المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سُنن النّسَائي المُسَمَّى ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى   لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ١٧

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح سُنن النّسَائي

المُسَمَّى

ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى

لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه الغَنيّ القَديْر

محمد ابن الشيخ العلامة على بن آدم بن موسى الأيتُوبي الوَلَّوِي

المُدرّس بدَار الحَديثْ الخيريَّة بمكّة المكرَّمة

عَفَا اللَّه عَنْه وَعَنْ والدَيه آمِينْ

الجزْء السَّادس عَشر

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

شرح سُنن النّسَائي

ص: 3

جَمِيع الحقُوق مَحفُوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دَار آل بُروم للِنشر وَالتّوزيع

المملكة العَربيّهَ السّعوديّة - مكّة المكرّمة - المكتب الرئيسي التنعيم

صَ بْ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)

ص: 4

‌15 - (نَوْعٌ آخَرُ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على نوع آخر من أنواع صلاة الكسوف.

1484 -

(أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

ثَعْلَبَةُ بْنُ عِبَادٍ الْعَبْدِيُّ، مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، أَنَّهُ شَهِدَ خُطْبَةً يَوْمًا لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ حَدِيثًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: بَيْنَا أَنَا يَوْمًا، وَغُلَامٌ مِنَ الأَنْصَارِ، نَرْمِي غَرَضَيْنِ لَنَا، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، فِي عَيْنِ النَّاظِرِ مِنَ الأُفُقِ، اسْوَدَّتْ، فَقَالَ أَحَدُنَا لِصَاحِبِهِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَاللَّهِ لَيُحْدِثَنَّ شَأْنُ هَذِهِ الشَّمْسِ، لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ حَدَثًا، قَالَ: فَدَفَعْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَوَافَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ، قَالَ: فَاسْتَقْدَمَ فَصَلَّى، فَقَامَ كَأَطْوَلِ قِيَامٍ قَامَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ، مَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا، ثُمَّ رَكَعَ بِنَا كَأَطْوَلِ رُكُوعٍ، مَا رَكَعَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ، مَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا، ثُمَّ سَجَدَ بِنَا كَأَطْوَلِ سُجُودٍ مَا سَجَدَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ، لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: فَوَافَقَ تَجَلِّي الشَّمْسِ جُلُوسَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ

(2)

وَرَسُولُهُ، مُخْتَصَرٌ).

رجال هذا الإسناد: سنة:

1 -

(هلال بن العلاء بن هلال) الباهليّ مولاهم، أبو عمرو الرَّقّيّ، صدوق [11] 10/ 1199.

2 -

(الحسين بن عيّاش) بن حازم السلميّ مولاهم، أبو بكر الجَزَريّ الباجدّائيّ الرقّيّ، ثقة [10].

روى عن جعفر بن بُرْقان، وحُدَيج، وزهير ابني معاوية، وغيرهم. وعنه هلال بن العلاء، وعبد الحميد بن محمد بن الْمُسْتَام، وعلي بن جَمِيل الرقيّ، ومحمد بن القاسم الحرّانيّ.

قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في الثقات". وقال الخطيب: كان أديبًا فاضلًا، وله كتاب مصنّف في غريب الحديث. وضعّفه الساجيّ، والأزديّ. وقال الذهبي: لَيّنَه

(1)

وفي نسخة "حدثنا".

(2)

وفي نسخة "عبده".

ص: 5

بعضهم بلا مُستند، غير انفراده عن جعفر بن بُرقان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، مرفوعًا:(لا نكاح إلا بوليّ، والسلطانُ وليُّ من لا وليّ له". قال هلال بن العلاء: مات ببَاجَدَّاء سنة (204). و"باجدّاء" - بموحدة، وجيم مفتوحة، ودال ثقيلة، وبعد الألف همزة-: قرية بقرب بغداد. أفاده ابن السمعاني. انفرد به المصنّف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث.

3 -

(زُهير) بن معاوية بن حُدَيج، أبو خيثمة الجُعفي الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت [7] 37/ 42.

4 -

(الأسود بن قيس) العبديّ، أو البجليّ، أبو قيس الكوفيّ، ثقة [4].

