سفيان: سألته يعني دُحيمًا -عنه؟ فقال: كان

ص: 123

ثقة، وكان من أشراف البلد، قال يعقوب: وعبد الله بن العلاء ثقة، أثنى عليه غير واحد. وقال عمرو بن علي: حديث الشاميين كلّه ضعيف إلَّا نفرًا، منهم عبد الله بن العلاء. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، وقال في موضح آخر: هو أحبّ إليّ من أبي معبد حفص بن غيلان. وقال الدارقطني: ثقة يُجمع حديثه. وقال النسائي: في "التمييز": ليس به بأس، شامي. وقال العجلي: شاميّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الذهبي في "الميزان": إن ابن حزم نقل عن ابن معين أنه ضعفه. قال الحافظ العراقي في "شرح الترمذي": لم أجد ذلك عن ابن معين بعد البحث. ووقع في "المحلَّى" لابن حزم في الكلام على حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه في آنية أهل الكتاب: عبد الله بن العلاء ليس بالمشهور، وهو متعقَّبٌ بما تقدم.

قال إبراهيم بن عبد الله: توفي سنة (164) وهو ابن (89) سنة، وصلّى عليه سعيد ابن عبد العزيز، وقال إبراهيم في رواية أخرى: مات سنة خمس.

روى له البخاريّ، والأربعة. وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هذا، وحديث (4172) وأعاده بعده، وحديث 5590.

4 -

(القاسم بن محمد بن أبي بكر) الصدّيق التيمي المدني، ثقة ثبت فقيه، من كبار [3] تقدم 120/ 166.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت 5/ 5. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالدمشقيين إلى القاسم، وأن القاسم أحد الفقهاء السبعة، يروي عن عمته، وأن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عبد الله بن العلاء (أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا) يحتمل فتح همزة "أنّ" على تقدير "يذكر"، وكسرها على تقدير "يقول"، والضمير في "أنهم"، وفي "ذكروا" يعود إلى الجماعة الحاضرين في مجلس عائشة رضي الله تعالى عنها، بدلالة السياق (غُسْلَ يَوْم الْجُمُعَة) بنصب "غسل" على المفعولية، أي حكمه، أو سبب ابتداء تشريعه (عنْدَ عَائشَةَ) رضي الله عنها، متعلق بـ"ذكرا"(فقالَتْ) أي عائشة رضي الله عنها (إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَسْكُنُونَ الْعَالِيَةَ) جمعه عوال، وهي عبارة عن القُرى المجتمعة حولَ المدينة من جهة نجدها، وأما ما كان من جهة تهامتها، فيقال له السافلة، وأقرب العوالي إلى المدينة

ص: 124

مسافة ميلين، أو ثلاثة، وأبعدها ستة، وقيل: ثمانية، وتقدّم الكلام عليه في "كتاب المواقيت" -8/ 507 - (فَيَحْضُرُونَ الْجُمُعَةَ، وَبِهِمْ وَسَخٌ) جملة في محل نصب على الحال من فاعل "يحضر".

و"الوسخ" بفتحتين: ما يعلو الثوب وغيره من قلة التعهد، والجمع أوساخ

(1)

.

وفي رواية الشيخين من طريق عمرة، عن عائشة رضي الله عنها: قالت: كان الناس يَنتابون

(2)

يوم الجمعة من منازلهم، والعوالي، فيأتون في الغبار، يُصيبهم الغبار والعرق، فيَخرُجُ منهم العَرَق، فأَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم -وهو عندي- فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا".

وفي رواية لهما: كان الناس مَهَنَةَ

(3)

أنفسهم، وكانوا إذا راحوأ إلى الجمعة راحوا في هَيْئتهم، فقيل لهم:"لو اغتسلتم".

وأخرج أحمد في "مسنده" جـ 1 ص 268 - وأبو داود في "سننه" -353 - وصححه ابن خزيمة 1755 - : عن عكرمة، أن ناسًا من أهل العراق جاءوا، فقالوا: يا ابن عبّاس، أترى الغسل يوم الجمعة واجبًا، قال: لا، ولكنه أطهر، وخير لمن أغتسل، ومن لم يغتسل، فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل؟ كان الناس مجهودين، يلبسون الصوف، ويَعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقًا، مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حارّ وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياحٌ آذى بذلك بعضهم بعضًا، فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الريح، قال:

"أيها الناس إذا كان هذا اليوم، فاغتسلوا، وليمسّ أحدكم أفضل ما يجد من دهنه، وطيبه"، قال ابن عباس: ثم جاء الله تعالى ذكرُهُ بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكُفُوا العملَ، ووسع الله مسجدَهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضًا من العرق.

(فَإِذَا أَصَابَهُمُ الرَّوْحُ) بالفتح: نَسيم الريح (سَطَعَتْ أَرْوَاحُهُمْ) يقال: سطع الغُبَار، والرائحةُ يَسطَعُ -بفتحتين-: ارتفع. قاله الفيّومي.

و"الأرواح" جمع ريح بالكسر؛ لأن أصلها الواو، ويجمع على أرياح قليلًا، وعلى رياح كثيرًا، أي كانوا إذا مرّ عليهم النسيم، تَكَيّف بأرواحهم، وحملها إلى الناس (فَيَتَاذَّى بَها) أي يتضرّر بسبب خُبث تلك الأرواح، وفي نسخة "به"، أي بذلك الروح (النَّاسُ) أي الذين يحضرون المسجد لصلاة الجمعة (فَذُكرَ ذَلِكَ) ببناء الفعل للمفعول،

(1)

"المصباح" 2/ 658.

(2)

أي يحضرونها نُوَبًا.

(3)

جمع ماهن، وهو الخادم.

ص: 125

واسم الإشارة نائب فاعله (لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم) متعلق بـ"ذكر". أي ذَكَر الناسُ الذين تأذوا بتلك الأرواح للنبي صلى الله عليه وسلم ما حصل لهم من الضرر، ليأمرهم بالنظافة، وتَعَهُّدِ أجسامهم وثيابهم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَوَ لَا تَغْتَسلُونَ) بتاء الخطاب، وفي النسخة "الهندية":"أو لا يغتسلون" بالياء. والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، والواو عاطفة، وجملة "لا تغتسلون" معطوفة على محذوف، أي أتحضرون الجمعة، ولا تغتسلون.

وحاصل المعنى أنهم كانوا يَعرَقون لمشيهم من مكان بعيد في شدة الحر، وتقدم أنهم كانوا يلبسون الصوف، فإذا اجتمع العرق مع وسخ لباس الصوف يثير رائحة كريهةً، فإذا حملها الريح إلى الناس، تأذوا بها، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وحثهم على الاغتسال، حتى لا يحصل هذا الضرر.

والحديث استدلّ به المصنف رحمه الله تعالى على الترخيص في ترك غسل الجمعة، ووجه استدلاله به أنه يدل على أن الغسل كان لسبب، فلما زال ذلك السبب، زال الوجوب معه، وفي هذا الاستدلال نظرٌ لا يخفى، إذ قوله صلى الله عليه وسلم:"أو لا تغتسلون" يفيد الإنكار التوبيخي، وهو يدلّ على الأمر بالاغتسال، لا على تركه، وأيضًا فإن زوال سبب التشريع لا يدلّ على زوال الحكم، كالرَّمَل مثلًا، كان لإغاظة المشركين -كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى من "كتاب الحج"- وقد زال ذلك السبب، ولم يزل ذلك الحكم، بل صار شرعًا مستمرًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح، وهو بهذا السياق من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا -9/ 1379 - وفي "الكبرى" -8/ 1683 - بالسند المذكور. وقد تقدم بسياق آخر عند الشيخين، وغيرهما. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو الترخيص في ترك الغسل يوم الجمعة؛ لأن مشروعيته كان للسبب المذكور في الحديث، فلما وسع الله عليهم، وزال السبب رُخص لهم في تركه، هذا هو والظاهر من إيراد المصنف رحمه الله له هنا، وقد عرفت ما فيه.

ومنها: ما كان عليه الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضيق المعيشة، والصبر عليه.

ص: 126

ومنها: أن أراد أراد مجالسة الناس ينبغي له أن يزيل عنه ما يتأذي به الناس أراد الروائح الكريهة، ويتجمل لهم، ويظهر بمظهر حسن.

ومنها: مشروعية إتيان الجمعة من الأمكنة البعيدة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1380 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا، وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ، فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ كِتَابًا، وَلَمْ يَسْمَعِ الْحَسَنُ مِنْ سَمُرَةَ إِلاَّ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو الأشعث) أحمد بن المقدام العجلي البصري، صدوق صاحب حديث [10] تقدم 138/ 319.

2 -

(يزيد بن زُريع) أبو مُعاوية البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 5/ 5.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج الإِمام الحجة المشهور [7] تقدم 24/ 26.

4 -

(قتادة) بن دعامة الحافظ الحجة، يدلس [4] تقدم 30/ 34.

5 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصري الإِمام الحجة الفقيه المشهور [3] تقدم 32/ 36.

6 -

(سمرة) بن جُندب بن هلال الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه تقدم 25/ 393. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَمُرَةَ) رضي الله تعالى (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا، وَنِعْمَتْ) أي فبرخصة الوضوء أخذ، ونعت هذه الرخصةُ.

وقال الأصمعي: معناه فبالسنة أخذ، ونعت السنة، وقال أبو حامد الشاركيّ: معناه، فبالرخصة أخذ؛ لأن سنة يوم الجمعة الغسل. وقال الحافظ أبو الفضل العراقي: أي فبطهارة الوضوء حصل الواجب في التطهير للجمعة انتهى

(1)

.

وقال السندي: قوله: "فبها"، أي فيكتفي بها، أي بتلك الفعلة التي هي الوضوء. وقيل: فبالسنة أخذ. وقيل: بل الأولى: بالرخصة أخذ؛ لأن السنة يوم الجمعة الغسل.

(1)

"زهر الربى" 3/ 94 - 95.

ص: 127

وقيل: بل بالفريضة أخذ، ولعلّ من قال: بالحسنة أراد ما جوّزته السنة، ولا يخفى بُعْدُ دلالة اللفظ على هذه المعاني انتهى

(1)

.

و"وَنعْمَتْ" -بكسر النون، وسكون العين المهملة- على المشهور، وروي بفتح النون، وكسر العين، وهو الأصل في هذه اللفظة.

وروي "ونَعمتَ" بفتح النون، وكسر العين، وفتح التاء: أي نعَّمك الله.

قال النووي في "شرح المهذّب": وهذا تصحيف، نبّهتُ عليه لئلّا يُغترّ به

(2)

.

وقال الخطّابي في إصلاح الألفاظ التي صَحَّفها الرُّوَاة: و"نعمت" بكسر النون، ساكنةَ التاء، أي نعمت الخَصْلة، والعامّةُ يروونه "نَعِمَتْ" يفتحون النون، ويكسرون العين، وليس بالوجه، ورواه بعضهم:"ونَعِمْتَ": أي نَعَّمَك الله انتهى

(3)

.

(وَمَنِ اغْتَسَلَ، فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ) أي لأنه أكمل الطهارتين، فيكون أنسب لما طلب في ذلك اليوم من كمال النظافة.

قال الإِمام الترمذي رحمه الله تعالى: دلّ هذا الحديث على أن الغسل يوم الجمعة فيه فضل من غير وجوب انتهى

(4)

.

وقال الخطابي رحمه الله: فيه البيان الواضح أن الوضوء كاف للجمعة، وأن الغسل لها فضيلة، لا فريضة انتهى.

قال النووي رحمه الله: في هذا الحديث دليلان على عدم وجوب غسل يوم الجمعة:

أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "فبها"، وعلى كل قول مما سبق في تفسيره تحصل الدلالة.

والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "فالغسل أفضل"، والأصل في أفعل التفضيل أن يدخل على مشتركين في الفضل، يُرجّح أحدهما فيه انتهى

(5)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلال المصنف بالحديث على ما بوّب له واضح، كما قرره هؤلاء الأئمة، وقد تقدم تمام البحث في ذلك قبل باب، وبالله تعالى التوفيق.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) النسائي رحمه الله تعالى (الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ كِتَابًا) هكذا النسخ هنا وفي "الكبرى" بالنصب، وعليه فيكون "الحسنُ" فاعلا لفعل مقدر، و"كتابًا" مفعول

(1)

"شرح السندي" 3/ 94.

(2)

"المجموع" 4/ 405.

(3)

"زهر الربى" جـ 3/ 95.

(4)

"جامع الترمذي" 3/ 8 بنسخة "تحفة الأحوذي".

(5)

"المجموع" 4/ 407.

ص: 128

لذلك الفعل: أي وَجَد الحسن، أو رَوَى كتابًا يعني أن أحاديث الحسن البصري، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه ليست سماعًا، وإنما وجد كتابه، فحدّث بها (وَلَمْ يَسْمَعِ الْحَسَنُ مِنْ سَمُرَةَ إِلاَّ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) وهو ما رواه المصنف رحمه الله في "كتاب العقيقة" -5/ 4220 - أخبرنا عمرو بن علي، ومحمد بن عبد الأعلى، قالا: حدثنا يزيد -وهو ابن زريع- عن سعيد، أنبأنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جُندب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"كلُّ غلام رَهينٌ بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه، ويُحلق رأسه، ويُسمّى".

-4221 - أخبرنا هارون بن عبد الله، قال: حدثنا قُريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد، قال لي محمد بن سيرين: سل الحسن ممن سمع حديثه في العقيقة، فسألته عن ذلك؟ فقال: سمعته من سمرة.

وسيأتي تمام البحث في سماع الحسن، عن سمرة رضي الله عنه في المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى، والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث سمرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

فإن قلت: كيف يصحّ، وفيه عنعنعة قتادة، والحسن؟.

قلت: أما عنعنعة قتادة، فإنها جاءت من طريق شعبة، فقد ثبت عنه أنه قال: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة، فزالت تهمة التدليس.

وأما الكلام في سماع الحسن فيجاب عنه بأن للحديث شواهد يصح بها، ومن أقوى شواهده ما أخرجه مسلم في "صحيحه" عقب الأمر بالغسل عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع، وأنصت غُفِر له ما بين الجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام". ففيه بيان صريح بأن الوضوء يكفي للجمعة، فيكون شاهدًا قويًّا لحديث سمرة رضي الله عنه فيه. وقد وردت أحاديث ضعيفة تشهد له ولكن الصحيح المذكور يكفي.

والحاصل أن الحديث صحيح لما ذكر. وسيأتي تمام البحث في سماع الحسن في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -9/ 1380 وفي "الكبرى" -9/ 1684 - بالسند المذكور.

ص: 129

وأخرجه (د) 354 (ت) 497 (أحمد) 5/ 8 و5/ 11 و5/ 15 و5/ 16 و5/ 122 (الدارمي) 1548 (ابن خزيمة)1757. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله، وهو الترخيص في ترك الغسل يوم الجمعة، والاجتزاء بالوضوء.

ومنها: تفضيل الغسل على الوضوء لكونه أتم في النظافة.

ومنها: سماحة الشريعة، وسهولة أمرها، حيث سهلمت في موضع الحرج، كما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية [الحج: 78]. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في بيان الاختلاف الواقع في هذا الحديث:

قال في "التلخيص الحبير" جـ 2 ص 67: حديث "من توضأ يوم الجمعة، فبها، ونعمت، ومن اغتسل، فالغسل أفضل". رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن خُزيمة من حديث الحسن، عن سمرة، وقال الترمذي: حديث حسن.

ورواه بعضهم عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.

وقال في "الإِمام": مَنْ يحمل رواية الحسن عن سمرة على الاتصال يصحّح هذا الحديث.

قلت: وهو مذهب علي بن المديني، كما نقله عنه البخاريّ، والترمذيّ، والحاكم، وغيرهم. وقيل: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة، وهو قول البزّار وغيره. وقيل: لم يسمع منه شيئًا أصلًا، وإنما يُحدّث من كتابه.

ورواه أبو بكر الْهُذلي -وهو ضعيف- عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ووهم في ذلك. قاله الدارقطني في "العلل"، قال: والصواب رواية يزيد بن زريع وغيره عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة.

ورواه أبو حرّة، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة. ووهم في اسم صحابيه. أخرجه أبو داود الطيالسيّ، والبيهقي من طريقه.

ورواه العيقليّ من طريق قتادة، عن الحسن، عن جابر.

ومن طريق إبراهيم بن مُهاجر، عن الحسن، عن أنس.

وهذا الاختلاف فيه على الحسن، وعلى قتادة لا يضرّ، لضعف من وهم فيه، والصواب -كما قال الدارقطنيّ-: عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، وكذلك قال العقيليّ. ورواه ابن ماجه بسند ضعيف، عن أنس، ورواه الطبراني من حديثه في "الأوسط" بإسناد أمثل من ابن ماجه.

ص: 130

ورواه البيهقي بإسناد فيه نظر من حديث ابن عباس، وبإسناد فيه انقطاع من حديث جابر، ورواه عبد بن حميد، والبزّار في "مسنديهما"، وكذلك إسحاق بن راهويه في "مسنده" من حديثه بإسناد فيه ضعف، ورواه البيهقي من حديث أبي سعيد، وله طريق أخرى في "التمهيد"، فيها الربيع بن بدر، وهو ضعيف انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تلخّص مما قاله الأئمة أن أصح أسانيد حديث الباب رواية قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، كما هو رواية المصنف رحمه الله تعالى، والكلام في سماع الحسن، عن سمرة يأتي في المسألة التالية إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في سماع الحسن، عن سمرة رضي الله عنه:

ذكر الحافظ الزيلعي رحمه الله تعالى في كتابه "نصب الراية" المسألةَ مفصلةً، فقال رحمه الله تعالى:

وفي سماع الحسن من سمرة ثلاثة مذاهب:

أحدها: أنه سمع منه مطلقًا، وهو قول ابن المديني، ذكره البخاريّ في أوّل "تاريخه الأوسط"، فقال: حدثنا الحمديّ، ثنا سفيان، عن إسرائيل، قال: سمعت الحسن يقول: ولدت لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه. قال: سماع الحسن من سمرة صحيح انتهى.

ونقله الترمذّي في كتابه، فقال:"باب الصلاة الوُسطى": قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- قال عليّ -يعني ابن المديني- سماع الحسن من سمرة صحيح انتهى.

ولم يُحسن شيخنا علاء الدين، فقال مقلّدًا لغيره: قال الترمذي: سماع الحسن من سمرة عندي صحيح، والترمذي لم يقل ذلك، فإنما نقله عن البخاريّ، عن ابن المديني، كما ذكرناه، ولكن الظاهر من الترمذي أنه يختار هذا القول، فإنه صحح في "كتابه" عدّة أحاديث من رواية الحسن، عن سمرة، واختار الحاكم هذا القول في "كتابه المستدرك" بعد أن أخرج حديث الحسن عن سمرة:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له سكتتان، سكتة إذا كبّر، وسكتة إذا فرغ من قراءته": ولا يتوهّم أن الحسن لم يسمع من سمرة، فإنه سمع منه انتهى. وأخرج في كتابه عدّة أحاديث من رواية الحسن عن سمرة، وقال في بعضها: على شرط البخاري، وقال في "كتاب البيوع" بعد أن روى حديث الحسن،

(1)

"التلخيص الحبير" جـ 2 ص 67.

ص: 131

عن سمرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الشاة باللحم": وقد احتج البخاري بالحسن، عن سمرة انتهى.

القول الثاني: أنه لم يسمع منه شيئًا، واختاره ابن حبان في "صحيحه"، فقال في النوع الرابع من القسم الخامس بعد أن روى حديث الحسن، عن سمرة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له سكتتان

": والحسن لم يسمع من سمرة.

وقال صاحب "التنقيح": قال ابن معين: الحسن لم يلقَ سمرة. وقال شعبة: الحسن لم يسمع من سمرة. وقال البرديجيّ: أحاديث الحسن، عن سمرة كتاب، ولا يثبت عنه حديث، قال فيه: سمعت سمرة انتهى كلامه.

القول الثالث: أنه سمع منه حديث العقيقة فقط، قاله النسائي، وإليه مال الدارقطنيّ في "سننه"، فقال في حديث السكتتين: والحسن اختلف في سماعه من سمرة، ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة، فيما قاله قُريش بن أنس انتهى.

واختاره عبد الحق في "أحكامه"، فقال عند ذكره هذا الحديث: والحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة.

واختاره البزّار في "مسنده"، فقال في آخر ترجمة سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه:

والحسن سمع من سمرة حديث العقيقة، ثم رغب عن السماع عنه، ولما رجع إلى ولده أخرجوا له صحيفة سمعوها من أبيهم، فكان يرويها عنه من غير أن يُخبر بسماع؛ لأنه لم يسمعها منه انتهى.

روى البخاري في "تاريخه" عن عبد الله بن أبي الأسود، عن قُريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد، قال: قال محمد بن سيرين: سَل الحسنَ ممن سمع حديثه في العقيقة؟ فسألته، فقال: سمعته من سمرة، وعن البخاري رواه الترمذيّ في "جامعه" بسنده ومتنه، ورواه النسائي عن هارون بن عبد الله، عن قُريش. وقال عبد الغنيّ: تفرّد به قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد.

وقد رده آخرون، وقالوا: لا يصحّ له سماع منه انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الثاني هو الراجح؛ لأن سماعه منه حديثَ العقيقة صحيح، فنفي السماع على الإطلاق مجرّد دعوى لا يستند إلى دليل فلا يلتفتُ إليه، وأما غير حديث العقيقة، فإن جاء تصريحه بالسماع، فكذلك، وإلا فلا، لكونه يروي عن كتابه، فلابدّ من التصريح بالسماع.

وأما تصحيح حديث الباب هنا فليس لثبوت سماعه، بل لما ذكرناه من الشواهد، فتفطّن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 132

[تَتِمَّة]: في ذكر كلام البزار رحمه الله تعالى في سماع الحسن البصري من الصحابة رضي الله عنهم:

قال البزّار في "مسنده" في آخر ترجمة سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه:

سمَع الحسن من جماعة من الصحابة، ورَوَى عن جماعة آخرين لم يُدركهم، وكان صادقًا، متأولًّا في ذلك، فيقول: حدثنا، وخطبنا، ويعني قومه الذين حُدثّوا، وخُطبوا بالبصرة، فأما من سمع منهم، فهم: أنس بن مالك، ومعقل بن يسار، وعبد الله بن مغفل، وعائذ بن عمرو، وأبو برزة، وعبد الرحمن بن سمرة، وعمران بن حُصين، وأبو بكرة، وسمع من سوّار بن عمرو، وعمرو بن تَغلب، وسعد مولى أبي بكرة، وروى عن عثمان بن أبي العاص، وسمع منه. وروى عن محمد بن مسلمة، ولا أُبعد سماعه منه.

وأما قوله: خطبنا ابن عباس بالبصرة، فقد أُنكر عليه؛ لأن ابن عباس كان بالبصرة أيام الجَمَل، وقدم الحسن أيام صفّين، فلم يدركه بالبصرة، وتأوّل قوله. خطبنا، أي: خطب أهل البصرة، وكذلك قال. حدّثنا الأسود بن سَريع، والأسود قدم يوم الجمل، فلم يره، ولكن معناه حدّث أهل البصرة.

وقال علي بن زيد عن الحسن: إن سراقة بن مالك حدّثهم، وإنما حدّث من حدّثه، ولذلك لم يقل: حدثني.

وروى عن أبي موسى الأشعريّ، وأبو موسى إنما كان بالبصرة أيام عمر، فلا أحسبه سمع منه.

وقد رأى جماعة جلّةً، منهم. عثمان بن عفّان

(1)

.

وقد حدَّثَ عن أُسيد بن المُشَمِّس، عن أبي موسى، وعن قيس بن عُبَاد، وحدّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ولا أعلمه سمع من واحد منهما.

وحدث عن جندب بن عبد الله البجلي بأحاديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبأحاديث رواها عن جندب، عن حذيفة.

وحدّث عن النعمان بن بشير، ولا أحسبه سمع منه؛ لأنه النعمان لا نعلمه دخل البصرة، وإنما كان بالكوفة، وقد رأيته يُحدّث عن رجل، عنه.

وحدّث عن عقبة بن عامر بشكّ، فقال: عن سمرة، أو عُقبة، وقال يونس، عن الحسن، عن عُقبة، من غير شك، ولا أحسبه سمع منه.

وحدّث عن عبادة بن الصامت، ولم يسمع منه، وبينهما حطّان بن عبد الله.

(1)

ومنهم علي، والزبير. كما في "التاريخ الصغير" للبخاري ص 198.

ص: 133

وحدث عن سلمة بن المحبّق، ولم يسمع منه، وبينهما حول بن قتادة، وقبيصة.

وحدث عن صعصعة بن معاوية، وحدث عن عتبة بن غَزْوان، ولم يسمع منه؛ لأنه إنما دخل البصرة أيام عمر، بعثه أميرًا عليها، ثم انصرف، ومات، ولم يسمع منه، وعتبة إنما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا.

وروى عن علي بن أبي طالب غير حديث، ولم يسمع منه، وبينهما قيس بن عُبَاد، وابن الكواء.

وروى عن أنس مراسيل، ولا يثبت له منها إلا ما كان فيه بينهما رجل، كأبي سفيان، ويزيد الرقاشي، وغيرهما.

وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أحاديث، ولم يسمع منه

(1)

. وروى عن ثوبان حديثاً واحدًا، ولم يسمع منه. وروى عن أُسامة بن زيد حديثين، ولم يسمعهما منه. وروى عن جابر ابن عبد الله أحاديث، ولم يسمع منه وروى عن العباس بن عبد المطّلب، ولم يسمع منه، وبينهما الأحنف بن قيس، ولم يثبت له سماع من أحد من أهل بدر، ولا حديثًا واحدًا، وذكر الحسن أنه رأى طلحة، والزبير في بعض بساتين المدينة انتهى كلام البزار ملخصًا محررًا.

وروى الترمذي في كتابه في أبواب صفة جهنّم حديثًا عن الحسن، عن عُتْبَةَ بن غَزْوان، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أن الصخرة العظيمة لتُلقَى من شفير جهنّم، فتهوي فيها سبعين عامًا ما تفضي إلى قرارها". ثم قال: لا نعرف للحسن سماعًا من عُتبة بن غَزوان، وإنما قدم عُتبة البصرة زمن عمر، وولد الحسن لسنتين لقيتا من خلافة عمر انتهى.

وقال في غير موضع من كتابه: قال أيوب السختياني، ويونس بن عُبيد، وعلي بن زيد: الحسن لم يسمع من أبي هُريرة انتهى. انتهى ما ذكره الحافظ الزيلعي رحمه الله

(1)

قال ابن سعد في "طبقاته" جـ 7 ص 115: أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هلال محمد ابن سُليم، قال: سمعت الحسن يقول: كان نبي الله موسى عليه السلام لا يغتسل إلا مستترًا"، قال: فقال عبد الله بن بُريدة: يا أبا سعيد ممن سمعت هذا؟ قال: سمعته من أبي هريرة رضي الله عنه.

أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا ربيعة بن كُلثوم، قال: سمعت الحسن، قال: حدثنا أبو هريرة، قال: "عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا

" الحديث.

أخبرنا عفّان بن مسلم، حدثنا وُهيب، عن أيوب، وحماد، عن علي بن زيد بن جُدعان، وغير واحد، عن شعبة، عن يونس، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه انتهى.

ص: 134

تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌10 - (فَضْلِ غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)

1381 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، وَهَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ غَسَّلَ، وَاغْتَسَلَ، وَغَدَا، وَابْتَكَرَ، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ، وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ، صِيَامُهَا، وَقِيَامُهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن منصور) النسائي، ثقة ثبتما [11] تقدم 108/ 147.

2 -

(هارون بن محمد بن بَكّار) بن بلال العامليّ الدمشقيّ، صدوق [11] تقدّم 128/ 1091.

3 -

(أبو مُسهر) عبد الأعلى بن مُسهر الغسّاني الدمشقي، ثقة فاضل، من كبار [10] تقدّم 5/ 460.

4 -

(سعيد بن عبد العزيز) التَّنُوخي الدمشقيّ، ثقة إمام، اختلط في آخره [7] تقدم 5/ 460.

5 -

(يحيى بن الحارث) الذِّمَاري -بكسر المعجية، وتخفيف الميم- الغَسّاني، أبو عمرو، ويقال: أبو عُمر الشامي القارىء، ثقة [5].

روى عن واثلة بن الأسقع، وسعيد بن المسيب، وأبي الأشعث الصنعاني، وغيرهم. وعنه ابنه عمر، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان عالمًا بالقراءة في دهره، يُقرأ عليه القرآن، وكان قليل الحديث. وذكره أبو زرعة الدمشقيّ في "تسمية الأصاغر من أصحاب واثلة". وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، ليس به بأس. وقال عثمان الدارميّ، عن دُحيم: ثقة.

(1)

"نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" جـ 1 ص 88 - 19.

قال الجامع: لكن بعض ما ذُكر محلّ توقف، مئل دعوى عدم روايته عن أبي هريرة رضي الله عنه، وابن عباس، ونحوهما، وسيأتي مزيد بسط في البحث في "باب ما جاء في الخلع" إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

ص: 135

وقال يعقوب بن سُفيان: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ثقة، كان عالمًا بالقراءة، وقال في موضع آخر: صالح الحديث. وقال الآجرّيّ عن أبي داود: ثقة، وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: مات سنة (145) وهو ابن (70) سنة. وفيها أرّخه غير واحد. روى له الأربعة. وله في هذا الكتاب حديثان: هذا وأعاده برقم 1398 وحديث 2254.

6 -

(أبو الأشعث الصنعاني) شَرَاحيل بن آدة، وقيل: غيره، ثقة [2] تقدم 5/ 1374.

7 -

(أوس بن أوس) الثقفي الصحابي، سكن دمشق، تقدم 5/ 1374. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله ثقات، وأنه مسلسل بالشاميين، وفيه رواية تابعي عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَوْس بْنِ أَوْس) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ غَسَّلَ، وَاغْتَسَلَ) قال النووي رحمه الله في "شَرح المهذّب": رُوي "غَسَل" بتخفيف السين وتشديدها، روايتان مشهورتان، والأرجح عند المحققين بالتخفيف، فعلى رواية التشديد في معناه ثلاثة أوجه: أحدهما: غَسَّل زوجته بأن جامعها، فألجأها إلى الغسل، واغتسل هو، قالوا: ويستحب له الجماع في هذا اليوم ليأمن أن يَرَى في طريقه ما يَشغَلُ قلبه. والثاني: أن المراد غَسَّلَ أعضَاءَهُ في الوضوء ثالثًا ثلاثًا، ثم اغتسل للجمعة. والثالث: غَسَّل ثيابه ورأسه، ثم اغتسل للجمعة.

وعلى رواية التخفيف في معناه هذه الأوجه الثالثة: أحدها: الجماع، قاله الأزهري، قال: ويقال: غَسَل امرأته: إذا جامعها. والثاني: غَسَلَ رأسه وثيابه. والثالث: توضأ.

وذكر بعض الفقهاء "غَسَّلَ" بالعين المهملة، وتشديد السين: أي جامع شبّه لذة الجماع بالعسل، وهذا غلط، غير معروف في روايات الحديث، وإنما هو تصحيف.

والمختار ما اختاره البيهقي وغيره من المحققين أنه بالتخفيف، وأن معناه غسل رأسه، وتؤيده رواية لأبي داود في هذا الحديث: "من غسل رأسه يوم الجمعة، واغتسل

". ورَوَى أبو داود في "سننه" والبيهقي هذا التفسير عن مكحول، وسعيد ابن عبد العزيز قال البيهقي: وهو بَيِّنٌ في رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما أفرد الرأس بالذكر لأنهم كانوا يجعلون فيه الدهن والخِطْمِيَّ، ونحوهما،

ص: 136

وكما يغسلونه أوّلًا، ثم يغتسلون انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال العراقي رحمه الله: ويحتمل أن المراد غسل ثيابه، واغتسل في جسده. وقيل: هما بمعنى واحد، وكُرّر للتأكيد

(2)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: وغَسَلَ الرجلُ المرأةَ يغسلها غَسْلًا: أكثر نكاحها، وقيل: هو نكاحه إياها أكثرَ أو أقلَّ، والعين المهملة فيه لغة

(3)

، ورجلٌ غُسَلٌ: كثير الضِّرَاب لامرأته، قال الْهُذَلي:

وَقْعُ الْوَبِيلِ نَحَاهُ الأَهْوَجُ الْغُسَلُ

وقال القُتَيْبيُّ: أكثر الناس يذهبون إلى أن معنى "غَسَّلَ" -يعني في هذا الحديث-: أي جامع أهله قبل خروجه إلى الصلاة، لأن ذلك يجمع غَضَّ الطرْف في الطريق؛ لأنه لا يُؤمَن عليه أن يرى في طريقه ما يَشغَل قلبه، قال. ويذهب آخرون إلى أن معنى قوله:"غَسَّلَ" توضأ للصلاة، فغسل جوارح الوضوء، وثُقِّل لأنه أراد غَسلًا بعد غَسْل؛ لأنه إذا أسبغ الوضوء غَسَلَ كلَّ عضو ثلاث مرّات، ثم اغتسل بعد ذلك غسل الجُمُعة.

وقال الأزهريّ: ورواه بعضهم مُخفَّفًا، وكأنه الصواب، من قولك: غَسَلَ الرجلُ امرأتَهُ، وغَسَّلَها: إذا جامعها، ومثله فَحْلٌ غُسَلَةٌ: إذا أكثر طَرْقَها، وهي لا تحمل.

وقال ابن الأثير: يقال: غَسَّلَ الرجلُ امرأته، بالتشديد والتخفيف: إذا جامعها. وقيل: أراد غَسَّلَ غيره، واغتسل هو؛ لأنه إذا جامع زوجته أحوجها إلى الغسل انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأقرب، كما تقدّم في كلام النووي أن المراد بـ"غسّل" غسلُ رأسه، وبـ"اغتسل" غسلُ سائر جسده؛ لأنه يؤيده ما في رواية لأحمد، وأبي داود لهذا الحديث: "من غسل رأسه يوم الجمعة، واغتسل

" الحديث.

ويؤيده أيضًا ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن طاوس، قال: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم، وإن لم تكونوا جنبًا

" الحديث.

ويؤيده أيضًا ما أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "إذا كان يوم الجمعة، فاغتسل الرجل، وغسل رأسه

" الحديث.

(1)

"المجموع" 4/ 416.

(2)

"زهر الربى" 3/ 95.

(3)

لكن لا يثبت من حيث الرواية كما تقدم في كلام النووي رحمه الله.

(4)

"لسان العرب" 5/ 3257.

ص: 137

قال المنذريّ: في هذا الحديث دليل لمن فسّر قوله: "غسل" بغسل الرأس انتهى. والله تعالى أعلم.

(وَغَدَا) أي خرج إلى الجمعة أوّل النهار (وَابْتَكَرَ) أي أدرك أول الخطبة. ولفظ أبي داود: "وبكر" بدل "غدا"، وهو بالتشديد على المشهور، أي بادر إلى صلاة الجمعة، أو إلى الجامع، أو راح في الساعة الأولى، وكلّ من أسرع إلى الشيء، فقد بكّر إليه.

وقيل: معنى "بكر"، و"ابتكر" وأحد كرّره للمبالغة، وليس المخالفة بين اللفظين لاختلاف المعنيين، وبه جزم ابن العربيّ. وقيل:"بكر" بمعنى أتى الصلاة في أول وقتها، وكلّ من أسرع إلى الشيء فقد بكر إليه، و"ابتكر" أي أدرك أول الخطب، وأولُ كل شيء باكورته، وابتكر الرجل: إذا أكل باكورة الفاكهة. وقيل: "بكر" بمعنى تصدّق قبل خروجه. قاله ابن الأنباري، وتأول في ذلك ما روي في الحديث:"باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها". وهو حديث ضعيف جدًا، أخرجه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي عن أنس رضي الله عنه.

والراجح -كما قال العراقي- أن "بكر" بمعنى راح في أول الوقت، و"ابتكر" بمعنى أدرك أول الخطبة

(1)

.

زاد في الرواية الآتية من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث:"ومشى، ولم يركب". قيل: هما بمعنى، وجمع بينهما تأكيدًا، ودفعًا لما يتوهّم من حمل المشى على مجرد الذهاب، ولو راكبًا، أو حمله على تحقق المشي، ولو في بعض الطريق.

(وَدَنَا منَ الإمَام) أي قرب منه. زاد في الرواية الآتية: "وأنصت" أي استمع. وفيه أنه لابد من اجتماع الأمرين جميعًا، فلو استمع، وهو بعيد، أو قرب، ولم يستمع لم يحصل له هذا الأجر. والله تعالى أعلم.

(وَلَمْ يَلْغُ) بضم الغين المعجمة، يقال: لغا يلغو، من باب نصر: أي لم يتكلّم، فإن الكلام حال الخطبة لغو. قاله النووي. أو استمع الخطبة، ولم يشتغل بغيرها. قاله الأزهري.

(كَانَ لَهُ بكُلِّ خُطْوَة) بضم المعجمة: بُعد ما بين الرجلين في المشي، وجمعه خُطَى، وخُطوات، كغُرَف، وغُرفات، بضم الراء في الأول، وضمها، وفتحها في الثاني، وبفتح الخاء: المرّة، وجمعها خَطَوَات، كشَهَوَات.

(1)

"المرعاة" 4/ 472.

ص: 138

ثم يحتمل أن المراد الخطوة في الذهاب إلى الجمعة، ويحتمل أن يكون في الذهاب والإياب، والظاهر الأوّل. والله تعالى أعلم.

(عَمَلُ سَنَة) اسم "كان" مؤخر، وخبرها الجارّ والمجرور الأول، أي ثواب أعمال السنة (صيَامُهَا، وَقيَامُهَا") بالرفع بدل من "عمل سنة"، ولفظ الرواية الآتية من طريق عمر بن عبد الواحد، عن يحيى بن الحارث:"كان له بكل خطوة كأجر سنةٍ، صيامِها وقيامِها"، وعند أبي داود، وابن ماجه:"كان له بكلّ خطوة عمل سنة، أجرُ صيامها وقيامها".

وقد ورد في المشي إلى مطلق الصلاة رفع درجة في كلّ خطوة، وكتابة حسنة، ومحو سيئة. وقد تقدم ذلك في باب الفضل في إتيان المسجد" 14/ 705.

أما ثبوت أجر عمل سنة -كما في هذا الحديث- فمن خصائص الجمعة.

قال السندي رحمه الله في "شرح سنن ابن ماجه": والظاهر أن المراد أنه يحصل له أجر من استوعب السنة بالصيام والقيام لو كان، ولا يَتوقف ذلك على أن يتحقق الاستيعاب من أحد.

ثم الظاهر أن المراد في هذا وأمثاله ثبوت أصل أجر الأعمال، لا مع المضاعفات المعلومة بالنصوص، ويحتمل أن يكون مع المضاعفات انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الظاهر، فلا ينبغي العدول عنه إلا بحجة، والله ذو الفضل العظيم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أوس بن أوس رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -10/ 1381 - وفي "الكبرى" -9/ 1685 - عن عمرو بن منصور، وهارون بن محمد بن بَكّار، كلاهما عن أبي مُسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يحيى ابن الحارث، عن أبي الأشعث الصنعاني، عنه. وفي 12/ 1384 - و"الكبرى" -12/ 1691 - عن عمرو بن عثمان بن سعيد، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر، عن أبي الأشعث عنه. وفي -19/ 1398 - و"الكبرى" -1/ 17079 - عن

(1)

"شرح سنن ابن ماجه" 2/ 11 تحقيق مأمون شيحا.

ص: 139

محمود بن خالد، عن عمر بن عبد الواحد، عن يحيى بن الحارث به. وفي "الكبرى" 19/ 1708 - عن عبد الرحمن بن محمد، عن عمرو بن محمد، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن عيسى، عن يحيى به. وفيه عن موسى أراد عبد الرحمن، عن حسين بن علي، عن عبد الرحمن بن يزيد به.

وأخرجه (د) 345 و346 (ت) 496 (ق) 1087 (أحمد) 4/ 9 و4/ 10 و4/ 104 (الدارمي) 1555 (ابن خزيمة) 1758 و767. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف، وهو بيان فضل غسل يوم الجمعة.

ومنها: فضل المبادرة لصلاة الجمعة.

ومنها: استحباب الدنوّ من الإِمام، والاستماع لخطبته.

ومنها: عدم الكلام في استماع الخطبة، وعدم الاشتغال بما ينافي الاستماع.

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يُعطي من الثواب على بعض الأعمال مع سهولتها ما لا يعطيه على كثير من الأعمال الشاقّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌11 - (باب الْهَيْئَةِ لِلْجُمُعَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالين على حسن الهيأة لأجل حضور صلاة الجمعة

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الهيئات": جمع هيئة -بالفتح، أو بالكسر، ثم السكون-: حال الشيء، وكيفيته، ورجلٌ هَيِّءٌ: حسن الهيئة. قاله في "اللسان".

وفي "المصباح": "الهَيْئَةُ: الحالة الظاهرة، يقال: هاء يَهُوءُ، ويَهِيءُ، هَيْئَةً حَسَنَةً: إذا صار إليها. انتهى.

والمراد بها هنا الحالة الحسنة، من النظافة، وحسن الملبس، وطيب الرائحة، ونحوها، فالكلام على حذف مضاف. والله تعالى أعلم بالصواب.

1382 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ، فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ،

ص: 140

وَلِلْوَفْدِ، إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ". ثُمَّ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهَا، فَأَعْطَى عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا"، فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّةَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة، وتقدموا قبل ثلاثة أبواب، وهو (83) من رباعيات الكتاب. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب) رضي الله تعالى عنهما (رَأَى) هكذا رواه أكثر أصحاب نافع، وأخرجه المصنف من رواية عُبيد الله بن عمر العُمريّ، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، أنه "رأى حلة" فجعله من مسند عمر، قال الدارقطني: المحفوظ أنه من مسند ابن عمر انتهى.

(حُلَّة) -بضم المهملة- قال أبو عُبيد: الْحُلَل: برود اليمن والحُلَّة إزار ورداء، ونقله ابن الأثير، وزاد: إذا كان من جنس واحد. وقال ابن سيده: في "المحكم": الحلّة بُرْدٌ أو غيره، وحكى عياض أن أصل تسمية الثوبين حُلّة أنهما يكونان جديدين كما حُلَّ طيُّهما. وقيل: لا يكون الثوبان حُلّةً حتى يَلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حلَّ عليه، والأوّل أشهر.

وفي الرواية الآتية من طريق سالم، عن أبيه -5/ 1560 - : "قال: وجد عمر بق الخطاب رضي الله تعالى عنه حُلّة من إستبرق، تباع بالسوق

"، والإستبرق: ما غلظ من الحرير.

وفي رواية الشيخين: "رأى حُلّة سيراء"، والسيراء -بكسر المهملة، وفتح التحتانية، والراء، مع المدّ- قال الخليل: ليس في كلام العرب فِعَلاءُ -بكسر أوله، مع المدَّ- سوى سِيَراء، وحِوَلاء، وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد، وعِنَباء، لغة في العنب.

قال مالك: هو الوَشْيُ من الحرير، كذا قال. والوَشْيُ -بفتح الواو، وسكون المعجمة، بعدها تحتانية. وقال الأصمعيّ: ثياب، فيها خطوط من حرير، أو قَزّ، وإنما قيل لها: سيراء لتسيير الخطوط فيها. وقال الخليل: ثوب مُضَلَّع بالحرير، وقيل: مختلف الألوان، فيه خطوط ممتدة، كأنها السيور. وقال ابن سيده: هو ضرب من البرود. وقيل: ثوب مسير فيه خطوط يُعمل من القَزّ، وقيل: ثياب من اليمن. وقال

ص: 141

الجوهريّ: بُرْد فيه خطوط صُفْر. ونقل عياض عن سيبويه، قال: لم يأت فِعَلاء صفةً، لكن اسمًا، وهو الحرير الصافي.

واختلف في قوله: "حلة سيراء"، هل هو بالإضافة، أو، فوقع عند الأكثر بتنوين "حلّة"، على أنّ "سيراء" عطف بيان، أو نعت، وجزم القرطبيّ بأنه الرواية. وقال الخطابيّ: قالوا: "حلّةٌ سيراءُ"، كما قالوا:"ناقةٌ عُشَراءُ"، ونقل عياض عن أبي مروان ابن السرّاج أنه بالإضافة، قال عياض: وكذا ضبطناه عن متقني شيوخنا، وقال النووي. إنه قول المحققين، ومتقني العربية، وإنه من إضافة الشيء لصفته، كما قالوا: ثوب خزّ انتهى

(1)

.

وزاد في رواية "الكبرى": "عند باب المسجد"، وفي رواية له في "كتاب الزينة" من طريق ابن إسحاق، عن نافع:"أن عمر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فرأى حلّة سيراء تباع في السوق".

قال الحافظ: ولا تنافي بين الروايتين، لأن طرف السوق كان يصل إلى قرب باب المسجد انتهى.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ)"لو" للتنمي، أو للعرض، فلا تحتاج إلى جواب، ويحتمل أن تكون شرطية، حذف جوابها، أي لكان خيرًا.

وفي رواية سالم، عن ابن عمر:"ابتع هذه، فتجمّل بها"، وكأن عمر أشار بشرائها، وتمنّاه.

(فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ) هذا محل الترجمة، حيث إنه يفيد استحباب التجمل، وحسن الهيحة للجمعة، ووجه ذلك أن عمر رضي الله عنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بالتجمل للجمعة، فلم يُنكر عليه، وإنما أنكر التجمل بالحرير، فدلّ على أن التجمل بما يحلّ لبسه من أنواع الحُلَل مستحب.

وقال السندي رحمه الله: وفي قول عمر رضي الله عنه دلالة على أن التجمل يوم الجمعة كان مشهورًا بينهم، مطلوبًا، كالتجمّل للوفود، وقد قرّره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وإنما رده من حيث إن الحرير لا يليق به انتهى

(2)

.

(وَلِلْوَفْدِ) قيل: الوفد الرُّكبان المكرمون، يقال: وَقَدَ فلان يَفِدُ، وِفَادةً: إذا خرج إلى ملك، أو أمير. والوَفْدُ اسم جمع، وقيل: جمعٌ، وأما الوفود، فجمع وافد. أفاده في "اللسان".

(1)

"فتح" 11/ 478 - 479 "كتاب اللباس".

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 96.

ص: 142

وفي رواية سالم، عن أبيه الآتية -5/ 1560 - "فتجمل بها للعيد والوفد".

وفي رواية ابن إسحاق المذكورة: "فتجمّل بها لوفود العرب، إذا أتوك، وإذا خطبت الناس في يوم عيد وغيره

".

قال في "الفتح": وكأنه خصّه بالعرب؛ لأنهم كانوا إذ ذاك الوفودَ في الغالب؛ لأن مكة لمّا فُتحت بادر العرب بإسلامهم، فكانت كل قبيلة تُرسل كُبراءها ليسلموا، ويتعلّموا، ويرجعوا إلى قومهم، فيدعوهم إلى الإِسلام، ويعلّموهم انتهى

(1)

.

(إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ) -بفتح القاف، وكسر الدّال-، يقال: قدم من سفره، كعلم، قُدُومًا، وقِدْمانًا -بالكسر-: رجع، فهو قادم. أفاده في "ق". وفي رواية ابن إسحاق:"إذا أتوك".

(قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ) وفي رواية جرير بن حازم عند البخاريّ: "إنما يلبس الحرير"(مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ)"الخلاق" -بفتح المعجمة، وتخفيف اللام-: النصيب، وقيل: الحظّ، وهو المراد هنا، ويُطلق على الحرمة، وعلى الدين، ويحتمل أن يُراد مَنْ لا نصيب له في الآخرة، أي مِنْ لبس الحرير. قاله الطيبيّ.

ويؤيده ما أخرجه الشيخان من حديث أبي عثمان، عن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُلبَسُ الحريرُ في الدنيا إلا لم يُلبَس منه شيء في الآخرة"، وفي رواية لمسلم:"لا يَلْبَسُ الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة".

(ثُمَّ جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهَا) بنصب "رسول" على أنه مفعول مقدّم، و"مثلها" فاعل مؤخر، ولفظ "الكبرى":"ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حُلَلٌ"، وفي رواية سالم، عن أبيه: "ثم أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث حُلَل منها، فكسا عمرَ حُلّةً، وكسا عليّا حلّةً، وكسا أُسامةَ حُلّةً

".

(فَأَعْطَى عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً) وفي رواية للبخاريّ: "وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد ذلك إلى عمر حلة سيراء"، وزاد الإسماعيلي:"بحلة سيراء من حرير"، و"من" بيانية، وهو يقتضي أن السيراء قد تكون من غير حرير. قاله في "الفتح".

(فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتَنِيهَا) إنما قال ذلك باعتبار ما فهمه، وإلّا فقد ظهر في بقية الحديث أنه لم يعطه ليلبسها، أو المراد: أعطيتني ما يصلح كسوة.

(وَقَدْ قُلْتَ فِى حُلَّةِ عُطَارِدٍ) هو عطارد بن حاجب بن زُرَارة بن عُدُس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حَنظلة بن زيد مناة بن تميم التميميّ، أبو عكرمة، وَفَدَ على

(1)

"فتح" 11/ 480.

ص: 143

النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمله على صدقات بني تميم.

روى الطبراني من طريق محمد بن زياد الْجُمَحيّ، عن عبد الرحمن بن عمرو بن مُعاذ، عن عُطارد بن حاجب، أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج، كساه إياه كسرى، فدخل أصحابه، فقالوا: نزل عليك من السماء؟! فقال: "وما تَعجَبون من ذا؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنّة خير من هذا".

وقال أبو عبيدة: وكان حاجب بن زُرَارة، يقال له: ذو القوس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على مضر بالقحط، فأقحطوا، ارتحل حاجب إلى كسرى، فسأله أن يأذن له أن ينزل حَوْلَ بلاده، فقال: إنكم أهل غَدْر، فقال: أنا ضامن، فقال: ومن لي بأن تَفيَ؟ قال: أرهنك قوسي، فأذن لهم في دخول الرِّيف، فلما استسقت مضر بالنبي صلى الله عليه وسلم دعا الله، فرفع عنهم القحط، وكان حاجب مات، فرحل عُطارد بن الحاجب إلى كسرى، يطلب قوس أبيه، فردّها عليه، وكساه حُلّةً.

وروى الواقديّ في "المغازي" بأسانيده: أن رسول الله بعث بشر بن سفيان العدويّ على صدقات خُزَاعة، فجمعوا له، فمنعهم بنو تميم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عُيينة بن حصن في خمسين فارسًا، فأغار، وسَبَى منهم أحدَ عشر رجلًا، وإحدى عشرة امرأةً، وثلاثين صبيًا، فوفد بعد ذلك رؤساء بني تميم، منهم عُطارد بن حاجب، فذكر القصة، وأنهم أسلموا، وأجارهم، وارتدّ عُطارد بن حاجحا بعد النبي صلى الله عليه وسلم مع من ارتدّ من بني تميم، وتبع سَجَاحِ، ثم عاد إلى الإِسلام، وهو الذي قال فيها:[من البسيط]

أَضْحَتْ نبيَّتُنَا أُنْثَى نُطِيفُ بِهَا

وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاس ذُكْرَانَا

فَلَعنَةُ اللهِ رَبِّ النَّاسِ كُلِّهِمِ

عَلى سَجَاحِ وَمَنْ بالكُفْرِ أَغْوَانَا

(1)

(مَا قُلْتَ)"ما" اسم موصول في محلّ نصب على أنه مفعول مطلق، أي قلت القول الذي قلته في حُلة عطارد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة".

(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا) أي لم أعطك إياها لأجل أن تلبسها، زاد في الرواية الآتية: 83/ 5295 - من طريق عبيد الله، عن نافع:"إنما كسوتكها لتكسوها، أو لتبيعها"، وفي 85/ 5299 - من طريق حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم:"بعها، واقض بها حاجتك، أو شُقّ خُمُرًا بين نسائك".

(فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ) زاد في رواية سالم المذكورة: "من أمه"(مُشْرِكا بِمَكَّةَ) وفي رواية البخاري من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: "فأرسل بها عمر إلى أخ له،

(1)

"الإصابة" جـ 7 ص 11 - 12.

ص: 144

من أهل مكّة قبل أن يُسلم". قال النوويّ: هذا يُشعر بأنه أسلم بعد ذلك.

قال الحافظ: ولم أقف على تسمية هذا الأخ إلا فيما ذكره ابن بشكوال في "المبهمات" نقلًا عن ابن الحذّاء في رجال "الموطإ"، فقال: اسمه عُثمان بن حكيم. قال الدمياطيّ: هو السلميّ أخو خولة بنت حكيم بن أميّة بن حارثة بن الأوقص، قال: وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه، فمن أطلق عليه أنه أخو عمر لأمه لم يُصب.

قال الحافظ: قلت: بل له وجه بطريق المجاز. ويحتمل أن يكون عمر ارتضع من أم أخيه زيد، فيكون عثمان أخا عمر لأمه من الرضاع، وأخا زيد لأمه من النسب.

وأفاد ابن سعد أن والدة سعيد بن المسيب هي أم سعيد بن عثمان بن الحكم

(1)

، ولم أقف على ذكره في الصحابة، فإن كان أسلم، فقد فاتهم، فليُستَدرك، وإن كان مات كافرًا، وكان قوله:"قبل أن يسلم" لا مفهوم له، بل المراد أن البعث إليه كان في حال كفره، مع قطع النظر عما وراء ذلك، فلتُعدّ بنته في الصحابة انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -11/ 1382 - وفي "الكبرى" -10/ 1686 - عن قُتيبة، عن مالك، عن نافع، عنه. وفي 5/ 1560 - و"الكبرى" - 5/ 1760 - سليمان بن داود -زاد في "الكبرى"- أحمد بن عمرو بن السرح- كلاهما عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث، كلاهما عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه. وفي "كتاب الزينة" 83/ 5295 - و"الكبرى" 78/ 9570 - عن إسحاق بن منصور، عن عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله، عن نافع به. وفي 85/ 5399 - و"الكبرى" -78/ 9572 - عن إسحاق ابن إبراهيم، عن عبد الله بن الحارث المخزوميّ، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم به. وفي -86/ 5300 - و"الكبرى" -78/ 9573 - عن عمران موسى، عن عبد الوارث، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سالم به. وفي "الكبرى" -78/ 9571 - عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن محمد

(1)

هكذا نسخة "الفتح" جـ 11 ص 481 "ابن الحكم" ولعل الصواب "ابن حكيم"، فليحرر.

(2)

"فتح" 11/ 481 - 482.

ص: 145

ابن عبد الرحمن، عن نافع به. وفيه 78/ 9574 - عن عبيد الله بن فَضالة، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، به، وفيه 78/ 9575 - عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، عن الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنه.

وأخرجه (خ) 2/ 4 و2/ 20 و3/ 214 و3/ 83 و3/ 213 و4/ 85 و7/ 195 و8/ 27. (م) 6/ 137 و6/ 138 و6/ 139 و7/ 138. (د) 1076 و1077 و440 و4041. (ق) 3591. (مالك في الموطإ) 571 (الحميدي) 679 (أحمد) 2/ 20 و2/ 39 و2/ 40 و2/ 49 و2/ 82 و2/ 103 و2/ 114 و2/ 146. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله، وهو حسن الهيئة للجمعة، فيستحب التجمّل يوم الجمعة بالملابس الحسنة، لكونه صلى الله عليه وسلم أقرّ عمر على ذلك، وإنما أنكر عليه استعمال السيراء، وما في معناه، وفي سنن أبي داود، وابن ماجه، عن عبد الله بن سلَام رضي الله عنه، مرفوعًا:"ما على أحدكم، لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبي مِهْنَته"

(1)

وتقدم أن في رواية سالم، عن أبيه:"للعيد" بدل "للجمعة"، وفي رواية ابن إسحاق، عن نافع:"فتجملت بها لوفود العرب إذا أتوك، وإذا خطبت الناس في يوم عيد، وغيره".

فأخذ العلماء من هذا استحباب التجمل في سائر مجامع الخير، إلا ما ينبغي فيه إظهار التمسكن، والتواضع، والخوف، كالاستسقاء، والكسوف. أفاده ولي الدين رحمه الله تعالى

(2)

.

ومنها: عَرض المفضول على الفاضل، والتابع على المتبوع ما يَحتاج إليه من مصالحه مما يظنّ أنه لم يطّلع عليه.

ومنها: جواز البيع والشراء على أبواب المساجد.

ومنها: مباشرة الصالحين، والفُضلاء البيع والشراء.

ومنها: تحريم الحرير على الرجال مطلقا، وفيه تفاصيل للعلماء، سيأتي الكلام عليه في محلّه من "كتاب الزينة"، إن شاء الله تعالى.

ومنها: جوازه للنساء، لقول صلى الله عليه وسلم:"أو شقّقها خُمُرًا بين نسائك".

ومنها: جواز بيع الرجال الثياب الحرير، وتصرّفهم فيها بالهبة والهديّة، لا اللبس.

ومنها: جواز صلة الكافر القريب، والإحسان إليه بالهدية.

(1)

حديث صحيح أخرجه أبو داود برقم 1078 وابن ماجه برقم 1095.

(2)

"طرح التثريب" 3/ 226.

ص: 146

وقال ابن عبد البرّ: فيه جواز الهديّة للكافر، ولو كان حربيا.

وتُعُقّب بأن عُطاردًا إنما وفد سنة تسع، ولم يبق بمكة بعد الفتح مشرك.

وأجيب بأنه لا يلزم من كون وفادة: عطارد ستة تسع أن تكون قصة الحلّة كانت حينئذ، بل جاز أن تكون قبل ذلك، وما زال المشركون يقدمون المدينة، ويُعاملون المسلمين بالبيع وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك سنة الوفود، فيحتمل أن يكون في المدّة التي كانت بين الفتح، وحج أبي بكر رضي الله عنه، فإن منع المشركين من مكة إنما كان من حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع، ففيها وقع النهي أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

ومنه: أنه استدلّ به من قال: إن الكافر ليس مخاطبًا الفروع، لأن عمر رضي الله عنه لما مُنع من لبس الحلة أهداها لأخيه المشرك، ولم يُنكر عليه.

وتُعُقّب بأنه لم يأمر أخاه بلبسها، فيحتمل أن يكون وقع الحكم في حقّه كما وقع في حق عمر رضي الله عنه، فينتفع بها بالبيع، أو كسوة النساء، ولا يلبس هو.

وأجيب بأن المسلم عنده من الوازع الشرعي ما يحمله بعد العلم بالنهي على الكفّ، بخلاف الكافر، فإن كفره يحمله على عدم الكف عن تعاطي المحرّم، فلولا أنه مباح له لبسه لما أهدى له، لما في تمكينه من الإعانة على المعصية، ومن ثَمَّ يَحرم بيع العصير ممن جرت عادته أن يتخذه خمرًا، وإن احتمل أنه قد يشربه عصيرًا، وكذا بيع الغلام الجميل ممن يشتهر بالمعصية، لكن يحتمل أن يكون ذلك على أصل الإباحة، وتكون مشروعيّة خطاب الكافر بالفروع تراخت عن هذه الواقعة. والله أعلم. ذكره في "الفتح"

(1)

والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1383 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَوَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ، أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكَ، وَأَنْ يَمَسَّ مِنَ الطِّيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(هارون بن عبد الله) أبو موسى الْحَمّال البغدادي، ثقة [10] تقدم 50/ 62.

2 -

(الحسن بن سَوّار) البغوي، أبو العلاء المروزي، صدوق [9] تقدم 163/ 1132.

3 -

(الليث) بن سعد الإِمام الحجة المجتهد المصري [7] تقدم 31/ 35.

(1)

"فتح" 11/ 483 - 484.

ص: 147

4 -

(خالد) بن يزيد السكسكي، أبو عبد الرحيم المصريّ، ثقة فقيه [6] تقدم 41/ 686.

والباقون تقدموأ قبل أربعة أبواب -6/ 1375 - وسعيد هو ابن أبي هلال.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله بالرقم المذكور آنفًا، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

واستدلال المصنف رحمه الله تعالى به لما ترجم له واضح، إذ فيه بيان مشروعية الغسل، والسواك، والطيب للجمعة، وهذه هي الهيئة المطلوبة لها، فينبغي لمن يحضر الجمعة أن يحسن هيئته بالغسل، واستعمال السواك، والطيب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌12 - (فَضْلِ الْمَشْي إِلَى الْجُمُعَةِ)

1384 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الأَشْعَثِ، حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَوْسَ بْنَ أَوْسٍ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَغَسَّلَ، وَغَدَا، وَابْتَكَرَ، وَمَشَى، وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ، وَأَنْصَتَ، وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير) الحمصي، صدوق [10] تقدم 21/ 535.

2 -

(الوليد) بن مسلم الدمشقي، ثقة كثير التدليس [8] تقدم 5/ 454.

3 -

(عبد الرحمن بن يزيد بن جابر) الدمشقي، ثقة [7] تقدم 45/ 595.

والباقيان تقدما قبل باب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وبيان مسائله قبل باب، واستدلال المصنف رحمه الله تعالى به على ما بوّب له واضح، إذ هو

(1)

وفي نسخة "أخبرني".

ص: 148

صريح في فضل المشي إلى الجمعة، لكن إذا كان على الأوصاف المذكورة فيه، بأن يغتسل، ويبكر، ويمشي، ولا يركب، ويدنو من الإِمام، وينصت، بلا لغو، فعلى هذا لابدّ من تقييد إطلاق الترجمة بهذه الأوصاف المذكورة في الحديث، فكأن المصنف أطلق اتكالًا على ما يُفهم من الحديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌13 - (باب التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ)

1385 -

(أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الأَغَرِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، قَعَدَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَكَتَبُوا مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ، طَوَتِ الْمَلَائِكَةُ الصُّحُفَ". قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُهَجِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي شَاةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَطَّةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

نصر بن بن عليّ بن نصر) بن علي الجَهْضَميّ البصريّ، ثقة ثبت، طُلب للقضاء، فامتنع [10] تقدّم 20/ 386.

2 -

(عبد الأعلى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصري، ثقة [8] تقدم 20/ 386.

3 -

(معمر) بن راشد اليمني، ثقة ثبت [7] تقدم 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإِمام الحجة المشهوو [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(الأغَرّ أبو عبد الله) سلمان الجُهنيّ مولاهم المدني أصبهاني الأصل، ثقة، من كبار [3] تقدّم 59/ 864.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال

ص: 149

الصحيح، وأنه مسلسل بالبصريين إلى الزهري، ومنه بالمدنيين، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ) يحتمل أن تكون "كان" ناقصة، وأسمها محذوف، و"يوم" خبرها، أي إذا كان الوقت يوم الجمعة، ويحتمل أن تكون تامّة، و"يوم" فاعلها، أي إذا جاء يومُ الجمعة.

(قَعَدَت) ولفظ البخاري: "وقفت"(الْمَلَائكَةُ) هم غير الحفظة، وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة خاصّة، فقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور، وأقلام من نور

" الحديث. قال الحافظ: وهو دالّ على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة انتهى.

والمعنى أنهم يستمرّون من طلوع الفجر، وهو أول اليوم الشرعيّ، أو من طلوع الشمس، وهو أول النهار العرفيّ، أو من ارتفاع النهار، أو من حين الزوال، قال القاري: وهو أقرب، ورجّحه الشاه وفي الدهلويّ في "المسوى شرح الموطإ" جـ 1 ص 150، وإليه مال الشوكاني، وبه قالت المالكية، وهو وجه للشافعية، والأول ظاهر كلام الشافعي، وصححه النوويّ، والرافعيّ، وغيرهما، والثاني أيضًا وجه للشافعية، واختار الثالثَ ابنُ رُشد في "بداية المجتهد"

(1)

، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(عَلَى أَبْوَاب الْمَسْجد) وفي الرواية التالية: "على كل باب من أبواب المسجد"، وفي رواية البخاريّ:"على باب المسجد"، وعند ابن خزيمة:"على كل باب من أبواب المسجد ملكان، يكتبان الأول، فالأول"، قال الحافظ: فكأن المراد بقوله: "على باب المسجد" جنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع، فلا حُجّة فيه لمن أجاز التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع.

(فَكَتَبُوا مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ) وفي الرواية التالية: "يكتبون الناس على منازلهم، الأول، فالأول"(فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ) أي من مكانه ليصعد المنبر، أو المراد الخروج ظهوره بصعوده المنبر، وجلوسه عليه. والله تعالى أعلم (طَوَتِ الْمَلَائِكَةُ الصُّحُفَ) أي التي كانوا يكتبون فيها درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، وتقدم في حديث

(1)

"بداية المجتهد" جـ 1 ص 165.

ص: 150

ابن عمر رضي الله عنهما صفة تلك الصحف، بأنها صحف من نور، وأقلام من نور.

والمراد من طيّ الصحف طيّ صحف الفضائل المتعلّقة بالمبادرة إلى الجمعة، دون غيرها من سماع الخطبة، وإدراك الصلاة، والذكر، والدعاء، والخشوع، ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعًا. ووقع في آخر الحديث عند ابن ماجه:"فمن جاء بعد ذلك، فإنما يجيء لحق الصلاة"، يعني فله أجر الصلاة، وليس له شيء من الزيادة في الأجر.

فإن قلت؟ وقع في رواية الشيخين: "فإذا جلس الإِمام، طووا الصحف

" فكيف التوفيق بين الروايتين؟

أجيب: بأنهم بخروج الإِمام يحضرون إلى المنبر من غير طيّ، فإذا جلس الإِمام على المنبر طووا الصحف، أو يقال: ابتداء طيهم الصحف عند ابتداء خروج الإِمام، وانتهاؤه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم الذكر. والله تعالى أعلم.

وفي الرواية التالية: "فإذا خرج الإِمام طُويت الصحفُ، واستمعوا الخطبة".

(قَالَ) أي أبو هريرة رضي الله عنه (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُهَجِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ) -بضم الميم، وتشديد الجيم- اسم فاعل، من التهجير، قيل: والمراد به والمبادرة إلى الجمعة بعد الصبح، وقيل: المراد الذي يأتي في الهاجرة، أي عند شدّة الحرّ، قُربَ نصف النهار، فيكون دليلًا للمالكية في قولهم: إن الساعات من حين الزوال، وإن الذهاب إلى الجمعة بعد الزوال، لا قبله؛ لأن التهجير هو السير في الهاجرة. أي نصف النهار.

قال الحافظ: وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير، كما تقدّم نقله عن الخليل في "المواقيت".

وقال القرطبيّ: الحقّ أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحَرّ، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حُجّة فيه لمالك.

وقال التوربشتيّ: مَنْ ذهب في معناه إلى التبكير، فإنه أصاب، وسلك طريقًا حسنًا من طريق الاتساع، وذلك أنه جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار، ويأخذ الحرّ في الازدياد من الهاجرة، تغليبًا، بخلاف ما بعد الزوال، فإن الحرّ يأخذ في الانحطاط، وهذا كما يُسمّى النصف الأول من النهار غَدْوةً، والآخر عَشيّةً.

وقال ابن منظور بعد أن أورد حديث الباب، وحديث "لو يَعلمُ الناسُ ما في التهجير لاستبقوا إليه": ما نصه: قال الأزهريّ: يذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث من الْمُهاجَرَة وقتَ الزوال، قال: وهو غلَطٌ، والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي، عن النضر بن شُمَيل، أنه قال: التهجير إلى الجمعة وغيرها التبكير والمبادرة إلى كلّ شيء، قال: وسمعت الخليل يقول ذلك، قاله في تفسير هذا

ص: 151

الحديث. قال الأزهري: وهذا صحيح، وهي لغة أهل الحجاز، ومن جاورهم من قيس، قال لبيد:

رَاحَ الْقَطِينُ بَهجْرٍ بَعْدَمَا ابْتَكَرُوا

فقرن الْهَجْر بالابتكار. والرواح عندهم: الذهاب والمضيّ، يقال راح القوم: أي خَفُّوا، ومَرُّوا، أيّ وقت كان، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لو يَعلمُ الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه"، أراد التبكير إلى الصلوات، وهو المضيّ إليها في أول أوقاتها. قال الأزهري: وسائر العرب يقولون: هَجَّرَ الرجلُ: إذا خرج بالهاجرة، وهي نصف النهار، ويقال: أتيته بالْهَجِير، وبالهَجْر.

وأنشد الأزهري عن ابن الأعرابي في "نوادره"، قول الشاعر:

يَهُجِّرُونَ بِهَجِيرِ الْفَجْرِ

قال الأزهري: أي يبكّرون بوقت الفجر انتهى ما ذكره ابن منظور باختصار

(1)

.

(كَالْمُهْدي) اسم فاعل من أهدى، يقال: أهديت للرجل كذا بالألف: بَعَثْتُ به إليه إكرامًا، فهو هديّة بالتثقيل، لا غير، وأهديت الهَدْيَ إلى الحرم: سُقْتُهُ

(2)

والجارّ والمجرور خبر "المهجّرُ"(بَدَنَةَ) بفتحتين، جمعها بَدَنات، مثل قصبة وقَصَبَات، وبُدُن أيضًا بضمتين، وتسكن داله تخفيفًا، وسيأتي قريبًا تحقيق معناها.

أي كالمتصدّق بها متقرّبًا إلى الله تعالى، وقيل: المراد أن للمبادر في أول ساعة نظيرُ ما لصاحب البدنة من الثواب، ممن شُرع له القربانُ؛ لأن القربان لم يُشرَع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت للأمم السالفة.

وفي رواية ابن جُريج: "فله من الأجر مثل الجزور"، وظاهره أن المراد أن الثواب لو تجسّد لكان قدر الجزور

(3)

.

وقيل: ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلًا، ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزّاق:"كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة".

قال الطيبيّ: في لفظ الإهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة، وأن المبادر إليها كمن

(1)

"لسان العرب" 6/ 4619.

(2)

"المصباحُ" جـ 2 ص 636.

(3)

اعترض بعض المحققين على هذا المعنى، فقال: ليس بشيء، والصواب أن معنى رواية ابن جريج موافق لمعنى بقية الروايات، وأن المراد بذلك بيان فضل المبادرة إلى الجمعة، وأنه بمنزلة من قرّب بدنة إلخ انتهى. من هامش "الفتح" جـ 3 ص 20 وهو تحقيق نفيس. والله أعلم.

ص: 152

ساق الهدي.

والمراد بالبدنة البعيرُ، ذكرًا كان أو أنثى، والتاء فيها للوحدة، لا للتأنيث، وكذا في باقي ما ذُكر.

وحكى ابن التين عن مالك أنه كان يتعجّب ممن يخصّ البدنة بالأنثى. وقال الأزهري في "شرح ألفاظ المختصر": البدنة لا تكون إلا من الإبل، وصحّ ذلك عن عطاء، وأما الهدي، فمن الإبل والبقر والغنم. هذا لفظه.

وحكى النوويّ عنه أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم، وكأنه خطأ نشأ عن سقط.

وفي "الصحاح": البدنة ناقة، أو بقرة تُنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يُسَمِّنُونها انتهى.

والمراد بالبدنة هنا الناقة بلا خلاف، واستدلّوا به على أن البدنة تختص بالإبل؛ لأنها قوبلت بالبقرة عند الإطلاق، وقسم الشيء لا يكون قسيمه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد. وقال إمام الحرمين: البدنة من الإبل، ثم الشرع قد يقيم مقامها البقرة، وسَبْعًا من الغنم،

وتظهر ثمرة هذا فيما إذا قال: لله علي بدنة، وفيه خلاف، والأصحّ تَعَيُّن الإبل، إن وُجدت، وإلا فالبقرة، أو سَبْع من الغنم. وقيل: تتعين الإبل مطلقًا. وقيل: يتخير مطلقًا

(1)

.

وقال الحافظ ولي الدين رحمه الله: ذكر في "الصحاح" و"المحكم" أن البدنة من الإبل والبقر ما أُهدي إلى مكة، وكذا قال في "النهاية": إنها تطلق عليهما، قال: وهي بالإبل أشبه. وذكر القاضي عياض أنها تختص بالإبل. وقال النووي: قال جمهور أهل اللغة، وجماعة من الفقهاء: تقع على الواحدة من الإبل والبقر والغنم، وخصها جماعة بالإبل، والمراد هنا الإبل بالاتفاق، لتصريح الحديث بذلك انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: والبَدَنَةُ قالوا: هي ناقة، أو بقرة، وزاد الأزهريّ: أو بعير ذكر، قال: ولا تقع البدنة على الشاة، وقال بعض الأئمة: البدنة هي الإبل خاصّةً، ويدلّ عليه قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} الآية [الحج: 36]، سميت بذلك لعظم بَدَنهِا، وإنما ألحقت البقرة بالإبل بالسنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"تُجزىء البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة"، ففرّق الحديث بينهما بالعطف، إذ لو كانت البدنة في الوضع تُطلق على البقرة لما ساغ

(1)

"فتح" 3/ 20.

(2)

"طرح التثريب" 3/ 177 - 178.

ص: 153

عطفها؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، وفي الحديث ما يدلّ عليه، قال:"اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجّ والعمرة سبعة منّا في بدنة"، فقال رجل لجابر رضي الله عنه: أنشترك في البقرة ما نشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البُدْن، والمعنى: في الحكم، إذ لو كانت البقرة من جنس البُدْن لما جهلها أهل اللسان، ولفُهمت عند الإطلاق أيضًا انتهى

(1)

.

وقيل: المراد كالذي يُهدي البدنة إلى مكة، وفيه أنه لا يناسبه ذكر الدجاجة، والبيضة.

(ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً) ذكرًا أو أنثى، والتاء للوحدة، لا للتأنيث، كما تقدم في "البدنة" سميت بقرة لأنها تبقر الأرض، أي تشقها بالحراثة، والبَقْرُ الشق

(2)

.

وفيه دليل على أن البَدَنَة لا تشمل البقرة لتقابلها بها، وإليه ذهب الشافعيّ، وقال أبو حنيفة: البدنة تطلق على البقر أيضًا، وإنما أُريد هنا البعير خاصّةً لقرينة المقابلة، وهذا لا ينفي عموم الإطلاق.

(ثُمَّ كَالْمُهْدي شَاةً، ثُمَّ كَالْمُهْدي بَطَّةً) بفتح الموحدة، وتشديد الطاء المهملة: نوع من طيور الماء، والتاء أيضًا للوحدة، مثل تمر وتمرة، ويقع على الذكر والأنثى، أفاده الفيومي.

[تنبيه]: زيادة البطّة بين الشاة والدجاجة، في هذه الرواية تفرّد بها عبد الأعلى، عن معمر، وقد خالفه عبد الرزّاق، وهو أثبت منه في معمر، فلم يذكرها. أفاده في "الفتح"

(3)

.

وقال النووي في "الخلاصة": هاتان الروايتان -يعني زيادة البطة في هذه الرواية، والعصفور في رواية ابن عجلان الآتية -وإن صح إسنادهما، فقد يقال: هما شاذتان، لمخالفتهما الروايات المشهورة انتهى.

وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله: وفائدة ذكر البطة أنه حيوان متوحّش لا يوصل إليه إلا بصيد وكُلْفة، فكان أفضل من الدجاجة في التقرّب به انتهى.

واعترضه ولي الدين العراقي رحمه الله، فقال: الظاهر أنه لم يفضّل بالكلفة في صيده، بل بكونه أكبر، وأكثر لحمًا انتهى

(4)

.

(1)

"المصباح" ص 39.

(2)

"المجموع" جـ 4 ص 413.

(3)

جـ 3 ص 22.

(4)

راجع "الطرح" 3/ 175.

ص: 154

(ثُمَّ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً) بفتح الدّال على الأفصح، ويجوز الكسر، وحكى الليث الضم أيضًا، وعن محمد بن حبيب أنها بالفتح من الحيوان، وبالكسر من الناس

(1)

والجمع دَجاج -بفتح الدال، وكسرها، ودَجائج، قال في "المحكم": سميت بذلك لإقبالها وإدبارها

(2)

.

واستُشكل التعبير في الدجاجة، والبيضة بقوله:"ثم كالمهدي"؛ لأن الهدي لا يكون منهما.

وأجاب القاضي عياض تبعًا لابن بطال بأنه لما عطفه على ما قبله أعطاه حكمه في اللفظ، فيكون من الإتباع، كقوله:"متقلِّدًا سيفا ورُمحَا".

وتعقّبه ابن المنير في "الحاشية" بان شرط الإتباع أن لا يصرّح باللفظ في الثاني، فلا يسوغ أن يقال: متقلّدًا سيفًا، ومتقلّدًا رُمحًا. والذي يظهر أنه من باب المشاكلة، وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: هو من تسمية الشيء باسم قرينه.

وقال ابن دقيق العيد: قوله: "قرّب بيضة"، وفي الرواية الأخرى "كالذي يهُدي" يدل على أن المراد بالتقريب الهدي، وينشأ منه أن الهدي يُطلق على مثل هذا، حتى لو التزم هديًا، هل يكفيه ذلك، أو لا انتهى.

والصحيح عند الشافعية الثاني، وكذا عند الحنفية والحنابلة، وهذا ينبني على أن النذر هل يُسلك به مسلك جائز الشرع، أو واجبه؟ فعلى الأول يكفي أقلّ ما يُتقرّب به، وعلى الثاني يُحمل على أقلّ ما يُتقرّب به من ذلك الجنس، ويقوى الصحيح أيضًا أن المراد بالهدى هنا التصدّق، كما يدلّ عليه لفظ التقرّب، والله أعلم. قاله في "الفتح".

(ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً) بفتح، فسكون واحدة البيض، بفتح، فسكون أيضًا. قال الفيّومي رحمه الله: البيض للطائر بمنزلة: الولد للدوابّ، وجمع البيض بيُوض، -أي بالضم- والواحدة بيضة، والجمع بيضات -بسكون الياء، وهُذَيل تفتح على القياس. ويُحكَى عن الجاحظ أنه صنّف كتابًا فيما يَبيض، ويَلد من الحيوانات، فأوسع في ذلك، فقال له عربيّ: يَجمع ذلك كله كلمتان: كلّ أَذُون وَلُودٌ، وكُلُّ صَمُوخٍ بَيُوضٌ

(3)

انتهى

(4)

.

والمراد هنا بيض الدجاج. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"فتح" 3/ 20.

(2)

"طرح" 3/ 178.

(3)

معناه: أن ماله أذن من الحيوانات يَلِدُ، ولا يَبض، وماله صِمَاخ، ولَيس له أذن يَبِيض، ولا يلد.

(4)

"المصباح" 1/ 68.

ص: 155

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -13/ 1385 - وفي "الكبرى" -113/ 693 - عن نصر بن علي، عن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن أبي عبد الله الأغرّ، عنه. وفي "الكبرى" عن أحمد بن عمرو بن السرح، والحارث بن مسكين، وعَمرو بن سوّاد فرّقهم، ثلاثتهم عن ابن وهب، عن يونس -وعن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن يونس- وعن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، كلاهما عن الزهري به.

وفي -59/ 864 - و"الكبرى" -59/ 536 - عن أحمد بن محمد بن المغيرة، عن عثمان، عن شُعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، وأبي عبد الله الأغرّ كلاهما عنه. وفي "الكبرى" عن محمد بن خالد بن خَليّ، عن بشر بن شعيب بن أبي حمزة، عن أبيه، عن الزهري، عن الأغرّ، وأبي سلمة به.

وفي 13/ 1386 - وفي "الكبرى" -13/ 1694 - عن محمد بن منصور، عن ابن عُيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عنه. وفي -13/ 1387 - و"الكبرى" -3/ 1695 - عن الربيع بن سليمان، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن عجلان، عن سمي، عن أبي صالح، عنه. وفي "الكبرى" -عن سليمان بن عبد الله بن محمد بن سليمان، عن جده، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة به.

وأخرجه (خ) 2/ 14 و4/ 135 (م) 3/ 7 (أحمد) 2/ 263 و2/ 264 و2/ 280 و505 (الدارمي) 1551 و1552 (ابن خزيمة)1768. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل التبكير إلى الجمعة.

ومنها: أن مراتب الناس في الفضيلة في الجمعة وغيرها بحسب أعمالهم، وهو من باب قوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الآية [الحجرات: 13].

وأخرج ابن ماجه بسنده عن علقمة، قال: خرجت مع عبد الله إلى الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه، فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد، إني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس يجلسون من الله يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة، الأوّل،

ص: 156

والثاني، والثالث، ثم قال: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد"

(1)

.

ومنها: أن القليل من الصدقة غير مُحَقّر في الشرع.

ومنها: أنه استدلّ به على أن الأفضل في الهدى والأضحية الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، لكونه صلى الله عليه وسلم قدم الإبل، وجعل البقر في الدرجة الثانية، والغنم في الدرجة الثالثة، وهذا مجمع عليه في الهدي، وقال به في الأضحية أيضا أبو حنيفة، والشافعيّ، والجمهور، وقال مالك: الأفضل في الأضحيّة الغنم، ثم البقر، ثم الإبل، ومنهم أراد قدّم الإبل على البقر، حكاه القاضي عياض، قالوا: والمقصود في الأضاحي طيب اللحم، وفي الهدايا كثرة اللحم.

واحتجّوا بأمور:

أحدها: قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107]، وكان كبشًا، قال بعضهم لو علم الله حيوانًا أفضل من الكبش لفدى به إسماعيل، وورد في حديث رواه البزّار، وابن عبد البرّ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، في أثناء حديث: "اعلم يا محمد أن الجذع من الضأن خير من السيد

(2)

من المعز، ومن البقر، والإبل، ولو علم الله ذبحًا خيرًا منه لفَدَى به إبراهيم ابنَهُ"، قال ابن عبد البرّ: وهذا الحديث لا أعلم له إسنادًا غير هذا، انفرد به الحُنينيّ

(3)

، وليس ممن يُحتجّ به.

ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين، فلو كان الإبل والبقر أفضل لما عدل عنهما إلى الغنم.

ثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خير الأضحية الكبش الأقرن". رواه أبو داود، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه بإسناد صحيح.

والجواب عن الأول من وجهين:

الأول: أنه لا يلزم من كون الكبش عظيمًا أن لا يكون غيره من الأنعام وغيرها أعظم منه.

الثاني: لو سُلّم ذلك فهذا خاصّ بذلك الكبش؛ لأنه ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه

(1)

أخرجه ابن ماجه رقم 1094 بإسناد رجاله ثقات غير عبد المجيد بن عبد العزيز، فقد تُكُلِّم فيه، وحَسَّنَ البوصيري إسناده في الزوائد.

(2)

هكذا في "التمهيد" 22/ 30 بلفظ "السيد" والذي في "ميزان الاعتدال" 1/ 179 - 180 بلفظ "المسنة"، والظاهر أنه الصواب. والله تعالى أعلم.

(3)

هو إسحاق بن إبراهم الحُنينيُّ بالحاء المهملة مصغرًا، أبو يعقوب المدني نزيل طرسوس، ضعيف من التاسعة، مات سنة (216). قاله في "ت".

ص: 157

رَعَى في الجنة أربعين خريفًا، وأنه قرّبه ابن آدم، فتُقُبّل منه، ورُفع إلى الجنة

(1)

، فلذلك قيل فيه عظيم.

والجواب عن الثاني أنه لا يلزم من تضحيته صلى الله عليه وسلم ترجيح الغنم، لأمرين:

أحدهما: أنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ضحّى عن نسائه بالبقر، فلو دلّ تضحيته بالغنم على أفضليتها لدلّت تضحيته بالبقر على أفضليتها، ويتعارض الخبران.

ثانيهما: أنه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أهدى غنمًا، فلو دلت تضحيته بالغنم على أفضليتها في الأضحيّة لدلّ إهداوه لها على أفضليتها في الهدايا، وليس كذلك بالاتفاق، كما تقدّم.

وقول القاضي عياض: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ضحّى بالضأن، وما كان ليترك الأفضل، كما لم يتركه في الهدايا، فيه نظر، لما قدّمناه أنه ضحّى بغير الضأن، وأنه تَرَكَ الأفضلَ في حقنا في الهدايا، فأهدى الغنم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا فعل العبادة المفضولة، كانت في حقِّه فاضلة، لكونه يُبيّن بذلك شرعيتها.

وقد تُحملُ تضحيته صلى الله عليه وسلم بالكبشين على أنه لم يجد في ذلك الوقت إلا الغنم، أو أنه فعله لبيان الجواز، والله أعلم.

والجواب عن الثالث، وهو أقوى ما استدلّوا به أنه محمول على تفضيل الكبش على مُساويه من الإبل والبقر، فإن البدنة والبقرة كلّ منهما يُجزىء عن سبعة، فيكون المراد تفضيلَ الكبش على سُبُع بدنة، وسُبُع بقرة، أو تفضيل سَبْع من الغنم على البدنة والبقرة، لتتفق الأحاديث، فإن ظاهر الحديث الذي نحن في شرحه موافق للجمهور.

قال الحافظ العراقي رحمه الله: وقد يُجاب بأن المراد خير الأضحية بالغنم الكبشُ، قال: وفيه تعسّف انتهى.

واحتجّ الجمهور أيضًا بقياس الضحايا على الهدايا، وأيضًا فقيل في قوله تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، أن المراد شاة، وذلك يدل على نقصان مرتبتها عن غيرها من النَّعَم، وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن أفضل الرقاب، فقال:"أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها"، ولا شكّ في أن الإبل والبقر أنفس عند الناس، وأغلى ثمنًا من الغنم. ذكره ولي الدين رحمه الله تعالى.

ومنها: أنه استُدلّ به على أن مَن التزم هديًا يكفيه أن يخرج ناقة، أو بقرة، أو شاة؛

(1)

الله أعلم بصحته، فلم يذكر له سند حتى يُنظر فيه.

ص: 158

لأنه صلى الله عليه وسلم أطلق لفظ الهدي على الثلاثة، وقد اتفق العلماء على ذلك في الإبل، والبقر، واتفق الشافعية في الغنم أيضًا، وعن مالك أنه أجاز الشاة مرّة، ومرّة لم يُجزها. والله تعالى أعلم.

ومنها: أنه قد يُستدلّ بعمومه على استحباب التبكير للخطيب أيضًا، لكن ينافيه قوله في آخره:"فإذا خرج الإِمام طوت الملائكة الصحف"، فدلّ على أنه لا يخرج إلا بعد انقضاء وقت التبكير المستحبّ في حقّ غيره.

قال الماورديّ رحمه الله من الشافعية: يُختار للإمام أن يأتي الجمعة في الوقت الذي تُقام فيه الصلاةُ، ولا يبكّر، اتباعًا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، واقتداء الخلفاء الراشدين، قال: ويدخل المسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر انتهى

(1)

.

ومنها: أنه أطلق في هذه الرواية أن المهجّر إلى الجمعة كالمهدي بدنة، وقَيَّد في الرواية الآتية في الباب التالي، فقال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح

" الحديث، فاقتضى هذا أن التهحير إلى الجيعة إنما يكون كإهداء البدنة، وكذا ما بعدها بشرط تقدّم الاغتسال عليه في ذلك اليوم، والقاعدة حمل المطلق على المقيّد. قاله ولي الدين رحمه الله تعالى.

ومنها: أنه استُدلّ به على أن الجمعة تصحّ قبل الزوال، كما سيأتي نقل الخلاف فيه في الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: ووجه الدلالة منه تقسيم الساعة إلى خمس

(2)

، ثم تعقيبه بخروج الإِمام، وخروجُهُ عند أول وقت الجمعة، فيقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة، وهي قبل الزوال.

والجواب أنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعلّ الساعة الأولى منه جُعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية، فهي أُولى بالنسبة للمجيء، ثانيةٌ بالنسبة للنهار، وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال، فيرتفع الإشكال. وإلى هذا أشار الصيلانيّ شارح "المختصر"، حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أو الهاجرة، ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة، ولغيره من الشافعية في ذلك وجهان، اختَلَفَ فيهما الترجيح، فقيل: أول التبكير طلوع الشمس، وقيل: طلوع الفجر، ورجحه جمع، وفيه

(1)

"طرح" برقم ص 173.

(2)

هذا لا يتمشى مع رواية "المصنف" بزيادة البطة، إلا على اعتبارها شاذّة، كما هو الصحيح.

ص: 159

نظر، إذ يلزم منه أن يكون التأهب قبل طلوع الشمس، وقد قال الشافعيّ: يُجزىء الغسل إذا كان بعد الفجر، فأشعر بأن الأولى أن يقع بعد ذلك.

ويحتمل أن يكون ذكر الساعة السادسة لم يذكره الرواي. وقد وقع في روارة ابن عجلان، عن سُميّ، عند النسائيّ، من طريق الليث عنه زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة، وهي العصفور. وتابعه صفوان بن عيسى، عن ابن عجلان، أخرجه محمد بن عبد السلام الخشنيّ.

وله شاهد من حديث أبي سعيد، أخرجه حُميد بن زنجويه في "الترغيب" له بلفظ: "فكمهدي البدنة، إلى البقرة، إلى الشاة، إلى عليّة الطير، إلى العصفور

" الحديث.

ونحوه في مرسل طاوس، عند سعيد منصور.

ووقع عند النسائي أيضًا في حديث الزهريّ، من رواية عبد الأعلى، عن معمر زيادة "البَطَّة" بين الكبش والدجاجة، لكن خالفه عبد الرزاق، وهو أثبت منه في معمر، فلم يذكرها.

وعلى هذا فخروج الإِمام يكون عند انتهاء السادسة.

وهذا كله مبنيّ على أن المراد بالساعات ما يتبادر الذهن إليه من العرف فيها.

وفيه نظر، إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف؛ لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات، وفي الطول إلى أربع عشرة، وهذا الإشكال للقفّال.

وأجاب عنه القاضي حسين بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول والقصر، فالنهار اثنتا عشرة ساعة، لكن يزيد كل منها، وينقص والليل كذلك.

وهذه تسمى الساعات الآفاقية، عند أهل الميقات، وتلك التعديلية.

وقد روى أبو داود، والنسائيّ، وصححه الحاكم من حديث جابر رضي الله عنه، مرفوعًا:"يومُ الجمعة اثنتا عشرة ساعة". وهذا، وإن لم يَرد في حديث التبكير، فيُستأنس به في المراد بالساعات.

وقيل: المراد بالساعات بيان مراتب المبكّرين من أول النهار إلى الزوال، وأنها تنقسم إلى خمس.

وتجاسر الغزالي، فقسمها برأيه، فقال: الأولى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والثانية: إلى ارتفاعها. والثالثة: إلى انبساطها، والرابعة: إلى أن ترمض الأقدام، والخامسة: إلى الزوال.

ص: 160

واعترضه ابن دقيق العيد بأن الردّ إلى الساعة المعروفة أولى، وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى؛ لأن المراتب متفاوتة جدًّا.

وأولى الأجوبة الأول، إن لم تكن زيادة ابن عجلان محفوظة، وإلا فهي المعتمدة انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح هو القول بدلالة الحديث على جواز صحة صلاة الجمعة قبل الزوال، إذ هذه التأويلات كلها فيها تكلف وتعسّف، كما لا يخفى على من تأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1386 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ

(2)

، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ، مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ، يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمُ الأَوَّلَ، فَالأَوَّلَ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ، طُوِيَتِ الصُّحُفُ، وَاسْتَمَعُوا

(3)

الْخُطْبَةَ فَالْمُهَجِّرُ إِلَى الصَّلَاةِ

(4)

كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي كَبْشًا، حَتَّى ذَكَرَ الدَّجَاجَةَ، وَالْبَيْضَةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن منصور) الجَوّاز المكي، ثقة [10] تقدم 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عُيينة الإِمام الحجة المشهور [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(سعيد) بن المسيب الإِمام الفقيه الحجة من كبار [3] تقدم 9/ 9.

والباقيان تقدما في الذي قبله، وكذا شرح الحديث، والكلام على مسائله وهو حديث صحيح. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "على منازلهم"، أي: على حسب درجاتهم التي ينالونها بالتقدّم إلى الجمعة.

وقوله: "الأول، فالأول" بدل من الناس، ويحتمل أن يكون منصوبًا على الحال، وإن كان جامدًا معرفة، لتأوّله بالمشتق النكرة، أي: مترتبين، كما قال في "الخلاصة".

وَيَكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ وَفِي

مُبْدِ تأوُّلٍ بِلَا تَكَلُّفِ

وقال أيضًا:

(1)

"فتح" جـ 2 ص 21 - 22.

(2)

وفي نسخة "ثنا".

(3)

في نسخة "واستمعوا".

(4)

وفي نسخة "إلى الجمعة".

ص: 161

وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ

تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كَوَحْدَكَ اجْتَهِدْ

وقال الطيبيّ رحمه الله: أي الداخلَ الأولَ، والفاء فيه، و"ثُمَّ" في قوله:"ثم كالمهدي" كلتاهما لترتيب النزول من الأعلى إلى الأدنى، لكن في الثانية تراخ ليس في الأولى انتهى

(1)

.

وقوله: "كبشًا" بفتح الكاف، وسكون الموحّدة: هو الفحل الذي يُناطح، قاله في "المجمع"، وقال في "ق": الكبش الحَمَلُ إذا اثْنَى، أو إذا خرجت رَبَاعيته. وفي ذكر الكبش، وهو الذكر إشارةٌ إلى أنه أفضل من الأنثى.

وفي رواية "كبشا أقرن".

قال النووي رحمه الله: وصفه به لأنه أكمل، وأحسن صورة، ولأن قرنه يُنتفع به انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1387 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ

(2)

صلى الله عليه وسلم، قَالَ: تَقْعُدُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ، فَالنَّاسُ فِيهِ كَرَجُلٍ قَدَّمَ بَدَنَةً، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَقَرَةً، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ شَاةً، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ دَجَاجَةً، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ عُصْفُورًا، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَيْضَةً").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الربيع بن سليمان) المرادي المصري، ثقة [11]، تقدم 195/ 311.

2 -

(شعيب بن الليث) أبو عبد الملك المصري، ثقة فقيه نَبيل، من كبار [10] تقدم 120/ 166.

3 -

(الليث) بن سعد الإِمام الفقيه الحجة المصري [7] تقدم 31/ 35.

4 -

(ابن عَجْلان) هو محمد المدني، صدوق، اختلطت عليه أحاديث أبى هريرة [5] تقدم 36/ 40.

5 -

(سُميّ) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن المدني، ثقة [6] تقدم 22/ 540.

6 -

(أبو صالح) ذكوان السمّال الزيات المدني، كان يجلب الزيت إلى الكوفة، ثقة ثبت [3] تقدم 36/ 40.

(1)

راجع "المراعاة" جـ 4 ص 460.

(2)

وفي نسخة "عن النبي صلى الله عليه وسلم".

ص: 162

والصحابي ذُكر في السنة الذي قبله.

[تنبيه]: قوله: "كرجل قدّم بدنة، وكرجل قدّم بدنة إلخ" هكذا وقع في "الهندية" الجميع مكرّرًا، وكذا هو في "الكبرى"، ووقع في النسختين المطبوعتين بدون تكرار.

قال السيوطي رحمه الله في "شرحه": كُرّر المتقرّب به مرتين في الجميع للإشارة إلى أن الآتي في أول ساعة، وفي آخرها يشتركان في مسمّى البدنة مثلاً، ويتفاوتان في صفاتها انتهى

(1)

.

وقال السندي رحمه الله في "شرحه": التكرار في الجميع للإشارة إلى أن الأجر المذكور مُوَزّعٌ على ساعات، فالآتي في أول كلّ ساعة وآخرها يشتركان في نوع ذلك الأجر، كالمتصدّق بالبدنة مثلًا، وإن تفاوتا من حيثُ الصفات، فالآتي في أول تلك الساعة كالمعطي للبدنة السمينة، ومَنْ بعدَه كالمتصدّق بما دون ذلك. والله تعالى أعلم انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن يُشكل على هذا ما أخرجه عبد الرزّاق في "مصنّفه" عن ابن جريج، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم الجمعة، فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة، ثم غدا في أول ساعة، فله من الأجر مثل الجَزُور، وأول الساعة وآخرها سواء، ثم الساعة الثانية مثل الثور، وأولها وآخرها سواء، ثم الثالثة مثل الكبش الأقرن، أولها وأخرها سواء، ثم الساعة الرابعة مثل الدجاجة، وأولها وآخرها سواء، ثم مثل البيضة، فإذا جلس الإِمام طُويت الصحفُ، وجاءت الملائكة تستمع الذكر، ثم غُفر له إذا استمع، وأنصت ما بين الجمعتين، وزيادة ثلاثة أيام"

(3)

.

ويمكن أن يُجاب عنه بأن تساوي أول الساعة وآخرها إنما هو في مطلق كونه مثل الجزور، والثور، وهكذا، ولا يلزم من ذلك التساوي في الصفات، فتكون مثلًا جزور الآتي في أولها كاملة الأوصاف من السمن وغيره، والآتي بعده دون ذلك، وهكذا، والله تعالى أعلم.

وقوله: "قدم عصفورًا" هكذا وقع في رواية ابن عجلان، عن سُميّ زيادة "عصفور" بين الدجاجة والبيضة، وهي زيادة شاذّة، لمخالفة محمد بن عجلان فيها الحفّاظ الذين تقدمت رواياتهم.

(1)

"زهر الربى" جـ 3 ص 99 - 100.

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 98 - 99.

(3)

"المصنف" جـ 3 ص 258 - 259. ورجاله رجال الصحيح.

ص: 163

وقول الحافظ في "الفتح": تابعه عيسى بن صفوان، عن ابن عجلان، أخرجه محمد ابن عبد السلام الخشنيّ، لا يؤيده؛ لأن المتابعة لليث، لا لابن عجلان، وكلامنا فيه، وذكر له شاهدًا من حديث أبي سعيد، أخرجه حُمَيد بن زنجويه في "الترغيب" له بلفظ: "فكمهدي البدنة، إلى البقرة، إلى الشاة، إلى علية الطير، إلى العصفور

" الحديث. ولكن لم يَذكر سنده حتى يُنظر فيه، ولا تكلم على درجته. وكذا قوله: ونحوه في مرسل طاوس، عند سعيد بن منصور

(1)

.

وقد تقدّم عن النووي رحمه الله تعالى أنه قال: هاتان الروايتان -يعني زيادة "بطة"، و"عصفور"- وإن صحّ إسنادهما، فقد يقال: هما شاذتان، لمخالتفهما الروايات المشهورة انتهى. والله تعالى أعلم.

وبقية شرح الحديث يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه

(2)

.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -13/ 7831 - وفي "الكبرى" -13/ 1696 - عن الربيع بن سليمان، عن شُعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن عجلان، عن سُميّ، عن أبي صالح، عنه. وفي 14/ 1388 - و"الكبرى" -14/ 1697 - عن قُتيبة، عن مالك، عن سُميّ به. وفي "الكبرى"

(3)

عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم، عن مالك به. وفيه عن قُتيبة بن سعيد، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سُهيل، عن أبي صالح به.

وأخرج (خ) 2/ 3 (م) 3/ 4، 3/ 8 (د) 351 (ت) 499 (مالك في الموطإ) 84 (أحمد) 2/ 460. والله تعالى أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" جـ 3 ص 22.

(2)

وقد عرفت أن زيادة العصفور شاذة.

(3)

هذا والذي بعده ذكره في "تحفة الأشراف" جـ 9 ص 12569 و12770.

ص: 164

‌14 - وَقْتُ الْجُمُعَةِ

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يحتمل أن مذهب المصنف رحمه الله تعالى أنه يرى أن وقت الجمعة بعد الزوال، وهو مذهب الإِمام البخاري، وجمهور أهل العلم، كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.

لكن استدلاله على هذا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه شكله فيه بعد؛ لأن ظاهره يدلّ لمن قال بجواز الجمعة قبل الزوال؛ لأنه ظاهر في أن خروج الإِمام في أول الساعة السادسة.

اللهم إلا إذا حمل معنى الحديث على أن هذه الساعات الخمس تكون من الساعة الثانية، كما تقدّم؛ لأن الساعة الأولى تكون للتأهب بالاغتسال، وغيره من أنواع النظافة، فتكون الثانية بداية للرواح إلى الجمعة، وتكون الساعة الخامسة هي السادسة، ويكون خروج الإِمام في السابعة وهي بعد الزوال، فيكون الحديث دليلًا على أن وقت صلاة الجمعة بعد الزوال.

وهذا إن لم تكن زيادة البطة في رواية عبد الأعلى، عن معمر، وزيادة العصفور في رواية ابن عجلان، عن سميّ، صحيحةً، وهو الصحيح، وإلا فلا إشكال، ولعله أراد ذلك، حيث أورد هذا الباب بعد ذكر الباب المشتمل على الروايتين المشتملتين على الزيادة. والله تعالى أعلم.

وأما استدلاله بحديث جابر رضي الله عنه الأول ففيه بُعْدٌ؛ لأن الحديث فيه بيان وقت ساعة الإجادة بأنها آخر ساعة بعد العصر، وليس فيه تعرض لوقت صلاة الجمعة.

لكن يُستفاد منه أن المراد بالساعات الخمس المذكورة في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هي الساعات المنقسمة إلى اثنتي عشرة ساعةً، ففيه الردّ على من فسر الساعات الخمس بأنها لحظات بعد الزوال، فقال: إن الرواح بعد الزوال، لا قبله، كما هو مذهب الإِمام مالك رحمه الله تعالى.

وأما استدلاله بحديث جابر الثاني، فظاهر على أن السؤال والجواب في قوله:"أيّة ساعة؟، قال: زوالُ الشمس" محمولان على الصلاة، وأما إذا حمل على الرجوع، فيكون الحديث دليلًا لمن قال بجواز صلاة الجمعة قبل الزوال.

وأما استدلاله بحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فظاهر؛ لأن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، كما بينه أهل اللغة، فالظاهر أنهم صلوا بعد الزوال مبكّرين، ثم رجعوا قبل أن

ص: 165

يكون للحيطان فيء يُستظلّ به.

ويؤيده قوله: "فيء يُستظلّ به"؛ لأن فيه إثبات الفيء، وإنما المنفي الاستظلال به، فيدلّ على أنهم صلّوا بعد الزوال.

ويحتمل أن يكون مذهبه جواز صلاة الجمعة قبل الزوال -كما هو مذهب الإِمام أحمد، وطائفة من السلف، كما سنذكره- فيكون الحديث الأول دليلًا لجوازها قبل الزوال، وكذلك حديث جابر الأول، على جعل قوله:"زوال الشمس" للرجوع، وأما على جعله للصلاة فيكون دليلًا لجوازها وقت الزوال، أو قريبًا منه، وكذا حديث سلمة رضي الله عنه دليل لما بعد الزوال، فيكون المصنف رحمه الله تعالى أورد أدلة جوازها قبل الزوال وبعده. والله تعالى أعلم بالصواب.

1388 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ، يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

كلهم تقدّموا قريباً، فقتيبة، ومالك تقدما قبل بابين، والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وكذا تقدم شرح الحديث، والكلام على مسائله، وهو متفق عليه، ولْنُوَضّح ما لم يُذكَر إيضاحه فيما سبق.

فقوله: "غسل الجنابة" منصوب على أن مفعول مطلق على النيابة، والأصل: غسلًا كغسل الجنابة.

وذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح البخاري" أنّ للعلماء في تأويله قولين:

أحدهما: أن المراد به تعميم الجسد بالغسل كما يُعمّمه بغسل الجنابة، ويشهد لذلك الحديث الآخر الذي فيه:"فيغسل رأسه، وجسده"، فيكون المعنى: اغتساله للجمعة كاغتساله للجنابة في المبالغة، وتعميم البدن بالماء، وهذا قول أكثر الفقهاء من الشافعية، وغيرهم.

الثاني: أن المراد به غسل الجنابة حقيقةً، وأنه يستحب لمن له زوجة، أو أمة أن يطأها يوم الجمعة، ثم يغتسل، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وحكاه عن غير واحد من التابعين، منهم هلال بن يساف، وعبد الرحمن بن الأسود، وغيرهما،

ص: 166

ورُوي عن عبد الرحمن بن الأسود قال: كان يُعجبهم أن يُواقعوا النساء يوم الجمعة؛ لأنهم قد أُمروا أن يغتسلوا، وأن يُغَسِّلُوا. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى

(1)

.

وقوله: "ثم راح": أي في الساعة الأولى، بدليل قوله:"ومن راح في الساعة الثانية"، وقد أخرجه مالك في "الموطإ" ص 84 عن سُميّ بهذا الإسناد، وفيه التصريح بذكر الساعة الأولى.

وقوله: "قرّب بدنةً" بتشديد الراء، أي. أهداها تقرّبًا إلى الله تعالى.

قال السندي رحمه الله في شرحه: والساعات محمولة على لحظات قُرب الزوال عند مالك، وعلى الساعات النجومية عند غيره، وعليه بني المصنف استدلاله على الوقت، وأيده بالحديث الذي بعده، إذ الساعة فيه محمولة على الساعة النجومية قطعًا، وعلى هذا فوقت خروج الإِمام يكون في الساعة السادسة، قيل: وفيها تزول الشمس، ولا يخفى أن زوال الشمس في آخر الساعة السادسة، وأول الساعة السابعة، ومقتضى الحديث أن الإِمام يخرج عند أول الساعة السادسة، ويلزم منه أن يكون خروج الإِمام قبل الزوال، فليتأمل. والله تعالى أعلم انتهى

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: أنه رتب في هذا الحديث السابقين إلى الجمعة على خمس مراتب، أولها كمقرّب البدنة، والثاني كمقرّب البقرة، والثالث كمقرّب الكبش، والرابع كمقرّب الدجاجة، والخامس كمقرّب البيضة، ورتّب هذه المراتب على خمس ساعات، فقال الجمهور: المراد بهذه الساعات الأجزاء الزمانية التي ينقسم النهار منها على اثني عشر جزءًا.

واختلف أصحاب الشافعي، هل يكون ابتداؤها من طلوع الفجر، أو الشمس، والصحيح عندهم من طلوع الفجر، وفيه -كما قال العراقي- أنه ليس العمل عليه في أمصار الإِسلام قديمًا وحديثًا، أن يبكر للجمعة من طلوع الفجر.

وقال المالكية: المراد لحظات لطيفة بعد الزوال، وهو خلاف ظاهر اللفظ، والمتبادر إلى الفهم منه، فإن المفهوم منه إنما هو الساعات المعروفة، وقد ورد التصريح

(1)

"شرح البخاري" لابن رجب الحنبلي جـ 8 ص 90.

(2)

"شرح السندي" جـ 3 ص 99.

ص: 167

بذلك في حديث جابر الآتى بعد هذا: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة

" الحديث، فهو وإن كان في معرض ساعة الإجابة، لكنه يستآنس به في التبكير أيضًا، والله تعالى أعلم.

قال ولي الدين رحمه الله: ومما يردّ على المالكية في ذلك أنّا إذا خرجنا عن الساعة الزمانية لم يبقَ لنا مرَدّ ينقسم فيه الحال إلى خمس مراتب، بل قد يكون مقتضاه الفضل بحسب تفاوت السبق، ويأتي من هذا مراتب كثيرة جدًّا. ذكره الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة" بمعناه، ثم قال:

فإن قلت: يُجعل الوقت من التهجير مقسمًا على خمسة أجزاء، ويكون ذلك مُرادًا.

قلت: يُشكل ذلك لوجهين:

أحدهما: أن الرجوع إلى ما تقرّر من تقسيم الساعات إلى اثني عشر أولى.

الثاني: أن القائلين بأن التهجير أفضل، لا يقولون بذلك على هذه القسمة، فإن القائل قائلان، قائل يقول بترتيب منازل السابقين على غير بتقسيم الأجزاء الخمسة، وقائل يقول بتقسيم الأجزاء ستة إلى الزوال، فالقول بتقسم هذا قالوقت إلى خمس إلى الزوال مخالف للكلّ، وإن كان قد قال به قائل، فليكتف بالوجه الأول انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثانية: في اختلاف أهل العلم في وقت صلاة الجمعة:

(اعلم): أنه قد اختلف العلماء في وقت صلاة الجمعة، فذهب الجمهور، إلى أن وقتها بعد الزوال، فلا تصحّ قبله.

وذهب الإِمام أحمد، وطائفة من السلف إلى أنها تجوز قبل الزوال.

قال الإِمام البخاري رحمه الله: "بابٌ وقتُ الجمعة إذا زالت الشمس"، وكذلك يُروى عن عمر، وعلي، والنعمان بن بشير، وعمرو بن حُريث.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وهو قول أكثر الفقهاء، منهم الحسن، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي.

وذهب كثير من العلماء إلى أنه يجوز إقامتها قبل الزوال.

قال: وحكى الماوردي في كتابه "الحاوي" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تجوز صلاة الجمعة قبل الزوال، وهو مذهب أحمد، وإسحاق، نقله عنهما ابن منصور، وهو

(1)

"طرح التثريب" جـ 3 ص 173 - 174.

ص: 168

مشهور عن أحمد، حتى نُقل عنه أنه لا يختلف قوله في جواز إقامة الجمعة قبل الزوال، كذا قاله غير واحد من أصحابه.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في حديث أنس رضي الله عنه: "كنا نُبكّر بالجمعة، ونَقيل بعد الجمعة".

هذا مما يَستدلّ به من يقول بجواز إقامة الجمعة قبل الزوال، لأن التبكير، والقائلة لا يكون إلا قبل الزوال، وقد ثبت أنهم كانوا في عهد عمر يُصلّون معه الجمعة، ثم يرجعون، فيقيلون قائلة الضحى، وهذا يدلّ على أن وقت الضحى كان باقيًا.

وكل ما استدل به من قال: تُمنع الجمعة قبل الزوال ليس نصًّا صريحًا في قوله، وإنما يدلّ على جواز إقامة الجمعة بعد الزوال، أو على استحبابه، أما منع إقامتها قبله فلا، فالقائل بإقامتها قبل الزوال يقول لجميع الأدلة، ويَجمع بينها كلِّها، ولا يردّ منها شيئًا.

فروى جعفر بن بُرقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبس الله أراد سِيدَان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر الصدّيق، فكانت خطبته، وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر. فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول: مال النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك، ولا أنكره.

أخرجه وكيع في كتابه، عن جعفر به، وأخرجه عنه ابن أبي شيبة في كتاب، وخرّجه عبد الرزاق في كتابه، عن معمر، عن جعفر به، وخرّجه الأثرم، والدارقطنيّ.

ورواه الإِمام أحمد في رواية ابنه عبد الله، عن وكيع، عن جعفر، واستدلّ به.

وهذا إسناد جيّد، وجعفر حديثه عن غير الزهري حجة يُحتجّ به. قاله الإِمام أحمد، والدارقطني، وغيرهما.

وثابت بن الحجاج جزريّ تابعيّ معروف، لا نعلم أحدًا تكلم فيه، وقد خرّج له أبو داود.

وعبد الله بن سيدان السلمي المطْرُديّ قيل: إنه من الربَذَة، وقيل: إنه جَزَريّ، يروي عن أبي بكر، وحُذيفة، وأبي ذرَ، وثقه العجليّ، وذكره ابن سعد في طبقة الصحابة، ممن نزل الشام، وقال: ذكروا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال القُشيريّ في "تاريخ الرقّة": ذكروا أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما البخاري، فقال: لا يُتابع على حديثه، كأنه يشير إلى حديثه هذا.

ص: 169

وقول ابن المنذر: إن هذا الحديث لا يثبت هو متابعة لقول البخاريّ، وأحمد أعرف بالرجال من كلّ من تكلّم في هذا الحديث، وقد استدلّ به، واعتمد عليه.

وقد عَضَدَ هذا الحديث أنه قد صح من غير وجه أن القائلة في زمن عمر، وعثمان، كانت بعد صلاة الجمعة، وصح عن عثمان أنه صلى الجمعة بالمدينة، وصلى العصر بمَلَل. خرجه مالك في "الموطإ".

وبين المدينة وملل اثنان وعشرون ميلًا، وقيل: ثمانية عشر، ويبعد أن يلحق هذا السير بعد زوال الشمس.

وروى شعبة عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سَلمَة، قال: صلى بنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الجمعة ضُحًى، وقَال: خشيت عليكم الحرّ.

وروى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد، قال: صلى بنا مُعاوية الجمعة ضحى.

وروى إسماعيل بن سميع، عن بلال العَبْسي، أن عمارًا صلى للناس الجمعة، والناس فريقان: بعضهم يقول: زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تَزُل.

أخرج هذه الآثار كلها ابن أبي شيبة في "مصنّفه" جـ 2/ 107 - 108. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى باختصار وتصرف

(1)

.

قال العلّامة الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه "السيل الجَرَّار".

(اعلم): أن الأحاديث الصحيحة، قد اشتمل بعضها على التصريح بإيقاع صلاة الجمعة وقت الزوال، كحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في "الصحيحين"، وغيرهما، قال:"كنّا نُجَمِّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس".

وبعضها فيه التصريح بإيقاعها قبل الزوال، كما في حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، وغيره:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة، ثمّ يذهبون إلى جمالهم، فيريحونها حين تزول الشمس".

وبعضها محتمل لإيقاع الصلاة قبل الزوال، وحاله، كما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في "الصحيحين"، وغيرهما، قال:"ما كنا نَقيلُ، ولا نتغدّي إلا بعد الجمعة". وكما في حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ، وغيره، قال:"كنّا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثمّ نرجع إلى القائلة، فنَقيل".

ومجموع هذه الأحاديث يدلّ على أنّ وقت صلاة الجمعة حال الزوال، وقبله، ولا

(1)

"شرح صحيح البخاري" جـ 8 ص 169 - 180.

ص: 170

موجب لتأويل بعضها.

وقد وقع من جماعة من الصحابة التجميع قبل الزوال، وذلك يدلّ على تقرر الأمر لديهم، وثبوته انتهى

(1)

.

وقال في "نيل الأوطار" عند شرح حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: "ما كنا نَقيل، ولا نتغدى إلا بعد الجمعة": ما حاصله: فيه دليل لمن قال بجواز صلاة الجمعة قبل الزوال، ووجه الاستدلال به أن الغداء، والقيلولة محلهما قبل الزوال، وحكوا عن ابن قُتيبة أنه قال: لا يُسمَّى غداء، ولا قائلة إلا بعد الزوال، وأيضًا قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين، ويجلس بينهما، يقرأ القرآن، ويذكّر الناس، كما في مسلم من حديث أم هشام بنت حارثة، أخت عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت:"ما حفظت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرؤها على المنبر كلّ جمعة".

وعند ابن ماجه من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه: "أن النبي قرأ تبارك يوم الجمعة، وهو قائم يذكّر بأيام الله"، وكان يصلي الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين، كما ثبت ذلك عند مسلم من حديث عليّ، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم.

ولو كانت خطبته، وصلاته بعد الزوال لما انصرف منها إلا وقد صار للحيطان ظلّ يُستظلّ به، وقد خرج وقت الغداء والقائلة.

وأصرح من هذا حديث جابر رضي الله عنه المتقدِّم، فإنه صرّح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة، ثم يذهبون إلى جمالهم، فيُريحونها عند الزوال. ولا مُلجىء إلى التأويلات اللمتعَسَّفَة التي ارتكبها الجمهور انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حققه العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى هو الحق الذي ينبغي التمسك به؛ لوضوح أدلته.

وحاصله أنّ صلاة الجمعة تجوز قبل الزوال، ولكن الأولى أن تُصَلَّى بعده؛ لأنه غالب فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، ومن بعدهم، وهذا هو الصواب الذي لا يؤدي إلى التكلف بتأويل كثير من النصوص، وإحراجه عن ظواهره، مع أنه لا مُلجىء إلى ذلك بعد أن ثبت عن كثير من السلف العمل بما دلّ عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"السيل الجرّار على حدائق الأزهار" جـ 1 ص 296 - 297.

(2)

"نيل الأوطار" جـ 3 ص 309 - 310.

ص: 171

1389 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْجُلَاحِ مَوْلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، لَا يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا، إِلاَّ آتَاهُ إِيَّاهُ، فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو) أبو محمد المصري، ثقة [11] تقدم 45/ 594.

2 -

(الحارث بن مسكين) المصري القاضي الفقيه، ثقة [10] تقدم 9/ 9.

3 -

(ابن وهب) هو عبد الله المصري، ثقة حافظ [9] تقدم 9/ 9.

4 -

(عمرو بن الحارث) المصري، ثقة ثبت [7] تقدم 63/ 79.

5 -

(الجُلَاح

(1)

مولى عبد العزيز) بن مروان الأمويّ مولاهم، أبو كثير المصري، صدوق [6].

روى عن حَنَش الصنعاني، وأبي سلمة، والمغيرة بن أبي بُردة، وغيرهم. وعنه بُكير ابن الأشجّ، وابن لَهيعة، وعمرو بن الحارث، وغيرهم.

قال الدارقطني: لا بأس به. وقال يزيد بن أبي حبيب: كان رضًا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن عبد البرّ: الْجُلَاح، أبو كثير، يقال: إنه مولى عمر بن عبد العزيز، ويقال: مولى أخيه عبد الرحمن بن عبد العزيز، وهو بصري تابعيّ ثقة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وقع في سند المصنف رحمه الله أنه مولى عبد العزيز، فيحتمل أن يكون مولى عبد العزيز بن مروان بن الحكم والد عمر، وعبد الرحمن، فانتقل إلى أحدهما، فلا تنافي بينه وبين ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم. قال ابن يونس: توفّي سنة (120) وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني الفقيه الثقة [3] تقدم 1/ 1.

7 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حَرَام الأنصاري السَّلَميّ الصحابي ابن الصحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدم 31/ 35. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، غير

(1)

بضم الجيم، وتخفيف اللام آخره حاء مهملة.

ص: 172

شيخه الحارث، وأنه مسلسل بالمصريين إلى أبي سلمة، وهو وجابر مدنيان، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه جابر رضي الله تعالى عنه أحد المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله تعالى عنهما (عَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً)"يوم" مبتدأ، و"اثنتا عشرة" خبره، و"ساعة" منصوب على التمييز، ولفظ أبي داود:"ثنتا عشرة" بدون همزة الوصل، وهي لغة في "اثنتا".

قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى في "شرح الترمذي": أهل الميقات لهم اصطلاحان في الساعات، فالساعات الزمانية، كل ساعة منها خمس عشرة درجة، والساعات الآفاقية يختلف قدرها باختلاف طول الأيام وقصرها في الصيف والشتاء، فالنهار اثنتا عشرة ساعة، ومقدار الساعة يزيد وينقص، ويشهد لهذا الاصطلاح الثاني قوله صلى الله عليه وسلم:"يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة"، كما رواه أبو داود، والنسائي، بإسناد صحيح، وصححه الحاكم، فلم يفترق بين الصيف والشتاء، فهو دائمًا اثنتا عشرة ساعة انتهى

(1)

.

وقال السندي في "شرحه": المراد هاهنا الساعة النجوميّة، والمراد أنها في عدد الساعات كسائر الأيام انتهى.

وقال صاحب "المنهل": والمراد بالساعة هنا الجزء من الزمان، فالنهار اثنا عشر جزءا طال أو قصر، ويحتمل أن المراد بها الساعة الفلكية، فيكون التقدير بهذا العدد منظورًا فيه لبعض الأوقات؛ لأن اليوم يزيد وينقص انتهى

(2)

.

(لَا يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ) هذه الجملة صفة لمحذوف، تقديره: فيها ساعة، وقد صرّح به في "الكبرى"، ولفظه: "فيها ساعة، لا يوجد عبد مسلم، يسأل الله شيئًا

" (يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا) أي في تلك الساعة، والجملة في محلّ نصب على الحال، أو صفة بعد الصفة (إِلاَّ آتَاهُ إِيَّاهُ) "آتاه" كأعطاه وزنًا ومعنًى، وفاعل "آتى" ضمير يعود إلى "الله"، والضمير المنصوب المتصل يعود إلى "عبد"، والمنفصل إلى "شيئًا". أي أعطى الله تعالى ذلك العبد السائلَ الشىءَ الذي سأله.

والمراد أن تلك الساعة ساعة إجابة الدعاء، فلا يدعو أحد فيها إلا أُعطي ما سأله.

(1)

"طرح التثريب" 3/ 177.

(2)

"المنهل" 6/ 189.

ص: 173

(فَالْتَمِسُوهَا) أي اطلبوا تلك الساعة التي يستجيب الله تعالى فيها دعاء الداعين (آخرَ سَاعَة بَعْدَ الْعَصْر) المراد صلاة العصر، فلا يقال: إن ما بعد العصر هو المغرب.

والمعنى: في آخر وقت بعد صلاة عصر ذلك اليوم، وعلى هذا التقدير يندفع إشكال من يستشكل، بأنه كيف تُلتمس الساعة في الساعة.

وحاصل الجواب أن المراد من ساعة الإجابة لحظات قليلة، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة، لا يوافقها عبد مسلم

" الحديث، وفيه: "وأشار بيده يُقلّلها"، وفي رواية لمسلم: "وهي ساعة خفيفة"، والمراد من آخر الساعة ساعة من جملة الساعة الاثنتى عشرة المذكورة، فوجود لحظات قليلة في آخر ساعة من الساعة الاثنتي عشرة المذكورة واضح، لا إشكال فيه. والله تعالى أعلم.

والكلام على ساعة الإجابة سيأتي في باب مفرد آخر "كتاب الجمعة" إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -14/ 1389 - وفي "الكبرى" -14/ 1697 - بالسند المذكور.

وأخرجه (د) 1048، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1390 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ، ثُمَّ نَرْجِعُ، فَنُرِيحُ نَوَاضِحَنَا، قُلْتُ: أَيَّةَ سَاعَةٍ؟ قَالَ: زَوَالُ الشَّمْسِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هارون بن عبد الله) الحمّال البغدادي، ثقة [10] تقدم 50/ 62.

2 -

(يحيى بن آدم) الكوفي، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] تقدم 1/ 451.

3 -

(حسن بن عياش) -بتحتانية، ثم معجمة- ابن سالم الأسديّ، أبو محمد الكوفي، أخو أبي بكر المقرىء، صدوق [8].

ص: 174

روى عن الأعمش، وابن عجلان، وجعفر الصادق، وغيرهم. وعنه ابن المبارك، وابن مهديّ، ويحيى بن آدم، وغيرهم.

قال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة، وأخوه أبو بكر ثقة، قال عثمان: ليسا بذاك، وهما من أهل الصدق والأمانة. وقال النسائي: ثقة. وقال الطحاويّ: ثقة حجة. وقال العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال يحيى الحمّاني: مات سنة (172).

روى له مسلم، والترمذيّ، والنسائي له في "صحيح مسلم" حديث واحد في "الجمعة"

(1)

. وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 1390 ورقم 3623.

4 -

(جعفر بن محمد) الهاشميّ المعروف بالصادق، أبو عبد الله المدني، صدوق فقيه إمام [6] تقدم 123/ 182.

5 -

(محمد بن علي) بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمى المعروف بالباقر، أبو جعفر المدني، ثقة فاضل [4] تقدّم 123/ 182.

والصحابي تقدم في الذي قبله. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، وهو مسلسل بالمدنيين من جعفر وشيخه بغدادي، ويحيى وحسن كوفيان، وفيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله تعالى عنهما (قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ، ثُمَّ نَرْجِعُ، فَنُرِيحُ) بضم النون، من الإراحة، يقال: راحت الإبل تَرُوح، فهي رائحة: إذا رجعت من المَرْعَى. قال الأزهريّ: وأما راحت الإبل، فهي رائحة، فلا يكون إلا بالعشيّ، إذا أراحها راعيها على أهلها، يُقال: سَرَحَتْ بالغداة إلى الرَّعْي، وراحَت بالعشيّ على أهلها، أي رجعت من المَرْعى إليهم. وقال ابن فارس: الرَّواح رَوَاح العشيّ، وهو من الزوال إلى الليل. قاله الفيوميّ

(2)

.

وقال النووي رحمه الله: ومعنى "نُريح"، أي نُريحها من العمل، وتعب السقي، فنخلّيها منه، وأشار القاضي إلى أنه يجوز أن يكون أراد الرواح للرعي انتهى

(3)

.

(1)

هكذا قال في"تت"، والظاهر أنه حديث الباب.

(2)

"المصباح" ص 243.

(3)

"شرح مسلم" جـ 6 ص 149.

ص: 175

(نَوَاضحَنَا) جمع ناضح. وهو البعير الذي يحمل الماء لسقي الزرع، يقال: نَضَحَ البعيرُ الماءَ: حمله من نهر، أو بئر لسقي الزرع، فهو ناضح، والأنثى ناضحة، سمّي ناضحًا لأنه يَنْضَحُ العطشَ، أي يَبُلُّهُ بالماء الذي يحمله، هذا أصله، ثم استعمل الناضح في كلّ بعير، وإن لم يحمل الماء. قاله الفيّومي

(1)

.

وقال النووي رحمه الله: سمي بذلك لأنه ينضح الماء، أي يصبّه.

(قُلْتُ) القائل حسن بن عيّاش، ففي رواية مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق ابن إبراهيم: قال حسنٌ: فقلت لجعفر: في أي ساعة تلك؟

"، أي قلت لجعفر مستفهما ضبطَ الوقت (أَيَّةَ سَاعَة؟) بنصب "آية" على الظرفية، وهي متعلقة بفعل مقدر يدلّ عليه ما قبله.

والظاهر أنه يقدر "أية ساعة تصلون؟ "، وعلى هذا فالظاهر أنهم صلوها وقت الزوال.

ويحتمل أن يقدر "ترجعون"، وعلى هذا فالمتبادر أن الصلاة كانت قبل الزوال، فيكون دليلًا لمن قال بصحتها قبل الزوال، وقد تقدَّم أنه الراجح.

ويحتمل أن تكون "أية" بالرفع خبرًا لمحذوف، تقديره: أيةُ ساعة هي.

[فائدة]: "أية" لغة في "أيّ" الاستفهامية، والأفصح في استعمالها، وكذا الشرطية أن تكون بلفظ واحد للمذكر، والمؤنث؛ لأنها اسم، والاسم لا تلحقه هاء التأنيث الفارقة بين المذكر والمؤنث، نحو أيُّ رجل جاء، وأيُّ امرأة قامت، وعليه قوله تعالى:{فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 81]، وقال تعالى:{بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. وقد تُطابَقُ في التذكير والتأنيث، نحو أي رجل، وأية امرأة، وقُرىء شاذًّا:"بأية أرض تموت"، ومنه هذا الحديث

(2)

.

(قَالَ) أي جعفر بن محمد (زَوَالُ الشَّمْس) يحتمل النصب على الظرفية لفعل مقدر كسابقه، ويحتمل الردع على أنه خبر لمحذوف، أي هو زوال الشمس، وإنما عرف جعفر ضبط الوقت بإخبار أبيه له، عن جابر رضي الله عنه، ففي رواية مسلم من طريق سليمان بن بلال، عن جعفر، عن أبيه، أنه سأل جابر بن عبد الله، متى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة؟ قال: كان يصلي، ثم نذهب إلى جمالنا، فنُريحها، زاد في رواية:"حين تزول الشمس". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المصباح" ص 609 - 610.

(2)

"المصباح" ص 34.

ص: 176

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -14/ 1390 - وفي "الكبرى" -14/ 1699 - بالسند المذكور.

وأخرجه (م) 3/ 8. (أحمد) 3/ 331. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1391 -

(أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ إِيَاسَ بْنَ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ، ثُمَّ نَرْجِعُ، وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ فَيىْءٌ، يُسْتَظَلُّ بِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شُعيب بن يوسف) أبو عمرو النسائي، ثقة صاحب حديث [10] من أفراد المصنف، تقدّم 42/ 49.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهدي، أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث [9] تقدّم 42/ 49.

3 -

(يعلي بن الحارث) بن حرب بن جرير بن الحارث الْمُحَاربي، أبو حرب، ويقال: أبو الحارث الكوفيّ، ثقة [8].

روى عن إياس بن سلمة، وإسماعيل بن أبي خالد، وسليمان بن حبيب، وغيرهم. وعنه ابنه يحيى، وابن مهديّ، ووكيع، وغيرهم.

قال أبو قُدَامة، عن ابن مهدي: يعلي بن الحارث من ثقات مشيخة الكوفيين. وقال ابن معين، وابن المديني، ويعقوب بن شيبة، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال البخاري: يقال: مات سنة (168). وبه جزم ابن حبان.

روى له الجماعة سوى الترمذي. وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 1391 ورقم 5077.

4 -

(إياس بن سلمة بن الأكوع) الأسلميّ، أبو سلمة، ويقال: أبو بكر المدني، ثقة [3].

(1)

وفي "الهندية""حدثنا".

ص: 177

روى عن أبيه، وابن لعمّار بن يسار. وعنه ابناه سعيد، ومحمد، ويعلى ابن الحارث، وغيرهم.

قال ابن معين، والعجليّ، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: توفي بالمدينة سنة (119) وهو ابن (77) سنة، وكان ثقة، وله أحاديث كثيرة. وهكذا قال ابن المديني في تاريخ وفاته. أخرج له الجماعة. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط

5 -

(سلمة) بن عمرو بن الأكوع، يُنسب إلى جده، الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابي رضي الله تعالى عنه، شهد بيعة الرضوان، ومات سنة (64) تقدم 15/ 765. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، سوى شيخه، فإنه من أفرده، وهو ثقة، وفيه رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه أنه (قَالَ: كُنا نصلّي مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ، ثُمَّ نَرْجعُ) أي إلى منازلهم (وَلَيْسَ للْحيطَان) -بالكسر- جمع حائط (فيْىءٌ) -بفتح، فسكون- يقال: فاء الظلّ يفيء فَيْئًا: رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق، والجمع فُيُوءٌ، وأَفْيَاءٌ، مثل بيت، وبُيُوت، وأَبْيَات، وتقدّم أنه لا يكون إلا بعد الزوال (يُسْتَظَلُّ به) ببناء الفعل للمفعول، والجملة في محلّ رفع صفة لـ"فيء"، وإنما وصفه به إشارة إلى أن هناك ظلًّا، لكن لا يمكن الاستظلال به لقصره، فلا يكون الحديث دليلًا لمن أجاز صلاة الجمعة قبل الزوال.

وأصرح منه ما في رواية مسلم لهذا الحديث من طريق وكيع، عن يعلي بن الحارث:"كنا نُجمّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبّع الفيء".

قال النووي رحمه الله تعالى: هذه الأحاديث ظاهرة في تعجيل الجمعة، وقد قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يُخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل، وإسحاق، فجوّازها قبل الزوال.

قال القاضي: وروى في هذا أشياء عن الصحابة، لا يصحّ منها شيء إلا ما عليه الجمهور، وحمل الجمهور هذه الأحاديث على المبالغة في تعجليها، وأنهم كانوا

ص: 178

يؤخرون الغداء، والقيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة، لأنهم نُدبوا إلى التبكير إليها، فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فوتها، أو فوت التبكير إليها.

وقوله: "نتتبع الفيء" إنما كان ذلك لشدة التبكير، وقصر حيطانه.

وفيه تصريح بأنه كان قد صار فيء يسير.

وقوله: "وليس للحيطان فيء يُستظلّ به" موافق لهذا، فإنه لم ينف الفيء من أصله، وإنما نفى ما يُستظلّ به، وهذا مع قصر الحيطان ظاهر في أن الصلاة كانت بعد الزوال متصلة به انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت فيما تقدّم أن أكثر هذه التأويلات فيها تكلّف ظاهر، لا حاجة إليه، فبعض الأحاديث يدل على صحة الجمعة قبل الزوال.

وأما ما قاله القاضي عياض، من أنه لم يصحّ عن الصحابة شيء، فغير صحيح، فقد تقدم في المسألة الثانية من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور أول الباب إثباته عن كثير من السلف. فتنبّه.

والحاصل أن الراجح صحتها قبل الزوال، وإن كان الأولى كونها بعده. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذاالحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -14/ 1391 - وفي "الكبرى" -14/ 1698 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 5/ 159 (م) 3/ 9 (د) 1585 (ق) 1100 (أحمد) 4/ 46 و4/ 54 (الدارمي) 1554 (ابن خزيمة)1839. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توِفيقي إلّا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌15 - (بَابُ الأذَانِ للْجُمُعَةِ)

1392 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ

(1)

"شرح مسلم" 6/ 148 - 149.

ص: 179

شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ الأَذَانَ كَانَ أَوَّلُ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَوْمَ الْجُمُعَةَ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِى بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَثُرَ النَّاسُ، أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالأَذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن سلمة) المرادي المصري، ثقة ثبت [11] تقدم 19/ 20.

2 -

(ابن وهب) عبد الله تقدم في الباب الماضي.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيلىّ، ثقة ثبت [7] تقدم 9/ 9.

4 -

(ابن شهاب) الزهري، تقدم قبل باب.

5 -

(السائب بن يزيد) بن سعيد بن ثُمَامة بن الأسود الكنديّ، ويقال: الأسديّ، أو الليثيّ، أو الْهذَليّ. وقال الزهريّ: هو من الأزد، عداده في كنانة، وهو ابن أخت النمر، لا يُعْرَفون إلا بذلك، له ولأبيه صحبة. قال محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد: حجّ أبي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن سبع سنين.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن حُويطب بن عبد العزّى، وعمر، وعثمان، وعبد الله بن السعدي، وغيرهم.

وعنه ابنه عبد الله، والزهريّ، والجعد بن عبد الرحمن، وغيرهم.

قال الواقديّ: توفي بالمدينة سنة (91) وقال غيره: سنة (6)، وقيل: سنة (88)، وقال ابن عبد البرّ: كان عاملًا لعمر على سوق المدينة. وقال أبو نعيم: توفي سنة (82)، وذكره البخاري في "فصل" من مات ما بين التسعين إلى المائة. وقال ابن أبي داود: هو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالمصريين إلى يونس، والباقيان مدنيان. ومنها: أن السائب هذا أول محل ذكره من الكتاب. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ) رضي الله عنهما (أَنَّ الأَذَانَ) أراد به النداء الشامل للإقامة. وفي رواية للبخاري: "كان النداء يوم الجمعة"، وعند ابن خزيمة من

ص: 180

طريق ابن أبي ذئب، عن الزهري:"كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة". وله في رواية وكيع، عن ابن أبي ذئب:"كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر أذانين يوم الجمعة". قال ابن خُزيمة: قوله: "أذانين" يريد الأذان والإقامة. يعني تغليبًا، أو لاشتراكهما في الإعلام، كما تقدّم في أبواب الأذان.

(كَانَ أَوَّلُ) يحتمل أن يكون مرفوعًا على أنه اسم "كان"، والمضاف إليه مقدرٌ لفظًا، أي أولُهُ، وقد جاء مصرّحًا به في رواية أبي داود، فقد أخرجه من طريق المصنف، ولفظه: "أنّ الأذان كان أولُهُ حين يجلس الإِمام على المنبر

".

ويحتمل أن يكون مبنياً على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، ونية معناها، فإن للفظ "أول" أربعةَ أحوال، أن يضاف لفظًا، أو يُحذف المضاف إليه، ويُنوى لفظه، أو يُقطع لفظًا ومعنًى، ففي هذه الأحوال الثلاثة يُعرب، والحالة الرابعة أن يقطع لفظه عن الإضافة، وينوى معناها، ففي هذه الحالة يُبنى على الضمّ، ونظيره "غير"، و"قبل" و"بعد"، و"حسبُ"، و"دونُ"، وأسماء الجهات الست، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْرًا إنْ عَدِمْتَ مَا

لَهُ أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِمَا

قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ أَوَّلُ

وَدُونُ وَالْجِهَاتُ أَيْضًا وَعَلُ

وَأَعْرَبُوا نَصْبًا إِذَا مَا نُكِّرَا

قَبْلًا وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَد ذُكِرَا

ويحتمل أن يكون منصوبا على الظرفية بتقدير لفظ المضاف إليه، أي أوّلَ الأمر، وهو متعلق بـ"كان"؛ لأنها -وإن كانت ناقصة- تُعلّق الظرف، والجارّ والمجرور على الأصح، ويؤيد هذا الوجه أنه وقع في "الكبرى" بلفظ "كان أوّلًا".

(حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ) بكسر الميم، سمي به لارتفاعه، وكُسرت ميمه تشبيهًا له بالآلة. قاله الفيومي رحمه الله تعالى.

وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي عامر، عن ابن أبي ذئب:"إذا خرج الإِمام، وإذا أقييت الصلاة"، وكذا للبيهقي من طريق ابن أبي فُديك، عن ابن أبي ذئب. وفي رواية المصنف الآتية بعد حديث، من طريق سليمان التيمي، عن الزهري:"كان بلال يؤذّن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل أقام".

قال المهلّب رحمه الله تعالى: الحكمة في جعل الأذان في هذا المحلّ ليَعرف الناسُ بجلوس الإِمام على المنبر، فينصتوا له إذا خطب.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: وفيه نظر، فإن في سياق ابن إسحاق عند الطبراني وغيره عن الزهريّ في هذا الحديث: إن بلالًا كان يؤذن على باب المسجد"، فالظاهر

ص: 181

أنه كان لمطلق الإعلام، لا لخصوص الإنصات، نعم لما زيد الأذان الأول كان للإعلام، وكان الذي بين يدي الخطيب للإنصات انتهى

(1)

.

(يَومَ الْجُمُعَة) منصوب على الظرفية متعلق بـ"يجلس"(في عَهْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ"يجلس" أيضًا، أو بخبر مبتدإ محذوف، أي ذلك كائن في زمنه صلى الله عليه وسلم (وَأَبي بَكْر، وَعُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (فَلَمَّا كَانَ في خلَافَة عُثْمَانَ) اسم "كان" ضمير يعود إلى "عهد"، والجارّ والمجرور خبرها، أي فلما كان هو أي العهد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. وفي نسخة بإسقاط لفظة "في"، وعليه فـ"كان" تامّة، و"خلافة" فاعلها، أي فلما جاء خلافة عثمان (وَكَثُرَ النَّاسُ) أي بالمدينة، وصُرّح به في رواية عند البخاريّ، وظاهره أن عثمان أمر بذلك في ابتداء خلافته، لكن في رواية أبي ضمرة، عن يونس عند أبي نعيم في "المستخرج" أن ذلك كان بعد مضيّ مدة من خلافته.

والجملة في محلّ نصب على الحال بتقدير "قد"، أي والحال أن الناس قد كثروا، ولم يكفهم الأذان المعهود (أَمَرَ عُثْمَانُ) رضي الله تعالى عنه (يَوْمَ الْجُمُعَة) فيه بيانُ أن أمره صدر في يوم الجمعة (بِالأذَان الثَّالث) وفي رواية وكيع، عن ابن أبي ذئب، عند ابن خزيمة:"فأمر عثمان بالأذان الأول"، ونحوه للشافعي رحمه الله، ولا تنافى بين الروايتين، لأنه باعتبار كونه مزيدًا على الأذان والإقامة يسمّى ثالثًا وباعتبار كونه جُعل مقدّمًا عليهما في الفعل يسمّى أوّلًا، فهو أول في الفعل، ثالث في المشروعية، ووصف بالثاني في رواية للبخاري من طريق عُقيل، عن ابن شهاب، نظرًا للأذان دون الإقامة.

(فَأُذِّنَ به) ببناء الفعل للمفعول، وفي نسخة "يؤذن به"(عَلَى الزَّوْاء) -بفتح الزاي، وسكون الواو بعدها راء ممدودة- موضع بالسوق بالمدينة. هكذا فسره البخاري رحمه الله في "صحيحه"، قال الحافظ: وهو المعتمد، وجزم ابن بطال بأنه حجر كبير عند باب المسجد، وفيه نظر، لما في رواية ابن إسحاق، عن الزهريّ، عند ابن خزيمة، وابن ماجه بلفظ "زاد النداء الثالث على دار في السوق، يقال لها: الزوراء"، وفي روايته عند الطبراني:"فأمر بالنداء الأول على دار له، يقال لها: الزوراء، فكان يُؤذّن له عليها، فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول، فإذا نزل أقام الصلاة". وفي رواية له من هذا الوجه: "فأذن بالزوراء قبل خروجه ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت". ونحوه في مرسل مكحول.

وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس رضي الله عنه: "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا

(1)

"فتح" 3/ 54.

ص: 182

بالزوراء -والزوراء بالمدينة عند السوق-

" الحديث.

(فَثَبَتَ) وفي نسخة "وثبت" بالواو (الأَمْرُ عَلَى ذَلكَ) أي استمرّ أمر الأذان على ما أحدثه عثمان رضي الله عنه. وفي رواية أبي عامر، عن ابن أبي ذئب، عند ابن خزيمة:"فثبت ذلك حتى الساعةَ".

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد، إذ ذاك، لكونه خليفةَ مُطاعَ الأمر، لكن ذكر الفاكهانيّ أن أول من أحدث الأذان الأول بمكّة الْحَجّاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة.

ورى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر، قال:"الأذان الأول يوم الجمعة بدعة"، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلّ ما لم يكن في زمنه يُسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنًا، ومنها ما يكون بخلاف ذلك.

وتبيّن بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة، قياسًا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها، وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله.

وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في بعض البلاد، دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى انتهى.

[تنبيهان] ذكرهما الحافظ رحمه الله تعالى:

[الأول]: ورد ما يخالف هذا الخبر أن عمر رضي الله عنه هو الذي زاد الأذان، ففي تفسير جُويبر، عن الضحّاك، من زيادة الراوي، عن بُرد بن سنان، عن مكحول، عن معاذ رضي الله عنه: "أن عمر أمر مؤذّنَين أن يؤذنا للناس الجمعة

(1)

خارجا من المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين انتهى.

وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت؛ لأن معاذا كان خرج من المدينة إلى الشام في أول ما غزوا الشام، واستمرّ إلى أن مات بها في طاعون عمواس.

وقد تواردت الروايات أن عثمان هو الذي زاده، فهو المعتمد.

قال: ثم وجدت لهذا الأثر ما يُقوّيه

(2)

، فقد أخرج عبد الرزّاق، عن ابن جريج،

(1)

هكذا نسخة "الفتح" الجمعة، ولعل الأولى (في الجمعة).

(2)

قال الجامع: في تقوية هذا الأثر لما قبل له نظر.

ص: 183

قال: قال سليمان بن موسى: "أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلّا، إنما كان يدعو الناس دعاء، ولا يؤذن غير أذان واحد انتهى.

وعطاء لم يدرك عثمان، فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره. ويمكن الجمع بأن الذي ذكره عطاء هو الذي كان في زمن عمر، واستمرّ على عهد عثمان، ثم رأى أن يجعله أذانًا، وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه، لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان فعله عمر، لكونه مجرّد إعلام.

[الثاني]: تواردت الشُّرّاح على أن معنى قوله: "الأذان الثالث" أن الأولين الأذانُ والإِقامةُ، لكن نقل الداوديّ أن الأذان أوّلًا كان في سُفل المسجد، فلما كان عثمان جَعَل من يؤذن على الزوراء، فلما كان هشام -يعني ابن عبد الملك- جعل من يؤذن بين يديه، فصاروا ثلاثة، فسمي فعل عثمان ثالثا لذلك. انتهى

وهذا الذي ذكره يُغني ذكره عن تكلف ردّه، فليس له فيما قاله سلف، ثم هو خلاف الظاهر، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثًا يستدعي سبق اثنين قبله، وهشام إنما كان بعد عثمان بثمانين سنة انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث السائب بن يزيد رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -15/ 1392 - وفي "الكبرى" 15/ 1700 - عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عنه. وفي 15/ 1393 - و"الكبرى" -15/ 1702 - عن محمد بن يحيى الذُّهْلي، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب به. وفي -15/ 1394 - و"الكبرى" 1701 -

(2)

عن محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الزهريّ به.

وأخرجه (خ) 2/ 10 و2/ 11 (د) 1087 و1088 و1089 و1090 (ت) 516 (ق) 1135 (أحمد) 3/ 449 و3/ 450 (ابن خزيمة) 1773 و1774 و1837. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح" 3/ 55 - 56.

(2)

وقع في "الكبرى" تقديم وتأخير لترتيب "المجتبى"، فجعل الحديث الثاني في "المجتبى" ثالثًا، وبالعكس، فتنبه.

ص: 184

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعية الأذان للجمعة.

ومنها: استحباب جلوس الإِمام على المنبر، خلافا لبعض الحنفية، واختُلف هل هو للأذان، أو لراحة الخطيب؟ فعلى الأول لا يسنّ في العيد، إذ لا أذان هناك. قاله في "الفتح".

ومنها: أن التأذين يكونْ قُبيل الخطبة.

ومنها: عدم مشروعية تأذين اثنين معًا، لقوله في الرواية التالية:"ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير مؤذن واحد".

ومنها: أن الخطبة يوم الجمعة سابقة على الصلاة، ووجهه أن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة، وإذا كان يقع حين يجلس الإِمام على المنبر دلّ على سبق الخطبة على الصلاة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في حكم الأذان للجمعة:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد دلّ الحديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، هو النداء الذي بين يدي الإِمام عند جلوسه على المنبر.

وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء، ولهذا قال أكثرهم: إنه هو الأذان الذي يمنع البيع، ويوجب السعي إلى الجمعة، حيث لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سواه.

وما ذكره ابن عبد البرّ عن طائفة من أصحابهم: أن هذا الأذان الذي يمنع البيع لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أحدثه هشام بن عبد الملك، فقد بيّن ابن عبد البر أن هذا جهل من قائله، لعدم معرفته بالسنة والآثار، فإن قال هذا الجاهل: إنه لم يكن أذان بالكلية في الجمعة، فقد باهتَ، ويكذّبه قول الله عز وجل:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9]، وإن زعم أن الأذان الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإِمام، فقد أبطل، ويكذبه هذا الحديث، وإجماع العلماء على ذلك.

وقد أنكر عطاء الأذان الأول، وقال: إنما زاده الحجاج، قال: وإنما كان عثمان يدعو الناس دعاءً. أخرجه عبد الرزاق.

وقال عمرو بن دينار: إنما أراد عثمان الأذان بالمدينة، وأما مكة، فأول من زاده الحجاج، قال: ورأيت ابن الزبير لا يُؤَذَّنُ له حتى يجلس على المنبر، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الجمعة. أخرجه عبد الرزاق أيضًا.

ص: 185

وروى مصعب بن سَلّام، عن هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد على المنبر أذّن بلال، فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته أقام الصلاة، والأذان الأول بدعة.

وروى وكيع في "كتابه"، عن هشام راد الغاز، قال: سألت نافعًا عن الأذان يوم الجمعة؟ فقال: قال ابن عمر: بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وإن رآه الناس حسنًا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم إلا أذانان، أذان حين يجلس على المنبر، وأذان حين تقام الصلاة، قال: وهذا الأخير شيء أحدثه الناس بعدُ. أخرجه ابن أبي حاتم.

وقال سفيان الثوري: لا يؤذن للجمعة حتى تزول الشمس، وإذا أذن المؤذن قام الإِمام على المنبر، فخطب، وإذا نزل أقام الصلاة، قال: والأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر أذان وإقامة، وهذا الأذان الذي زادوه محدث.

وقال الشافعي -فيما حكاه ابن عبد البرّ- أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإِمام على المنبر بين يفيه، فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان، فإذا فرغ، قام، فخطب، قال: وكان عطاء يُنكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني، وقال: إنما أحدثه معاوية. قال الشافعي: وأيهما كان فالأذان الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي يُنهَى الناسُ عنده عن البيع

(1)

.

ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه أن الأذان الأول للجمعة مُحدث، أحدثه عثمان، رأى أنه لا يسمعه إلا أن يزيد في المؤذنين ليُعلِمَ الأبعدين ذلك، فصار سنة، لأن على الخلفاء النظرَ في مثل ذلك للناس.

قال الحافظ ابن رجب: وهذا يُفهم منه أن ذلك راجع إلى رأي الإِمام، فإن احتاج إليه لكثرة الناس فعله، وإلا فلا حاجة إليه انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى باختصار

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين مما سبق أن ما زاده عثمان رضي الله من الأذان ليس محل إجماع، فقد ثبت إنكاره عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره، فما اقتضاه كلام ابن المنذر رحمه الله من دعوى اتفاق الأمة عليه، غير صحيح

(3)

.

والحاصل أن الأولى اتباع ما كان عدى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الشافعي رحمه

(1)

"الأم" جـ 1 ص 172 - 173.

(2)

"شرح صحيح البخاري" 8/ 215 - 221.

(3)

راجع "الأوسط" 4/ 56.

ص: 186

الله تعالى، فلا ينبغي زيادة الأذان الثالث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1393 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، أَخْبَرَهُ، قَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّأْذِينِ الثَّالِثِ عُثْمَانُ، حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ مُؤَذِّنٍ

(1)

وَاحِدٍ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ).

رجال هذا الإسناد ستة:

1 -

(محمد بن يحيى بن عبد الله) الذُّهْلي النيسابوري، ثقة حافظ جليل [11] تقدم 196/ 314.

2 -

(يعقوب) بن إبراهيم بن سعد الزهري المدني نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] تقدم 196/ 314.

3 -

(ابراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدني نزيل بغداد، ثقة حجة [8] تقدم 196/ 314.

4 -

(صالح) بن كيسان أبو محمد المدني، ثقة ثبت فقيه [4] تقدم 196/ 314.

والباقيان تقدما في الذي قبله، والحديث متفق عليه، وقد سبق شرحه والكلام على مسائله، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "غير مؤذن واحد" زاد أبو داود في روايته: "بلال". والمراد أن بلالاً هو المؤذن الذي كان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، كما بينته الرواية التالية.

أو المراد -كما قال في "الفتح"- أن المؤذن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم.

وأما أبو محذورة، وسعد القَرَظ، فكان كل منهما بمسجده الذي رُتِّبَ فيه، وأما ابن أم مكتوم، فلم يرد أنه كان يؤذن إلا في الصبح، كما تقدم في الأذان.

وعُرف بهذا -كما قال الحافظ- الردّ على ما ذكره ابن حبيب أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقي المنبر، وجلس أذن المؤذنون، وكانوا ثلاثة، واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام، فخطب، فإنه دعوى تحتاج لدليل، ولم يرد صريحًا من طريق متصلة يثبت مثلها.

قال: ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي انتهى

(2)

.

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: فيه أنه اشتهر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم جماعة من

(1)

وفي نسخة "غير أذان".

(2)

"فتح" 3/ 56 - 57.

ص: 187

المؤذنين، منهم بلال، وابن أم مكتوم، وسعد القرظ، وأبو محذورة.

وأجيب بأنه أراد الجمعة، وفي مسجد المدينة، ولم يُنقل أن ابن أم مكتوم كان يؤذن يوم الجمعة، بل الذي ورد عنه التأذين يوم الجمعة بلال، وأبو محذورة جعله صلى الله عليه وسلم مؤذنًا بمكة، وسعد جعله بقباء

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1394 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ، ثُمَّ كَانَ كَذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(المعتمر) بن سليمان البصري، ثقة، من كبار [9] تقدم 10/ 10.

3 -

(سليمان) بن طَرْخان التيمي البصري، ثقة عابد [4] تقدم 87/ 107.

والباقيان تقدما قريبًا، وكذا شرح الحديث، والكلام على مسائله، وهو متفق عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌16 - (بَابُ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَنْ جَاءَ وَقَدْ خَرَجَ الإِمَامُ)

1395 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ، وَقَدْ خَرَجَ الإِمَامُ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ" -قَالَ شُعْبَةُ-: "يَوْمَ الْجُمُعَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) المذكور في السند الماضي.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيمي البصريّ، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

(1)

"نيل الأوطار" 3/ 312 - 313.

ص: 188

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإِمام الحجة الناقد البصري [7] تقدم 24/ 26.

4 -

(عمرو بن دينار) الجُمَحي مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] تقدم 112/ 154.

5 -

(جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما تقدم قبل باب. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وعمرو مكي، وجابر مدني. ومنها: أن فيه جابرا من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله تعالى عنهما (يَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ) أي إلى المسجد يوم الجمعة.

ورواية المصنف رحمه الله تعالى مختصرة، ففي أوله قصة، وقد ساقه بتمامه مسلم في "صحيحه" من رواية أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: جاء سُليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سُليك قبل أن يُصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أركعت ركعتين؟ " قال: لا، قال:"قم، فاركعهما".

وفي رواية أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه، قال: جاء سُليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له:"يا سُليك قم، فاركع ركعتين، وتجوز فيهما"، ثم قال:"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوَّزْ فيهما".

(وَقَدْ خَرَجَ الإمَامُ) أي صعد المنبر للخطبة، سواء شرع في الخطبة، أم لا. وفي رواية لمسلم:"والإمام يخطب"، وموضع الجملة نصب على الحال من "أحدكم"، والرابط الواو (فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) زاد في رواية مسلم المذكورة:"وليتجوز فيهما"، أي ليخفف الركعتين، حتى يتفرغ لاستماع الخطبة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأمر فيه للندب، لا للوجوب للنصوص الدالّة على أنه لا يجب ما عدا الصلوات الخمس، كما مرّ تحقيقه في محله في "باب كم فُرضت الصلاة في اليوم والليلة" -4/ 458 و459.

وفيه دليل على مشروعية تحية المسجد بركعتين خفيفتين، واستحبابها حال الخطبة للداخل في تلك الحالة، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، وهو

ص: 189

الحق، وخالف في ذلك بعضهم، وسيأتي تحقيق القول فيه في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى.

(قَالَ شُعْبَةَ: يَوْمَ الْجُمُعَة) يعني أن شعبة الراوي عن عمرو بن دينار بَيّن أن المراد بالمجيء المذكور في هذا الحديث هو المجيء يوم الجمعة.

وظاهر هذه الرواية أن قوله: "يوم الجمعة" من كلام شعبة، وليس مرفوعاً، لكن رواية مسلم صريحة في كونه مرفوعاً، ولفظه من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة:"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام، فليُصلّ ركعتين". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -16/ 1395 - وفي "الكبرى" -16/ 1703 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 2/ 71 (م) 3/ 14 (أحمد)369. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان حكم الصلاة يوم الجمعة لمن جاء، وقد خرج الإِمام، وذلك أنه يستحبّ له أن يركع ركعتين.

ومنها: جواز صلاة تحية المسجد في الأوقات المكروهة، لأنها إذا لم تسقط في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها، فغيرها أولى.

ومنها: أن التحية لا تفوت بالقعود، لأنه ثبت أن سُليكاً دخل المسجد، فقعد، فقاله النبي صلى الله عليه وسلم:"قم، فاركع ركعتين"، لكن الظاهر أن هذا مقيد بالجاهل، والناسي، كما قاله بعضهم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لكن الظاهر إلخ" فيه نظر، بل عدم التقييد هو الظاهر؛ لأنه لو كان مقيداً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت ذلك منه.

والحاصل أن الجلوس لا يقطع مشروعية ركعتي تحية المسجد؛ إذ لا دليل عليه. والله تعالى أعلم.

ومنها: أن للخطيب أن يأمر وينهى، ويُبَيّن الأحكام في أثناء خطبته، ولا يقطع ذلك توالي الخطبة، بل إن ذلك من جملة الخطبة.

ومنها: ما قاله بعضهم: أنه يدلّ على أن المسجد شرط للجمعة، للاتفاق على أنه لا

ص: 190

تُشرع التحية لغير المسجد، وفيه نظر

(1)

.

ومنها: أنه يدلّ على جواز ردّ السلام، وتشميت العاطس في حال الخطبة، لأن أمرهما أخفّ، وزمنهما أقصر، ولاسيما رد السلام، فإنه واجب. قاله في "الفتح"

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة لمن جاء يوم الجمعة، والإمام يخطب:

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى:

اختلف أهل العلم في المرء يدخل المسجد يوم الجمعة، والإمام على المنبر، فقالت طائفة: يركع ركعتين، ويجلس، كذلك قال الحسن البصري، وفعل ذلك مكحول، وهو قول ابن عيينة، و-عبد الله بن يزيد- المقرىء، والشافعي، والحميديّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي ثور، ونفر

(3)

من أهل الحديث.

وقالت طائفة: يجلس، ولا يصلي، هذا قول محمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح، وشُريح، وقتادة، والنخعيّ، ومالك، والليث بن سعد، والثوريّ، وسعيد بن عبد العزيز، والنعمان.

وفيه قول ثالث، قاله أبو مِجْلَز، قال: إن شئت ركعت، وإن شئت جلست.

وفيه قول رابع، قاله الأوزاعيّ، قال: كان من هدي الناس أن يركع الرجل في منزله ركعتين عند خروجه إلى الجمعة، فمتى ركعهما، ثم جاء المسجد، فوجد الإِمام يخطب قعد، ولم يركع، وإن لم يكن ركع قبل خروجه، فلا يجلس حين يدخل المسجد حتى يركع.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: يصلي إذا دخل، والإمام يخطب ركعتين خفيفتين، صلى في منزله، أو لم يصلّ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك الداخل في المسجد، وأَمْرُهُ على العموم، ويؤكد ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه

(4)

.

ولا يقولنّ قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم خَصَّ بهما سُليكاً، لأن في حديث جابر رضي الله عنه جاء سُليكٌ الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:

(1)

قال الجامع: لا نظر فيه، بل هو الحق، فتأمل. والله تعالى أعلم.

(2)

جـ 3 ص 76 - 77.

(3)

عبارة ابن حزم في "المحلى" جـ 5 ص 70: "وجمهور أهل الحديث".

(4)

يعني حديث عمرو بن سُليمٍ، عن أبي قتادة مرفوعاً:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين". متفق عليه.

ص: 191

"قم، فاركع ركعتين، وتجوّز فيهما"، ثم قال:"إذا دخل أحدكم إلى الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، ويتجوّز فيهما".

قال: ومما يزيد ذلك ثباتًا فعل أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه ذلك، وهو الراوي بهذه

(1)

القصة، دخل، ومروان يخطب، فقام يصلي الركعتين، فجاء إليه الأحراس ليُجلسوه، فأبى حتى صلى الركعتين، وقال: ما كنت أدعهما لشيء بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث.

قال ابن المنذر رحمه الله: وفي قوله: "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين" بعد أن علّم سُليكاً أبينُ البيان بأن ذلك عامّ للناس انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى باختصار

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى في هذه المسألة، ورجحه حسنٌ جدًّا.

وقد حقق البحث في هذه المسألة الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح"، فذكر أدلّة الفريقين، وناقشها بما لا يوجد في غيره، فقال:

واستُدلّ به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد.

وتُعُقّب بأنها واقعة عين لا عُموم لها، فيحتمل اختصاصها بسُليك، ويدلّ عليه قوله في حديث أبي سعيد الذي أخرجه أصحاب السنن وغيرهم:"جاء رجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، والرجل في هيئة بذَّة، فقال له: "أصليت؟ "، قال: لا، قال: "صلّ ركعتين، وحَضَّ الناس على الصدقة

" الحديث، فأَمَرَهُ أن يصلي ليراه بعض الناس، وهو قائم، فيُتَصدَّق عليه.

ويؤيِّده أن في الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئة بذّة، فأمرته أن يُصلي ركعتين، وأنا أرجو أن يَفطن له رجل، فيُتَصدَّقَ عليه".

وعُرف بهذه الرواية الردّ على من طعن في هذا التأويل، فقال: لو كان كذلك لقال لهم: إذا رأيتم ذا بَذَّةٍ، فتصدّقوا عليه، أو إذا كان أحد ذا بذّة، فليقم، فليركع حتى يتصدّق الناس عليه.

والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتني في مثل هذا بالإجمال دون التفصيل، كما كان يصنع عند المعاتبة.

ومما يُضعف الاستدلال به أيضاً على جواز التحية في تلك الحال أنهم أطلقوا أن

(1)

هكذا نسخة "الأوسط" بالباء، ولعل الأولى "لهذه القصة" باللام.

(2)

"الأوسط" جـ 4 ص 94 - 96.

ص: 192

التحية تفوت بالجلوس.

وورد أيضاً ما يُؤكّد الخصوصية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسليك في آخر الحديث:"ولا تعودنّ لمثل هذا". أخرجه ابن حبان. انتهى ما اعتلّ به من طعن في الاستدلال بهذه القصّة على جواز التحيّة.

وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصيّة، والتعليل بكونه صلى الله عليه وسلم قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يُجيزون التطوّع لعلة التصدّق.

قال ابن المنيّر في "الحاشية": لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوّع عند طلوع الشمس، وسائر الأوقات المكروهة، ولا قائل به.

ومما يدلّ على أن أمره بالصلاة لم ينحصر في قصد التصدّق معاودته صلى الله عليه وسلم بأمره بالصلاة أيضًا في الجمعة الثانية بعد أن حَصَّلَ له في الجمعة الأولى ثوبين، فدخل بهما في الثانية، فتصدّق بأحدهما، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، أخرجه النسائي

(1)

، وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضاً، ولأحمد، وابن حبان أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرّات في ثلاث جمع، فدلّ على أن قصد التصدّق عليه جزء علّة، لا علّة كاملة.

وأما إطلاق من أطلق أن التحيّة تفوت بالجلوس، فقد حَكَى النووي في "شرح مسلم" عن المحققين أن ذلك في حق العامد العالم

(2)

، أما الجاهل، أو الناسي فلا، وحالُ هذا الداخل محمولة في الأولى على أحدهما، وفي المرّتين الأخريين على النسيان.

والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض للأمر بالإنصات، والاستماع للخطبة.

قال ابن العربي: عارض قصّةَ سُليك ما هو أقوى منها، كقوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قلتَ لصاحبك: أنصتْ، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت"، متفق عليه.

قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف، وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه، فمنع التشاغل بالتحيّة مع طول زمنها أولى.

وعارضوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب للذي دخل يتخطى رقاب الناس:"اجلس، فقد آذيت"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ

(3)

، وصححه ابن خزيمة، وغيره من حديث

(1)

سيأتي برقم 26/ 408 إن شاء الله تعالى.

(2)

قد سبق ترجيح القول بعدم الفوات بالجلوس للعامد أيضاً، فلا تغفل.

(3)

سيأتي برقم 20/ 1399.

ص: 193

عبد الله بن بُسر، قالوا: فأمره بالجلوس، ولم يأمره بالتحيّة.

وروى الطبرانيّ من حديث ابن عمر، رفعه:"إذا دخل أحدكم، والإمام على المنبر، فلا صلاة، ولا كلام، حتى يفرُغ الإِمام".

والجواب عن ذلك كلّه أن المعارضة التي تؤول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يُعمل بها عند تعذّر الجمع، والجمع هنا ممكن:

أما الآية، فليست الخطبة كلها قرآناً، وأما ما فيها من القرآن، فالجواب عنه كالجواب عن الحديث، وهو تخصيص عمومه بالداخل.

وأيضاً فمصلي التحيّة يجوز أن يُطلق عليه أنه منصت، فقد تقدّم في افتتاح الصلاة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال:"يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ " فأطلق على القول سراً السكوتَ.

وأما حديث ابن بُسْر رضي الله عنه، فهو أيضاً واقعة عين لا عموم فيها، فيحتمل أن يكون ترك أمره بالتحيّة قبل مشروعيتها، وقد عارض بعضهم في قصّة سُليك بمثل ذلك.

ويحتمل أن يُجمَعَ بينهما بأن يكون قوله له: "اجلس" أجب بشرطه، وقد عرف قوله للداخل:"فلا تجلس حتى تصلي ركعتين"، فمعنى قوله:"اجلس"، أي لا تتخطّ، أو ترك أمره بالتحيّة لبيان الجواز، فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحيّة، وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة.

ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدّم ليقرب من سماع الخطبة، فوقع منه التخطي، فأنكر عليه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذا الوجه هو الأولى والأقرب في الجواب من جميع الاحتمالات المذكورة. والله تعالى أعلم.

قال: والجواب عن حديث ابن عمر رضي الله عنه بأنه ضعيف، فيه أيوب ابن نَهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبو زرعة، وأبو حاتم، والأحاديث الصحيحة لا تُعَارَضُ بمثله.

وأما قصّة سُليك، فقد ذكر الترمذيّ أنها أصح شيء رُوي في هذا الباب، وأقوى.

وإجاب المانعون أيضاً بأجوبة غير ما تقدّم، اجتمع لنا منها زيادة على عشرة، أوردتها مُلخّصةً مع الجواب عنها، لتُستَفاد:

الأول: قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم لما خاطب سُليكاً سكت عن خطبته حتى فرغ سُليك من صلاته، فعلى هذا فقد جمع سُليك بين سماع الخطبة، وصلاة التحية، فليس فيه حجة لمن أجاز التحية، والخطيب يخطب.

والجواب أن الدارقطني الذي أخرجه من حديث أنس قد ضعفه، وقال: إن الصواب

ص: 194

أنه من رواية سليمان التيميّ مرسلاً، أو معضَلاً.

وقد تعقبه ابن المنير في "الحاشية" بأنه لو ثبت لم يسغ على قاعدتهم، لأنه يستلزم جواز قطع الخطبة لأجل الداخل، والعمل عندهم لا يجوز قطعه بعد الشروع فيه، لا سيما إذا كان واجباً.

الثاني: لما تشاغل النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبة سُليك سقط فرض الاستماع عنه، إذ لم يكن منه حينئذ خطبة لأجل تلك المخاطبة. قاله ابن العربي، وادعى أنه أقوى الأجوبة.

وتُعُقّب بأنه من أضعفها، لأن المخاطبة لما انقضت رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خطبته، وتشاغل سليك بامتثال ما أَمَره به من الصلاة، فصحّ أنه صلى في حال الخطبة.

الثالث: قيل: كانت هذه القصة قبل شروعه صلى الله عليه وسلم في الخطبة، ويدلّ عليه قوله في رواية الليث عند مسلم:"والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر".

وأجيب بأن القعود على المنبر لا يختصّ بالابتداء، بل يحتمل أن يكون بين الخطبتين أيضاً، فيكون كلمه بذلك، وهو قاعد، فلما قام يصلي قام النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة، لأن زمن القعود بين الخطبتين لا يطول.

ويحتمل أيضاً أن يكون الراوي تجوّز في قوله: "قاعد"، لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب.

الرابع قيل: كانت هذه القصّة قبل تحريم الكلام في الصلاة.

وتُعقّب بأن سُليكاً متأخر الإِسلام جداً، وتحريم الكلام متقدِّم، كما مرّ في موضعه، فكيف يُدّعَى نسخ المتأخر بالمتقدّم، مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.

وقيل: كانت قبل الأمر بالإنصات، وقد تقدّم الجواب عنه، وعورض هذا الاحتمال بمثله في الحديث الذي استدلّوا به، وهو ما أخرجه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنها:"إذا خرج الإمام، فلا صلاة، ولا كلام"، لاحتمال أن يكون ذلك قبل الأمر بصلاة التحيّة، والأولى في هذا أن يُقال على تقدير تسليم ثبوت رفعه يخصّ عمومه بحديث الأمر بالتحية خاصة، كما تقدَّم.

الخامس: قيل: اتفقوا على أنّ منع الصلاة في الأوقات المكروهة، يستوي فيه من كان داخل المسجد أو خارجه، وقد اتفقوا على أن من كان داخل المسجد يمتنع عليه التنفّل حال الخطبة، فليكن الآتي كذلك. قاله الطحاويّ.

وتُعُقّب بأنه قياس في مقابلة النَّصَّ، فهو فاسد. وما نقله من الاتفاق وافقه عليه الماورديّ وغيره.

وقد شذّ بعض الشافعية، فقال: ينبني على وجوب الإنصات، فإن قلنا به امتنع

ص: 195

التنفّل، وإلا فلا.

السادس. قيل: اتفقوا على أن الداخل، والإمام في الصلاة تسقط عنه التحية، ولا شكّ أن الخطبة صلاة، فتسقط عنه فيها أيضاً.

وتُعُقّب بأن الخطبة ليست صلاةً من كل وجه، والفرق بينهما ظاهر من وجوه كثيرة، والداخل في حال الخطبة مأمور بشغل البقعة بالصلاة قبل جلوسه، بخلاف الداخل في حال الصلاة، فإن إتيانه بالصلاة التي أقيمت يحصل المقصود، هذا مع تفريق الشارع بينهما، فقال:"إذا أقيصت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة"، وقد وقع في بعض طرقه:"فلا صلاة إلا التي أُقيمت"، ولم يقل ذلك في حال الخطبة، بل أمرهم فيها بالصلاة.

السابع: قيل: اتفقوا على سقوط التحيّة عن الإمام مع كونه يجلس على المنبر، مع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم، فيكون ترك المأموم التحية بطريق الأولى.

وتُعُقّب بأنه أيضاً قياس في مقابلة النصّ، فهو فاسد، ولأن الأمر وقع مقيّداً بحال الخطبة، فلم يتناول الخطيب.

وقال الزين ابن المنير: منع الكلام إنما هو لمن شهد الخطبة، لا لمن خطب، فكذلك الأمر بالإنصات، واستماع الخطبة.

الثامن: قيل: لا نُسلم أن المراد بالركعتين المأمور بهما تحية المسجد، بل يحتمل أن تكون صلاة فائتة، كالصبح مثلاً، قاله بعض الحنفيّة، وقوّاه ابن المنيّر في "الحاشية"، وقال: لعله صلى الله عليه وسلم كان كُشف له عن ذلك، وإنما استفهمه مُلاطفةً له في الخطاب، قال: ولو كان المراد بالصلاة التحيّةَ لم يحتج إلى استفهامه، لأنه قد رآه لمّا دخل.

وقد تولّى رده ابن حبان في "صحيحه"، فقال: لو كان كذلك لم يتكرر أمره له بذلك مرة أخرى، ومن هذه المادّة قولهم: إنما أمره بسنة الجمعة التي قبلها، ومستندهم قوله في قصّة سُليك عند ابن ماجه:"أصليت قبل أن تجيء"؛ لأن ظاهره قبل أن تجيء من البيت، ولهذا قال الأوزاعيّ: إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء، فلا يصلي إذا دخل المسجد.

وتعقّب بأن المانع من صلاة التحيّة لا يُجيز التنفل حال الخطبة مطلقاً.

ويحتمل أن يكون معنى: "قبل أن تجيء" أي إلى الموضع الذي أنت به الآن، وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخر المسجد، ثم تقدّم ليقرب من سماع الخطبة، كما تقدم في قصة الذي تخطى، ويؤكده أن في رواية لمسلم:"أصليت الركعتين" بالألف واللام، وهو للعهد، ولا عهدَ هناك أقرب من تحيّة المسجد، وأما سنة الجمعة التي قبلها، فلم يثبت فيها شيء، كما سيأتي في بابه.

ص: 196

التاسع: قيل: لا نسلم أن الخطبة المذكورة كانت للجمعة، ويدلّ على أنها كانت لغيرها قوله للداخل:"أصليت"، لأن وقت الصلاة لم يكن دخل.

وهذا ينبنى على أن الاستفهام وقع عن صلاة الفرض، فيحتاج إلى ثبوت ذلك، وقد وقع في حديث الباب

(1)

، وفي الذي يعده أن ذلك كان يوم الجمعة، فهو ظاهر في أن الخطبة كانت لصلاة الجمعة.

قال جماعة، منهم القرطبيّ: أقوى ما اعتمده المالكية في هذه المسألة عمل أهل المدينة خلفاً عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقاً.

وتُعُقّب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك، فقد ثبت فعل التحيّة عن أبي سعيد الخدري، وهو من فقهاء الصحابة، من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضاً.

فروى الترمذي، وابن خُزيمة، وصححاه عن عياض بن أبي سرح:"أن أبا سعيد الخدريّ دخل، ومروان يخطب، فصلى الركعتين، فأراد حَرَس مروان أن يمنعوه، فأبى حتى صلاهما، ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهما" انتهى.

ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحاً ما يخالف ذلك.

وأما ما نقله ابن بطال عن عمر، وعثمان، وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقاً، فاعتماده على روايات عنهم، فيها احتمالات، كقول ثعلبة ابن أبي مالك:"أدركت عمر، وعثمان -وكان الإِمام- إذا خرج تركنا الصلاة".

ووجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عَنَى بذلك من كان داخل المسجد خاصّة.

قال الحافظ العراقي في "شرح الترمذيّ": كلّ من نقل عنه -يعني من الصحابة- منع الصلاة، والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد، لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحيّة، وقد ورد فيها حديث يخصّها، فلا تترك بالاحتمال انتهى.

قال الحافظ: ولم أقف على ذلك صريحاً عن أحد من الصحابة.

وأما ما رواه الطحاويّ عن عبد الله بن صفوان أنه دخل المسجد، وابن الزبير يخطب، فاستلم الركن، ثم سلّم عليه، ثم جلس، ولم يركع.

وعبد الله بن صفوان، وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقد استدلّ به

(1)

يعني رواية البخاري، ولفظه: "جاء رجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة

" الحديث.

ص: 197

الطحاويّ، فقال: لما لم ينكر ابن الزبير على ابن صفوان، ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية دلّ على صحة ما قلناه.

وتُعُقّب بأن تركهم النكير لا يدلّ على تحريمها، بل يدلّ على عدم وجوبها، ولم يقل به مخالفوهم.