روى عن أبيه، وثعلبة بن عباد، وجندب بن عبد اللَّه، وغيرهم. وعنه شعبة، والثوريّ، وشريك، وزهير بن معاوية، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة. وقال العجلي: ثقة حسن الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الفسويّ: كوفي ثقة. وقال شريك بن عبد اللَّه النخعيّ: أما واللَّه إن كان لصدوق الحديث، عظيم الأمانة، مكرمًا للضيف. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث.

5 -

(ثعلبة بن عِباد) -بكسر المهملة، وتخفيف الموحدة- العبدي البصري، مقبول [4].

روى عن أبيه، وسمرة بن جندب. وعنه الأسود بن قيس. ذكره ابن المديني في المجاهيل الذين يروي عنهم الأسود بن قيس، وأما الترمذي، فصحح حديثه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن حزم: مجهول، وتبعه ابن القطّان، وكذا نقل ابن المَوّاق عن العجلي.

روى له البخاري في "خلق أفعال العباد"، والأربعة، أخرجوا له حديث الباب فقط.

6 -

(سمرة بن جُندب) بن هلال الفَزَاريّ، حليف الأنصار، صحابي مشهور، مات بالبصرة سنة (58) - رضي اللَّه تعالى عنه - 25/ 393. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث سمرة بن جندب هذا ضعيف، لجهالة ثعلبة ابن عِبَاد، أخرجه المصنف هنا -15/ 1484 - وفي "الكبرى"-15/ 1869 - بالإسناد المذكور، وفي 19/ 1495 - و"الكبرى" 19/ 1882 - عن عمرو بن منصور، عن أبي نُعيم، عن سفيان الثوريّ، عن الأسود بن قيس مختصرًا، وفي 23/ 1501 و"الكبرى" 23/ 1888 عن أحمد بن سليمان، عن أبي داود الْحَفَريّ، عن الثوري به مختصرًا.

وأخرجه (د) 1184 (ت) 562 (ق) 1264 (أحمد) 5/ 14 و 5/ 16 و 5/ 19

ص: 6

(البخاري في خلق أفعال العباد) 54 و 53 (ابن خزيمة)1397. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "غرضين" بفتح الغين المعجمة، والراء المهملة: أي هَدَفَين. وقوله: "قيد رمحين" بكسر القاف، أي قدر رمحين. وقوله:"ليُحدثنّ" بضم الياء، من الإحداث، والنونُ المشددة نون التأكيد، وقوله:"شأنُ هذه الشمس" بالرفع على الفاعلية.

وقوله: "فدفعنا" يحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، أي ذهبنا من موضعنا إلى المسجد، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، أي انتهينا إلى المسجد، قال في "المصباح": ودفعتُ عن الموضع -أي بالبناء للفاعل-: رَحَلتُ عنه، ودُفِعتُ إلى كذا بالبناء للمفعول: انتهيت إليه انتهى. وقوله: "فوافينا" أي صادفنا. وقوله: "فاستقدم" السين والتاء زائدتان، أي تقدّم. وقوله:"قط" أي دائما، أو أبدًا، فلذا استعمل في الإثبات، وإلا فقد أجمعوا على أنه لا يُستعمل إلا في النفي. قاله السنديّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله السندي إنما هو في النسخة التي شرح عليها، حيث وقع فيها:"قام بنا"، بلا تقدّم حرف النفي، وأما النسخة "الهندية" فوقع فيها:"ما قام بنا" بذكر "ما" النافية، وعليه فلا إشكال، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "لا نسمع له صوتا" هذا لا يدلّ على أنه لم يجهر في القراءة، فلا ينافي حديث عائشة رضي الله عنها الآتي 18/ 1494 - :"وجهر فيها بالقراءة"، لإمكان حمله على أنه لم يسمعه سمرة، ومن معه لبعدهم عنه صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام ابن خزيمة في "صحيحه" بعد أن أخرج حديث سمرة رضي الله عنه هذا: ما نصه: هذه اللفظة التي في هذا الخبر "لا يُسمع له صوت" من الجنس الذي أَعْلَمْنا أن الخبر الذي يجب قبوله خبر من يُخبر يكون الشيء، لا من يَنفي، وعائشة قد أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة، فخبر عائشة يجب قبوله، لأنها حفظت جهر القراءة، وإن لم يحفظها غيرها، وجائز أن يكون سمرة كان في صفّ بعيد من النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة، فقوله:"لا يُسمع له صوت" أي لم أسمع صوتا على ما بيّنتُهُ أن العرب تقول: لم يكن كذا لما لم تعلم كونه. انتهى

(1)

.