وسيأتي في أواخر الكلام على هذا الحديث البحث في أن صلاة التحيّة، هل تعمّ كلّ مسجد، أو يُستثنى المسجد الحرام، لأن تحيته الطواف؟

فلعل ابن صفوان كان يرى أن تحيّته استلام الركن فقط.

وهذه الأجوبة التي قدّمناها تندفع من أصلها بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: "إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يُصلي ركعتين". متفق عليه. وقد تقدّم الكلام عليه.

وورد أخصّ منه في حال الخطبة، ففي رواية شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب:"إذا جاء أحدكم، والإمام يخطب -أو قد خرج- فليُصلّ ركعتين" متفق عليه أيضاً، ولمسلم من طريق أبي سفيان، عن جابر، أنه قال ذلك في قصّة سُليك، ولفظه بعد قوله:"فاركعهما، وتَجَوَّزْ فيهما" ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما".

قال النووي: هذا نصّ لا يتطرّق إليه التأويل، ولا أظنّ عالماً يبلغه هذا اللفظ، ويعتقده صحيحاً، فيخالفه.

وقال أبو محمد بن أبي جمرة: هذا الذي أخرجه مسلم نصّ في الباب، لا يحتمل التأويل.

وحكى ابن دقيق العيد أن بعضهم تأوّل هذا العموم بتأويل مستكره.

وكأنه يُشير الى بعض ما تقدّم من إدعاء النسخ، أو التخصيص.

وقد عارض بعض الحنفية الشافعيّةَ بأنهم لا حجة لهم في قصّة سُليك، لأن التحيّة عندهم تسقط بالجلوس، وقد تقدّم جوابه.

وعارض بعضهم بحديث أبي سعيد رضي الله عنه رفعه: "لا تصلّوا، والإمام يخطب". وتعقّب بأنه لا يثبت، وعلى تقدير ثبوته، فيخصّ عمومه بالأمر بصلاة التحيّة.

وبعضهم بأن عمر رضي الله عنه لم يأمر عثمان رضي الله عنه بصلاة التحيّة مع أنه أنكر عليه الاقتصار على الوضوء.

وأجيب باحتمال أن يكون صلّاهما.

ص: 198

[فائدة]: قيل: يُخصّ عموم حديث الباب بالداخل في آخر الخطبة، كما تقدّم.

قال الشافعي رحمه الله: أرى للإمام أن يأمر الآتي بالركعتين، ويزيد في كلامه ما يُمكنُهُ الإتيان بهما قبل إقامة الصلاة، فإن لم يفعل كرهت ذلك.

وحكى النوويّ عن المحققين أن المختار إن لم يفعل أن يقف حتى تقام الصلاة، لئلا يكون جالساً بغير تحيّة، أو متنفّلاً حال إقامة الصلاة.

واستثنى المحاملي المسجد الحرام، لأن تحيّته الطواف.

قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر، لطول زمن الطواف بالنسبة إلى الركعتين.

والذي يظهر من قولهم: إن تحية المسجد الحرام الطواف، إنما هو في حقّ القادم، ليكون أول شيء يفعله الطواف، وأما المقيم، فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء، ولعل قول من أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف، لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين، فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالباً، وهو المقصود، ويختصّ المسجد الحرام بزيادة الطواف. والله تعالى أعلم انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخص مما تقدم أن المذهب الراحج في هذه المسألة هو ما ذهب إليه المجوّزون لأداء ركعتي التحية لمن دخل المسجد، والإمام يخطب؛ لوضوح أدلته، وضعف ما عارضه مما ذكره المانعون. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌17 - (مَقَامُ الإِمَامِ في الْخُطْبَةِ)

بفتح الميم: أي موضع قيامه.

1396 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ

(2)

، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ، يَسْتَنِدُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا صُنِعَ الْمِنْبَرُ، وَاسْتَوَى عَلَيْهِ،

(1)

"فتح" 3/ 72 - 77.

(2)

وفي النسخة "الهندية": "حدثه".

ص: 199

اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السَّارِيَةُ، كَحَنِينِ النَّاقَةِ، حَتَّى سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ، حَتَّى نَزَلَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاعْتَنَقَهَا، فَسَكَتَتْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابن جُريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة فقيه فاضل، يدلس، ويرسل [6] تقدّم 28/ 32.

2 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي، صدوق، يدلس [4] تقدم 31/ 35.

والباقون تقدّموا قريباً، فشيخه، وابن وهب، تقدما قبل بابين، والصحابي في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خمسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالمكيين، فقد سكن جابر مكة، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصريان. ومنها: أن فيه جابراً رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن جابر رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ يَسْتَنِدُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ) بكسر الجيم، وسكون الذال المعجمة، أي ساقها، قال الفيومى رحمه الله:"الجذع" بالكسر: ساق النخلة، ويُسمّى سَهْم السقف جذعاً، والجمع جُذُوع، وأجذاع انتهى (مِن سَوَاري الْمَسْجِد) متعلق بصفة محذوف لـ"جذوع"، أو حال منه.

و"السواري" جمع سارية، كجارية وجواري، وهي الأُسطوانة (فَلَمَا صُنعَ الْمنْبَرُ) بكسر الميم: مرقاة الخطيب، سمي منبراً لارتفاعه، وعُلُوِّه، ويقال: انتبر الأميرُ: ارتفع فوقا المنبر. أفاده في "اللسان".

وهذا المنبر صنعه له صلى الله عليه وسلم غلام امرأة من الأنصار، فقد أخرج البخاري عن أبي حازم، أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنه، وقد امْتَرَوا في المنبر ممَّ عُودُه، فسألوه عن ذلك؟ فقال: والله إني لأعرف مما هو؟، ولقد رأيته أول يوم وُضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة من الأنصار، قد سماها سهل، مُري غلامك النجّار أن يعمل لي أعواداً، أجلس عليهن، إذا كلمت الناس، فأمرته، فعملها من طَرْفاء الغابة، ثم جاء بها، فأَرسَلَتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ص: 200

فأمر بها، فوُضعت هاهنا، ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها، وكبّر، وهو عليها، ثم ركع، وهو عليها، ثم نزل القهقرى، فسجد في أصل المنبر، ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال:"أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا، ولتعَلَّموا صلاتي"

(1)

.

(وَاسْتَوَى عَلَيْه) أي ارتفع على ذلك المنبر (اضْطَرَبَت تِلْكَ السَّاريَةُ) أي تحركت (كَحَنين النَّاقَة، حَتَّى سَمعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِد) الظاهر أن قوله "كحنين الناقة" متعلق بمحذوف، أي وحَنَّتْ حَنيناً كحنين الناقة، أي كاشتياقها إلى ولدها، يقال: حنّت المرأة حَنيناً: اشتاقت إلى ولدها. قاله في "المصباح".

وفي رواية في "الكبرى": "اضطربت السارية كحنين الناقة الخَلُوج". والخَلُوج بفتح الخاء المعجمة، وضم اللام الخفيفة، آخره جيم: الناقة التي انتُزع منها ولدُها.

وفي رواية للبخاري من طريق أيمن، عن جابر رضي الله عنه:"فصاحت النخلة صياح الصبيّ"، وفي رواية له:"فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار". والعشار بكسر المهملة، بعدها معجمة خفيفة، جمع عُشَراء بضم، ففتح، وهي الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر.

وفي حديث أنس رضي الله عنه عند ابن خزيمة: "فحنّت الخشبة حنين الولد". وفي روايته الأخرى عند الدارميّ: "خَارَ ذلك الجذع كخُوَار الثور". وفي حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه عند أحمد، والدارميّ، وابن ماجه:"فلمّا جاوزه خار الجذع حتى تصدّع، وانشقّ".

(حَتَّى نَزَل إلَيْهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) أي من منبره (فَاعْتَنَقَها، فَسَكَتَتْ) وفي نسخة: "فسكنت". وفي رواية للبخاري: "ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم، فضمها إليه، تئنّ أنين الصبي الذي يُسكّن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها".

وفي رواية الإسماعيلي، من طريق يحيى بن السكن، عن معاذ: فأتاه، فاحتضنه، فسكن، فقال:"لو لم أفعل لما سكن"، ونحوه في حديث ابن عباس عند الدارمي بلفظ:"لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة"، ولأبى عوانة، وابن خُزيمة، وأبي نعيم في حديث أنس:"والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة، حزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر به، فدفن"، وأصله في الترمذيّ، دون الزيادة.

ووقع في رواية الحسن، عن أنس صلى الله عليه وسلم: "كان الحسن إذا حدّث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه، فأنتم أحقّ أن

(1)

"صحيح البخاري" جـ 2 ص 11.

ص: 201

تشتاقوا إليه".

وفي حديث أبي سعيد عند الدارمي: "فأمر به أن يحفر له، ويدفن".

ولا تنافي بين رواية دفنه وبين ما رُوي أنّ أبي بن كعب رضي الله عنه أخذ ذلك الجذع لمّا هُدم المسجد، فلم يزل عنده حتى بلي، وعاد رُفَاتًا. لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف، فأخذه أبي بن كعب رضي الله عنه. قاله في "الفتح".

وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عند أبي نعيم. "فقال: ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة؟ فأقبل الناس عليها، فسمعوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم".

وفي حديث بريدة رضي الله عنه عند الدارميّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه، فتكون كما كنت -يعني قبل أن تصير جذعاً- وإن شئت أن أغرسك في الجنة، فتشرب من أنهارها، فيحسن نبتك، وتثمر، فيأكل منك أولياء الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اختار أن أغرسه في الجنة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -17/ 1396 - وفي "الكبرى" -21/ 1710 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 1/ 122 و2/ 11 و3/ 80 و4/ 237. (ق) 1417 (أحمد) 3/ 293 و3/ 295 و3/ 300 و3/ 306 و3/ 324. (الدارمي) 33 و34 و35 و1570. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان مقام الإِمام في حال خطبته، ففيه بيان استحباب قيام الإِمام على المنبر، أو على محلّ مرتفع، حتى يسمع الناس خطبته.

ومنها: أن فيه آيةَ بينةً، ومعجزة باهرةً للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث حنّت إليه الجمادات، بينما يكذبه الذين يزعمون أنهم عقلاء، ويبغضونه، وهذا من العجب العُجَاب، ولقد أحسن من قال، وأجاب في المقال:

وَالْجَمَادَاتُ أَفْصَحَتْ بِالذِي أُخْـ .... ـرِسَ عَنْهُ لأَحْمَدَ الْفُصَحَاءُ

وَيْحَ قَوْمٍ جَفَوَا نَبِيًّا بِأَرْضٍ .... أَلِفَتْهُ ضِبَابَهُا وَالظِّبَاءُ

ص: 202

وَسَلَوْهُ وَحَنَّ جِذْعٌ إِلَيْهِ

وَقَلَوْهُ وَوَدَّهُ الْغُرَبَاءُ

قال البيهقي رحمه الله: قصّة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصّة فيها كالتكلّف.

ومنها: أن فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكاً، كالحيوان، بل كأشرف الحيوان.

ومنها: أن فيه تأييداً لقول من يحمل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] على ظاهره.

[فائدة]: نقل ابن أبي حاتم رحمه الله في "مناقب الشافعي"، عن أبيه، عن عمرو بن سوّاد، عن الشافعي رحمه الله، قال: ما أعطى الله نبيّاً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدًا صلى الله عليه وسلم حنين الجذع حتى سُمِع صوته، فهذا أكبر من ذلك انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في حكم الخطبة للجمعة:

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم في الجمعة تُصلى، ولم يُخطب لها، فقالت طائفة: تجزيهم جمعتهم، خطب الإِمام، أو لم يخطب، هكذا قال الحسن البصريّ.

قال ابن المنذر: ولعل من حجة قائل هذا القول حديث عمر رضي الله عنه: "صلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم".

وقالت طائفة: إذا لم يخطب الإِمام صلى أربعاً، كذلك قال عطاء، والنخعي، وقتادة، وبه قال سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، ويعقوب، ومحمَّد.

وروينا عن سعيد بن جبير أنه قال: كانت الجمعة أربعاً، فجعلت الخطبة مكان الركعتين. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى ردّاً على القائلين بالفرضية:

فأما أبو حنيفة، ومالك فقالا: الخطبة فرض، لا تجزىء صلاة الجمعة إلا بها، والوقوف في الخطبة فرض، واحتجّا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تناقضا، فقالا: إن خطب جالساً أجزأه، وإن خطب خطبة واحدة أجزأه، وإن لم يخطب لم يجزه.

قال: من الباطل أن يكون بعض فعله صلى الله عليه وسلم فرضاً، وبعضه غير فرض. وقال الشافعي:

(1)

"الأوسط" جـ 4 ص 59 - 60.

ص: 203

إن خطب خطبة واحدة لم تجزه الصلاة، ثم تناقض، فأجاز الجمعة لمن خطب قاعداً، والقول عليه في ذلك كالقول على أبي حنيفة ومالك في إجازتهما الجمعة بخطبة واحدة، ولا فرق.

قال: فإن ادعوا إجماعاً أكذَبهم ما رويناه عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن البصريّ: من لم يخطب يوم الجمعة صلى ركعتين على كلّ حال. وقد قاله أيضاً ابن سيرين.

قال: فإن قالوا: لم يصلّها صلى الله عليه وسلم قط إلا بخطبة.

قلنا: ولا صلاها صلى الله عليه وسلم قط إلا بخطبتين قائماً يجلس بينهما، فاجعلوا كل ذلك فرضاً لا تصح الجمعة إلا به، ولا صلى صلى الله عليه وسلم قط إلا رفع يديه في التكبيرة الأولى، فأبطلوا الصلاة بترك ذلك. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله تعالى باختصار.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أنّ ما ذهب إليه من قال بعدم وجوب الخطبتين هو الحقّ، لأنه لا دليل على الوجوب إلا مجرّد فعل النبى صلى الله عليه وسلم، وهو لا يكفى في إثبات الوجوب، كما هو مقرر في محله من كتب الأصول، وسيأتي تمام البحث في ذلك في "باب كم الخطبة" 33/ 1415 إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌18 - (قِيَامُ الإِمَامِ في الْخُطْبَةِ)

1397 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ، يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا، يَخْطُبُ قَاعِدًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ) أبو الحسين البصري، ثقة [10] تقدم 39/ 583.

ص: 204

2 -

(مُحَمَّد بْنُ جَعْفَر) المعروف بغندر البصري، ثقة [9] تقدم 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج المذكور قبل باب.

4 -

(منصور) بن المعتمر الكوفي الحجة المثبت المشهور [6] تقدم 2/ 2.

5 -

(عمرو بن مُرّة) الْجَمَليّ الكوفي، ثقة عابد [5] تقدم 171/ 265.

6 -

(أبو عُبيدة) بن عبد الله بن مسعود الكوفي، ثقة، من كبار [3] تقدم 55/ 622.

7 -

(كعب بن عُجرة) الأنصاريّ المدني الصحابي رضي الله عنه، تقدم 86/ 104. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها أن رجاله رجال الصحيح، غير أبي عبيدة، فإنه من رجال الأربعة. ومنها: أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبالكوفيين بعده. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أي عن قصته (قَالَ) الفاعل ضمير أبي عبيدة، وليس ضميرَ كعب رضي الله عنه، أي قال أبو عبيدة (دَخَلَ الْمَسْجدَ) الفاعل ضمير كعب رضي الله عنه، يعني أن كعب بن عُجرة دخل المسجد، وهو مسجد الكوفة (وَعَبْدُ الرحْمَن ابْنُ أُمِّ الْحَكَم) -بفتح المهملة، والكاف- هكذا هو عند المصنف، وصحيح مسلم "ابن أم الحكم"، ووقع في "سنن الكبرى" للبيهقي "ابن الحكم" بدون "أم".

وعبد الرحمن بن أم الحكم: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الله بن عثمان الثقفي، المعروف بابن أم الحكم، وهو ابن أخت معاوية بن أبي سفيان بن حرب، استعمله معاوية رضي الله عنه أميراً على الكوفة في سنة (58)، وبعد سنة، أو أكثر عُزل عنها، توفي بعد معاوية سنة (83)

(1)

.

فـ"عبد الرحمن" مبتدأ، خبره جملة (يخطب) وقوله (قاعداً) حال من فاعل "يخطب"، وجملة المبتدإ والخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل "دخل"، فالحالان متداخلان.

يعني أن كعب بن عجرة رضي الله دخل المسجد، والحال أن عبد الرحمن ابن أم

(1)

انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 5/ 229 و"مشاهير علماء الأمصار" ص 106 و"الكامل" لابن الأثير 3/ 515.

ص: 205

الحكم يخطب الناس قاعداً، مخالفاً للسنة.

(فَقَالَ) أي كعب منكراً عليه (انظُرُوا إلى هَذَا) وفي رواية مسلم: "انظروا إلى هذا الخبيث"، وهذا من غاية غضب هذا الصحابي الجليل على مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَخْطُبُ قَاعداً) مع كونه السنة أن يخطب قائماً. وفي رواية ابن خزيمة

(1)

: "ما رأيت كاليوم قطّ إماماً يؤم المسلمين يخطب، وهو جالس، يقول ذلك مرتين".

(وَقَدْ قَالَ اللهُ عز وجل جملة في محل نصب على الحال من فاعل "يخطب"، والرابط الواو (وَإذَا رَأَوْا) أي أبصروا، أو عرفوا (تجَارَةً) أي بيعاً وشراءاً (أَوْ لَهْواً) قيل: المراد الطبل الذي كان يُضرب عند قدوم التُّجَّار (انْفَضُّوا) أي تفرّقوا (إليها) أي إلى تلك التجارة، وما ذكر معها، فيكون من باب الاكتفاء، ومراعاة أقرب المذكورَين، أو اختصّت بالذكر، لأنها المقصود الأعظم من الأمرين، فإن الطبل كان لإعلام مجيء أسباب التجارة (وَتَرَكُوكَ قَائماً) أي حال كونك قائماً على المنبر، تخطب الناس.

وقال الطيبي رحمه الله: قوله: "وقد قال الله" حال مقَرِّرة لجهة الإنكار، أي كيف يخطب قاعداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، بدليل قوله تعالى:{وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} ، وذلك أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء، فقدم تجارة من زيت الشام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فتركوه قائماً، وما بقي معه إلا نفر يسير انتهى.

وقال النووي رحمه الله: هذا الكلام يتضمن إنكار المنكر، والإنكار على ولاة الأمور، إذا خالفوا السنة.

ووجه استدلاله بالآية أن الله أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم-كان يخطب قائماً، وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، مع قوله تعالى:{فَاتَّبِعُوهُ} ، وقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي" انتهى

(2)

.

وسبب نزول هذه الآية ما أخرجه الشيخان من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير، تحمل طعاماً، فالتفتوا إليها، حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} .

وفي رواية لمسلم: "إلا اثنا عشر رجلاً، فيهم أبو بكر، وعمر"، وفي رواية أخرى:"أنا فيهم".

(1)

هكذا عزاه في "الفتح" جـ 3 ص 64 إلى ابن خزيمة، ولم أره في "صحيحه"، فالله أعلم.

(2)

"شرح صحيح مسلم" جـ 6 ص 152.

ص: 206

وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي: "أن سالماً مولى أبي حذيفة منهم". وروى العقيلي عن ابن عباس: "أن منهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وأُناساً من الأنصار". وحكى السهيليّ أن أسد بن عمرو روى بسند منقطع: أن الاثني عشر هم العشرة المبشرة، وبلال، وابن مسعود. قال: وفي رواية "عمار" بدل ابن مسعود انتهى.

قال الحافظ: ورواية العقيلي أقوى، وأشبه بالصواب.

قال: ثم وجدت رواية أسد بن عمرو عند العقيلي بسند متصل، لا كما قال السهيليّ: إنه منقطع، أخرجه من رواية أسد، عن حُصين، عن سالم -يعني ابن أبي الجعد- عن جابر رضي الله عنه انتهى.

ومعنى قوله: "نصلي" أي ننتظر الصلاة، لما في رواية مسلم:"كان يخطب قائماً" من تسمية الشيء بما قاربه.

قال في "الفتح" عند قوله: "فنزلت هذه الآية": ظاهر في أنها نزلت بسب قدوم العير المذكورة، والمراد باللَّهو على هذا ما ينشأ من رؤية القادمين، وما معهم.

ووقع عند الشافعي من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلاً:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، وكانت لهم سوق كانت بنو سُليم يجلبون إليها الخيل، والإبل، والسمن، فقدموا، فخرج إليهم الناس، وتركوه، وكان لهم لهو يضربونه، فنزلت".

ووصله أبو عوانة في "صحيحه"، والطبري بذكر جابر فيه:"أنهم كانوا إذا نكحوا تضرب الجواري بالمزامير، فيشتدّ الناس إليهم، ويَدَعُون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قائماً، فنزلت هذه الآية".

وفي مرسل مجاهد عند عَبْد بن حُمَيد: "كان رجال يقومون إلى نواضحهم، وإلى السَّفر يَقدَمُون، يبتغون التجارة، واللَّهوَ، فنزلت".

ولا بُعد في أن تنزل في الأمرين معاً وأكثر.

قال: والنكتة في قوله: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} دون قوله: إليهما، أو إليه أن اللَّهو لم يكن مقصوداً لذاته، وإنما كان تبعاً للتجارة، أو حُذف لدلالة أحدهما على الآخر. وقال الزجّاج: أعيد الضمير إلى المعنى، أي انفضّوا إلى الرؤية، أي ليروا ما سمعوه.

قال: وقد استشكل الأصيلي رحمه الله هذا الحديث، فقال: إن الله تعالى قد وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} .

ثم أجاب باحتمال أن هذا الحديث كان قبل نزول الآية انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا الذي قاله هو الذي يتعين المصير إليه، مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك، فلم يكن تقدّم لهم نهي عن

ص: 207

ذلك، فلما نزلت آية الجمعة، وفهموا منها ذمّ ذلك اجتنبوه، فوُصفوا بعد ذلك بما في آية النور. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث كعب بن عُجرة رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: فى بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -18/ 1397 - وفي "الكبرى" -22/ 1712 - بالإسناد المذكور. وأخرجه (م) 3/ 10 (البيهقي) 3/ 196و197. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان مشروعية قيام الإِمام على المنبر في حال الخطبة.

ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الغضب على من خالف السنة، ولو كان ممن تجب طاعته، واحترامه من ولاة الأمور، لأنه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.

ومنها: ذمّ الاشتغال بالتجارة، واللهو، وإيثار ذلك عن ذكر الله وطاعته، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في حكم القيام للخطبة:

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار ما يفعله الأئمة، وهو جلوس الإِمام على المنبر أولَ ما يرقى إليه، ويؤذّن المؤذن، والإمام جالس، فإذا فرغ المؤذن من الأذان قام الإِمام، فخطب خطبةً، ثم جلس، وهو في حال جلوسه غير خاطب، ولا يتكلم، ثم يقوم فيخطب الخطبة الثانية، ثم ينزل عند فراغه انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(2)

.

ونقل غيره عن أبي حنيفة أن القيام في الخطبة سنة، وليس بواجب، وعن مالك رواية أنه واجب، فإن تركه أساء، وصحت الخطبة، وعند الباقين أن القيام في الخطبة يشترط للقادر كالصلاة.

(1)

"فتح" 3/ 91 - 94.

(2)

"الأوسط" 4/ 59.

ص: 208

واستُدلّ للأول بحديث أبي سعيد رضي الله عنه عند البخاري: "إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله". وبحديث سهل رضي الله عنه عند البخاري أيضاً: "مري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن

".

وأجيب عن الأول بأنه كان في غير خطبة الجمعة. وعن الثاني باحتمال أن تكون الإشارة إلى الجلوس أول ما يصعد، وبين الخطبتين.

واستُدلّ للجهور بحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه عند مسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب قائماً، فمن نبّأك أنه كان يخطب جالساً، فقد كذب".

وبحديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه المذكور في الباب.

وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس: "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على القيام، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وأول من جلس على المنبر معاوية".

وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعاً في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بالجلوس، ولأن الذي نُقل عنه القعود كان معذوراً.

فعند ابن أبي شيبة من طريق الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعداً لما كثر شحم بطنه ولحمه.

وروى سعيد بن منصور عن الحسن، قال:"أول من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان، وكان إذا أعيى جلس، ولم يتكلم حتى يقوم، وأول من خطب جالساً معاوية".

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كانوا يخطبون يوم، الجمعة قياماً، حتي شقّ على عثمان القيام، فكان يخطب قائماً، ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالساً، والأخرى قائماً".

ولا حجة في ذلك لمن أجاز الخطبة قاعداً؛ لأنه تبين أن ذلك للضرورة.

وأما من احتجّ بأنه لو كان شرطاً ما صلى من أنكر ذلك مع القاعد.

فجوابه أنه محمول على أن من صنع ذلك خشي الفتنة، أو أن الذي قعد باجتهاد، كما قالوا في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكر ابن مسعود، ثم إنه صلى خلفه، فأتمّ معه، واعتذر بأن الخلاف شرّ. ذكره في "الفتح".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن القول بعدم وجوب القيام للخطبة هو الحقّ، لأن من أوجبه ما استدلّ إلا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بمجرده لا يكفي في إثبات الوجوب، فالمستحب أن يخطب قائماً، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، إلا

ص: 209

عثمان، فكان يخطب قائماً، ثم يجلس، لما شقّ عليه، وأما الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم:"صلّوا كما رأيتموني أصلي" فقد اتفقوا على عدم الاحتجاج به في بعض المواضع، كالجلوس على المنبر قبل الخطبة، والأذان بين يدي الخطيب، وقراءة سورة {ق} ، فكان يقرأ بها في كل جمعة، وغير ذلك، فلم يقولوا بوجوبها، فكذلك هنا، إذ لا فرق بينها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌19 - (بَابُ الْفَضْلِ في الدُّنُوِّ مِنَ الإِمَامِ)

1398 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ الْحَارِثِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ غَسَّلَ، وَاغْتَسَلَ، وَابْتَكَرَ، وَغَدَا، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ، وَأَنْصَتَ، ثُمَّ لَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ كَأَجْرِ سَنَةٍ، صِيَامِهَا، وَقِيَامِهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمود بن خالد) أبو علي الدمشقي، ثقة، من صغار [10] تقدم 45/ 595.

2 -

(عمر بن عبد الواحد) بن قيس السلمي الدمشقي، ثقة [9] تقدم 45/ 56.

والباقون تقدّموا في 10/ 1381 - والحديث صحيح، وقد استوفيتُ شرحه وبيان مسائله بالرقم المذكور، وبالله تعالى التوفيق.

ودلالة الحديث على ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى واضحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 210

‌20 - (النَّهْيُ عَنْ تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ وَالإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن التقييد يكون الإِمام على المنبر، وبيوم الجمعة خرج مخرج الغالب، لكثرة الناس في ذلك الوقت، فلا يُفهم منه جواز التخطي في سائر الصلوات، وكذا حلق الذكر، والعلم، لوجود العلة، وهي الأذى. والله تعالى أعلم بالصواب.

1399 -

(أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا إِلَى جَانِبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ، يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيِ اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(وهب بن بَيَان) بن حَيّان الواسطيّ، أبو عبد الله نزيل مصر، ثقة عابد [10].

روى عن ابن عُيينة، وابن وهب، وعَبيدة بن حُميد، وغيرهم. وعنه أبو داود، والنسائيّ، وأحمد بن إبراهيم بن فيل، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق لا بأس به. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال مسلمة: ثقة رجل صالح. وقال أبو داود: وأهل مصر يقولون: إنه بدل من الأبدال.

قال ابن يونس: توفي في ربيع الآخر سنة (246). انفرد به أبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

2 -

(ابن وهب) تقدم قبل بابين.

3 -

(معاوية بن صالح) بن حُدير الحمصي، قاضي الأندلس، صدوق له أوهام [7] تقدم 50/ 62.

4 -

(أبو الزاهريّة) حُدير بن كُريب الحضرميّ الحمصيّ، صدوق [3] تقدم 31/ 923.

5 -

(عبد الله بن بُسر) بن أبي بُسر المازني القيسيّ، أبو بسر، ويقال: أبو صفوان، له ولأبيه صحبة، سكن حمص.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه إن كان محفوظاً، وأخته الصمّاء، وقيل: عمته، وقيل: خالته. وروى عنه أبو الزاهرية، وخالد بن مَعْدان، وسُليم بن عامر، وغيرهم.

ص: 211

قال ابن سعد وغيره: مات سنة (88) بالشام، وقال بعضهم: بحمص، وهو ابن (94) سنة، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.

وقال أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد الحمصيّ في الصحابة الذين نزلوا حمص: مات عبد الله بن بُسر سنة (96) وله مائة سنة، وكذا ذكره أبو نعيم في "معرفة الصحابة"، وساق في ترجمته حديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه، فقال:"يعيش هذا الغلام قرناً"، فعاش مائة سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به أبو داود، والمصنف. ومنها: أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصريان. ومنها: أن صحابيه ذكر في هذا الباب فقط. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ) حُدير بن كُريب (عَنْ عَبْد الله بن بُسْر) رضي الله عنهما (قَالَ) القائل هو أبو الزاهرية (كُنْتُ جَالساً إلَى جَانبه) أي جانب عبد الله بن بسر (يَوْمَ الْجُمُعَة) زاد في رواية أبي داود: "فجاء وجل يتخطّى رقاب الناس"، ولفظ ابن خزيمة:"كنت جالساً مع عبد الله بن بسر يوم الجمعة، فما زال يحدثنا حتى خرج الإِمام، فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، فقال لي: جاء رجل يتخطى رقاب الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: "اجلس، فقد آذيت، وآنيت" (فَقَال) أي عبد الله بن بُسر رضي الله عنه (جَاء رَجُلٌ، يَتَخَطَّى رقَابَ النَّاس) زاد في "الكبرى": "يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس" (فَقَالَ له رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَي اجْلِسْ) وفي "الكبرى": "اجلس" بدون "أي"، وهو الذي في أبي داود، وغيره.

ولعل "أي" هنا تفسيرية، على أنّ "قال" بمعنى أشار، فإنها تأتي تفسيراً للجملة كما قاله ابن هشام في "مغنيه"

(1)

، ومنه قولهْ

وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبُ

وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إِيَّاكِ لَا أَقْلِي

(فَقَدْ آذَيْتَ) الفاء للتعليل، أي لأنك قد آذيت الناس. وفي رواية أحمد، وابن

(1)

راجع "مغني اللبيب" جـ 1 ص 76 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

ص: 212

خزيمة: "فقد آذيت، وآنيت"، أي أبطأت عن المجيء في أوائل الناس، فوقعت في إيذائهم.

والحديث يدلّ على تحريم إيذاء الناس بتخطي رقابهم، وليس هذا خاصاً بيوم الجمعة لعموم العلة، كما سبقت الإشارة إليه أولى الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن بُسر رضي الله عنهما هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -20/ 1399 - وفي "الكبرى" -18/ 1706 - بالسند المذكور.

وأخرجه (د) 1118 (أحمد) 4/ 188 و4/ 190 (ابن خزيمة)1811. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف العلماء في حكم التخطي يوم الجمعة:

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى:

قد اختلف أهل العلم في تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، فنهت طائفة عن ذلك، وكرهته، وممن روينا عنه أنه كره ذلك أبو هريرة، وسلمان الفارسيّ، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وقال أحمد، وسئل عن التخطي إلى الصفّ الأول، قال: لا يتخطى رقاب الناس.

وجوَّزت طائفة ذلك، كان قتادة يقول: لا بأس أن يتخطى رقاب الناس إلى مجلسه. وقال الأوزاعيّ في قوم جُلُوس على باب المسجد، وخلفهم مُتسعٌ، لا بأس أن يتخطاهم إلى السعة.

وفيه قول ثالث: وهو أن التخطى إذا خرج الإِمام، وقعد على المنبر، فمن تخطى حينئذ، فهو الذي فيه الحديث، فأما قبل ذلك فلا بأس به إذا كانت بين يديه فرَج، وليَرْفُقْ في ذلك، هذا قول مالك، وقد روينا عن قتادة أنه رخّص أن يتخطى إلى مجلسه، إن كان له قبل أن يخرج الإِمام، فإذا خرج، فليجلس في أدنى مجلس.

وفيه قول رابع: قال الشافعي: أكره تخطى رقاب الناس يوم الجمعة قبل دخول الإِمام وبعده، لما فيه من الأذى لهم، وسوء الأدب، فإن كان تخطيه إلى الفرجة بواحد، أو اثنين رجوت أن يسعه التخطي، وإن كثر كرهته له، إلا أن لا يجد السبيل إلى مُصَلَّى يُصلي فيه الجمعة، إلا أن يتخطى، فيسعه التخطي إن شاء الله.

ص: 213

وفيه قول خامس: وهو أن يتخطى بإذن القوم الذين يتخطاهم، روينا عن أبي نضرة أنه كان يجيء يوم الجمعة، وقد اجتمعوا، فيقول: أتأذنون لي أن أتخطاكم، فيتخطَّى إلى مجلسه.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: تخطي رقاب الناس غير جائز؛ لحديث عبد الله بن بسر رضي الله عنهما، ولا فرق بين القليل والكثير منه، لأن الأذى لا يجوز منه شيء أصلاً، وإذا جاء فوسعوا له، فتخللَّهم، ولم يتخطاهم، فهو غير داخل فيما نهُي عنه، والله أعلم انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله تعالى حسنٌ جدّاً.

وحاصله أن التخطي مطلقاً غير جائز لتحريم أذى المسلمين، فإن أذنوا له جاز؛ لانعدام العلة، وهي الأذى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌21 - (بَابُ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَنْ جَاءَ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدم للمصنف رحمه الله تعالى قبل أربعة أبواب "باب الصلاة يوم الجمعة لمن جاء، وقد خرج الإِمام"، وأورد فيه حديث جابر رضي الله عنه:"إذا جاء أحدكم، وقد خرج الإِمام، فليصلّ ركعتين"، وحديثا البابين واحد، ولذلك ساقه مسلم من رواية أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه مساقاً واحداً، ولفظه:"جاء سُليك الغَطَفَاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له: "يا سُليك قم، فاركع ركعتين، وتجوّز فيهما"، ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما". ومعنى الترجمتين متقارب، فكان الأولى له أن يكتفي بإحدى الترجمتين، ويورد الحديثين تحتها. والله تعالى أعلم بالصواب.

1400 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، وَيُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا

(1)

"الأوسط" جـ 4 ص 84 - 86.

ص: 214

حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ لَهُ:"أَرَكَعْتَ رَكْعَتَيْنِ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَارْكَعْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إبراهيم بن الحسن) المصّيصيّ، ثقة [1] تقدم 51/ 64.

2 -

(يوسف بن سعيد) بن مسلم المصّيصيّ، ثقة حافظ [11] تقدم 131/ 198. وهو من أفراد المصنف.

3 -

(حجّاج) بن محمد الأعور المصيصي، ثقة ثبت [8] تقدم 28/ 32.

4 -

(ابن جُريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، يدلس [6] تقدم 28/ 32.

والباقيان تقدّما قريباً في -16/ 1395 - وكذا شرح الحديث، وبيان المسائل المتعلقة به، فراجعها هناك، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌22 - (بَابُ الإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

1401 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، أَنْصِتْ، فَقَدْ لَغَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإِمام الفقيه الحجة المثبت [7] تقدم 31/ 35.

3 -

(عُقيل) بن خالد الأيلي، ثقة ثبت [6] 125/ 187.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم المدني، ثقة ثبت حجة [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(سعيد بن المسيب) المدني، ثقة ثبت فقيه، من كبار [3] تقدم 9/ 9.

ص: 215

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أن نصفه الأولى مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أحد الفقهاء السبعة، سعيد، وفيه أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه رَأْسُ المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وعند البخاري تصريح كل من الزهري، وسعيد بالإخبار، ولفظه:"عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".

قال في "الفتح": هكذا رواه يحيى بن بُكير، عن الليث، ورواه شعيب بن الليث، عن أبيه، فقال:"عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عُمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، عن أبي هريرة" أخرجه مسلم، والنسائي -يعني الإسناد التالي- والطريقان معاً صحيحان، وقد رواه أبو صالح، عن الليث بالإسنادين معاً، أخرجه الطحاويّ، وكذا رواه ابن جُريج وغيره عن الزهريّ بهما، أخرجه عبد الرزّاق وغيره، ورواه مالك عند أبي داود، وابن أبي ذئب عند ابن ماجه، كلاهما عن الزهريّ بالإسناد الأول انتهى.

(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ)"من" شرطية مبتدأ، ولفظ الرواية التالية:"إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة، والإمام يخطب: أنصت، فقد لغوت".

والمراد بصاحبه هو الذي يخاطبه إذ ذاك، أو جليسه، وإنما ذكر الصاحب لكونه الغالب.

(يَوْمَ الْجُمُعَة) متعلق بـ"قال"، وفي هذا التقييد دلالة على أن خطبة غير الجمعة، كالعيد، والكسوف، والاستسقاء ليست كالجمعة، فلا يجب الإنصاف لها، ولا يحرم الكلام فيها، واستماعها مستحبّ فقط، لأنها غير واجبة، وقد صرّح بذلك أصحاب الشافعي، وحكى ابن عبد البرّ عن عطاء، قال: يحرم الكلام ما كان الإِمام على المنبر، وإن كان قد ذهب في غير ذكر الله، قال: ويوم عرفة، والعيدين كذلك في الخطبة انتهى

(1)

.

(1)

"طرح التثريب" جـ 3 ص 202 - 203.

ص: 216

قال الجامع عما الله تعالى عنه: لكن مذهب المصنّف رحمه الله أنه يرى أن خطبة العيد كخطبة الجمعة يجب الإنصاف لها، فسيأتي له في "كتاب العيد" ترجمة بلفظ:"الإنصاتُ للخطبة"، ثم ساق حديث أبي هريرة المذكور بلفظ:"إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت". فأخذ من إطلاقه شمول الحديث لخطبة العيد. وفيه بحث، سيأتي هناك إن شاء الله تعالى.

(وَالإِمَامُ يَخْطُبُ) جملة حالية من فاعل "قال"، والرابط الواو. وفيه دلالة بأن ابتداء الإنصات من الشروع في الخطبة، وأن النهي من الكلام يختص بحال الخطبة، وردٌّ على من جعل وجوب الإنصات، والنهي عن الكلام من خروج الإِمام، نعم الأولى والأحسن الإنصات منه.

قال الجامع عفا الله عنه: كذا قيل: لكن ما تقدّم في رواية المصنف: "إذا جاء أحدكم، وقد خرج الإِمام، فليُصلّ ركعتين" يدلّ لمن قال بأن الإنصات من خروج الإمام، فقولهم أولى بالصواب. فليُتَنبَّه. والله تعالى أعلم.

(أَنْصتْ) قال في "الصحاح": الإنصاف السكوت، والاستماع للحديث. وقال في "المشارق": السكوت والاستماع لما يقال. وقال في "النهاية": أنصت: سَكَتَ سُكُوتَ مُستَمِع.

وهذه العبارة متفقة في المعنى، واقتصر في "المحكم" على أنه السكوت، ويوافقه عطفه في التنزيل على الاستماع في قوله تعالى:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .

قال وليّ الدين رحمه الله تعالى: وكذا قال أصحابنا الفقهاء: الإنصات هو السكوت، والاستماع شغل السمع بالسماع.

ويستعمل رباعيّاً، وهو أفصح، وثلاثيّاً، فيقال: أنصت، ونَصَتَ، فيجوز في قوله هنا:"انصت" قطع الهمزة، ووصلها، والأول أفصح، وأشهر، والصاد مكسورة على كلّ حال انتهى

(1)

.

(فَقَدْ لَغَا)، وفي رواية لمسلم:"إذا قلت لصاحبك أنصت، فقد لغيت" بالياء، قال أبو الزناد: هي لغة أبي هريرة. وفي رواية هَمّام عن أبي هريرة مرفوعاً: "إذا قلت للناس أنصتوا، وهم يتكلّمون، فقد ألغيت على نفسك"

(2)

.

قال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. وقال ابن عرفة: اللغو السقط من القول. وقيل: الميل عن الصواب. وقيل: اللغو الإثم، كقوله تعالى:

(1)

"طرح" 3/ 191.

(2)

أي أبطلت جمعتك على نفسك.

ص: 217

{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} .

وقال الزين ابن المنيّر: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام. وأغرب أبو عُبيد الهروي في "الغريب"، فقال: معنى لغا: تكلّم، كذا أطلق، والصواب التقييد.

وقال النضر بن شُميل: معنى لغوتَ خبتَ من الأجر. وقل: بطلت فضيلة جمعتك. وقيل: صارت جمعتك ظهراً.

قال الحافظ: أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى، ويشهد للقول الأخير ما رواه أبو داود، وابن خزيمة من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً:"ومن لغا، وتخطّي رقاب الناس كانت له ظهراً". قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأت عنه الصلاة، وحُرم فضيلة الجمعة. ولأحمد من حديث عليّ مرفوعاً:"من قال: صَهْ، فقد تكلم، ومن تكلّم، فلا جمعة له"، ولأبي داود نحوه، ولأحمد، والبزّار من حديث ابن عباس مرفوعاً:"من تكلّم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فهو كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت ليست له جمعة"، وله شاهد قويّ في "جامع حماد بن سلمة"، عن ابن عمر موقوفاً.

قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة، للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه.

وحكى ابن التين عن بعض من جوّز الكلام في الخطبة أنه تأول قوله: "فقد لغوت"، أي أمرت بالإنصات من لا يجب عليه، وهو جمود شديد، لأن الإنصات لم يُختَلَف في مطلوبيته، فكيف يكون من أمر بما طلبه الشرع لاغياً، بل النهي عن الكلام مأخوذ من حديث الباب بدلالة الموافقة، لأنه إذا جُعل قوله:"أنصت" مع كونه أمراً بمعروف لغواً، فغيره من الكلام أولى أن يُسمّى لغواً.

وقد وقع عند أحمد من رواية الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه في آخر هذا الحديث بعد قوله:"فقد لغوت""عليك بنفسك"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

"فتح" 3/ 80.

ص: 218

أخرجه هنا -22/ 1401 - وفي "الكبرى" -31/ 1728 - عن قتيبة، عن الليث، عن عُقيل، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عنه. وفي 22/ 1402 - و"الكبرى" -31/ 1727 - عن عبد الملك بن شُعيب بن الليث، عن أبيه، عن جده، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وعن سعيد بن المسيب، كلاهما عنه. وفي -21/ 1577 - و"الكبرى" -15/ 1780 - عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم، عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب به. وفي "الكبرى" -31/ 1726 - عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن مالك به.

وأخرجه (خ) 2/ 16 (م) 3/ 4 و5 (د) 1112 (ت) 512 (ق) 1110 (مالك في الموطأ) 85 (الحميدي) 966 (أحمد) 2/ 244 و2/ 272 و2/ 280 و2/ 393 و2/ 396 و2/ 474 و2/ 485 و2/ 518 و2/ 532 (الدارمي) 1556 و1557 و1558 (ابن خزيمة) 1805 و1806. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في حكم الكلام حال الخطبة:

قال الحافظ وهي الدين العراقي رحمه الله: ما حاصل: استُدلّ بحديث الباب على وجوب الإنصات للخطبة، وتحريم الكلام فيها، لأنه إذا لم تغتفر هذه الكلمة -يعني "أنصت"- مع خفتها، وكونها أمراً بمعروف محتاج إلبه في تلك الحالة، فما عداها أولى بالمنع.

وهذا أحد قولي الشافعي، نصّ عليه في "القديم"، و"الإملاء"، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو المشهور من مذهب أحمد.

وقال ابن المنذر: نَهَى عثمان، وابن عمر عن الكلام، والإمام يخطب، وقال ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم، والإمام يخطب فاقرَع رأسه بالعصا، وكره مالك ذلك، وابن عباس، والشافعي، وعوامّ أهل العلم.

وقال الترمذي في "جامعه" بعد رواية هذا الحديث: والعمل عليه عند أهل العلم، كرهوا للرجل أن يتكلّم، والإمام يخطب.

قال الحافظ العراقي في "شرح الترمذي": والمتقدّمون يُطلقون كثيراً الكراهة، ويريدون التحريم انتهى.

وقال ابن بطّال: جماعة أئمة الفتوى على وجوب الإنصات.

وقال ابن عبد البرّ: لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها انتهى.

ص: 219

والقول الثاني للشافعي أن الإنصات سنة، والكلام ليس بحرام، وهو نصّه في "الجديد"، وهو رواية عن أحمد، حكاها ابن قُدَامة.

وقال ابن المنذر: كان النخعي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم بن مُهاجر، والشعبيّ، وأبو بردة يتكلمون، والحجاج يخطب، وقال بعضهم: إنّا لم نُؤمر أن ننصت لهذا. قال ابن المنذر: وأتباع السنة أولى انتهى.

قال العراقي رحمه الله: فيحتمل أن يراد بـ"هذا" الإشارةُ للحجاج، لما كان فيه من الظلم، وهو الظاهر، ويحتمل أن يراد لهذا الأمر.

قال وليّ الدين: ويحتمل أن تكون الإشارة إلى كلام بعينه أتى به الحجاج، لا ينبغي سماعه، لما فيه من لسب الصحابة رضي الله عنهم، أو الأمر بالظلم، وما لا يجب امتثاله، أو عند قراءة كتب وردت عليه من الخليفة، فيها ما لا ينبغي فعله.

وقد قال ابن حزم: روينا من طريق سفيان الثوريّ، عن مُجالد، قال: رأيت الشعبي، وأبا بردة بن أبي موسى الأشعريّ يتكلمان، والحجاج يخطب، حين قال: لعن الله، ولعن الله، فقلت: تتكلمان في الخطبة؟ فقالا: لم نؤمر بأن ننصت لهذا.

وعن إبراهيم النخعيّ: أنه كان يتكلم، والإمام يخطب زمن الحجاج.

قال ابن حزم: كان الحجاج، وخطباؤه يلعنون علياً، وابن الزبير رضي الله عنهم. وذكر ابن عبد البرّ أن عبد الله بن عروة كان يُنصت للخطيب، فإذا شتم عليًّا تكلّم، ويقول: إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا.

وقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن الشعبيّ، ومحمد بن عليّ بن الحسين أنه لا بأس بالكلام، والصحف تقرأ يوم الجمعة. وعن أبي بردة، وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يتكلمان في هذه الحالة. وعن حماد بن أبي سليمان إنما كان السكوت قبل اليوم إذا وعظوا بكتاب الله، وقالوا فيه، فنسكت لصحفهم هذه؟. وعن الحسن البصري أنه كان يكره الكلام، والصحف تقرأ. وعن إبراهيم النخعيّ أنه قيل له: إن الكتب تجيء من قبل قُتيبة، فيها الباطل والكذب، فأكلّم صاحبي، أو أنصت؟ قال: لا، بل أنصت -يعني في الجمعة- فطرد النخعيُّ والحسن منع الكلام في الخطبة، وسَدَّا البَابَ في ذلك.

قال ابن بطال: ورى ابن وهب، وابن قانع، وعليّ بن زياد، عن مالك أن الإِمام إذا لغى، وشتم الناس، فعلى الناس الإنصات، ولا يتكلّمون.

ورُويَ عنه: إذا خطب في أمر ليس من الخطبة من أمر كتاب يقرؤه، أو نحو ذلك، فليس على الناس الإنصاف.

ورأى الليث إذا أخذ الإِمام في غير ذكر الله، والموعظة أن يتكلّم، ولا يُنصت انتهى.

ص: 220

وقال ابن حزم: فإن أدخل الخطيب في خطبته ما ليس من ذكر الله تعالى، ولا من الدعاء المأمور به، فالكلام مباح حينئذ، فهذان مذهبان آخران مفصّلان، إما بين أئمة الجور وغيرهم، وإما بين الوعظ وغيره.

وحكى ابنُ عبد البرّ قولاً خامساً أنه إنما يجب الإنصات عند تلاوة القرآن خاصّة، قال: روي عن الشعبي، وسعيد بن جبير، والنخعيّ، وأبي بُردة، قال: وفعلهم ذلك مردود عند أهل العلم بالسنّة الثابتة، وأحسن أحوالهم أنهم لم يبلغهم الحديث في ذلك، لأنه حديث انفرد به أهل المدينة، ولا علم لمتقدمي أهل العراق به.

وقال ابن بطال: استماع الخطبة واجب وجوبَ سنة عند أكثر العلماء، ومنهم من جعله فريضةً انتهى.

وهذا على قاعدة المالكية من وجوب السنن، ومعناه أنه سنة مؤكدة، وهو قول الشافعيّ في الجديد، فيكون ابن بطال نقل استحباب الإنصات عن الأكثرين، فمن أوجب الإنصات أخذ بقول من قال: إن اللغوَ الباطلُ، ومن استحبّه أخذ بقول من قال: إنه السقط، وما لا يُعتدّ به، ولغط الكلام، وما لا محصول له، أو الْمُطَّرَح من القول، وما لا يُعْنَى، فإن هذه العبارات متقاربة المعنى، ومقتضاها أن قائل اللغط غير مرتكب حراماً.

وقد قال الشافعي رحمه الله في قوله: "لغوت": تكلّمت في موضع الأدبُ فيه أن لا تتكلّم.

واحتجّ الشافعيّ في القديم على عدم تحريم الكلام في الخطبة بحديث أنس رضي الله عنه في الرجل الذي قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، وهو يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله

"، وهو في "الصحيحين".

وبحديث عثمان رضي الله عنه حيث دخل يوم الجمعة، وعمر رضي الله عنه يخطب، فكلّمه، وأجابه.

واحتجّ على ذلك في الجديد بالحديث المتقدِّم قبل هذا في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الداخل، وهو يخطب عن كونه صلى، وإجابته له بقوله:"لا"، وقوله له:"صلّ ركعتين". وبكونه صلى الله عليه وسلم كلّم الذين قَتَلوا ابن أبي الْحُقَيق على المنبر، وكلموه، وتداعوا قتله، وقد رواه الشافعي مرسلاً، قال البيهقيّ، وهذا، وإن كان مرسلاً، فهو مشهور فيما بين أهل العلم بالمغازي. وروي من وجه آخر موصولاً عن عبد الله بن أنيس انتهى.

ومن ذهب إلى تحريم الكلام أجاب عن هذه الأحاديث بأن المخاطبة فيها من الإِمام، أو معه، فلا يشتغل بذلك عن سماع الخطبة، بخلاف كلام الحاضرين بعضهم مع بعض

ص: 221

انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما ذُكر أن المذهب الراجح هو تحريم الكلام مطلقاً على حاضري الخطبة؛ لوضوح أدلته، وأما من كلمه الإِمام، أو كلم الإمامَ فلا يحرم ذلك عليه، لأنه مستثنى بالنصوص الكثيرة الدالّة على ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم فيمن لا يسمع الخطبة، هل يجب عليه الإنصات أم لا؟:

ذهب المالكية، والحنابلة، والظاهرية، إلى أنه لا فرق في وجوب الإنصات بين من يسمع الخطبة، ومن لا يسمعها. وحكاه ابن بطال وغيره عن أكثر العلماء، وحكاه ابن عبد البرّ عن مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأصحابهم، والثوريّ، والأوزاعيّ، وهو الأصحّ عند الشافعية، واختلف الحنفية في هذه المسألة.

وروى ابن أبي شيبة، عن عروة بن الزبير أنه كان لا يرى بأساً بالكلام إذا لم يسمع الخطبة.

والمختلف فيه هو كلام الآدميين، أما الذكر، والتلاوة سرّا، فليس ممنوعاً منهما قطعاً.

قال ابن قُدامة: وهل ذلك أفضل، أو الإنصات؟ يحتمل الوجهين: أحدهما الإنصات أفضل، لحديث عبد الله بن عمرو، مرفوعاً:"يحضر الجمعة ثلاثة نفر، رجل حضرها يلغو، فهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا الله، فإن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخطّ رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفّارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عز وجل يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ". رواه أبو داود

(2)

.

ولقول عثمان: من كان قريباً يسمع، ويُنصت، ومن كان بعيداً يُنصت، فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظّ ما للسامع.

والثاني: الذكر أفضل، لأنه يحصل له ثوابه من غير ضرر انتهى.

وقال ابن عقيل من الحنابلة: في صورة البعد له المذاكرة في الفقه، وصلاة النافلة، والمشهور عندهم منع ذلك انتهى

(3)

.

(1)

"طرح التثريب" جـ 3 ص 192 - 195.

(2)

حديث حسن.

(3)

"طرح" 3/ 196 - 197.

ص: 222

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: ليس لأحد أن يتكلم، والإمام يخطب، على ظاهر هذا الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الراحج قول من قال بتحريم الكلام مطلقاً، سواء سمع الخطبة، أم لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط السماع حينما حرّم الكلام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في رد السلام، وتشميت العاطس حال الخطبة:

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلفوا في تشميت العاطس، ورد السلام، والإمام يخطب، فرخصت طائفة في تشميت العاطس، ورد السلام، والإمام يخطب:

وممن رخّص في ذلك الحسن البصريّ، والنخعي، والشعبي، والحَكَم، وحماد، وسفيان الثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وكان قتادة يقول: يردّ السلام، ويُسمعه، وروي ذلك عن القاسم بن محمد.

واختلف قول الشافعي في هذا الباب، فكان إذ هو بالعراق يقول: ولا يشمتون عاطساً، ولا يردون سلاماً إلا بإيماء، وكان يقول بعدُ بمصر: وإن سلم رجل على رجل يوم الجمعة كرهت ذلك، ورأيت أن يردّ عليهم بعضهم، لأن ردّ السلام فرض، ولو عطس رجل، فشمّته رجل رجوت أن يَسَعَه، لأن التشميت سنّة.

وكان سعيد بن المسيّب يقول: لا يشمّته، وكذلك قال قتادة، وهذا خلاف قوله في ردّ السلام، ولعل الفرق يمنعه بينهما أن ردّ السلام فرض، وليس كذلك تشميت العاطس. وقال أصحاب الرأي: أحب إلينا أن يستمعوا، ويُنصتوا.

وفرق عطاء بين الحالين، فقال: إذا كنت تسمع الخطبة، فاردد عليه السلام في نفسك، وإذا كنت لا تسمعها، فاردد عليه، وأسمعه، وقال أحمد: إذا لم يسمع الخطبة شمّت، وردّ.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت"، فالإنصات يجب على ظاهر السنّة، وإباحة ردّ السلام، وتشميت العاطس غير موجود بحجة، والذي أرى أن يردّ السلام إشارةً، ويشمّت العاطس إذا فرغ الإِمام من الخطبة انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر حسنٌ جدًّا؛ لوضوح دليله.

(1)

"الأوسط" جـ 4 ص 70.

(2)

"الأوسط" 4/ 72 - 73.

ص: 223

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة: في اختلاف أهل العلم في الكلام بعد الفراغ من الخطبة:

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلفوا في الكلام بعد فراغ الإِمام من الخطبة قبل أن يدخل في الصلاة، فرخّصت طائفة في ذلك:

وممن كان لا يرى به بأساً طاوس، وعطاء، والزهريّ، وحماد بن أبي سليمان، وبكر بن عبد الله، وإبراهيم النخعي، وهو قول مالك، والشافعي، وإسحاق،، وأبي ثور، ويعقوب، ومحمد، وروينا عن ابن عمر أنه قال: لا بأس بالكلام إذا نزل الإِمام من المنبر يوم الجمعة حتى يكبّر.

وكان الحكم بن عُتيبة يكره ذلك، وروي عن طاوس رواية توافق قول الحكم، خلاف الرواية الأولى.

وكذا اختلفوا في الكلام بين الخطبتين، فكرهته طائفة، منهم مالك، والأوزاعيّ، والشافعي، وإسحاق، وقال الحسن البصريّ: لا بأس بالكلام بين الخطبتين، وإذا نزل الإِمام عن المنبر.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: قد كان الكلام مباحاً قبل خطبة الإِمام، وقد أمر الناس بالإنصات لإمامهم إذا خطب، فإذا انقضت الخطبة رجعت الإباحة، والأخبار دالّة على ذلك انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى بتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي أن الإنصات يكون من خروج الإِمام إلى أن ينتهي من الصلاة، لما تقدم -16/ 1395 - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعاً: "إذا جاء أحدكم، وقد خرج الإِمام

"، فقد جعل خروج الإِمام مبدأ الإنصات، فلا يتشاغل عنه إلا من يصلي تحيّة المسجد.

ولما يأتي -23/ 1403 - من حديث سلمان رضي الله عنه مرفوعاً: "ما من رجل يتطهّر يوم الجمعة

" وفيه: "ثم يُنصت حتى يقضي صلاته

"، ففيه أن الإنصات يكون إلى انقضاء الصلاة.

والحاصل أن الإنصات يكون من أوّل ما خرج الإِمام إلى أن ينتهي من الصلاة، فلا يتكلم في خلال ذلك سواء كان في حال الخطبة، أو بين الخطبتين، أو بين الخطبة والصلاة، لما ذكرناه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"الأوسط" 4/ 97 - 80.

ص: 224

1402 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ

(1)

: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد) الفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقة [11].

روى عن أبيه، وأسد بن موسى، وابن وهب، وغيرهم.

وعنه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: توفي في ذي الحجة سنة (248)، قال كان حديثيًّا فقيهاً عسراً في الحديث، ممتنعًا. وفي "الزهرة" روى عنه مسلم خمسين حديثًا، وله في هذا الكتاب (8) أحاديث.

2 -

(أبوه) شعيب بن الليث بن سعد الفَهْمي، أبو عبد الملك المصريّ: ثقة فقيه نبيل، من كبار [10] تقدم 120/ 166.

3 -

(عمر بن عبد العزيز) بن مروان بن الحكم الأموي، الخليفة الراشد الثقة الحجة [4] تقدم 122/ 171.

4 -

(عبد الله بن إبراهيم بن قارظ) هو إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، ووهم من زعم أنهما اثنان، صدوق [3] تقدم 122/ 171.

والباقون تقدّموا في السند السابق، وكذا شرح الحديث، والكلام على مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

سقطت لفظة "قال" من "الهندية".

ص: 225

‌23 - (بَابُ فَضْلِ الإِنْصَاتِ، وَتَرْكِ اللَّغْوِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

1403 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ الْقَرْثَعِ الضَّبِّيِّ -وَكَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ الأَوَّلِينَ- عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، كَمَا أُمِرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ، وَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِىَ صَلَاتَهُ، إِلاَّ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الإِمام المثبت الحجة [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي، نزيل الري، وقاضيها، ثقة ثبت [8] تقدم 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر الكوفي المثبت الحجة [6] تقدم 2/ 2.

4 -

(أبو معشر زياد بن كُليب) الحنظلي الكوفيّ، ثقة [6] تقدم 188/ 300.

5 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعي الفقيه الحجة [5] تقدم 29/ 33.

6 -

(علقمة) بن قيس النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه [2] تقدم 61/ 77.

7 -

(القَرْثع الضّبّيّ) -بالثاء المثلثة، وزان أحمد- الكوفي، مخضرم صدوق [2].

روى عن سلمان الفارسي، وأبي أيوب الأنصاريّ، وأبى موسى الأشعريّ، وغيرهم. وعنه علقمة بن قيس، والمسيب بن رافع، وقَزَعَة بن يحيى، وسَهْم بن منجاب.

قال أبو معشر: حدثنا إبراهيم، عن علقمة، عن القرثَع الضبيّ، وكان من القرّاء الأولين.

قال الحاكم عقيب حديث له: سمعت أبا علي الحافظ يقول: أردت أن أجمع مسانيد قرثع الضبّيّ، فإنه من زُهَّاد التابعين، فوجدته لم يُسند تمام العشرة. وقال الخطيب: كان مخضرماً أدرك الجاهلية والإِسلام، وقُتل في خلافة عثمان شهيداً.

روى له أبو داود، والترمذي في "الشمائل"، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا

(1)

وفي نسخة "حدثنا"، وفي أخرى "أنا".

ص: 226

الكتاب هذا الحديث، وحديث رقم (1867) فقط.

8 -

(سلمان) الفارسي الصحابي الشهير رضي الله تعالى، عنه، تقدم 37/ 41. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من ثمانيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح. غير القرثع. ومنها: أنه مسلسل بالكوفين، غير شيخه، فنيسابوري، وسلمان فمدني. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: إبراهيم، وعلقمة، والقرثع. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْقَرْثَع) بفتح القاف، وسكون الراء، بعدها مهملة (الضَّبِّيِّ) منسوب إلى ضَبَّة أبي قبيلة (وَكَاَنَ مِنَ الْقُرَّاءِ الأَوَّلِينَ) يحتمل أن يكون هذا من كلام علقمة، ويحتمل أن يكون ممن دونه.

يعني أنّ قرثعاً كان من التابعين الأولين الذين اشتهروا بقراءة القرآن، أو بالعبادة، فإن القارىء يُطلق على قارىء القرآن، وعلى الناسك المتعبّد.

والظاهر أن "القراء" هنا جمع قارىء، كما قال ابن مالك:

وَفُعَّلٌ لِفَاعِلِ وَفَاعِلَهْ

وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ

وَمِثلُهُ الْفعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا

وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامّا نَدَرَا

لكن في "اللسان" ما يفيد أن القُرّاء بالضم يكون مفرداً، حيث قال: والقارىء، والمقترىء، والقُرّاءُ كله: الناسك، مثل حَسّان، وجُمَّال انتهى.

والحاصل أن القُرّاء بالضم يكون جمع قارىء، وهو المناسب هنا، أو مفرد كرُمّان، أو هو بالفتح كحسّان، ولكن معنى المفرد لا يناسب هنا لوصفه بـ"الأوّلين". والله تعالى أعلم.

(عَنْ سَلْمَانَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) ولفظ "الكبرى" من طريق المغيرة، عن أبي معشر:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدري ما يومُ الجمعة؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "لكني أنا أحدثك عن يوم الجمعة، لا يتطهّر رجل، ثم يمشي إلى الجمعة، ثم ينصتُ حتى يقضي الإِمام صلاته، إلا كانت كفّارةً لما بينها وبين الجمعة التي قبلها، ما اجتنبت المَقْتَلَة".

ولفظ ابن خزيمة: "يا سلمان، ما يوم الجمعة؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال:

ص: 227

"يا سلمان، ما يوم الجمعة؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"يا سليمان، ما يوم الجمعة؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"يا سلمان، يوم الجمعة به جمُع أبوك -أو أبوكم- أنا أحدّثك عن يوم الجمعة، ما من رجل يتطهّر يوم الجمعة، كما أُمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة، فيقعد، فينصت حتى يقضي صلاته، إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة".

(مَا) نافية (منْ) زائدة (رَجُل) مبتدأ خبره جملة "إلا غُفر له"، وجملة قوله (يَتَطَهَّرُ) صفة له "رجل"(يَوْمَ الْجُمُعَة كَمَا أُمِرَ) أي تطهيراً مماثلاً لما أمره الله تعالى به، وهو تعميم جسده بالغسل، إن اغتسل، أو الوضوء، إن لم يتسير له الاغتسال، أو التيمم، إن كان من أهله.

أو المراد بالطهارة ما يعمّ ما ذكر، وغيره من أنواع النظافة، كأخذ الشارب، والظفر، والعانة مثلاً.

وفي رواية البخاريّ من طريق عبد الله بن وديعة، عن سلمان:"لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدّهن، من دهنه، أو يمسّ من طيب بيته، ثم يخرج، فلا يفرْق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتب له، ثم يُنصت إذا تكلّم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى".

وفي رواية عبد الله بن عمرو عند أبي داود من الزيادة: "ويلبس من صالح ثيابه".

(ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْته) زاد في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة: "إلى المسجد"، ولأحمد من حديث أبي الدرداء:"ثم يمشي، وعليه السكينة"، وللبخاري من رواية ابن وديعة المذكورة:"فلا يفرّق بين اثنين"، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود:"ثم لم يتخط رقاب الناس"، وفي حديث أبي الدرداء:"ولم يتخطّ أحداً، ولم يؤذه"(حَتَّى يَأْتيَ الْجُمُعَةَ)"حتى" هنا تعليليّة، أي كان خروجه لكي يأتي صلاة الجمعة فقط، يعني أنه ما خرج لحاجة غير الجمعة، زاد في رواية ابن وديعة:"ثم يصلي ما كتب له"(وَينْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتهُ) وفي رواية ابن وديعة المذكورة: "ثم ينصت إذا تكلم الإمام".

ورواية المصنف تؤيد قول من قال: لا يتكلم بين الخطبتين، ولا بعد الفراغ منهما، وقد تقدّم الكلام عليه في الباب الماضي (إلَّا كَانَ) أي هذا العملُ، فاسم "كان" ضمير يعود إلى ما ذُكر من الطهارة، وغيرها (كَفَّارَةً لمَا قَبْلَهُ) أي للذنب الذي حصل قبل هذا اليوم (منَ الْجُمُعَة) أي ابتداء من يوم الجمعة الماضية، فـ"من" ابتدائية، أو المراد بـ"الجمعة" الأسبوعُ -كما قاله السندي- فتكون "من" بياناً لـ"ما". والله أعلم.

ص: 228

وعند البخاري: "غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". وعند ابن خزيمة "غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها". ولابن حبان من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها" وفي رواية المصنف في "الكبرى" كما تقدم "ما أجتُنبت المقتلة". وزاد ابن ماجه في رواية أخرى عن أبي هريرة: "ما لم يَغْشَ الكبائر"، ونحوه لمسلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر -والله أعلم- أن المراد بـ"المقتلة" أسباب القتل، فيكون بمعنى الرواية الأخرى "ما اجتنبت الكبائر"، وذلك لأن كثيراً من الكبائر سببا لقتل صاحبه، فإذا اجتنب الكبائر اجتنب أسباب القتل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولي: في بيان درجته:

حديث سلمان رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -23/ 1403 - وفي "الكبرى" -31/ 1724 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن أبي معشر زياد بن كُليب، عن إبراهيم، عن علقمة، عن القَرْثَع الضبّيّ، عنه. وفي "الكبرى" -31/ 1725 - عن إبراهيم بن يعقوب، عن عفّان بن مسلم، ويحيى بن حماد -والنسق لعفّان- كلاهما عن أبي عوانة، عن المغيرة، عن أبي معشر به.

وأخرجه (خ) 2/ 4 و2/ 9 وتقدم لفظه قريباً (أحمد) 5/ 440 و5/ 438 و5/ 439 (الدارمي) 1549 (ابن خزيمة)، 1732 والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده

(1)

:

منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان فضل الإنصات، وترك اللغو في حال خطبة الجمعة.

ومنها: كراهة التخطي يوم الجمعة، لقوله:"ثم لم يتخطّ رقاب الناس"، وقد تقدم تمام البحث فيه قبل بابين.

ومنها: استحباب المشي، وعدم الركوب في السعي إلى الجمعة.

ومنها: مشروعية النافلة قبل خطبة الجمعة، لقوله:"ثم صلى ما كتب له"، ثم قال:

(1)

ليس المراد فوائد سياق المصنف فقط، بل ما يشمل الزيادات التي نبّهتُ عليها في الشرح، فتنبّه.

ص: 229

"ثم ينصت" فدلّ على تقدم ذلك على الخطبة، وقد بينه أحمد من حديث نُبيشة الهذلي بلفظ:"فإن لم يجد الإِمام خرج صلى ما بدا له".

ومنها: جواز النافلة نصف النهار يوم الجمعة، كذا قيل، وفيه نظر.

ومنها: أن التبكير ليس من ابتداء الزوال، لأن خروج الإمام يعقب الزوال، فلا يسع وقتاً يتنفّل فيه.

ومنها: أنه قد تبين بمجموع ما ذكر من الروايات أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدّم، من غسل، وتنظيف، وتطّيب، أو دهن، ولبس أحسن الثياب، والمشي بالسكينة، وترك التخطي والتفرقة بين الاثنين، وترك الأذى، والتنفّل، والإنصات، وترك اللغو.

ووقع في حديث عبد الله بن عمرو: "فمن تخطّى، أو لغا كانت له ظهراً".

ودلّ التقييد بعدم غشيان الكبائر على أن الذي يُكفَّر من الذنوب هو الصغائر، فتحمل الروايات المطلقة كلها على هذا المقيّد، وذلك أن معنى قوله:"ما لم تُغْشَ الكبائر"، أي فإنها إذا غُشيت لا تُكفّر، وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب الكبائر، إذ اجتناب الكبائر بمجرّده يكفّرها، كما نطق به القرآن، ولا يلزم من ذلك أن لا يكفّرها إلا اجتناب الكبائر، وإذا لم يكن للمرء صغائر تُكفّر رُجي له أن يُكفّر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلا أُعطي من الثواب بمقدار ذلك، وهو جارٍ في جميع ما ورد في نظائر ذلك. قال في "الفتح"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌24 - (بَابُ كيفِيَّةِ الْخُطْبَةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وقع في نسخة "بَابٌ كيف الخطبةُ"، فعلى الأول فـ"باب" مضاف إلى "كيفية"، وعلى الثاني يحتمل أن يكون مضافاً إلى جملة "كيف الخطبة"، ويحتمل أن يكون منوّناً، والله تعالى أعلم بالصواب.

1404 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،

(1)

"فتح" 3/ 25 - 27.

ص: 230

قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"عَلَّمَنَا خُطْبَةَ الْحَاجَةِ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ، فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"، ثُمَّ يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [الأحزاب: 70].

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، شَيْئًا وَلَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَلَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ).

رجال هذا الإسناد. سبعة:

1 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزيّ البصري، ثقة ثبت [10] تقدّم 64/ 80.

2 -

(محمد بن بشار) أبو بكر المعروف بـ"بُندَار" البصريّ، ثقة ثبت [10] تقدم 24/ 27.

3 -

(محمد بن جعفر) غُندر تقدم قبل خمسة أبواب.

4 -

(شعبة) بن الحجاج، تقدم قبل خمسة أبواب أيضاً.

5 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفي، ثقة عابد اختلط في آخره [3] تقدم 38/ 42.

6 -

(أبو عُبيدة) بن عبد الله بن مسعود الكوفي، ثقة، من كبار الثالثة، لا يعرف اسمه، تقدم 55/ 622.

7 -

(عبد الله) بن مسعود رضي الله تعالى عنه، تقدم 3/ 39. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ) الضمير يعود إلى عبد الله، أي قال عبد الله بن مسعود، حال كونه راويًا عن النبي صلى الله عليه وسلم (عَلَّمَنَا) الضمير الفاعل يعود إلى النبي-صلى الله عليه وسلم، والجملة مقول القول (خُطْبَةَ الْحَاجَةِ) أي الخطبة التي تقال عند افتتاح الكلام لقضاء الحاجة، من النكاح وغيره.

قال السنديّ رحمه الله: الظاهر عموم الحاجة للنكاح وغيره، فينبغىِ للإنسان أن يأتي بهذا ليستعين به على قضائها وتمامها، ولذلك قال الشافعي رحمه الله: الخطبة سنة في أول

ص: 231

العقود كلها، مثل البيع، والنكاح، وغيرهما، والحاجة إشارة إليها.

ويحتمل أن المراد بالحاجة النكاح، إذ هو الذي تعارف فيه الخطبة، دون سائر الحاجات، وعلى كلّ تقدير فوجه ذكر المصنف الحديث في هذا الباب، لأن الأصل اتحاد الخطبة، فما جاز، أو جاء في موضع جاز في موضع آخر أيضاً، وكأنه جاء فيه، والله تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الاحتمال الأول هو الصواب، لأن في سنن أبي داود التصريح بذلك، فقد أخرجه من طريق سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عُبيدة، عن عبد الله بن مسعود:"في خطبة الحاجة، في النكاح وغيره"، والله تعالى أعلم.

(الْحَمْدُ للهِ) وفي رواية "عمل اليوم والليلة" من طريق إسماعيل بن حمّاد بن أبي سليمان، عن أبي إسحاق:"ان الحمد لله، نحمده"، قال الجزري في "تصحيح المصابيح": يجوز تخفيف "أن"، وتشديدها، ومع التشديد يجوز رفع "الحمد"، ونصبه، ورويناه بذلك انتهى.

وقال الطيبي: "أن" مخفّفة من الثقيلة، كقوله تعالى:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

والحمد هنا يجب أن يُحمل على الثناء الجميل

(2)

من نعمة، أو غيرها، من أوصاف الكمال والجلال والجمال، والإكرام، والأفعال العظام، والتعريفُ على استغراق الجنس، فيفيد أن كلّ نعمة من النعم الدنيوية والأخروية ليست إلا منه، وكلّ صفة من صفات الكمال، وفضائل الأعمال له، ومنه، وإليه، لتترتب عليه الأفعال المتناسقة بعده، من الاستعانة، والاستغفار، والاستعاذة. أفاده القاري

(3)

.

(نَسْتَعِينُهُ) أي في جميع الأمور، قال القاري رحمه الله: أي في حمده، وغيره، وهو، وما بعده جُملٌ مستأنفة مبينة لأحوال الحامدين انتهى.

(وَنَسْتَغْفِرُهُ) أي من تقصير عبادته، وتأخير طاعته (وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا) أي نعتصم بالله من ظهور شرور أخلاق أنفسنا الرديّة، وأحوال طَباع أهوائنا الدَّنية (وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا) وفي رواية بزيادة "من"، وهو من إضافة الصفة للموصوف، أي من أعمالنا السيّئة (مَنْ يَهْدِهِ الله) بإثبات الضمير، وفي رواية بحذفه، أي من يُوفّقهُ الله لاتباع طريق الحقّ (فَلَا مُضِلَّ لَهُ) أي من شيطان، أو نفس، أو غيرهما (وَمَنْ يُضْلِلْ) بحذف الضمير

(1)

"شرح السندي" 3/ 105.

(2)

لعل الصواب "الثناء بالجميل إلخ" بزيادة الباء.

(3)

"المرقاة شرح المشكاة" جـ 6 ص 308.

ص: 232

المنصوب، أي من يُزغه عن اتباع الحقّ، يقال: ضلّ الرجلُ الطريقَ، وضلّ عنه يَضلّ من باب ضرب، ضَلَالاً، وضلالةً: زلْ عنه، فلم يهتد إليه، وأضله الله يتعدى بالهمزة (فَلَا هَادِيَ لَهُ) أي لا أحد يهديه إلى الحقّ، لا من جهة العقل، ولا من جهة النقل، ومن جهة أحد من الخلق.

قال الطيبي رحمه الله: أضاف الشرّ إلى الأنفس أوّلاً كسباً، والإضلال إلى الله تعالى ثانياً خلقاً وتقديراً. انتهى.

(وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) زاد في رواية "عمل اليوم والليلة": "وحده لا شريك له"(وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) تقدم معنى الشهادتين في "كتاب الأذان".

(ثُمَّ يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتِ) قال الطيبيّ: هذا يقتضي معطوفاً عليه، فالتقدير يقول:"الحمد لله"، ثم يقرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أخرج ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، موقوفاً، قال: هو أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.

وقد ذهب سعيد بن جُبير، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيّان، وزيد بن أسلم، والسُّدّيّ، وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما إنها لم تنسخ، ولكن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يُجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم.

{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي حافظوا على الإِسلام في حال صحّتكم وسلامتكم، لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى سنته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، فعياذاً بالله من خلاف ذلك

(1)

.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} هي آدم عليه السلام {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} هي حواء عليها السلام، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه، وهو نائم، فاستيقظ، فرآها، فأعجبته، فأنس إليها، وأنست إليه.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"خُلقت المرأة من الرجل، فجُعلت نهمتها في الرجل، وخُلق الرجل من الأرض، فجُعلت نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم".

(1)

راجع "شرح ابن كثير" في "تفسير سورة آل عمران" جـ 1 ص 396.

ص: 233

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "إن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تُقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها، وفيها عوج". وفي لفظ لمسلم: "إن المرأة خُلقت من ضلع، لن تستقيم على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها، وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها".

{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} أي وذرأ من آدم وحوّاء رجالاً كثيراً ونساء، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم، وصفاتهم، وألوانهم، ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.

{وَاَتَّقُواْ اَللهَ} بطاعتكم إياه {الَّذِي تَسَاءَلُونَ} بحذف إحدى التاءين، وبتشديد السين، قرءتان متواترتان (بِه) أي تتساءلون فيما بينكم حوائجكم بالله، كما تقولون: أسألك بالله، قال إبراهيم، ومجاهد، والحسن:{الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} أي كما يقال: أسألك بالله وبالرحم.

{وَالْأَرْحَامَ} بالنصب عند عامة القرّاء، أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وفيه المبالغة في اجتناب قطع الرحم.

وقال الضحّاك: واتقوا الله الذي تعاقدون، وتعاهدون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن برّوها، وصلوها.

وقرأ حمزة: {وَالْأَرْحَامَ} بالجرّ على العطف على الضمير في "به"، أي تساءلون بالله، وبالأرحام، كما قال مجاهد وغيره.

والعطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ فصيح على الصحيح، كما قال ابن مالك:

وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ علَى

ضَمِيرِ خَفْضٍ لَازِماً قَدْ جُعِلَا

وَلَيْسَ عِنْدِي لَازِمًا إِذْ قَدْ أَتَى

فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ الصَّحيحِ مُثْبَتَا

وفي قراءة شاذة عن ابن مسعود: "وبالأرحام". وقيل: الجرّ للجوار، وقيل: الواو للقسم.

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أي هو مراقبٌ لجميع أحوالكم، وأعمالكم، كما قال:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . وفي الصحيح: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، وهذا إرشاد، وأمر بمراقبة الرقيب.

وإنما ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد، وأمّ واحدة ليُعَطِّفَ بعضهم على بعض، ويَحُثَّهُم على ضعفائهم.

ص: 234

({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}) أي مستقيماً لا اعوجاج فيه، ولا انحراف {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} هذا وَعْد منه سبحانه وتعالى أنهم إن فعلوا ذلك أثابهم عليه، بأن يُصلح لهم أعمالهم، أي يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يُلهمهم التوبة منها. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه}: أي بامتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي بأن يُجار من نار الجحيم، ويصير إلى النعيم المقيم

(1)

.

زاد الطبراني بعد ذكر الآيات: "أما بعد" ثم يذكر حاجته.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) النسائي (أَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ) عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وغرض المصنف رحمه الله تعالى بهذا بيان أن هذا السند فيه انقطاع، حيث إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.

وهذا الذي قاله المصنف رحمه الله تعالى قد ثبت عن أبي عبيدة نفسه، فقد ذكر الترمذيّ عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سألت أبا عُبيدة، هل تذكر من عبد الله شيئًا؟ قال: لا

(2)

.

(وَلَا عَبْدُ الرَحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُود) يعني أن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وهو أخو أبي عُبيدة لم يسمع من أبيه أيضاً.

وهذا الذي قاله المصنف رحمه الله، قد اختلف فيه أهل العلم بالآثار، فمنهم من أثبت سماعه، ومنه من نفاه:

قال يعقوب بن شَيبة: كان ثقة قليل الحديث، وقد تكلّموا في روايته عن أبيه، وكان صغيراً. فأما علي بن المديني، فقال: قد لقي أباه. وقال ابن معين: عبد الرحمن، وأبو عبيدة لم يسمعا من أبيهما. وقال أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد: مات عبد الله، وعبد الرحمن ابن ست سنين، أو نحوها. وقال أحمد، أما سفيان الثوريّ، وشريك، فإنهما يقولان: سمع، وأما إسرائيل، فإنه يقول في حديث الضبّ: سمعت. وقال العجلي: يقال: إنه لم يسمع من أبيه إلا حرفاً واحداً: "محرّم الحلال كمستحلّ الحرام". وقال معاوية بن صالح، عن ابن معين: سمع من أبيه، وعن عليّ.

وروى البخاريّ في "التاريخ الصغير" بإسناد لا بأس به، عن القاسم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: لمّا حَضرَ عبدَ الله الوفاةُ قال له ابنه عبد الرحمن:

(1)

"تفسير ابن كثير" في "سورة الأحزاب" جـ 3 ص 529

(2)

انظر "تت" في ترجمة "عامر بن عبد الله بن مسعود".

ص: 235

يا أبت أوصني، قال:"ابْك من خطيئتك".

وروى البخاريّ أيضاً في "التاريخ الكبير"، وفي "الأوسط" من طريق ابن خُثيم، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: إني مع أبي، فذكر الحديث في تأخير الصلاة، زاد في "الأوسط": قال شعبة: لم يسمع من أبيه. وحديث ابن خُثيم أولى عندي.

وقال ابن المديني في "العلل": سمع من أبيه حديثين: حديث الضبّ، وحديث تأخير الوليد للصلاة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وأسند حديثه:"محرم الحلال" من طريق سماك عنه.

وقال أبو حاتم: سمع من أبيه، وهو ثقة.

وقال الحاكم: اتفق مشايخ أهل الحديث أنه لم يسمع من أبيه انتهى.

قال الحافظ: وهو نقل غير مستقيم.

وقال خليفة: مات مقدم الْحَجَّاج العراق سنة (79)

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر من كلام الأكثرين أنه سمع من أبيه قليلاً، بخلاف أبي عبيدة، فإنه لم يسمع شيئًا. والله تعالى أعلم.

(وَلَا عَبْدُ الْجَبارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْر) يعني أن عبد الجبار بن وائل بن حجر لم يسمع من أبيه.

وهذا الذي قاله المصنف ثبت عن غيره أيضاً، فذكر الدُّوريّ عن ابن معين، قال: لم يسمع من أبيه شيئاً. وقال أبو داود، عن ابن معين: مات أبوه، وهو حَمْل. وقال الترمذيّ. سمعت محمداً -يعني البخاريّ- يقول: عبد الجبار لم يسمع من أبيه، ولا أدركه. وقال ابن حبان في "الثقات": من زعم أنه سمع أباه، فقد وهم، لأن أباه مات، وأمه حامل به. وقال البخاريّ: لا يصحّ سماعه من أبيه، مات أبوه قبل أن يولد. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله قليل الحديث، ويتكلمون في روايته عن أبيه، ويقولون لم يلقه.

وبمعنى هذا قال أبو حاتم، وابن جرير الطبري، والْجُريري، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة، والدارقطنيّ، والحاكم، وقبلهم ابن المدينيّ، وآخرون

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أنهم اتفقوا على أن عبد الجبار لم يسمع من أبيه شيئًا.

وأما ما قاله في "تهذيب الكمال": إنه قد صحّ عنه أنه قال: كنت غلاماً لا أعقل صلاة

(1)

"تت" في ترجمة "عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود".

(2)

"تت" في ترجمة "عبد الجبار بن وائل".

ص: 236

أبي. فقد رَدّه الحافظ بما نص عليه البزّار من أن هذا القول لعلقمة بن وائل، لا لأخيه عبد الجبار. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

فإن قيل: كيف يصح، وفيه انقطاع، كما بينه المصنف؟.

أجيب: بأنه موصول من طريق آخر صحيح، فقد أخرجه المصنف 190/ 1164 - عن أبي الأحوص، عن عبد الله رضي الله عنه. وله طريق أخرى عن عمران القطان، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن ابن مسعود رضي الله عنه، بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم-كان إذا تشهد قال: "الحمد لله، نستعينه، ونستغفره

" الحديث، إلى قوله: "عبده ورسوله"، وزاد: "أرسله بالحقّ بشيراً ونذيراً، بين يدي الساعة، من يُطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما، فإنه لا يضرّ إلا نفسه، ولا يضرّ الله شيئًا". أخرجه أبو داود، والبيهقيّ، والطبرانيّ في "الكبير". وسنده ضعيف، فأبو عياض مدني مجهول، كما في "ت".

وله شواهد من حديث أبي موسى الأشعريّ، وابن عباس، وجابر، وتُبَيط بن شَريط، وعائشة رضي الله تعالى عنهم.

وقد تكلم على أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم العلامةُ المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى في رسالة نافعة جامعة، فأحسن، وأجاد، وأسهب وأعاد، فجزاه الله عن خدمة كتب السنة، والعناية بها أتمَّ عناية خيرَ الجزاء. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -24/ 1404 - وفي "عمل اليوم والليلة" 491 - عن محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، كلاهما عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عنه. وفي "عمل اليوم والليلة" عن زكريا بن يحيى السجزيّ، عن وهب بن بقية، عن خالد بن عبد الله، عن إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، عن أبي إسحاق به.

قال أبو عبيدة: وسمعت أبا موسى، يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فإن شئت أن تَصلَ حطبتك بآي من القرآن، فقل:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا

ص: 237

فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أما بعد، ثم تكلّم بحاجتك".

وفي 493 - عن محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: "الحمد لله نحمده، ونستعينه

ثم ذكر مثله سواءٌ، وقال: قال عبد الله: ثم تصل خطبتك بثلاث آيات، وساق الحديث.

وأخرجه (د) 2118 و2119. (الطيالسي) 338 (أحمد) رقم 3720 و4115 (أبو يعلى" والطبراني في "المعجم الكبير"، والبيهقي في "سننه" 7/ 146 من طرق. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان كيفية الخطبة، فينبغي للخطيب أن يستنّ بهذه السنة التي كادت تموت، فيحييها، فيكون له أجر من أحيى سنة أميتت.

ومنها: أن الحاجة يستحبّ افتتاحها بهذه الخطبة، فإنها سوف تنجح ببركة هذا الذكر.

ومنها: أن الخطبة ينبغي أن تكون مشتملة على الحمد، والشهادتين، وبعض الآيات القرآنية.

وقد ذكر النووي رحمه الله تعالى في "شرح المهذب" أن فروض الخطبة خمسة: (أحدها): حمد الله تعالى (الثاني): الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الثالث): الوصيّة بتقوى الله تعالى. (الرابع): قراءة القرآن. (الخامس): الدعاء للمؤمنين. وقد ذكر هذه الأمور مفصلة، فراجعه

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى كون هذه الأمور كلها من فروض الخطبة يحتاج إلى دليل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"المجموع" جـ 4 ص 388 - 390.

ص: 238

‌25 - (بَابُ حَضِّ الإِمَامِ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحَضُّ" -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الضاد المعجمة-: هو الحثّ على الشيء، والحمل عليه، يقال: حَضَّه على الأمر حَضّاً، من باب قتل: حَمَلَه عليه، والتحضيض منه، لكنه شُدّد مبالغةً.

وحروف التحضيض: "هَلَّا"، و"أَلا" -بالتشديد- و"لولا"، و"لوما".

قال النحاة: دخولها على المستقبل حَثٌّ على الفعل، وطلب له، وعلى الماضي توبيخ على ترك الفعل، نحو "هلّا تنزل عندنا"، و"هلّا نزلت". أفاده في "المصباح".

وإضافة "حضّ" إلى "الإِمام" من إضافة المصدر إلى فاعله، ومفعوله محذوف، أي الناسَ، والجاران، والظرف تتعلق بـ"حضّ". والله تعالى أعلم بالصواب.

1405 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَلْيَغْتَسِلْ").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه سنداً ومتناً في -7/ 1376 - ، فراجعه هناك تستفد.

وممن لم يتقدم هناك من رجال إسناده: محمد بن بشار، ومحمد بن جعفر، وشعبة، وقد تقدموا في الباب الماضي، والحكم، وهو ابن عتيبة أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت فقيه، ربما دلس [5]، تقدم 86/ 104. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1406 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَشِيطٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ، عَنِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: سُنَّةٌ، وَقَدْ حَدَّثَنِي بِهِ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) المرادي المصري، ثقة ثبت [11] تقدم 19/ 20.

2 -

(ابن وهب) عبد الله المصري تقدم قريباً.

3 -

(إبراهيم بن نَشيط) -بفتح النون، وكسر المعجمة- ابن يوسف الوَعْلانيّ، ويقال: الخَوْلانيّ مولاهم أبو بكر المصري، ثقة [5].

ص: 239

دخل على عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبيديّ، ورَوَى عن الزهريّ، وبُكير بن الأشجّ، وعبد الله بن أبي حسين، وغيرهم. وعنه الليث، وابن المبارك، وابن وهب.

قال أبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطنيّ ثقة. وقال أحمد: ثقة ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: ثقة. وقال ابن يونس: غزا مع مسلمة بن عبد الملك، وكانت له عبادة وفضل. وقال يحيى بن بُكير: مات سنة إحدى، أو اثنتين، وقيل: سنة (163). قال ابن يونس: الصواب سنة (3).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنفّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(ابن شهاب) الزهري، تقدم قريباً.

5 -

(سالم بن عبد الله بن عمر) العدوي المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 23/ 490.

6 -

(أبوه) عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما المذكور في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، غير إبراهيم بن نشيط، ومنها أنه مسلسل بالمصريين، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة، وأبوه أحد المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث.

(عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَشِيطٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ، عَنِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) أي عن مشروعيته (فَقَالَ: سُنَّةٌ) خبر لمحذوف، أي هو سنّة، وطريقة أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر مستنده فيما قاله (وَقَدْ حَدَّثَنِي بِه) أي بغسل يوم الجمعة، وذكّر الضمير هنا باعتبار الغسل، وأنثه فيما يأتي باعتبار السنة (سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبيهِ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ بِهَا) أي بهذه السنة (عَلى الْمِنبرِ) هذا محلّ الترجمة، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم حضّ في خطبته على غسل يوم الجمعة، وفي الرواية التالية من رواية عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال، وهو قائم على المنبر:"من جاء منكم الجمعة، فليغتسل". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

ص: 240

حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -25/ 1406 - وفي "الكبرى" -23/ 1713 - عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن إبراهيم بن نشيط، عن ابن شهاب، عن سالم، عنه.

وفي -8/ 1671 - عن كثير بن عبيد، عن محمد بن حرب، عن الزبيديّ، عن الزهريّ به.

وفي 8/ 1672 - عن علي بن حُجْر، عن سفيان، عن الزهري به.

وفي 8/ 1672 عن إبرهيم بن الحسن، عن حجاج، عن ابن جريج، عن ابن شهاب به.

وأخرجه (خ) 2/ 6 و2/ 12 (م) 3/ 2 (ت) 492 (الحميدي) 608 (أحمد) 1/ 330 و2/ 9 و2/ 35 و2/ 149 (ابن خزيمة)1749. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1407 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ: "مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ يَوْمَ الْجُمُعَةَ

(1)

، فَلْيَغْتَسِلْ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ اللَّيْثَ عَلَى هَذَا الإِسْنَادِ غَيْرَ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ يَقُولُونَ: عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، بَدَلَ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هذا الإسناد: خمسة، أكثرهم تقدموا قريباً، فقتيبة، والليث تقدما قبل بابين، وابن شهاب، وابن عمر ذُكرا في السند الماضي، وأما:

(عبد الله بن عبد الله) فهو عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن المدني، كان وصيّ أبيه، ثقة [3] تقدم 44/ 52.

وشرح الحديث تقدم مستوفًى في 7/ 1376 فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي النسائي (مَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ اللَّيْثَ عَلَى هَذَا الإِسْنَادِ) أي في جعله شيخ ابن شهاب عبدَ الله بنَ عبد الله بدلاً من سالم بن عبد الله (غَيرَ ابْنِ جُرَيْج) أي فإنه وافقه على ذلك، وروايته أخرجها المصنف في "الكبرى" -8/ 1674 -

(1)

وفي نسخة "من جاء منكم الجمعة".

(2)

وسقط قوله: "ابن عمر" من بعض النسخ.

ص: 241

عن إبراهيم بن الحسن المصِّيصيِّ، عن حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جُريج به.

(وَأَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ يَقُولُونَ: عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، بَدَلَ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) يعني أن الليث خالف أصحَاب الزهري فإنهم قالوا: عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، فقال هو: عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله، عن أبيه.

وأصحابه الذين أشار إليهم المصنف هم:

إبراهيم بن نشيط، كما في الرواية التي قبل هذه.

ومحمد بن الوليد الزُّبيديّ، وروايته أخرجها في "الكبرى" -16708 و8/ 1681.

وسفيان بن عُيينة، وروايته أخرجها فيه أيضاً -8/ 1682.

وابن جريج أيضاً، وروايته أخرجها فيه أيضاً -8/ 1673 - فعلى هذا فابن جريج له روايتان، يوافق في إحداهما الليث، كما ذكره المصنف هنا، ويوافق الجماعة في روايته الأخرى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن غرض المصنف بهذا الكلام بيان الاختلاف الواقع في هذا السند، لا تضعيف رواية الليث، ولذا لم يتبعه بقوله: والصواب كذا، كما هو عادته في كثير من الأسانيد التي يضرّ فيها الاختلاف.

والليث إمام حافظ ثقة ثبت، وقد وافقه ابن جُريج، كما قال المصنف، فروايته صحيحة، ويحمل على أن لابن شهاب في هذا الحديث شيخين، هما سالم، وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، عن أبيهما.

ويدلّ على هذا أن مسلماً رحمه الله تعالى في "صحيحه" بعد أن أخرج رواية ابن شهاب، عن سالم بسند المصنف، أخرج طريق ابن جريج، فجمع بين سالم وعبد الله، ولفظه:

حدثني محمد بن رافع، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جُريج، قال: أخبرني ابن شهاب، عن سالم، وعبد الله ابني عبد الله بن عمر، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -25/ 1407 - وفي "الكبرى" -8/ 1674 عن قُتيبة بن سعيد، عن

ص: 242

الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه.

وفي "الكبرى" -8/ 1674 - عن إبراهيم بن الحسن، عن حجاج الأعور، عن ابن جريج، عن ابن شهاب به.

وأخرجه (م) 3/ 2 (ت) 493 (أحمد) 2/ 120 و2/ 149. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌26 - (بَابُ حَثِّ الإِمَام عَلى الصَّدَقَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ في خُطْبَتِهِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الحَثّ" -بفتح المهملة، وتشديد المثلْثة-: التحريض على الشيء، يقال: حثَثْت الإنسانَ على الشيء حَثّاً، من باب قتل: حَرّضته عليه. أفاده في "المصباح".

والإضافة فيه من إضافة المصدر إلى فاعله، وحذف المفعول، أي الناسَ، والجاران والظرف تتعلق بـ"حثّ". والله تعالى أعلم بالصواب.

1408 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: "صَلِّ رَكْعَتَيْنِ"، وَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَلْقُوا ثِيَابًا، فَأَعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، قَالَ: فَأَلْقَى أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "جَاءَ هَذَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ، فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ، فَأَلْقُوا ثِيَابًا، فَأَمَرْتُ لَهُ مِنْهَا بِثَوْبَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ الآنَ، فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ، فَأَلْقَى أَحَدَهُمَا". فَانَتْهَرَهُ، وَقَالَ: "خُذْ ثَوْبَكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الله

(1)

بن يزيد) المكي، ثقة [10] تقدم 172/ 1141.

(1)

وقع في شرح البهكلي لهذا الكتاب "محمد بن عبد الأعلي بن يزيد الصنعاني"، وهو خطأ، والصواب ما هنا "محمد بن عبد الله بن يزيد" فتنبه.

ص: 243

2 -

(سفيان) بن عُيينة

(1)

الإِمام الحافظ الحجة [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(ابن عجلان) هو محمد المدني، صدوق [5] تقدم 36/ 40.

4 -

(عياض بن عبد الله) بن سَعْد بن أبي سَرْح -بفتح المهملة، وسكون الراء، بعدها مهملة- ابن الحارث بن حَبيب بن جَذيمَة بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤيّ القرشيّ العامريّ المكيّ، ثقة [3].

روى عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وجابر. وعنه زيد بن أسلم، ومحمد بن عجلان، وداود بن قيس الفَرّاء، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن يونس: وُلد بمكة، ثم قدم مصر مع أبيه، ثم رجع إلى مكة، فلم يزل بها حتى مات.

روى الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثاً بالتكرار.

5 -

(أبو سعيد الخدريّ) رضي الله تعالى عنه، تقدّم 169/ 262. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، وأنهم مكيون، سوى ابن عجلان، وأبي سعيد، فمدنيان، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أبو سعيد رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله تعالى عنه (يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) يحتمل أن يكون هو سُليك بن عمرو الغفاريّ، كما تقدّم في حديث جابر رضي الله تعالى عنه، ويحتمل أن يكون غيره.

[تنبيه]: في هذا الحديث قصة ساقها الترمذي عن محمد بن أبي عُمر، عن سفيان بن عُيينة، بسند المصنف، ولفظه: "أن أبا سعيد الخدريّ دخل يوم الجمعة، ومروان يخطب، فقام يُصلي، فجاء الْحَرَسُ ليُجلسوه، فأبى حتى صلى، فلما انصرف أتيناه، فقلنا: رحمك الله، إن كادوا ليقعوا بك، فقال: ما كنتُ لأتركهما بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن رجلاً جاء يوم الجمعة في هيئة بَذّة

" الحديث.

(وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ) جملة في محل نصب على الحال، والرابط الواو (بِهيْئَةٍ بَذَّةٍ)

(1)

ذكر في المخطوط من شرح البهكلي أنه سفيان الثوري، وهو خطأ، والصواب أنه ابن عيينة، كما صرح به الترمذي في "الجامع" رقم 511. فتنبّه.

ص: 244

متعلّق بـ"جاء"، و"الهيئة" بفتح، فسكون: الحالة الظاهرة، و"البذة" بفتح الموحّدة، فتشديد الذال المعجمة-: الحالة السيّئة، يقال: بَذذتُ كعلمتُ بَذَاذةً، وبَذاذاً بالفتح، وبذاذاً بالكسر وبُذُوذةٌ بالضم: إذا سآءت حالك، وباذُّ الهيئة: رَثُّها. قاله المجد.

والمعنى: أن ذلك الرجل جاء في حالة سيئة، يظهر عليه أثر الفقر.

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: "صَلِّ رَكْعَتَيْنِ"، وَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ) أي ليعطي منها هذا الرجل الذي جاء بهيئة بَذّة.

وفي الرواية الآتية في 55/ 2536 من طريق يحيى القطان، عن ابن عجلان: "ثم جاء الجمعة الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: صلّ ركعتين، ثم جاء الجمعة الثالثة، فقال: صلّ ركعتين، ثم قال: تصدّقوا، فتصدّقوا، فأعطاه ثوبين

" الحديث. (فَأَلْقَوْا ثِيَاباً) أي طرحوها ليُعطَى منها ذلك الرجل. وفي رواية أبي داود: "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يطرحوا ثيابًا، فطرحوا، فأمر له بثوبين

" (فَأَعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ) "كان" هنا تامّة، و"الجمعة" فاعلها، أي لما جاءت الجمعة الثانية التي تلي الجمعة التي ألقى الناس فيها ثيابهم (جَاءَ) ذلك الرجل (وَرَسول الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ) جملة حالية (فَحَثَّ) أي النبي صلى الله عليه وسلم (النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ) لعله رأى محتاجاً مثل ذلك الرجل (قَالَ) أي أبو سعيد (فَألْقَى أَحَدَ ثَوْبَيهِ) أي طرح ذلك الرجل أحد الثوبين الذين تُصُدّق عليه بهما في الجمعة الماضية (فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "جَاءَ هَذا يَوْمَ الجُمُعَةِ بَهيْئَةِ بَذَّةٍ) وفي الرواية الآتية -55/ 2536 - : "ألم تروا إلى هذا، إنه دخل المسجد بهيئة بذّة، فرجوت أن تَفطَنوا له، فتتصدّقوا عليه، فلم تفعلوا، فقلت: تصدّقوا، فتصدّقتم، فأعطيته ثوبين

" الحديث.

(فَأَمَرْتُ النَّاسَ بالصَّدَقَةِ، فَألْقَوْا ثِيَاباً، فَأَمَرْتُ لَهُ مِنْهَا بثَوْبَينِ، ثم جَاءَ الآنَ) بالنصب ظرف للوقت الحاضر الذي أنت فيه، ولزمه دخولُ الألف واللام، وليس ذلك للتعريف، لأن التعريف تمييز المشتركات، وليس هذا ما يَشْرَكُهُ في معناه. قال ابن السّرّاج: ليس هو آنَ وآنَ حتى يدخل عليه الألف واللام للتعريف، بل وُضع مع الألف واللام للوقت الحاضر، مثل "الثُّرَيّا"، و"الذي"، ونحو ذلك. قاله الفيّومي.

(فَأمَرْتُ النَّاسَ بالصَّدَقَةِ، فَألْقَى أَحَدَهُمَا، فَانْتَهَرَهُ) أي منعه من التصدّق، لكونه محتاجاً، والصدقة إنما هي عن ظهر غنى، لما روى البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:"خير الصدقة ما تُصدق به عن ظهر غنى، وليبدأ أحدكم بمن يعول"، وفي رواية أحمد:"لا صدقة إلا عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"(وَقَالَ: خُذْ ثَوْبَكَ) أي لأنك أحقّ به من غيرك، وفيه أن الإنسان المحتاج

ص: 245

يقدّم نفسه، ويبدأ بها قبل غيرها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -62/ 1408 - وفي "الكبرى" -27/ 1719 - عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن ابن عُيينة، عن ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله، عنه. وفي -55/ 2536 - وفي "الكبرى" -57/ 2316 - عن عمرو بن علي الفلّاس، عن يحيى القطان، عن ابن عجلان به.

وأخرجه (د) 1675 - (ت) 511 (ق) 1113 (الحميدي) 741 (الدارمي) 1560 (البخاري في جزء القراءة) 162 (ابن خزيمة) 1799 و1830 و2481. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده: منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مشروعيّة حَثّ الإِمام الناس على الصدقة في خطبته.

ومنها: مشروعية تحية المسجد لمن جاء، والإمام يخطب.

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من شدة الرأفة، والرحمة للمؤمنين، فلا يرى أحداً من أصحابه ظهر عليه أثر الفاقة، إلا أعطاه ما يزيل فاقته، وإن لم يجد ما يعطيه إيّاه حث أصحابه على أن يتصدّقوا عليه، فكان كما وصفه الله تعالى في كتابه، بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

ومنها: أنه ينبغي للإمام أن يعتني بأحوال الرعية، وأن يقوم على الفقراء والمحتاجين بسد حاجاتهم، وإزالة فاقاتهم.

ومنها: أنه لا ينبغي للشخص أن يتصدق بما هو محتاج إليه، وإن تصدّق ردّت عليه صدقته، وسيأتي للمصنف في "كتاب الزكاة" -55/ 2536 - "باب إذا تصدّق، وهو محتاج إليه، هل يُردّ عليه"، ويستدل بحديث الباب على ذلك، وسيأتي تمام البحث فيه هناك، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الموضع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 246

‌27 - (مُخَاطَبَةِ الإِمَامِ رَعِيَّتَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ)

1409 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "صَلَّيْتَ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "قُمْ فَارْكَعْ").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم الكلام عليه سنداً ومتناً في -21/ 1400 - "باب الصلاة يوم الجمعة لمن جاء، والإمام يخطب"، فراجعه هناك تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وممن لم يتقدّم هناك من رجال الإسناد:

1 -

(قتيبة) بن سعيد، ذكر في الباب الماضي.

2 -

(حماد بن زيد) بن درهم البصري، ثقة ثبت حافظ [8] تقدم 3/ 3.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1410 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى إِسْرَائِيلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْحَسَنُ مَعَهُ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ مَرَّةً، وَيَقُولُ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَظِيمَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن منصور) الجَوّاز المكي، ثقة (10) تقدّم 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكي الإِمام الحجة الحافظ [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(أبو موسى إسرائيل بن موسى) البصريّ نزيل الهند، ثقة [6].

روى عن الحسن البصري، وأبي حازم الأشجعيّ، ومحمد بن سيرين، ووهب بن منبّه. وعنه الثوريّ، وابن عُيينة، وحسين الجعفي، ويحيى القطان.

قال ابن معين، وأبو حاتم: ثقة، زاد أبو حاتم: لا بأس به، وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يُسافر إلى الهند. وقال الأزديّ وحده: فيه لين.

روى له البخاريّ، ومسلم في "المقدمة"، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وبرقم (4309) حديث: "من سكن البادية

ص: 247

جفا

" الحديث.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن البصري الإِمام الحجة الفقيه الفاضل [3] تقدم 32/ 36.

5 -

(أبو بكرة) نُفيع بن الحارث بن كَلَدَة الصحابي المشهور رضي الله تعالى عنه، تقدّم 41/ 836. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمكيان. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن سفيان بن عُيينة، أنه قال (حدثنا أَبُو مُوسَى إِسْرَائِيل بْنُ مُوسَى) هو ممن وافقت كنيته اسم أبيه، فيؤمن فيه من التصحيف، وهو بصريّ كان يُسافر إلى الهند، وأقام بها مدّة. قاله في "الفتح".

(قَالَ: سَمعْتُ الْحَسَنُ) يعني البصريّ.

قال البزّار في "مسنده" بعد أن أخرج هذا الحديث عن خَلَف بن خَليفة، عن سفيان ابن عُيينة: لا نعلم أحداً رواه عن إسرائيل غير سفيان.

وتعقّبه مغلطاي بأن البخاريّ أخرجه في "علامات النبوّة" من طريق حسين بن عليّ الْجُعفيّ، عن أبي موسى، وهو إسرائيل هذا.

قال الحافظ: وهو تعقب جيّد، ولكن لم أر فيه القصة، وإنما أخرج فيه الحديث المرفوع فقط انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القصة التي أشار إليها الحافظ قد ساقها البخاري في "صحيحه" عن علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا إسرائيل أبو موسى، ولقيته بالكوفة، جاء إلى ابن شُبرُمة

(1)

، فقال: أدخلني على عيسى

(2)

، فأعظه، فكأنّ ابن شُبرُمة خاف عليه، فلم يفعل، قال: حدثنا الحسن، قال: لما سار الحسن بن عليّ رضي الله عنهما إلى معاوية بالكتائب، قال عمرو بن العاص لمعاوية: أرى كَتيبة، لا تولي حتى

(1)

هو عبد الله بن شُبْرُمة قاضى الكوفة في خلافة أبى جعفر المنصور، مات سنة (144)، وكان صارماً عفيفاً ثقة فقيهاً.

(2)

هو عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ابن أخي المنصور، وكان أميراً، على الكوفة إذ ذاك.

ص: 248

تُدبر أخراها، قال معاوية: مَن لذراريّ المسلمين؟ فقال: أنا، فقال عبد الله بن عامر، وعبد الرحمن بن سمرة نلقاه، فنقول له: الصلح، قال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطُبُ جاء الحسن، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ابني هذا سيد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" انتهى.

وقال في "الفتح" عند قوله: "لما سار معاوية الخ": ما نصه:

وأشار الحسن البصريّ بهذه القصّة إلى ما اتفق بعد قتل عليّ رضي الله عنه، وكان عليّ لمّا انقضى أمرُ التحكيم، ورجع إلى الكوفة تجهّز لقتال أهل الشام مرّة بعد أخرى، فشغله أمر الخوارج بالنَّهْروان، وذلك في سنة (38) ثم تجهّز في سنة (39)، فلم يتهيأ ذلك لافتراق أهل العراق عليه، ثم وقع الجدّ منه في ذلك في سنة (40)، فأخرج إسحاقُ من طريق عبد العزيز بن سياه -بكسر المهملة، وتخفيف الياء- قال: لما خرج الخوارج قام عليّ: فقال: أتسيرون إلى الشام، أو ترجعون إلى هؤلاء الذين خلفوكم في دياركم؟ قالوا: بل نرجع إليهم، فذكر قصة الخوارج، قال: فرجع علي إلى الكوفة، فلما قُتل، واستُخلف الحسنُ، وصالح معاوية كتب إلى قيس بن سعد بذلك، فرجع عن قتال معاوية.

وأخرج الطبريّ بسند صحيح عن يونس بن يزيد، عن الزهريّ، قال: جعل علي على مقدّمة أهل العراق قيس بن سعد بن عُبَادة، وكانوا أربعين ألفاً بايعوه على الموت، فقُتل عليّ، فبايعوا الحسن بن عليّ بالخلافة، وكان لا يُحبّ القتال، ولكن كان يريد أن يشترط على معاوية لنفسه، فعرف أن قيس بن سعد لا يُطاوعه على الصلح، فنزعه، وأمّر عبد الله بن عباس، فاشترط لنفسه كما اشترط الحسن.

وأخرج الطبريّ، والطبرانيّ من طريق إسماعيل بن راشد، قال: بعث الحسن قيس ابن سعد على مقدّمته في اثني عشر ألفاً -يعني من الأربعين- فسار قيس إلى جهة الشام، وكان معاوية لمّا بلغه قتل عليّ خرج في عساكر من الشام، وخرج الحسن بن علي حتى نزل المدائن، فوصل معاوية إلى مسكن.

وقال ابن بطّال: ذكر أهل العلم بالأخبار أن علياً لما قُتل سار معاوية يريد العراق، وسار الحسن يريد الشام، فالتقيا بمنزل من أرض الكوفة، فنظر الحسن إلى كثرة من معه، فنادى يا معاوية إني اخترت ما عند الله، فإن يكن هذا الأمر لك، فلا ينبغي لي أن أُنازعك فيه، وإن يكن لي، فقد تركته لك، فكبّر أصحاب معاوية، وقال المغيرة عمد ذلك: أشهد أني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ابني هذا سيد

" الحديث، وقال في آخره: فجزاك الله عن المسلمين خيراً انتهى.

ص: 249

وفي صحة هذا نظر من أوجه:

الأول: أن المحفوظ أن معاوية هو الذي بدأ بطلب الصلح.

الثاني: أن الحسن ومعاوية لم يتلاقيا بالعسكرين حتى يمكن أن يتخاطبا، وإنما تراسلَا. فيحمل قوله:"فنادى يا معاوية" على المراسلة، ويجمع بأن الحسن راسل معاوية بذلك سراً، فراسله معاوية جهراً.

والمحفوظ أن كلام الحسن الأخير إنما وقع بعد الصلح، والاجتماع، كما أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقيّ في "الدلائل" من طريقه، ومن طريق غيره بسندهما إلى الشعبيّ، قال: لما صالح الحسن بن عليّ معاوية، قال له معاوية: قم، فتكلّم، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: أما بعد، فإن أكيس الكيس التقى، وإن أعجز العجز الفجور، ألا وإن هذا الأمر الذي أختلفت فيه أنا ومعاوية حَقّ لامرىء كان أحقّ به منّي، أو حق لي تركته لإرادة إصلاح المسلمين، وحَقْن دمائهم، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ، ثم استغفر، ونزل.

وأخرج يعقوب بن سفيان، ومن طريقه البيهقيّ في "الدلائل" من طريق الزهري، فذكر القصّة، وفيها: فخطب معاوية، ثمّ قال: قم يا حسن، فكلّم الناس، فتشهد، ثم قال: أيها الناس، إن الله هداكم بأولنا، وحقَنَ دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدّةً، والدنيا دول، وذكر بقية الحديث.

والثالث: أن الحديث لأبي بكرة، لا للمغيرة، لكن الجمع ممكن بأن يكون المغيره حدّث به عندما سمع مُراسلة الحسن بالصلح، وحدّث به أبو بكرة بعد ذلك.

وقد روى أصلَ الحديث جابر، أورده الطبراني، والبيهقيّ في "الدلائل" من فوائد يحيى بن معين بسند صحيح إلى جابر، وأورده أيضاً الضياء في "الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين".

قال الحافظ: وعجبت للحاكم في عدم استدراكه مع شدّة حرصه على مثله.

قال ابن بطال: سلّم الحسن لمعاوية الأمر، وبايعه على إقامة كتاب الله، وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، ودخل معاوية الكوفة، وبايعه الناس، فسميت سنة الجماعة، لاجتماع الناس، وانقطاع الحرب، وبايع معاوية كلُّ من كان معتزلاً للقتال، كابن عمر، وسعد بن أبي وقّاص، ومحمد بن مسلمة، وأجاز معاوية الحسن بثلاثمائة ألف، وألف ثوب، وثلاثين عبداً، ومائة جمل، وانصرف إلى المدينة، وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شُعبة، والبصرة عبد الله بن عامر، ورجع إلى دمشق انتهى

(1)

.

(1)

"فتح" 14/ 566 - 567.

ص: 250

(يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ) رضي الله عنه.

قال البزار رحمه الله تعالى: رُوي هذا الحديث عن أبي بكرة، وعن جابر، وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن إسناداً، وحديث جابر غريبٌ.

وقال الدارقطنيّ: اختُلف على الحسن، فقيل: عنه، عن أم سلمة، وقيل: عن ابن عُيينة، عن أيوب، عن الحسن، وكلّ منهما وَهَم. ورواه داود بن أبي هند، وعوف الأعرابيّ عن الحسن مرسلاً انتهى

(1)

.

(يَقول: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْحَسَنُ مَعَهُ) جملة في محل نصب على الحال، من المفعول.

وهو الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشميّ، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنّة.

روى عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبيه علي، وأخيه الحسين، وخاله هند بن أبي هالة. وعنه ابنه الحسن، وعائشة أم المؤمنين، وأبو الْحَوْرَاء، وغيرهم.

قال خليفة، وغيره: وُلد للنصف من رمضان سنة ثلاث، وقال قتادة: وَلَدت فاطمة الحسن لأربع سنين وتسعة أشهر ونصف من الهجرة.

وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانىء بن هانىء، عن علي رضي الله عنه: لمّا ولد الحسنُ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أروني ابني، ما سمّيتموه؟ قلت: سميته حرباً، قال: "بل هو حسن

" الحديث.

وبه عن عليّ، قال: كان الحسن أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه إلى سرّته، وكان الحسين أشبه الناس به ما أسفل من ذلك.

وقال ابن أبي مليكة: أخبرني عقبة بن الحارث، قال خرجت مع أبي بكر من صلاة العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال، وعلي يمشي إلى جنبه، فمرّ بحسن بن عليّ يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته، وهو يقول:

بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِي

لَيْسَ شَبِيهاً بِعَلِي

قال: وعليّ يضحك.

وقال ابن الزبير: أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن عليّ، قد رأيته يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد، فيركب ظهره، فما يُنزله حتى يكون هو الذي ينزل، ويأتي، وهو راكع، فيُفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر.

(1)

"فتح" 14/ 571.

ص: 251

وقال معمر، عن الزهريّ، عن أنس: كان الحسن بن عليّ أشبههم وجهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي جُحيفة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن بن عليّ يُشبهه. وقال نافع بن جُبير، عن أبي هريرة رفعه، أنه قال للحسن:"اللَّهمّ إني أحبه، فأحبه، وأحبَّ من يُحبّه".

ومناقبه رضي الله عنه جمة، توفي سنة (49) وقيل: سنة (55) وقيل: غير ذاك. علق عنه البخاري، وأخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب (7) أحاديث بالتكرار.

(وَهُوَ يُقْبِلُ) بضم حرف المضارعة، من الإقبال (عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيهِ مَرَّةً، وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ) وفي رواية للبخاريّ: "ابني هذا سيد". وهو مشتقّ من السؤدد، وهو الشرف، وقيل: من السواد، لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس، أي الأشخاص الكثيرة.

وقال المهلّب: الحديث دالّ على أن السيادة إنما يستحقّها من ينتفع به الناس، لكونه علّق السيادة بالإصلاح انتهى.

(وَلَعَلَّ الله أَنْ يُصْلِحَ بِه) كذا استعمل "لعلّ" استعمال "عسى"، لاشتراكهما في الرجاء، والأشهر في خبر "لعلّ" التجرّد من "أن"، كما في قوله تعالى:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} .

وعند البيهقي من طريق أشعث بن عبد الملك، عن الحسن:"وإني لأرجو أن يُصلح الله به". ووقع بالجزم في حديث جابر، ولفظه عند الطبراني، والبيهقيّ:"إن ابني هذا سيّدٌ، يُصلح الله به بين فئتين من المسلمين"(بَيْنَ فِئَتَيْن) تثنية "فئة" بالكسر، وهي الجماعة، ولا واحد لها من لفظها، وجمعها فئات، وقد تجمع بالواو والنون، جبراً لما نقص. قاله الفيّوميّ (مَنَ الْمُسْلِمِينَ عَظيِمَتَيْنِ) صفة لـ"فئة" بعد وصفه بالجارّ والمجرور.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -27/ 1410 - وفي "الكبرى" -26/ 1718 - وفي "عمل اليوم والليلة" -252 - عن محمد بن منصور، عن ابن عُيينة، عن إسرائيل بن موسى، عن الحسن، عنه. وفي "عمل اليوم والليلة" 251 - عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن علي بن زيد، عن الحسن به.

ص: 252

وفي "فضائل الصحابة" -63 - عن عُبيد الله بن سعيد، عن سفيان به.

وفيه 254 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن عليّ نحوه (مرسل).

وفي -255 - عن أحمد بن سليمان. عن أبي داود الْحَفَريّ، عن سفيان، عن داود، عن الحسن به، وفي -256 - عن محمد بن العلاء، عن ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره (مرسل).

وأخرجه (خ) 3/ 243 و4/ 249 و5/ 32 و9/ 71 (د) 4662 (ت) 3773 (الحميدي) 793 (أحمد) 5/ 37 و5/ 44 و5/ 49 و5/ 51. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده

(1)

:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز مخاطبة الإِمام الناس، وهو يخطب.

ومنها: أنه علم من أعلام النبوّة، ومنقبة عظيمة للحسن بن علي رضي الله عنهما، حيث ترك الملك، لا لقلّة، ولا لذلّة، بل لرغبته فيما عند الله تعالى، لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدين، ومصلحة الأمّة على حظّ نفسه.

ومنها: أن فيه الردّ على الخوارج الذين يكفّرون عليا، ومن معه، ومعاوية ومن معه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين.

ومن ثَمّ كان سفيان بن عُيينة يقول عقب هذا الحديث: قوله: "من المسلمين" يُعجبنا جدًّا. أخرجه يعقوب بن سُفيان في "تاريخه" عن الحُميديّ، وسعيد بن منصور عنه.

ومنها: أن فيه فضيلةَ الإصلاح بين الناس، ولاسيما في حقن دماء المسلمين.

ومنها: أن فيه دلالة على رأفة معاوية بالرعيّة، وشفقته على المسلمين، وقوّة نظره في تدبير الملك، ونظره في العواقب، حيث طلب الصلح.

ومنها: أن فيه جواز ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل، لأن الحسن ومعاوية ولي كلّ منهما الخلافة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد ابن زيد في الحياة، وهما بدريّان. قاله ابن التين.

ومنها: أن فيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك مصلحة للمسلمين، والنزول عن الوظائف الدينيّة والدنيوية بالمال، وجواز أخذ المال على ذلك، وإعطاؤه بعد استيفاء شرائطه بأن يكون المنزول له أولى من النازل، وأن يكون المبذول من مال

(1)

المراد فوائد ما اشتمل عليه الحديث باختلاف رواياته التي أشرنا إليها في الشرح، لا خصوصُ ما ساقه المصنف، فتنبّه.

ص: 253

الباذل، فإن كان في ولاية عامّة، وكان المبذول من بيت المال اشترط أن تكون المصلحة في ذلك عامّة، أشار إلى ذلك ابن بطّال، قال: يشترط أن يكون لكلّ من الباذل والمبذول له سبب في الولاية يستند إليه، وعقد من الأمور يعوّل عليه.

ومنها: إطلاق الابن علي ابن البنت، وقد انعقد الإجماع على أن امرأة الجدّ والد الأم محرمة على ابن بنته، وأن امرأة ابن البنت محرمة على جدّه، وان اختلفوا في الميراث.

ومنها: أنه استدلّ به على تصويب رأي من قعد عن القتال مع علي، ومعاوية رضي الله عنهما وإن كان عليّ أحقّ بالخلافة، وأقرب إلى الحقّ، وهو قول سعد بن أبي وقّاص، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسائر من اعتزل تلك الحروب.

وذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع عليّ، لامتثال قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية [الحجرات: 9]، ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل عليّاً بغاة، وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على أنه لا يُذمّ واحد من هؤلاء، بل يقولون: اجتهدوا، فأخطأوا.

وذهبت طائفة قليلة من أهل السنة -وهو قول كثير من المعتزلة- إلى أن كلّا من الطائفتين مصيب، وطائفة إلى أن المصيب طائفة لا بعينها. ذكره في "الفتح"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌28 - (بَابُ

(2)

الْقِرَاءَةِ في الْخُطْبَةِ)

1411 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ -وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ- عَنْ

(3)

يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنَةِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَتْ: حَفِظْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ).

(1)

جـ 14 ص 571.

(2)

سقط لفظ "باب" من بعض النسخ.

(3)

وفي بعض النسخ "نا" بدل "عن".

ص: 254

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن المثنى) البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 64/ 80.

2 -

(هارون بن إسماعيل) الخزّاز -بمعجمات- أبو الحسن البصريّ، ثقة، من صغار [9] تقدم 5/ 465.

3 -

(علي بن المبارك) الْهُنَائيّ -بضم الهاء، وتخفيف النون ممدوداً- البصريّ، ثقة، وحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7].

روى عن عبد العزيز بن صُهَيب، وأيوب، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. وعنه وكيع، والقطان، وابن المبارك، وهارون الْخَزّاز، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ثقة، كانت عنده كُتُبٌ عن يحيى بن أبي كثير، بعضها سمعها، وبعضها عَرْضٌ. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: قال بعض البصريين: عَوَضَ عليُّ بن المبارك على يحيى بن أبي كثير عرضاً، وهو ثقة، وليس أحد في يحيى مثلَ هشام الدستوائيّ، والأوزاعيّ، وهو بعدهما. وقال يعقوب بن شيبة: عليّ، والأوزاعيّ، ثقتان، والأوزاعيّ أثبتهما، ورواية الأوزاعيّ عن الزهريّ خاصّةً فيها شيء، ورواية عليّ عن يحيى بن أبي كثير فيها وَهَاء. وقال ابن المدينيّ: قال يحيى -يعني القطان-: كان عنده كتاب واحد سمعه من يحيى، والآخر تركه عنده، قيل له: فرواية يحيى بن سعيد عنه؟ قال: لم يسمع منه يحيى إلا ما سمعه من يحيى. وقال يعقوب بن شيبة: وسمعت علي بن عبد الله يقول: علي بن المبارك أحبّ إليّ من أبان. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: ثقة. وقال أيضاً: كان عنده كتابان: كتاب سماع، وكتاب إرسال، قلت لعباس العنبريّ: كيف يُعرف كتاب الإرسال؟ قال: الذي عند وكيع عنه، عن عكرمة من كتاب الإرسال، وكان الناس يكتبون كتاب السماع. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ضابطاً متقناً. وقال ابن عمّار، عن يحيى بن سعيد: أمّا ما رويناه نحن عنه فمما سمع، وأمّا ما روى الكوفيّون عنه فمن الذي لم يسمعه. وقال ابن عديّ: ولعلي أحاديث، وهو ثبت في يحيى، متقدّم فيه، وهو عندي لا بأس به. ووثقه ابن المدينيّ، وابنُ نُمير، والعجليّ. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثاً.

4 -

(يحيى) بن أبي كثير اليمامي البصري، ثقة ثبت مدلس [5] تقدم 23/ 24.

5 -

(محمد بن عبد الرحمن) بن سَعْد بن زُرَارة الأنصاريّ، ثقة [6] تقدم 40/ 946.

6 -

(ابنة حارثة بن النعمان) هي أم هشام الأنصارية، صحابية مشهورة، وهي أخت عمرة بنت عبد الرحمن، تقدمت 43/ 949.

ص: 255

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابنة الحارث بن النعمان رضي الله تعالى عنها قد تقدم للمصنف في باب "القراءة في الصبح" 43/ 949 من رواية عمرة بنت عبد الرحمن، عن أختها أم هشام بنت حارثة بن النعمان، وهي ابنة حارثة المذكورة هنا، ولفظه:"قالت: ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا من وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يصلي بها في الصبح"، وقدمنا هناك أن ذكر الصبح منكر، والمحقوظ ما هنا، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في كل جمعة.

وفيه استحباب قراءة الخطيب بهذه السورة.

قال النووي رحمه الله: فيه القراءة في الخطبة، وهي مشروعة بلا خلاف، واختلفوا في وجوبها، والصحيح عند الشافعية وجوبها، وأقلها آية.

وقال أيضاً: قال العلماء: سبب اختيار {ق} أنها مشتملة على البعث، والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة.

وفيه استحباب قراءة {ق} ، أو بعضها في كل خطبة انتهى

(1)

.

والحديث أخرجه مسلم، وتمام البحت فيه قد تقدم في 43/ 949. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌29 - (بَابُ الإِشَارَةِ في الْخُطْبَةِ)

1412 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُصَيْنٍ، أَنَّ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ رَفَعَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَسَبَّهُ عُمَارَةُ بْنُ رُوَيْبَةَ الثَّقَفِيُّ، وَقَالَ: مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمود بن غيلان) المروزي، ثقة [10] تقدم 33/ 37.

2 -

(وكيع) بن الجرّاح الإِمام الحجة الكوفي [9] تقدم 23/ 25.

3 -

(سفيان) سعيد الثوري الإِمام الحجة المشهور [7] تقدم 33/ 37.

(1)

"شرح مسلم" 6/ 160 - 161.

ص: 256

4 -

(حُصين) بن عبد الرحمن، أبو الهذيل الكوفي، ثقة تغير حفظه في آخره [5] تقدم 47/ 846.

5 -

(عُمَارة بن رُويبة الثقفي) أبو زُهير، صحابي نزل الكوفة رضي الله تعالى عنه، تقدم 13/ 471. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا السند:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ حُصَيْنٍ) بن عبد الرحمن (أَنَّ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ) بن الحكم بن العاص بن أُمية بن عبد مناف القرشي، تولى الكوفة سنة إحدى وسبعين بعد قتل مصعب بن الزبير، وأضيف إليه البصرة سنة ثلاث وسبعين بعد أن عُزل عنها خالد بن عبد الله، فرحل إليها، واستخلف على الكوفة عمرو بن حُريث.

(رَفَعَ يَدَيْهِ) وفي نسخة "يده"(يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ) أي في حال الدعاء، ففي رواية أحمد جـ 4 ص 136 - عن حُصين بن عبد الرحمن، قال: كنت إلى جنب عُمارة بن رُويبة، وبشر يخطبنا، فلما دعا رفع يديه، فقال عُمارة -يعني قبح الله هاتين اليدين، أو هاتين اليُدَيّتين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب إذا دعا يقول هكذا، ورفع السبّابة وحدها".

(فَسَبَّهُ عُمَارَةُ بْنُ رُوَيْبَةَ الثَّقَفِيُّ) وفي رواية مسلم: "فقال: قَبَّحَ الله هاتين اليدين .... " وفي رواية أحمد: "لعن الله هاتين اليُديّتين".

وإنما دعا عليه لمخالفته ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالجملة خبرية لفظاً، إنشائية معنًى، وفيها إطلاق اسم الجزء على الكلّ، ويحتمل أن تكون خبرية لفظاً ومعنى، فيكون إخباراً عن قبح صنيعه (وَقَالَ) أي عُمارة (مَا زَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا، وَأَشَارَ بإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ) أي كما يرفعها في التشهد. وفي رواية أبي داود: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر، ما يزيد على هذه -يعني السبابة التي تلي الإبهام-. وفي رواية أحمد: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يدعو، وهو يُشير بأصبع". وفيه دليل على عدم مشروعية رفع اليدين على المنبر حال الدعاء في الخطبة.

وفي معنى حديث عمارة بن رويبة حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، قال:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهراً يديه قط يدعو على منبر، ولا غيره، ما كان يدعو إلا يضع يده حذو منكبيه، ويشير بإصبعه إشارةٌ". أخرجه أحمد، وأبو داود، وقال فيه: "لكن رأيته

ص: 257

يقول هكذا، وأشار بالسبّابة، وعقد الوسطى بالإبهام". وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق القرشى، ويقال له: عَبّاد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن معاوية، وفيهما مقال.

وعن غُضيف بن الحارث، قال: بعث إليّ عبد الملك بن مروان، فقال: يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين، قال: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما، قال: لم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسكٌ بسنة خير من إحداث بدعة". وفي إسناده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف، وبقية، وهو مدلس، وقد عنعنه.

قال النووي رحمه الله تعالى: فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة، وهو قول مالك، وأصحابنا، وغيرهم، وحكى القاضي عن بعض السلف، وبعض المالكية إباحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى، وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عُمَارة بن رويبة الثقفيّ رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -29/ 1412 - وفي "الكبرى" -24/ 1715 - عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان الثوريّ، عن حُصين بن عبد الرحمن، عنه. وفي "الكبرى" -24/ 1714 - عن قُتيبة، عن أبي عوانة، عن حُصين به.

وأخرجه (م) 13/ 3 (د) 1104 (ت) 515 (أحمد) 4/ 135 و4/ 136 و4/ 261 (الدارمي) 1568 و1569 (ابن خزيمة) 1793 و1794. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز الإشارة بالسبّابة في الدعاء حال الخطبة.

ومنها: عدم مشروعية رفع اليدين في الدعاء حال الخطبة، وأن ما يفعله كثير من الخطباء من رفع أيديهم عند الخطبة بدعة، وإنما الثابت الإشارة بالإصبع.

(1)

"شرح مسلم" 6/ 162.

ص: 258

ومنها: مشروعية الدعاء في الخطبة.

ومنها: إنكار المنكر، ولو كان فاعله ذا وجاهة، فإن من واجب المسلم أن لا يأخذه في الله لومة لائم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌30 - (بَابُ نُزُولِ الإِمَامِ عَنِ المِنْبَر قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَقَطْعِهِ كلَامَهُ، وَرُجُوعِهِ إِلَيهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "نزول الإِمام إلخ" أي لحاجة تنزل به. وقوله: "وقطعه" بالجرّ عطف على "نزول"، ومثله "ورجوعه".

والمراد بقطع كلامه قطع خطبته.

وقوله "يوم الجمعة" منصوب على الظرفية تنازعاه كل من "نزول"، و"قطعه"، و"رجوعه"، أو متعلق بمحذوف خبر لمبتدإ مقدّر، أي ذلك كائن يوم الجمعة. والله تعالى أعلم يالصواب.

1413 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهما، وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَعْثُرَانِ فِيهِمَا، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَطَعَ كَلَامَهُ، فَحَمَلَهُمَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: "صَدَقَ اللَّهُ، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ كَلَامِي، فَحَمَلْتُهُمَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد العزيز) بن أبي رِزْمَة/ غَزوَان، أبو عمرو المروزيّ، ثقة [10] تقدم 47/ 602.

2 -

(الفضل بن موسى) السِّيناني، أبو عبد الله المروزي، ثقة ثبت، وربما أغرب، من كبار [9] تقدّم 83/ 100.

3 -

(حسين بن واقد) أبو عبد الله القاضي المروزيّ، ثقة، له أوهام [7] تقدم 5/ 463.

ص: 259

4 -

(عبد الله بن بُريدة) بن الْحُصيب، أبو سهل المروزي قاضيها، ثقة [3] تقدّم 25/ 393.

5 -

(بُريدة) بن الْحُصيب، أبو سهل الأسلميّ، صحابي أسلم قبل بدر، تقدّم 101/ 133، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالمراوزة، ورواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه، أنه (قَال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَينُ) ابنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) وعن والديهما (وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ) جملة في محل نصب على الحال.

(يَعْثُرَانِ فِيهِمَا) مضارع عَثَرَ، يقال: عَثَرَ يعثُرُ، من باب ضرب، ونصر، وعلم، وكرم. عَثْراً، وعَثيراً، وعِثَاراً، وتَعَثَّرَ: كَبَا

(1)

، أي سقط.

وفي الرواية الآتية -27/ 1585 - من طريق أبي تُمَيلة يحيى بن واضح عن حسين بن واقد: "يمشيان، ويعثران"، وفي رواية أبي داود:"يعثران، ويقومان"، أي يسقطان تارةً، ويقومان أخرى.

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: تَعَثُّرُهما في المشي يحتمل أن يكون سببه الإسراع، ويحتمل أن يكون سببه ضعف البدن لصغرهما، وعدم استحكام قوّتهما، ويحتمل أن يكون سببه طول الثياب، وهو بعيد، غير لائق بأهل ذلك الزمان، ولا يدلّ على ذلك قوله في رواية النسائي:"عليهما قميصان أحمران، يعثران فيهما"، ولا قوله عند النسائي أيضاً:"رأيت هذين يعثران في قميصيهما"، لأن هذا اللفظ يصدُقُ، وإن لم يكن سبب العثار طول الثياب انتهى

(2)

.

(فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي عن منبره (فَقَطَعَ كلَامَهُ) أي خطبته.

وهذا محلّ الترجمة، ففيه جواز قطع الخطيب خطبته لأمر ينزل به.

وقد أخرج أحمد، ومسلم، وابن خزيمة عن حُميد بن هلال، عن أبي رفاعة العَدَوي -واسمه تميم بن أسد-، قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب، قال: فقلت: يا

(1)

"ق" في مادّة "عثر".

(2)

"طرح التثريب" جـ 3 ص 204.

ص: 260

رسول الله رجل غريبٌ، جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه؟، قال: فأقبل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك خطبته، حتى انتهى إليّ، فأُتي بكرسيّ، حسبت قوائمه حديداً، قال فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يُعلّمني مما علّمه الله، ثم أتى خطبته، فأتمّ آخرها".

ففيه قطع النبي صلى الله عليه وسلم خطبته لتعليم هذا الرجل، وهو قطع طويل، فالحق أن القطع للحاجة جائز، ولا يلزمه بذلك استئنافه، بل يستمر من حيث وصل إليه، والله تعالى أعلم.

(فَحَمَلَهُمَا) أي لما وضع الله تعالى فيه من الرأفة وشدة الرحمة.

(ثُمَّ عَاد) أي رجع (إِلَى الِمنْبَر، ثُمِّ قَالَ: صَدَقَ اللهُ) ولفظ أحمد، وابن خزيمة:"صدق الله ورسوله"({إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}) أي شاغلة لكم عن أمور الآخرة. ومحلّ "إنما أموالكم الخ" نصب بالقول المقدر، أي صدق الله حيث قال: إنما أموالكم الخ.

وإنما كانت فتنة لأنها اختبار من الله تعالى لعباده، ليظهر من يشغله ذلك عن الطاعة، فتكون نقمة عليه، ومن لا تشغله، فتكون نعمة عليه، فمن رجع إلى الله تعالى، ولم يشتغل بماله وولده، وجاهد نفسه، فقد فاز، ومن اشتغل بهما فقد هلك.

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الاشتغال بغير الله تعالى، فيكون المراد بالفتنة هنا مجرّد ميل لا يشغله عن الله تعالى.

(رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَعْثُرَانِ في قَمِيصَيْهِمَا، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ كَلَامِي، فَحَمَلْتُهُمَا) زاد ابن خزيمة من طريق زيد بن الحُبَاب، عن حسين بن واقد:"ثم أخذ في خطبته". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث بريدة بن الْحُصيب رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -30/ 1413 - وفي "الكبرى" -34/ 1731 - عن محمد بن عبد العزيز، عن الفضل بن موسى، عن حسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه. وفي -27/ 1585 - و"الكبرى" -25/ 1790 - عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبي تُميلة يحيى ابن واضح، عن حسين بن واقد به.

وأخرجه (د) -1159 (ت) 3774 (ق) 3600 - (أحمد) 5/ 354 (ابن خزيمة)

ص: 261

1456 و1801 و1802. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز نزول الإِمام عن منبره، وقطع خطبته لأمر ينزل به، ثم رجوعه إليه، وإتمام خطبته.

قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: قد يَستدلّ بهذه القصَّة من لا يوجب الموالاة في الخطبة، لكنه زمن يسير، لا يقطع الموالاة عند من يشترطها، فليست هذه الصورة في موضع النزاع، وللشافعي في المسألة قولان: أصحهما عند أصحابه اشتراطها، وبه قالت الحنابلة، وكذلك الخلاف في اشتراط الموالاة بين الخطبة والصلاة، والمرجع فيما يقطع الموالاة من كلام، أو فعل إلى العرف، وحيث انقطعت الموالاة استأنف الأركان، وقد يقال: لم تكن هذه الخطبة خطبة الجمعة، لكن النسائيّ بوّب عليه:"نزول الإِمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة يوم الجمعة"، وقال الحاكم هو أصل في قطع الخطبة، والنزول من المنبر عند الحاجة انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول من قال بجواز قطع الخطبة للحاجة هو الذي يترجّح عندي، لأنه تؤيده الأدلة المذكورة، ومن قال بعدم الجواز فليس له حجة في ذلك. والله تعالى أعلم.

ومنها: أن فيه منقبة عظيمة للحسن والحسين رضي الله عنهما، وقد أورده الترمذي في مناقبهما، ولولا شدّة محبته صلى الله عليه وسلم لما فعل معهما مثل ذلك، وفي رواية الحاكم:"رأيت ولدَيَّ هذين".

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من كمال الشفقة، وشدة الرأفة، كما وصفه الله تعالى بذلك في كتابه حيث قال:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

قال الحافظ ولي الدين رحمه الله تعالى: وفيه بيان رحمته صلى الله عليه وسلم للعيال، وشفقته عليهم، ورفقه بهم، والظاهر أن مبادرته صلى الله عليه وسلم إلى أخذهما لإعيائهما بالمشي، وحصول المشقّة لهما بالعثار، فرفع تلك المشقّة عنهما بحملهما انتهى.

ومنها: جواز لبس الثوب الأحمر، وفيه خلاف بين أهل العلم، سيأتي تحقيقه في موضعه من "كتاب الزينة"، إن شاء الله تعالى.

ومنها: أن الأموال والأولاد فتنة ابتلى الله تعالى بها عباده، فمن آثرهما على الطاعة،

(1)

"طرح" 3/ 204.

ص: 262

فقد خسر، كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

قال الحافظ ولي الدين رحمه الله تعالى: فإن قلت: ظاهر الحديث أن قطع الخطبة، والنزول لأخذهما -يعني الحسن والحسين- فتنة دَعَى إليها محبة الأولاد، وكان الأرجح تركه، والاستمرار في الخطبة، وهذا لا يليق بحال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقطعه عن العبادة أمر دنيويّ، ولا يفعل إلا ما هو الأرجح والأكمل.

قلت: قد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم جواز مثل ذلك بفعله، فكان راجحاً في حقه، لتضمنه بيان الشريعة التي أرسل بها، وإن كان مرجوحاً في حقّ غيره، لخلوّه عن البيان، وكونه ناشئاً عن إيثار مصلحة الأولاد على القيام بحقّ العبادة، ونبّه صلى الله عليه وسلم بما ذكره في ذلك على حال غيره في ذلك لا على حال نفسه، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل ذلك إلا لمصلحة راجحة على مصلحة الخطبة، وبتقدير أن يكون لمصلحة مرجوحة، فذلك الفعل في حقه راجح على الترك، لكونه بيّن به جواز تقديم المصلحة المرجوحة على الأمر الراجح الذي هو فيه. والله أعلم انتهى.

ومنها: أن فيه استحبابَ الخطبة على المنبر، قال العلماء رحمهم الله: فإن لم يكن منبر، فعلى موضع مرتفع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

********

‌31 - (بَابُ مَا يسْتَحَبُّ مِنْ تَقْصِير الْخُطْبَةِ)

1414 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ غَزْوَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ، فَيَقْضِىَ لَهُ الْحَاجَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة، تقدموا في الباب الماضي، إلا:

1 -

(يحيى بن عُقَيل) -بالتَّصغير- البصريّ، نزيل مرو، صدوق [3].

ص: 263

روى عن عمران بن حُصين، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس بن مالك، ويحيى بن يعمر، وغيرهم.

وعنه سليمان التيميّ، وعَزْرة بن ثابت، وحسين بن واقد، وغيرهم.

قال ابن معين: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات".

روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، سوى الترمذيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

2 -

(عبد الله بن أبي أوفى) علقمة بن خالد، الصحابي الشهير، آخر من مات من الصحابة بالكوفة، مات سنة (87) تقدم 3/ 402. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى، وأن رجاله رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالمراوزة، غير الصحابي، فكوفي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن يحيى بن عُقيل رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى) رضي الله تعالى عنه (يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الذِّكْرَ) أي ذكر الله سبحانه وتعالى (وَيُقِلُّ اللَّغْوَ) بضم حرف المضارعة، من الإقلال، وفي بعض النسخ:"ويقصر اللغو".

قال المجد اللغويّ رحمه الله: "اللغو"، و"اللَّغَا"، كالفتى: السَّقَط، وما لا يُعتدّ به من الكلام وغيره، كـ"اللَّغْوَى" كسكرى انتهى

(1)

.

وقال الفيّومي رحمه الله: لغَا الشيءُ يلغُو لَغْواً، من باب قال: بطل، ولغا الرجل: تكلّم باللغو، وهو أَخْلاطُ الكلام، ولغا به: تكلم به، وألغيته: أبطلته، وألغيته من العدد. أسقطته، واللَّغَى مقصور: مثل اللغو، واللاغية: الكلمة ذات لغو.

قال: ومن الفرق اللطيف قول الخليل: اللغَطُ كلام لشيء ليس من شأنك، والكذب كلام لشيء تَغُرُّ به، والْمُحالُ كلام لغير شيء، والمستقيم كلام لشيء منتظم، واللغو كلام لشيء لم ترده انتهى باختصار

(2)

.

وقال السيوطي رحمه الله: القلّة هنا بمعنى العدم، كقوله تعالى:{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} انتهى

(3)

.

(1)

"ق" في مادَّة "لغا".

(2)

"المصباح" في مادة "لغا".

(3)

"زهر الربى" 3/ 109.

ص: 264

وقال السندي رحمه الله تعالى: قوله: "ويُقلّ اللغو" أي الكلامَ القليلَ الْجَدْوَى، أي غالب كلامه جامع ليطالبَ جَمَّة، وأما الكلام القاصر عن ذلك، فكان قليلاً، وقيل: القلّة بمعنى العدم، فاللغو ما لا فائدة فيه انتهى

(1)

.

(وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ) بضم حرف المضارعة. من الإطالة (وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ) بفتح حرف المضارعة، ويحتمل ضمها، من الإقصار، أو التقصير.

قال الفيومي رحمه الله: قَصَرتُ الصلَاةَ، ومنها، قَصْراً، من باب قتل، هذه هي اللغة العالية التي جاء بها القرآن، قال تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، وقُصِرَتِ الصلاةُ بالبناء للمفعول، فهي مقصورة، وفي الحديث:"أقُصِرَتِ الصلاةُ"، وفي لغة يتعدّى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: أَقْصَرْتُها، وقَصّرتُها انتهى.

والمعنى أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت طويلة، وخطبته بالعكس، خلافَ ما عليه كثير من الناس، فإنهم يطيلون الخطبة، ويقصرون الصلاة.

ولكن كان كلّ من الصلاة والخطبة متوسطًا، كما يدل عليه حديث جابر بن سمرة رضي الله الآتي في -35/ 1418 - :"وكانت خطبته قصداً، وصلاته قصداً".

قال النووي رحمه الله تعالى: ليس هذا مخالفاً للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة، ولقوله في الرواية الأخرى:"وكانت خطبته قصدًا، وصلاته قصداً"، لأن المراد بالحديث الأول أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة، لا تطويلاً يشقّ على المأمومين، وهي حينئذ قصدٌ، أي معتدلةٌ، والخطبة قصدٌ بالنسبة إلى وضعها انتهى

(2)

.

(وَلَا يَأْنْفُ) مضارع أَنف من الشيء أَنَفاً، من باب تعب، والاسم الأَنَفَة، مثل قَصَبَة: أي استكف، وهو الاستكبار، وأنِفَ منه: تنزّه عنه، قال أبو زيد: أنفتُ من قوله أشدَّ الأَنَف: إذا كرهت ما قال. قاله الفيّومي.

والمعنى أن من أخلاقه صلى الله عليه وسلم الكريمة، وشمائله العظيمة أنه لا يتكبّر، ولا يكره (أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الأرْمَلَةِ) أي المرأة الفقيرة التي لا زوج لها.

قال المجد رحمه الله تعالى: رجلٌ أرملُ، وامرأة أرمَلَةٌ: محتاجة، أو مسكينة، والجمع أرامل، وأراملةٌ، والأرمَلُ الْعَزَبُ، وهي بهاء، ولا يقال للعَزَبَة الموسرة أرملة انتهى.

وقال ابن منظور رحمه الله تعالى: ورجلٌ أرمَلٌ، وامرأةٌ أرملةٌ: محتاجة، وهم

(1)

"شرح السندي" 3/ 109.

(2)

"شرح مسلم" 6/ 158 - 159.

ص: 265

الأرملة، والأراملُ، والأراملةُ، كسّروه تكسير الأسماء لقلّته، وكل جماعة من رجال ونساء، أو رجال دون نساء، أو نساء دون رجال أرملةٌ، بعد أن يكونوا محتاجين، ويقال للفقير الذي لا يقدر على شيء من رجل، أو امرأة: أرملةٌ، ولا يقال للمرأة الموسرة أرملةٌ، والأرامل المساكينُ.

ويقال: جاءت أرملة من نساء ورجال محتاجين، ويقال للرجال المحتاجين الضعفاء: أرملة، وإن لم يكن فيهم نساء.

وحكى ابن بَرِّيّ عن ابن قُتيبة، قال: إذا قال الرجل: هذا المال لأرامل بني فلان، فهو للرجال والنساء، لأن الأرامل يقع على الذكور والنساء.

قال: وقال ابن الأنباريّ: يُدفع للنساء دون الرجال، لأن الغالب على الأرامل أنهنّ النساء، وإن كانوا يقولون: رجل أرمل، كما أن الغالب على الرجال أنهم الذكور دون الإناث، وإن كانوا يقولون: رَجُلَةٌ. وفي شعر أبي طالب يمدح النبيّ صلى الله عليه وسلم:

ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأرَامِلِ

قال: الأرامل: المساكين من نساء ورجال، قال: ويقال: لكل واحد من الفريقين على انفراده: أرامل، وهو بالنساء أخصّ، وأكثر استعمالاً.

والأرمل الذي ماتت زوجته، والأرملة التي مات زوجها، وسواء كانا غنيين، أو فقيرين انتهى ببعض تصرف

(1)

.

(وَالْمِسْكِين، فَيَقْضِيَ) بالنصب عطفاً على "يمشي"(لَهُ الْحَاجَةَ) الضمير للمسكين، وحذف نظيره لـ"أرملة"، ويحتمل أن يعود الضمير إلى "الأرملة"، و"المسكين" باعتبار المذكور. ورمز في هامش "الكبرى" إلى أنه وقع في بعض النسخ:"لهم حاجتهم"، وهو واضح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -31/ 1414 - وفي "الكبرى" -25/ 1716 - بالسند المذكور، وهو من أفراده رحمه الله تعالى.

(1)

"لسان العرب" في مادّة "رمل".

ص: 266

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو استحباب تقصير الخطبة، هذا هو الذي صرح به المصنف رحمه الله تعالى.

لكن جاء ما يدلّ على وجوبه، حيث ورد بصيغة الأمر، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي وائل، قال: خطبنا عمّار، فأوجز، وأبلغ، فلما نزل، قلنا: يا أبا القظان، لقد أبلغت، وأوجزت، فلو كنت تنفّستَ

(1)

، فقال: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مَئِنّةٌ

(2)

من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصُرُوا الخطبة، وإن من البيان لسحراً".

وأخرجه أبو داود، والبيهقي بسند حسن في المتابعات مختصراً بلفظ:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقصار الخطبة". ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: "خطبنا عمار، فتجوّز في الخطبة، فقال رجل: قد قلتَ قولاً شفاءً، لو أنك أطلت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن نُطيل الخطبة".

فالظاهر وجوب تطويل الصلاة، وتقصير الخطبة، والله تعالى أعلم.

ومنها: استحباب الإكثار من ذكر الله تعالى، والتقليل من الكلام الذي لا فائدة فيه.

ومنها: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع، وعدم التكبر على أحد من الخلق، فكان لين الجانب، يمشي مع الأرملة، والفقير لقضاء حاجتهما، ولقد صدق الله تعالى حيث قال سبحانه في شأنه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال سبحانه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية [آل عمران: 159]، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"بُعثتُ لأتمّم صالح الأخلاق"

(3)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في مذاهب أهل العلم في حكم الخطبة:

ذهب جمهور الفقهاء، ومنهم مالك، والشافعي، وأحمد إلى أن الخطبتين من شروط صحة الجمعة. وذهب أبو حنيفة إلى أنها شرط، ولكن تجزىء خطبة واحدة، وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري أن الجمعة تصح بلا خطبة. وبه قال داود، وعبد الملك من أصحاب مالك. قال القاضي عياض: وروي عن مالك. أفاده النووي في "المجموع" 4/ 3830.

(1)

أي أطلت قليلاً.

(2)

بفتح الميم، ثم همزة مكسورة، ثم نون مشددة: أي علامة.

(3)

أخرجه أحمد في "مسنده" بسند صحيح رقم 9595.

ص: 267

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بصحة الجمعة بلا خطبة هو الحقّ عندي؛ لعدم دليل يَدُلُّ على الاشتراط. ولقد حققّ هذا الموضوع ابن حزم رحمه الله، فقال في الردّ على من اشترط ذلك: ما نصه: فأما أبو حنيفة ومالك فقالا: الخطبة فرض لا تجزىء صلاة الجمعة إلا بها، والوقوف في الخطبة فرض، واحتجا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تناقضاً، فقالا: إن خطب جالساً أجزأه، وإن خطب واحدة أجزأه، وإن لم يخطب لم يجزه. قال: من الباطل أن يكون بعض فعله صلى الله عليه وسلم فرضاً وبعضه غير فرض. وقال الشافعي: إن خطب خطبة واحد لم تجزه الصلاة، ثم تناقض، فأجاز الجمعة لمن خطب قاعداً، والقول عليه في ذلك كالقول على أبي حنيفة ومالك في إجازتهما الجمعة بخطبة واحد ولا فرق. قال: فإن ادعوا إجماعاً أكْذَبَهُمْ ما رويناه عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن البصري: من لم يخطب يوم الجمعة صلى ركعتين على كل حال. وقد قاله أيضاً ابن سيرين. قال: فإن قالوا: لم يصلها صلى الله عليه وسلم قط إلا بخطبة، قلنا: ولا صلاها قط إلا بخطبتين قائمًا يجلس بينهما، فاجعلوا كل ذلك فرضاً لا تصح الجمعة إلا به، ولا صلى قط إلا رفع يديه في التكبيرة الأولى، فأبطلوا الصلاة بترك ذلك. انتهى كلام ابن حزم

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن القول الراجح هو عدم اشتراط الخطبة لصحة الجمعة، لعدم دليل يَدُلُّ على ذلك، فالذين قالوا بالاشتراط ما جاءوا بدليل إلا مجرد فعله صلى الله عليه وسلم، وهو بمجرده لا يكفي، وأيضاً قد تناقضوا في ذلك، فإن فعله مشتمل على أمور من القيام والجلوس بين الخطبتين، وغير ذلك، وهم لا يقولون باشتراطها.

والحاصل أن الحقّ صحة الجمعة بلا خطبة، ولكن السنة أن لا تُصَلَّى إلا بها؛ اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى اعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"المحلي" جـ 2 ص 57 - 60.

ص: 268

‌32 - (بَابٌ كَمْ يَخْطُبُ؟)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "باب" يحتمل أن يكون منوّناً، ويحتمل أن يكون مضافاً إلى جملة "كم يخطب"، و"كم" استفهاميّة، في محل نصب مفعول مقدّم لـ"يخطب"، وحذف تمييزها، أي كم خُطبةً يخطب. والله تعالى أعلم بالصواب.

1415 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: جَالَسْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا رَأَيْتُهُ يَخْطُبُ، إِلاَّ قَائِمًا، وَيَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ، فَيَخْطُبُ الْخُطْبَةَ الآخِرَةَ).

رجال هذا الإسناد أربعة:

1 -

(علي بن حُجر) المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9] تقدم 13/ 13.

2 -

(شريك) بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، صدوق يخطىء كثيراً، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء، وكان عادلًا فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع [8] تقدم 25/ 29.

[تنبيه]: هكذا وقع في النسخة الهندية "شريك"، وهو الذي في "الكبرى"، و"تحفة الأشراف" جـ 2 ص 156 ووقع في النسخ المطبوعة "إسرائيل" بدل شريك، وهو تصحيف بلا شكّ، لأن علي بن حُجر ولد سنة (154) على ما ذكر الباشاني، ومات إسرائيل سنة (160) أو بعدها، فيبعد جدًّا أن يكون علي بن حجر ممن يروي عنه، لأنه يكون وقت موت إسرائيل ابن ست سنين، أو سبع، وهو مروزي المولد، وإسرائيل كوفي. والله تعالى أعلم.

3 -

(سماك) بن حَرْب، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، تغيّر بآخره [4] تقدم 2/ 325.

4 -

(جابر بن سمرة) بن جُنادة الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدّم 28/ 816. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف رحمه الله تعالى، وهو الرابع والثمانون من رباعيات الكتاب، وأن رجاله رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، فمروزي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: جَالَسْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي عشت

ص: 269

معه (فَمَا رَأَيْتُهُ يَخْطُبُ، إِلَّا قَائِماً) فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب دائماً بالقيام، واستدلّ به الشافعي، ومالك، ومن وافقهما على وجوب القيام في الخطبة، لكن الراجح عدم الوجوب؛ لعدم ما يدل عليه، وقد تقدم البحث فيه في 18/ 1397 مستوفًى (وَيَجْلسُ) أي على المنبر بعد الخطبة الأولى (ثُمَّ يَقُومُ، فَيَخْطُب) وفي نسخة: "ويخطب" بالواو (الْخطْبَةَ الآخِرَةَ) أي الثانية، وهذا محلّ الترجمة، ففيه بيان عدد خطبة الجمعة.

وفي الرواية الآتية في الباب التالي من طريق إسرائيل، عن سماك بن حرب:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً، ثم يقعد قعدةً، لا يتكلّم، ثم يقوم، فيخطب خطبة أخرى، فمن حدّثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قاعداً فقد كذب".

وفي رواية سفيان الثوريّ، عن سماك:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، ويقرأ آيات، ويذكر الله عز وجل، وكانت خطبته قصداً، وصلاته قصداً".

والقصد الوسط، أي خطبته صلى الله عليه وسلم متوسطة بن القصر والطول، وكذلك صلاته، ولا يلزم مساواتهما، إذ توسط كلّ يُعتبر في بابه، كما تقدّم.

وفي رواية مسلم: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب قائماً، فمن نبّأك أنه كان يخطب جالساً، فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة".

قال النووي رحمه الله تعالى: المراد الصلوات الخمس، لا الجمعة انتهى. ولابدّ من هذا التأويل، لأن الْجُمَع التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم من عند افتراضها إلى موته لا تبلغ ذلك المقدار، ولا نصفه

(1)

.

وفي رواية أبي داود من طريق شيبان بن عبد الرحمن النَّحْوي، عن سماك:"كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هي كلمات يسيرات". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -32/ 1415 - وفي "الكبرى" -33/ 1730 - عن علي بن حجر، عن شريك بن عبد الله، عن سماك بن حرب، عنه. وفي 34/ 1417 - عن محمد بن

(1)

"نيل الأوطار" 3/ 318 - 319.

ص: 270

عبد الله بن بَزيع، عن يزيد بن زُريع، عن إسرائيل، عن سماك به. وفي 35/ 1418 - عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ، عن سماك به. وفي 26/ 15784 - عن محمر بن بشار، عن ابن مهدي به. وفي 18/ 1574 - عن إسماعيل ابن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن سماك به. وفي 24/ 15782 - عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن سماك به. وفي 25/ 15783 - عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن سماك به.

وأخرجه (م) 3/ 9 و3/ 11 (د) 1101 و1095 و1093 و1094 و1107 (ت) 507 (ق) 1105 و1106 (أحمد) 5/ 86 و87 و88 و90 و92 و93 و98 و100 و102 و106 و107 (الدارمي) 1565 و1567 (عبد الله بن أحمد في زوائد المسند) 5/ 97 و100 (ابن خزيمة) 1447 و1448. والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده

(1)

:

منها: ما بوّب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان عدد الخطبة، فالحديث صريح في مشروعية الخطبتين للجمعة، وسيأتي بيان حكمهما في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.

ومنها: مشروعية القيام حال الخطبة، وأنه لا يجلس فيها، قال ابن المنذر رحمه الله: هو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار اهـ. واختلف في وجوبه، مذهب الجمهور إلى وجوبه، ونقل عن أبي حنفية رحمه الله أن القيام سنة، وليس بواجب، وقال به ابن حزم، وهو الرجح، وقد تقدم البحث فيه في 18/ 1397.

ومنها: مشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلا يَصل بينهما في قيام واحد.

ومنها: مشروعية تخفيف الخطبتين، وقد تقدم البحث عنه في الباب الماضي.

ومنها: استحباب عدم التكلّم في حال الجلوس بين الخطبتين.

ومنها: قراءة آيات من القرآن في الخطبة، وتذكير الناس، ولا خلاف في الاستحباب، وإنما الخلاف في الوجوب، فذهب الشافعي إلى وجوب ذلك، وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، وهو الراجح؛ لعدم دليل للوجوب، سوى مجرّد الفعل، وهو لا يكفي في ذلك، كما تقدّم غير مرّة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم فيما يجزىء من الخطبة:

(1)

ليس المراد فوائد سياق المصنف فقط، بل مع ما أوردته في الشرح، فتنبه.

ص: 271

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم فيما يجزىء من الخطبة للجمعة، فقالت طائفة: يجزىء ما يقع عليه اسم خطبة، روينا ذلك عن الشعبي، أنه كان يخطب يوم الجمعة ما قلّ، أو كثر، وكان عطاء بن أبي رباح يقول: ما جلس النبي صلى الله عليه وسلم على منبر قطّ

(1)

.

وممن رأى أن خطبةً واحدةَ تجزىء مالكٌ، والأوزاعيّ، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد، وقال أبو ثور: يجزىء ما يكون كلاماً مجتمعاً، يقع عليه اسم خطبة.

وفي هذا المسألة قولان آخران:

أحدهما قول الشافعيّ، وهو أن الإِمام إن خطب خطبة واحدة، وصلى الجمعة عاد، فخطب ثانيةً، فإن لم يفعل حتى يذهب الوقت أعاد الظهر أربعاً. وقال: فإن جعلها خطبتين، ولم يفصل بينهما بجلوس أعاد خطبته، فإن لم يفعل صلى أربعًا، وأقلّ ما يقع عليه اسم خطبة من الخطبتين أن يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ شيئاً القرآن في الأولى، ويحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله، ويدعو في الآخرة.

والقول الآخر قول النعمان، وهو أن الإِمام إن خطب يوم الجمعة بتسبيحة واحدة أجزأه.

قال ابن المنذر: فأما ما قال النعمان، فلا معنى له، ولا أعلم أحداً سبقه إليه، وغير معروف عند أهل المعرفة باللغة بأن يُقال لمن قال: سبحان الله، قد خطب، وإذا كان المقول هذا سبيله، فلا معنى للاشتغال به.

وأما الذي قاله الشافعي، فلست أجد دلالةً توجب ما قال.

وقد عارض الشافعيَّ غيرُه

(2)

من أصحابنا، فقال: يقال لمن قال بقوله: من أين أوجبت الجلسة بين الخطبتين فرضاً؟ أبطلت الجمعة بتركها، وقد أتى بالجمعة، والخطبتين، وليست الجلسة من الجمعة، لأن الجمعة فرضها ركعتان، كذلك في حديث عمر رضي الله عنه، والخطبة معروفة، والجلسة غير هذا، ولو كانت الجلسة واجبة لم يجز أن تبطل الجمعة بتركها، لأنها غير هذا، فإن اعتلّ بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم بين الخطبتين، فالفعل عنده، وعند غيره لا يوجب فرضاً، ولو ثبت أنه فرض لم يدلّ على إبطال

(1)

هذا القول ترده الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس بين الخطبتين. فتنبّه.

(2)

قوله: "غيرُه" أراد به المحققين من أهل العلماء الذين جمعوا بين النقل والدراية، وفيه إبطال لزعم من زعم أن ابن المنذر شافعي المذهب مقلدٌ للشافعي، وقد سبق في مقدمة هذا الشرح تفنيد هذا الزعم، عند ذكر مذهب الإِمام النسائي رحمه الله، فراجعه تستفد. وبالله تعالى التوفيق.

ص: 272

الجمعة.

ويقال له: وما الفرق بين الجلسة الأولى، والجلسة بين الخطبتين؟ فإن اعتلّ بأن الجلسة بين الخطبتين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك الجلسة الأولى من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر كلاماً تركت ذكره هاهنا كراهية التطويل انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال قول من قال: إن أقل الخطبة ما يقع عليه اسم الخطبة، ومعلوم أنه لا يقع عليه ذلك إلا إذا اشتمل على الذكر، والموعظة، وذلك هو المقصود من الخطبة، كما يظهر ذلك ممن تتبّع خُطَب النبي صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي، إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌33 - (بَابُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ بِالْجُلُوسِ)

1416 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ الْخُطْبَتَيْنِ، وَهُوَ قَائِمٌ، وَكَانَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) أبو مسعود البصري، ثقة [10] تقدم 42/ 47.

2 -

(بشر بن المفضّل) البصري، ثقة ثبت عابد [8] تقدم 66/ 82.

3 -

(عبيد الله) بن عمر العمري المدني، ثقة ثبت [5] تقدم 15/ 15.

4 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما، تقدم 12/ 12.

وشرح الحديث يعلم مما سبق في الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الأوسط" 4/ 62 - 63.

ص: 273

مسألتان:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -33/ 1416 - وفي "الكبرى" -29/ 1722 - عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضّل، عن عبيد الله، عن نافع، عنه. وفي "الكبرى" -29/ 1721 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عبيد الله به.

وأخرجه (خ) 2/ 12 و2/ 14 (م) 3/ 9 (ت) 506 (ق) 1103 (أحمد) 2/ 35 و2/ 91 و2/ 98 (الدارمي) 1566 (ابن خزيمة) 1446 و1781. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌34 - (بَابُ السُّكُوتِ فِي القَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ)

1417 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ قِعْدَةً، لَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ يَقُومُ، فَيَخْطُبُ خُطْبَةً أُخْرَى، فَمَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَدْ كَذَبَ).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم البحث فيه مستوفًى قبل باب، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وممن لم يتقدم هناك من رجاله:

1 -

(محمد بن عبد الله بن بَزيع) البصري، ثقة [10] تقدم 43/ 588.

2 -

(يزيد بن زُرَيع) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 5/ 5.

3 -

(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أبو يوسف الكوفي الكوفي، ثقة [7] تقدم 75/ 1006.

ص: 274

وقوله: "قعدة" بفتح القاف: المرة من القعود. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌35 - (بَابُ القِرَاءَةِ في الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَالذِّكْرِ فِيهَا)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن غرض المصنف رحمه الله تعالى بهذا أن يبين أن الخطبة الثانية مثل الأولى في مشروعية القراءة، والذكر فيها، لا أنه أراد أن القراءة والذكر في الخطبة الثانية فقط دون الأولى، بدليل أنه تقدم له في "بابٌ كيف الخطبة؟ " أن أورد خطبة الحاجة، وهي شاملة للخطبتين، وفيها القراءة والذكر، وكأنه أراد التنبيه لئلا يُظنّ أن الخطبة الثانية للدعاء فقط. والله تعالى أعلم بالصواب.

1418 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ، وَيَقْرَأُ آيَاتٍ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل، وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ قَصْدًا، وَصَلَاتُهُ قَصْدًا).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد سبق البحث فيه مستوفًى قبل بابين.

ودلالته على ما ترجم له واضحة، فإنه يدلّ على استحباب قراءة آيات من القرآن، وذكر الله عز وجل في الخطبة الثانية. والله تعالى أعلم.

وممن لم يتقدم من رجاله هناك:

1 -

(عمرو بن علي) الفلّاس البصريّ، ثقة حافظ [10] تقدم 4/ 4.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ البصري الإِمام المثبت الحجة [9] تقدم 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الكوفي الإِمام المثبت الحجة [7] تقدم 33/ 37. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

***

ص: 275

‌36 - (الْكَلَامِ وَالْقِيَامِ بَعْدَ النُّزُولِ عَنِ الْمِنْبَرِ)

1419 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ عَنِ الْمِنْبَرِ، فَيَعْرِضُ لَهُ الرَّجُلُ، فَيُكَلِّمُهُ فَيَقُومُ مَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إِلَى مُصَلاَّهُ، فَيُصَلِّي).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن علي بن ميمون) الرَّقّيّ، أبو العباس العطّار، ثقة [11] تقدم 14/ 418.

2 -

(الفريابيّ

(2)

) محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الضبّيّ مولاهم، نزيل قَيْسَارية، من ساحل الشام، ثقة فاضل [9] تقدم 14/ 418.

3 -

(جرير بن حازم) الأزدي، أبو النضر البصري، ثقة، له أوهام إذا حدّث من حفظه [6] تقدم 172/ 1141.

4 -

(ثابت البنانيّ) ابن أسلم البصري، ثقة عابد [4] تقدم 45/ 53.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله تعالى عنه، تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنسٍ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي نسخة:"كان النبي"، وفي رواية أبي داود: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَنْزِلُ عَنِ الْمِنْبَرِ، فَيَعْرِضُ لَهُ الرَّجُلُ) بفتح الياء، من باب ضرب: أي يظهر له (فَيُكَلِّمُهُ) فيه دلالة على جواز الكلام بعد الفراغ من الخطبة، وقبل الشروع في الصلاة

(3)

، وقد تقدم بيان اختلاف العلماء شي ذلك في المسألة السادسة -22/ 1401 - "باب الإنصاف للخطبة يوم الجمعة"(فَيَقُومُ مَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ) فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن المعاشرة، فكان لا يقطع على أحد كلامه حتى يكون هو الذي يقطعه (ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إِلَى

(1)

وفي نسخة "أخبرني".

(2)

قوله: "الفريابي" بكسر الفاء، وسكون الراء، بعدها تحتانية، وبعد الألف موحدة: نسبة إلى فارياب، بلدة بنواحي بلخ، ويقال: الفاريابي، والفيريابي. قاله في "اللباب" 2/ 406.

(3)

لكن حديث الباب ضعيف لا يصلح للاحتجاج به، فتنبّه.

ص: 276

مُصَلَّاهُ) بضم الميم بصيغة اسم المفعول: أي محل صلاته، وفي نسخة:"إلى المصلّى"(فَيُصَلِّي) أي صلاة الجمعة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا ضعيف، لشذوذه، والمحفوظ أن هذا في صلاة العشاء، لا الجمعة، كما تقدم في 13/ 791 - "باب الإِمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة".

قال أبو داود في "سننه" بعد أن أخرج الحديث: والحديث ليس بمعروف عن ثابت، وهو مما تفرّد به جرير بن حازم انتهى.

وقال الترمذي في "جامعه" بعد أن أخرج الحديث: قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث جرير بن حازم، قال: وسمعت محمداً -يعني البخاريّ- يقول: وهم جرير بن حازم في هذا الحديث، والصحيح ما رُوي عن ثابت، عن أنس، قال:"أقيمت الصلاة، فأخذ رجل بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فما زال يُكلمه حتى نعس بعض القوم".

قال محمد: "والحديث هو هذا".

وجرير بن حازم ربّما يَهم في الشيء، وهو صدوق انتهى. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -36/ 1419 - وفي "الكبرى" -35/ 1732 - بالسند المذكور.

وأخرجه (د) 1120 (ت) 517 (ق) 1117 (أحمد) 3/ 119 و3/ 127 و3/ 213 (عبد بن حميد) 1260 (ابن خزيمة)1838. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌37 - (عَدَدُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ)

1420 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ

ص: 277

الأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ، غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(علي بن حُجْر) المروزي تقدم قبل أربعة أبواب.

2 -

(شريك) بن عبد الله النخعي الكوفي تقدم قبل أربعة أبواب أيضاً.

3 -

(زُبيد) -بموحّدة مصغّراً- ابن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب الياميّ، ويقال: الإياميّ، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله الكوفي، ثقة ثبت عابد [6].

روى عن مرّة بن شراحيل، وسعد بن عُبيدة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم. وعنه أبناه عبد الله، وعبد الرحمن، وشريك، وغيرهم.

قال القطّان: ثبت. وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة. وقال ليث، عن مجاهد: أعجب أهل الكوفة إليّ أربعة، فيهم زُبيد. وقال ابن شُبرُمة: كان يصلي الليل كله. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة ثقة خيار، إلا أنه كان يميل إلى التشيّع. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث، وكان في عداد الشيوخ، وليس بكثير الحديث. وقال: العجليّ: ثقة ثبت في الحديث، وكان علوياً. وحكى ابن أبي خيثمة، عن شعبة، قال: ما رأيت بالكوفة شيخاً خيراً من زُبيد. وقال سعيد بن جُبير: لو خُيّرتُ عبداً ألقى الله بمسلاخه اخترت زبيداً اليامي. وقال البخاري في "تاريخه": قال عمرو بن مُرّة: كان زُبيدٌ صدوقاً. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من الْعُبّاد الْخُشُن مع الفقه في الدبن، ولزوم الورع الشديد.

قال أبو نعيم: مات سنة (122)، وقال ابن نمير: مات سنة (24)، وأرخه الإِمام أحمد، وابن قانع سنة (23). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثاً.

4 -

(عبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاريّ المدني، ثم الكوفيّ، ثقة [2] تقدم 86/ 104.

5 -

(عمر) بن الخطاب بن نُفَيل بن عبد العُزّى بن رياح العدوي أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، تقدم 60/ 75. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: قَالَ عُمَرُ) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (صَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْر) أي صلاة عيد الفطر (رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الأَضْحَى) أي صلاة عيد الأضحى (رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَان)

ص: 278

أي ما عدا المغرب، أو الصلاة المختلفة حضراً وسفراً في السفر ركعتان، أو الصلاة الرباعية في الحضر تكون في السفر ركعتين، قاله السندي رحمه الله تعالى.

(تَمَامٌ غير قصر) خبر لمبتدإ محذوف، أي هما تمام، و"غير" بالرفع صفة لتمام، ويحتمل النصب على الحال.

يعني أنهما تامان في الثواب، وإن نقصا في عدد الركعات من صلاة الحضر. أو المراد أنهما المشروع في السفر، كما صح في حديث عائشة رضي الله عنها:"فُرضت الصلاةُ ركعتين ركعتين، فأقرّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر". وتقدم للمصنف -3/ 455، وإن أطلق عليها القصر في كتاب الله تعالى.

وقال السندي رحمه الله تعالى: قوله: "تمام غير قصر": أي لا ينبغي الزيادة فيها، فصارت كالتمام، فلا يرد أن قوله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ظاهر في القصر، فكيف يصح القول بأنها تمام غير قصر؟ انتهى

(1)

.

وقال القاري رحمه الله تعالى عند قوله: "سَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ السفر ركعتين، وهما تمام غير قصر

" الحديث، رواه أحمد، وابن ماجه: أي تمام المفروض، غير قصر، أي غير نقصان عن أصل الفرض، فإطلاق القصر في الآية مجاز، أو إضافيّ انتهى

(2)

.

(عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة "على لسان النبي صلى الله عليه وسلم".

(قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) النسائي رحمه الله تعالى (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ) غرض المصنف رحمه الله تعالى بهذا بيان الانقطاع الواقع في هذا السند، لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من عمر رضي الله تعالى عنه.

وهذا الذي قاله ثبت عن غيره أيضاً، فقد روى الدُّوريّ عن ابن معين أنه قال: لم ير عمر، قال: فقلت له: فالحديث الذي يُروى كنّا مع عمر نتراءى الهلال؟ قال: ليس بشيء. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: يصحّ لابن أبي ليلى سماع من عمر؟ قال: لا. قال أبو حاتم: رُويَ عن عبد الرحمن أنه رأى عمر، وبعض أهل العلم يدخل بينه وبين عمر البراء بن عازب، وبعضهم كعب بن عُجرة. وقال الآجرّيّ عن أبي داود: رأى عمر، ولا أدري يصحّ، أم لا؟.

وقال أبو خيثمة في "مسنده": حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سفيان الثوريّ، عن زُبيد، وهو الياميّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، سمعت عمر يقول: "صلاة الأضحى

(1)

"شرح السندي" على "سنن ابن ماجه" 1/ 557.

(2)

"المرعاة" 4/ 414.

ص: 279

ركعتان، والفطر ركعتان"، الحديث، قال أبو خيثمة: تفرّد به يزيد بن هارون هكذا، ولم يقل أحد: سمعت عمر غيره، ورواه يحيى بن سعيد، وغير واحد عن سفيان، عن زُبيد، عن عبد الرحمن، عن الثقة، عن عمر. ورواه شريك، عن زبيد، عن عبد الرحمن، عن عمر، ولم يقل: سمعت.

وقال ابن أبي خيثمهَ في "تاريخه": وقد روي سماعه من عمر من طرق، وليست بصحيحة.

وقال الخليليّ في "الإرشاد": الحُفّاظ لا يثبتون سماعه من عمر.