وظاهر الحديث أيضًا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ركع ركوعا واحدًا، وقد تقدم تحقيق القول فيه في الباب الماضي.

وقوله: "فوافق تجلي الشمس الخ" برفع "تجلي" على الفاعلية، ونصب "جلوسه" على المفعولية، ويجوز العكس.

(1)

"صحيح ابن خزيمة" ج 2 ص 327.

ص: 7

وقوله: "مختصر" خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مختصر من حديث طويل.

والحديث بطوله قد ساقه أحمد في "مسنده" ج 5/ ص 16، وابن خزيمة في "صحيحه" رقم 1397 - ولفظ أحمد:

19665 -

حدثنا أبو كامل، حدثنا زهير، حدثنا الأسود بن قيس، حدثنا ثعلبة بن عِبَاد العبدي، من أهل البصرة، قال: شهدت يوما خطبة لسمرة بن جندب، فذكر في خطبته حديثا، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: بينا أنا وغلام من الأنصار، نَرمي في غرضين لنا، على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كانت الشمس قيد رمحين أو ثلاثة في عين الناظر، اسودت، حتى آضت

(1)

، كأنها تَنُّومَة قال فقال أحدنا لصاحبه: انطلق بنا إلى المسجد، فوالله ليُحدثن شأن هذه الشمس، لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -في أمته حَدَثًا، قال: فدفعنا إلى المسجد، فإذا هو بارز، قال، ووافقنا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، حين خرج إلى الناس، فاستقدم، فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط، لا نسمع له صوتا، ثم ركع كأطول ما ركع بنا في صلاة قط، لا نسمع له صوتا، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك، فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية، قال زهير: حسبته قال: فسلم، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، وشهد أنه عبد اللَّه ورسوله، ثم قال:"أيها الناس أنشدكم باللَّه، إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي عز وجل، لَمّا أخبرتموني ذاك، فبلغتُ رسالات ربي، كما ينبغي لها أن تُبَلَّّغ، وإن كنتم تعلمون أني بلغت رسالات ربي لما أخبرتموني ذاك"، قال: فقام رجال، فقالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، وقضيت الذي عليك، ثم سكتوا، ثم قال: "أما بعد، فإن رجالا يزعمون أن كسوف هذه الشمس، وكسوف هذا القمر، وزوال هذه النجوم عن مطالعها، لموت رجال، عظماء من أهل الأرض، وإنهم قد كذبوا، ولكنها آيات من آيات اللَّه تبارك وتعالى، يعتبر بها عباده، فينظر من يحدث له منهم توبة، وايم اللَّه فقد

رأيت منذ قمت أصلي، ما أنتم لاقون في أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه واللَّه لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور الدجال، ممسوح العين اليسرى، كأنها عين أبي يحيى، لشيخ حينئذ من الأنصار، بينه وبين حجرة عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها، وإنها متى يخرج"، أو قال: "متى ما يخرج، فإنه سوف يزعم أنه اللَّه، فمن آمن

به، وصدقه، واتبعه لم ينفعه صالح من عمله سلف، ومن كفر به، وكذبه، لم يعاقب بشيء من عمله" -وقال حسن الأشيب-:"بسيئ من عمله سلف، وإنه سيظهر"، أو

(1)

آضت: أي عادت ورجعت من صفاء لونها إلى الاسوداد، وقوله:"كأنها تنّومة" بفتح التاء، وتشديد النون: نوع من النبات، فيه، وفي ثمره اسوداد قليل.