وقال ابن المدينيّ: كان شعبة يُنكر أن يكون سمع من عُمر، قال ابن المديني: ولم يسمع من معاذ بن جبل، وكذا قال الترمذيّ في "العلل الكبير"، وابن خُزيمة. وقال يعقوب بن شيبة: قال ابن معين: لم يسمع من عمر، ولا من عثمان، وسمع من عليّ. وقال ابن معين: لم يسمع من المقداد. وقال العَسْكريّ: روى عن أُسيد بن حُضير مرسلاً. وقال الذهليّ، والترمذيّ في "جامعه": لم يسمع من عبد الله بن زيد بن عبد ربه. ذكر هذه الأقوال في "تت"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما ذُكر أن الحفاظ لا يثبتون سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عمر رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

فإن قلت: كيف يصحّ، وفيه انقطاع، كما بيّنه المصنف رحمه الله تعالى هنا؟.

قلت: له سند آخر عند المصنف في "الكبرى"، فقد رواه عن محمد بن رافع، عن محمد بن بشر، قال: أنبأنا يزيد بن زياد بن أبي الجعد

(2)

، عن زُبيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرة، عن عمر رضي الله تعالى عنهما، فذكره.

وأخرجه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة. والله تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -37/ 1420 - وفي "الكبرى" -36/ 1733 - عن علي بن حُجْر، عن شريك بن عبد الله، عن زُبيد بن الحارث، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه. وفي -

(1)

راجع "تت" جـ 2 ص 248 - 549.

(2)

يزيد بن زياد بن أبي الجعد ثقة وثقه ابن معين وغيره. راجع "تت" جـ 4 ص 412.

ص: 280

1/ 1440 - و"الكبرى" -1/ 1898 - عن حُميد ابن مَسعدة، عن سفيان بن حبيب، عن شعبة، عن زبيد به. وفي 11/ 1566 - و"الكبرى" 11/ 1771 - عن عمران بن موسى، عن يزيد بن زُريع، عن سفيان بن سعيد، عن زبيد به. وفي "الكبرى" عن إبراهيم بن محمد، عن يحيى، عن سفيان به.

وأخرجه (ق) 1063 و1064 (أحمد) 1/ 37 (عبد بن حُميد) 29 (ابن خزيمة)1425. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو بيان أن صلاة الجمعة ركعتان.

وفيه الردّ على من قال: إن أصل صلاة الجمعة أربع ركعات، وبهذا ترجم ابن حبان في "صحيحه"، فقال:"ذكر الخبر الْمُدْحِض قولَ من زعم أن صلاة الجمعة في الأصل أربع لا ركعتان" انتهى

(1)

.

ومنها: أن صلاة العيدين، والسفر ركعتان.

ومنها: أن هذه الصلوات تامّة ليست مقصورة من صلوات أخرى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌38 - (الْقِرَاءَةُ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ)

1421 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُخَوَّلٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمًا الْبَطِينَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ {الم تَنْزِيلُ} وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} وَفِى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى الصنعاني) البصري، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

(1)

"صحيح ابن حبان" جـ 7 ص 22.

ص: 281

2 -

(خالد بن الحارث) الْهُجَيميّ البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الشهير [7] تقدم 24/ 26.

4 -

(مخوّل) بوزن محمّد، وقيل: بوزن منبر ابن راشد، أبو راشد بن أبى مجالد النَّهْديّ مولاهم الكوفي الْحَنَّاط، ثقهَ نُسب إلى التشيع [6] تقدم 20/ 426.

5 -

(مسلم البطين) ابن عمران، ويقال: ابن أبي عمران، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة [6] تقدم 26/ 915.

6 -

(سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه [3] تقدّم 28/ 436.

7 -

(ابن عباس) عبد الله البحر رضي الله تعالى عنهما تقدم 27/ 31.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم شرحه، وبيان مسائله في باب "القراءة في الصبح يوم الجمعة" -47/ 956 - فراجعه هناك تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌39 - (الْقِرَاءَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}

1422 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ زَيْدِ

(1)

بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ).

رجال هذا الإسناد: ستة، تقدموا في السند الماضي، سوى:

1 -

(معبد بن خالد) بن مُرير -براء، مصغراً- ويقال: مُرَيّ ابن حارثة بن ناصرة بن عمرو بن سعيد بن عليّ بن رُهم بن رَبَاح بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس عَيْلان ابن مُضَر بن نزار الجَدَليّ القيسيّ

(2)

أبو القاسم الكوفي القاصّ، ثقة عابد [3].

(1)

وقع في بعض النسخ "يزيد" بدل "زيد" وهو غلط، فتنبه.

(2)

بفتح الجيم، ومهملة مفتوحة: نسبة إلى جديلة بنت مُرّ بن أدّ بن طابخة، وهي أم يشكر.

ص: 282

روى عن أبيه، ويقال: له صحبة، وحارثة بن وهب الْخُزَاعي، وزيد بن عقبهَ الفَزَاريّ، وغيرهم. وعنه الأعمش، وشعبة، والثوريّ، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة، وقال: قالوا: كان ثقة، إن شاء الله، قليل الحديث. وقال إسحاق بن منصور وغيره، عن ابن معين: ثقة. وقال النسائيّ. ثقة. وقال العجلي: كوفي تابعيّ ثقة. وقال أبو حاتم. صدوق. وذكره يعقوب بن سفيان مع جماعة، وقال: كلّ هؤلاء كوفيون ثقات. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان عابداً صابرًا على التهجّد، يصلي الغداة والعشاء بوضوء واحد. وقال ابن معين: هو من أقدم شيخ لقيه سفيان، وقد ذكروا أن عبد الملك بن مروان لمّا قدم الكوفة بعد قتل مُصعب بن الزبير جلس يَعرض أحياء العرب، فقام إليه معبد بن خالد الْجَدَليّ، وكان قصيراً دَميماً، فذكر قصة له مع عبد الملك دالّة على معرفته وفهمه.

قال محمد بن سعد، وأحمد بن حنبل، عن طلق بن غنّام: مات في ولاية خالد على العراق، زاد ابن سعد: سنة (118). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط.

2 -

(زيد بن عُقبة) الفَزَاري الكوفي، ثقة [3].

روى عن سمرة بن جندب. وعنه ابنه سعيد، وعبد الملك بن عُمير، ومعبد بن خالد.

قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال النسائي: ثقة وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له أبو داود، والترمذيّ، والمصنف، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط.

3 -

(سمرة) بن جُندب بن هلال الفَزَاري حليف الأنصار، صحابي مشهور رضي الله عنه، تقدم 25/ 393.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث سمرة رضي الله تعالى عنه هذا شرحه واضح، وهو حديث صحيح، أخرجه المصنف رحمه الله تعالى هنا -39/ 1422 - وفي "الكبرى" -37/ 1739 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن معبد بن خالد، عن زيد بن عُقبة، عنه. وعن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن مسعر، وسفيان، كلاهما عن معبد به

(1)

.

وأخرجه (د) 1125 (أحمد) 5/ 13 و5/ 14 (ابن خزيمة)1847. والله تعالى أعلم.

(1)

رواية محمود بن غيلان ذكرها في "تحفة الأشراف" 4/ 76، ولم أجدها، فلتحرر.

ص: 283

والحديث يدلّ على استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة الجمعة، ولا تعارض بينه وبين حديث الباب السابق، لإمكان حمله على أوقات مختلفة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في بعض الأوقات بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، وفي بعضها بسورة الجمعة، وسورة المنافقين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌40 - (ذِكْرِ الاِخْتِلَافِ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنف رحمه الله تعالى بهذا الباب بيان اختلاف الرواة على النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما في الحديث الذي رواه في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة.

وذلك أنه في رواية عبيد الله بن عبد الله عنه لما سأله الضحّاك ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة، وفي الركعة الثانية سورة الغاشية.

وفي رواية حبيب بن سالم عنه ذكر أنه كان يقول في الركعة الأولى بسورة الأعلى، وفي الثانية بسورة الغاشية، فاختلف الراويان عنه في تعيين السور.

لكن هذا الاختلاف لا يؤثّر في صحة الحديث، ولذا أخرجه مسلم رحمه الله تعالى في "صحيحه" بالوجهين.

وذلك لأنه يُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بهذا وبهذا في أوقات مختلفة، كما تقدّم بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب.

1423 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، مَاذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى إِثْرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: كَانَ يَقْرَأُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإِمام الحجة المثبت المدني [7] تقدم 7/ 7.

ص: 284

3 -

(ضمرة بن سعيد) بن أبي حَنَّة الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [4] تقدم 35/ 566.

4 -

(عبيد الله بن عبد الله) بن عُتبة بن مسعود الهذلي المدني، ثقة ثبت فقيه (3) تقدم 45/ 56.

5 -

(النعمان بن بشير) بن سَعْد بن ثعلبة صحابي، ووالداه صحابيان رضي الله عنهم، سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قُتل بحمص سنة (65) وله (64) سنة، تقدم 19/ 528. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح. ومنها أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن عتبة (أَنَّ الضَّحَّاكَ بنَ قَيْسٍ) بن خالد بن وهب الفهريّ، أبو أُنيس الأمير المشهور، صحابي صغير، قُتل رضي الله تعالى عنه في وَقْعة مَرْج راهط، سنة (66)(سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ) رضي الله عنهما، وفي رواية مسلم: "كتب الضحّاك بن قيس إلى النعمان بن بشير، يسأله أيّ شيء قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة سوى سورة الجمعة

" (مَاذَا) "ما" اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، و"ذا" اسم موصول بمعنى "الذي" خبرها، وجملة "كان يقرأ" صلة الموصول، والعائد محذوف، والتقدير ما الذى كان يقرؤه؟،، ويحتمل أن تكون "ماذا" اسما مركباً للاستفهام في محل رفع مبتدأ، وجملة "كان" خبرها، أي أيُّ شيء كان يقرؤه؟، أو اسم الاستفهام في محل نصب مفعول مقدم لـ"يقرأ"، والتقدير أيَّ شيء كان يقرأ؟.

[فائدة]: "ذا" إذا وقعت بعد "ما"، أو "من" الاستفهاميتين، يجوز أن تكون اسماً موصولًا، نحو "ماذا فعلتَ"، أو "من ذا جاءك"، ويجوز أن تكون مركبة مع "ما"، أو "من" كلمة واحدة للاستفهام، نحو "ماذا عندك؟ "، أو "من ذا عندك؟ "، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "خلاصته"، حيث قال:

وَمِثْلُ "مَا""ذَا" بَعْدَ "مَا" اسْتِفْهَامِ

أَوْ "مَنْ" إِذَا لَمْ تُلْغَ فِي الْكَلَامِ

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) المراد القراءة في صلاة الجمعة، لا في مطلق يوم الجمعة (عَلَى إِثْرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ) بكسر، فسكون، أو بفتحتين، أي عقب قراءة سورة الجمعة، يعني في الركعة الثانية، وفيه إشارة إلى أن قراءتها في صلاة الجمعة كانت

ص: 285

مشهورة عندهم، فلذلك سأل عن السورة الأخرى (قَالَ) أي النعمان رضي الله عنه (كانَ يَقْرَأُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فيه استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة الجمعة، كما تقدم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -40/ 1423 - وفي "الكبرى" -37/ 1737 - عن قتيبة، عن مالك، عن ضمرة بن سعيد، عن عُبيد الله بن عبد الله، عنه. وفي 1424 - و"الكبرى" -37/ 1739 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عنه به. وفي -13/ 1568 - و"الكبرى" -12/ 37/ 1738 - عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن إبراهيم بن محمد به. وفي -31/ 1590 - و"الكبرى" -12/ 1775 - عن محمد بن قُدَامة، عن جرير، عن إبراهيم به.

وأخرجه (م) 3/ 16 و3/ 15 و3/ 16 (د) 1122 و1123 (ت) 533 (ق) 1119 و1281 (مالك في الموطإ) ص 89 (الحميدي) 921 و920 (أحمد) 4/ 270 و4/ 271 و4/ 273 و4/ 276 و4/ 277 (الدارمي) 1574 و1615 و1576 (ابن خزيمة) 1845 و1463 و1464. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1424 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، أَخْبَرَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ، بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ، فَيَقْرَأُ بِهِمَا فِيهِمَا جَمِيعًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إبراهيم بن محمد بن المنتشر) الهمدانيّ الكوفي، ثقة [5] تقدم 12/ 417.

2 -

(محمد بن المنتشر) بن الأجدع الهمداني الكوفي، ثقة [4] تقدم 12/ 417.

3 -

(حبيب بن سالم) الأنصاري، مولى النعمان بن بشير، وكاتبه، لا بأس به [3] 19/ 528.

ص: 286

والباقون تقدموا قريباً، فالثلاثة الأولون تقدموا في الباب الماضي، والصحابي في السند الماضي.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في الباب الماضي.

[تنبيه]: قوله: "وربما اجتمع العيد الخ

" سيأتي البحث عنه مستوفى في "كتاب صلاة العيدين" برقم (31/ 1590) إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌41 - (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يحتمل أن تكون "من" شرطية، جوابها محذوف، تقديره:"فقد أدركها"، ويحتمل أن تكون موصولة على حذف مضاف، أي باب حكم الشخص الذي أدرك ركعة من صلاة الجمعة.

ثم إن حديث الباب لا يصح بلفظ: "من أدرك من صلاة الجمعة

"، وإنما يصحّ بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة

"، كما يأتي تحقيقه في المسألة الأولى، إن شاء الله تعالى، لكن حكم الترجمة واضح منه، لأن الجمعة من جملة الصلاة، فمن أدرك منها ركعة مع الإِمام، فقد أدرك حكمها، فليُضف إليها ركعة.

وهذا هو المذهب الراجح، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الثالثة، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

1425 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور في الباب الماضي.

ص: 287

2 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكي، ثقة [10] تقدم 20/ 21.

3 -

(سفيان) بن عُيينة الإِمام الحجة [8] تقدم 1/ 1.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإِمام الحجة المشهور [4] تقدم 1/ 1.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدني، ثقة فقيه [3] تقدم 1/ 1

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه محمد بن منصور، فمن أفراده. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، من الزهري، وقتيبة بغلاني، والباقيان مكيان. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ) رضي الله تعالى عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: مَنْ) شرطية في محلّ رفع مبتدأ (أَدْركَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ركْعَةً، فَقَدْ أَدْركَ") ليس المراد على ظاهره بالإجماع، لأنه لا يكون بإدراك الركعة الواحدة مدركاً لجميع الصلاة بحيث يسلم مع الإِمام، فلابد من التقدير، أي أدرك حكم الجمعة، فيضم إليها ركعة أخرى، وقد تقدّم تحقيق هذا في 30/ 553. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة"، وقد تقدم البحث فيه مستوفًى في -30/ 553 - 30/ 558.

وقد أشار الإِمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى في "صحيحه" بعد أن أخرج الحديث من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري بلفظ:"من أدرك من صلاة الجمعة ركعة، فقد أدرك الصلاة": ما نصه:

قال أبو بكر: هذا خبر روي على المعنى، لم يُؤدَّ على لفظ الخبر، ولفظ الخبر:"من أدرك من الصلاة ركعة"، فالجمعة من الصلاة أيضاً، كما قاله الزهري، فإذا روي الخبر على المعنى، لا على اللفظ جاز أن يقال: من أدرك ركعة، إذ الجمعة من

ص: 288

الصلاة، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من أدرك من الصلاة ركعة، فقد أدرك الصلاة" كانت الصلوات كلها داخلة في هذا الخبر، الجمعة وغيرها من الصلوات.

وقد رَوَى هذا الخبرَ أيضاً بمثل هذا اللفظ أسامةُ بن زيد الليثيُّ عن ابن شهاب.

ثناه أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقيّ، ثنا ابن أبي مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن ابن شهاب،، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من أدرك من الجمعة ركعة، فليصل إليها أخرى".

قال أسامة: وسمعت من أهل المجلس القاسمَ بن محمد، وسالماً يقولان: بلغنا ذلك انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحديث بذكر الجمعة لا يصحّ مرفوعًا، وإنما هو من الرواية بالمعنى، إذ الجمعة من جملة الصلاة.

ومن أقوى دليل على ذلك أنه صحّ عن الزهري قولُهُ بعد رواية الحديث بلفظ "من أدرك ركعة من الصلاة

": والجمعة من الصلاة، فاستنباطه كونَ الجمعة من الصلاة دليل واضح على عدم صحة الحديث عنه مرفوعاً بلفظ "من أدرك من صلاة الجمعة

".

والحاصل أن الحديث صحيح متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق الزهري بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -41/ 1425 - وفي "الكبرى"

(2)

-28/ 1741 - عن قتيبة، ومحمد بن منصور، كلاهما عن ابن عيينة، عن الزهريّ، عن أبي سلمة عنه. وفي "الكبرى" -28/ 1742 - عن عبد الله بن عبد الصمد، عن عيسى بن يونس، عن عبيد الله -وعن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن عبيد الله، عن الزهريّ به بلفظ:"من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة كلها"

(3)

.

وأما بيان من أخرج الحديث معه من الأئمة، فقد تقدم بالرقم المذكور، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

"صحيح ابن خزيمة" جـ 3 ص 173 - 174.

(2)

لكن لفظ "الكبرى": "من أدرك من صلاة ركعة، فقد أدرك"، ليس فيه لفظ "الجمعة"، فليُتنَبه.

(3)

هذا التخريج كان حقه أن يقدم في 30/ 553 لكني نسيت ذكره هناك، فاستدركته هنا، وقد تقدم بقية تخريجه هناك فلا حاجة إلى إعادتها هنا. فتنبه.

ص: 289

المسألة الثالثة: في اختلاف العلماء فيما تدرك به صلاة الجمعة:

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم فيمن أدرك من الجمعة ركعة مع الإِمام:

فقالت طائفة: من لم يدرك الخطبة صلى أربعاً، رُوي هذا القولُ عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، ومكحول.

وقالت طائفة: إذا أدرك من الجمعة ركعة صلى إليها أخرى، وإن أدركهم جلوساً صلى أربعاً، كذلك قال عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وسعيد ابن المسيب، والحسن، والشعبي، وعلقمة، والأسود، وعروة بن الزبير، والنخعيّ، والزهري.

وبه قال مالك فيمن تبعه من أهل المدينة، قال: وعلى هذا أدركت أهل العلم ببلدنا، وكذلك قال سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وقال الأوزاعيّ: إذا أدرك التشهد صلى أربعاً.

وقالت طائفة. من أدرك التشهد يوم الجمعة مع الإِمام صلى ركعتين، رُوي هذا القول عن النخعيّ، وبه قال الحكم، وحماد، وري ذلك عن الضحّاك، وبه قال النعمان.

قال ابن المنذر رحمه الله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة".

ثم أخرج بسنده عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من الصلاة ركعة، فقد أدرك الصلاة".

قال الزهريّ: والجمعة من الصلاة.

قال ابن المنذر: وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: "من أدرك من الجمعة ركعة، فيصلّ إليها أخرى".

وقد تُكُلِّمَ في أسانيدها، ولو كان عند الزهريّ فيه خبر ثابت لم يَحتجْ إلى أن يستدل لَمَّا ذَكر قوله النبي صلى الله عليه وسلم:"من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة"، بأن الجمعة من الصلاة، إذ لو كان عنده في المسألة خبر ثابت لاستغنى به، غير أن يستدلّ عليه بغيره. ومن أحسنها إسناداً حديث ابن أيوب:

حدثنا علان، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أدرك من الجمعة ركعة، فليصل إليها أخرى".

ص: 290

قال ابن المنذر: وقولنا موافق للثابت عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وسائر التابعين.

وقد اختُلف فيه عن النخعي، وروينا عن حماد بن أبي سليمان أنه رجع عن قوله: يصلي ركعتين.

وقد احتجّ بعض من قال كما قلنا بأن في إجماعهم على أن من لم يدرك الركوع لم يعتدّ بالسجود، مع إجماعهم على أن المنفرد لا يصلي جمعة، دليل بيّنٌ على أن من أدرك ركعة الناس

(1)

جلوساً في صلاة الجمعة أن يصلي أربعاً، وذلك أن حكم من أدرك من الجمعة سجدةً، وأدرك التشهد حُكمُ من لم يدرك من الصلاة شيئًا، لأن عليه في قول غيرنا أن يصلي ركعتين كاملتين، وهو منفرد في غير جماعة، إذ لا حكم لما أدرك مع الإِمام، وليس للمنفرد أن يصلي عندهم وعند غيرهم جمعة، فغير جائز أن يكون مدركاً لبعض الصلاة في حال، غير مدرك لشيء منها في تلك الحال انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى حسنٌ جدّاً.

وحاصله ترجيح قول من قال: إن من أردك ركعة من الجمعة مع الإِمام، فليضف إليها ركعة أخرى، فتكون له جمعة، ومن لم يدرك الركعة، بأن أدرك الإِمام في التشهد مثلاً، فليصل أربعاً؛ لأنه لم يدرك الجمعة، فالواجب عليه الظهر، وذلك لحديث:"من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدركها"، متفق عليه. والجمعة صلاة من الصلوات، كما قال الزهريّ رحمه الله تعالى.

وأما قول من قال: إن من لم يدرك الخطبة، فليست له جمعة، وكذا من قال: من أدرك الإِمام في التشهد، فليتم الجمعة، فمما لا دليل عليه، ولا برهان له من النصوص الصحيحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

هكذا نسخة "الأوسط""رَكْعَة الناس"، ولعل الصواب "على أن من أدرك الناس جلوساً"، بإسقاط لفظة "ركعة". والله أعلم.

(2)

"الأوسط" جـ 4 ص 100 - 103.

ص: 291

‌42 - (عَدَدُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ في الْمَسْجِدِ)

1426 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ، فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الإِمام الحجة الثبت [10] تقدم 2/ 2

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي، ثقة ثبت [8] تقدم 2/ 2.

3 -

(سهيل) بن أبي صالح، أبو يزيد المدني، صدوق تغير بآخره [6] تقدم 32/ 820.

4 -

(أبو صالح) ذكوان السمان الزيّات المدني، ثقة ثبت [3] تقدم 36/ 40. والصحابي ذكر في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، من سهيل، وشيخه مروزي، ثم نيسابوري، وجرير كوفي، ثم رازي، والباقيان مكيان. ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ، فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَاً) ولفظ "الكبرى" من طريق سفيان، عن سهيل -وهو أحد ألفاظ مسلم-: "من كان مصلياً بعد الجمعة، فليصلّ أربعاً".

وفيه إشارة إلى أن الأربع سنة، وليست بواجبة.

وقد أخذ المصنف رحمه الله تعالى من إطلاق حديث الباب حكم ما ترجم له، لأنه يدلّ على جواز الصلاة في المسجد.

وأما ما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في بيته فيرى المصنف رحمه الله أنه للإمام، ولذلك ترجم بعد هذا بباب "صلاةُ الإِمام بعد الجمعة" إشارة إلى أنه لا تعارض بين الحديثين، لإمكان الجمع يحمل ذلك على الإِمام. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه

ص: 292

المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -42/ 1426 - وفي "الكبرى" -39/ 1743 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن سهيل، عن أبيه، عنه. وفي "الكبرى" -74/ 496 - عن علي بن حُجر عن علي بن مسهر عن سفيان، عن سهيل به، بلفظ:"من كان مصلياً بعد الجمعة، فليصلّ أربعًا".

وأخرجه (م) 3/ 16 و17 (د) 1131 (ت) 523 (ق) 1132 (الحميدي) 976 (أحمد) 2/ 249 و442 و2/ 499 (الدارمي) 1583 (ابن خزيمة) 1873 و1874. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف العلماء في التطوّع بعد الجمعة:

قال الإِمام ابن المنذر رحمه الله: قد اختلف أهل العلم في هذا الباب:

فرأت طائفة أن يصلي بعدها أربعًا، هذا قول عبد الله بن مسعود، وإبراهيم، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

وذهبت طائفة إلى أنه يصلي بعدها ركعتين، ثم أربعًا، روي هذا القول عن علي، وابن عمر، وأبي موسى الأشعريّ، ومجاهد، وعطاء، وحُميد بن عبد الرحمن، وبه قال سفيان الثوريّ، وقال أحمد: إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء أربعاً.

وذهبت طائفة إلى أنه يصلي بعد الجمعة ركعتين، هكذا فعل ابن عمر، وروي عن النخعي.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء أربعاً، ويصلي أربعًا يفصل بين كل ركعتين بتسليم أحبّ إليّ انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله بتصرف

(1)

.

وقال الإمام الترمذي رحمه الله في "جامعه" بعد رواية حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "كان يصلي بعد الجمعة ركعتين": والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول الشافعي، وأحمد، ثم قال بعد رواية حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"من كان منكم مصلياً بعد الجمعة، فليصلّ أربعاً": والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعاً، وبعدها أربعًا، وروي عن علي بن

(1)

"الأوسط" 4/ 125 - 127.

ص: 293

أبي طالب أنه أمر أن يصلي بعد الجمعة ركعتين، ثم أربعاً، وذهب سفيان الثوري، وابن المبارك إلى قول ابن مسعود، وقال إسحاق: إن صلى في المسجد يوم الجمعة صلى أربعاً، وإن صلى في بيته صلى ركعتين، واحتجّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم:"من كان منكم مصلياً بعد الجمعة، فليصلّ أربعًا".

قال الترمذي: وابن عمر هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد بعد الجمعة ركعتين، وصلى بعد الركعتين أربعاً، ثم رواه كذلك.

وروى أبو داود في "سننه" عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان إذا كان بمكة، فصلى الجمعة، تقدّم، فصلى ركعتين، ثم تقدم، فصلى أربعاً، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته، فصلى ركعتين، ولم يصل في المسجد، فقيل له؟ فقال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك".

قال الحافظ العراقي رحمه الله في "شرح الترمذيّ": والظاهر أن المرفوع منه آخر الحديث فقط، وهو ما كان يفعله بالمدينة، دون ما كان يفعله بمكة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصحّ أنه صلى الجمعة بمكة، وكان ابن عمر في زمنه بمكة قبل الهجرة صغيراً، فإن أريد رفع فعله بمكة أيضاً، وهو بعيد، فيحتمل أنه رآه يصلي بمكة بعد الظهر في المسجد، أو أنه صلى الجمعة بمكة بعد الفتح، ولم يُنقل ذلك.

ثم قال بعد ذلك: قد يسأل عن الحكمة في كون ابن عمر كان يصليها بمكة في المسجد، وفي المدينة بمنزله.

وقد يجاب بأنه لعله كان يريد التأخر في مسجد مكة للطواف بالبيت، فيكره أن يفوته بمضيه إلى منزله لصلاة سنة الجمعة زمن مما يغتنمه في الطواف، أو أنه يشقّ عليه الذهاب إلى منزله، ثم الرجوع إلى المسجد للطواف، أو أنه كان يرى النوافل تضاعف بمسجد مكة، دون بقية مكة، فكان يتنفّل في المسجد لذلك، أو كان له أمر يتعلّق به في المسجد من الاجتماع بأحد، أو غير ذلك مما يقتضي أولوية صلاته في المسجد انتهى.

قال ولي الدين رحمه الله: وهو مبنيّ على ما ذكره أوّلاً من أن المرفوع آخر الحديث فقط.

لكن ظاهر اللفظ أن تفريق ابن عمر بين البلدين في ذلك فعله لمجرّد الاتباع، والله أعلم.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قال أبو حنيفة: يصلي بعد الجمعة أربعًا، وقال في موضع

ص: 294

آخر: ستاً، وقال الثوريّ: إن صليت أربعًا، أو ستاً، فحسن. وقال الحسن بن حيّ: يصلي أربعاً. وقال أحمد بن حنبل: أحبّ إليّ أن يصلي بعد الجمعة ستًّا، وإن صلى أربعاً فحسن، لا بأس به.

قال ابن عبد البرّ: وكل هذه الأقوال مروية عن الصحابة، قولاً، وعملاً، ولا خلاف بين العلماء أن ذلك على الاختيار.

وقال ابن بطال رحمه الله: قالت طائفة: يصلي بعدها ركعتين، روي ذلك عن ابن عمر، وعمران بن حصين، والنخعي.

وقالت طائفة: يصلي بعدها ركعتين، ثم أربعاً، روي عن علي، وابن عمر، وأبي موسى، وهو قول عطاء، والثّوريّ، وأبي يوسف، إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين.

وقالت طائفة: يصلي أربعاً لا يفصل بينهنّ بسلام، روي ذلك عن ابن مسعود، وعلقمة، والنخعي، وهو قول أبي حنيفة، وإسحاق انتهى.

وفي مصنَّف ابن أبي شيبة وغيره عن أبي عبد الرحمن، وهو السُّلَميّ، قال: قدم علينا ابن مسعود، فكان يأمرنا أن نصلي بعد الجمعة أربعاً، فلما قدم علينا عليّ أمرنا أن نصلي ستاً، فأخذنا بقول عليّ، وتركنا قول عبد الله، قال: كان يصلي ركعتين، ثمّ أربعًا.

وذكر ابن العربيّ أن أمره صلى الله عليه وسلم بالأربع لئلا يُتوهّم من الركعتين أنهما تكملة الركعتين المتقدّمتين، فيكون ظهراً، وسبقه إلى ذلك المازريّ، فقال: وكلّ هذا إشارة إلى ترك الاقتصار على ركعتين، لئلا تلتبس الجمعة بالظهر التي هي أربع على الجاهل، أو لئلا يتطرق أهل البدع إلى صلاتها ظهراً أربعاً.

وقال النووي في "شرح مسلم": نبه بقوله: "من كان منكم مصلياً" على أنها سنة، ليست بواجبة، وذَكَرَ الأربعَ لفضلها، وفعل الركعتين في أوقات، بياناً، لأن أقلها ركعتان، قال: ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في أكثر الأوقات أربعاً، لأنه أمرنا بهنّ، وحثّنا عليهنّ، وهو أرغب في الخير، وأحرص عليه، وأولى به انتهى

(1)

.

قال العراقي رحمه الله: وما ادعاه من أنه معلوم أنه كان يصلي في أكثر الأوقات أربعاً فيه نظر، فليس ذلك بمعلوم، ولا مظنون، لأن الذي صح عنه صلاة ركعتين في بيته، ولا يلزم من كونه أمر به أن يفعله.

(1)

"شرح مسلم" جـ 6 ص 169 - 170.

ص: 295

وكون ابن عمر كان يصلي بمكة بعد الجمعة ركعتين، ثم أربعاً، وإذا كان بالمدينة صلى بعدها ركعتين في بيته، فقيل له؟ فقال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك".

فليس في ذلك علم، ولا ظنّ أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل بمكّة ذلك، وإنما أراد رفع فعله بالمدينة، فحسب، لأنه لم يصحّ أنه صلى الجمعة بمكة، وعلى تقدير وقوعه بمكة منه، فليس ذلك في أكثر الأوقات، بل نادرٌ.

وربما كانت الخصائص في حقه بالتخفيف في بعض الأوقات، فإنه صلى الله عليه وسلم "كان إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، كأنه منذر جيش، يقول: صبّحكم، ومسّاكم

" الحديث، رواه مسلم.

فربما لحقه تعب من ذلك، فاقتصر على الركعتين في بيته، وكان يطيلهما كما ثبت في رواية النسائي، "وأفضل الصلاة طول القنوت"، أي القيام، فلعلها كانت أطول من أربع ركعات خفاف، أو متوسطات، وكما ترك قيام الليل ليلة المزدلفة في حجة الوداع، ونام حتى أصبح لما تقدم له من الأعمال بعرفة من وقوفه من الزوال إلى ما بعد الغروب، واجتهاده في الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، فاقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصراً، ورقد بقية ليله، مع كونه كان يقوم في الليل حتى تورّمت قدماه، ولكنه أراح نفسه لما تقدّم في عرفة، ولما هو بصدده يوم النحر من كونه نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في قبلية الجمعة:

قال الحافظ ولي الدين رحمه الله تعالى: قد أنكر جماعة كون الجمعة لها سنة قبلها، وبالغوا في إنكاره، وجعلوه بدعة، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه، وهو على المنبر، فلم يكن يصليها، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة.

وممن أنكر ذلك ممن متأخري الشافعية، وجعله من البدع، والحوادث الإِمام شهاب الدين أبو شامة.

قال: ولم أر في كلام الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة استحباب سنة للجمعة قبلها.

وذهب آخرون إلى أن لها سنة قبلها، منهم النوويّ، فقال: يسنّ قبلها ما قبل

(1)

"طرح التثريب" جـ 3 ص 37 - 41 و"نيل الأوطار" 3/ 333 - 334.

ص: 296

الظهر، وقال: العمدة فيه القياس على الظهر، ويُستأنس بحديث سنن ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبلها أربعًا، وإسناده ضعيف جداً، بل قال النووي في "الخلاصة": هو حديث باطل. في سنده مبشر بن عُبيد متروك، بل رماه أحمد بالوضع.

واستدلّوا أيضاً بما رواه ابن ماجه في "سننه" بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء سُليك الغَطَفانيّ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أصليت قبل أن تجيء؟ " قال: لا، قال:"فصل ركعتين، وتجوز فيهما". قال المجد ابن تيمية في "الأحكام": رجال إسناده ثقات، ورواه ابن ماجه أيضاً من حديث جابر رضي الله عنه، قال العراقي رحمه الله: وإسناده صحيح.

قالوا: فقوله: "قبل أن تجيء" يدلّ على أن الصلاة المأمور بها ليست تحية المسجد، لأن فعلها في البيت لا يقوم مقام فعلها في المسجد، فتعيّن أنها سنة الجمعة.

وفيه نظر فلم يتعين ذلك

(1)

فلا يجوز إثبات سنة الجمعة لمجرد هذا، إذ يحتمل أن معناه قبل أن تقترب مني لسماع الخطبة، وليس المراد قبل أن يجيء إلى المسجد؛ لأن صلاته قبل مجيء المسجد غير مشروعة، فكيف يسأله عنها، إذ المأمور به بعد دخول وقت الجمعة السعي إلى مكان الجمعة، وقبله لا يصحّ فعلها بتقدير ثبوتها.

واستدلوا أيضاً بما رواه أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" عن نافع، قال:"كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك".

قال العراقي رحمه الله تعالى: وفي الاستدلال به نظر من وجهين:

(أحدهما): أنه لا يلزم من إطالته الصلاة قبل الجمعة أن يكون ذلك سنة للجمعة، بل قد يكون قبل الزوال انتظاره.

(والوجه الثاني): أن الظاهر أن المراد بالمرفوع منه صلاة ركعتين بعدها في بيته على وفق حديثه المتفق عليه في "الصحيحين"، فأما إطالة الصلاة قبلها، فلم يُنقل عنه فعله، لأنه كان يخرج إلى صلاة الجمعة، فيؤذن بين يديه، ثم يخطب انتهى.

واستدلوا أيضاً بما ثبت في "الصحيحين" عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"بين كلّ أذانين صلاة".

قال العراقي رحمه الله تعالى: ولقائل أن يعترض على الاستدلال به بأن ذلك كان متعذراً في حياته صلى الله عليه وسلم لأنه كان بين الأذان والإقامة الخطبة، فلا صلاة حينئذ بينهما، نعم

(1)

هكذا نسخة "الطرح"، ولعل الصّواب "إِذْ لم يتعين ذلك"، والله أعلم.

ص: 297

بعد أن جدد عثمان الأذان على الزوراء يمكن أن يصلي سنة الجمعة قبل خروج الإِمام للخطبة. والله تعالي أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الكلام نظر لا يخفى؛ إن الكلام في مشروعية سنة الجمعة القبلية، هل لها دليل تثبت به من قوله صلى الله عليه وسلم، أو فعله، أم لا؟، لا عما أحدث بعده صلى الله عليه وسلم، وأيضاً الثابت عن عثمان رضي الله تعالى عنه هو الأمر بالأذان، ولم يثبت عنه أنه أمر بسنة الجمعة القبليّة. فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحير بالاعتساف. والله تعالى أعلم.

واستدلوا أيضاً بما رواه ابن حبان في "صحيحه"، والدارقطني في "سننه"، وغيرهما عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صلاة مفروضة، إلا وبين يديها ركعتان"، وهذا يتناول الجمعة وغيرها.

لكن يُضَعَّفُ الاستدلالُ به من جهة أنه عموم يقبل التخصيص، فيقدم عليه ما هو الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك.

قال العراقي رحمه الله تعالى: واستدلّ بعضهم بحديث عبد الله السائب، وأبي أيوب الأنصاريّ، وثوبان رضي الله عنهم في صلاة أربع ركعات بعد الزوال، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء".

ولقائل أن يقول: هذه سنة الزوال، ففي حديث علي رضي الله عنه أنه كان يصلي بعدها أربعاً قبل الظهر.

وقد يجاب عنه بأنه حصل في الجملة استحباب أربع بعد الزوال كل يوم، سواء الجمعة وغيرها، وهو المقصود انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الجواب عن هذا كالجواب عن سابقه، فيقال: هذا عام خُصّ منه يوم الجمعة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم أنهم ما كانوا يصلون قبل الجمعة، كما تقدم. والله تعالى أعلم.

وقال ولي الدين رحمه الله تعالى: وهذه الأمور التي استدل بها على سنة الجمعة قبلها وإن كان في كلّ منها على انفراده نظر، فمجموعها قويّ يضعف معه إنكارها.

وأقوى ما يُعارض ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤذن في زمنه يوم الجمعة غير أذان واحد في أول الوقت، وهو على المنبر، وذلك الأذان يعقبه الخطبة، ثم الصلاة، فلا يمكن مع ذلك أن يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه.

وبالجملة فالمسألة مشكلة. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في كلام ولي الدين رحمه الله تعالى هذا نظر لا يخفى:

ص: 298

أما قوله: "فمجموعها قويّ يضعف معه إنكارها"، فقد كفانا الجواب عنه هو بنفسه، حيث قال: وأقوى ما يعارض ذلك الخ، فأيّ قوة من هذه الأمور المعترَضَة بما سبق مع هذا الصريح الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، أنهم ما كانوا يصلون سنة الجمعة القبلية المزعومة؟.

وكيف لا يُنكر على من ادعى شرعية ما لم يشرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا ثبت من فعله، ولا فُعل بمحضره صلى الله عليه وسلم؟ أليس هذا هو الابتداع الذي ينبغي إنكاره؟ إن هذا لشيء عجيب!!.

وأما قوله: "وبالجملة فالمسألة مشكلة"، فجوابه أنه لا إشكال -بحمد الله تعالى- في هذه المسألة عند من لم يتقيد برأي فلان، أو فلان، ويتجمّد عليه، إذ حكمها واضح وضوحَ الشمس في رابعة النهار، إذ من ادعى سنية قبلية الجمعة ما أتى بدليل يُستند إليه، إلا القياس على الظهر، فهذا أقوى دليل عندهم، كما تقدم في كلام النووي رحمه الله، وأما مستندهم من الأحاديث، فقد عرفت ضعفه فيما سبق، وقد صحّ لدينا أنه صلى الله عليه وسلم ما صلى قبلية الجمعة، ولا أمر بها، ولا فعلها أصحابه بحضرته، بل كان يؤذن بين يديه صلى الله عليه وسلم، فيقوم، فيخطب، ثم ينزل، فيصلي، فإذا ثبت هذا بطل القياس؛ إذ هو في مقابلة النص فاسد الاعتبار، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:

إِذَا جَالَتْ خُيُول النَّصِّ يَوْمَا

تُجارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

وبالجملة فمسألتنا واضحة لا إشكال فيها، ولله الحمد والمنة.

والحاصل أن قبلية الجمعة مما لا أثارة عليه من علم، بل هي من الأمور المحدثة التي ينبغي إنكارها.

ومن أغرب ما نراه ممن لا يبالي بالسنة أن كثيراً منهم يواظب على صلاة ركعتين، أو أربع بزعم أنها سنة قبلية للجمعة، ولا يترك ذلك، ولو رأى الإِمام جالساً على المنبر، أو شارعاً في الخطبة، ثم يتساهل فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:"إذا صلى أحدكم الجمعة، فليصل بعدها أربعاً"، فلا يلتفت لهذا الأمر، بل إن صلى يصلي ركعتين فقط، أو يترك الصلاة بالكلية يذهب لحاجته، وهذا هو نتيجة التساهل في التمسك بالسنة، ومن تقديم البدعة عليها. نسأل الله تعالى أن يعيذنا من الحرمان والخذلان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: ينبغي أن يُتنبه إلى شيء مُهمّ جداً، وهو أن إنكار الصلاة قبل الجمعة إنما هو لمن يعتقد أنها سنة قبلية ثابتة كسنة الظهر، وأما مطلق الصلاة لمن حضر قبل حضور الإِمام، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة.

ص: 299

فقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من اغتسل يوم الجمعة، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قُدّر له، ثم أفصت حتى يفرغ الإِمام من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام".

فينبغي أن يَشتغل من أتى إلى الجمعة بالصلاة إلى أن يجلس الإِمام على المنبر، لينال هذا الفضل العظيم.

وكذا من دخل المسجد بعد خروج الإِمام، ولو في حال الخطبة يستحب له أن يصلي ركعتين خفيفتين كما تقدم في -16/ 1395 - : حديث "إذا جاء أحدكم، وقد خرج الإِمام، فليصل ركعتين"، وفي لفظ لمسلم وغيره:"إذا جاء أحدكم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما".

وإنما نبهت على هذا، وإن كان واضحاً، لئلا يعتقد القاصر إذا سمع إنكار قبلية الجمعة، أن الصلاة قبلها غير مشروعة مطلقاً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌43 - (صَلَاةُ الإِمَامِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن غرض المصنف رحمه الله تعالى من الباب بيان الفرق بين صلاة الإِمام وصلاة المأمومين، فصلاة الإِمام الأَولى كونها في البيت، كما دلّ عليه حديثا الباب، وصلاة المأمومين تؤدى في المسجد، أو في البيت، كما دلّ عليه إطلاق حديث الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب.

1427 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم برقم -64/ 873 - سنداً ومتناً، ونقدم البحث فيه مستوفًى هناك.

والسند من رباعيات المصنف، وهو (85) من رباعيات الكتاب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1428 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ

ص: 300

الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) المذكور في السند الماضي.

2 -

(عبد الرزّاق) بن همّام الصنعاني، ثقة حافظ [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد الصنعاني، ثقة ثبت [7] تقدم 10/ 10.

4 -

(الزهري) تقدم قبل باب.

5 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر العَدَويّ المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 23/ 490.

6 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله تعالى عنهما، تقدم 12/ 12.

وشرح الحديث واضح، وهو حديث صحيح، أخرجه المصنف هنا -43/ 1428 - بالسند المذكور، وأخرجه (د) رقم 1132.

ودلالته على ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى واضحة، إذ فيه بيان أنه صلى الله عليه وسلم كانت صلاته بعد الجمعة في بيته، فيستحبّ للإمام أن يصليهما في بيته.

قال ابن بطال رحمه الله تعالى: الحكمة في صلاته صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد الجمعة في بيته أن الجمعة لما كانت بدل الظهر، واقتصر فيها على الركعتين، ترك التنفّل في المسجد، خشيةَ أن يُظَنَّ أنها التي حُذفت انتهى.

قال في "الفتح": وعلى هذا فلا يتنفّل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌44 - (بَاب إِطَالَةِ الرَّكْعَتَينِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ)

1429 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ، يُطِيلُ فِيهِمَا،

(1)

"فتح" 3/ 95.

ص: 301

وَيَقُولُ: "كَانَ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبدة بن عبد الله) الصفّار الْخُزاعي، أبو سهل البصريّ، كوفي الأصل، ثقة [11] تقدم 18/ 800.

2 -

(يزيد بن هارون) أبو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد [9] تقدم 153/ 244.

3 -

(شعبة) بن الحجاج، المذكور قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: قوله: "شعبة" هكذا وقع في نسخ "المجتبى" المطبوعتين، و"الهندية"، وهو الذي في "الكبرى"، و"تحفة الأشراف" جـ 6 ص 74.

وأشار في هامش "الهندية" إلى أن في بعض النسخ "سعيد" بدل "شعبة"، والظاهر أنه غلط. والله تعالى أعلم.

4 -

(أيوب) بن أبي تيمية السختياني، ثقة ثبت فقيه [5] تقدم 42/ 48.

والباقون تقدموا قريباً.

وشرح الحديث واضح، وهو حديث صحيح، أخرجه هنا -44/ 1429 - وفي "الكبرى" -39/ 1747 - بالسند المذكور.

[تنبيه]: ضعف الشيخ الألباني حديث الباب، وقال: شاذ بذكر إطالتهما، انظر ضعيف النسائي ص 50.

وقال في "الإرواء": وسنده صحيح، لكن خالفه وُهيب، فقال: حدثنا: أيوب به بلفظ: "كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة، فيصلي ركعات، يطيل فيهنّ القيام، فإذا انصرف الإِمام رجع إلى بيته، فصلى ركعتين، وقال: هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم". أخرجه أحمد 2/ 103 وسنده على شرطهما.

ووجه المخالفة أنه وصف بإطالة الصلاة قبل الجمعة، لا الركعتين، وهذا هو الصواب، فقد تابعه على ذلك إسماعيل، وهو ابن علية عند أبي داود -1128 - انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن شعبة إمام حجة، لا تضره مخالفة غيره له، وأيضاً لا تعارض بين روايتيهما، فرواية وهيب بَيّن فيها فعل ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يطيل الصلاة في المسجد قبل الجمعة، وليس هو بياناً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يدخل المسجد إلا بعد الزوال، ولم يُنقل عنه أنه صلى في المسجد وقت دخوله، فضلاً

(1)

"الإرواء" 3/ 91 - 92.

ص: 302

عن الإطالة، ورواية شعبة بَيّن فيها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كان يطيل الركعتين اللتين يصليهما بعد الجمعة، فلا تخالف بين الروايتين، فالحديثان صحيحان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌45 - (ذِكْرِ السَّاعَةِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

1430 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ -يَعْنِي ابْنَ مُضَرَ- عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ الطُّورَ، فَوَجَدْتُ ثَمَّ كَعْبًا، فَمَكَثْتُ أَنَا، وَهُوَ يَوْمًا، أُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُحَدِّثُنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا عَلَى الأَرْضِ، مِنْ دَابَّةٍ، إِلاَّ وَهِىَ تُصْبِحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مُصِيخَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ، إِلاَّ ابْنَ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا مُؤْمِنٌ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ".

فَقَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ يَوْمٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَقُلْتُ: بَلْ هِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.

فَخَرَجْتُ، فَلَقِيتُ بَصْرَةَ بْنَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيَّ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قُلْتُ: مِنَ الطُّورِ، قَالَ: لَوْ لَقِيتُكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ لَمْ تَأْتِهِ، قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ".

فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، فَقُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ، فَلَقِيتُ كَعْبًا، فَمَكَثْتُ أَنَا، وَهُوَ يَوْمًا، أُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُحَدِّثُنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، إِلاَّ

ص: 303

وَهِيَ تُصْبِحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُصِيخَةً، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ، إِلاَّ ابْنَ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ".

قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ يَوْمٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبَ كَعْبٌ، قُلْتُ: ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، هُوَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَدَقَ كَعْبٌ، إِنِّي لأَعْلَمُ تِلْكَ السَّاعَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَخِى حَدِّثْنِي بِهَا، قَالَ، هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يُصَادِفُهَا مُؤْمِنٌ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ"، وَلَيْسَتْ تِلْكَ السَّاعَةَ صَلَاةٌ؟، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى، وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، فَهُوَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ الصَّلَاةُ الَّتِي تَلِيهَا؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَهُوَ كَذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت، تقدم 1/ 1.

2 -

(بكر بن مُضر) المصري، ثقة ثبت [8] تقدم 223/ 173.

3 -

(ابن الهاد) يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي، أبو عبد الله المدني، ثقة مكثر [5] تقدم 73/ 90.

4 -

(محمد بن إبراهيم) بن الحارث بن خالد التيمي، أبو عبد الله المدني، ثقة له أفراد [4] تقدم 60/ 75.

5 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني، ثقة فقيه [3] تقدم 1/ 1.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبَغْلَانيّ، وبكرٍ، فمصريّ. ومنها: أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض، ابن الهاد، ومحمد بن إبراهيم، وأبو سلمة، وكلهم مدنيون، وفيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه رأس المكثرين من الرواية، رَوَى (5374) حديثاً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله تعالى عنه، أنه (قَالَ: أَتَيْتُ الطُّورَ) بضم الطاء، قال المجد رحمه الله: الطُّور: الجبل، وفناء الدار، وجبل قُرب أَيلةَ، يُضاف إلى سيناء، وسينين، وجبلٌ بالشام، وقيل: هو المضاف إلى سيناء، وجبلٌ بالقدس عن يمين

ص: 304

المسجد، وآخر عن قبليه به قبر هارون عليه السلام، وجبل برأس العين، وآخر مُطلّ على طَبَريّةَ، وكورة بمصر من القبلية، وبلد بنواحي نَصيبين انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنه أراد أبو هريرة رضي الله عنه الطور الذي ناجى موسى عليه السلام ربه عز وجل فيه. والله تعالى أعلم.

(فَوَجَدْتُ ثَمَّ) بفتح المثلّثة: اسم إشارة للمكان البعيد، أي هنالك (كَعْبًا) هو كعب بن ماتع الحميريّ المعروف بكعب الأحبار، ثقة مخضرم، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، ومات في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد زاد على المائة، وتقدمت ترجمته في 89/ 1346 (فَمَكَثْتُ أَنَا) ضمير منفصل جيء به للفصل عند العطف على الضمير المرفوع المتصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعِ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِل مَا وَبِلَا فَصْلِ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِياً وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَهُوَ) عطف على الضمير الفاعل (يَوْمًا) متعلق بـ"مكثت"(أُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل (وَيُحَدِّثُنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ) أي أفضل الأيام يوم الجمعة، فخير أفعل تفضيل، حذفت منه الهمزة لكثرة الاستعمال، وهو لا ينافي ما رواه ابن حبان في "صحيحه" عن عبد الله بن قُرط، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أفضل الأيام عند الله تعالى يوم النحر"، وما رواه جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أفضل عند الله تعالى من يوم عرفة"، لأن تفضيل يوم الجمعة بالنسبة الأيام الأسبوع، وتفضيل يوم عرفة، أو يوم النحر بالنسبة لأيام السنة، وقد صرح العراقي بأن حديث أفضلية يوم الجمعة أصح، وصرح الشوكاني بأن دلالة حديث جابر على أفضلية يوم عرفة أقوى من دلالة حديث عبد الله بن قُرط على أفضلية يوم النحر

(2)

.

(فِيهِ خُلِقَ آدَمُ) بيان لبعض فضائل يوم الجمعة (وَفِيهِ أُهْبِطَ) أي أُنزل من الجنة إلى الأرض، قيل: إنه نزل في مكان بالهند، يقال له: سرنديب، وكان هبوطه من مزايا يوم الجمعة، لما ترتب عليه من الخير الكثير، من وجود الذرية الطيبة، من الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين (وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ) أي قبل الله تعالى توبته في يوم الجمعة، مما وقع منه من الأكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها، وكون

(1)

"ق" في مادّة "طور".

(2)

"المنهل العذاب" جـ 6 ص 181.

ص: 305

هذه الخصلة من مزايا يوم الجمعة ظاهر (وَفِيهِ قُبِضَ) بالبناء للمفعول، أي مات في يوم الجمعة، قيل: دفن بالهند، وقيل: بمكة في غار أبي قبيس، وقيل: ببيت المقدس، وكان موته من مزايا يوم الجمعة، لأن الموت به دخوله الجنة (وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة، وكان قيامها من مزايا يوم الجمعة، لأن فيه نعمتين عظيمتين للمؤمنين، وصولهم إلى النعيم المقيم، وإدخال أعدائهم في نار الجحيم.

[تنبيه]: قال الإِمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى في "صحيحه": قد اختلفوا في هذه اللفظة في قوله: "فيه خلق آدم" إلى قوله: "وفيه تقوم الساعة"، أهو عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار؟.

قال: والقلب إلى رواية من جعل هذا الكلام عن أبي هريرة، عن كعب أميل، لأن محمد بن يحيى حدثنا، قال: نا محمد بن يوسف، ثنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُسكن الجنة، وفيه أُخرج منها، وفيه تقوم الساعة"، قال: قلت له: أشيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل شيء حدثناه كعب.

وهكذا رواه أبان بن يزيد العطار، وشيبان بن عبد الرحمن النحويّ، عن يحيى بن أبي كثير.

قال: وأما قوله: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة"، فهو عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا شكّ، ولا مرية فيه، والزيادة التي بعدها:"فيه خُلق آدم" إلى آخره هذا الذي اختلفوا فيه، فقال بعضهم: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: عن كعب انتهى

(1)

.

قال الشيخ الألباني حفظه الله في تعليقه: الحديث كله صحيح مرفوعاً بلا ريب، ويكفي أن مسلماً أخرجه من طريق الأعرج، عن أبي هريرة، ورواه المصنف -يعني ابن خزيمة- من طريقين آخرين عنه، فلعل العلة من يحيى، فإنه مدلس، وللمرفوع شاهد من حديثا أوس. -يعني حديث أوس بن أوس الذي تقدم للمصنف في 5/ 1374 - "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم

" الحديث-.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الشيخ الألباني حفظه الله تعالى حسنٌ جدًّا.

والحاصل أن الحديث كله مرفوع. والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح ابن خزيمة" جـ 3 ص 116.

ص: 306

(مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، إِلاَّ وَهِيَ تُصْبِحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مُصِيخَةً) بالصاد المهملة، من أصاخ، أي مستمعة مُصْغية، ومترقّبة قيام الساعة بإلهام من الله تعالى.

وفي رواية أبي داود: "مُسيخة" بالسين المهملة، وهو بمعنى الأول، فـ"الإساخة" بالسيم المهملة، كـ"الإصاخة" بالصاد المهملة (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) بضم اللام، من باب قعد (شَفَقاً مِنَ السَّاعَةِ) انتصاب "شفقا" على أنه مفعول لأجله، أي خوفاً من قيام الساعة فيما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وسميت القيامة ساعة لسرعة قيامها.

(إِلَّا ابْنَ آدَمَ) وفي رواية أبي داود: "إلا الجن والإنس"، أي فإنهم لا يترقبون، ولا يخافون قيام الساعة في هذا اليوم، لكثرة غفلتهم، لا لأنهم لا يعلمون ذلك.

(وَفِيهِ) أي في يوم الجمعة، وفي نسخة لأبي داود:"وفيها" أي في الجمعة، أو في ساعاتها (سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا) وفي نسخة "لا يوافقها"، وهو أعمّ من أن يقصد لها، أو يتفق له وقوع الدعاء فيها (مُؤْمِنٌ) ولفظ البخاريّ:"عبد مسلم"(وَهُوَ فِي الصَّلّاة، يَسْأَلُ اللهَ فِيهَا) جملتان في محل رفع على الوصفية لـ"مؤمن"، أو الأولى صفة، والثانية حال منها.

ولفظ البخاريّ: "وهو قائم، يصلي، يسأل الله"، قال في "الفتح": هي صفات لـ"مسلم" أعربت حالاً، ويحتمل أن يكون "يصلي" حالاً منه، لاتصافه بـ"قائم"، و"يسأل" حال منه مترادفة، أو متداخلة.

وأفاد ابن عبد البرّ أن قوله: "وهو قائم" سقط من رواية أبي مصعب، وابن أبي أويس، ومطرّف، والتنيسيّ، وقُتيبة، وأثبتها الباقون.

قال: وهي زيادة محفوظة عن أبي الزناد، من رواية مالك، وورقاء، وغيرهما عنه.

وحكى أبو محمد بن السيد عن محمد بن وضاح أنه كان يأمر بحذفها من الحديث، وكأن السبب في ذلك أنه يُشكل على أصح الأحاديث الواردة في تعيين هذه الساعة، وهما حديثان:

أحدهما: أنها من جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من الصلاة.

والثاني: أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس. وقد احتجّ أبو هريرة على عبد الله ابن سلام رضي الله عنهما لَمَّا ذكر له القول الثاني بأنها ليست ساعةَ صلاة، وقد ورد النصّ بالصلاة، فأجابه بالنصّ الآخر أن منتظر الصلاة في حكم المصلي، فلو كان قوله:"وهو قائم" عند أبي هريرة ثابتاً لاحتجّ عليه بها، لكنه سلم له الجواب، وارتضاه، وأفتى به بعده.

وأما إشكاله على الحديث الأول، فمن جهة أنه يتناول حال الخطبة كله، وليست

ص: 307

صلاةً على الحقيقة.

وقد أجيب عن هذا الإشكال يحمل الصلاة على الدعاء، أو الانتظار، وبحمل القيام على الملازمة والمواظبة، ويؤيد ذلك أن حال القيام في الصلاة غير حال السجود والركوع والتشهد، مع أن السجود مظنة إجابة الدعاء، فلو كان المراد بالقيام حقيقته لأخرجه، فدلّ على أن المراد مجاز القيام، وهو المواظبة، ونحوها، ومنه قوله تعالى:{إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} الآية [آل عمران: 75]، فعلى هذا يكون التعبير عن المصلي بالقائم من باب التعبير عن الكلّ بالجزء، والنكتة فيه أنه أشهر أحوال الصلاة انتهى

(1)

.

(شَيْئاً) أي مما يليق أن يدعو به المسلم، ويسأل ربه تعالى، وفي رواية سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري في "الطلاق":"يسأل الله خيراً"، ولمسلم من رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة مثله، وفي حديث أبي لبابة عند ابن ماجه:"ما لم يسأل حراماً"، وفي حديث سعد بن عُبادة، عند أحمد:"ما لم يسأل إثماً، أو قطيعة رحم"، وهو نحو الأول، وقطيعة الرحم من جملة الإثم، فهو من عطف الخاصّ على العامّ، للاهتمام به. قاله في "الفتح".

(إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ) أي أعطاه الله تعالى الشيءَ الذي سأله.

(فَقَالَ كَعْبٌ) أي كعب الأحبار (ذَلِكَ يَوْمٌ في كُلِّ سَنَةٍ) أي ذلك اليوم الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن فيه ساعةً يُستجاب فيها الدعاء يوم واحد فقط في كل سنة، لا كل جمعة (فَقْلْتُ: بَلْ هِيَ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ) أي الساعة المذكورة تكون في كل يوم جمعة (فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ) أي لينظر، ويتأكد ما قاله آخذاً منها، من أنها في جمعة واحدة من السنة (ثُمَّ) بعد أن نظر في التوراة، ووجد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حقًّا (قَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي في قوله: إنها في كل جمعة، كما سمعه منه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، فردّ به على كعب، فقوله (هُوَ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ) تأكيد لمعنى "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم"، يعني أن وقت الإجابة في كل يوم جمعة، فتذكير الضمير باعتبار الوقت، ويحتمل أن يكون الضمير لليوم، و"الجمعة" بمعنى الأسبوع، أي إن ذلك اليوم في كل أسبوع. والله تعالى أعلم.

قال أبو هريرة رضي الله عنه (فَخَرَجْتُ) أي من الطور (فَلَقِيتُ بَصْرَةَ بْنَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ) -بفتح أوله، وسكون المهملة- جميل بن بَصرة بن وقاص بن غفار الغفاريّ، له ولأبيه صحبة

(2)

.

(1)

"فتح" 3/ 82.

(2)

اختُلِف في أبي بصرة، فقيل: جَمِيل بالجيم مكبراً. وقيل: حُمَيل بالحاء المهملة مصغراً، وهو المشهور. وقيل: لا يعرف اسمه. وحَضَر بصرةُ مصر، واختطَ بها داراً عند دار الزبير. أفاده في "تت" 1/ 238 - 239.

ص: 308

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً واحداً: "لا تُعمل المطيّ إلا إلى ثلاثة مساجد". وروى عنه أبو هريرة.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: لكن تفرّد يزيد بن الهاد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بذلك.

ورواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن أبي بصرة، وكذلك رواه سعيد بن المسيب، وسعيد المقبريّ، وغير واحد عن أبي هريرة، وهو المحفوظ. والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) أي بَصْرةُ (مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قُلْتُ: مِنَ الطُّورِ، قَالَ: لَوْ لَقِيتُكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ لَمْ تَأْتِهِ، قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُعْمَلُ) -بضم حرف المضارعة- على بناء المفعول، أي لا تُحثُّ، ولا تُساق (المطيّ) بفتح الميم جمع مطية، وتُجمع على مطايا، كعطية، وعطايا، قال الفيّومي: و"المطا" وزان العَصَا: الظهر، ومنه قيل للبعير: مطيّةٌ، فَعيلة بمعنى مفعولة، لأنه يُركب مَطَاه، ذكراً كان أو أنثى، ويُجمع على مَطيّ، ومَطَايا، ويُثنّى على مَطَوَين انتهى.

وقيل: يُمطى بها في السير، أي يُمدّ.

وفي "اللسان": المطية: الناقةُ التي يُركب مَطَاها، والمطيّة البعير يُمتطى ظهرُهُ، وجمعه المطايا، يقع على الذكر والأنثى، وقال الجوهري: المطية واحد المطي، والمطايا، والمطيّ واحد وجمع، يذكر، ويؤنث، والمطايا فَعالى، وأصله فعائل، إلا أنه فُعل به ما فُعل بخطايا انتهى.

(إِلَّا إِلَى ثَلَاَثة مَسَاجِدَ، الْمَسجِدِ الْحَرَامِ) بالجر على البدلية، ويحتمل قطعه إلى الرفع، والنصب، وكذا ما بعده (وَمَسْجِدِي) أي مسجده صلى الله عليه وسلم في المدينة (وَمَسْجِد بَيْتِ الْمَقْدِسِ).

قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (فَلَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلَامٍ) بن الحارث الإسرائليّ، أبو يوسف حليف بني عوف بن الخزرج، أسلم عند قُدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قيل: كان اسمه الْحُصين، فسمّاه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وشهد له بالجنّة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه يوسف، ومحمد، وابن ابنه حمزة بن يوسف، وغيرهم. وشهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية، ومات بالمدينة سنة (43).

(فَقُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ، فَلَقِيتُ كَعْبًا، فَمَكَثْتُ أَنَا، وَهُوَ يَوْمًا، أُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُحَدِّثُنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ قُبِضَ،

ص: 309

وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، إِلاَّ وَهِيَ تُصْبِحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُصِيخَةً، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ، إِلاَّ ابْنَ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ".

قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ يَوْمٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ، قَالَ) وفي نسخة:"فقال" بالفاء (عَبْد اللهِ بن سَلَام: كَذَبَ كَعْبٌ) أي أخطأ، يعني أن كعباً أخطأ في قوله: يوم في كلّ سنة، ولا يريد أنه تعمّد الكذب في ذلك (قُلتُ: ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ) أي التوراة (فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، هُوَ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: صَدَقَ كَعْبٌ، إِنِّي لأَعْلَمُ تِلْكَ السَّاعَةَ) يحتمل أن يكونْ بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون مما قرأه في التوراة (فَقُلْتُ: يَا أَخِي حَدِّثْنِي بِهَا، قَالَ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يُصَادِفُهَا مُؤْمِنٌ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ"، وَلَيْسَتْ تِلْكَ السَّاعَةَ صَلَاةٌ؟) "تلك" منصوب بنزع الخافض خبر "ليس"، و"الساعة" بدل، أو عطف بيان لاسم الإشارة، و"صلاة" اسم "ليس" مؤخراً عن خبرها، أي ليست الصلاة مشروعة في تلك الساعة (قَالَ) أي عبد الله بن سلام (أَلَيْسَ قَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ صَلَّى، وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، فَهُوَ) وفي نسخة: "لم يزل" (في صَلَاتهِ حَتَّى تَأْتِيَه الصَّلَاة الَّتِي تَلِيهَا؟) وفي نسخة: "تلاقيها"، قال أبو هريرة (قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَهُوَ كَذَلِكَ) أي الأمر كما سمعته، يعني أن من جلس في تلك الساعة ينتظر صلاة المغرب، فهو في حكم الصلاة، فإذا صادفها، وهو كذلك، استجيب له دعاؤه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -45/ 1430 - وفي "الكبرى" -40/ 1754 - بالسند المذكور.

وأخرجه (د) 1046 (ت) 491 (مالك في الموطإ) 88 (أحمد) 2/ 486 و5/ 451 و5/ 453 (ابن خزيمة)1738. والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، وهي آخر ساعة منه، وسيأتي اختلاف العلماء في تعيينها في المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى.

ص: 310

ومنها: بيان فضل يوم الجمعة، لاختصاصه بساعة الإجابة.

ومنها: فضل الدعاء، واستحباب الإكثار منه.

ومنها: ما قيل: إنه استدلّ به على بقاء الإجمال بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

وتعقّب بأنه لا خلاف في بقاء الإجمال في الأحكام الشرعية، لا في الأمور الوجودية، كوقت الساعة، فهذا لاختلاف في إجماله، والحكم الشرعي المتعلق بساعة الجمعة، وليلة القدر، وهو تحصيل الأفضليّة يمكن الوصول إليه، والعمل بمقتضاه باستيعاب اليوم والليلة، فلم يبق في الحكم الشرعي إجمال. والله تعالى أعلم.

وبقية فوائد الحديث تقدمت في "باب ذكر فضل يوم الجمعة" -4/ 1373.

[تنبيه]: إن قيل: ظاهر الحديث حصول الإجابة لكلّ داع بالشرط المتقدّم، مع أن الزمن يختلف باختلاف البلاد، والمصلي، فيتقدم بعض على بعض، وساعة الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف تتفق مع الاختلاف؟.

أجيب باحتمال أن تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كلّ مصلّ، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعلّ هذا فائدة جعل الوقت الممتدّ مظنّة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن يكون عبر عن الوقت بالفعل، فيكون التقدير وقت جواز الخطبة، أو الصلاة، ونحو ذلك. والله تعالى أعلم. قاله في "الفتح"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: الحكمة في إخفاء هذه الساعة في هذا اليوم أن يجتهد الناس فيه، ويستوعبوه بالدعاء، ولو عُرفت لخصّوها بالدعاء، وأهملوا ما سواها، وهذا كما أنه تعالى أخفى اسمه الأعظم في أسمائه الحسنى، ليُسأل بجميع أسمائه، وأخفى ليلة القدر في أوتار العشر الأخير، أو في جميع شهر رمضان، أو في جميع السنة على الخلاف في ذلك، ليجتهد الناس في هذه الأوقات كلها، وأخفى أولياءه في جملة المؤمنين حتى لا يُخصّ بالإكرام واحد بعينه.

وقد ورد فيها ما ورد في ليلة القدر من أنه أُعلم بها، ثم أنسيها، رواه أحمد في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال:"إني كنت أُعلمتها، ثم أنسيتها، كما أنسيت ليلة القدر".

قال ولي الدين: وإسناده صحيح، قال الحاكم: إنه على شرط الشيخين، ولعل ذلك يكون خيراً للأمة، ليجتهدوا في سائر اليوم، كما قال صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر حسن أنسيها:

(1)

"فتح" 3/ 90.

ص: 311

"وعسى أن يكون خيراً لكم".

قال الحافظ العراقي في "شرح الترمذي": وإنّ من كان مطلبه خطيراً عظيماً، كسؤال المغفرة، والنجاة من النار، ودخول الجنة، ورضي الله تعالى لجدير أن يستوعب جميع عمره بالطلب، والسؤال، فكيف لا يسهل على طالب مثل ذلك سؤال يوم واحد، كما قال ابن عمر: إن طلب حاجة في يوم يسير.

قال العراقي: ومن لم يتفرغ لاستيعاب اليوم بالدعاء، وأراد حصول ذلك، فطريقه كما قال كعب الأحبار: لو قسم الإنسان جمعةً في جُمع أتى على تلك الساعة.

قال العراقي: وهذا الذي قاله: بناء على أنها مستقرّة في وقت واحد من اليوم، لا تنتقل، وهو الصحيح المشهور. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في ساعة الجمعة:

لقد حقّق الحافظ رحمه الله تعالى هذا الموضوع، وأجاد فيه في كتابه العديم النظير في بابه، في استقصائه واستيعابه "فتح الباري"، حيث قال:

وقد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعيين، ومن بعدهم في هذه الساعة، هل هي باقية، أو رُفعت؟ وعلى البقاء، هل هي في كلّ جمعة، أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول، هل هي وقت من اليوم معينٌ، أو مبهم؟ وعلى التعيين، هل تستوعب الوقت، أو تبهم فيه؟، وعلى الإبهام ما ابتداؤه، وما انتهاؤه؟ وعلى كل ذلك هل تستمرّ، أو تنتقل؟ وعلى الانتقال، هل تستغرق اليوم، أو بعضه؟ وها أنا أذكر تلخيص ما اتصل إليّ من الأقوال مع أدلتها، ثم أعود إلى الجمع بينها، والترجيح:

فالأول: أنها رُفعت، حكاه ابن عبد البرّ عن قوم، وزيّفه، وقال عياض: رده السلف على قائله، وروي عبد الرزاق، عن ابن جُريج، أخبرني داود بن أبي عاصم، عن عبد الله بن عبس مولى معاوية، قال: قلت لأبي هريرة: إنهم زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة يستجاب فيها الدعاء رُفعت، فقال: كذب من قال ذلك، قلت: فهي في كل جمعة؟ قال: نعم. إسناده قويّ.

وقال صاحب "الهدى": إن أراد قائله أنها كانت معلومة، فرفع علمها عن الأمة، فصارت مبهمة احْتُمل، وإن أراد حقيقتها، فهو مردود على قائله.

القول الثاني: أنها موجودة، لكن في جمعة واحدة من كل سنة، قاله كعب الأحبار

(1)

"طرح التثريب" 3/ 214.

ص: 312

لأبي هريرة، فردّ عليه، فرجع إليه. رواه مالك في "الموطإ"، وأصحاب السنن.

القول الثالث: أنها مخفية في جميع اليوم، كما أخفيت ليلة القدر في العشر.

روى ابن خزيمة، والحاكم من طريق سعيد بن الحارث، عن أبي سلمة: سألت أبا سعيد عن ساعة الجمعة؟ فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: "قد أُعلمتها، ثم أُنسيتها، كما أنسيت ليلة القدر".

وروى عبد الرزاق، عن معمر، أنه سأل الزهِريّ؟، فقال: لم أسمع فيها شيئاً، إلا أن كعباً كان يقول: لو أن إنساناً قسم جمعةً في جُمع لأتى على تلك الساعة.

قال ابن المنذر: معناه أنه يبدأ، فيدعو في جمعة من الْجُمَع من أول النهار إلى وقت معلوم، ثم في جمعة أخرى يبتدىء من ذلك الوقت إلى وقت آخر حتى يأتي على آخر النهار، قال: وكعب هذا هو كعب الأحبار، قال: وروينا عن ابن عمر أنه قال: إنّ طلب حاجة في يوم ليسير. قال: معناه أنه ينبغي المداومة على الدعاء يوم الجمعة كله ليمرّ بالوقت الذي يُستجاب فيه الدعاء انتهى.

والذي قاله ابن عمر يصلح لمن يقوى على ذلك، وإلا فالذي قاله كعب سهل على كلّ أحد، وقضية ذلك أنهما يريان أنها غير معينة، وهو قضية كلام جمع من العلماء، كالرافعي، وصاحب "المغني"، وغيرهما، حيث قالوا: يستحبّ أن يكثر من الدعاء يوم الجمعة رجاء أن يُصادف ساعة الإجابة.

ومن حجة هذا القول تشبيههاً بليلة القدر، والاسم الأعظم في الأسماء الحسنى، والحكمةُ في ذلك حثّ العباد على الاجتهاد في الطلب، واستيعاب الوقت بالعبادة، بخلاف ما لو تحقّق الأمر في شيء من ذلك لكان مقتضياً للاقتصار عليه، وإهمال ما عداه.

الرابع: أنها تنتقل في يوم الجمعة، ولا تلزم ساعة معينة، لا ظاهرة، ولا مخفيةً، قال الغزالي: هذا أشبه الأقوال، وذكره الأثرم احتمالاً، وجزم به ابن عساكر وغيره. وقال المحب الطبري: إنه الأظهر، وعلى هذا لا يتأتى ما قاله كعب في الجزم بتحصيلها.

الخامس: إذا أذن المؤذن لصلاة الغداة، ذكره الحافظ أبو الفضل العراقي في "شرح الترمذي"، والشيخ سراج الدين ابن الملقّن في "شرحه على البخاريّ" ونسباه لتخريج ابن أبي شيبة عن عائشة، وقد رواه الروياني في "مسنده" عنها، فأطلق الصلاة، ولم يقيدها، ورواه ابن المنذر، فقيدها بصلاة الجمعة. والله أعلم.

السادس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، رواه ابن عساكر من طريق أبي جعفر الرازي، عن ليث بن أبي سُليم، عن مُجاهد، عن أبي هُريرة، وحكاه القاضي أبو

ص: 313

الطيب الطبريّ، وأبو نصر بن الصباغ، وعياض، والقرطبي، وغيرهم، وعبارة بعضهم: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.

السابع: مثله، وزاد: ومن العصر إلى الغروب. رواه سعيد بن منصور، عن خَلَف بن خَليفة، عن ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد، عن أبي هريرة، وتابعه فُضيل بن عياض، عن ليث، عند ابن المنذر، وليث ضعيف، وقد اختلف عليه فيه كما ترى.

الثامن: مثله، وزاد: وما بين أن ينزل الإِمام من المنبر إلى أن يكبر رواه حميد بن زنجويه في "الترغيب" له من طريق عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، قال:"التمسوا الساعة التي يُجاب فيها الدعاء يوم الجمعة في هذه الأوقات الثلاثة"، فذكرها.

التاسع: أنها أول ساعة بعد طلوع الشمس، حكاه الجيلي في "شرح التنبيه"، وتبعه المحبّ الطبريّ في "شرحه".

العاشر: عند طلوع الشمس، حكاه الغزالي في "الإحياء"، وعبّر عنه الزين ابن المنيّر في "شرحه" بقوله: هي ما بين أن ترتفع الشمس شبرًا إلى ذراع، وعزاه لأبي ذرّ.

الحادي عشر: أنها في آخر الساعة الثالثة من النهار، حكاه صاحب "المغني"، وهو في "مسند الإِمام أحمد" من طريق علي بن أبي طلحة، عن أبي هريرة، مرفوعاً:"يوم الجمعة فيه طبعت طينة آدم، وفي آخر ثلاث ساعة منه ساعة من دعا بها الله فيها استجيب له"، وفي إسناده فَرَج بن فضالة، وهو ضعيف، وعليّ لم يسمع من أبي هريرة.

قال المحبّ الطبريّ: قوله: "في آخر ثلاث ساعات" يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون المراد الساعة الأخيرة من الثلاث الأُوَل.

ثانيهما: أن يكون المراد أن في آخر كلّ ساعة من الثلاث ساعةُ إجابة، فيكون فيه تجوّز لإطلاق الساعة على بعض الساعة.

الثاني عشر: من الزوال إلى أن يصير الظلّ نصف ذراع، حكاه المحبّ الطبريّ في "الأحكام"، وقبله الزكيّ المنذريّ.

الثالث عشر: مثله، لكن قال: إلى أن يصير الظلّ ذراعاً، حكاه عياض، والقرطبيّ، والنووي.

الرابع عشر: بعد زوال الشمس، بشبر إلى ذراع، رواه ابن المنذر، وابن عبد البرّ بإسناد قويّ إلى الحارث بن يزيد الحضرميّ، عن عبد الرحمن بن حُجيرة، عن أبي ذرّ، أن امرأةً سألته عنها؟ فقال ذلك، ولعله مأخذ القولين اللذين قبله.

ص: 314

الخامس عشر: إذا زالت الشمس، حكاه ابن المنذر عن أبي العالية، وورد نحوه في أثناء حديث عن علي، ورَوَى عبد الرزاق من طريق الحسن أنه كان يتحرّاها عند زوال الشمس بسبب قصّة وقعت لبعض أصحابه في ذلك، وروى ابن سعد في "الطبقات" عن عُبيد الله بن نوفل نحو القصة، وروى ابن عساكر من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: كانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس، وكأن مأخذهم في ذلك أنها وقت اجتماع الملائكة، وابتداء دخول وقت الجمعة، وابتداء الأذان، ونحو ذلك.

السادس عشر: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة، رواه ابن المنذر عن عائشة، قالت:"يوم الجمعة مثل يوم عرفة، تُفتح فيه أبواب السماء، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئًا إلا أعطاه"، قيل: آية ساعة؟ قالت: "إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة"، وهذا يُغاير الذي قبله من حيث أن الأذان قد يتأخر عن الزوال، قال الزين ابن المنير: ويتعين حمله على الأذان الذي بين يدي الخطيب.

السابع عشر: من الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة، ذكره ابن المنذر عن أبي السَّوَّار العَدَويّ، وحكاه ابن الصباغ بلفظ: إلى أن يدخل الإِمام.

الثامن عشر: من الزوال إلى خروج الإِمام، حكاه القاضي أبو الطيّب الطبريّ.

التاسع عشر: من الزوال إلى غروب الشمس، حكاه أبو العباس أحمد بن علي بن كشاسب الدزماريّ، وهو بزاي ساكنة، وقبل ياء النسب راء مهملة في "نكته على التنبيه" عن الحسن، ونقله عنه سراج الدين ابن الملقّن في "شرح البخاريّ"، وكان الدزماريّ المذكور في عصر ابن الصلاح.

العشرون: ما بين خروج الإِمام إلى أن تقام الصلاة، رواه ابن المنذر عن الحسن، وروى أبو بكر المروزي في "كتاب الجمعة" بإسناد صحيح إلى الشعبيّ، عن عوف بن حصيرة، رجل من أهل الشام مثله.

الحادي والعشرون: عند خروج الإِمام، رواه حُميد بن زنجويه في "كتاب الترغيب" عن الحسن أن رجلاً مرت به، وهو ينعس في ذلك الوقت.

الثاني والعشرون: ما بين خروج الإِمام إلى أن تُقضى الصلاةُ، رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن سالم، عن الشعبيّ قولَه، ومن طريق معاوية بن قرة، عن أبي بردة، عن أبي موسى قولَه، وفيه أن ابن عمر استصوب ذلك.

الثالث والعشرون: ما بين أن يَحرُم البيع إلى أن يَحلّ، رواه سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن الشعبي قولَه أيضاً، قال الزين ابن المنيّر: ووجهه أنه أخصّ أحكام

ص: 315

الجمعة، لأن العقد باطل عند الأكثر، فلو اتفق ذلك في غير هذه الساعة بحيث ضاق الوقت، فتشاغل اثنان بعقد البيع، فخرج، وفاتت تلك الصلاة لأثما، ولم يبطل البيع.

الرابع والعشرون: ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة، رواه حميد بن زنجويه عن ابن عباس، وحكاه البغويّ في "شرح السنة" عنه

الخامس والعشرون: ما بين أن يجلس الإِمام على المنبر إلى أن تُقضى الصلاةُ، رواه مسلم، وأبو داود من طريق مَخرَمة بن بُكير، عن أبيه، عن أبي بُردة بن أبي موسى، أن ابن عمر سأله عما سمع من أبيه في ساعة الجمعة؟ فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره، وهذا القول يُمكن أن يُتخذ من اللذين قبله.

السادس والعشرون: عند التأذين، وعند تذكير الإِمام، وعند الإقامة، رواه حُميد بن زنجويه من طريق سُليم بن عامر، عن عوف بن مالك الأشجعي الصحابي.

السابع والعشرون: مثله، لكن قال: إذا أذن، وإذا رقي المنبر، وإذا أقيمت الصلاةُ، رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن أبي أُمامة الصحابي قولَه. قال الزين ابن المنيّر: ما ورد عند الأذان من إجابة الدعاء، فيتأكد يوم الجمعة، وكذلك الإقامة، وأما زمان جلوس الإِمام على المنبر، فلأنه وقت استماع الذكر، والابتداء في المقصود من الجمعة.

الثامن والعشرون: من حين يَفتتح الإِمام الخطبة حتى يفرغ، رواه ابن عبد البرّ من طريق محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن عمر، مرفوعاً، وإسناده ضعيف.

التاسع والعشرون: إذا بلغ الخطيب المنبر، وأخذ في الخطبة، حكاه الغزالي في "الإحياء".

الثلاثون: عند الجلوس بين الخطبتين، حكاه الطيبيّ عن بعض شُرّاح "المصابيح".

الحادي والثلاثون: أنها عند نزول الإِمام من المنبر، رواه ابن أبي شيبة، وحميد بن زنجويه، وابن جرير، وابن المنذر بإسناد صحيح إلى أبي إسحاق، عن أبي بردة، قولَه. وحكاه الغزالي قولاً بلفظ: إذا قام الناس إلى الصلاة.

الثاني والثلاثون: حين تقام الصلاة حتى يقوم الإِمام في مقامه، حكاه ابن المنذر، عن الحسن أيضاً، وروى الطبراني من حديث ميمونة بنت سعد نحوه، مرفوعاً بإسناد ضعيف.

الثالث والثلاثون: من إقامة الصلاة إلى تمام الصلاة، رواه الترمذي، وابن ماجه من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، مرفوعاً، وفيه: قالوا: أية ساعة يا رسول الله؟ قال: "حين تُقام الصلاة إلى الانصراف منها"، وقد ضَعَّفَ كثيرٌ

ص: 316

رواية كثير، ورواه البيهقي في "الشعب" من هذا الوجه بلفظ:"ما بين أن ينزل الإِمام من المنبر إلى أن تُقضى الصلاة"، رواه ابن أبي شيبة من طريق مغيرة، عن واصل الأحدب، عن أبي بردة قولَه، وإسناده قويّ إليه، وفيه أن ابن عمر استحسن ذلك منه، وبرّك عليه، ومسح على رأسه، وروى ابن جرير، وسعيد بن منصور، عن ابن سيرين نحوه.

الرابع والثلاثون: هي الساعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها الجمعة، رواه ابن عساكر بإسناد صحيح عن ابن سيرين، وهذا يُغاير الذي قبله من جهة إطلاق ذاك، وتقييد هذا، وكأنه أخذه من جهة أن صلاة الجمعة أفضل صلوات ذلك اليوم، وأن الوقت الذي كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأوقات، وأن جميع ما تقدّم من الأذان، والخطبة، وغيرهما وسائل، وصلاة الجمعة هي المقصودة بالذات، ويؤيده ورود الأمر في القرآن بتكثير الذكر حال الصلاة، كما ورد الأمر بتكثير الذكر حال القتال، وذلك في قوله تعالى:{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، وفي قوله:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} إلى أن ختم الآية بقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، وليس المراد إيقاع الذكر بعد الانتشار، وإن عطف عليه، وإنما المراد تكثير الذكر المشار إليه أول الآية

(1)

. والله تعالى أعلم.

الخامس والثلاثون: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، رواه ابن جرير من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس موقوفاً، ومن طريق صفوان بن سُليم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد، مرفوعًا بلفظ:"فالتمسوها بعد العصر"، وذكر ابن عبد البرّ أن قوله:"فالتمسوها الخ" مدرج في الخبر من قول أبي سلمة، ورواه ابن منده من هذا الوجه، وزاد:"أغفل ما يكون الناس"، ورواه أبو نعيم في "الحلية" من طريق الشيباني، عن عون بن عبد الله بن عُتبة، عن أخيه عبيد الله، كقول ابن عباس، ورواه الترمذي من طريق موسى بن وردان، عن أنس، مرفوعًا بلفظ:"بعد العصر إلى غيبوبة الشمس"، وإسناده ضعيف.

السادس والثلاثون: في صلاة العصر، رواه عبد الرزاق، عن عُمر بن ذَرّ، عن يحيى ابن إسحاق بن أبي طلحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وفيه قصّة.

السابع والثلاثون: بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار، حكاه الغزالي في "الإحياء".

الثامن والثلاثون: بعد العصر كما تقدم عن أبي سعيد مطلقاً، ورواه ابن عساكر من

(1)

قال بعض المحققين: هذا فيه نظر، وسياق الآية يخالفه. والله أعلم.

ص: 317

طريق محمد بن سلمة الأنصاري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وأبي سعيد، مرفوعاً بلفظ:"وهي بعد العصر"، ورواه ابن المنذر، عن مجاهد مثله، ورواه ابن جريج

(1)

من طريق إبراهيم بن ميسرة، عن رجل، أرسله عمرو بن أويس إلى أبي هريرة، فذكر مثله، قال: وسمعته عن الحكم، عن ابن عباس مثله، ورواه أبو بكر المرّوذيّ من طريق الثوريّ، وشعبة جميعًا، عن يونس بن خبّاب، قال الثّوريّ: عن عطاء، وقال شعبة: عن أبيه، عن أبي هريرة مثله. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، أنه كان يتحرّاها بعد العصر، وعن ابن جريج، عن بعض أهل العلم، قال: لا أعلمه إلا عن ابن عباس مثله، فقيل له: لا صلاة بعد العصر، فقال: بلى، لكن من كان في مصلاه لم يقم منه، فهو في صلاة.

التاسع والثلاثون: من وسط النهار إلى قرب آخر النهار، كما تقدم أول الباب عن سلمة بن علقمة.

الأربعون: من حين تصفرّ الشمس إلى أن تغيب، رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن كيسان، عن طاوس قولَه، وهو قريب من الذي قبله.

الحادى والأربعون: آخر ساعة بعد العصر، رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم بإسناد حسن عن أبى سلمة، عن جابر مرفوعاً، وفي أوله:"إن النهار اثنتا عشرة ساعة"، ورواه مالك، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان من طريق محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن عبد الله بن سلام، قولَه، وفيه مناظرة أبي هريرة له في ذلك، واحتجاج عبد الله بن سلام بأن منتظر الصلاة في صلاة.

وروى ابن جرير من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً مثله، ولم يذكر عبد الله بن سلام قوله، ولا القصّة. ومن طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار قولَه.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني موسى بن عقبة أنه سمع أبا سلمة يقول: حدثنا عبد الله بن عامر، فذكر مثله.

وروى البزار، وابن جرير من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن عبد الله بن سلام مثله.

وروى ابن أبي خيثمة من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وأبي سعيد، فذكر الحديث، وفيه: قال أبو سلمة: فلقيت عبد الله بن سلام، فذكرت

(1)

وفي مخطوطة الرياض من "الفتح""ابن جرير" بدل "ابن جريج"، والظاهر أنه الصواب. والله أعلم.

ص: 318

ذلك له، فلم يُعرّض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال:"النهار اثنتا عشرة، وإنها لفي آخر ساعة من النهار".

ولابن خزيمة من طريق أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام، قال: قلت -ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس-: إنا لنجد في كتاب الله أن في الجمعة ساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أو بعض ساعة"، قلت: نعم، أو بعض ساعة

الحديث، وفيه: فقلت أي ساعة؟ فذكره.

وهذا يحتمل أن يكون القائل: "قلت" عبدَ الله بنَ سلام، فيكون مرفوعاً، ويحتمل أن يكون أبا سلمة، فيكون موقوفاً، وهو الأرجح، لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير بأن عبد الله عن سلام لم يذكر النبى صلى الله عليه وسلم في الجواب.

الثاني والأربعون: من حين يغيب نصف قرص الشمس، أو من حين تَدَلَّي الشمسُ للغروب إلى أن يتكامل غروبها، رواه الطبراني في "الأوسط"، والدارقطني في "العلل"، والبيهقي في "الشعب"، و"فضائل الأوقات" من طريق زيد بن علي بن الحسين بن علي، حدثتني مُرجانة مولاة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: حدثتنى فاطمة عليها السلام، عن أبيها، فذكر الحديث، وفيه: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أيّ ساعة هي؟ قال: "إذا تدلى نصف الشمس للغروب"، فكانت فاطمة إذا كان يوم الجمعة، أرسلت غلاماً لها، يقال له: زيد، ينظر لها الشمس، فإذا أخبرها أنها تدلت للغروب أقبلت على الدعاء إلى أن تغيب. وفي إسناده اختلاف على زيد بن علي، وفي بعض رواته من لا يُعرف حاله.

وقد أخرج إسحاق بن راهويه في "مسنده" من طريق سعيد بن راشد، عن زيد بن علي، عن فاطمة، لم يذكر مرجانة، وقال فيه: إذا تدلت الشمس للغروب، وقال فيه: تقول لغلام يقال له أربد: اصعد على الظراب، فإذا تدلت الشمس للغروب فأخبرني، والباقي نحوه، وفي آخره: ثم تصلي يعني المغرب.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: فهذا جميع ما اتصل إليّ من الأقوال في ساعة الجمعة مع ذكر أدلتها، وبيان حالها في الصحة والضعف، والرفع، والوقف، والإشارة إلى مأخذ لبعضها، وليست كلها متغايرة من كل جهة، بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره.

ثم ظفرت بعد كتابة هذا يقول زائد على ما تقدم، وهو غير منقول، استنبطه صاحبنا العلامة الحافظ شمس الدين الجَزَريّ، وأذن لي في روايته عنه في كتابه المسمى "الحصين الحصين" في الأدعية لَمَّا ذكر الاختلاف في ساعة الجمعة، واقتصر على ثمانية أقوال مما تقدم، ثم قال: ما نصه: والذي أعتقده أنها وقت قراءة الإِمام الفاتحة في صلاة

ص: 319

الجمعة إلى أن يقول آمين، جمعاً بين الأحاديث التي صحت، كذا قال، ويخدش فيه أنه يفوّت على الداعي حينئذ الإنصاف لقراءة الإِمام، فليُتأمل.

قال الزين ابن المنيّر: يحسن جمع الأقوال، وكان قد ذكر مما تقدم عشرة أقوال تبعاً لابن بطال، قال: فتكون ساعة الإجابة واحدة منها لا بعينها، فيصادفها من اجتهد في الدعاء في جميعها، والله المستعان.

وليس المراد من أكثرها أنه يستوعب جميع الوقت الذي عُيّن، بل المعنى أنها تكون في أثنائه، لقوله فيما مضى:"يقللَّها"، وقوله:"وهي ساعة خفيفة".

وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلاً، وانتهاؤها انتهاء الصلاة.

وكأن كثيراً من القائلين عَيَّنَ ما اتفق له وقوعها فيه من ساعة في أثناء وقت من الأوقات المذكورة. فيهذا التقرير يقل الانتشار جداً.

ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى، وحديث عبد الله بن سلام كما تقدم.

قال المحب الطبريّ: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام انتهى.

وما عداهما إما موافق لهما، أو لأحدهما، أو ضعيف الإسناد، أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه صلى الله عليه وسلم أُنسيها بعد أن أُعلمها، لاحتمال أن يكون سمع ذلك منه قبل أن ينسى، أشار إلى ذلك البيهقي وغيره.

وقد اختلف السلف في أيهما أرجح، فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوريّ أن مسلما قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحّه، وبذلك قال البيهقي، وابن العربيّ، وجماعة. وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يُلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح، بل الصواب، وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضاً بكونه مرفوعاً صريحاً، وفي أحد "الصحيحين".

وذهب آخرون إلى ترجيح قوله عبد الله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البرّ: إنه أثبت شيء في هذا الباب. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناساً من الصحابة اجتمعوا، فتذاكروا ساعة الجمعة، ثم افترقوا، فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. ورجحه كثير من الأئمة أيضاً، كأحمد، وإسحاق، ومن المالكية

ص: 320

الطرطوشيّ. وحكى العلائيّ أن شيخه ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته كان يختاره، ويحكيه عن نص الشافعي.

وأجابوا عن كونه ليس في أحد "الصحيحين" بأن الترجيح بما في "الصحيحين"، أو أحدهما إنما هو من حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا، فإنه أعلّ بالانقطاع والاضطراب:

أما الانقطاع، فلأن مخرمة بن بُكير لم يسمع من أبيه، قاله أحمد، عن حماد بن خالد، عن مخرمة نفسه، وكذا قال سعيد بن أبي مريم، عن موسى بن سلمة، عن مخرمة، وزاد: إنما هي كتب كانت عندنا. وقال علي بن المدينيّ: لم أسمع أحدا من أهل المدينة يقول عن مخرمة: إنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي، ولا يُقال: مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة، وهو كذلك هنا، لأنا نقول: وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع.

وأما الاضطراب، فقد رواه أبو إسحاق، وواصل الأحدب، ومعاوية بن قُرّة، وغيرهم عن أبي بُردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة، وأبو بردة كوفيّ، فهم أعلم بحديثه من بُكير المدنيّ، وهم عدد، وهو واحد، وأيضاً فلو كان عند أبي بُردة مرفوعاً لم يُفت فيه برأيه بخلاف المرفوع، ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب.

وسلك صاحب "الهدي" مسلكاً آخر، فاختار أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يُعارض الآخر، لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم دلّ على أحدهما في وقت، وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا كقول ابن عبد البرّ: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق إلى نحو ذلك الإِمام أحمد، وهو أولى في طريق الجمع.

وقال ابن المنير في الحاشية: إذا عُلم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة، ولليلة القدر بَعْث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بُيِّن لاتكل الناس على ذلك، وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخص مما ذكر أن الأصح هو ما عليه أكثر الأئمة، وهو ترجيح قول عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه أنها بعد العصر؛ لقوته، هذا من حيث الترجيح.

وأما من حيث المعنى، فعدم التحديد بهذا -كما قال ابن المنيّر- أولى، لمخالفته لحكمة إخفاء الله تعالى لها، حتى يجتهد عبادُه في التضرع إليه كثيراً، فينبغي أن يجتهد

(1)

"فتح" 3/ 82 - 90.

ص: 321

في الدعاء، ولا سيما في هذين الوقتين اللذين نُصّ عليهما في حديث عبد الله بن سلام، وحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنهما -. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1431 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ رَبَاحٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمَّد بن يحيى بن عبد الله) الذُّهلي النيسابوري، ثقة حافظ جليل [11] تقدم 196/ 314.

2 -

(أحمد حنبل) هو أحمد بن محمد بن حنبل الإِمام الحافظ الحجة المجتهد إمام أهل السنة والجماعة [10] تقدّم 49/ 958.

3 -

(إبراهيم بن خالد) الصنعاني المؤذن، ثقة [9] تقدم 49/ 958.

4 -

(رَباح) بن زيد القرشيّ مولاهم الصنعاني، ثقة فاضل [9] تقدم 49/ 958.

5 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة الصنعاني، ثقة ثبت فاضل [7] تقدم 10/ 10.

6 -

(الزهري) المذكور في الباب الماضي.

7 -

(سعيد) بن المسيّب بن حَزْن بن أبي وهب المدني، الإِمام الفقيه الحجة من كبار [3] تقدم 9/ 9

والصحابي، وشرح الحديث تقدم الكلام عليهما في الحديث الماضي. والله تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا الله تعالى عنه -: حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - هذا حديث صحيح، وهو من أفرد المصنف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا - 45/ 1431 - وفي "الكبرى" 40/ 1749 - وفي "عمل اليوم والليلة" 472 - عن محمد ابن يحيى، عن أحمد بن حنبل، عن إبراهيم بن خالد، عن رَبَاح بن زيد، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد، عنه. وفي "عمل اليوم والليلة" 471 - عن عمرو بن عثمان، عن شريح بن يزيد، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن سعيد، عنه.

وأخرجه (أحمد) 2/ 284. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، والله تعالى أعلم، والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1432 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ

ص: 322

أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً، لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ

(1)

مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ». قُلْنَا: يُقَلِّلُهَا، يُزَهِّدُهَا".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن زُرارة) بن واقد الكلابي، أبو محمد النيسابوري، ثقة ثبت [10] تقدم 7/ 368.

2 -

(إسماعيل) بن إبراهيم المعروف بابن عُلَية البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 18/ 19.

3 -

(أيوب) بن أبي تَميمة السختياني تقدم في الباب الماضي.

4 -

(محمد) بن سيرين الإِمام الحجة المشهور [3] تقدم 46/ 57.

والصحابي تقدّم أوّل الباب، وكذا شرح الحديث.

وقوله: "قلنا: يقلّلها، يزهّدها" الجملة الثانية بدل من الأولى.

وهكذا بإبهام القائلين، وكذا في رواية البخاريّ في "الطلاق" من طريق سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين.

وفي رواية البخاري في "الصلاة" من رواية الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: "وأشار بيده يقللَّها"، قال في "الفتح": هكذا هنا بإبهام الفاعل، وفي رواية أبي مصعب عن مالك:"وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية سلمة بن علقمة، عند البخاري في "الطلاق":"ووضع أنملته على بطن الوسطى، أو الخنصر، قلنا: يزهدها"، وبَيَّنَ أبو مسلم الكجيّ أن الذي وضع هو بشر بن المفضل راويه عن سلمة بن علقمة، وكأنه فسر الإشارة بذلك، وأنها ساعة لطيفة تنتقل ما بين وسط النهار إلى قرب آخره.

وبهذا يحصل الجمع

(2)

بينه، وبين قوله:"يزهّدها"، أي يقللها، ولمسلم من رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة:"وهي ساعة خفيفة"، وللطبراني في "الأوسط" في حديث أنس رضي الله عنه:"وهي قدر هذا، يعني قبضة". قال الزين ابن المنيّر: الإشارة لتقليلها هو الترغيب فيها، والحضّ عليها، ليَسَارَة وقتها، وغَزَارَة فضلها انتهى

(3)

. والله تعالى أعلم.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّثَ بِهذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ رَبَاحِ، عَنْ مَعْمَرِ، عَنِ

الزُّهْرِيُّ، إِلَّا أَيُّوبَ بْنَ سُوَيْد، فَإِنَّهُ حَدَّثَ بهِ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ، وَأَبِي

سَلَمَةَ، وَأَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ)

(4)

.

(1)

لفظة "عبد" ساقطة من بعض النسخ.

(2)

قلت: لم يظهر لي وجه هذا الجمع. فليُتَأَمَّلْ. والله تعالى أعلم.

(3)

"فتح" 3/ 82.

(4)

يوجد هنا في النسخة "الهندية": ما نصه: "آخر كتاب الجمعة".

ص: 323

قال الجامع - عفا الله تعالى عنه -: هكذا ذُكِرَ في نسخ "المجتبى" التي بين يديّ هذا الكلامُ هنا عَقِبَ حديث أيوب، عن ابن سرين، والظاهر أنه متعلق بحديث الزهري، عن ابن المسيّب، الذي قبل هذا، فكان الأولى ذكره هناك، فلعلّه من تصرف النُّسَّاخ. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: لم أر من أخرج رواية سويد التي أشار إليها المصنف --رحمه الله تعالى-- هنا. فالله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: "أيوب بن سُويد" هذا هو الرَّمْليّ، أبو مسعود الْحِمْيَريّ، السَّيباني- بمهملة مفتوحة، ثم تحتانية ساكنة، ثم موحدة- من رجال أبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه فقط، وهذا الذي قاله المصنف رحمه الله من أنه متروك قاله غيره أيضًا:

فعن أحمد أنه قال: ضعيف. وقال ابن معين: ليس بشيء يسرق الأحاديث. وذكر الترمذي أن ابن المبارك ترك حديثه. وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال الخليلي: لم يرضوا حفظه، وقال الساجي: ضعيف ارم به. وقال الآجريُّ، عن أبي داود: ضعيف. وقال الْجُوزجاني: واهي الحديث. وقد طول الكلام فيه في "تت" جـ1 ص 204 - 205

(1)

فراجعه، تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌14 - (كِتَابُ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ)

أي هذا كتاب ذكر الأحاديث الدالّة على مشروعية تقصير الصلاة في حال السفر. قال الجامع - عفا الله تعالى عنه -: "التقصير" مصدر قصّر، يقال: قصرت الصلاة -بفتحتين- مخففا قَصْرًا، وقصّرتها تقصيرًا، وأقصرتها إقصارًا، والأول أشهر في الاستعمال، والمراد به هنا تخفيف الرباعية إلى ركعتين.

والسَّفَر -بفتحتين-: قطع المسافة، قال الفيّومي: سَفَر الرجل، سَفْرًا، من باب ضرب، فهو سافر، والجمع سَفْر، مثلُ راكب ورَكْب، وصاحب وصَحْب، وهو مصدر

(1)

راجع "تت" النسخة الجديدة التي طبعتها مؤسسة الرسالة.

ص: 324

في الأصل، والاسم السَّفَر بفتحتين، وهو قطع المسافة، يقال ذلك إذا خرج للارتحال، أو لقصد موضع فوق مسافة الْعَدْوَى

(1)

، لأن العرب لا يُسمّون مسافة العَدْوى سفَرًا. انتهى

(2)

.

ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في صلاة الصبح، ولا في صلاة المغرب. وقال النوويّ: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وذهب بعض السلف إلى أنه يُشترط في القصر الخوفُ في السفر، وبعضهم كونه سفر حج، أو عمرة، أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة، وعن أبي حنيفة، والثوريّ في كلّ سفر، سواء كان طاعة، أو معصية. قاله في "الفتح"

(3)

.

قال الجامع - عفا الله تعالى عنه -: سيأتي ترجيح ما قاله أبو حنيفة، والثوري - رحمهما الله تعالى-؛ لإطلاق النصوص، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

1433 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَيْهِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {لَيْسَ

(4)

عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟ ، فَقَالَ:«صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المذكور قبل بابين.

2 -

(عبد الله بن إدريس) الأودي أبو محمد الكوفي، ثقة فقيه عابد [8] تقدم 85/ 102.

3 -

(ابن جُريج) عبد الملك بن عبد العزيز المكي، ثقة فقيه فاضل يدلس ويرسل نسب لجده [6] تقدم 28/ 32.

4 -

(ابن أبي عَمّار) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القرشيّ المكيّ، حليف بني الْجُمَح، الملقب بـ"القَسّ" بفتح القاف، -وتشديد السين المهملة- لعبادته، ثقة عابد [3].

روى عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن الزبير،، وجابر، وشدّاد بن الهاد، وعبد اللَّه

(1)

مسافة العَدْوى بالفتح والقصر: هي التي يَصِل صاحبها فيها الذهاب والعود بعَدْوٍ وَاحدٍ؛ لما فيه من القوة والجلادة أفاده في "المصباح" جـ 1 ص 398.

(2)

"المصباح" جـ 1 ص 278.

(3)

"فتح" 3/ 268 - 269.

(4)

التلاوة "فليس عليكم" بالفاء، فليتنبه.

ص: 325

ابن بابيه. وعنه عبد الملك بن عبيد بن عُمير، وابن جريج، وعمرو بن دينار، ويوسف ابن ماهك، وعكرمة بن خالد.

قال ابن سعد، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن المديني. روى له الجماعة سوى البخاري، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا، و (1953) حديث. "إن تَصْدُق اللَّه يصدُقْك

" الحديث، و (2836) حديث: "فأمرني بأكلها، قلت: أصيد هو؟

" الحديث، وأعاده برقم (4325).

5 -

(عبد اللَّه بن بابيه) ويقال: باباه، ويقال بحذف الهاء، مولى آل حُجير بن أبي

إهاب، ويقال: مولى يعلي بن أمية، المكي، ثقة [4] تقدم في 41/ 585.

6 -

(يعلى بن أمية) بن أبي عُبيدة بن همام التميمي حليف قُريش، وهو يعلى ابن مُنية، وهي أمه، صحابي مشهور، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة بضع وأربعين، تقدم في 7/ 406.

7 -

(عمر بن الخطاب) أمير المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أن فيه رواية صحابي، عن صحابي، وتابعي، عن تابعي، وهو سند مكي، غير شيخه، فمروزي، ثم نيسابوري، وشيخ شيخه، فكوفي. ومنها: أن صحابيه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة، وأحد السابقين إلى الإِسلام. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ يَعْلَى بْنِ أمَيَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب) - رضي اللَّه تعالى عنه -، ولفظ أبي داود: قلت لعمر بن الخطاب: أرأيت إقصار الناسَ الصلاة، وإنما قال اللَّه عز وجل:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد ذهب اليوم

" {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي وزر وحرج {أَنْ تَقْصُرُوا} بضم الصاد، أي في القصر، وهو خلاف المدّ، يقال: قَصَرتُ الشيء: أي جعلته قصيرًا بحذف بعض أجزائه، فمتعلق القصر جملة الشيء، لا بعضه، فإن البعض متعلق الحذف دون القصر، فحينئذ قوله {مِنَ الصَّلَاةِ} ينبغي أن يكون مفعولا لـ"تقصروا" على زيادة "من" حسب ما رآه الأخفش، وأما على رأي غيره من عدم زيادتها في الإثبات، فتُجعل تبعيضيةً، ويراد بالصلاة الجنس، ليكون المقصور بعضًا منها، وهو الرباعيات. قاله أبو السعود في "تفسيره"

ص: 326

{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ينالوكم بمكروه (فقَدْ أَمِنَ النَّاسُ) أي ذهب خوفهم الذي كان سببًا لمشروعية القصر، فما بالهم يقصرون؟، أو فما وجه القصر مع زوال السبب؟ (فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: عَجبْت) أنا (مِمَّا عَجِبْتَ مِنْه) أنت (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟) أي عن قصر الصلاة مع زوال الخوف، وحصول الأمن (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (صدَقَةٌ) خبر لحذوف، أي قصر الصلاة صدقة.

قال السندي -رحمه اللَّه تعالى-: أي شرع لكم ذلك رحمةً بكم، وإزالةً للمشقّة عنكم، نظرًا إلى ضعفكم، وفقركم. وهذا المعنى يقتضي أن ما ذُكر فيه من القيد، فهو اتفاقيّ ذكرُهُ على مقتضى ذلك الوقت، وإلا فالحكم عامّ، والقيد لا مفهوم له، ولا يخفى ما في الحديث من الدلالة على اعتبار المفهوم في الأدلة الشرعية، وأنهم كانوا يفهمون ذلك، ويرون أنه الأصل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرّرهم على ذلك، ولكن بَيَّنَ أنه قد لا يكون معتبرًا أيضًا بسبب من الأسباب.

فإن قلت: يمكن التعجّب مع عدم اعتبار المفهوم أيضا، بناء على أن الأصل هو الإتمام، والقصر رخصة، جاءت مقيدةً لضرورة، فعنوإنتفاء القيد مُقتَضَى الأدلّة هو الأخذ بالأصل.

قلت: هذا الأصل إنما يُعمل به عند انتفاء الأدلّة، وأما مع وجود فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف، فلا عبرة به، ولا يُتعجّب من خلافه، فليُتأمّل انتهى كلام السندي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال الإِمام ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-: قد أشكلت الآية على عمر وغيره، فسأل عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من اللَّه، وشَرْعٌ شرعه للأمة، وكان هذا بيانَ أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الْجُنَاح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له انتهى.

(تَصَدَّقَ اللَّهُ) أي تفضل اللَّه تعالى (بَها عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ) أي سواء حصل الخوف أم لا، وإنما قال في الآية:{إِنْ خِفْتُمْ} ، لأنه قد خرج مخرج الأغلب، لكون أغلب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تخل من خوف، لكثرة أهل الحرب إذ ذاك، فحينئذ لا تدلّ الآية على عدم القصر إن لم يكن خوف، لأنه بيان للواقع إذ ذاك، فلا مفهوم له.

قال السندي -رحمه اللَّه تعالى-: الأمر يقتضي وجوب القبول، وأيضا العبد فقير، فإعراضه عن صدقة ربه يكون منه قبيحًا، ويكون من قبيل {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7]، وفي ردّ صدق أحد عليه من التأذي عادةً ما لا يخفى، فهذه من أمارات الوجوب، فتأمل. واللَّه تعالى أعلم انتهى.

(1)

"شرح السندي" جـ 3 ص 117.

ص: 327

وسيأتي اختلاف أهل العلم في حكم القصر في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى في درجته:

حديث عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -1/ 1433 - وفي "الكبرى" -1/ 1891 عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد اللَّه بن إدريس، عن ابن جريج، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبي عمّار، عن عبد اللَّه بن بابيه، عن يعلي بن أمية، عنه. وفي "الكبرى" في "التفسير" -11120 - عن شعيب بن يوسف، عن يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج به.

وأخرجه (م) 2/ 143 (د) 1199 - و1200 (ت) 3034 (ق) 1065 (أحمد) 1/ 25 و1/ 36 (الدارمي) 1513 (ابن خزيمة)945. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعية تقصير الصلاة في السفر.

ومنها: بيان رحمة اللَّه تعالى، وكمال فضله على عباده حيث شرع لهم قصر الصلاة في حال السفر للمشقة اللاحقة بهم، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية [الحج: 87].

ومنها: جواز القصر في السفر من غير الخوف.

ومنها: جواز قول: "تصدق اللَّه علينا"، و"اللهم تصدق علينا"، وقد كرهه بعض السلف، قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: وهو غلط ظاهر.

ومنها: أن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل شيئًا يشكل عليه يسأله عنه.

ومنها: أن المفاهيم معتبرة في الشرع، حيث إن عمر رضي الله عنه فهم من قوله تعالى:{إِنْ خِفْتُمْ} أن مفهومه عدم جواز القصر عند عدم الخوف، وقرره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولكن ذكر له مانعًا من اعتباره، وهو كونه صدقة من اللَّه تعالى مطلقة غير مقيدة بالخوف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في حكم القصر في السفر:

قال الإِمام أبو بكر ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: واختلفوا في إتمام الصلاة في السفر، فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: صلاة المسافر ركعتان، وروينا عن

ص: 328

جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أنه قال: الركعتان في السفر ليستا بقصر، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إنها ليست بقصر، ولكنها تمام سنة الركعتين في السفر، وسئل ابن عمر عن صلاة المسافر؟ فقال: ركعتين، من خالف الحسنة، فقد كفر

(1)

. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: من صلى بالسفر أربعًا كان كمن صلى في الحضر ركعتين

(2)

. وقالت عائشة رضي الله عنهما: إن الصلاة أول ما فُرضت ركعتين، ثم أتمّ اللَّه الصلاة في الحضر، وأُقرّت الركعتان على هيئتها في السفر.

وقال عمر بن عبد العزيز: الصلاة في السفر ركعتان حتمان، لا يصلح غيرهما. وكان حماد بن أبي سليمان يرى أن يُعيد من صلى في السفر أربعًا. وقال قتادة: يصلي المسافر ركعتين حتى يرجع، إلا أن يدخل مصرًا من الأمصار، فيتمّ. وقال الحسن: لا أبا لك أتُرى أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تركوها لأنها ثقلت عليهم؟.

وسئل مالك عن مسافر أم مقيمًا، فأتمّ لهم الصلاة جاهلاً، ويتم المسافر والمقيم؟ قال: أرى أن يعيدوا الصلاة جميعًا، رواه ابن وهب عنه، وحكى ابن القاسم عنه أنه قال: يعيد ما كان في الوقت، فأما ما مضى وقته، فلا إعادة عليه.

واختلف فيها عن أحمد، فقال مرّةً في المسافر يصلي أربعًا: لا يُعجبني، السنة ركعتان، وقال مرة: أنا أحبّ العافية من هذه المسألة، وقال مرة: إذا أتمّ المسافر فلا شيء عليه.

وقال أصحاب الرأي في مسافر صلى في السفر أربعًا أربعًا حتى يرجع، فقالوا: إن كان قعد في كل ركعتين قدر التشهد، فصلاته تامّة، وإن كان لم يقعد في الركعتين الأولبين قدر التشهد، فصلاته فاسدة، وعليه أن يعيد، لأن صلاة المسافر ركعتان، فما زاد عليهما فهو تطوع، فإذا خلط المكتوبة بالتطوع فسدت صلاته، إلا أن يقعد في الركعتين قدر التشهد، فيكون التشهد فصلاً لما بينهما.

وقالت طائفة: المسافر بالخيار إن شاء أتمّ، وإن شاء قصر، هذا قول الشافعي، وأبي ثور، ورويناه عن أبي قلابة أنه قال: إن صليت في السفر أربعًا، فقد صلى من لا بأس به، وإن صليت ركعتين، فقد صلى من لا بأس به. وقد روينا عن عائشة أنها كانت تتم في السفر انتهى كلام ابن المنذر باختصار

(3)

.

(1)

أراد به من خالف حكم اللَّه تعالى في هذا متعمدًا وعنادًا، لا متأولا. واللَّه أعلم.

(2)

وهذا أيضًا مؤول بمن صلى مخالفًا لحكم اللَّه تعالى، ومعرضا عن قبول رخصته، فإنه يكون معاندًا، فتأمل. واللَّه أعلم.

(3)

"الأوسط" 4/ 332 - 335.

ص: 329

وقال العلامة الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكر الاختلاف: واحتجّ القائلون بوجوب القصر بحجج:

الأولى: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم للقصر في جميع أسفاره، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه الآتي 5/ 1458 - ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتمّ الرباعية في السفر البتة، كما قال ابن القيم. وأما حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"كان يقصر في السفر، ويُتمّ"، فلم يصح. ويُجاب عن هذه الحجة بأن مجرد الملازمة لا يدلّ على الوجوب، كما ذهب إلى ذلك جمهور أئمة الأصول وغيرهم.

والحجة الثانية: حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه بألفاظ:

منها: "فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر"، وهو دليل ناهض على الوجوب، لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها، كما أنه لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر.

وقد أجيب عن هذه الحجة بأجوبة:

منها: أن الحديث من قول عائشة غير مرفوع، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة، وأنه لو كان ثابتاً لنُقل تواترًا. وقد تقدم عن هذه الأجوبة في أوائل كتاب الصلاة 3/ 455.

ومنها: أن المراد بقولها: "فرضت" أي قدّرت، وهو خلاف الظاهر.

ومنها: ما قاله النووي: إن المراد بـ"فرضت" أي لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار عليهما، وهو تأويل متعسّف لا يُعوّل على مثله.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل ما قاله النووي -رحمه اللَّه تعالى- تأويل صحيح، لا تعسف فيه، كما يأتي بيانه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

ومنها: المعارضة لحديث عائشة بأدلتهم التي تمسكوا بها في عدم وجوب القصر، وستأتي، ويأتي الجواب عنها.

والحجة الثالثة: ما في "صحيح مسلم" عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال:"إن اللَّه عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعًا، والخوف ركعة"، فهذا الصحابي الجليل قد حكى عن اللَّه عز وجل أنه فرض صلاة السفر ركعتين، وهو أتقى للَّه، وأخشى من أن يحكي أن اللَّه فرض ذلك بلا برهان.

والحجة الرابعة: حديث عمر رضي الله عنه عند النسائي-37/ 1420 - وغيره: "صلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة السفر ركعتان،، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم".

ص: 330

وهو يدلّ على أن صلاة السفر مفروضة كذلك من أول الأمر، وأنها لم تكن أربعًا، ثم قُصرت، وقوله:"على لسان محمد ص" تصريح بثبوت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم.

والحجة الخامسة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم للمصنف -3/ 457 - : "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتانا، ونحن ضُلّال، فعلمنا، فكان فيما علمنا أن اللَّه عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر".

واحتجّ القائلون بأن القصر رخصة، والتمام أفضل بحجج:

الأولى: منها قول اللَّه تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} الآية، ونفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الرخصة، وعلى أن الأصل التمام، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه.

وأجيب: بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف، لا في قصر العدد، لما عُلم من تقدّم لقرعية قصر العدد. قال في "الهدي" -وما أحسن ما قال-: وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرًا يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين، وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوف، فإذا وُجد الأمران أبيح القصران، فيصلّون صلاة خوف مقصورًا عددها، وأركانها، وإن انتفى الأمران، وكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران، فيصلون صلاة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإن وُجد الخوف، والإقامة، قصرت الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، وإن وُجد السفر، والأمن قُصر العدد، واستوفيت الأركان، وصليت صلاة أمن، وهذا أيضًا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تُسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامّةً باعتبار تمام أركانها، وإنها لم تدخل في قصر الآية انتهى

(1)

.

الحجة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: في حديث الباب: "صدقة تصدق اللَّه بها عليكم"، فإن الظاهر من قوله:"صدقة" أن القصر رخصة فقط.

وأجيب بأن الأمر بقبولها يدل على أنه لا مَحيص عنها، وهو المطلوب.

الحجة الثالثة: ما في "صحيح مسلم" وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر، ومنهم المتمّ، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يحيب بعضهم على بعض، كذا قال النووي في "شرح مسلم"، ولم نجد في "صحيح مسلم" قوله:"فمنهم القاصر، ومنهم المتمّ"، وليس فيه إلا أحاديث الصوم والإفطار، وإذا

(1)

"زاد المعاد" 1/ 466 - 467.

ص: 331

ثبت ذلك، فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، وقرّرهم عليه، وقد نادت أقواله، وأفعاله بخلاف ذلك، وقد تقرّر أن إجماع الصحابة في عصره صلى الله عليه وسلم ليس بحجة، والخلاف بينهم في ذلك مشهور بعد موته، وقد أنكر جماعة منهم على عثمان لمّا أتمّ بمنى، وتأولوا له تأويلات.

قال ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: أحسنها

(1)

أنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا أقام في موضع، وتزوج فيه، أو كان له به زوجة أتمّ، وقد روى أحمد عن عثمان أنه قال: أيها الناس لما قدمت منى تأهلت بها، وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا تأهل رجل ببلد، فليصلّ به صلاة مقيم"، ورواه أيضًا عبد اللَّه بن الزبير الحميديّ في "مسنده"، وقد أعله البيهقي بانقطاعه، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم، وسيأتي الكلام عليه.

الحجة الرابعة: حديث عائشة رضي الله عنها: "كان يقصر في السفر، ويتمّ"، وقد تقدم أنه لا يصحّ

(2)

.

وهذا النزاع في وجوب القصر وعدمه، وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب.

وأما دعوى أن الإتمام أفضل، فمدفوعة بملازمته صلى الله عليه وسلم للقصر في جميع أسفاره، وعدم صدور الإتمام عنه، كما تقدم، ويبعد أن يلازم صلى الله عليه وسلم طول عمره المفضول، ويدع الفاضل انتهى كلام الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى-

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الأرجح قول من قال بجواز الإتمام مع أفضلية القصر، لأن الأدلة التي ذكرها القائلون بعدم جواز الإتمام ليست صريحة قطعية في الدلالة عليه، حيث إنها تقبل التأويل، كما تقدم في كلام النووي -رحمه اللَّه تعالى-، وإنما حملني على ترجيح هذا القول بعد طول التوقف فيه اتفاق الصحابة الذين حجوا مع عثمان - رضي اللَّه تعالى عنهم - على صحة صلاة عثمان، ومن صلى معه، حتى إن الذين أنكروا عليه الإتمام لمخالفته السنة صلوا معه، واعتدوا بتلك الصلاة، كابن مسعود، وابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -، فلو كانت صلاة عثمان ومن معه باطلة لم يصلوا معه، وأما إنكارهم فلمخالفته ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من ملازمة القصر، لا لعدم

(1)

سيأتي تضعيف هذا التأويل في 3/ 447 إن شاء اللَّه تعالى.

(2)

هذا الحديث وإن قال الدارقطني: إسناده صحيح إلا أَنَّ الإِمام أحمد استنكره، وقال ابن تيمية: هو كذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انظر "نيل الأوطار" 4/ 119.

(3)

"نيل الأوطار" 3/ 239 - 241.

ص: 332

جواز الإتمام.

وأما القول بأفضلية الإتمام فلا وجه له؛ لمخالفته لما لازمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مدة حياته، فالأفضل هو الذي داوم عليه، وإنما الكلام في الجواز فقط. هذا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في السفر الذي يبيح القصر:

قال الإِمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم، لا اختلاف بينهم على أن لمن سافر سفرا يُقصَر في مثله الصلاة، وكان سفره في حج، أو عمرة، أو غزو أن له أن يقصر الصلاة ما دام مسافرًا.

واختلفوا فيمن خرج لمباح التجارة، أو مطالعة مال له، أو أبيح له الخروج إليه، فقال أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار: له إذا خرج إلى ما أبيح له أنا يقصر الصلاة، هذا قول الأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وهو مذهب أهل المدينة، وأهل الكوفة، وعوامّ أهل العلم من علماء الأمصار.

وفيه قول ثان: قال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: لا يقصر إلا في حج، أو جهاد، وروينا عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: إنما يقصر الصلاة من كان شاخصاً

(1)

، أو يحضره العدو.

ثم أخرج ابن المنذر بسنده عن أبي المهلب، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه، كتب أنه بلغني أن رجالاً يخرجون إما لجباية، وإما لتجارة، وإما لحشر

(2)

، ثم لا يُتمون الصلاة، فلا تفعلوا ذلك، فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو يحضره عدوّ.

وقال عطاء: أرى أن لا تقصر الصلاة إلا في سبيل من سُبُل الخير، من أجل أن إمام المتقين لم يقصر الصلاة إلا في سبيل من سُبُل الخير، حج، أو عمرة، أو غزو، والأئمة بعده أيهم كان يضرب في الأرض يبتغي الدنيا؟ وقد كان قبلُ لا يقول بهذا القول، يقول: يقصر في كل ذلك.

واختلفوا فيمن سافر في معصية اللَّه، ففي قول للشافعي، وأحمد عليه أن يُتمّ، وليس له أن يقصر ما دام في سفره، قال الشافعي: وذلك في مثل أن يخرج باغيًا على مسلم، أو معاهد، أو يقطع طريقًا، أو بما في هذا المعنى، قال: ولا يمسح على الخفين، ولا يجمع الصلاة، ولا يصلي نافلة إلى غير القبلة، مسافرًا في معصية.

(1)

كتب في هامش البيهقي: يعني رسولاً في حاجة.

(2)

الحشر هم القوم الذين يخرجون بدوا بهم إلى المرعى. قاله البيهقي جـ 3 ص 137.

ص: 333

وكان الأوزاعي يقول في الرجل يخرج في بعثة إلى بعض المسلمين: يقصر الصلاة، ويفطر في شهر رمضان في مسيره، وافق ذلك طاعة، أو معصية.

وحكي عن النعمان أنه قال: المسافر يقصر في حلال خرج، أو في حرام انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال العلامة صديق حسن القنّوجي -رحمه اللَّه تعالى-: والظاهر من الأدلة في القصر والإفطار عدم الفرق بين من سفره في طاعة، ومن سفره في معصية، لا سيما القصر، لأن صلاة المسافر شرعها اللَّه كذلك، فكما شرع للمقيم صلاة التمام من غير فرق بين من كان مطيعًا، ومن كان عاصيًا بلا خلاف، كذلك شرع للمسافر ركعتين من غير فرق، وأدلة القصر متناولة للعاصي تناولاً زائدا على تناول أدلة الإفطار له، لأن القصر عزيمة، وهي لم تشرع للمطيع دون العاصي، بل مشروعة لهما جميعًا بخلاف الإفطار، فإنه رخصة للمسافر، والرخصة تكون لهذا دون هذا في الأصل، وإن كانت هنا عامة، وإنما المراد بطلان القياس انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي قول من قال بمشروعية القصر لكل مسافر، مطيعاً كان، أو عاصيًا؛ لعموم الأدلة، كما استظهره القنوجي -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1434 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ وَصَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: يَا ابْنَ أَخِى إِنَّ اللَّهَ عز وجل بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد تقدم قريبًا.

2 -

(الليث) بن سعد المصريّ الإمام الحجة [7] تقدم 31/ 35.

3 -

(ابن شهاب) تقدم قريبًا.

4 -

(عبد اللَّه بن أبي بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام المخزومي المدني، صدوق [6] تقدم 3/ 457.

(1)

"الأوسط" جـ 4 ص 343 - 346.

(2)

"الروضة الندوية" جـ 1 ص 150.

ص: 334

5 -

(أمية بن عبد اللَّه بن خالد) الأموي المكي، ثقة [3] تقدم 3/ 457.

6 -

(عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما تقدم قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح، تقدم للمصنف -رحمه اللَّه تعالى- برقم -3/ 457 - رواه هناك عن يوسف بن سعيد، عن حجاج ابن محمد، عن محمد بن عبد اللَّه الشُّعَيثيّ، عن عبد اللَّه بن أبي بكر به، بلفظ:"قال لابن عمر: كيف تقصر الصلاة، وإنما قال اللَّه عز وجل: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ}، فقال ابن عمر: يا ابن أخي إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتانا، ونحن ضُلّال، فعلّمنا، فكان فيما علّمنا أن اللَّه عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر". وتقدم شرحه، والكلام على مسائله هناك.

ودلالته على ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية تقصير الصلاة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1435 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، لَا يَخَافُ إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ، يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) المذكور قبله.

2 -

(هُشيم) بن بَشير الواسطي، ثقة ثبت، كثير التدليس، والإرسال الخفي [7] تقدم 88/ 109.

3 -

(منصور بن زاذان) الثقفي، أبو المغيرة الواسطي، ثقة ثبت عابد [6] تقدم 5/ 475.

4 -

(ابن سيرين) تقدم قريبًا.

5 -

(ابن عباس) عبد اللَّه الحبر البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدم 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 335

شرح الحديث

(عَنٍ ابْن عَبَاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ مَكَةَ إِلَى الْمَدينَةِ) أي بعد فتح مكة، والظاهر أنه أراد خروجه بعد فراغه من حجة الوداع، واللَّه تعالى أعلم (لَا يَخَافُ إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) أي لدخول الناس في دين اللَّه تعالى، فليس هناك عدوّ يُخاف مهاجمته للمسلمين، وهم في الصلاة (يُصَلِّي رَكعَتَيْنِ) أراد ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنه - بهذا الردّ على من كان يرى أن مشروعية القصر في السفر مشروطة بالخوف، متمسكًا يقوله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الآية، فبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر مع زوال السبب الذي ذُكر في الآية.

ودلالة الحديث على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه-1/ 1435 - وفي "الكبرى" -1/ 1893 - عن قتيبة، عن هُشيم، عن منصور بن زاذان، عن ابن سيرين عنه. وفي -1/ 1436 - و"الكبرى" عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن ابن عون، عن ابن سيرين، به.

وأخرجه (ت) 547 (أحمد) 1/ 215 و226 و354 و355 و362 و369 (عبد بن حميد) 662 و663. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1436 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ

(1)

صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لَا نَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ عز وجل نُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيمي البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

(1)

وفي نسخة "النبي".

ص: 336

3 -

(ابن عون) عبد اللَّه بن أرطبان، أبو عون البصري، ثقة ثبت [5

(1)

] تقدم 25/ 33 والباقيان تقدما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، وبيان مسائله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرحع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1437 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(2)

شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَبِيبَ بْنَ عُبَيْدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنِ ابْنِ السِّمْطِ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يُصَلِّي بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ؟ ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَفْعَلُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) تقدم أول الباب.

2 -

(النضر بن شُميل) النحويّ، أبو الحسن البصري نزيل مرو، ثقة ثبت، من كبار [9] تقدم 41/ 45.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] تقدم 24/ 26.

4 -

(يزيد بن خُمير) -مصغّرا- الرَّحْبيّ -بمهملة ساكنة- الهمداني، أبو عمرو الحمصي الزياديْ، صدوق [5].

روى عن عبد اللَّه بن بُسر، وأبي أمامة الباهلي، وعبد الرحمن بن جُبير، وحبيب بن عبيد، وغيرهم. وعنه صفوان بن عمرو، وشعبة، وأبو عوانة، وغيرهم.

وثقه شعبة، وابن معين، والنسائي، وقال مرة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح الحديث صدوق، وقال حرب عن أحمد: كان كيّسًا، وحديثه حسنٌ، وقال الخضر بن داود عن أحمد: ما أحسن حديثه، وأصحّه، ورفع أمره. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال العُقيلي: قال الفلاّس: سمعت يحيى بن سعيد يقول: هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي بكر مرسلاً أحب إليّ من يزيد بن خُمير، عن سُليم بن عامر، عن أوسط

(3)

، عن أبي بكر. يعني أن ذاك المنقطع أحب إليه من هذا المتصل، قال: وسئل وكيع عن أحاديث أبى بكر، فجعل لا يُصحح منها شيئًا، فذكر له حديث يزيد بن خُمير؟، فقال: ذاك شامي. وقال أبو رزعة الدمشقي: رَوَى عنه حَريز بن عثمان، فقلب اسمه. وقال الهيثم بن عديّ: قلت لشعبة: رويتَ عن يزيد بن خُمير، وكان شُرْطيّا

(1)

جعله في "ت" من السادسة، والظاهر أنه من الخامسة؛ لأنه ثبت أنه رأى أنسًا رضي الله عنه. فليتأمل.

(2)

وفي نسخة "أخبرنا".

(3)

هو أوسط بن إسماعيل، أو ابن عامر، أو عمرو البجلي أبو إسماعيل، أو أبو عمرو الشامي، ثقة مخضرم من [2] مات سنة (79).

ص: 337

لهشام؟ قال: ويحك كان صدوقًا. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(حَبيب بن عُبيد) الرَّحَبي، أبو حفص الحمصي، ثقة [3]. تقدم 50/ 62.

6 -

(جُبَير بن نُفير) الحضرمي الحمصيّ، ثقة مخضرم جليل [2] تقدم 50/ 250.

7 -

(ابن السِّمْط) هو شُرَحبيل بن السِّمْط -بكسر السين المهملة، وسكون الميم- ابن الأسود بن جَبَلَة بن عديّ بن رَبيعة بن مُعاوية، الكنديّ، أبو معاوية، ويقال: أبو السمط الشاميّ، مختلف في صحبته.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وسلمان، وعمرو بن عَبَسَة، وغيرهم. وعنه جُبير ابن نُفير، وسالم بن أبي الجعد، وخالد بن زيد، وغيرهم.

قال ابن سعد: جاهلي إسلامي، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد القادسية، وافتتح حمص. وقال النسائي: ثقة. وجزم البخاري في "تاريخه" بأن له صحبة. وذكره ابن حبّان في الصحابة، فقال: كان عاملا على حمص، ومات بها، ثم أعاده في ثقات التابعين. وقال الحاكم أبو أحمد: له صحبة. وذكر خليفة أنه كان عاملاً لمعاوية على حمص نحوًا من عشرين سنة. وقال ابن عبد البرّ: شهد صفّين مع معاوية. وقال أبو عامر الْهَوْزَني: حضرت مع حبيب بن مسلمة جنازة شُرَحبيل. وقال صاحب "تاريخ حيص": توفي بسَلَميّةَ سنة (36) بلغني أنه هاجر إلى المدينة زمن عمر. وقال أبو داود: مات شُرحبيلُ بصفّين. وقال يزيد بن عبد ربه: مات سنة (40). روى له الجماعة سوى البخاري، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث.

8 -

(عمر بن الخطاب) رضي الله عنه المذكور في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من ثمانيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رواته كلهم رواة الصحيح. ومنها: أن فيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، فيزيد بن خُمير، فمن فوقه تابعيون، وكلهم شاميون، وهذا إن قلنا: إن شُرحبيل تابعي، وإلا فقد تقدم القول بصحبته، فيكون من رواية صحابي، عن صحابي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ السِّمْطِ) هو شُرحبيل (قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يُصَلِّي بِذِي الْحُلَيْفَةِ) اسم ماء من مياه بني جُشَم، ثم سمي الَموضع به، وهو ميقات أهل المدَينة، نحو مرحلة عنها، ويقال: ستة أميال. قاله الفيّومي (رَكْعَتَينِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ

ص: 338

ذلِكَ؟) أي عن كونه قصر في هذه المسافة، وفي رواية مسلم: "عن جُبير بن نفير، قال: خرجت مع شُرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر، أو ثمانية عشر ميلاً، - وفي رواية: إنه أتى أرضا يقال لها دُومِين من حمص على رأس ثمانية عشر ميلا- فصلى ركعتين، فقلت له؟، فقال: رأيت عمر صلى بذي الحُليفة ركعتين، فقلت له؟

" (فَقَالَ: إِنَّمَا أَفْعَلُ) وفي نسخة: "أنا أفعل" (كَمَا رَأَيْتُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ) أي فإنه كان يقصر في مثل ذلك، أو أراد فعله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث صلى هناك العصر ركعتين، واللَّه أعلم.

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا الحديث مما قد يتوهم أنه دليل لأهل الظاهر،

ولا دلالة فيه بحال، لأن الذي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رضي الله عنه إنما هو القصر بذي الحليفة، وليس فيه أنها غاية السفر، وأما قصر شُرحبيل على رأس سبعة عشر، أو ثمانية عشر ميلاً، فلا حجة فيه، لأنه تابعي، فعل شيئًا يخالف الجمهور، أو يُتأول على أنها كانت في أثناء سفره، لا أنها غايته، وهذا التأويل ظاهر، وبه يصح احتجاجه بفعل عمر، ونقله ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللَّه أعلم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: أو يتأول على أنها الخ" فيه نظر، إذ يُبعد هذا التأويل قوله: أتى أرضا يقال لها دُومين، فإنه ظاهر في أن تلك الأرض كانت غاية سفره، فليُتأمل. وسيأتي تحقيق الخلاف في تحديد مسافة القصر في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 1437 - وفي "الكبرى"- 1/ 1895 - بالسند المذكور.

وأخرجه (م) 2/ 145 (أحمد) 1/ 29 و1/ 30. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف العلماء في المسافة التي تُقصر فيها الصلاة:

قال الإِمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم على أن لمن سافر سفرًا تكون مسافته مثل ما بين المدينة إلى مكة أن يقصر الصلاة.

واختلفوا فيمن سافر أقلّ من هذه المسافة، فقالت طائفة: من سافر أربعة بُرُد، فله أن يقصر الصلاة، كذلك قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بالأخبار

ص: 339

التي رويت عن ابن عمر، وأبي عباس.

من ذلك أن ابن عمر ركب إلى ريم

(1)

فقصر الصلاة في مسيره ذلك، قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد، وأن ابن عباس رضي الله عنهما سئل أيقصر إلى عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى عُسفان، وإلى جُدّة، وإلى الطائف، وروي عن ابن عمر، وابن عباس أنهما كانا يصليان ركعتين، ويُفطران في أربع برد، فما فوق ذلك.

وهذا مذهب أحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكى أبو ثور ذلك عن مالك، والشافعي، وبه قال الليث بن سعد في بعض الصلاة، وكذا قال عبد الملك الماجشون.

وقالت طائفة: يقصر الصلاة في مسير يومين، ولم يذكر مقدار ذلك بالبرد والأميال، هذا قول الحسن البصريّ، والزهريّ، وقد كان الشافعي يقول إذ هو بالعراق: يقصر في مسيرة ليلتين قاصدتين، وذلك إذا جاوز السير أربعين ميلاً بالهاشميّ، ثم قال بمصر: للمرىء عندي أن يقصر فيما كان مسيرة ليلتين قاصدتين، وذلك ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي، ولا يقصر فيما دونهما، وأُحِبّ أنا أن لا أقصر في أقل من ثلاث، احتياطًا على نفسي، وإن ترك القصر مباح لي.

وقالت طائفة: يقصر في مسيرة اليوم التامّ، ثبت أن ابن عمر كان يقصر في اليوم التامّ، وخرج إلى أرض اشتراها من ابن بجينة، فقصر الصلاة إليها، وهي ثلاثون ميلاً، وقال الزهريّ: يقصر في مسيرة يوم تام، ثلاثون ميلاً، وثابت عن ابن عباس أنه قال: يقصر في اليوم، ولا يقصر فيما دون اليوم.

وقالت طائفة: من سافر ثلاثًا قصر، روينا هذا القول عن ابن مسعود، وسعيد بن جبير، والنخعي، وسُويد بن غَفَلَة، وبه قال الثوريّ، والنعمان، ومحمد بن الحسن، قال النعمان: ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل، ومشي الأقدام.

وفيه قوله خامس: روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج إلى النُّمَيلة

(2)

، فصلى بهم الظهر ركعتين، ثم رجع من يومه، فقال: أردت أن أعلمكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: إني لأسافر الساعة من النهار، فأقصر، وقال عمرو بن دينار: قال لي جابر بن زيد: اقصر بعرفة.

قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أما قول جابر هذا، فأحسبه مثل قول من قال لأهل مكة: اقصروا الصلاة بمنى وعرفة.

(1)

أصله رئم بكسر الراء، وسكون الهمزة، واحد الآرام: وهي الظباء الخالصة البياض، ثم سمي به واد لمزينة قرب المدينة. قاله في "معجم البلدان" 3/ 114.

(2)

"النميلة" قرية لبني قيس بن ثعلبة رهط الأعشى باليمامة. قاله في "معجم البلدان" جـ 5 ص 306.

ص: 340

وعن الأوزاعي، قال: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فيما بينه وبين خمسة فراسخ، وذلك خمسة عشر ميلًا.

قال الأوزاعي: وعامة العلماء يقولون: مسيرة يوم تامّ، وبهذا نأخذ. انتهى كلام ابن المنذر باختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لما لم يوجد نص قاطع في تحديد مسافة القصر، حتى يُرجَع إليها، وكانت أقوال الصحابة رضي الله عنه، فمن بعدهم مضطربة في هذا الباب، حتى تكون المسألة إجماعية، لزم الرجوع إلى مَعْنَى السفر شرعًا، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم سمى ثلاثة أيام سفرًا، وسمى اليومين سفرًا، وسمى إليوم سفرًا، وسمى البريد أيضًا سفرًا، فأقلّ ما ثبت عنه من تسمية بعض المسافات سفرًا هو البريد، فثبت كون البريد سفرًا بالنصّ، لكن لما صح حديث أنس رضي الله عنه في "صحيح مسلم" وغيره، من طريق شعبة، عن يحيى بن يزيد الْهُنّائي، قال: سألت أنسًا عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين -شعبة الشاك- ورواه أيضًا أحمد، وأبو داود.

علمنا من هذا النص أن ثلاثة فراسخ في أقلّ ما صحّ من تحديد المسافة مرفوعًا، وإنما لم نعتبر الثلاثة أميال، مع كونها أقل منها، لوقوع الشك فيها، فاعتبرنا الفراسخ احتياطًا، فتببن من هذا أن أقل المسافات التي صحّ التحديد به هي ثلاثة فراسخ

(2)

.

قال في "الفتح": وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك، وأصرحه، وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يُبتدأ منها القصر، لا غاية السفر، ولا يخفى بُعد هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس، قال: سألت أنسًا عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة -يعني من البصرة- فأصلي ركعتين حتى أرجع؟ فقال أنس

فذكر الحديث، فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يُبتدأ القصر منه، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة، بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منه انتهى

(3)

.

فتبين بما قاله في "الفتح" أن هذا الحديث ذكره أنس - رضي اللَّه تعالى - تحديدا للمسافة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إليها قصر الصلاة.

(1)

"الأوسط" جـ 4 ص 346 - 351.

(2)

الفرسخ: ثلاثة أميال، والميل بالتحديد المعاصر كيلو متر ونصف كيلو متر، فيكون الفرسخ ثمانية عشر كيلو متر، وعليه فتكون مسافة القصر أربعًا وخمسين كيلو متر تقريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

(3)

"فتح" 3/ 276.

ص: 341

والحاصل أن الفراسخ الثلاثة هي أقل المسافة التي يثبت بها حكم السفر من القصر وغيره، هذا ما عندي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[فائدة]: ذكر الفرّاء أن الفرسخ فارسي معرّب

(1)

، وهو ثلاثة أميال، والميل من الأرض منتهى مَدّ البصر، لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه، وبذلك جزم الجوهريّ، وقيل: حده أن ينظر إلى شخص في أرض مسطحة، فلا يدري أهو رجل، أو امرأة، أو ذاهب، أو آت.

وقال النووي: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا معترضة معتدلة، والإصبع ست شَعيرات معترضة معتدلة انتهى.

وهذا الذي قاله: هو الأشهر، ومنهم من عبّر عن ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان، وقيل: هو أربعة آلاف ذراع، وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع، نقله صاحب "البيان"، وقيل: خمسمائة، صححه ابن عبد البرّ، وقيل: ألفا ذراع، ومنهم من عبّر عن ذلك بألف خطوة للجمل.

قال الحافظ: ثم إن الذراع الذي ذكر النووي تحديده قد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن في مصر والحجاز في هذه الأعصار، فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن، فعلى هذا فالميل بذراع الحديد على القول المشهور خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعًا. وهذه فائدة نفيسة قلّ من نبّه عليها انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1438 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقْصُرُ حَتَّى رَجَعَ، فَأَقَامَ بِهَا عَشْرًا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قبل حديث.

2 -

(أبو عوانة) وَضّاح بن عبد اللَّه اليشكري الواسطي، ثقة ثبت [7] تقدم 41/ 46.

3 -

(يحيى بن أبي إسحاق) الحضرمي مولاهم البصري النحوي، صدوق ربما أخطأ [5].

روى عن أنس،، وسالم بن عبد اللَّه، وسلمان الأغرّ، وغيرهم. وعنه محمد بن

(1)

اختُلفَ في معنى "الفَرسخ"، فقيل: السكون، ذكره ابن سيده، وقيل: السعة، وقيل: المكان الذي لا فرجة فيه، وقيل: الشيء الطويل. انتهى "فتح" 3/ 176 - 177.

(2)

"فتح" 3/ 276.

ص: 342

سيرين أكبر منه، وشعبة، وأبو عوانة، وغيرهم.

قال عبد اللَّه بن أحمد: سألت ابن معين عن عبد العزيز بن صُهيب، ويحيى بن أبي إسحاق، أيهما أوثق؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث، وكان صاحب قرآن، وعلم بالعربية والنحو. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: لا بأس به. وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العقيلي: قال أحمد ابن حنبل: في حديثه نكارة. وقال يحيى بن معين: في حديثه بعض الضعف.

قال عمرو بن علي: مات سنة (136)، وهو مولى الحضارمة. وقال ابن حبان: مات سنة ست، ويقال: سنة اثنتين. روى له الجماعة، وروى له المصنف في هذا الكتاب (12) حديثًا.

4 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (86) من رعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة - رضي اللَّه تعالى - بالبصرة، مات سنة (2) أو (92)، وقد جاوز مائة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ولفظ البخاري من طريق عبد الوارث، عن يحيى بن أبي إسحاق:"خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم"، وذلك في حجة الوداع (مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكةَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقْصُرُ) ولفظ البخاري: "فكان يصلي ركعتين ركعتين"، وفي رواية البيهقي من طريق علي بن عاصم، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس:"إلا المغرب"(حَتَّى رَجَعَ) وللبخاري: "حتى رجعنا إلى المدينة"(فَأَقَامَ) وفي نسخة: "وأقام" بالواو (بِهَا) أي بمكة، والمراد إقامته بها، وبحواليها، من مني وعرفة (عَشْرًا) أي عشرة أيام بلياليها، وإنما حذفت التاء مع أن المعدود مذكر، وهو اليوم، لأن التمييز إذا لم يُذْكَر جاز الوجهان في العدد، التذكير والتأنيث.

قال في "الفتح": لا يُعارض ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يومًا يقصر"، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع.

وفي الحديث أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وفيه إطلاق اسم البلد على ما جاورها، وقرب منها، لأن منى وعرفة ليسا من مكة، أما عرفة فلأنها خارج الحرم،

ص: 343

فليست من مكة قطعًا، وأما منى ففيها احتمال، والظاهر أنها ليست من مكة، إلا إن قلنا: إن اسم مكة يشمل الحرم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان كذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 1438 - وفي "الكبرى"-1/ 1896 - عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن يحيى بن أبي إسحاق، عنه. وفي 4/ 1452 - و"الكبرى" 4/ 1910 - عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، عن يحيى به. وفي "الكبرى" عن زياد بن أيوب، عن إسماعيل ابن عُلية، عن يحيى به.

وأخرجه (خ) 25/ 53 و 5/ 190 (م) 2/ 145 و (د) 1233 (ت) 548 (ق) 1077 (أحمد) 3/ 187 و 3/ 190 و 3/ 282 (الدارمي) 1518 (ابن خزيمة) 956 و 2996. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوِكيل.

1439 -

أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: أَبِي، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ -وَهُوَ السُّكَّرِىُّ- عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ رضي الله عنهما).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن علي بن الحسن بن شقيق) المروزي، ثقة صاحب حديث [11] تقدّم 22/ 206.

2 -

(علي بن الحسن بن شقيق) أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقة حافظ، من كبار [10] تقدم 22/ 206.

3 -

(أبو حمزة السكريّ) محمد بن ميمون المروزيّ، ثقة فاضل [7] تقدم 22/ 206.

4 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة ثبت [5] تقدم 2/ 2.

5 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعي الفقيه المثبت الكوفي [5] تقدم 29/ 33.

(1)

هكذا في النسخة "الهندية"، ووقع في النسختين المطبوعتين "أخبرنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال أبي: أنبأنا أبو حمزة إلخ"، وعلى هذا فيقدر قبل قوله:"قال أبي" لفظة "قال"، أي: قال محمد بن علي: قال أبي و"أبو حمزة" فاعل "أنبأنا"، والجملة مقول "قال أبي"، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 344

6 -

(علقمة) بن قيس النخعي الكوفي، ثقة ثبت فقيه عابد [2] تقدم 61/ 77.

7 -

(عبد اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والترمذيّ. ومنها: أنه مسلسل بالمراوزة إلى أبي حمزة، وبالكوفيين بعده. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض، منصور

(1)

، وإبراهيم، وعلقمة، وكلهم كوفيون. واللَّه تعالى أعلم.

وشرح الحديث واضح، وهو حديث صحيح، انفرد به المصنف، أخرجه هنا-1/ 1439 - وفي "الكبرى" -1/ 1897 - بالسند المذكور.

ودلالته على ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى- واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1440 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ- عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ

زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: صَلَاةُ الْجُمُعًةِ رَكْعَتَانِ، وَالْفِطْرِ

رَكْعَتَانِ، وَالنَّحْرِ رَكْعَتَانِ، وَالسَّفَرِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ، غَيْرُ قَصْرِ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صلي اللَّه عليه وسلم -).

قال الجامع -عفا اللَّه تعالى عنه-: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم للمصنف -رحمه اللَّه تعالى- في 37/ 1420 - رواه عن علي بن حُجْر، عن شَريك، عن زُبَيد به.

وتقدم الكلام عليه سندا ومتنا، وبيان المسائل المتعلقة به هناك، فلا حاجة إلى تطويل الكتاب بإعادته هنا.

وممن لم يُذكر هناك من رجال إسناده:

1 -

(حُميد بن مَسعدة) الباهلي البصري، صدوق [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(سُفيان بن حُبيب) البصري البزاز، ثقة [9] تقدم 67/ 82.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] تقدم 24/ 26.

و"زبيد" هو ابن الحارث اليامي.

وبقية الكلام تُراجع هناك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1441 -

أَخْبَرَنا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو

(1)

هذا على جعل منصور من صغار التابعين كما قال في "الفتح"، لكن الصحيح أنه من الطبقة السادسة، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة "أخبرني".

ص: 345

عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدٌ، عَنْ أَيُّوبَ -وَهُوَ ابْنُ عَائِذٍ- عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَبِي الْحَجَّاجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "فُرِضَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعًا، وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةً).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن وهب) بن عمر بن أبي كريمة، أبو المُعافَى الحَرّاني، صدوق [10] تقدم 191/ 306.

2 -

(محمد بن سَلَمة) بن عبد اللَّه الباهلي مولاهم الحرّابي، ثقة [9]، تقدم 191/ 306.

3 -

(أبو عبد الرحيم) خالد بن أبي يزيد الأموي مولاهم الحرّاني، ثقة [6]، تقدم 191/ 306.

4 -

(زْيد) بن أبي أُنيسة الجزري، الكوفي الأصل، ثم الرُّهَاوي، ثقة له أفراد [6] تقدم 191/ 306.

5 -

(أيوب بن عائذ) بن مُدلج الطائي البُحتُريّ -بضم الموحّدة، وسكون المهملة، وضم المثناة- الكوفي، ثقة رُمي بالإرجاء (6).

روى عن قيس بن مسلم، وبكير بن الأخنس، والشعبي. وعنه زيد بن أبي أنيسة، والسفيانان، وغيرهم. قال البخاري، عن علي: له نحو عشرة أحاديث. وقال الدُّوريّ: عن يحيى: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث، صدوق. وقال البخاري: كان يرى الإرجاء، وهو صدوق، وليس له عنده سوى حديث واحد. وقال ابن المبارك: كان صاحب عبادة، ولكنه كان مرجئًا. وقال إين حبان في "الثقات": كان مرجئًا يخطئ. وقال أبو داود: لا بأس به، وفي رواية: ثقة. إلا أنه مرجىء. وقال ابن المديني: حدثنا سفيان، حدثنا أيوب بن عائذ -وكان ثقة-. وقال النسائي: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. روى له الجماعة، سوى أبي داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.

6 -

(بُكير بن الأخنس) السَّدُوسيّ، ويقال: الليثي، كوفي ثقة [4] تقدم 3/ 456.

7 -

(مجاهد أبو الحجّاج) ابن جبر المخزومي المكيّ الإمام الحجة الثبت [3] تقدم 27/ 31.

8 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدم 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من ثمانيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح،

ص: 346

غير شيخه، فإنه من أفراده. ومنها أنه مسلسل بالحرانيين إلى زيد، وبكير كوفيّ، والباقيان مكيان. ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. ومنها: أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: فُرِضَتِ صَلَاةُ الْحَضَرِ) أي الرباعية (عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم) أي بوحي من اللَّه تعالى، لقوله عز وجل:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4](أَرْبَعًا) منصوب على الحال، أي حال كونها أربع ركعات بعد أن كانت ركعتين، ثم قصرت في السفر، فكانت صلاة السفر كأنها ما زيد فيها، وهذا معنى قوله (وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ) فلا يعارض هذا الحديث حديث عائشة رضي الله عنها: "فرض اللَّه الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر، والسفر

"، وقد تقدم وجه الجمع مفصلا في أوئل كتاب الصلاة -3/ 453 -

وقوله: "صلاة السفر" بالرفع عطفًا على "صلاة الحضر"، وقوله:"ركعتين" بالنصب عطفَا على "أربعًا"، فيه عطف المعمولين علي معمولي عامل واحد، وهو جائز بلا خلاف، فـ"صلاة" مرفوع بـ "فُرضت"، و"أربعا" منصوب على الحال به، ومثله إعراب قوله (وَصَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةً) أي فرضت ركعة واحدة، وفيه أن اللازم في الخوف ركعة واحدة، وبه قال طائفة من السلف، وهو الراجح، وخالف في ذلك الجمهور، وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه من "كتاب صلاة الخوف"، إن شاء اللَّه تعالى 18/ 1532.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنف -رحمه اللَّه تعالى-3/ 456 - رواه عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن أبي عوانة، عن بُكير به، وتقدم الكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1442 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقوبُ بْنُ مَاهَانَ، قَالَ: حَدَّثنَا الْقَاسِمُ بنُ مَالِكِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَائِذٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَباسٍ، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل فَرَضَ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الخَوْفِ رَكْعَةَ").

قال الجامع -عفا اللَّه عنه-: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله، وممن لم يتقدم من رجاله هناك:

1 -

(يعقوب بن مَاهَان) البَنَّاء، مولى بني هاشم، أبو يوسف البغدادي، صدوق [10].

ص: 347

روى عن هُشيم، والقاسم بن مالك. وعنه النسائي، وأبو حاتم، ويعقوب بن سُفيان، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: كَتَبَ عنه أبي، وسألته عنه؟ فقال: صدوق، قال: وقال لي حجاج بن الشاعر: ليس ببغداد مثل يعقوب بن ماهان. وقال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أغرب، مات سنة (244) وفيها أرّخه السرّاج. انفرد به المصنف بهذا الحديث فقط.

2 -

(القاسم بن مالك) الْمُزَني، أبو جعفر الكوفي، صدوق، فيه لين، من صغار {8} .

روى عن المختار بن فُلفُل، وابن عون، وأيوب بن عائذ، وغيرهم. وعنه أحمد، وابن المديني، وابن معين، ويعقوب بن ماهان، وغيرهم.

قال أبو داود، عن أحمد: كان صدوقًا، قال: وذُكر أنه كان يلي بعض العمل في السواد. وقال الدوري عن ابن معين: ثقة. وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: ما كان به بأس، صدوق. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: ليس له بأس، وقال في موضع آخر: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح، وليس بالمتين. وقال إبراهيم بن عبد اللَّه الهَرَوِيُّ، ومحمد ابن عبد اللَّه بن عَمَّار، وأبوه الحسن العجلي: ثقة. وقال الساجيّ: ضعيف، وقد روى عنه علي بن المديني، والناس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكره ابن سعد في أهل الكوفة، وقال: كان ثقة، صالح الحديث، بقي إلى بعد التسعين ومائة.

أخرج له الجماعة، سوى أبي داود، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، و (2519) حديث: "كان الصالح على عهد رسولى اللَّه صلى الله عليه وسلم مدّا وثلثًا

". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌2 - (بَابُ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان حكم المسافر بن من الْحُجّاجّ حينما ينزلون مكة لأداء المناسك، وذلك أنهم يقصرون الصلاة، ولا يتمّون؛ لأنهم لا يخرجون عن حكم السفر بسبب إقامتهم بها أيام الحج،

ص: 348

فقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهما بها أيام الحج، فقصروا، كيا يأتي في حديث أنس رضي الله عنه واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1443 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، فِي حَدِيثِهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى -وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ- قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ أُصَلِّى بِمَكَّةَ، إِذَا لَمْ أُصَلِّ فِي جَمَاعَةٍ؟ ، قَالَ: رَكْعَتَيْنِ، سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة {10} تقدم 5/ 5.

وقوله: "في حديثه" متعلق بـ "أخبرنا"، أو بحال محذوف، أي حال كون هذا الحديث كائنًا في جملة ما حدثنا به عن خالد بن الحارث.

2 -

(خالد بن الحارث) الْهُجَيمي البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

3 -

(شعبة) هو المذكور في الباب الماضي.

4 -

(قتادة) بن دعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصري، ثقة ثبت مدلس [4]، تقدم 30/

34.

5 -

(موسى بن سَلَمَة) بن المحبَّق -بمهملة، وموحّدة بوزن محمد- الهُذَلي البصريّ، ثقة [4].

روى عن ابن عباس. وعنه ابنه مثنى، وقتادة، وأبو التيّاح.

قال أبو زرعة: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد. كان قليل الحديث. روى له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، وأعاده بعده، و (2633) حديث: "نعم لو كان على أمها دين، فقضته

" الحديث.

6 -

(ابن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، ذكر في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالبصريين. ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعيّ. ومنها: أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 349

شرح الحديث

عن موسى بن سَلَمَة أنه (قال: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنه (كَيْفَ أَصَلِّى بمَكَّهَ، إِذَا لَمْ أُصَلِّ فِي جَمَاعَةٍ؟) وفي الرواية التالية: "قلت: تفوتني الصلاة في جماعة، وأنا بالبطحاء، ما ترى أن أصلي؟ ". والبَطحَاء: مَسيل فيه دُقاق الحصى، وقيل: بطحاء الوادي تُراب لين مما جَرّته السيول، والجمع بطحاوات، وبطاح بالكسر

(1)

.

(قَالَ) أي ابن عباس رضي الله عنهما (رَكْعَتَيْنِ) أي صل ركعتين قصرًا (سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ ص) بالنصب على الحالية، ويحتمل الرفع خبرا لمحذوف، أي هذه سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.

يعني أن القصر للحاج المسافر أيامَ إقامته بمكة سنةُ النبي صلى الله عليه وسلم، فالأيام التي يقيمها خلال أداء النسك تُعتبر من جملة السفر.

والحاصل أن الحاج أيام أداء المناسك في مكة، وفيما حولها من منى، ومزدلفة، وعرفة، ونحوها، يُعتبر مسافرًا، فيقصر صلاته، سواء صلاها جماعة، أو منفردًا،

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 1443 - وفي "الكبرى"-2/ 1901 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة، عنه. وفي 2/ 1444 - و"الكبرى" 2/ 1902 - عن إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زُرَيع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به.

وأخرجه (م) 2/ 143 و 2/ 144 (أحمد) 1/ 216 و1/ 290 و1/ 337 (ابن خزيمة)951. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1444 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ،، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ مُوسَى بْنَ سَلَمَةَ، حَدَّثَهُمْ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: تَفُوتُنِي الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ، وَأَنَا بِالْبَطْحَاءِ، مَا تَرَى أَنْ أُصَلِّيَ؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ، سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم).

(1)

"لسان العرب" في مادة "بطح".

ص: 350

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريُّ البصري، ثقة [10] تقدم 42/، 47 من أفراد المصنف.

2 -

(يزيد بن زُريع) البصري، ثقة ثبت [7] تقدم 5/ 5

والباقون تقدموا في الذي قبله، وكذا الكلام على الحديث.

وقوله: "قلت" فيه التفات، إذا الظاهر أن يقول:"قال". وقوله: "ما" في "ما ترى" استفهامية. وقوله: "ركعتين" مفعول لمحذوف، أي صلّ ركعتين. وتقدم إعراب "سنة أبي القاسم" في الحديث السابق.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌3 - (بَابُ الصَّلَاةِ فِي مِنَى)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "منى" بكسر الميم، وتخفيف النون، مقصورًا: اسم موضع بمكة، والغالب فيه التذكير، فيصرف. وقال ابن السرّاج: ومنى ذَكَرٌ، والشام ذكر، وهَجَرٌ ذكر، والعراق ذكر، وإذا أنّث مُنع، أي من الصرف، وأمنى الرجلُ بالألف: أتى مني، ويقال: بينه وبين مكة ثلاثة أميال، وسُمي منى لما يُمنى فيه من الدماء، أي يُراق. قاله الفيومي

(1)

.

قال الحريريّ في "ملحته" مبينًا بعض ما يُصرف من البقاع:

وَلَيْسَ مَصْرُوفًا مِنَ الْبِقَاعِ

إِلاَّ بِقَاعٌ جِئْنَ فِي السَّمَاعِ

مِثْلُ حُنَيْنِ وَمِنًى وَبَدْرِ

وَوَاسِطٍ وَدَابِقِ وَحِجْرِ

والصلاة في منى ممْا اختلف فيها أهل العلم، وسيأتي بيان ذلك في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(1)

"المصباح" جـ 2 ص 582.

ص: 351

1445 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ، وَأَكْثَرَهُ رَكْعَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قبل باب.

2 -

(أبو الأحوص) سلام بن سُليم الحنفي الكوفي ثقة ثبت [7] تقدم 79/ 96.

3 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعي الكوفى، ثقة عابد اختلط بآخره (3) تقدم 38/ 42.

4 -

(حارثة بن وهب الْخُزَاعي) أخو عُبيد اللَّه بن عمر لأمه، واسمها أم كلثوم بنت جَرْول بن مالك الخزاعية، صحابي نزل الكوفة، - رضي اللَّه تعالى عنه -.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جندب الخير الأزديّ، قاتل الساحر، وحفصة بنت عمر. وعنه معبد بن خالد، وأبو إسحاق السبيعي، والمسيب.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، وأعاده بعده،

و (2555) حديث: "تصدّقوا، فإنه سيأتي عليكم زمان يمشي الرجل

" الحديث.

واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (87) من رباعيات الكتاب.

ومنها: أن رجاله رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخه، فبغلاني. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن حَارِثَةَ بْنِ وَهْبِ الْخُزَاعِيِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِمِنًى آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ، وَأَكْثَرَهُ رَكْعَتَيْنِ) قال أبو البقاء:"آمن"، و"أكثر" منصوبان نصبَ الظرف، والتقدير زمنَ آمن ما كان الناس، فحذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، قال: وضمير "أكثره" عائد إلى جنس الناس، وهو مفرد.

قال السندي: وهذا غلط، وإنما هو عائد إلى ما كان الناس، بناء على أن "ما"

مصدرية، و"كان" تامّة، و"الناس" بالرفع فاعله، ألا ترى أنه كان في الأصل آمن ما كان الناس، وأكثر ما كان الناس، وحاصل المعنى في زمن كان الناس فيه أكثر أمنًا، وعددًا. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

(1)

"شرح السندي" 3/ 119 - 120.

ص: 352

وفي هذا الحديث ردّ على من زعم أن القصر مختصّ بالخوف، والذي قال ذلك تمسك بقوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ} الآية [النساء: 101]، ولم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم، فقيل: لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب، وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب، ثم زال السبب، وبقي الحكم، كالرمل، وقيل: المراد بالقصر في الآية قصر الصلاة في الخوف إلى ركعة، وفيه نظر، لحديث يعلى بن أمية في سؤاله عمر رضي الله عنهما. وقد تقدم أول "كتاب تقصير الصلاة" 1/ 1433 - فإنه ظاهر في أن الصحابة فهموا من ذلك قصر الصلاة في السفر مطلقًا، لا قصرها في الخوف خاصّةً، وفي جواب عمر إشارة إلى القول الثاني، أفاده في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث حارثة بن وهب الخزاعي - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 1445 - وفي "الكبرى"-3/ 1903 - عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عنه. وفي-3/ 1446 - و"الكبرى"-3/ 1904 - عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، وسفيان، كلاهما عن أبي إسحاق به.

وأخرجه (خ) 2/ 53 و 2/ 197 (م) 2/ 147 (د) 1965 (ت) 882 (أحمد) 4/ 306 (ابن خزيمة)1702. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة بمنى:

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف السلف في المقيم بمنى، هل يقصر، أو يتمّ، بناء على أن القصر بها للسفر، أو للنسك؟ واختار الثاني مالك. وتعقبه الطحاوي بأنه لو كان كذلك لكان أهل مني يُتمون، ولا قائل بذلك. وقال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أتموا، وليس بين مكة، ومنى مسافة القصر، فدلّ على أنهم قصروا للنسك.

وأجيب بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة ركعتين، ويقول:"يا أهل مكة أتموا، فإنا قوم سفر"، وكأنه ترك إعلامهم بذلك

(1)

"فتح" 3/ 272.

ص: 353

بمنى استغناء بما تقدم بمكة.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا ضعيف؛ لأن الحديث من رواية علي بن زيد بن جُدْعان، وهو ضعيف، ولو صحّ فالقصة كانت في الفتح، وقصة منى في حجة الوداع، وكان لا بدّ من بيان ذلك لبعد العهد، ولا يخفى أن أصل البحث مبنيّ على تسليم أن المسافة التي بين مكة ومنى لا يُقصر فيها، وهو من محالّ الخلاف. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح عندي ما ذهب إليه مالك -رحمه اللَّه تعالى-، من أن القصر للنسك؛ لأن أحاديث الباب ظاهرة فيه، وسيأتي مزيد تحقيق لذلك في محله من "كتاب الحج"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1446 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ

(2)

: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ ح وَأَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى أَكْثَرَ مَا كَانَ النَّاسُ، وَآمَنَهُ رَكْعَتَيْنِ).

قال الجامع عما اللَّه تعالى عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد سبق تَمَّام البحث فيه في الذي قبله.

و"عمرو بن عليّ"، هو الفلاس، و"يحيى بن سعد" هو القطان، و"سفيان" هو الثوري. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1447 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُثْمَانَ رَكْعَتَيْنِ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قريبًا.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة المصري [7]، تقدم 31/ 35.

3 -

(بُكير) بن عبد اللَّه بن الأشجّ المدني نزيل مصر، ثقة (5) تقدم 135/ 211.

4 -

(محمد بن عبد اللَّه بن أبي سليمان) المدني، صدوق [5].

(1)

"فتح" 3/ 271.

(2)

وفي نسخة بإسقاط لفظة "قال".

ص: 354

روى عن أنس بن مالك. وعنه بُكير بن عبد اللَّه بن الأشج قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الذهبي في "الميزان": لا يُعرف، وقال في "الكاشف": وُثّق. انفرد به المصنف، أخرج له حديث الباب فقط.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى""محمد بن عبد اللَّه بن أبي سليمان"، والذي في "الكبرى""محمد بن عبد اللَّه بن أبي سليم"، وهو الصوأب، كما هو في "تحفة الأشراف" 1/ 374، وكذا في كتب الرجال، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(أنس بن مالك) - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير محمد بن عبد اللَّه، فإنه من أفراده، وهو صدوق. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلاني، ثم مصري، والليث، فمصري. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، بكير عن محمد بن عبد اللَّه، وهو من رواية الأقران. ومنها: أن صحابيه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنى) أي الصلاة الرباعية، إذ هي التي تتغير، فأما المغرب، فلا تُقصَر، وأما الصبح، فلا يختلف الحكم فيها، في منى، وغيره حتى يُخبر عنه أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - (وَمَعَ أَبِي بَكْرِ، وَعُمَرَ) رضي الله عنهما (رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُثْمَانَ) رضي الله عنه (رَكْعَتَيْنِ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ) أي في أوائل خلافته، وذلك ثمان سنين، أو ست، كما في "صحيح مسلم" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه من رواية نافع، عنه:"صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعُمر بعد أبي بكر، وعثمان صدرًا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعدُ أربعًا"، وفي رواية حفص بن عاصم، عنه:"صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى صلاة المسافر، وأبو بكر، وعمر، وعثمان ثماني سنين، أو قال: ست سنين". واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، انفرد به المصنف رحمه الله،

ص: 355

أخرجه هنا-3/ 1447 - وفي "الكبرى" -3/ 1905 - بالسند المذكور.

وأخرجه (أحمد) 3/ 144 و 3/ 168. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: دلّ حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أن عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه - أتمّ في مني في أواخر إمارته، وكذا ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتم فيه:

فقد أخرج البخاري في "صحيحه" عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت:"الصلاة أول ما فرضت ركعتان، فأقرّت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر"، قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتمّ؟ قال: تأولت ما تأول عثمان انتهى.

فاختُلف في سبب إتمامهما - رضي اللَّه تعالى عنهما -:

فأما عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقيل: سبب إتمامه لكونه تأهل بمكة، أو لأنه أمير المؤمنين، وكلّ موضع له دار، أو لأنه عزم على الإقامة بمكة، أو لأنه استجدّ له أرضا بمنى، أو لأنه كان يسبق الناس إلى مكة.

قال الحافظ: يردّ هذا كله قول عروة: "تأولت ما تأول عثمان"، لأن جميع ذلك منتف في حق عائشة رضي الله عنها، وأكثره لا دليل عليه، بل هي ظنون ممن قالها، ويردّ الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بزوجاته وقصر، والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك، والثالث أن الإقامة بمكة على المهاجر حرام، والرابع والخامس لم يُنقلا، فلا يكفي التخرّص في ذلك، والأول، وإن كان نُقل، وأخرجه أحمد، والبيهقي من حديث عثمان، وأنه لما صلى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه، فقال: إني تأهلت بمكة لَمَّا قدمتُ، وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"من تأهل ببلدة، فإنه يصلي صلاة مقيم" فهذا الحديث لا يصحّ؛ لأنه منقطع، وفي رُواته من لا يُحتجّ به، ويردّه قول عروة: إن عائشة تأولت ما تأول عثمان، ولا جائز أن تتأهل عائشة أصلًا، فدلّ على وَهْن ذلك الخبر.

قال الحافظ: ثم ظهر لي أنه يمكن أن يكون مراد عروة بقوله: "كما تأول عثمان" التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل، لا اتحاد تأوليهما، ويقوّيه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان، فتكاثرت، بخلاف تأويل عائشة.

وقد أخرج ابن جرير في "تفسير سورة النساء" أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعًا،

فإذا احتجّوا عليها، تقول:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حرب، وكان يخاف، فهل تخافون أنتم؟ ".

وقد قيل في تأويل عائشة إنما أتمت في سفرها إلى البصرة إلى قتال علي، والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة. وهذا القولان باطلان، لا سيما الثاني.

ص: 356

والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصًا بمن كان شاخصًا سائرًا، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره، فله حكم المقيم، فيتمّ، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن، عن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، قال: لما قدم معاوية حاجًا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم إنصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان، وعمرو بن عثمان، فقالا: لقد عبت أمر ابن عمّك؛ لأنه كان قد أتمّ الصلاة قال: وكان عثمان حيث أتمّ الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعًا، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحجّ، وأقام بمنى أتمّ الصلاة.

وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدّة اهـ.

قال الحافظ: وهذا رجحه جماعة، من آخرهم القرطبي. لكن الوجه الذي قبله أولى لتصريح الراوي بالسبب.

وأما ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، أن عثمان إنما أتمّ الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحجّ، فهو مرسل، وفيه نظر، لأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام، وصح عن عثمان أنه كان لا يودّع النساء إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج، خشية أن يرجع في هجرته، وثبت عن عثمان أنه قال لما حاصروه -وقال له المغيرة: اركب راحلتك إلى مكة- قال: لن أفارق دار هجرتي، ومع هذا النظر في رواية معمر، عن الزهري، فقد روى أيوب، عن الزهري ما يُخالفه:

فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري، قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعًا، لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام، فأحبّ أن يُعلمهم أن الصلاة أربع.

وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن عثمان، أنه أتمّ بمنى، ثمّ خطب، فقال: إن القصر سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحييه، ولكنه حدث طَغَام -بفتح الطاء والمعجمة- فخفتُ أن يستنّوا.

وعن ابن جُريج أن أعرابيا ناداه في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أُصليها منذ رأيتك عام أول ركعتبن.

قال الحافظ: وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترته، بل يُقوّيه، من حيث إن الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه أجتهاد عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه -.

وأما عائشة رضي الله عنها، فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحًا، وهو فيما رواه البيهقي من

ص: 357

طريق هشام بن عروة، عن أبيه: أنها كانت تصلي في السفر أربعًا، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت:"يا ابن أختي إنه لا يشقّ عليّ"، وإسناده صحيح، وهو دالّ على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشقّ عليه أفضل انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ثبت عن عثمان، وعائشة رضي الله عنها من اختيار الإتمام على القصر هو اجتهاد منهما، لا يتابعان عليه؛ لأن المختار والأفضل هو الذي كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما من القصر في السفر مطلقا.

هذا من حيث الأفضلية، وأما من حيث الجواز فالمختار جواز الإتمام، كما تقدّم تحقيقه في المسألة الرابعة في أول "كتاب القصر" - 1/ 1433 - . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1448 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ ح وَأَنْبَأَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّيْتُ بِمِنًى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(قتيبة) المذكور قبله.

2 -

(عبد الواحد) بن زياد العبدي مولاهم، أبو بشر، وقيل: أبو عُبيدة البصري، أحد الأعلام، ثقة، وفي حديثه عن الأعمش، وحده مقال [8].

روى عن أبي إسحاق، وعاصم الأحول، والأعمش، وغيرهم.

وعنه: ابن مهديّ، وصفان، وعارم، وقتيبة، وغيرهم.

قال معاوية بن صالح: قلت لابن معين: مَنْ أثبت أصحاب الأعمش؟ قال: بعد شعبة، وسفيان، أبو معاوية، وبعده عبد الواحد. وقال عثمان الدارمي: قلت ليحيى: عبدُ الواحد أحبّ إليك، أو أبو عوانة؟ قال: أبو عوانة أحبّ إليّ، وعبد الواحد ثقة.

وقال صالح بن أحمد، عن علي بن المدينيّ: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما رأيت عبد الواحد بن زياد يطلب حديثًا قطّ بالبصرهْ، ولا بالكوفة، وكنا نجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة أُذاكره حديث الأعمش، فلا يعرف منه حرفًا. وقال ابن سعد: كان يُعرَف بالثقفيّ، وهو مولى لعبد القيس، وكان ثقةً كثير الحديث. وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: ثقة عَمَدَ إلى أحاديث كان

(1)

"فتح" 3/ 280 - 281.

ص: 358

يُرسلها الأعمش، فوصلها. وقال العجلي: بصريّ ثقة حسن الحديث. وقال الدارقطني: ثقة مأمون. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن عبد البر: أجمعوا أنه لا خلاف بينهم أن عبد الواحد بن زياد ثقة ثبت. وقال ابن القطان الفاسيّ ثقة لم يعتلّ عليه بقادح.

قال عمرو بن علي، وغيره: مات سنة (176) وقال أحمد: (77) وقال البخاري، عن محمد بن محبوب: مات سنة (79). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط.

3 -

(محمود بن غَيلان) المرزوي، ثقة [10]، تقدم 33/ 37.

4 -

(يحيى بن آدم) بن سليمان الأموي مولاهم الكوفي، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] تقدم 1/ 451.

5 -

(سفيان) بن سعيد الثوري، تقدم قريبًا.

6 -

(الأعمش) سليمان بن مهران تقدم قريبًا.

7 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعي الثقة الفقيه [5]، تقدم 29/ 33.

8 -

(عبد الرحمن بن يزيد) بن قيس النخعي، أبو بكر الكوفي، ثقة، من كبار [3] تقدم 37/ 41.

9 -

(عبد اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - تقدم قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بالنسبة إلى السند الأول، ومن سباعياته بالنسبة إلى الثاني، فالأول أعلى بدرجتين. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح.

ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخيه، فلأول بغلاني، والثاني مروزي، وغير عبد الواحد، فبصريّ. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ بِمِنَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ) هذا الكلام ذكره عبد اللَّه رضي الله عنه لما ذكر له أن عثمان رضي الله عنه أتم في منى، ففي الرواية الآتية:"صلى عثمان بمنى أربعًا حتى بلغ ذلك عبدَ اللَّه، فقال: لقد صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين". وفي رواية مسلم بسند المصنف عن إبراهيم، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد، يقول: "صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد اللَّه بن

ص: 359

مسعود، فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصدّيق بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان".

قال النووي رحمه الله: معناه ليت عثمان صلى ركعتين، بدل الأربع، كما كان النبي

صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمرُ، وعثمان رضوان اللَّه عليهم أجمعين في صدر خلافته يفعلون، ومقصوده كراهة مخالفة ما كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصاحباه، ومع هذا فابن مسعود رضي الله عنه موافق على جواز الإتمام، ولهذا كان يُصلي وراء عثمان رضي الله عنه مُتمًا ولو كان القصر عنده واجبًا لما استجاز تركه وراء أحد انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "من" -أي في قوله: "من أربع ركعات"- للبدلية، مثل قوله تعالى:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} الآية [التوبة: 38] وهذا يدلّ على أنه كان يرى الإتمام جائزًا، وإلا لما كان له حظّ من الأربع، ولا من غيرها، فإنها كانت تكون فاسدة كلها، وإنما استرجع ابن مسعود لما وقع عنده من مخالفة الأولى، ويؤيده ما روى أبو داود:"أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى أربعًا، فقيل له: عبت على عثمان، ثم صليت أربعًا، فقال: الخلاف شرّ"، وفي رواية البيهقي:"إني لأكره الخلاف"، ولأحمد من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مثل الأول، وهذا يدلّ على أنه لم يكن يعتقد أنّ القصر واجب، كما قال الحنفية، ووافقهم القاضي إسماعيل من المالكية، وهي رواية

عن مالك، وعن أحمد، قال ابن قُدامة: المشهور عن أحمد أنه الاختيار، والقصر عنده الأفضل، وهو قول جمهور الصحابة، والتابعين

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مذهب الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح عندي، وقد تقدم بيان ذلك، في المسالةْ الرابعة في أول "كتاب القصر". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -3/ 1448 - وفي "الكبرى" -3/ 1906 - عن قتيبة، عن عبد الواحد- ح

(1)

"شرح مسلم" 6/ 204.

(2)

"فتح" 3/ 273.

ص: 360

وعن محمود بن غيلان، عن يحيى بن آدم، سفيان- كلاهما عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد عنه.

وفي 3/ 1449 - و"الكبرى" -3/ 1907 - عن علي بن خشرم، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش به، بنحوه.

وأخرجه (خ) 2/ 53 و 2/ 197 (م) 2/ 146 (د) 1960 (أحمد) 1/ 378 و 1/ 416 و 1/ 464 و1/ 422 و1/ 425 (الدارمي) 1881 (ابن خزيمة)2962. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1449 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعًا، حَتَّى بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ، فَقَالَ: "لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم البحث فيه مستوفىً في الحديث الذي قبله.

وعلي بن خشرم، المروزي، ثقة من صغار [10] تقدم 8/ 8.

وعيسى هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة مأمون [8] تقدم 8/ 8. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1450 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رضي الله عنه رَكْعَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

عبيد اللَّه بن سعيد) السرخسي، ثقة مأمون [10] تقدم 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان تقدم قريبًا.

3 -

(عبيد اللَّه) بن عمر العمري المدني، ثقة ثبت [5] تقدم 15/ 15.

4 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - تقدم 12/ 12.

وشرح الحديث يعلم مما تقدم، وهو حديث متفق عليه، أخرجه المصنف هنا- 3/ 1450 - وفي "الكبرى" -19083 - عن عُبيد اللَّه بن سعيد، عن يحيى القطان، عن عُبيد اللَّه العمري، عن نافع، عنه. وفي 3/ 1451 - و"الكبرى" -3/ 1909 - عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابن عمر، عن أبيه.

ص: 361

وأخرجه (خ) 2/ 53 (م) 2/ 146 (أحمد) 2/ 16 و 2/ 55 و 2/ 57 (ابن خزيمة)2963. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1451 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلاَّهَا أَبُو بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلاَّهَا عُمَرُ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلاَّهَا عُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) المرادي المصري، ثقة [10] تقدم 19/ 20.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصري، ثقة حافظ [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيلى، ثقة [7] تقدم 9/ 9.

4 -

(ابن شهاب) الزهري، تقدم قريبًا.

5 -

(عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب العدوي، أبو بكر المدني، شقيق سالة، ثقة [3] في 2/ 328.

6 -

(أبوه) عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في السند الماضي، والحديث متفق عليِه، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن إريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌4 - (بَابُ الْمُقَامِ الَّذِي يُقْصَرُ بِمِثْلِهِ الصَّلَاةُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "المُقام" هنا بضم الميم مصدر ميميّ لأقام، رباعيًّا، بمعنى الإقامة، لا بفتحها، من قام ثلاثيّا، بمعنى انتصب، إذ لا يناسب هنا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1452 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي

(1)

وفي نسخة "أخبرنا"، وفي أخرى "نا".

ص: 362

إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُصَلِّي بِنَا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا. قُلْتُ

(1)

: هَلْ أَقَامَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم قبل بابين -1/ 1438 - وتقدم تمام البحث فيه، وبيان مسائله هناك، وبالله تعالى التوفيق.

و"حميد بن مسعدة" هو الباهلي البصري. و"يزيد" هو ابن زريع البصري.

[تنبيه]: قوله: "أقام بها عشرا" لا يعارض هذا حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - الآتي أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمسة عشر يومًا؛ لأن هذا في حجة الوداع، وحديث ابن عباس في فتح مكة، وقد ثبت من حديث ابن عباس: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة

" الحديث، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة إقامته بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر بمنى. أفاده في "الفتح"

(2)

.

[مسألة]: قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف أهل العلم في القدر الذي يجب على المسافر إذا أقام ذلك المقدار إتمام الصلاة:

فقالت طائفة: إذا أجمع على إقامة خمس عشرة أتمّ الصلاةَ، ورينا هذا القول عن ابن عمر، وبه قال سفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي.

وقالت طائفة: إذا أزمع إقامة اثنتي عشرة أتم الصلاة، هذا قول عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، آخر أقواله، كما ذكره نافع، وبنحوه قال الأوزاعي.

وقالت طائفة: إذا عزم على مقام عشر ليال أتم الصلاة، وهذا قول الحسن ابن صالح، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وليس ذلك بثابت عنهما، وبه قال محمد بن عليّ.

وقالت طائفة: إذا أقمت أكثر من خمس عشرة، فأتم الصلاة، روي هذا عن سعيد ابن جُبير، وعبد اللَّه بن عُتبة، وبه قال الليث بن سعد.

الخامس: أن من أقام أربعًا صلى أربعَا هكذا قال مالك، وأبو ثور، واحتجّ أبو ثور بأنهم لما أجمعوا على ما دون الأربع أنه يقصر كان ذلك له، فلما اختلفوا في الأربع كان عليه أن يُتمّ، وذلك أن الفروض لا تزال باختلاف.

السادس: قول ابن عباس رضي الله عنهما: إذا سافرنا تسع عشرة نقصر الصلاة.

السابع: قول أحمد بن حنبل: إذا أجمع لعشرين صلاةً مكتوبة قصر، فإذا عزم على أن

(1)

وفي نسخة "قلنا".

(2)

"فتح" 3/ 270.

ص: 363

يُقيم أكثر من ذلك أتمّ

(1)

.

واحتجّ بحديث جابر، وابن عباس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة، قال: فأقام النبي صلى الله عليه وسلم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها فإذا أجمع أن يُقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتمّ.

الثامن: قوله سعيد بن المسيب: إذا وطنت نفسك بأرض أكثر من ثلاث، فأتمّ الصلاة. التاسع: قولهه أيضًا: إن المسافر إذا أقام ثلاثًا أتمّ. قال ابن المنذر: هذان قولان: لا نعلم أحدًا قال بهما.

وله قوله آخر، كقول الثوريّ، وآخر كقول مالك.

العاشر: ذكره إسحاق بن راهويه، قال: وقد قال آخرون، وهم الأقلون من أهل العلم: صلاة المسافر ما لم ترجع إلى أهلك إلا أن تُقيم ببلدة لك بها أهل، ومال، فإنها تكون كوطنك، ولا ينظرون في ذلك إلى إقامة أربع، ولا خمس عشرة، قال: ومما احتجّوا به لأنفسهم في ذلك ما سُئل ابن عباس عن تقصير الصلاة؟ فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المدينة صلى ركعتين ركعتين حتى يرجع.

وعن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهم - أن رجلًا قال له: إنا نُطيل المقام في الغزو بخراسان، فكيف ترى؟ فقال: يصلي ركعتين، وإن أقمت عشر سنين، وقال الحسن البصريّ: أقام أنس بن مالك بنيسابور سنة، أو سنتين يصلي ركعتين، ثم يسلم، ثم يصلي ركعتين، وأقام عبد الرحمن بن سمرة ببعصْ بلاد فارس، فكان لا يجمع، ولا يزيد على ركعتين، وقال أبو إسحاق: أقمنا مع وال -أحسبه قال: بسجستان سنين، وكان معنا رجال من أصحاب ابن مسعود، فصلى بنا ركعتين ركعتين حتى انصرف، ثم قال: كذلك كان ابن مسعود يفعل، وقال أبو مجلز: كنت جالسًا عند ابن عمر، قال: قلت: يا أبا عبد الرحمن آتي المدينة طالب حاجة، فأقيم بها السبعة الأشهر، والثمانية كيف أصلي؟ قال: ركعتين ركعتين، وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين ركعتين وكان الثلج حال بينهم وبين القُفُول، وأقام مسروق بالسلسلة سنين، وهو عامل عليها، فصلى ركعتين ركعتين حتى انصرف يلتمس بذلك السنّة.

الحادي عشر: إن المسافر يصلي ركعتين ركعتين إلا أن يقدم مصرًا من الأمصار،

(1)

لكن المشهور عن أحمد كما يأتي قريبًا أنه إذا عزم على إحدى وعشرين صلاة قصر، وإن كان أكثر أتم.

ص: 364

هذا قول الحسن البصري.

الثاني عشر: قول من فرق بين المقام للخوف، والمقام لغير الخوف، قال الشافعي:

فأشبه ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مقام المهاجر، فلا يأخذ مقام المسافر، وما جاوزه كان مقام الإقامة، وليس يحسب اليوم الذي كان فيه سائرًا، ثم قدم، ولا اليوم الذي كان فيه مقيمًا، ثم سار، كان غير مقام حرب، ولا خوف حرب قصر، فإذا جاوز مقامه أربعًا أحببت أن يتمّ، وإن لم يتم أعاد ما صلى بالقصر بعد الأربع، وإن كان مقامه لحرب، أو خوف حرب، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أقام الفتح يُحارب هوازن سبع عشر أو ثمان عشرة يقصر، فإذا أقام الرجل ببلد أثناءه ليس ببلد مقامه لحرب، أو خوف حرب، أو تأهب حرب قصر ما بينه وبين ثمان عشرة ليلة، فإذا جاوزها أتمّ الصلاة حتى يُفارق البلد تاركا للمقام به آخذًا في سفره.

الثالث عشر: ما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: يفصل بين الحضر والسفر اليوم والليلة، فمن أجمع مسير يوم وليلة روحته، وغدوته، وولجته فقد أجمع سفرًا، فله صلاة السفر، ورخصة فطر الصوم، ومن أجمع إقامة يوم وليلة صلى صلاة الحضر، وعليه الصوم.

القول الرابع عشر: ما حكاه إسحاق بن راهويَهْ عن بعضهم قالوا: قد مضت السنة من

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التقصير للمسافر إذا كان طاعنا، فإذا وضع الزاد والمزاد، وترك الرحيل، وأقام أيامًا لحاجة، أو تجارة، أو نزهة، فهو بالمقيم أشبه منه بالمسافر، فعليه الإتمام. انتهى ملخصا من كلام ابن المنذر في كتابه "الأوسط"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن قول الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى - هو الأرجح، حيث اعتبر عدد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أجمع إحدى وعشرين صلاةً، قصر، ومن زاد على ذلك أتمّ.

قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: وأسعد الناس بحديث جابر أحمد، ومن وافقه، لأنه نظر إلى عدد الصلوات التي صلاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أيام مقامه بمكة في حجته، فأجاز أن يقصر من أقام مقدارًا يصلي ذلك العدد من الصلوات، وأمر من زاد مُقامُه على ذلك المقدار بالإتمام انتهى.

ونص مختصر الخرقي: "وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتمّ" قال ابن قدامة-رحمه الله في "المغني": المشهور عن أحمد رحمه الله أن المدة التي

(1)

جـ 4 ص 355 - 364.

ص: 365

تُلزم المسافر الإتمام بنية الإقامة فيها، هي ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاةً. ثم قال بعد ذكر الخلافات: ما نصه:

ولنا ما روى أنس، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فصلى ركعتين حتى رجع، وأقام بمكة عشرًا يقصر الصلاة. متفق عليه.

وذكر أحمد حديث جابر، وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، قال: فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتمّ. انتهى

(1)

.

والحاصل أن من نوى أن يقيم أكثر من إحدى وعشرين صلاةً عدد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أتم، ومن نوى إحدى وعشرين، أو أقل من ذلك قصر، كما قصر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى وعشرين صلاةً، مع أنه عزم على أنه سيقيم بمكة هذه المدة.

وهذا هو القول الموافق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما عداه من الأقول فليس عليه دليل صريح مرفوع يؤيده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1453 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ، يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عبد الرحمن بن الأسود) بن المأمول

(2)

، مولى بني هاشم، أبو عمرو الورّاق البصريّ، بغدادي الأصل، مقبول [11].

روى عن عَبِيدَة بن حُميد، ومحمد بن ربيعة الكلابي، ومعمر بن سليمان الرّقّيّ، وعمر بن أيوب المَوْصلي. وعنه الترمذي، والنسائي، وابن جرير الطبري، وغيرهم. مات بعد (240). وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

2 -

(محمد بن ربيعة) الكلابي الرُّؤاسي، أبو عبد اللَّه الكوفي، ابن عمّ وكيع، صدوق [9] تقدم في 8/ 464.

(1)

"المغنى" 3/ 149 - 150.

(2)

كذا في "تهذيب الكمال" و"ت" نسخة أبي الأشبال أحمد صغير، وهي من أحسن النسخ، ووقع في بعض النسخ، و"تت""ابن مأمون" بالنون، والظاهر أنه تصحيف، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 366

3 -

(عبد الحميد بن جعفر) الأنصاري المدني، صدوق رمي بالقدر، وربما وهم [6] تقدم 26/ 914.

4 -

(يزيد بن أبي حبيب) واسم أبيه سُويد المصريّ، ثقة فقيه، يرسل [5] تقدم 134/ 207.

5 -

(عراك بن مالك) الغفاريّ الكنانيّ المدني، ثقة فاضل [3] تقدم 134/ 207.

6 -

(عُبيد اللَّه) بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود المدني، ثقة ثبت فقيه [3] تقدم 45/ 54.

7 -

(ابن عباس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدم 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو والترمذيّ، وشيخ شيخه، فمن رجال الأربعة. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: يزيد، عن عراك، عن عبيد اللَّه. ومنها: أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْن عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ) أي يومًا بليلته، وذلك في عام الفتح، وأما إقامته عشرًا في حديث أنس رضي الله عنه الماضي ففي حجة الوداع، كما تقدم.

[تنبيه]: اختلفت الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما في مقدار إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح، فروي تسعة عشر، كما في "صحيح البخاري"، ولفظه من رواية عكرمة، عنه:"أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا".

وروي عشرون، أخرجه عبد بن حميد في "مسنده"، وروي سبعة عشر بتقديم السين، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، وروي خمسة عشر، وهي رواية المصنف هنا، ورواها أبو داود أيضًا، وروي ثمانية عشر، رواه أبو داود.

قال البيهقي في "السنن": وأصح هذه الروايات في ذلك عندي رواية من روى تسعة عشر -أي بتقديم التاء- وهي الرواية التي أودعها البخاريّ في "الجامع الصحيح"، وجمع أيضًا البيهقي بين روايات تسع عشرة وثمان عشرة، وسبع عشرة بأن من رواها تسع

ص: 367

عشرة عدّ يوم الدخول ويوم الخروج، ومن روى ثمان عشرة لم يعدّ أحد اليومين، ومن قال: سبع عشرة لم يعدّهما

(1)

.

قال الحافظ في "التلخيص الحبير": وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين، وهي صحيحة الإسناد، إلا أنها شاذة أيضًا، اللَّهمّ إلا أن يُحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد

(2)

، أي لأنّ في سنده علي بن زيد بن جُدعان، وهو ضعيف.

وقال في "الفتح" بعد ذكر الجمع المذكور: وأما رواية خمسة عشر، فضعفها النوويّ في "الخلاصة"، وليس بجيّد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك، عن عُبيد اللَّه كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة، فليُحمل على أن الراوي ظنّ أنّ الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمسة عشرة.

واقتضى ذلك أن تسع عشرة أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضًا أنها أكثر ما وردت به الروايات "الصحيحة" وأخذ الثوريّ، وأهل الكوفة برواية خمس عشرة، لكونها أقلّ ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقًا، وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين، وهو ما أخرجه أبو داود بلفظ:"غزوت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة، لا يصلي إلا ركعتين". لكن محله عنده فيمن لم يُزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها، أولًا، وحجته حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدم أن أرجح المذاهب مذهب الإمام أحمد - رحمه اللَّه تعالى -؛ لموافقته لحديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -.

وحاصله أن من أقام في بلدة أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإلا قصر. واللَّه تعالى أعلم.

(يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكعَتَيْنِ) جملة في محل نصب على الحال، وكرر "ركعتين" إشارة إلى أن قصره في كل صلاة صلاها في تلك المدة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"السنن الكبرى"جـ 3 ص 151.

(2)

"التلخيص الحبير" جـ 2 ص 45 - 46.

(3)

"فتح" 3/ 269.

ص: 368

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح، وتقدم قريبًا أن النووي ضعفه بالشذوذ، وأجاب عنه الحافظ -رحمهما اللَّه تعالى-.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-4/ 1453 - وفي "الكبرى" -4/ 1911 - بالسند المذكور.

وأخرجه (د) 1231 (ق)1076. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1454 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ

(2)

ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْكُثُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الملك بن زَنجَوَيه) البغداديّ، أبو بكر الغَزَّال، ثقة [11].

روى عن جعفر بن محمد بن حمزة، وزيد بن الحباب، وعبد الرزاق، وغيرهم. وعنه الأربعة، وعبد اللَّه بن أحمد، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي، وهو صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال مسلمة: ثقة كثير الخطإ.

قال ابن مخلد: مات في جمادى الآخرة سنة (258). روى عنه الأربعة، وروى عنه المصنف في هذا الكتاب حديثين فقط، هذا، و (2893) حديث: "خلّ عنه، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد

" الحديث.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام الصنعاني. ثقة ثبت [9] تقدم 61/ 77.

3 -

(اين جُريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكى، ثقة فاضل فقيه يدلس ويرسل [6] تقدم 28/ 32.

4 -

(إسماعيل بن محمد بن سعد) بن أبي وقّاص الزهري أبو محمد المدني، ثقة حجة [4] تقدم 97/ 125.

(1)

وفي نسخة "أخبرني".

(2)

وفي نسخة "أنا".

ص: 369

5 -

(حميد بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني، ثقة [2] تقدم 32/ 725.

6 -

(الساءب بن يزيد) الكندي الصحابي الصغير - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم 62/ 1305.

7 -

(العلاء بن الحَضْرَمي) حليف بني أُميّة، واسم الحضرميّ عبد اللَّه بن عمّار بن أكبر بن ربيعة بن مالك بن عُوَيف. وله عدة إخوة، يقال: إنهم أحد عشر، وأخوه عمرو ابن الحضرمي أولى قتيل من المشركين، قتله المسلمون، وكان ماله أول مال خُمّس في الإِسلام وبسببه كانت وقعة بدر.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في مُكث المهاجر. وعنه السائب بن يزيد، وأبوهريرة وحيان الأعرج، وسَهْم بن منجاب، وزياد بن حُدَير.

وكان يقال: إنه مُجاب الدعوة، وولاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم البحرين، وأقرّه أبو بكر، وعمر، ثم ولاّه عمر البصرة فمات قبل أن يصل إليها سنة (14).

وقال ابن سيرين، عن ابن العلاء بن الحضرمي: إن أباه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ باسمه. وقال أبو حسان الزياديّ: مات سنة (21) وله مناقب، وفضائل كثيرة. أخرج الجماعة الحديث المتقدم. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فمن رجال الأربعة. ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وصحابي، عن صحابي، وأن صحابيه من المقلين، ليس له في الكتب الستة، إلا ثلاثة أحاديث: حديث الباب، "أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ باسمه" عند أبي داود رقم (5135)، وأخرجه أحمد أيضا (جـ 4 ص 339)، وحديث "بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى البحرين، أو إلى هجر، فكنت آتي الحائط يكون بين الإخوة، يسلم أحدهم، فآخذ من المسلم العشر، ومن المشرك الخراج" عند ابن ماجه رقم 1831 - وأخرجه أحمد أيضًا جـ 5/ 52. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن السائب بن يزيد - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّهُ سَمِعَ العَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَميِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَقُولُ) جملة في محل نصب على الحال.

ولفظ البخاري من طريق حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حميد الزهري، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز، يسأل السائب بن يزيد ابن أخت نمر، قال: ما سمعتَ

ص: 370

في سُكنى مكةَ؟ قال: سمعت العلاء بن الحضرميّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر". و"الصدر" بفتح المهملتين، أي بعد الرجوع من مني.

(قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَمْكُثُ الْمُهَاجِرُ) من باب قتل: أي يقيم، ويتلَبّثُ، ومَكُث مُكثا، فهو مَكيث، مثلُ قرُب قُربًا، فهو قريب لغةٌ، وقرأ بها السبعة قوله تعالى:(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) باللغتين. قاله الفيّومي (بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ) أي فراغه من أعمال الحجّ، وأصل النسك بضمتين: العبادة، والمراد هنا أفعال الحج، يقال: نسك للَّه ينسُك، من باب قتل: تطوع بقُربة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} ، ومناسك الحج: عباداته، وقيل: مواضع العبادات. أفاده الفيومي (ثَلَاثًا) أي ثلاثة أيام بلياليها، وذكر العدد، لكون التمييز محذوفا، كما تقدم.

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: معنى هذا الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة. وحكَى عياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة -يعني بعد الفتح- فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه.

قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سُكنى المدينة كان واجبًا لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين، فيجوز له سُكنى أيّ بلد أراد، سواء مكة وغيرها بالاتفاق انتهى كلام القاضي.

ويستثنى من ذلك من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة في غير المدينة.

وقال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة

لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعنى به من هاجر من غيرها؛ لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لمّا تحرّجوا من الإقامة بمكة، إذ كانوا قد تركوها للَّه تعالى، فأجابهم بذلك، وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة.

قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني عليه خلاف فيمن فرّ بدينه من موضع يَخاف أن يُفتن فيه في دينه، فهل له أن يرجع إليه بعد انفضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال: إن كان تركها للَّه كما فعله المهاجرون، فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فرارًا بدينه، ليَسلَم له، ولم يقصد إلى تركها لذاتها، فله الرجوع إلى ذلك انتهى.

قال الحافظ: وهو متجه، إلا أنه خص ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

(1)

"فتح" 7/ 685 في "كتاب مناقب الأنصار".

ص: 371

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي فيما قاله القرطبي نظران:

أما أوّلاً، ففي تعميمه المنع لكل من فر بدينه؛ لأن ذلك يحتاج إلى دليل، من نص أو إجماع.

وأما ثانيا ففي تفريقه بين من فر بدينه، ومن ترك بلده للَّه، فإنه لا فرق بينهما في الحقيقة، كما هو ظاهر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث العلاء بن الحضرمي - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-4/ 1454 - وفي "الكبرى" -4/ 1912 - عن محمد بن عبد الملك بن زنجويه، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن حميد ابن عبد الرحمن، عن السائب بن يزيد، عنه. وفي -4/ 1455 - و"الكبرى" -4/ 1913 - عن الحارث بن مسكين، عن ابن عُيينة، عن عبد الرحمن بن حُميد، عن السائب بن يزيد به.

وفي "الكبرى" 279/ 4212 - عن محمد بن عبد اللَّه بن المبارك، عن يحيى بن سعيد القطان- ح و 279/ 4213 - عن عُبيد اللَّه بن سعد بن إبراهيم بن سعد، عن عمه يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان- كلاهما عن عبد الرحمن بن حميد، أنه سمع عمر بن عبد العزيز يسأل السائب بن يزيد؟، فقال السائب: سمعت العلاء بن الحضرمي يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاث ليال يمكثهنّ المهاجر بمكة بعد الصدر". وفي -279/ 4214 - عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق به.

وأخرجه (خ) 5/ 87 (م) 4/ 108 و 4/ 109 (د) 2022 (ت) 949 (ق)1073. (الحميدي) 844 (أحمد) 4/ 339 و5/ 52 (الدارمي) 1520. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مدة الإقامة التي تُقصر فيها الصلاة، وهذا الذي ذهب إليه -رحمه اللَّه تعالى- هو مذهب الشافعي، ومالك رحمهما اللَّه تعالى، ووجه الدلالة منه أن الترخيص في الثلاث يدلّ على بقاء حكم السفر، بخلاف الأربعة، فالأربع حد الإقامة، وما دونه حد السفر، فتقصر الصلاة فيه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاستدلال عندي غير صحيح، لأنه يرده ما فعله

ص: 372

النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، مع أصحابه رضي الله عنهم، حيث أقاموا أربعة أيام بمكة، وقد عزموا قبل ذلك على إقامة تلك المدة، لأنهم يعلمون أن أفعال الحج لا تنتهي إلا بهذا القدر من الزمن، فدلّ على أن الأربعة لها حكم السفر، فلذا تقدم ترجيح ما ذهب إليه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، فكل من أقام مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وهي أربعة أيام قصر، ومن زاد أتم، واللَّه تعالى أعلم.

ومنها: أن الإقامة بمكة كانت حراما على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام، لا يزيد عليها، وبهذا رثى النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة.

وما ادعاه الداوديّ من اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، رده في "الفتح" بأنه لا معنى لتقييده بالأولين.

ومنها: أنه استُدلّ به على أن طواف الوداع عبادة مستقلة، ليست من مناسك الحجّ، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعي، لقوله في هذا الحديث:"بعد قضاء نسكه"، لأن طواف الوداع لا إقامة بعده، ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف الوداع، وقد سماه قبله قاضيًا لمناسكه، فخرج طواف الوداع عن أن يكون من مناسك الحج. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1455 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ فِي حَدِيثِهِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «يَمْكُثُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ نُسُكِهِ ثَلَاثًا»).

قال الجامع عفا اللَّه تعالى: هذا الحديث متفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الحديث الماضي.

و"أبو عبد الرحمن" هو النسائي، وقائل أخبرنا هو الراوي عنه، والظاهر أنه أبو بكر ابن السُّنِّيّ راوي الكتاب عن النسائي رحمهما اللَّه تعالى، ويقدّر قبل "قال الحارث بن مسكين لفظة "قال"، وتكون جملة "قال الحارث" مقولّا لذلك القول المقدر، ومقول "قال الحارث" جملة "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم الخ". وقوله: "قراءةً" بالنصب على الحالية، وكذا جملة "وأنا أسمع"، وقوله: "في حديثه" متعلق بـ "قال الحارث". وقوله: "عن سفيان" متعلق بـ "حديثه"؛ لأنه مصدر.

(1)

"فتح" 7/ 685.

ص: 373

ورجال إسناده: خمسة:

1 -

(الحارث بن مسكين) القاضي المصري الفقيه الثقة [10] تقدم 9/ 9.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة المثبت [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(عبد الرحمن بن حميد) عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، ثقة [5

(1)

]. روى عن أبيه، والسائب بن يزيد، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. وعنه صالح بن كيسان، وسليمان بن بلال، وحاتم بن إسماعيل، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو حاتم، وأبو داود: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وقال العجلي: مدني ثقة. وقال النسائي في "الجرح والتعديل": ثقة. وقال ابن حبان في "الثقات": مات بالعراق في أول خلافة أبي جعفر سنة (137). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و (4366) حديث: "إذا دخلت العشر، فأرأد أحدكم أن يضحّي

" الحديث.

والباقيان تقدما في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1456 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَصَرْتَ، وَأَتْمَمْتُ، وَأَفْطَرْتَ، وَصُمْتُ، قَالَ: «أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ». وَمَا عَابَ عَلَيَّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن يحيى الصوفي) أبو جعفر الكوفي العابد، ثقة [11] تقدم 38/ 1274.

2 -

(أبو نعيم) الفضل بن دُكين الكوفي، ثقة ثبت [9] تقدم 11/ 516.

3 -

(العلاء بن زُهير الأزديّ) ابن عبد اللَّه بن زُهير بن سُليمى الأزديّ، أبو زهير الكوفي، ثقة [6].

روى عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد، ووبَرَة بن عبد الرحمن الْمُسْليّ. وعنه وكيع، وأبو نعيم، والفريابي، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال

(1)

جعله في "ت" من السادسة، والأولى أنه من الخامسة؛ لأنه يروي عن السائب بن يزيد الصحابي، كما في هذا السند. فتنبه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 374

ابن حزم: مجهول، وردّ ذلك عليه عبد الحقّ، وقال: بل هو ثقة مشهور، والحديث الذي الذي رواه في القصر صحيح. وتناقض فيه قول ابن حبان، فقال في "الضعفاء". يروي عن الثقات ما لا يُشبه الأثبات، فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الثقات. ورده الذهبي بأن العبرة بتوثيق يحيى.

انفرد به المصنف، فروى له حديثين: أحدهما حديث الباب، والثاني حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي في الباب التالي.

4 -

(عبد الرحمن بن الأسود) بن يزيد النخعي أبو بكر الكوفي، ثقة، من كبار [3] تقدم 37/ 41.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، تقدمت 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين. ومنها: أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنها اعْتَمَرَتْ) وفي رواية الدارقطني: "عمرة في رمضان"، واستنكر ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا قَدِمَتْ) بتاء التأنيث الساكنة (مَكَّةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي) متعلق بمحذوف، أي أفديك بأبي وأمي، أو مَفْديّ أنت بأمي وأمي (قَصَرْتَ) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم (وَأَتْمَمْتُ) بتاء المتكلم (وَأَفْطَرْتَ) بتاء الخطاب (وَصُمْتُ) بضمير المتكلم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ"، وَمَا عَابَ عَلَيَّ) أي فيما فعلتْ من الإتمام واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الحديث صحيح، كما مرّ تصحيحه آنفّا عن عبد الحقّ، وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا فقط، وقد اختلف في اتصاله، قال الدارقطني: عبد الرحمن أدرك عائشة، ودخل عليها، وهو مراهق. وقال أبو حاتم: دخل عليها، وهو صغير، ولم يسمع منها. وعند ابن أبي شيبة، والطحاوي ثبوت سماعه منها. وفي رواية للدارقطني: عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة، قال أبو بكر النيسابوري: من قال فيه: عن أبيه أخطأ، وأختلف قول الدارقطني فيه، فقال في "السنن": إسناده حسن، وقال في "العلل": المرسل أشبه.

ص: 375

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن الحديث صحيح متّصل، وأن سماع عبد الرحمن عن عائشة صحيح، قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" ج 3/ 142 - 143 معلّقًا على كلام الدارقطني السابق: ما نصّه: وذكر الطحاوي عن عبد الرحمن أنه دخل على عائشة بالاستئذان بعد احتلامه، فلو أطلق الدارقطني دخوله عليها، ولم يقيده بأنه كان وهو مراهق لكان أولى، وذكر صاحب "الكمال" أنه سمع منها. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".

* * *

‌5 - (تَرْكُ التَّطَوِّعِ فِي السَّفَرِ)

1457 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَبَرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُصَلِّي قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا. فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا السند تقدم الكلام عليه في الباب الماضي، سوى:

1 -

(وَبَرَة بن عبد الرحمن) -بفتح الواو، والموحدة- الّمُسْليّ -بضم أوله، وسكون المهملة، بعدها لام- أبو خُزيمة، أو أبو العباس الكوفي، ثقة [4].

روى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي الطفيل، وغيرهم. وعنه العلاء بن زُهير، وأبو إسحاق السبيعي، والأعمش، ومسعر، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: تُوفي في ولاية خالد بن عبد اللَّه القَسْري على الكوفة، وكذا قال الهيثم بن عديّ، وخليفة، وزاد سنة (116).

روى له الجماعة، سوى الترمذي، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا، و (2929) حديث: رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحجّ، فطاف بالبيت

" الحديث، و (5313) حديث: "لم يرخّص في الديباج إلا موضع أربع أصابع

" الحديث.

2 -

(ابن عمر) عبد اللَّه رضي الله عنهما، تقدم 12/ 12. ولطائف الإسناد تقدم في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 376

شرح الحديث

عن وبَرَة بن عبد الرحمن أنه (قال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ) يحتمل أن يكون المعنى أنه لا يتم في السفر كما كان يُتمّ بعض الصحابة، ويحتمل أن يكون المعنى لا يتطوع زيادة على ركعتي الفريضة، بل يقتصر عليهما، وعلى الأول تكون جملة قوله (لَا يُصَلِّي قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا) مستأنفة بَيَّنَ بها أنه لا يصلي الرواتب القبلية، ولا البعدية، وعلى الثاني تكون الجملة تفسيرًا قوله:"لا يزيد في السفر على ركعتين".

وأفرد الضمير في قوله: "قبلها، وبعدها" مع أن المرجع مثنى، وهو "ركعتين" باعتبار الصلاة (فَقَيلَ لَهُ: مَا هَذا؟) أي قيل لابن عمر: ما هذا الاقتصار على الركعتين، وترك السنن الرواتب كلها (قَالَ) أي ابن عمر - رضى اللَّه عنهما - (هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ) أي من الاقتصار على الركعتين، وترك السنن الرواتب القبلية والبعدية.

وإنما قيدنا بالقبلية والبعدية، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوع في السفر على راحلته، وأنه كان يصلي الوتر، وإنما ترك الراتب القبلية والبعدية. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -5/ 1457 - وفي "الكبرى" - 5/ 1915 - بالسند المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب،. وإليه المرجع والمآب، وهوحسبنا، ونعم الوكيل.

1458 -

(أَخْبَرَنِي نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي سَفَرٍ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى طِنْفِسَةٍ لَهُ، فَرَأَى قَوْمًا يُسَبِّحُونَ، قَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ. قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُصَلِّيًا قَبْلَهَا، أَوْ بَعْدَهَا لأَتْمَمْتُهَا، صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم كَذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نوح بن حَبيب) الْقُومَسيّ، أبو محمد الْبَذَشيّ، ثقة سنيّ [10] تقدم 79/ 1010.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان البصري الإمام الحجة المثبت [9] تقدم 4/ 4

3 -

(عيسى بن حفص بن عاصم) بن عمر بن الخطاب العَدَويّ، أبو زياد المدنيّ، لقبه رَبَاح -بموحدة- ثقة [6].

ص: 377

روى عن أبيه، وسعيد بن المسيب، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم. وعنه يحيى القطان، وسليمان بن بلال، ووكيع، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. ونقل ابن خلفون أن العجلي وثقه. وقال الحاكم: قال فيه القعنبي: عيسى بن حفص الأنصاريّ، وكانت أمه ميمونة بنت داود الخزرجية، فربّما عرف بقبيلة أخواله. وقال ابن حبان، وابن قانع، والواقدي: مات سنة (157) زاد الواقدي: في خلافة أبي جعفر. روى له الجماعة، سوى الترمذي، له عندهم حديثان: أحدهما حديث الباب، والآخر حديثه عن نافع، عن ابن عمر في فضل المدينة.

4 -

(حفص بن عاصم) بن عمر بن الخطّاب العمري المدني، ثقة [3] تقدم 60/ 867.

5 -

(ابن عمر) - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور في السند السابق. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها. أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين من عيسى بن حفص. ومنها: أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن حفص بن عاصم رحمه الله أنه (قال: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي سَفَرٍ) ولفظ مسلم: "صحبتُ ابن عمر في طريق مكة

" (فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ركعتين) الظاهر أنه صلاهما جمعًا، وفي نسخة: "أو العصر" بـ "أو"، والظاهر أنه تصحيف، لأن ابن عمر لا يرى جواز النافلة بعد العصر، فلو رآهم يتنفلون بعد العصر لكان إنكاره في ذلك أشدّ.

ولفظ مسلم: "فصلى لنا الظهر ركعتين"(ثُمَّ انْصَرَفَ) أي رجع من محل صلاته (إِلَى طِنْفِسَةٍ لَهُ) مثلّثة الطاء، والفاء، وبكسر الطاء، وفتح الفاء، وبالعكس: واحدة الطنافس للبُسُط، والثياب، والحَصير، من سَعَف، عرضه ذراع. قاله المجد. وقال الفيّومي:"الطنفسة" بكسرتين في اللغة العالية، واقتصر عليها جماعة، منهم ابن السِّكِّيت، وفي لغة بفتحتين، وهي بساط له خَمْلٌ رَقيقٌ، وقيل: هو ما يُجعل تحت الرَّحْل على كتفي البعير، والجمع طَنَافس انتهى

(1)

(فَرَأَى قَوْمًا يُسَبِّحُونَ) أي يصلون النافلة، فالسبحة

(1)

"ق" و"المصباح" في مادّة "طنفس".

ص: 378

معناها النافلة (قَالَ) أي ابن عمر (مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟)"ما" استفهامية، والاستفهام هنا للإنكار (قُلْتُ) القائل حفص بن عاصم (يُسَبِّحُونَ، قَالَ) أي ابن عمر (لَوْ كُنْتُ مُصَلِّيًا قَبْلَهَا، أَوْ بَعْدَهَا) أي قبل الركعتين اللتين صليتهما قصرًا (لأَتْمَمْتُهَا) أي أتممت المكتوبة، وأفرد الضمير في المواضع الثلاث باعتبار الصلاة، كما تقدم في الحديث الذي قبله.

يعني أنه لو كان مخيّرًا بين الإتمام، وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحبّ إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يُصلي الراتبة، ولا يُتمّ. قاله في "الفتح".

وقال السندي -رحمه اللَّه تعالى-: لعلّ المعنى: لو كنت صليت النافلة على خلاف السنة لأتممت الفرض على خلافها، أي لو تركت العمل بالسنة لكان تركها لإتمام الفرض أحبّ، وأولى من تركها لإتيان النفل، وليس المعنى: لو كانت النافلة مشروعة لكان الإتمام مشروعًا، حتى يَردَ عليه ما قيل: إن شرع الفرض تامّةً يُفضي إلى الحرج، إذ يلزم حينئذ الإتمام، وأما شرع النفل، فلا يُفضي إلى حرج، لكونها إلى خيرة المصلي انتهى

(1)

.

(صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيا، وهو ما يقع جوابًا لسؤال مقدّر، فكأنه قال له: لماذا قلت هذا الكلام؟، فأجابه بأنه صحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فَكَان لَا يَزِيدُ فِي السفَرِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ) أي في هذه الصلاة التي صلاها لهم في ذلك الوقت، فلا يُعترض على كلامه بالمغرب، حيث لا تُصلى ركعتين إجماعًا.

قال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل هذا اللفظ -يعني "كان لا يزيد في

السفر على ركعتين"- أن يريد أن لا يزيد في عدد ركعات الفرض، فيكون كنايةً عن نفي الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القصر، ويحتمل أن يريد لا يزيد نفلًا، ويمكن أن يريد ما هو أعمّ من ذلك. انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ويدلّ على هذا الثاني رواية مسلم، ولفظه: صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل، وأقبلنا معه، حتى جاء رحله، وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة، فرأى ناسًا قيامًا، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحًا لأتممت"، فذكر المرفوع انتهى

(2)

.

قال النووي رحمه الله: أجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة محتّمة، فلو شُرعت تامة لتحتَّم إتمامها، وأما النافلة فهي إلى خيرة المصلي، فطريق الرفق به أن تكون

(1)

"شرح السندي" جـ 3 ص 123.

(2)

"فتح" 3/ 289.

ص: 379

مشروعة، ويُخيّر فيها انتهى.

قال الحافظ: وتُعُقّب بأن مراد ابن عمر بقوله: "لو كنت مسبحًا لأتممت" يعني أنه لو كان مخيرًا بين الإتمام، وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحبّ إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يُصلي الراتبة، ولا يُتمّ انتهى.

(وَأَبَا بَكْرٍ) بالنصب عطفًا على "رسول اللَّه"، أي وصحبت أبا بكر (حَتَّى قُبِضَ)

بالبناء للمفعول، أي مات (وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما كَذَلِكَ) أي حتى قُبضا، ولفظ مسلم:"يا ابن أخي صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه، وصحبت أبا بكر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه، وصحبت عمر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه، ثم صحبتُ عثمان، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه، وقد قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] " انتهى

(1)

.

وإنما ذكر الموقوف بعد المرفوع مع أن الحجة قائمة بالمرفوع ليُبيّن أن العمل استمرّ على ذلك، ولم يطرُق إليه نسخٌ، ولا مُعارض، ولا راجحٌ.

واستُشكل قوله: "ثم صحبت عثمان، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه"، لأنه ثبت فيما تقدم من حديث ابن عمر أن عثمان أتمها بعد ثماني سنين، أو ست.

وأجيب بأن المراد في هذه الرواية أن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه في غير منى، والروايات المشهورة بإتمام عثمان بعد صدر من خلافته محمولة على الإتمام بمنى خاصةً، وقد فسر عمران بن الحصين في روايته أن إتمام عثمان إنما كان بمنى. أفاده النووي رحمه الله في "شرح مسلم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-5/ 1458 - وفي "الكبرى"-5/ 1916 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 2/ 57 (م) 2/ 144 (د) 1223 (ق) 1071 (أحمد) 2/ 24 ر 2/ 56 (عبد بن حميد) 827 (ابن خزيمة)1257. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

(1)

"صحيح مسلم" بشرح النووي 6/ 197 - 199.

ص: 380

منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو ترك السنن الرواتب في السفر.

ومنها: بيان ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم للقصر في السفر، فلم يثبت عنه أنه أتمّ في السفر حتى توفاه اللَّه تعالى، وكذا الخلفاء رضي الله عنهم بعده، ففيه الردّ على من قال: بأن الإتمام أفضل من القصر.

ومنها: الإنكار على من خالف السنة، وإن لم تكن واجبة.

ومنها: فضل ابن عمر رضي الله عنهما، حيث كان شديد الاتباع للنبي - صلي اللَّه عليه وسلم -، في جميع أفعاله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في التطوع في السفر:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف أهل العلم في التطوع في السفر، فثبت أن ابن عمر لم يكن يصلي في السفر مع الفريضة شيئًا قبلها، ولا بعدها، إلا من جوف الليل.

ورأت طائفة التطوع في السفر، فممن روينا عنه أنه كان يتطوع في السفر عمر، وعلي، وعبد اللَّه بن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه، وأنس بن مالك، وابن عباس وأبو ذرّ، وقال الحسن البصريّ: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -يُسافرون، فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها.

وممن رُوي عنه أنه كان يتطوع في السفر: القاسم بن محمد، والأسود بن يزيد، والحارث بن سُويد، وعطاء بن أبي رَبَاح، وطاوس، والشعبي، ومكحول، والحسن البصري، والنخعي، وعروة بن الزبير، وعمرو بن ميمون، وجابر بن زيد، وأبو وائل، وهو قوله مالك، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي -رحمهم اللَّه تعالى-. انتهي

(1)

.

وقال الإمام الترمذي -رحمه اللَّه تعالى-: ثم اختلف أهل العلم بعد النبي - صلي اللَّه عليه وسلم -، فرأى بعض أصحاب النبي - صلي اللَّه عليه وسلم - أن يتطوع الرجل في السفر، وبه يقول أحمد، وإسحاق، ولم ير طائفة من أهل العلم أن يصلي قبلها، ولا بعدها، ومعنى من لم يتطوع في السفر قبول الرخصة، ومن تطوع فله في ذلك فضل كثير، وهو قول أكثر أهل العلم، يختارون التطوع في السفر انتهى

(2)

.

وقال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فتركها ابن عمر، وآخرون، واستحبها

(1)

"الأوسط" 5/ 241 - 244.

(2)

"جامع الترمذي" بنسخة "تحفة الأحوذي" 3/ 118 - 119.

ص: 381

الشافعي، وأصحابه، والجمهور، ودليلهم الأحاديث العامّة الواردة في ندب مطلق الرواتب، وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى في يوم الفتح، وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس، وأحاديث أخر صحيحة، ذكرها أصحاب السنن" والقياس على النوافل المطلقة انتهى.

وقال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: كان من هديه صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الفرض، ولم يُحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة الصلاة قبلها، ولا بعدها، إلا ما كان من الوتر، وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حضرًا، ولا سفرًا، قال: وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة، ولا بعدها، إلا من جوف الليل مع الوتر، وهذا هو الظاهر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة، ولا بعدها شيئًا، ولم يكن يمنع من التطوع قبلها، ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق، لا أنه سنة راتبة للصلاة كسنة صلاة الإقامة، ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفًا على المسافر، فكيف يُجعل لها سنة راتبة يُحافظ عليها، وقد خفف الفرض ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر، وإلا كان التمام أولى به.

وقال أيضًا:، كان أي النبي صلى الله عليه وسلم كل يواظب على سنة الفجر، والوتر أشد من جميع النوافل، دون سائر السنن، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غيرهما، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين، وسئل عن سنة الظهر في السفر؟ فقال: لو كنت مسبحًا لأتممت، وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإن اللَّه سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها، فلو شرع لها الركعتان قبلها، أو بعدها لكان الإتمام أولى به انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبين بما ذُكر أن النفل المطلق ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، وكذا الوتر، ومن السنن الراتبة سنة الصبح، وما عدا ذلك، فأحاديثه متكلم فيها، وإن ثبتت فتحمل على أنه صلى الله عليه وسلم فعلها لبيان الجواز، فالأولى للمسافر أن يلازم ما لازمه النبي صلى الله عليه وسلم، وما عداه فعله في بعض الأحيان. هذا ما عندي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

(1)

"زاد المعاد" 1/ 473 - 475.

ص: 382

‌15 - (كِتَابُ الْكُسُوفِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الكسوف" لغةً: التغير إلى سواد، ومنه كسف وجهه وحاله، وكسفت الشمس: اسودت، وذهب شُعاعها.

قال الفيومي رحمه الله: كَسَفَت الشمسُ. من باب ضرب، كُسُوفًا، وكذلك القمر، قاله ابن فارس، والأزهريّ، وقال ابن الْقُوطيّة أيضًا: كسفَ القمرُ، والشمسُ، والوجهُ: تَغَيَّرَ، وكسَفَها اللَّه، كَسْفًا، من باب ضرب أيضًا، يتعدى، ولا يتعدّى، والمصدر فارق، ونُقل: انكسفت الشمسُ، فبعضهم يجعله مطاوعًا، مثل كسرته، فانكسر، وعليه حديث:"انكسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وبعضهم يجعله غلطًا، ويقول: كسفتُها، فكَسَفَتْ هي، لا غيرُ، وقيل: الكُسُوف ذَهَاب البعض، والخسوف ذَهَاب الكلّ، وإذا عدَّيتَ الفعلَ، نصبتَ عنه المفعول باسم الفاعل، كما تنصبه بالفعل، قال جَرير [من البسيط]:

الشَّمْسُ طَالِعَةً لَيْسَتْ بِكَاسِفَةِ

تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا

في البيت تقديم وتأخيرٌ، والتقديرُ: الشمسُ في حال طُلوعها، وبكائها عليك ليست تَكسف النجومَ والقمرَ، لعدم ضوئها.

وقال أبو زيد: كسفت الشمسُ كُسُوفًا: اسودّت بالنهار، وكسفت الشمسُ النجومَ: غَلَبَ ضوءها على النجوم، فلم يبدُ منها شيء انتهى

(1)

.

وقال في مادة "خَسَفَ": وخَسَفَه اللَّه -أي من باب ضرب- يتعدى، ولا يتعدى، وخسف القمرُ: ذهب ضوءه، أو نقص، وهو الكسوف أيضًا، وقال ثَعْلَبٌ: أجود الكلام: خسف القمرُ، وكسفت الشمسُ، وقال أبو حاتم في الفَرْق: إذا ذهب بعض الشمس، فهو الكُسُوف، وإذا ذهب جميعه، فهو الخُسُوفُ انتهى.

وقال الإمام البخاري -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": "باب هل يقول: كسفت الشمس، أو خسفت؟ "، وقال اللَّه تعالى. {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8]. انتهى.

قال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: أتى بلفظ الاستفهام إشعارًا منه بأنه لم يترجح عنده في ذلك شيء.

قال الحافظ رحمه الله: ولعله أشار إلى ما رواه ابن عُيينة، عن الزهريّ، عن عروة،

(1)

"المصباح" في مادّة "كسف".

ص: 383

قال: "لا تقولوا: كسفت الشمس، ولكن قولوا: خسفت"، وهذا موقوف صحيح، رواه سعيد بن منصور عنه. وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه. لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه، لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة، والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح، وقيل: يتعين ذلك، وحكى عياض عن بعضهم عكسه، وغلّطه لثبوته بالخاء في القمر في القرآن، وكأن هذا هو السرّ في استشهاد المؤلف به في الترجمة. وقيل: يقال بهما في كل منهما، وبه جاءت الأحاديث، ولا شكّ أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف، لأن الكسوف التغير إلى سواد، والخسوف النقصان، أو الذلّ، فإذا قيل: في الشمس: كسفت، أو خسفت، لأنها تتغير، ويلحقها النقص، ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان.

وقيل: بالكاف في الابتداء، وبالخاء في الانتهاء. وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء، وبالخاء لبعضه. وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون، وبالكاف لتغيره انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تلخص مما ذُكر أن الراجح جواز إطلاق الكسوف، والخسوف لكل من الشمس، والقمر؛ لورود النصوص الكثيرة بذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

‌1 - (كُسُوفُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ)

1459 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عز وجل يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد، تقدم قريبًا.

2 -

(حماد) بن زيد، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 3/ 3.

3 -

(يونس) بن عُبيد بن دينار العَبْدي، أبو عُبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورع [5] تقدم 88/ 109.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصري الإمام الحجة المثبت المشهور [3] تقدم 32/ 36.

(1)

"فتح" 3/ 234 - 235.

ص: 384

55 -

(أبو بكرة) نفيع بن الحارث بن كَلَدَةَ الثقفي الصحابي المشهور - رضي اللَّه تعالى - عنه، تقدم 41/ 836. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغلانيّ. ومنها: أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْحَسَنِ) البصري، والحسن عن أبي بكرة متصل عند البخاري، وهو الراجح، ومنقطع عند أبي حاتم، والدارقطني. وقد علق البخاري عن موسى، عن مبارك، عن الحسن، قال: أخبرني أبو بكرة، فصرح بالإخبار، فهذا يؤيد ما ذهب إليه البخاري (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَمْسَ، وَالْقَمَرَ آيَتَانِ") قال الزركشي -رحمه اللَّه تعالى-: أي كسوفهما آيتان؛ لأنه الذي خرج الحديث بسببه. وقال الكرماني رحمه الله: أي علامتان لقرب القيامة، أو لعذاب اللَّه، أو لكونهما مسخرين بقدرة اللَّه تعالى، وتحت حكمه.

وقال السندي -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ذكر قول الزركشي: قلت: يحتمل أن المراد أنهما ذاتًا وصفةً آيتان، أو أراد أنهما كانا آيتين، فتغيرهما يكون مسندًا إلى تصرفه تعالى، لا دخل فيه لموت، أو حياة، كشأن الآيات.

ومعنى كونهما آيتين أنهما علامتان لقرب القيامة، أو لعذاب اللَّه، أو لكونهما مسخرين بقدرة اللَّه تعالى، وتحت حكمه انتهى

(1)

.

(مِن آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) الدالة على وحدانية اللَّه، وعظيم قدرته، أو على تخويف العباد من بأس اللَّه وسطوته، ويؤيده قوله تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]

(لَا يَنْكَسِفَانِ) بالتذكير لتغليب القمر، كما في القمرين (لِمَوْتِ أَحَدٍ) قال ذلك لأنها انكسفت يوم مات إبراهيم ابنه صلى الله عليه وسلم، فزعم الناس ذلك، فدفع هذا الزعم بهذا الكلام، وقد جاء بيان هذا السبب في رواية عبد الوارث الآتية 16/ 1491 - ولفظه:"وذلك أن ابنًا للنبي صلى الله عليه وسلم، يقال له: إبراهيم مات، فقال الناس في ذلك"، وفي رواية مبارك بن فضالة عند ابن حبان:"فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم"، ولأحمد،

(1)

"شرح السندي" 3/ 124.

ص: 385

والنسائي-16/ 1490 - ، وابن ماجه، وصححه ابن خُزيمة، وابن حبان من رواية أبي قلابة، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخرج فزعًا، يجرّ ثوبه، حتى أتى المسجد، فلم يزل يُصلي حتى انجلت، فلما انجلت قال: إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء، وليس كذلك

" الحديث.

وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الحديث الآتي في "الاستسقاء" -16/ 1525 - :"يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا". قال الخطابي -رحمه اللَّه تعالى-: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت، أو ضرّ، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخّران للَّه، ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قُدرة على الدفع عن أنفسهما، وفيه ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته، وشدة الخوف من ربه، وسيأتي لذلك مزيد بيان، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَلَا لِحَيَاتِهِ) استشكلت هذه الزيادة؛ لأن السياق إنما ورد في حقّ من ظنّ أن ذلك لموت إبراهيم، ولم يذكروا الحياة.

وأجيب بأن فائدة ذكر الحياة دفع توهم من يقول: لا يلزم من نفي كونه سببًا للفقد أن لا يكون سببًا للإيجاد، فعمم الشارع النفي، لدفع هذا التوهم

(1)

.

(وَلَكِنَّ اللهَ عز وجل، يُخَوِّفُ بِهمَا) أي بكسوفهما (عِبَادَهِ) فيه ردّ على من زعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي، لا يتأخر، ولا يتقدّم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف، ويصير بمنزلة الجَزْر والمد في البحر. وقد ردّ ذلك عليهم ابن العربيّ، وغير واحد من أهل العلم بما في حديث أبي موسى رضي الله عنه الآتي-25/ 1503 - حيث قال:"فقام فزعًا، يخشى أن تكون الساعة" قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق، والصدقة، والصلاة، والذكر معنى، فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كل ما ذُكر من أنواع الطاعة يُرجى أن يُدفع به ما يُخشى من أثر ذلك الكسوف.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي -كما قال بعض المحققين- أن ما قاله أهل الهيئة لا ينافي ما ذُكر؛ فإن العلم بحصول الكسوف لا ينافي التخويف؛ لأنا لا ندري ما وراء ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"فتح" 3/ 226.

ص: 386

ومما نقض ابن العربي وغيره أنهم يزعمون أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة، وإنما يحول القمر بينها، وبين أهل الأرض عند اجتماعهما في العقدتين، فقال: هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله، أم كيف يُظلم الكثير بالقليل، ولا سيما، وهو من جنسه؟ وكيف تحجب الأرض نور الشمس، وهي في زاوية منها، لأنهم يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفًا.

وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم بلفظ:"إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات اللَّه، وإن اللَّه إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له".

وسيأتي استشكال الغزالي لهذه الزيادة، ودعواه عدم ثبوتها، والردّ عليه في شرح حديث 16/ 1485 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق يهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 1459 - وفي "الكبرى"-1/ 1840 - عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عنه. وفي 5/ 1463 - و"الكبرى" -5/ 1846 - عن محمد بن كامل المروزي، عن هشيم، عن يونس، به. وفي 5/ 1464 - و"الكبرى"- 5/ 1847 - عن عمرو بن علي، ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن خالد بن الحارث، عن أشعث، عن الحسن، عنه. وفي 16/ 1491 - و"الكبرى"-16/ 1876 - عن عمران بن موسى، عن عبد الوارث، عن يونس به. وفي 16/ 1492 - و"الكبرى"16/ 1877 - عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد به. وفي 24/ 1502 - و"الكبرى" -24/ 1889 - عن عمرو بن علي، عن يزيد بن زريع، عن يونس به.

وأخرجه (خ) 2/ 42 و 2/ 44 و 2/ 49 و 7/ 182 (أحمد) 5/ 37 (ابن خزيمة)1374. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو إثبات الكسوف للشمس والقمر.

ص: 387

ومنها: كون الشمس والقمر آيتين دالتين على عظيم قدرة اللَّه تعالى.

ومنها: أن تغيرهما بالانكساف ليس لموت أحد من العظماء، كما هو زعم الجاهلية، بل بتقدير اللَّه تعالى، وحكمته البابغة.

ومنها: أن اللَّه سبحانه وتعالى إنما يغير بعض مخلوقاته تخويفا لعباده، حتي يرتدعوا عن معاصيهم، ويتوبوا إليه، كما قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما أستطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌2 - (التَّسْيِيحّ، والتَّكْبيرُ، والدُّعَاءُ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ)

1460 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ -هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَتَرَامَى بِأَسْهُمٍ لِي بِالْمَدِينَةِ، إِذِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَجَمَعْتُ أَسْهُمِي، وَقُلْتُ: لأَنْظُرَنَّ مَا أَحْدَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، فَأَتَيْتُهُ مِمَّا يَلِى ظَهْرَهُ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَعَلَ يُسَبِّحُ، وَيُكَبِّرُ، وَيَدْعُو، حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا، قَالَ: ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ).

رجال الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) الْمُخَرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقة حافظ [11] تقدم 43/ 50.

2 -

(أبو هشام المغيرة بن سَلَمَة) البصري، ثقة ثبت، من صغار [9] تقدم 28/ 815.

3 -

(وُهَيب) بن خالد، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، تغير قليلًا بآخره [7] تقدم 21/

427.

4 -

(أبو مسعود الْجُريريّ) سعيد بن إياس البصريّ، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين

[5]

تقدم 32/ 672.

5 -

(حيّان بن عُمَير) القَيسيّ الجُريريّ، أبو العلاء البصريّ، ثقة [3].

ص: 388

روى عن عبد الرحمن بن سَمُرة، وابن عباس، وسمرة بن جُندب، وغيرهم. وعنه سعيد الجريري، وسليمان التيميّ، وقتادة، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال النسائي: في "الكنى": بصريّ ثقة.

وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكره البخاريّ في "فصل من مات بين التسعين والمائة". روى له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(عبد الرحمن بن سمرة) بن حَبيب بن عبد شمس العَبْشميّ، أبو سعيد، أسلم يوم الفتح، يقال: كان اسمه عبد كُلال، وقيل: غير ذلك، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، سكن البصرة، وهو الذي افتتح سجستان، وكابُل، وغيرهما، وشهد غزوة مُؤتة.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن معاذ بن جبل. وعنه حيان بن عُمير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن البصريّ، وغيرهم.

قال ابن سعد: استعمله عبد اللَّه بن عامر على سجستان، وغزا خُرَاسان، ففتح بها فتوحًا، ثم رجع إلى البصرة، فمات بها سنة (50)، وكذا أرخه بها أبو موسى وغيره، وقال ابن عُفير: مات سنة خمسين، ويقال: سنة إحدى وخمسين. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ. ومنها: أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ) القيسي، أنه (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: بَيْنَا) وفي نسخةْ "بينما"(أَنَا أَتَرَامَى) أي أرمي، وفي رواية لمسلم:"أرمي"، وفي أخرى له. "أتَرَمَّى"، قال ابن منظور: وخَرَجْتُ أَتَرَمَّى، وَخَرَج يَتَرَمَّى: إذا خرج يَرْمِي في الأغراض، وأصول الشجر. وفي حديث الكسوف:"خرجت أرتمي بأسهمي"، وفي رواية:"أترامَى"، يقال: رميتُ بالسهم رَمْيًا، وأرتميتُ، وتَرَاميتُ تَرَاميًا، ورَامَيتُ مُرَاماةً: إذا رميت بالسهام الْقِسِيَّ، وقيل: خرجتُ أرتَمِي: إذا رميت الْقَنَصَ، وأترمَّى: إذا خرجت تَرمي في الأهداف، ونحوها انتهى

(1)

.

(1)

"لسان العرب" في مادة "رمى".

ص: 389

وكان يتعلم الرمي، امتثالًا للأمر في قوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية [الأنفال: 60]؛ إذ القوة معناها الرمي، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج مسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي".

وأخرج أحمد، وأصحاب السنن عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ارموا، واركبوا، وأن ترموا خير من أن تركبوا".

(بِأَسْهُم لي) جمع سَهْم: واحدُ النَّبْل، وقيل: نفسُ النَّصْل، ويجمع على سهام (بِالْمًدِينَةِ) النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام (إِذِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَجَمَعْتُ أَسْهُمِي) أي لئلا تَضيع عليه لو تركها مفرّقةَ، وفي رواية مسلم:"فنبذتها"، أي طرحتها، وترك الاشتغال بها (وَقُلْتُ: لأَنْظُرَنَّ مَا أَحْدَثَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ) ظنّ عبد الرحمن أنه لا بُدّ أن يتجدّد للنبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف شيء من السنن، فأراد أن ينظر إليه.

(فَأَتَيْتُهُ مِمَّا يَلِي ظَهْرَهُ) أي من ورائه (وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) جملة في محل نصب على الحالية (فَجَعَل) أي شرع، وأخذ (يُسَبِّحُ، وَيُكَبِّرُ، وَيَدْعُو) اللَّه سبحانه وتعالى، وفي رواية مسلم: "فأتيته، وهو قائم في الصلاة، رافع يديه

" قال النووي رحمه الله: فيه دليل لأصحابنا في رفع اليدين في القنوت، وردٌّ على من يقول لا تُرفع الأيدي في دعوات الصلاة انتهى.

فبينت رواية مسلم أن التسبيح، والتكبير، والدعاء المذكور كان في الصلاة. وفيه استحباب التسبيح، والتكبير، والدعاء في صلاة الكسوف (حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا) بالبناء للمفعول، أي أزيل الانكساف عن الشمس، فنائب الفاعل ضمير يعود إلى الانكساف المفهوم من "انكسفت"، ويحتمل أن لا يكون في "حُسر" ضمير، فيكون مسندًا إلى الجارّ والمجرور، أي أزيل، وكشف عن الشمس ما بها من الانكساف (قَالَ: ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ) ظاهره أنه صلى بعد إنجلاء الشمس، وهو مخالف لسائر الأحاديث.

قال النووي في "شرح مسلم": هذا مما يُستشكل، ويُظنُّ أن ظاهره أنه ابتدأ صلاة الكسوف بعد إنجلاء الشمس، وليس كذلك، فإنه لا يجوز ابتداء صلاتها بعد الانجلاء، وهذا الحديث محمول على أنه وجده في الصلاة، كما صرح به في الرواية الثانية، ثم جمع الراوي جميع ما جرى في الصلاة، من دعاء، وتكبير، وتهليل، وتسبيح، وتحميد، وقراءة سورتين في القيامين الآخرين للركعة الثانية، وكانت السورتان بعد الانجلاء

ص: 390

تتميمًا للصلاة، فتمت جملة الصلاة ركعتين، أولاهما في حال الكسوف، وأخراهما بعد الانجلاء، وهذا الذي ذكرته من التقدير لا بُدّ منه، لأنه مطابق للرواية الثانية، ولقواعد الفقه، ولروايات باقي الصحابة، والروايةُ الأولى

(1)

محمولة عليه أيضًا لتتفق الروايتان.

ونقل القاضي عن المازريّ أنه تأوله على صلاة ركعتين تطوّعًا مستقلًا بعد انجلاء الكسوف، لا أنها صلاة كسوف، وهذا ضعيف، مخالف لظاهر الرواية الثانية. واللَّه أعلم انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما أول به المازري -رحمه اللهُ تعالى- هو الصواب، وأما تأويل النووي فتكلّفٌ بعيد، ترده رواية المصنف، بلفظ:"ثم قام، فصلى ركعتين، وأربع سجدات"، فقول:"وأربع سجدات" صريح في ردّ تأويله بأن معناه تيمم الركعة الثانية، إذ ليس فيها إلا سجدتان، فظهر بهذا أنه إنما صلى بعد الانجلاء ركعتين كاملتين، فيهما ركوعان، وأربع سجدات، شكرًا للَّه تعالى في إزالته كسوف الشمس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد الرحمن بن سمرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-2/ 1460 - وفي "الكبرى"-2/ 1841 - بالسند المذكور.

وأخرجه (م) 3/ 35 و 3/ 36 (د) 1195 (أحمد) 5/ 61 (ابن خزيمة)1373. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

(1)

لفظ الرواية الأولى في "صحيح مسلم". "فانتهيت إليه، وهو رافع يديه يدعو، ويكبر، ويحمد، ويهلّل، حتى جُلِّي عن الشمس، فقرأ سورتين، وركع ركعتين". ولفظ الثانية فيه: "فأتيته وهو قائم في الصلاة، رافع يديه، فجعل يسبح، ويحمد، ويهلّل، ويدعو حتى حُسِرَ عنها، قال: فَلَمّا حُسِرَ عنها قرأ سورتين، وصلى ركعتين". انتهى "صحيح مسلم" بشر النووي 6/ 216 - 217.

(2)

"شرح مسلم" 6/ 217.

ص: 391

‌3 - (الأَمْرُ بالصَّلَاةِ عَنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ)

1461 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ

(1)

مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَصَلُّوا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) المرادي المصريّ، ثقة [10] تقدم 19/ 20.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصري الحافظ المثبت [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(عمرو بن الحارث) المصري، ثقة ثبت [7] تقدم 63/ 79.

4 -

(عبد الرحمن بن القاسم) التيمي أبو محمد المدني، ثقة ثبت [6] تقدم 120/ 166

5 -

(القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصديق التيمي المدني أحد الفقهاء السبعة، ثقة ثبت، من كبار [3] تقدم 120/، 166 والصحابي تقدم قريبًا، وكذا شرح الحديث سبق في حديث أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه - في الباب الأول.

وقوله: "لا يخسفان" بفتح أوله، ويجوز الضمّ، وحكى ابن الصلاح منعه. وروى ابن خزيمة، والبزار من طريق نافع عن ابن عمر، قال:"خسفت الشمس يوم مات إبراهيم "الحديث، وفيه:"فافزعوا إلى الصلاة، وإلى ذكر اللَّه، وادعوا، وتصدَّقوا". قاله في "الفتح".

[تنبيه]: ذكر المصنف -رحمه اللَّه تعالى- ثلاثة أبواب متتالية في الأمر بصلاة الكسوف، وفيها الأمر بمطلق الصلاة، وكذا فعل البخاري -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، فإنه أورد في أول الباب أربعة أحاديث، وفيها الأمر بمطلق الصلاة، فقال في "الفتح": ابتدأ البخاريّ أبواب الكسوف بالأحاديث المطلقة في الصلاة بغير تقييد بصفة، إشارة منه إلى أن ذلك يُعطي أصل الامتثال، وإن كان إيقاعها على الصفة المخصوصة عنده أفضل، وبهذا قال أكثر العلماء، ووقع لبعض الشافعية، كالبندنيجي أن صلاتها ركعتين كالنافلة، لا يُجزىء. واللَّه أعلم انتهى

(2)

.

(1)

أشار في الهندية أنه وقع في بعض النسخ: "ولكنها آية" بالإفراد، وفيه بُعْدٌ: واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"فتح" 3/ 226.

ص: 392

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن هذا الاستنباط بعيد، بل الظاهر من عمل البخاري، والمصنف في هذا أنهما أوردا أحاديث الإطلاق، ثم أتبعاها بأحاديث التقييد بيانا لكون المراد بالصلاة في أحاديث الإطلاق هو الصلاةَ الموصوفةَ في أحاديث التقييد، فكأنهما أجملا، ثم فصلا.

ثم إن ما قاله بعض الشافعية هو الظاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة، ثم بين كيفية تلك الصلاة بفعله، فكيف يوجد الامتثال بصلاة مخالفة لفعله المبين لأمره. فليُتَأَمَّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 3/ 1461 - وفي "الكبرى"-3/ 1844 - بالسند المذكور.

وأخرجه (خ) 2/ 42 و4/ 131 (م) 3/ 36 (أحمد) 2/ 109 أو 2/ 118. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في صلاة الكسوف:

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح مسلم": (واعلم): أن صلاة الكسوف رويت على أوجه كثيرة، ذكر مسلم منها جملة، وأبو داود أخرى، وغيرهما أخرى، وأجمع العلماء على أنها سنة، ومذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء أنه يُسنّ فعلها جماعة، وقال العراقيون فرادى، وحجة إلى جمهور الأحاديث الصحيحة في مسلم وغيره.

واختلفوا في صفتها، فالمشهور في مذهب الشافعي أنها ركعتان في كل ركعة قيامان، وقراءتان، وركوعان، وأما السجود فسجدتان كغيرهما، وسواء تمادى الكسوف، أم لا، وبهذا قال مالك، والليث، وأحمد، أبو ثور، وجمهور علماء الحجاز، وغيرهم.

وقال الكوفيون: هما ركعتان كسائر النوافل، عملًا بظاهر حديث جابر بن سمرة، وأبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين.

وحجة الجمهور حديث عائشة، من رواية عروة، وعمرة، وحديث جابر، وابن عباس، وابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان، وسجدتان.

قال ابن عبد البرّ: وهذا أصح ما في هذا الباب، قال: وباقي الروايات المخالفة معللة ضعيفة.

ص: 393

وحملوا حديث ابن سمرة بأنه مطلق، وهذه الأحاديث تُبيّن المراد به.

وذكر مسلم في رواية عن عائشة، وعن ابن عباس، وعن جابر ركعتين، في كل ركعة ثلاث ركعات، ومن رواية ابن عباس، وعلي ركعتين في كل ركعة أربع ركعات، قال الحفاظ: الروايات الأُوَل أصحّ، ورواتها أحفظ وأضبط.

وفي رواية لأبي داود من رواية أُبيّ بن كعب ركعتين في كلّ ركعة خمس ركعات، وقد قال بكل نوع بعض الصحابة.

وقال جماعة من أصحابنا الفقهاء المحدثين، وجماعة من غيرهم: هذا الاختلاف في الروايات بحسب اختلاف حال الكسوف، ففي بعض الأوقات تأخر انجلاء الكسوف، فزاد عدد الركوع، وفي بعضها أسرع الانجلاء، فاقتصر، وفي بعضها توسط بين الإسراع والتأخر، فتوسط في عدده.

واعترض الأولون على هذا بأن تأخر الانجلاء لا يُعلَم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدلّ على أنه مقصود في نفسه منويّ من أول الحال.

وقال جماعة من العلماء، منهم إسحاق بن راهويه، وابن جرير، وابن المنذر: جرت صلاة الكسوف في أوقات، واختلافُ صفاتها محمول على بيان جواز جميع ذلك، فتجور صلاتها على كل واحد من الأنواع الثابتة، وهذا قويّ، واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" عند شرح حديث عائشة رضي الله عنها الآتي - 11/ 1474 - : واستدلّ به على أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة في القيام وغيره، ومن زيادة ركوع في كل وكعة.

وقد وافق عائشةَ على رواية ذلك عبدُ اللَّه بن عباس، وعبدُ اللَّه بن عمرو، متفق عليهما، ومثله عن أسماء بنت أبي بكر، وعن جابر عند مسلم، وعن عليّ عند أحمد، وعن أبي هريرة عند النسائي، وعن ابن عمر عند البزار، وعن أم سفيان عند الطبراني، وفي رواياتهم زيادة، رواها الحفاظ الثقات، فالأخذ بها أولى من إلغائها، وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا.

وقد وردت الزيادات في ذلك من طرق أخرى، فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس أن في كل ركعة أربع ركوعات، ولأبي داود من حديث أبىّ بن كعب، والبزار من حديث

(1)

"شرح مسلم" 6/ 198 - 199.

ص: 394

عليّ أن في كل ركعة خمس ركوعات، ولا يخلو إسناد منها عن علة، وقد أوضح ذلك البيهقيّ، وابن عبد البرّ.

ونقل صاحب "الهدي" عن الشافعيّ، وأحمد، والبخاريّ أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطًا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن ردّ بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام، وإذا اتحدت القصة تعيّن الأخذ بالراجح.

وجمع بعضهم بين الأحاديث بتعدد الواقعة، وأن الكسوف وقع مرارًا، فيكون كلّ من هذه الأوجه جائزًا، وإلى ذلك نحا إسحاق، لكن لم تثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات.

وقال ابن خزيمة، وابن المنذر، والخطابيّ، وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك، وهو من الاختلاف المباح، وقوّاه النوويّ في شرح مسلم.

وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع، والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعًا، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثًا، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك.

وتعقبه النووي وغيره بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يُعلم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدلّ على أنه مقصود في نفسه مَنْويّ من أول الحال.

وأجيب باحتمال أن يكون الاعتماد على الركعة الأولى، وأما الثانية، فهي تبع لها، فمهما اتفق وقوعه في الأولى بسبب بطء الانجلاء يقع مثله في الثانية ليساوي بينهما، ومن ثَمَّ قال أصبغ: إذا وقع الانجلاء في أثنائها يصلي الثانية كالعادة.

وعلى هذا فيدخل المصلي فيها على نية مطلق الصلاة، ويزيد في الركوع بحسب الكسوف، ولا مانع من ذلك.

وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس، هل انجلت، أم لا، فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه، ففعل ذلك مرة، أو مرارًا، فظنّ بعض من رآه يفعل ذلك ركوعًا زائدًا.

وتُعُقّب بالأحاديث الصحيحة في أنه أطال القيام بين الركوعين، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل، ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه ذكر ذلك الاعتدال، ثم شرع في القراءة، فكلّ ذلك يردّ هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم عن العبادة المشروعة، أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة، لا

ص: 395

عَهدَ بها، وهو ما فرّ منه انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما سبق من بيان الأدلة أن ما ذهب إليه الجمهور من أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة قيامان، وقراءتان، وركوعان، هو الراجح؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بذلك واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في صلاة الكسوف في أوقات الكراهة على أقوال:

الأول: لا صلاة فيها، بل يذكرون اللَّه، ويدعون، هذا مذهب الحسن البصري، والزهريّ، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة بن خالد، وعمرو بن شعيب، وابن أبي مُليكة، وإسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى، وقتادة، وأبي بكر بن عمرو بن حزم. وقال مالك: لا يُصَلِّي إلا في حين صلاة. وقال الثوري: لا يُصلي في الكسوف في غير وقت صلاة، وقال يعقوب: إذا انكسفت الشمس بعد العصر، فليس بساعة صلاة التطوع، ولكن الدعاء، والتضرع حتى تنجلي.

والثاني: متى انكسفت الشمس، نصفَ النهار، أو بعد العصر، أو قبل ذلك صلى الإمام بالناس صلاة الكسوف، لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة لكسوف الشمس، فلا وقت يحرم فيه صلاة أمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الشافعي ومن تبعه، وبه قال أبو ثور.

والثالث: إن انكسفت الشمس بعد العصر، فإنهم يُصلون كذلك مالم تدن للغروب، وكذلك بعد الفجر مالم يطلع حاجب الشمس إلى أن يكون قيد رمح، أو رمحين، لأنهما وقتان تُصلى فيهما الفوائت، والمكتوبات. وهذا قول إسحاق بن راهويه.

والرابع: يصلي للكسوف إلا في الأوقات الثلاثة التي نهي عن الصلاة فيها، وهي وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، ووقت الزوال. وبه قال ابن المنذر

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المذهب الراجح عندي ما ذهب إليه الشافعي، ومن تبعه أنها تصلى وقت ما حصل الانكساف من ليل أو نهار؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا رأيتموهما فصلوا"، فقد أمر بالصلاة في أيّ وقت رأينا الانكساف ولم يخص وقتًا دون وقت، وقد سبق في أبواب الأوقات ترجيح القول بأن ذوات الأسباب تجوز في أوقات الكراهة. ويُرَجَّح أيضًا - كما قال في "الفتح"-: بإن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل

(1)

"فتح" 3/ 229 - 230.

(2)

"الأوسط" 5/ 312 - 313 و"الفتح" 3/ 225.

ص: 396

الانجلاء، وقد اتفقوا على أنها لا تُقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله، فيفوت المقصود.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولم أقف في شيء من الطرق مع كثرتها على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها إلاَّ ضُحًى

(1)

، لكن ذلك وقع اتفافًا، ولا يدلّ على منع ما عداه، واتفقت الطرق على أنه بادر إليها انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌4 - (بَابُ الأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ كُسُوفِ الْقَمَرِ)

1462 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عز وجل، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَصَلُّوا»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي، أبو يوسف البغدادي، ثقة حافظ [10] تقدم 21/ 22.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام المشهور، تقدم قريبًا.

3 -

(إسماعيل) بن أبي خالد الكوفي، ثقة ثبت [4] تقدم 13/ 471.

4 -

(قيس) بن أبي حازم الكوفي، ثقة [2] تقدم 46/ 954.

5 -

(أبو مسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضي اللَّه تعالى عنه - تقدم 6/ 494.

وشرح هذا الحديث تقدم في حديث أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه -.

وقوله: "فإذا رأيتموهما" بالتثنية، وفي نسخة:"فإذا رأيتموها" بالإفراد، والضمير يعود إلى الآية.

(1)

ووقع في "الفتح""صلاها الأضحى"، والظاهر أنه تصحيف. واللَّه أعلم.

(2)

"فتح" 3/ 225.

ص: 397

والمعنى إذا رأيتم كلاًّ منهما بانفراده، لاستحالة وقوع ذلك فيهما معًا في حالة واحدة عادة، وإن كان ذلك جائزًا في القدرة الإلهية.

واستدلّ به المصنف -رحمه اللَّه تعالى- على مشروعية الصلاة في كسوف القمر، وسيأتي بيان الخلاف فيه في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.

وقوله: "فصلوا"، استدلّ به على أنه لا وقت لصلاة الكسوف معينٌ؛ لأن الصلاة عُلّقت برؤيته، وهي ممكنة في كل وقت من ليل أو نهار، وتقدم بيان الخلاف في المسألة الرابعة من الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه المصنف هنا 4/ 1462 - وفي "الكبرى" -4/ 1854 - بهذا السند.

وأخرجه (خ) 2/ 42 و2/ 48 و4/ 132 (م) 3/ 35 (ق) 1261 (الحميدي) 455 أحمد 4/ 122 (الدارمي) 1533 (ابن خزيمة)1370. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف العلماء في صلاة الكسوف للقمر:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلفوا في الصلاة عند كسوف القمر، فرأت طائفة أن يُصلَّى عند كسوف القمر، روينا ذلك عن ابن عباس أنه فعل ذلك. وبه قال عطاء، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

قال ابن المنذر: والأخبار دالّة على هذا القول، لأنه سُوِّي بينهما، وأُمِر بالصلاة عند كسوفهما، بُيَّنَ ذلك في الأخبار الثابتة عن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم.

واستدلّ بحديث أبي مسعود المذكور في الباب، وبحديث ابن مسعود رضي الله عنه، الذي أخرجه هو، وابن خزيمة في "صحيحه"، وفي سنده ضعف، وفيه: "فإذا رأيتم ذلك، فاحمدوا اللَّه، وكبروا، وسبحوا، وصلوا حتى ينجلي أيهما انكسف

".

قال: وفي هذا من البيان ما لا يُشكل على من سمعه أن يصلى لكسوف القمر.

قال: والذي ذكرته قول جلّ أهل العلم، غير مالك، فإن ابن نافع حكى عنه أنه قال: ليس لكسوف القمر صلاة معروفة محدودة، ولا أرى بأسًا أن يصلي القوم فُرادى، كل رجل منهم لنفسه ركعتين ركعتين، مثل صلاة النافلة.

ص: 398

وحكى ابن القاسم عنه أنه قال: وليس في صلاة خسوف القمر سنة، ولا صلاة كصلاة كسوف الشمس.

قال ابن المنذر: وهذه غفلة منه، والسنة دالّة على القول الأول انتهى كلام ابن المنذر ببعض تصرف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي رجحه ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- من مشروعية الصلاة لخسوف القمر هو الراجح عندي؛ لظهور أدلته، كحديت الباب، وكحديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره آنفًا، فإنه، وإن كان في سنده ضعف، إلا أن الأحاديث الصحاح تشهد له، وكحديث أبي بكرة عند ابن حبان بلفظ: "فإذا رأيتم شيئًا من ذلك

"، وعنده من حديث عبد اللَّه بن عمرو: "فإذا انكسف أحدهما، فافزعوا إلى المساجد".

فهذه النصوص صريحة في استحباب الصلاة جماعة في خسوف القمر، فما قاله الجمهور هو الحق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌5 - (بَابُ الأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ الْكُسُوفِ حَتَّى تَنْجِلِيَ)

1463 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَامِلٍ الْمَرْوَزِيُّ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ، مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عز وجل، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدم الكلام عليه سندًا ومتنًا في -1/ 1459 - وممن لم يتقدم هناك من رجال إسناده:

1 -

(محمد بن كامل المروزي) ثقة، من صغار [10] تقدم 188/ 301.

2 -

(هُشيم) بن بشير الواسطي، ثقة ثبت يرسل ويدلس كثيرًا [7] تقدم 88/ 109.

(1)

"الأوسط" 5/ 310 - 312.

ص: 399

وقوله: "حتى تنجلي" بإفراد الضمير، باعتبار الآية، أي حتى تنجلي الآية التي وقعت بكم.

واستدلّ به المصنف -رحمه اللَّه تعالى- على مشروعية إطالة الصلاة حتى يقع الانجلاء، وهو أيضًا ظاهر فعله صلى الله عليه وسلم الآتي في الحديث التالي، "فصلى ركعتين حتى انجلت".

لكن قال الطحاوي: إن قوله في الرواية الأخرى-24/ 1502 - : "فصلوا، وادعوا" يدل على أنه إن سلم من الصلاة قبل الانجلاء يتشاغل بالدعاء حتى تنجلي.

وقرره ابن دقيق العيد بأنه جعل الغاية لمجموع الأمرين، ولا يلزم من ذلك أن يكون غاية لكل منهما على انفراده، فجاز أن يكون الدعاء ممتدًّا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة، فيصير غايةً للمجموع، ولا يلزم منه تطويل الصلاة، ولا تكريرها انتهى

(1)

وهو بحث نفيس جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1464 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ

(2)

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَوَثَبَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتْ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث هو الحديث الذي قبله.

ورجال إسناده: ستة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 4/ 4.

2 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

3 -

(خالد) بن الحارث الهجيمي البصري، ثقة ثبت [8] تقدم 42/ 47.

4 -

(أشعث) بن عبد الملك الْحُمْراني، أبو هانئ البصري، ثقة فقيه [6] تقدم 97/ 1040.

والباقيان تقدما بالرقم المذكور. وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "فكسفت الشمس" بفتح الكاف والسين، مبنيّا للفاعل، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، لأنه كما تقدم يكون لازما، ومتعديًا، يقال: كَسَفَت الشمسُ، وكسَفَها اللَّه.

وقوله: "فوَثَبَ" من باب وعد، وثوبًا، ووَثيبًا: قَفَزَ، وهو كناية عن إسراعه. وقوله:"يجُرُّ رداءه" جملة في محل نصب على الحال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"فتح" 3/ 224.

(2)

وفي "نسخة "مع النبي".

ص: 400

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌6 - (بَابُ الأَمْرِ بِالنِّدَاءِ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ)

1465 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا، يُنَادِي أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعُوا، وَاصْطَفُّوا، فَصَلَّى بِهِمْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عثمان بن سعيد) الحمصي، صدوق [10] تقدم 21/ 535

2 -

(الوليد) بن مسلم الدمشقي، ثقة، كثير التدليس والتسوية [8] تقدم 5/ 454.

3 -

(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الإمام الحجة [7] تقدم 45/ 56.

4 -

(الزهري) الإمام الشهير تقدم قريبًا.

5 -

(عروة) بن الزبير المدني الفقيه [3] تقدم 40/ 44.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، تقدمت 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وابن ماجه. ومنها: أن نصفه الأول مسلسل بالشاميين، والثاني بالمدنيين. ومنها: أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة عروة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ) فيه إطلاق الخسوف بالخاء للشمس، وقد تقدم الكلام عليه أول الكتاب (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي في زمنه (فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا، يُنَادِي) وفي نسخة: "فنادى"(أَنِ) بفتح الهمزة،

ص: 401

وتخفيف النون تفسيرية (الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ) بنصب "الصلاة" على الإغراء، ونصب "جامعة" على الحال.

وروي بتشديد "أن"، فـ"الصلاة" اسمها، و"جامعةٌ" خبرها، أو الخبر محذوف، أي حاضرة، و"جامعةٌ" حال.

وقال بعض العلماء: يجوز في "الصلاة جامعة" أربعة أوجه: نصبهما على أن الأول مفعول لمحذوف، والثاني منصوب على الحال، أي أحضروا الصلاةَ حال كونها جامعةً، ورفعهما على أنهما مبتدأ وخبر، ورفع الأول مبتدأً خبره محذوف، أي الصلاةُ حاضرةٌ، ونصب الثاني على الحال، ونصب الأول لما تقدم، ورفع الثاني على أنه خبر لمحذوف، أي هي جامعة.

وإسناد الجمع إليها مجاز عقليّ من قبيل الإسناد إلى السبب.

(فَاجْتَمَعُوا، وَاصْطَفُّوا، فَصَلَّى بهِمْ أَرْبَعَ رَكَعَاتِ) أي أربع ركوعات، من تسمية الجزء باسم الكلّ (فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتِ) يعني أنه ركع ركوعين، وسجد سجدتين في كل واحدة من الركعتين.

قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ رحمه الله هذا أصح ما في هذا الباب، وباقي الروايات المخالفة معللة ضعيفة انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 6/ 1465 - وفي "الكبرى"-6/ 1849 - عن عمرو بن عثمان بن سعيد، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة عنها. وفي 7/ 1466 - و"الكبرى"-7/ 1850 - عن محمد بن خالد بن خليّ، عن بشر بن شعيب بن أبي حمزة، عن أبيه عن الزهريّ به. وفي 11/ 1472 - و"الكبرى" 11/ 1857 - عن محمد ابن سلمة، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب به. وفي 11/ 1473 - و"الكبرى" 11/ 1858 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن الوليد بن مسلم به. وفي- 11/ 1474 - و"الكبرى" 11/ 1859 - عن قتيبة، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه به. وفي 18/ 1494 - و"الكبرى" 18/ 1879 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن الوليد عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري به. وفي "الكبرى" أيضًا 18/ 1880 - عن محمد بن

ص: 402

يحيى، عن أبي داود، عن سليمان بن كثير، عن الزهري به. وفيه أيضًا 18/ 1881 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن يزيد عن سفيان بن حسين، عن الزهري به. وفي 21/ 4971 - و"الكبرى" 188421 - عن عمرو بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر به. وفي 23/ 1500 - و"الكبرى"-23/ 1887 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة، عن هشام بن عروة به.

وأخرجه (خ) 2/ 42 و 2/ 43 و 2/ 44 و 2/ 49و 2/ 82 و 4/ 132 و 6/ 69 و 7/ 45 و 8/ 160 (م) 3/ 27 و 3/ 28 و 3/ 29 (د) 1180و 1187 و 1188 و 1190 (ت) 561 و563 (ق)1263.

(مالك في الموطإ) ص 132 (الحميدي) رقم 180 (أحمد) 6/ 32 و 6/ 65 و 6/ 32 و 6/ 164و6/ 168 (الدارمي) 1537 (ابن خزيمة) 1379 و 1387 و 1398. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية النداء بـ "الصلاة جامعة" عند الكسوف، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك، وقد اتفقوا على أنه لا يؤذن لها، ولا يُقام.

ومنها: مشروعية الاجتماع لصلاة الكسوف، وصلاتها جماعة.

ومنها: بيان كيفية صلاة الكسوف بأنها ركعتان، في كل ركعة ركوعان، وسجدتان، وهذه أرجح الكيفيات، كما تقدم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌7 - (بَابُ الصُّفُوفِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ)

1466 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَامَ، فَكَبَّرَ

(1)

،

(1)

وفي نسخة: "وكَبر" بالواو.

ص: 403

وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله، وممن لم يُذكر من رجاله هناك:

1 -

(محمد بن خالد بن خَليّ) بوزن "عَلِيٍّ" الكَلَاعي، أبو الحسين الحمصي، صدوق [11].

روى عن أبيه، وأحمد بن خالد الوَهْبي، وبشر بن شُعيب، وغيرهم. وعنه: النسائي،، وابنه أبو بكر أحمد بن محمد، وأبو بشر الدُّولابي، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: صدوق. وقال الدارقطني: ليس به بأس. انفرد به المصنف، روى عنه في هذا الكتاب تسعة أحاديث.

2 -

(بشر بن شُعيب) بن أبي حمزة القُرشي مولاهم، أبو القاسم الحمصي، ثقة، من كبار [10].

روى عن أبيه، وعنه البخاري في غير "الجامع"، وروى له هو، والترمذي، النسائي بواسطة إسحاق غير منسوب، وكأنه الكَوْسج، والذُّهْليِّ، وأبي بكر بن زنجويه، وصفوان بن عمرو الصغير، ومحمد بن خالد بن خَليّ، وعمران بن بَكّار.

قال أبو زرعة: سماعه كأبي اليمان إنما كان إجازة، قال البخاري: تركناه حيا سنة (212) وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (13).

وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه؟ فقال: ذُكر لي أن أحمد بن حنبل قال له: سمعت من أبيك؟ قال: لا، قال: فقرىء عليه، وأنت حاضر؟ قال: لا، قال: فقرأت عليه؟ قال: لا، قال: فأجاز لك؟ قال: نعم، قال: فكتب عنه على معنى الاعتبار، ولم يحدّث عنه.

وقال أبو اليمان الحكم بن نافع: كان شُعيب بن أبي حمزة عَسرًا في الحديث، فدخلنا عليه حين حضرته الوفاةُ، فقال: هذه كتبي، قد صححتها، فمن أراد أن يأخذها، فليأخذها، ومن أراد أن يَعرض، فليَعْرض، ومن أراد أن يسمعها من ابني، فليسمعها، فإنه قد سمعها مني.

قال الحافظ: فهذا معارض لحكاية أبي حاتم المنقطعة، ومما يؤيده أن أبا حاتم قال في تلك الحكاية: إن أحمد لم يُحدث عن بشر، وليس الأمر كذلك، بل حديثه عنه في "المسند".

وأما ابن حبان ففصّل، فقال في "الثقات": كان متقنًا، وبعض سماعه عن أبيه

ص: 404

مناولة، وسمع نسخة شعيب سماعًا. وذكره ابن حبان أيضًا في "الضعفاء"، ونقل عن البخاريّ أنه قال: تركناه، وهذا خطأ نشأ عن حذف، فالبخاريّ إنما قال: تركناه حَيّا، كما تقدّم، رقد تعقّب ذلك أبو العباس النَّبَاتيّ على ابن حبان في "الحافل"، فأسهب.

روى له البخاري، والترمذي، والمصنف، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.

3 -

(شعيب بن أبي حمزة) دينار الحمصي، ثقة ثبت [7] تقدم 69/ 85.

وقوله: "وصفّ الناس" يحتمل نصب "الناس"، ورفعه، لأن "صفّ" يتعدى، ويلزم، يقال: صففتُ القومَ، من باب قتل، فاصطفّوا، وصَفَفْتهم، فصَفُّوا هم. قاله في "المصباح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌8 - (بَابٌ كَيْفَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "باب" يحتمل تنوينه، وإضافته إلى جملة "كيف صلاة الكسوف".

و"كيف" اسم استفهام في محلّ رفع خبر مقدّم وجوبًا، لكون الاستفهام له صدر الكلام، كما أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

كَذَا إِذَا يَسْتَوْجِبُ التَّصْدِيرَا. . . كَـ "أَيْنَ مَنْ عَلِمْتَهُ نَصِيرَا"

و"صلاة الكسوف" مبتدأ مؤخّر. واللَّه تعالى أعلم، بالصواب.

1467 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ، ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرَقيّ المذكور قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(إسماعيل بن عُلَيّة) ابن إبراهيم البصري، ثقة ثبت [8] تقدّم 18/ 19.

3 -

(سفيان الثوريّ) الإمام المثبت الحجة [7] 33/ 37.

4 -

(حبيب بن أبي ثابت) قيس، أو هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى

ص: 405

الكوفي، ثقة فقيه جليل، كثير الإرسال والتدليس [3] 121/ 170.

5 -

(طاوس) بن كيسان اليماني، ثقة ثبت حجة [3] 27/ 31.

6 -

(ابن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث، يوضّح معناه الحديثُ الذي بعده.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا اختُلف في تصحيحه، فمنهم من صححه، كالإمامين: مسلم، وابن خزيمة، فقد أخرجاه في "صحيحيهما"، ومنهم من ضعفه، لأن له علّتين:

(إحداهما): فيه حبيب بن أبي ثابت، فإنه مدلّس، وقد عنعنه.

(والثانية): مخالفته لغيره ممن روى عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" ج 7 ص 98 - : خبر حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف الشمس ثماني ركعات، وأربع سجدات"، ليس بصحيح، لأن حبيبا لم يسمع من طاوس هذا الخبر. انتهى.

وقال الحافظ البيهقيّ رحمه الله في "سننه" ج 3/ ص 327: وحبيب، وإن كان من الثقات، فقد كان يدلّس، ولم أجده ذكر سماعه في هذا الحديث عن طاوس، ويحتمل أن يكون حمله عن غير موثوق به، عن طاوس، وقد رَوَى سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عبّاس من فعله أنه صلاها ست ركعات، في أربع سجدات، فخالفه في الرفع، والعدد جميعًا. انتهى.

وفيه علة أخرى، وهي الشذوذ، فقد روى غير واحد، عن ابن عباس أنها أربع ركعات، وأربع سجدات. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي، أن الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنه هو الآتي في الباب التالي، وهو أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بأربع ركوعات، وأربع سجدات، لاتفاق كثير بن عباس، وعطاء بن يسار في روايته عنه، ولموافقته للأحاديث الصحيحة في هذا الباب.

والحاصل أن حديث حبيب بن أبي ثابت هذا غير صحيح، لما ذكر من العلتين.

وأما دعوى إمكان الجمع بحمله على تعدد القصّة، كما قال ابن خزيمة، فيبعده أن الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف مرّة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 406

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -8/ 1467 - وفي "الكبرى" 8/ 1851 - بالإسناد المذكور، وفي 8/ 1468 - و"الكبرى"-8/ 1852 - عن محمد بن المثنّى، عن يحيى القطان، عن الثوريّ به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 3/ 34 و 3/ 34 (د) 1183 (ت) 560 (أحمد) 1/ 225 و 1/ 346 (الدارمي) 1534 (ابن خزيمة)1385. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "وعن عطاء مثل ذلك" يعني أن حبيب بن أبي ثابت روى عن عطاء بن أبي رباح مثل ما رواه عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وظاهر صنيع الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" أن رواية عطاء مرسلة، حيث أوردها في قسم "المراسيل" ج 13 ص 299 - واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1468 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوفٍ، فَقَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، وَالأُخْرَى مِثْلُهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث مختلف في صحته، كما بينته في الحديث الذي قبله، ومحمد بن المثنى، هو أبو موسى العنزي البصري الثقة، و"يحيى" هو ابن سعيد القطان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌9 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ عَنِ ابْنِ عَباسِ)

1469 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ ابْنِ نَمِرٍ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبَّاسٍ ح وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ

ص: 407

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى يَوْمَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدموا قبل بابين، سوى:

1 -

(عبد الرحمن بن نَمِر) -بفتح النون، وكسر الميم- اليَحْصُبيّ، أبي عمرو الدمشقي، ثقة، لم يرو عنه غير الوليد [8] 35/ 568.

2 -

(كثير بن عباس) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشمي، أبو تَمَّام، المدني، ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، أمه أم ولد.

روى عن أبيه، وأخيه عبد اللَّه، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، والحجاج بن عمرو بن

غزيّة. وعنه الأعرج، والزهريّ، وأبو الأَصبغ السُّلَمي مولى بني سُليم، قال يعقوب بن شيبة: يُعدّ في الطبقة الأولى من أهل المدينة، ممن وُلد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مصعب الزبيريّ: كان فقيهًا فاضلًا، لا عَقِب له. وقال ابن حبّان في "الثقات": كان رجلاً صالحًا فاضلًا فقيهًا، مات بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان. ويُروى أن معاوية سأل رجلاً عن أعبد الناس بالمدينة؟ فقال: كثير بن العبّاس. وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة، وقال: لم يبلغنا أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، وكان رجلًا صالحًا فقيهًا، ثقة قليل الحديث. وروى ابن منده، وابن قانع في "معجم الصحابة" حديثًا يدلّ على صحبته، لكن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد اختُلف عليه فيه. وقال البغويّ: حدثنا داود بن عمرو، حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد اللَّه بن الحارث، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يَصُفّ عبد اللَّه، وعُبيد اللَّه، وكثيرَا بَني العباس، ويقول: "مَن سبق فله كذا

" الحديث، قال الحافظ: وهو مرسل جيّد الإسناد، وقد رواه أحمد بن حنبل في "مسنده" عن جرير مثله. وقال الدارقطنيّ في كتاب "الإخوة": روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مراسيل.

روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائيّ، له عندهم حديث الباب، وعند مسلم، والنسائي حديث العباس في غزوة حنين.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث أخرجه المصنّف رحمه الله هنا- 9/ 1469 - وفي "الكبرى" 9/ 1854 بالإسنادين المذكورين. وأخرجه (م) 3/ 29. (د) 1181.

وشرحه يعلم من شرح حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم 6/ 1465. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 408

‌10 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ)

1470 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

(1)

ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أُصَدِّقُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ بِالنَّاسِ قِيَامًا شَدِيدًا، يَقُومُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْكَعُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، رَكَعَ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ سَجَدَ، حَتَّى إِنَّ رِجَالاً يَوْمَئِذٍ يُغْشَى عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّ سِجَالَ الْمَاءِ لَتُصَبُّ عَلَيْهِمْ، مِمَّا قَامَ بِهِمْ، يَقُولُ إِذَا رَكَعَ:«اللَّهُ أَكْبَرُ» . وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . فَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُكُمْ بِهِمَا، فَإِذَا كَسَفَا، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل، حَتَّى يَنْجَلِيَا» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرَقيّ البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

2 -

(ابن عليّة) إسماعيل بن إبراهيم البصري، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

3 -

(ابن جُريج) عبد الملك بن عبد العزيز الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل [6] 28/ 32.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح المكي الإمام الفقيه الحجة [3] 112/ 154.

5 -

(عُبيد بن عُمير) بن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، ثقة ثبت [2] 12/ 416.

6 -

(عائشة) رضي الله عنها 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة "حدثني".

ص: 409

شرح الحديث

(عَنْ عَطَاءِ) بن أبي رباح، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْر) الليثي (يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أُصَدِّقُ) أي قال عبيد بن عمير: حدثني الشخص الذي أصدّق قولَه، لكونه ثقة (فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ عَائِشَةَ) أي قال عطاء: فظننتُ أن عبيد بن عمير يريد بالمبهم في قوله: من أُصدّق عائشةَ رضي الله عنها.

ولا يقال: إن الحديث له حكم المرسل، جريًا على قول من يقول: إن قوله: حدثني الثقة، وحدثني من أصدّق ليس بحجة، لأن الحديث التالي فيه تصريح عبيد بن عمير بأنها عائشة، فزال الإبهام (أَنَّهَا قَالَتْ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ) بفتح الكاف، والسين، من باب ضرب: أي ذهب ضوؤها، واسودّت (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي في وقته بالمدينة، في السنة العاشرة من الهجرة، كما عليه جمهور أهل السير، في ربيع الأول، أو في رمضان، أو ذي الحجة، في عاشر الشهر، وعليه الأكثر

(1)

(فَقَامَ بِالنَّاسِ قِيَامًا شَدِيدًا) أي على النفوس، والمراد بهذا القيام الصلاة بتمامها (يَقُومُ بِالنَّاسِ) بيان للقيام الشديد، وهذا من قبيل إحضار هيئة القيام في الحال، فلذلك أتى بصيغة المضارع، وكذا ما بعده، قاله السنديّ (ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْكَعُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَين، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَ رَكَعَاتِ) أراد بالركعات هنا الركوع، كما تقدّم مثله، وهذا محلّ الترجمة، حيث إنه يدلّ على كيفية أخرى لصلاة الكسوف غير ما تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها، فقد تقدّم عنها ركوعان في كلّ ركعة (رَكَعَ الثَّالِثَةَ، ثمَّ سَجَدَ) ولفظ أبي داود: "يركع الثالثة، ثم يسجد"(حَتَّى إِنَ رِجَالاً يَوْمَئِذِ يُغْشَى عَلَيْهِمْ) غاية لشِدة طول القيام، يعني أنه صلى الله عليه وسلم أطال القيام حتى يُغشى على بعضهم (حَتَّى إِن سِجَالَ المْاءِ) بكسر السين المهملة، وفتح الجيم: جمع سَجْل، بفتح، فسكون، وهو الدلو العظيمة، وبعضهم يزيد:"إذا كانت مملوءةً"

(2)

، وهو المناسب هنا، والإضافة بمعنى اللام (لَتُصَبُّ عَلَيْهِمْ، ممِّا قَامَ بهِمْ) يعني أن الماء الذي في الدلو يُصبّ على الذين يُغشى عليهم من طول قيامه صلى الله عليه وسلم، ليزول عنهم الغَشَيان (يَقُولُ إِذَا رَكَعَ:"اللَّهُ أَكْبَرُ"، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ:"سَمِعَ اللَّهُ لمِنْ حَمِدَهُ") أي "مع ربنا ولك الحمد"، لما يأتي في الباب التالي بلفظ:"فقال: سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد"(فَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى تَجَلَّتِ الشَّمْسُ) أي انكشفت، وظهر ضوؤها (فَقَامَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ،

(1)

"عون المعبود" ج 4 ص 41.

(2)

"المصباح المنير"

ص: 410

لَا يَنْكَسِفَانِ لمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لحِيَاتِهِ) قاله ردًا لما زعمه بعض الناس، من أنّ الشمس انكسفت لموت ابنه إبراهيم، كما تقدّم بيان ذلك (وَلَكِنْ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ) أي علامتان عظيمتان دالّتان على قدرة اللَّه تعالى (يُخَوِّفُكُمْ بِهِمَا، فَإِذَا كَسَفَا) بالبناء للفاعل، وللمفعول، فإن الفعل يتعدّى، ويلزم، كما تقدم في أول "كتاب الكسوف" (فَافْزَعُوا إِلىَ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل) وفي رواية أبي داود:"فافزعوا إلى الصلاة"(حَتَّى يَنْجَلِيَا") أي ينكشفا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -10/ 14670 - وفي "الكبرى" - 10/ 1854 - بالإسناد المذكور، وفي -10/ 1471 - و"الكبرى" 10/ 1855 - عن إسحاق بن راهويه، عن معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه، عن قتادة، عن عطاء به. وفي "الكبرى" 10/ 1856 - عن إسحاق ابن راهويه، عن وكيع، عن هشام به. واللَّه أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 3/ 29 (د) 1177 (أحمد) 6/ 76 (ابن خزيمة) 1382 و 1383. واللَّه تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1482 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، فِي صَلَاةِ الآيَاتِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ، فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، قُلْتُ لِمُعَاذٍ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ ، قَالَ: لَا شَكَّ، وَلَا مِرْيَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الإمام الحافظ الحجة [10] 2/ 2.

2 -

(معاذ بن هشام) الدستوائي البصري، صدوق ربما وهم [9] 30/ 34.

3 -

(أبوه) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ الحافظ الحجة [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري اللإمام الحافظ الحجة [4] 3/ 34. والباقون تقدموا في الذي قبله.

وهو طريق آخر لحديث عائشة رضي الله عنها في الكيفية الماضية، وهي ستة ركوعات،

ص: 411

وأربع سجدات، وهو حديث صحيح، والكلام على مسائله تقدم في الذي قبله.

وقوله: "في صلاة الآيات" متعلق بـ"حدثني"، أي حدثني أبي، راويا عن قتادة، في شأن الصلاة المشروعة عند رؤية الآيات الدالة على قدرة اللَّه تعالى، ووحدانيته، والتي يُريها اللَّهُ عباده تخويفا لهم، كالكسوف، والخسوف، ونحوهما.

وقوله: "قلت لمعاذ الخ" القائل هو إسحاق، أي قلت لمعاذ بن هشام لَمّا حدث عن أبيه هذا الحديث. أثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرفوعًا؟، فقوله:"عن النبي صلى الله عليه وسلم" بتقدير همزة الاستفهام.

والقائل: "لا شكّ، ولا مرية" هو معاذ بن هشام، وعطف المرية على الشك للتأكيد، أي لا شكّ في ثبوت الحديث مرفوعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌11 - (نَوْعٌ آخَرُ مِنْهُ عَنْ عَائِشَةَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا نسخ "المجتبى""منه" بضمير المذكّر، أي من حديث صلاة الكسوف، ولفظ "الكبرى""نوع آخر من صلاة الكسوف".

وأراد بذلك مغايرة سياق الحديث لما سبق، وإلّا فنوعية الصلاة لا تختلف مع ما سبق في 6/ 1465 و 7/ 1466. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1472 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ، فَكَبَّرَ، وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ

(1)

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» . ثُمَّ قَامَ، فَاقْتَرَأَ

(2)

قِرَاءَةً طَوِيلَةً، هِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، هُوَ أَدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» . ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ

(1)

وفي نسخة "فقرأ".

(2)

وفي نسخة "فقرأ".

ص: 412

فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ، قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ عز وجل بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ، مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَصَلُّوا حَتَّى يُفْرَجَ عَنْكُمْ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا، كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُمُونِي، أَرَدْتُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ، حِينَ رَأَيْتُمُونِي، جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا ابْنَ لُحَيٍّ، وَهُوَ الَّذِى سَيَّبَ السَّوَائِبَ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سَلَمَة) المراديّ الجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصريّ، ثاقة حافظ عابد [9] 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيليّ، ثقة ثبت [7] 9/ 9.

والباقون تقدّموا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد.

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات المصريين، ونصفه الثاني مسلسل بثقات المدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ) فيه أنه يطلق الخسوف على الشمس، وقد تقدم تحقيق ذلك في أول "كتاب الكسوف"(فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ، فَكَبَّرَ، وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ) برفع "الناس"، أي اصطفّوا، ويجوز النصب على المفعولية، والفاعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، إذ الفعل يتعدّى، ويلزم، يقال: صَفّ القومُ: إذا صاروا صفّا، وصفّهم الإمام (فَاقْتَرَأَ) مبالغة في "قرأ"، وفي نسخة "فقرأ" (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِرَاءَةً طَوِيلَةً) وفي الرواية الآتية 13/ 1481 - :"قالت عائشة: فحَسِبتُ قرأ سورة البقرة"(ثُمّ كَبَّرَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ") فيه مشروعية الجمع بين التسميع والتحميد للإمام (ثُمَّ

ص: 413

قَامَ، فَاقْتَرَأَ) وفي نسخة "فقرأ"(قِرَاءَةً طَوِيلَةً، هِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الْأُولىَ) استُدلّ به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى.

واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيامَ قراءة، لا قيامَ اعتدال، بدليل اتفاق العلماء، ممن قال بزيادة الركوع في كلّ ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكيّ خالف فيه.

والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كلّ ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله فيها كان مشروعا، لأنها أصل برأسه، وبهذا المعنى رَدّ الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة حتى منع من زيادة الركوع فيها.

وقد أشار الطحاويّ إلى أنّ قول أصحابه جرى على القياس في صلاة النوافل، لكن اعتدل بأن القياس مع وجود النّصّ يَضْمَحِلّ، وبأن صلاة الكسوف أشبه بصلاة العيد، ونحوها، مما يُجمَع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيدين بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة، واستدبار القبلة، فكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالأخذ به جامع بين العمل بالنصّ، والقياس، بخلاف من لم يعمل به. قاله في "الفتح"

(1)

.

(ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، هُوَ أَدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ الْأَوّلِ، ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ

حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحْمْدُ"، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ) أي من تطويل القراءة، والركوع، والسجود، وتكرار الركوع (فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) أي ركوعات (وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ، قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ) أي قبل أن يسلّم من الصلاة (ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ عز وجل بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ، مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالىَ، لَا يَخْسِفَانِ) منِ باب ضرب يضرب، وفي نسخة "لا ينخسفان"(لَمِوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لَحِيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهمُا) أي رأيتم خسفهما (فَصَلُّوا حَتَّى يُفْرَجَ عَنْكُمْ") بالبناء للمفعول، من الإفراج، أي يُزال عنكم ذلك التخويف (وَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا") قال الكرماني رحمه الله: المقام يحتمل المصدر، والزمان، والمكان (كُلَّ شَيْءِ وُعِدْتُمْ) بالبناء للمفعول، قال الحافظ السيوطي رحمه الله: هذه الرواية أوضح من رواية الصحيح "ما من شيء، لم أكن أُريته، إلا رأيته في مقامي هذا"، حتى قال الكرماني: فيه دلالة على أنه رأى ذاته تعالى المقدّسة في ذلك المقام، بناء على عموم الشيء له تعالى، لقوله تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} الآية

(1)

"فتح" ج3 ص 227 - 228.

ص: 414

[الأنعام: 19]، والعقل لا يمنعه، لكن بيّنت رواية المصنف

(1)

أن كل شيء مخصوص بالموعود، كفتن الدنيا، وفتوحها، والجنّة والنار.

قال السندي رحمه الله: لكن قد يقال: هو تعالى داخل في الموعود، لأن الناس يرونه تعالى في الجنة، فليتأمل انتهى

(2)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله السيوطي هو الأولى، يؤيده ما وقع عند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه:"عُرض علي كل شيء تِولَجُونه". واللَّه تعالى أعلم.

(لَقَدْ رَأَيْتُمُونِي، أَرَدْتُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ) -بكسر القاف، وسكون الطاء المهملة-: أي عنقود عنب، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي 17/ 1493:"إني رأيت الجنة، فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا"(حِينَ رَأَيْتُمُونِي، جَعَلْتُ) أي أخذت، وشرعت (أَتَقَدَّمُ) أي أمشي أمامي (وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ، يْحَطِمُ بَعَضُهَا بَعْضًا) من باب ضرب يضرب: أن يكسره، ويزاحمه، كما يفعل البحر من شدّة الأمواج (حِينَ رَأَيتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا ابْنَ لحُيِّ) -بضم اللام، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء- هو عمرو بن لُحيّ بن قَمِعَة بن خِنْدِف، أبو خزاعة (وَهُوَ الَّّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ") أي شرع لقريش أن يتركوا النُّوق، ويُعفُوها من الحمل والركوب، ونحو ذلك للأصنام، كما سيأتي بيانه قريبا.

وجملة "هو الذي الخ" تعليل لمحذوف، كما بُيَّنَ في الروايات الأخرى، ولفظه عند البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"رأيت عمرو بن عامر الخزاعي، يجرّ قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب".

أي إنما رآه يجرّ قُصْبه -بضم، فسكون -أي أمعاءه في النار، لأنه الذي غير دين إبراهيم، وإسماعيل، فسيّب السوائب.

وذكر ابن إسحاق في "السيرة الكبرى" عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: لأكثم بن الجون: "رأيتُ عمرو بن لُحيّ، يجرّ قُصبه في النار، لأنه أول مّن غيّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيّب السائبة، وبَحَرَ البحيرة، ووصَلَ الوصيلة، وحمى الحامي".

وروى الطبرانيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رفعه: "أول من غيّر دين إبراهيم عمرو

(1)

هذا يوهم أن المصنف تفرد بهذه الرواية، وليس كذلك، فقد وقعت عند البخاري بلفظ:"وُعدته" وعند مسلم بلفظ المصنف "وُعدتم".

(2)

"شرح السندي" ج 3 ص 131 - 132.

ص: 415

ابن لُحيّ بن قمعة بن خندف، أبو خزاعة".

وذكر الفاكهيّ من طريق عكرمة نحوه مرسلًا، وفيه: فقال المقداد: يا رسول اللَّه مَن عمرو بن لُحيّ؟ قال: "أبو هؤلاء الحيّ من خُزاعة".

وذكر ابن إسحاق أيضًا أن سبب عبادة عمرو بن لُحَيّ الأصنام أنه خرج إلى الشام، وبها يومئذ العماليق، وهم يعبدون الأصنام، فاستوهبهم واحدًا منها، وجاء به إلى مكة، فنصبه إلى الكعبة، وهو هُبَل.

وكان قبل ذلك في زمن جُرْهُم قد فَجَرَ رجل، يقال له: إساف بامرأة، يقال لها: نائلة في الكعبة، فمسخهما اللَّه -جَلّ وَعَلَا- حجرين، فأخذهما عمرو بن لحيّ، فنصبهما حول الكعبة، فصار من يطوف يتمسّح بهما، يبدأ بإساف، ويختم بنائلة.

وذكر محمد بن حبيب، عن ابن الكلبيّ أن سبب ذلك أن عمرو بن لحيّ كان له تابع من الجنّ، يقال له: أبو ثمامة، فأتاه ليلة، فقال: أَجِبْ أبا ثمامة، فقال: لبيك من تهامة، فقال: ادخل بلا ملامة، فقال: ايت سِيفَ جُدّة، تجد آلهةَ مُعدّة، فخذها، ولا تهب، وادع إلى عبادتها تُجَبْ، قال: فتوجه إلى جدّة، فوجد الأصنام التي كانت تُعبد في زمن نوح وإدريس، وهي وَدّ، وسُواع، وَيغوث، ويعوق، ونسر، فحملها إلى مكة، ودعا إلى عبادتها، فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب

(1)

.

[تنبيه]: أخرج البخاري -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب التفسير"، من "صحيحه"، عن

سعيد بن المسيب، أنه قال:"البَحيرة التي يُمنَع دَرّها للطواغيت، فلا يَحلُبُها أحد من الناس، و"السائبة" كانوا يُسيّبونها لآلهتهِم، فلا يُحمَل عليها شيء، و"الوصيلة": الناقة تُبكّر في أول نتاج الإبل بأنثى، ثم تثنّي بعدُ بأنثى، وكانوا يسيّبونها لطواغيتهم أَن وَصَلت إحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر. و"الحام": فَحلُ الإبل، يَضْرِب الضِّرَابَ

المعدود، فإذا قضى ضِرَابه، وَدَعُوه للطواغيت، وأَعْفَوه من الحمل، فلم يُحمَل عليه شيء، وسَمَّوه الحامي انتهى.

وقال القرطبي رحمه الله: وقد اختُلف في تفسير هذه الأشياء، فالسائبة: الناقة إذا تابعت بين عَشر إناث، ليس بينهنّ ذكر سُيّبت، فلم يُركب ظهرها، ولم يُجرّ وَبَرها، ولم يَشرَب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد من أنثى شُقّت أذنها، ثم خُلّي سبيلها مع أمها على حكمها، وهي البَحِيرة بنت السائبة، وسُمّيت بذلك لأنها بُحرت أذنها، أي شُقَّت شقًا واسعًا، وهذا قول ابن إسحاق، وقال غيره: السائبة: هي التي يَنذُرها الرجل، أي

(1)

انظر "فتح الباري" ج 7 ص 238 - 239. طبعة دار الفكر.

ص: 416

يُسيّبها إن برىء من مرضه، أو أصاب أمرًا يطلبه، فإذا كان ذلك أسابها، فسابت، لا يُنتفع بها.

قال ابن إسحاق: والوصيلة: الشاة إذا أَتْأَمَت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطُن ليس بينهن ذَكر، قالوا. وَصَلَتْ، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شيء منها، فيشترك فيه ذكورهم وإناثهم.

وقال كثير من أهل اللغة: إن الشاة كانت إذا ولدت أنثى، فهي لهم، وإذا ولدت ذكرًا ذبحوه لآلهتهم، وإذا ولدت ذكرًا وأنثى لم يذبحوا الذكر، وقالوا: وصلت أخاها، فيسيّبون أخاها، ولا ينتفعون به.

والحامي: الفحل إذا رُكب ولد ولده، وقيل: إذا نُتج من صلبه عشرة أبطن، قالوا: حَمَى ظهره، فلا يُركب، ولا يُنتفع به، ولا يُمنع من ماء، ولا كلأ انتهى كلام القرطبي.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث مُتَّفقٌ عليه، وقد تقدم تخريجه في 6/ 1465، فراجعه هناك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهوحسبنا، ونعم الوكيل.

1473 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنُودِيَ: "الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ" فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم في 6/ 1465 - "باب الأمر بالنداء لصلاة الكسوف" سندًا ومتنا، وتقدم الكلام عليه هناك، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1474 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُو دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ، مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ عز وجل، وَكَبِّرُوا، وَتَصَدَّقُوا» ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا مِنْ أَحَدٍ، أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ عز وجل، أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ،

ص: 417

وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة المثبت [7] 7/ 7.

3 -

(هشام بن عروة) أبو المنذر المدني، ثقة فقيه [5] 49/ 61.

والباقيان تقدما في السند السابق. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وشيخه مروزيّ، والباقيان شاميّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ) استُدلّ به على أنه صلى الله عليه وسلم -كان يُحافظ على الوضوء، فلهذالم يَحتَجْ إلى الوضوء في تلك الحال، وفيه نظر، لأن في السياق محذوفًا، وهو قوله:"فتوضأ"، ففي الرواية الآتية 13/ 1481 - من طريق أبي حفصة، عن عائشة: "لما كسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، توضأ، وأمر، فنودي أن الصلاة جامعة

" الحديث، فدلّ على أنه توضأ، غاية الأمر ان الراوي اختصر في هذا الحديث ذكر الوضوء. واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ) وفي الرواية المذكورة أن عائشة قالت: "فحسبت قرأ البقرة"، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري:"فقرأ نحوًا من سور البقرة في الركعة الأولى"، وسيأتي نحوه للمصنف 17/ 1497 - ونحوه لأبي داود، من طريق سليمان بن يسار، عن عروة، وزاد فيه، "أنه قرأ في القيام من الركعة الثانية نحوًا من آل عمران"(ثُمَّ رَكَعَ، فَاَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ (قال الحافظ: لم أر في شيء من الطرق ما قال فيه، إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه، وإنما فيه الذكر، من تسبيح، وتكبير، ونحوهما (وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَسَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ) الظاهر أن قولَه: "مثل ذلك" بدل من اسم الإشارة السابق (ثُمَّ انْصَرَفَ) أي سلّم من الصلاة، وفي الرواية الآتية 21/ 1497 - من طريق عبد الرحمن بن نمر، عن الزهريّ:"ثُمّ تشهّد، ثُمَّ سلّم" (وَقَدْ

ص: 418

تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ) فيه مشروعيّة الخطبة لكسوف، قال الحافظ: والعجب أن مالكًا روى حديث هشام هذا، وفيه التصريح بالخطبة، ولم يقل به أصحابه، قال: واستدلّ به على أن الانجلاء لا يُسقط الخطبة، بخلاف ما لو انجلت قبل أن يشرع في الصلاة، فإنه يسقط الصلاة والخطبة، فلو انجلت في أثناء الصلاة أتمّها على الهيئة المذكورة عند من قال بها، وعن أصبغ يتمها على هيئة النوافل المعتادة انتهى

(1)

(فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ) زاد في حديث سمرة الآتي 15/ 1484 - :"وشهد أن لا إله إلا اللَّه، وشهد أنه عبد اللَّه ورسوله"(ثُمَّ قَالَ: "إِن الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ، مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لَحِيَاتِهِ، فَإذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّه) وللبخاريّ "فاذكروا اللَّه"(عز وجل، وَكَبِّرُوا، وَتَصَدَّقُوا"، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ) فيه معنى الإشفاق، كما يخاطب الوالد ولده إذا أشفق عليه بقوله: يا بُنيّ، كذا قيل، وكان قضيّة ذلك أن يقول: يا أمتي، لكن لعدوله عن المضمر إلى المظهر حكمة، وكأنها بسبب كون المقام مقام تحذير وتخويف، لما في الإضافة إلى الضمير من الإشعار بالتكريم، ومثله:"يا فاطمة بنت محمد، لا أُغني عنك من اللَّه شيئًا" الحديث (مَا مِنْ أَحَدِ، أَغْير)"أحد" اسم "ما" الحجازية، و"من" زائدة، و"أغير" بالنصب على أنه خبرُها، أو هو مجرور صفة لـ"أحد"، وجره بالفتحة لكونه غير منصرف، والخبر محذوف، أي موجود، ويجوز كون "ما" تميميّة، كقوله:

وَمُهَفْهَفِ الأَعْطَافِ قُلْتُ لَهُ انْتَسِبْ

فَأَجَابَ مَا قَتْلُ الْمُحِبِّ حَرَامُ

و"أحد" مبتدأ، و"أغير" خبره.

و"أغير" أفعل تفضيل، من الغَيْرَة -بفتح الغين المعجية، وهي في اللغة: تغيّر يحصل من الحميّة والأَنَفَة، وأصلها في الزوجين، والأهلين، وكلّ ذلك محال على اللَّه تعالى، لأنه منزّه عن كلّ تغيّر ونقص، فتعيّن حمله على المجاز، فقيل: لما كانت ثمرة الغيرة صونَ الحريم، ومنعهم، وزجر من يقصد إليهم، أطلق عليه ذلك، لكونه مَنَع من فعل ذلك، وزجر فاعله وتوعّده، فهو من باب تسمية الشيء بما يترتّب عليه وقال ابن فُورك: المعنى ما أحد أكثر زجرًا عن الفواحش من اللَّه، وقال: غيرة اللَّه ما يُغيّر من حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة، أو في أحدهما، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]

(1)

"فتح" ج3 ص 228.

ص: 419

وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين: إما ساكت، وإما مؤوّل على أن المراد بالغيرة شدّة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا ادعوا المجاز هنا، والصواب أن لا مجاز هنا، ولا محال، فإن اللَّه سبحانه وتعالى له الغيرة على المعنى اللائق بجلاله وعظمته، وإنما يلزم المحال إذا قلنا: له غيرة كغيرة خلقه، وأما إذا قلنا: غيرة تليق بجلاله، وعظمته، لا تشبه غيرة خلقه، ولا نعلم كنهها، وكيفيتها، فهذا حقّ، وهو مذهب السلف الصالح، كسائر صفاته، من النزول، والاستواء، والرضا، والغضب، والمحبة، والتعجّب، ونحوها، مما ورد في النصوص الصحيحة، فكلها ثابتة له على ظاهرها، وإنما المجهول لنا كيفيتها، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

وقال الطيبي وغيره: وجه إتصال هذا المعنى بما قبله من قوله: "فاذكروا اللَّه الخ" من جهة أنهم لما أُمروا باستدفاع البلاء بالذكر، والدعاء، والصلاة، والصدقة، ناسبَ رَدْعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخصّ منها الزنا لأنه أعظم في ذلك، وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي، وأشدّها تأثيرًا في إثارة النفوس، وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة: رب المغيرة، وخالقها سبحانه وتعالى انتهى.

(مِنَ اللَّه عز وجل، أَنْ يَزْنَيِ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنَيِ أَمَتُهُ) أي لأجل زنا عبده، أو زنا أمته. قال الحافظ: ولعلّ تخصيص العبد والأمة بالذكر رعاية لحسن الأدب مع اللَّه تعالى، لتنزّهه عن الزوجة، والأهل ممن يتعلّق بهم المغيرة غالبًا. انتهى (يَا أُمَّةَ محُمَّدٍ، وَاللَّهِ) صدّر صلى الله عليه وسلم كلامه باليمين لإرادة التأكيد للخبر، وإن كان لا يُرتاب في صدقه (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ) أي من عظيم قدرة اللَّه، وانتقامه من أهل الإجرام، وقيل: معناهـ لو دام علمكم كما دام علمي، لأنه متواصل بخلاف غيره، وقيل: معناه لو علمتم من سعة رحمة اللَّه، وحلمه، وغير ذلك ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك (لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) قال الباجيّ: يريد صلى الله عليه وسلم أن اللَّه تعالى قد خصه بعلم لا يعلمه غيره، ولعله ما رآه في مقامه من النار، وشناعة منظرها.

وقال النووي: لو تعلمون من عظم انتقام اللَّه تعالى من أهل الجرائم، وشدّة عقابه، وأهوال القيامة، وما بعدها ما أعلم، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره، لبكيتم كثيرًا، ولقلّ ضحككم لفكركم فيما علمتموه.

ولا يخفى أنهم علموا بواسطة خبره إجمالًا، فالمراد التفصيل، كعلمه صلى الله عليه وسلم، فالمعنى:

ص: 420

لو تعلمون ما أعلم كما أعلم، واللَّه تعالى أعلم. قاله السنديّ

(1)

.

وقال الحافظ. قيل: معنى القلّة هنا العدم، والتقدير لتركتم الضحك، ولم يقع منكم إلا نادرًا، لغلبة الخوف، واستيلاء الحزن. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم تخريجه في 6/ 1465 - ولنذكر هنا فوائده:

(فمنها): المبادرة بالصلاة، وسائر ما ذُكر عند الكسوف. (ومنها): أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها، من التطويل الزائد على العادة في القيام وغيره، ومن زيادة ركوع في كلّ ركعة. (ومنها): اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بنقل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ليُقتَدَى به فيها (ومنها): الزجر عن كثرة الضحك، والحثُّ على كثرة البكاء، والتحقق بما سيصير إليه المرء من الموت، والفناء، والاعتبار بآيات اللَّه (ومنها): ترجيح التخويف في الخطبة على التوسّع في الترخيص، لما في ذكر الرُّخَص من ملاءمة النفوس لما جُبلت عليه من الشهوة، والطبيبُ الحاذق يقابل العلّة بما يُضادّها، لا بما يزيدها (ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "يا أمة محمد" أن الواعظ ينبغي له حالَ وعظه أن لا يأتي بكلام فيه تفخيم لنفسه، بل يبالغ في التواضع، لأنه أقرب إلى انتفاع من يسمعه (ومنها): أن فيه الردَّ على من زعم أن للكواكب تأثيرًا في الأرض، لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر، فكيف بما دونهما (ومنها): أن من حكمة وقوع الكسوف تبيينَ أنموذج ما سيقع في القيامة، وصورة عقاب من لم يُذنب، والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرجاء، لوقوع الكسوف بالكوكب، ثم كشف ذلك عنه، ليكون المؤمن من ربّه على خوف ورجاء (ومنها): أن فيه إشارة إلى تقبيح رأي من يعبد الشمس، أو القمر.

وحمل بعضهم الأمر في قوله تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الآية [فُصّلت: 37] على صلاة الكسوف، لأنه الوقت الذي يناسب الإعراض عن عبادتهما، لما يظهر فيهما من التغير والنقص المنزّه عنه المعبود، -جَلَّ وَعَلَا-، سبحانه وتعالى. قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حمل الأمر في الآية المذكورة على صلاة الكسوف غير واضح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1475 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ

(1)

"شرح السندي" ج 3 ص 133.

(2)

"فتح" ج 3 ص 230 - 231.

ص: 421

سَعِيدٍ، أَنَّ عَمْرَةَ حَدَّثَتْهُ، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهَا، أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْهَا، فَقَالَتْ: أَجَارَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ لَيُعَذَّبُونَ فِي الْقُبُورِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"عَائِذًا بِاللَّهِ" قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مَخْرَجًا، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَخَرَجْنَا إِلَى الْحُجْرَةِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْنَا نِسَاءٌ، وَأَقْبَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ ضَحْوَةً، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَامَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ دُونَ رُكُوعِهِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ، فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ رُكُوعَهُ وَقِيَامَهُ دُونَ الرَّكْعَةِ الأُولَى، ثُمَّ سَجَدَ، وَتَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ فِيمَا يَقُولُ:«إِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، كَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . قَالَتْ عَائِشَةُ: كُنَّا نَسْمَعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن الحارث) المصريّ، ثقة ثبت [7] 63/ 79

2 -

(يحيى بن سعيد) الأنصاري، المدني، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

3 -

(عمرة) بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية، ثقة [3] 134/ 203.

والباقون تقدّموا أول الباب. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات التصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات المصريين، ونصفه الثاني مسلسل بثقات المدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ يَحْيَي بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري (أَنَّ عَمْرَةَ) بنت عبد الرحمن (حَدَّثَتْهُ، أَنَّ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (حَدَّثَتْهَا، أَنَّ يَهُودِيةً أَتَتْهَا) أي للسؤال، فلما أعطتها دعت لها (فَقَالَتْ: أَجَارَكِ اللَّهُ) أي أعاذك (مِنْ عَذَاب الْقَبْرِ) فيه أن اليهود يثبتون عذاب القبر (قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ النَّاسَ لَيُعَذَّبُونَ فِي الْقُبُورِ؟) بتقدير همزة الاستفهام، أي أإنّ الناس ليعذّبون في قبورهم؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"عَائِذًا بِاللهِ") قال ابن السِّيد: هو منصوب على المصدر الذي يجيء على مثل فاعل، كعُوفي عافيةً، أو على الحال المؤكّدة النائبة مناب المصدر، والعاملُ فيه محذوف، كأنه قال: أعوذ بالله عائذًا، وروي بالرفع أي أنا عائذٌ. قال الحافظ: وكأن ذلك قبل أن يطّلع صلى الله عليه وسلم على عذاب القبر انتهى.

ص: 422

(قَالَتْ عَائِشَة) رضي الله عنها (إِنَّ النبِىَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مَخْرَجًا) بفتح الميم مصدر ميمي، أي خروجًا، أو منصوب على الظرفية (فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَخَرَجْنَا إِلىَ الْحُجْرَةِ) أي إلى ظاهر الحجرة، وسيأتي قولها:"فكنت ببن الحُجُر مع نسوة"، واللَّه تعالى أعلم (فَاجْتَمَعَ إِلَيْنَا نِسَاءٌ، وَأَقْبَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي رجع عن المحلّ الذي خرج إليه (وَذَلِكَ ضَحْوَةَ) منصوب على الظرفية، متعلق بخبر اسم الإشارة (فَقَامَ قِيَامَا طَوِيلاً، ثُمّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَامَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ دُونَ رُكُوعِهِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ، فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ، إلاَّ أَنَّ رُكُوعَهُ وَقِيَامَهُ دُونَ الرَّكْعَةِ الْأوُلىَ، ثُمَّ سَجَدَ، وَتَجلَّتِ الشَّمْسُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ) أي سلم من صلاته (قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ فِيمَا يَقُولُ) أي في جملة القول الذي قاله في تلك الخطبة ("إِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ) فيه إثبات عذاب القبر، وفتنته، وهو مذهب أهل الحقّ، ومعنى "يُفتنون": يُمتحنون، فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟، فيقول المؤمن: هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويقول المنافق: سمعت الناس يقولون شيئًا، فقلته، هكذا جاء مفسّرًا في "الصحيح"(كَفِتْنَةِ الَدَّجَّالِ") أي فتنةً شديدةً جدّا، وامتحانًا هائلاً، ولكن يُثبّت اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت. قاله النووي

(1)

(قَالَتْ عَائِشَةُ" كُنَّا نَسْمَعُهُ) أي نسمع النبي صلى الله عليه وسلم (بَعْدَ ذَلِكَ) أي بعد ذلك الوقت الذي وقعت فيه حادثة الكسوف (يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ") أي لأنه أُوحي إليه بأن الناس سيفتنون في قبورهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأول: في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 11/ 1477 - وفي "الكبرى" 11/ 1860 - بالإسناد المذكور وفي 12/ 1467 - و"الكبرى" 12/ 1861 عن عمرو بن عليّ، عن يحيى القطّان، عن يحيى الأنصاري به. وفي 12/ 1477 و"الكبرى" 12/ 1862 عن عبدة بن عبد الرحيم، عن ابن عُيينة، عن يحيى به، مختصرًا. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فبمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 45 و 2/ 47 و 2/ 49 (م) 3/ 30 (مالك في الموطإ) 133 (الحميدي)

(1)

"شرح مسلم" ج 6 ص 206 - 207.

ص: 423

179 (أحمد) 6/ 53 (الداومي) 1535 و1538 (ابن خزيمة) 1378 و 1395 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌12 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1476 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ -هُوَ الأَنْصَارِىُّ- قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، تَقُولُ: جَاءَتْنِي يَهُودِيَّةٌ، تَسْأَلُنِي، فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي الْقُبُورِ، فَقَالَ: "عَائِذًا بِاللَّهِ"، فَرَكِبَ مَرْكَبًا، يَعْنِي: وَانْخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَكُنْتُ بَيْنَ الْحُجَرِ، مَعَ نِسْوَةٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَرْكَبِهِ، فَأَتَى مُصَلاَّهُ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا أَيْسَرَ مِنْ قِيَامِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ أَيْسَرَ مِنْ رُكُوعِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَامَ أَيْسَرَ مِنْ قِيَامِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ أَيْسَرَ مِنْ رُكُوعِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَامَ أَيْسَرَ مِنْ قِيَامِهِ الأَوَّلِ، فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ، كَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث عائشة رضي الله عنها، وهو متّفق عليه، كما سبق بيانه في الذي قبله، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"عمرو بن علي" هو الفلّاس، و"يحيى بن سعيد" هو القطان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1477 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى فِي كُسُوفٍ، فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ، أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا أيضًا طريق آخر لحديث عائشة رضي الله عنها، مختصر. و"عبدة بن عبد الرحيم" هو أبو سعيد المروزيّ، نزيل دمشق، صدوق، من صغار [10] 45/ 597.

ص: 424

وقوله: "في صفّة زمزم""الصُّفّة" بضم الصاد المهملة، وتشديد الفاء، جمعه صُفَفٌ، وهو من البُنْيَان شِبْهُ البَهْوِ

(1)

الواسعِ الطويل السَّمْك. قاله في "اللسان".

قال الحافظ عماد الدبن ابن كثير رحمه الله: تفرّد النسائي، عن عَبْدة بقوله:"في صفّة زمزم"، وهو وَهَمٌ بلا شكّ، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ الكسوف إلا مرّة واحدة بالمدينة في المسجد، هذا هو الذي ذكره الشافعيّ، وأحمد، والبخاريّ، والبيهقيّ، وابن عبد البرّ، وأما هذا الحديث بهذه الزيادة، فيُخشى أن يكون الوهم من عبدة بن عبد الرحيم هذا، فإنه مروزيّ، نزل دمشق، ثم صار إلى مصر، فاحتمل أنّ النسائيّ سمعه منه بمصر، فدخل عليه الوهم، لأنه لم يكن له كتاب، وأخرجه البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ أيضًا بطريق آخر من غير هذه الزيادة.

وعرض هذا على الحافظ جمال الدين الْمِزَّيّ، فاستحسنه، وقال: قد أجاد، وأحسن الانتقاد انتهى

(2)

.

وقال الحافظ في "النكت الظراف" تعليقًا على هذه الرواية: ما نصه: وفي رواية عند النسائيّ لفظة شذّ بها شيخ ثقفيّ

(3)

، وهي قوله:"في صفة زمزم"

(4)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1478 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ صَاحِبُ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ، فَأَطَالَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ، فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يَتَقَدَّمُ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَأَخَّرُ، فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ إِلاَّ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَإِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُرِيكُمُوهُمَا، فَإِذَا انْخَسَفَتْ، فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيِ").

رجال هذا الإسناد. خمسة:

1 -

(أبو داود) سليمان بن سَيف الحرّاني، ثقة حافظ [11] 103/ 136.

2 -

(أبو علي الحنفي) عبيد اللَّه بن عبد المجيد الحنفي، أبو عليّ البصريّ، صدوق [9]

(1)

البيت المقدم أمام البيوت، اهـ "ق".

(2)

انظر "زهر الربى" ج 3 ص 135 - 136.

(3)

هكذا نسخة "النكت""شيخ ثقفي"، ولعله:"شيخ النسائي"، فليحرّر.

(4)

"النكت الظراف" ج 12 ص 426.

ص: 425

151/ 1118.

3 -

(هشام، صاحب الدستوائي) هو ابن أبي عبد اللَّه سَنْبَر البصري، ثقة ثبت [7] 30/ 34.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم المكىّ، صدوق يُدلّس [3] 31/ 35.

5 -

(جابر بن عبد اللَّه) الأنصاري رضي الله عنهما 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف --رحمه اللَّه تعالى--. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها) أن فيه جابرًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبدِ اللَّه) - رضي اللَّه تعالى - عنهما، أنه (قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ) من باب ضِرب: أي اسودّت بالنهار، وذهب ضوءها (عَلىَ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ شّدِيدِ الحْرِّ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بأَصْحَابِهِ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ) من باب نصر، وضرب، أي يسقطون على الأرض، لطول القيام، وهو في معنى ما تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها:"حتى إن رجالًا يومئذ يُغشَى عليهم"(ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَال، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَال، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ) قال النوويّ رحمه الله: ظاهره أنه طوّل الاعتدال الذي يليه السجود، ولا ذكر له في باقي الروايات، ولا في رواية جابر من جهة غير أبي الزبير، وقد نقل القاضي إجماع العلماء

(1)

أنه لا يطوّل الاعتدال الذي يليه السجود، وحينئذ يُجاب عن هذه الرواية بجوابين:

[أحدهما]: أنها شاذة، مخالفة لروإية الأكثرين، فلا يُعمل بها.

[والثاني]: أن المراد بالإطالة تنفيس الاعتدال، ومَدّه قليلاً، وليس المراد إطالته نحوَ الركوع انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- بعد نقل كلام النووي هذا: ما نصّه. وتُعقّب بما رواه النسائيّ، وابن خزيمة، وغيرهما من حديث عبد اللَّه بن عمرو أيضًا، ففيه:"ثم ركع، فأطال، حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع، فأطال، حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد، فأطال، حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع، فجلس، فأطال الجلوس، حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد"، لفظ ابن خزيمة من طريق الثوريّ، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عنه،

(1)

دعوى الإجماع في هذا غير صحيحة، كما سيأتي في كلام الحافظ ردًا على الغزالي.

ص: 426

والثوريّ سمع من عطاء قبل الاختلاط، فالحديث صحيح.

قال: ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا

(1)

. وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبيّ، فلا كلام، وإلا فهو محجوج بهذه الرواية انتهى

(2)

.

(ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ، فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يَتَقَدَّمُ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَأَخَّرُ) وفي رواية لمسلم من طريق عطاء، عن جابر رضي الله عنه "ثم تأخر، وتأخرت الصفوف خلفه، حتى انتهينا إلى النساء، ثم تقدّم، وتقدّم الناس معه حتى قام في مقامه".

قال النووي رحمه الله: فيه أن العمل القليل لا يُبطل الصلاة، وضبط أصحابنا القليلَ بما دون ثلاث خطوات متتابعات، وقالوا الثلاث متتابعات تبطلها، ويتأولون هذا الحديث على أن الخطوات كانت متفرّقة، لا متوالية، ولا يصحّ تأويله على أنه كان خطوتين، لأن قوله:"انتهينا إلى النساء" يخالفه، وفيه استحباب صلاة الكسوف للنساء، وفيه حضورهنّ وراء الرجال انتهى

(3)

(فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، كَانُوا يَقُولُونَ) هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ "الكبرى":"وقال: "كانوا يقولون الخ" (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يخسِفَانِ إلاَّ لمِوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وِإنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُرِيكُمُوهمُا، فَإِذَا انْخَسَفَتْ) أي الشمس (فَصَلُّوا حَتَّى تَتْجَليِ") أي تنكشف، ويذهب ما بها من الانخساف". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذاالحبيث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-12/ 1478 - وفي "الكبرى"-12/ 1863 - بالإسناد المذكور، واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 3/ 35 و 3/ 31 (د) 1179 (أحمد) 3/ 374 و 3/ 382 (ابن خزيمة) 1380 و 1381. وفوائد الحديث تعلم مما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه

(1)

قال الجامع: قد ثبت صحة الحديث، فيتعين العمل به، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"فتح" ج 3 ص 240.

(3)

"شرح مسلم"ج 6 ص 209.

ص: 427

المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌13 - (نَوْعٌ آخَرُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر صنيع المصنّف --رحمه اللَّه تعالى-- أن حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما مغاير لما سبق، وهذا إنما يصحّ، إن قلنا: إن قوله: "فصلى وكعتين، وسجدة" صحيح، وأنه يفيد كون صلاة الاستسقاء تصلَّى بركوعين، وسجدة واحدة، كما هو ظاهر السياق المصنف لكن الذي يظهر أن فيه تصحيفًا، كما سيأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى، فلا يخالف حديثه روايات غيره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1479 -

(أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ مَرْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ، فَنُودِيَ: "الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ" فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَةً، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَةً، قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ، وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ، كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ. خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمود بن خالد) السلميّ، أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، من صغار [10] 45/ 595.

2 -

(مروان بن محمد) بن حسّان الأسديّ الدمشقيّ الطّاطَريّ، ثقة [9] 128/ 1091.

3 -

(معاوية بن سلاّم) -بتشديد اللام- ابن أبي سلّام ممطور الحبشيّ، ويقال: الألهانيّ، أبو سلّام الدمشقي، وكان يسكن حمص، ثقة [7].

ووى عن أبيه، وجدّه، وأخيه زيد، ونافع مولى ابن عمر، والزهريّ، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. وعنه الوليد بن مسلم، ومروان بن محمد،، ومحمد بن المبارك، ويحيى بن حسان، وغيرهم.

قال الأثرم، عن أحمد: هشام يَرجع إلى كتاب، والأوزاعيّ حافظ، وهَمّام ثقة، وحرب، ومعاوية بن سلّام ثقتان. وقال يوسف بن موسى العطّار الحربيَّ: سُئل أبو

ص: 428

عبد اللَّه عن معاوية بن سلّام؟ فقال: هشام فوقه. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: عَرَضتُ على أحمد حديثًا، قال: من يروي هذا؟ قلت: معاوية بن سلّام، فقال: معاوية بن سلاّم ثقة. وقال الدارميّ، عن ابن معين: ثقة. وقال عباس بن الوليد الخَلّال: قال لي يحيى بن معين: معاوية بن سلّام محدّث أهل الشام، وهو صدوق الحديث، ومن لم يكتب حديثه، مسندَه، ومنقطعَه حتى يعوفه، فليس بصاحب حديث. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة. وعن دُحَيم. جيّد الحديث، ثقة، كان بحمص، ثم انتقل إلى دمشق. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق. وقال مروان بن محمد: قلت لمعاوية ابن سلاّم تعجّبًا به لصدقه: إنك لشيخ كيّس. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: كان يحيى بن حسّان، ومروان يرفعان من ذكره، وكان ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال ابن عساكر: بلغني أنه توفي في حدود (164) وذكر الذهبي أنه توفي في حدود السبعين. وقال العجليّ: دَفَع إليه يحيى ابن أبي كثير كتابًا، ولم يقرأه، ولم يسمعه.

روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة عشر حديثًا.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) الطائي مولاهم، أبو نصر اليماميّ ثقة ثبت، يدلس ويرسل [5] 23/ 24.

5 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

6 -

(عبد اللَّه بن عمرو) بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وابن ماجه. (ومنها) أنه مسلسل بالدمشقيين إلى معاوية، ويحيى يمامي بصريّ، والباقيان مدنيان، فالصحابي، وإن سكن مصر، والطائف، إلا أنه مدنيّ الأصل. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلىَ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ، فّنُودِيَ) أي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء، فنودى، وتقدم في حديث عائشة رضي الله عنها:"فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي أن الصلاة جامعة"(الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ) برفع

ص: 429

الجزأين على أنهما مبتدأ وخبر، ونصبهما، الأول على الإغراء، والثاني على الحال، ورفع الأول، ونصب الثاني، وبالعكس، وتقدم الكلام على ذلك مُستوفًى في شرح حديث عائشة رضي الله عنها في 6/ 1456 (فَصَلىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَةً) هكذا رواية المصنف هنا، وفي "الكبرى":"وسجدة" بالواو، وهو مشكل، إذ يقتضي أنه سجد سجدة واحدة.

والذي في "الصحيحين": "فركع ركعتين في سجدة" بـ "في"، قال في "الفتح": قوله: "ركعتين في سجدة"، المراد بالسجدة هنا الركعة بتمامها، وبالركعتين الركوعان، وهو موافق لروايتي عائشة، وابن عبّاس رضي الله عنهم المتقدّمتين في أن في كلّ ركعة ركوعين، وسجودين، ولو ترك على ظاهره لاستلزم تثنية الركوع، وإفراد السجود، ولم يصر إليه أحد، فتعيّن تأويله انتهى

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وهذا هو الموافق لرواية محمد بن حمير الآتية بعد هذا: "فركع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين، وسجد سجدتين، ثم قام، فركع ركعتين، وسجد سجدتين

".

فلعل الواو في رواية المصنف هذه تصحّفت من "في"

(2)

، أو تصحف قوله:"وسجدة" من "وسجدتين"، كما في الرواية التالية. واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَةً، قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ، وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ، كَانَ أَطوَلَ مِنْهُ) أي من السجود الذي سجده النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة، وهو ظاهر في أن السجود في الكسوف يطوّل كما يطوّل القيام والركوع، وأبدى بعض المالكية فيه بحثًا، فقال: لا يلزم من كونه أطال أن يكون بلغ به حدّ الإطالة في الركوع. قال الحافظ: وكأنه غفل عما رواه مسلم في حديث جابر بلفظ: "وسجوده نحو من ركوعه".

وهذا مذهب أحمد، وإسحاق، وأحد قولي الشافعي، وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه، واختاره ابن سُريج، ثُمَّ النوويّ، وتعقّبه

(3)

صاحب "المهذب" بأنه لم يُنقل في خبر، ولم يقل به الشافعي اهـ. ورُدّ عليه في الأمرين معًا، فإن الشافعيّ نصّ عليه في "البويطيّ"، ولفظه: ثم يسجد سجدتين طويلتين، يقيم في كلّ سجدة نحوًا مما قام في ركوعه. انتهى

(4)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو

(1)

"فتح" ج 3 ص 239.

(2)

هذا الاحتمال هو القوى، لما سيأتي في رواية أحمد من التصريح به، حيث رواه بلفظ:"ثم ركع ركعتين في سجدة". فتأمل.

(3)

أي تعقب القول المذكور عن الشافعي صاحب "المهذب" بأنه لم ينقل الخ.

(4)

"فتح" ج 3 ص 239 - 240.

ص: 430

المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -13/ 1479 - وفي "الكبرى" -13/ 1864 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسأله الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 2/ 43 و 2/ 45 (م) 3/ 34 (أحمد) 2/ 175 و 2/ 220 (ابن خزيمة)

1375 و 1376. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ) يعني أن محمد بن حمير خالف مروان بن محمد في إسناد هذا الحديث، فرواه عن معاوية بن سلّام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي طُعمة، عن عبد اللَّه بن عمرو، فجعل شيخ يحيى أبا طعمة، بدل أبي سلمة، كما بيّن ذلك بقوله:

1480 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حِمْيَرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلاَّمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي طُعْمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ، تَقُولُ: مَا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُجُودًا، وَلَا رَكَعَ رُكُوعًا، أَطْوَلَ مِنْهُ. خَالَفَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ).

رجال هذا الإسناد: ستة: كلهم تقدّموا في السند الماضي، إلا:

1 -

(يحيى بن عثمان) بن سعيد بن كثير بن دينار القرشيّ الحمصى، صدوق عابد [10] 29/ 817.

2 -

(ابن حمير) هو محمد بن حمير السِّلِيحيّ الحمصيّ، صدوق [9] 21/ 535.

3 -

(أبو طعمة) روى عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص في "الكسوف"، وعنه يحيى ابن أبي كثير، قيل: إنه هلال مولى عمر بن عبد العزيز، وقيل: غيره، انفرد به النسائي.

قاله في "تهذيب التهذيب". وفي "التقريب": أبو طعمة شيخ ليحيى بن أبي كثير، قيل: هو هلال المذكور أوّلاً، وإلا فمجهول [3].

ص: 431

وقال قبل ذلك: أبو طعمة -بضم أوله، وسكون المهملة- شاميّ، سكن مصر، وكان مولى عمر بن عبد العزيز، يقال: اسمه هلال، مقبول [4] ، ولم يثبت أن مكحولاً رماه بالكذب انتهى. واللَّه تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (خَالَفَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ) يعني أن علي بن المبارك الْهُنَائيّ خالف معاوية سلّام في إسناد هذا الحديث، حيث رواه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي حفصة، عن عائشة رضي الله عنها، فجعل شيخ يحيى أبا حفصة، بدلاً من أبى سلمة، أو أبي طُعمة، وجعله أيضًا من مسند عائشة بدلاً عن عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهم -، كما بينه بقوله:

1481 أ- (أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ، سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَفْصَةَ، مَوْلَى عَائِشَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهُ لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَوَضَّأَ، وَأَمَرَ، فَنُودِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ فِي صَلَاتِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسِبْتُ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». ثُمَّ قَامَ مِثْلَ مَا قَامَ، وَلَمْ يَسْجُدْ، ثُمَّ رَكَعَ، فَسَجَدَ، ثُمَّ قَامَ، فَصَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعَ، رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَةً، ثُمَّ جَلَسَ، وَجُلِّىَ عَنِ الشَّمْسِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبوبكر بن إسحاق) هو محمد الصَّغَاني، نزيل بغداد، ثقة ثبت [11] 13/ 47.

2 -

(أبو زيد سعيد بن الربيع) العامريّ الْحَرَشيّ الْهَرَويّ البصريّ، كان يبيع الثياب الهروية، ثقة، من صغار [9].

روى عن شعبة، وقرّة بن خالد، وعلي بن المبارك، وغيرهم. وعنه البخاري، وروى له هو أيضًا، ومسلم، والترمذي بواسطة.

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه. شيخ ثقة، لم أسمع منه شيئًا. وقال أبو حاتم: صدوق. مات سنة (211) وهو أقدم شيخ للبخاريّ وفاة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا، وفي "الجنائز" حديث رقم (1919)، وفي "الزينة" حديث رقم (5092).

3 -

(علي بن المبارك) الْهُنَائي، ثقة، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7] 28/ 1411.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) المذكور في السند الماضي.

5 -

(أبو حفصة مولى عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها -، مقبول [3].

قال في "تهذيب التهذيب": أبو حفصة مولى عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - في "الكسوف"، وعنه يحيى بن أبي كثير، قال الدارقطنيّ: مجهول يُكتب حديثه انتهى.

ص: 432

وهو من أفراد المصنف، وليس له عنده إلا هذا الحديث.

6 -

(عائشة) رضي الله عنها 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، بشواهده، وهو من أفراد المصنف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا -13/ 1481 - وفي "الكبرى" 13/ 1866. وأخرجه (أحمد) 6/ 98 و 6/ 158. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: تابع عليَّ بنَ المبارك في روايته عن يحيى شيبانُ بنُ عبد الرحمن النحوي، فقد رواه أحمد في "مسنده" بالرقم المذكور عن حسن بن موسى، عنه، عن يحيى به.

وقوله. "ركعتين وسجدة" تقدم الكلام في حديث عبد اللَّه بن عمرو من طريق مروان ابن محمد، على أن الظاهر أن الواو من قوله:"وسجدة" مصحّفة من "في"

(1)

، أو تصحف قوله:"وسجدة" من "وسجدتين"، كما في الحديث الذي قبل هذا.

ولفظ أحمد هنا: "ثم ركع ركعتين في سجدة"، وهو الموافق للروايات الصحيحة، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌14 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1482 أ- (أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي السَّائِبُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَدَّثَهُ، قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ، وَقَامَ الَّذِينَ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَسَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَجَلَسَ، فَأَطَالَ الْجُلُوسَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَامَ، فَصَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى، مِنَ الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْجُلُوسِ، فَجَعَلَ يَنْفُخُ، فِي آخِرِ سُجُودِهِ، مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ:«لَمْ تَعِدْنِي هَذَا، وَأَنَا فِيهِمْ، لَمْ تَعِدْنِي هَذَا، وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ» ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عز وجل، فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفَ أَحَدِهِمَا،

(1)

هذا الاحتمال هو القوي؛ لرواية أحمد المذكورة. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 433

فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ أُدْنِيَتِ الْجَنَّةُ مِنِّي، حَتَّى لَوْ بَسَطْتُ يَدِي، لَتَعَاطَيْتُ مِنْ قُطُوفِهَا، وَلَقَدْ أُدْنِيَتِ النَّارُ مِنِّي، حَتَّى لَقَدْ جَعَلْتُ أَتَّقِيهَا، خَشْيَةَ أَنْ تَغْشَاكُمْ، حَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً، مِنْ حِمْيَرَ، تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تَدَعْهَا، تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ سَقَتْهَا، حَتَّى مَاتَتْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا تَنْهَشُهَا، إِذَا أَقْبَلَتْ، وَإِذَا وَلَّتْ تَنْهَشُ أَلْيَتَهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ، أَخَا بَنِي الدَّعْدَاعِ، يُدْفَعُ بِعَصًا، ذَاتِ شُعْبَتَيْنِ فِي النَّارِ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا، صَاحِبَ الْمِحْجَنِ، الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، مُتَّكِئًا عَلَى مِحْجَنِهِ فِي النَّارِ، يَقُولُ: أَنَا سَارِقُ الْمِحْجَنِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هلال بن بِشْر) بن محبوب بن هلال بن ذَكْوان الْمُزَنيّ، أبو الحسن البصريّ الأحدب، إمام مسجد يونس بن عبيد، ثقة [10].

روى عن حماد بن زيد، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمّيّ، وابن أبي عديّ، وغيرهم. وعنه البخاري في "جزء القراءة"، وأبو داود، والنسائيّ، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مُتقن للحديث، قال ابن أبي عاصم: مات سنة (246)، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا، وفي "الحجّ" حديث رقم (02850)، وفي "الشفعة" حديث رقم (4706).

2 -

(عبد العزيز بن عبد الصمد) العمّيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [9] 17/ 1551.

3 -

(عطاء بن السائب)، أبو محمد، أو أبو السائب الثقفيّ الكوفي، صدوق اختلط [5] 152/ 243.

4 -

(السائب) بن مالك، أو ابن يزيد الكوفي، والد عطاء، ثقة [2] 62/ 1305.

5 -

(عبد اللَّه بن عمرو) - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِب، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي السَّائِبُ) بالرفع بدل من "أبي"(أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو حَدَّثَهُ، قّالَ: اَنْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلىَ الصَّلَاةِ، وَقَامَ الَّذِينَ مَعَهُ) أي قام الصحابة الذين كانوا معه في ذلك اليوم إلى الصلاة

ص: 434

خلفه (فَقَامَ قِيَامًا، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَسَجَدَ) فيه أنه لم يركع إلا ركوعًا واحدًا، فيدلّ على أن من كيفيات صلاة الكسوف أن تصلَّى بركوع واحد، وسجدتين، وقد تقدّم تحقيق القول في ذلك في المسألة الثالثة من 3/ 1461 (فَأَطَالَ السُّجُود، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ، وَجَلَسَ، فَأَطَالَ الْجُلُوسَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَامَ، فَصَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولىَ، مِنَ الْقِيَامِ، والرَّكْوعٍ، وَالسُّجُودِ، وَالْجُلُوسِ، فَجَعَلَ يَنْفُخُ، في آخِرِ سُجُودِهِ، مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: "لم تَعِدْنِي هَذَا، وَأَنَا فِيهِمْ، لْمَ تَعِدْنِي هَذَا، وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ") أي ما وعدتني هذا، وهو أن تعذّبهم، وأنا فيهم، بل وعدتني خلافه، وهو أن لا تعذبهم، وأنا فيهم، يريد به قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية [الأنفال: 33] ، وهذا من باب التضرّع في حضرته، وإظهار غناه عن خلقه، وفقر الخلق إليه، وأن ما وعد به من عدم العذاب مادام فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم يمكن أن يكون مقيّدًا بشرط، وليس مثله مبنيّا على عدم التصديق بوعده الكريم، وهذا ظاهر، واللَّه تعالى أعلم

(1)

(ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَ النَّاسَ) قال القرطبي رحمه الله: هذا دليل لمن قال: من سنّتها الخطبةُ، وهم الشافعيّ، وإسحاق، والطبريّ، وفقهاء أصحاب الحديث، وخالفهم في ذلك مالك، وأبو حنيفة، وقالا: إن هذه الخطبة إنما كان مقصودها زجرُ الناس عما قالوا من أن الكسوف إنما كان لموت إبراهيم، وليخبرهم بما شاهد في هذه الصلاة، مما اطلع عليه من الجنة والنار انتهى

(2)

.

قال الجامع -عفا اللَّه عنه-: ما قاله الأولون هو الصواب. واللَّه تعالى أعلم.

(فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عز وجل) أي دليلان على وجود الحقّ سبحانه، وقهره، وكمال إلهيته، وقد خصهما بالذكر لِمَا وَقَعَ للناس من أنهما يخسَفان لموت عظيم، وهذا إنما صدر عمن لا علم عنده، ممن ضعف عقله، واختلّ فهمه، فردَّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم جهالتهم، وتضمّن ذلك الردَّ على من قال بتأثيرات النجوم، ثم أخبر بالمعنى الذي لأجله يكسفان، وهو أن اللَّه تعالى يخوّف بهما عباده.

قال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: فإن قيل: فأيّ تخويف في ذلك، والكسوف أمر عاديّ بحسب تقابل هذه النيّرات، وحَجْب بعضها بعضًا، وذلك يَجري مجرى حَجْب الجسم الكثيف نورَ الشمس عما يُقابله من الأرض، وذلك لا يحصل به تخويف؟

(1)

"شرح السندي" ج 3 ص 138.

(2)

"المفهم" ج 2 ص 552.

ص: 435

قلنا: لا نُسلّم أن سبب الكسوف ما ادّعوه، ومن أين عرفوا ذلك، بالعقل، أم بالنقل؟ وكلّ واحد منهما إما بواسطة نظر، أو بغير واسطة، ودعوى شيء من ذلك ممنوعة، وغايتهم أن يقولوا: ذلك مبنيّ على أمور هندسيّة، ورصدية تُفضي بسالكها إلى القطع، ونحن نمنع أيضًا ما ذكروه إلى

(1)

القطع، وهو أول المسألة.

ولئن سلّمنا ذلك جَدَلًا، لكنّا نقول: يحصل بهما تخويفُ العقلاء من وجوه متعدّدة، أوضحها أن ذلك مذكّر بالكسوفات التي تكون بين يدي الساعة، ويمكن أن يكون ذلك الكسوف منها، ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم فَزِعًا، يخشى أن تقوم الساعة، وكيف لا؟ وقد قال اللَّه عز وجل:{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 7 - 9] قال أهل التفسير: جُمِعَ بينهما في إذهاب نورهما، وقيل: غير ذلك، وأيضًا فإن كلّ ما في هذا العالم علويّه وسفليّه دليل على نفوذ قدرة اللَّه، وتمام قهره، واستغنائه، وعدم مبالاته، وذلك كلّه يوجب عند العلماء باللَّه خوفه، وخشيته، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

وخص هنا خسوفهما بالتخويف، لأنهما أمران علويّان نادران، طارئان، عظيمان، والنادر العظيم مخوّف، موجع، بخلاف ما يكثر وقوعه، فإنه لا يحصل منه ذلك غالبًا، وأيضًا فلِمَا وقع فيهما من الغلط الكثير لأمم التي كانت تعبدهما، ولِمَا وقع للجهّال من اعتقاد تأثيرهما انتهى كلام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. وهو تحقيق نفيس. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفَ أَحَدِهَمِا، فَاسْعَوْا إِلىَ ذِكْرِ اللَّه عز وجل، وَالَّذِي نَفْسُ محُمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ أُدْنِيَتِ الْجَنَّةُ مِنِّي) أي دنوّا حقيقيَّا (حَتَّى لَوْ بَسَطْتُ يَدِي) غاية لشدة دنوّها منه (لَتَعَاطَيْتُ مِنْ قُطُوفِهَا) جمع قطف -بكسر، فسكون- وهو: ما يُقطف منها، أي يُقطع، ويُجتنى، وهو هنا عُنقودٌ من العنب، كما جاء مفسّرًا في الرواية الأخرى (وَلَقَدْ أُدْنِيَتِ النَّارُ مِنِّي، حَتَّى لَقَدْ جَعَلْتُ أَتَّقِيهَا، خَشْيَةَ أَنْ تَغْشَاكُمْ، حَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً، مِنْ حِمْيَرَ) بكسر، فسكون، أي منسوبة إلى قبيلة حِمْيَر، قال المجد اللغوي: حِمْيَر، كدِرْهم: موضع غَربيَّ صَنْعَاء اليمن، وابنُ سَبَأ بن يَشْجُبَ، أبو قبيلة انتهى

(3)

. وفي رواية لمسلم: "فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل" وفي رواية: "فرأيت فيها امرأة حميرية سوداء طويلة"(تُعَذَّبُ) بالبناء للمفعول، والجملة صفة لـ"امرأة" بعد صفة، أو حال (فِي

(1)

هكذا عبارة المفهم "إلى القطع" ولعل الصواب من إفضائه إلى القطع. فليحرّر.

(2)

"المفهم" ج 2 ص 552 - 553.

(3)

انظر "ق" في مادة حمر.

ص: 436

هِرَّةِ) أي لأجل هرّة، وشأنها، قال ابن مالك رحمه الله:"في" هنا للسببية، وهو مما خفي على أكثر النحويين، مع وروده في القرآن، والحديث، والشعر القديم

(1)

(رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تَدَعْهَا) أىِ لم تتركها (تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) مثلث الخاء المعجمة، أي هوامّها، وحشراتها (فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ سَقَتْهَا، حَتَّى مَاتَتْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا تَنْهَشُهَا) بالشين المعجمة: أي تعَضّها، قال الفيومي رحمه الله: نَهَسَه الكلبُ، وكلّ ذي ناب نَهْسًا، من بأبي ضرب، ونَفَع: عَضّه، وقيل: قبض عليه، ثم نَثَرَه، فهو نهّاس، ونَهَستُ اللحمَ: أخذته بمقدّم الأسنان للأكل، واختُلف في جميع الباب، فقيل: بالسين المهملة، واقتصر عليه ابن السِّكِّيت، قال: سمعت الكلابي يقول: انتهسه الكلبُ، والذئبُ، والحيّة، ونَهسَه، وقيل: جميع الباب بالسين والشين، ونقله ابن فارس عن الأصمعيّ، وقال الأزهريّ: قال الليث: النَّهش بالشين المعجمة: تناولٌ من بَعِيد، كنَهْشِ الحيّة، وهو دون النهس، والنّهْسُ بالمهملة. القبضُ على اللحم، ونثره، وعكَسَ ثعلبٌ، فقال: النهسُ بالمهملة يكون بأطراف الأسنان، والنهْشُ بالمعجمة بالأسنان، وبالأضراس، وقال ابن الْقُوطِيّة كما قال الليث: نَهَشَهُ الحيةُ بالشين المعجمة ن ونهسه الكلب، والذئبُ والسبع بالمهملة انتهى كلام الفيّومي

(2)

.

(إِذَا أَقْبَلَتْ، وَإذَا وَلَّتْ تَنْهَشُ أَلْيَتَهَا) بفتح الهمزة: العَجِيزة، أي إذا أدبرت المرأة، تنهش عجيزتها، والحاصل أن الهرّة في النار مع المرأة، لكن لا لتُعَذَّب الهرّةُ، بل لتكون عذابًا في حقّ المرأة.

قال القاض عياض رحمه الله: في هذا الحديث المؤاخذة بالصغائر، قال: وليس فيه أنها عُذّبت عليها بالنار، قال: ويحتمل أنها كانت كافرة، فزيد في عذابها بذلك انتهى.

وتعقّبه النووي رحمه الله، فقال. وليس هذا بصواب، بل الصواب المصرّح به في الحديث أنها عُذّبت بسبب الهرّة، وهي كبيرة؛ لأنها ربطتها، وأصرّت على ذلك، حتى ماتت، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، كما هو مقرّر في كتب الفقه وغيرها، وليس في الحديث ما يقتضي كفر هذه المرأة انتهى

(3)

.

(وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْن) وفي الرواية الآتية 20/ 1496 من طريق شعبة، عن عطاء:"ورأيت فيها سارق بَدَنَتَيْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

قال السندي رحمه الله: هكذا في نسخة النسائي -يعني "صاحب السبتيتين"- وفي كتب

(1)

"زهر الربى" ج3 ص 139.

(2)

"المصباح المنير" في مادة "نهس".

(3)

"شرح مسلم" ج 6 ص 207 - 208.

ص: 437

الغريب: "صاحب السائبتين"، في "النهاية": سائبتان بدنتان، أهداهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت، فأخذهما رجل من المشركين، فذهب بهما، وسمّاهما سائبتين، لأنه سيبهما للَّه تعالى انتهى.

قال الجامع -عفا اللَّه عنه-: لعل ذلك الوجل كان لابسًا علين سبتيتين، واللَّه تعالى أعلم.

و"السبتيتان" تثنية سبتِيَّة، بكسر المهملة، وسكون الموحدة، وهي النعل التي لا شعر عليها (أَخَا بَنِي الدَّعْدَعِ" هكذا في النسختين المطبوعتين بألف بعد الدال الثانية، وفي "الهنديّة": "بني الدعدع"، بإسقاط الألف، وهو الآتي في رواية شعبة المذكورة، ولم أجد من ضبط هذه الكلمة، ولا بيّن من هي هذه القبيلة؟. واللَّه تعالى أعلم.

(يُدْفَعُ) بالبناء للمفعول (بِعَصًا، ذَاتِ شُعْبَتَيْنِ) تثنية شعبة، وهو بضم، فسكون: الطائفة من الشيء (فِي النَّار، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا، صَاحِبَ الْمِحْجَنِ) بكسر الميم، وسكون الحاء المهملة وِزَان مِقْوَد: خشبة في طرفها اعوجاج، مثل الصَّوْلجان، قال ابن دُريد: كل عُود معطوف الرأسِ، فهو مِحْجَنٌ، والجمع المحاجن. قاله في "المصباح".

(الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ الْحاجَّ) أي أمتعة الحاجّ، فهو على حذف مضاف، و"أل" للجنس، وفي رواية شعبة:"سارق الحجيج"(بِمِحْجَنِهِ) بيّن في رواية مسلم كيفية سرقته، ولفظه:"وحتى رأيت فيها صاحب المِحجَن، يجرّ قُصْبه في النار، وكان يسرق الحاجّ بمحجنه، فإن فُطن له، قال: إنما تعلّق بمحجني، وإن غُفِلَ عنه ذَهَبَ به". وفي رواية شعبة الآتية 20/ 1496: "فإذا فُطن له قال: هذا من عمل المحجن".

وقال ابن منظور: وصاحب المحجن في الجاهلية: رجل كان معه محجن، وكان يقعد في جادّة الطريق، فيأخذ بمحجنه الشيءَ بعد الشيءِ من أثاث المارّة، فإن عُثِر عليه اعتلّ بأنه تعلّق بمحجنه انتهى

(1)

(مُتَّكِئًا عَلَى محِجَنِهِ فِي النَّارِ، يَقُولُ: أَنَا سَارِقُ الْمِحْجَنِ")

أي سارق المتاع بالمحجن، فهو من الإضافة إلى الآلة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

فإن قلت: كيف يصحّ، وفي إسناده عطاء بن السائب، وهو مختلط؟

(1)

انظر "لسان العرب" في مادة حجن.

ص: 438

قلت: قد ثبت من رواية من رواه عنه قبل الاختلاط، فقد رواه عنه سفيان الثوريّ، وشعبة، وزائدة بن قدامة، فهؤلاء ممن روى عنه قبل الاختلاط، فرواية سفيان عند أحمد 2/ 198، ورواية شعبة تأتي للمصنف 20/ 1496 ورواية زائدة عند أحمد 2/ 188.

وتابع عطاءً أبو إسحاق السبيعيّ، عن السائب عند المصنف في "الكبرى"

(1)

عن محمد بن عبد الأعلى- وعند أحمد 2/ 223 عن يحيى بن آدم- كلاهما عن أبي بكر بن عيّاش، عن أبي إسحاق به.

والحاصل أن الحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا -14/ 1482 وفي "الكبرى"14/ 1867 - بالإسناد المذكور، وفي 19/ 1496 - و"الكبرى" 20/ 1883 - عن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهريّ، عن غُندر، عن شُعبة، عن عطاء به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 1194 (ت) في "الشمائل": 324 (أحمد) 2/ 159 و 2/ 631 و 2/ 188 و2/ 198 (ابن خزيمة) 901 و 1389 و1392 و1393. واللَّه تعالى أعلم

وفوائد الحديث تعلم مما ذكرناه في الأحاديث المتقدّمة، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: هذا الحديث يدلّ على أن صلاة الكسوف تصلّى بركوع واحد في كل وكعة، وهو حجة لمن قال: إنها مثل صلاة الصبح، وهومخالف للأحاديث التي أخرجها الشيخان، وغيرهما من أنها بركوعين، فترجّح تلك الأحاديث عليه، ومن العلماء من رأى أن هذا من الاختلاف المباح، فجمع بأنه صلى الله عليه وسلم فعل بهذا، وبهذا، وهذا غير صحيح، فإن في بعض طرق حديث ابن عمرو هذا أن ذلك وقع يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الصحيحة الكثيرة متفقة على أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف في ذلك اليوم بأربع ركوعات، وأربع سجدات، فلا يصحّ الجمع المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1483 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ سَبَلَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ، فَصَلَّى لِلنَّاسِ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ

(1)

رواية المصنف في "الكبرى" ذكرها في "تحفة الأشراف" ج 6 ص 298 ولم أرها فيه.

ص: 439

رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، وَهُوَ دُونَ السُّجُودِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَفَعَلَ فِيهِمَا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، يَفْعَلُ فِيهِمَا مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل، وَإِلَى الصَّلَاةِ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبيد اللَّه بن عبد العظيم) القرشي الْكُرَيزيّ -بضم الكاف، وفتح الراء المهملة، وبعد التحتانية زاي

(1)

- أبو عبد اللَّه البصريّ القاضي، صدوق [11].

روى عن أبي عاصم، والحسن بن بشر، وإبراهيم بن زياد سَبَلَان، وغيرهم. وعنه النسائيّ، وقال: لا بأس به. ومحمد بن عبد اللَّه الدمشقي، وأبو عروبة، وأحمد بن الحسين الخُرَيبيّ. قال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (250) وقال أبو علي الحرّاني، وأبو عروبة، وغيرهما: سنة (260). انفرد به المصنف بهذا الحديث فقط.

[تنبيه]: محمد بن عبيد اللَّه، شيخ المصنف هكذا وقع في النسخة "الهندية"، وهو الصواب، فقد أورده في "ت"، و"تت"، و"صه" مصغرًا، و"تحفة الأشراف" 11/ 7 - 8، ووقع في النسختين المطبوعتين، و"السنن الكبرى" للمصنف محمد بن عبد اللَّه مكبرًا، وهو تصحيف فاحش، فتنبه. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(إبراهيم سَبَلان) هو ابن زياد، أبو إسحاق البغداديّ، المعروف بسَبَلان -بفتح المهملة، والموحّدة- ثقة [10].

روى عن بن عبّاد المهلبي، والفرج بن فَضالة، ويحيى القطّان، وغيرهم. وعنه مسلم، وأبو داود، وروى عنه النسائي بواسطة، وابن المدينيّ، وغيرهم.

قال أحمد: إذا مات سَبَلان ذهب علم عبّاد بن عبّاد، وقال أيضًا: لا بأس به، كان معنا عند هُشيم. وقال ابن معين، وأبو زرعة، وصالح جَزَرَة: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (232) وقال مطيّن، وموسى الحمال: مات سنة (228) زاد موسي: في ذي الحجة، وكان قد ضبّب أسنانه بالذهب. روى له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

(1)

هكذا ضبطه في "صه".

ص: 440

3 -

(عَبّاد بن عبّاد المهلّبيّ) الأزديّ، أبو معاوية البصريّ، ثقة ربّما وهم [7] 123/ 1081.

4 -

(محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص الليثي المدني، صدوق، له أوهام [6] 16/ 17.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المذكور في الباب الماضي.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

وشرح الحديث يعلم مما تقدم في شرح حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -.

وهو حديث صحيح، انفرد بإخراجه المصنف، أخرجه هنا 14/ 1483 وفي "الكبرى" 14/ 1868 بالإسناد المذكور.

وقوله: "فافزعوا إلى الصلاة" بفتح الزاي، أي التجئوا، وتوجهوا، وفيه إشارة إلى المبادرة إلى المأمور به، وأن الالتجاء إلى اللَّه عند المخاوف بالدعاء، والاستغفار سبب لمحو ما فرط من العصيان، يُرجى به زوال المخاوف، وأن الذنوب سبب للبلايا، والعقوبات العاجلة والآجلة، نسأل اللَّه تعالى رحمته، وعفوه، وغفرانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين: قد انتهيت من كتابة الجزء السادس عشر من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتبى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمًا.

{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الذي رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك

ص: 441

حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء السابع عشر مفتتحًا بالباب 15 "نوع آخر" الحديث رقم 1484.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 442