ص: 8

قال" "سوف يظهر على الأرض كلها، إلا الحرم، وبيت المقدس، وإنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس، فيزلزلون زلزالا شديدا، ثم يهلكه اللَّه تبارك وتعالى وجنوده، حتى إن جِذْم الحائط"، أو قال: "أصل الحائط" وقال حسن الأشيب: "وأصل الشجرة لَيُنَادي"، أو قال: "يقول: يا مؤمن"، أو قال: "يا مسلم هذا يهودي"، أو قال: "هذا كافر، تعال فاقتله"، قال: "ولن يكون ذلك كذلك حتى تروا أمورا، يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتساءلون بينكم، هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا، وحتى تزول جبال على مراتبها، ثم على أثر ذلك القبض"، قال: ثم شهدت خطبة لسمرة، ذكر فيها هذا الحديث، فما قدم كلمة، ولا أخرها عن موضعها انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌16 - (نَوْعٌ آخَرُ)

1485 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَزِعًا، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي بِنَا، حَتَّى انْجَلَتْ، فَلَمَّا انْجَلَتْ، قَالَ: «إِنَّ نَاسًا

(1)

يَزْعُمُونَ، أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْكَسِفَانِ إِلاَّ لِمَوْتِ عَظِيمٍ، مِنَ الْعُظَمَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عز وجل، إِنَّ اللَّهَ عز وجل، إِذَا بَدَا لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، خَشَعَ لَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَصَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا، مِنَ الْمَكْتُوبَةِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن بشار) بُندار البصري، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(عبد الوهّاب) بن عبد المجيد الثقفي البصريّ، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين [8] 42/ 48.

3 -

(خالد) بن مِهران الحذّاء البصري، ثقة يرسل تغير بآخره [5] 7/ 634.

(1)

وفي نسخة "الناس".

ص: 9

4 -

(أبو قلابة) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الجَزْميّ البصريّ، ثقة فاضل كثير الإرسال [3] 103/ 322.

5 -

(النعمان بن بَشِير) بن سعد الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما - 19/ 528. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَزِعًا) بفتح، فكسر: أي خائفا، وقيل: أو بفتح الزاي على أنه مصدر بمعنى الصفة، أو هو مفعول مطلق لمقدّر قاله السنديّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأولى أن يُجعل مفتوحُ الزاي منصوبا على أنه مفعول لأجله. واللَّه أعلم.

(حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يَزلْ يُصَلِّي بِنَا حَتَّى انْجَلَتْ) ولفظ أبي داود: "فجعل يصلي ركعتين ركعتين، ويسأل عنها، حتى انجلت". يعني أنه صلى كل ركعة بركوع واحد، وهو حجة لمن قال: إن صلاة الكسوف كبقية النوافل. ويحتمل أنه أراد بقوله: "ركعتين ركعتين" في كل ركعة ركوعان. لكن يبعده قوله: "يسأل عنها"، فإن ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن انجلائها بعد كلّ ركعتين. وأصرح منه ما في رواية البيهقيّ من طريق عبد الوارث، عن أيوب، ففيها:"فجعل يصلي ركعتين، ويسلّم حتى انجلت الشمس"

(1)

. لكن سيأتي أن الحديث ضعيف، وعلى تقدير صحته، فما رواه الأكثرون، وهو أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بأربع ركوعات، وأربع سجدات مقدّم عليه. واللَّه تعالى أعلم.

(فَلَمَّا انْجَلَتْ، قَالَ: "إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ، أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْكَسِفَانِ إلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ، مِنَ الْعُظَمَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِن الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ،) قال الكرماني رحمه الله: فإن قلت: ما فائدة هذه اللفظة -يعني "ولا لحياته"، إذ لم يقل أحد بأن الانكساف للحياة، لا سيما هنا، إذ السياق إنما هو في موت إبراهيم، فيتمّ الجواب بقوله:"لا ينكسفان لموت أحد"؟

قلت: فائدته دفع توهّم من يقول: قد لا يكون الموت سببا للانكساف، ويكون نقيضه سببا له، فعمّم النفي، أي ليس سببه لا الموت، ولا الحياة، بل سببه قدرة اللَّه تعالى فقط انتهى.

(1)

أفاده في "المنهل" ج 7 ص 41.

ص: 10

(وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عز وجل، إِنَّ اللهَ عز وجل، إِذَا بَدَا لِشَيْءِ مِنْ خَلْقِهِ، خَشَعَ لَهُ) قال الإمام ابن القيّم: في كتابه "مفتاح السعادة": قال أبو حامد الغزالي: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها، فيجب تكذيب ناقلها، وإنما المرويّ ما ذكرنا، يعني الحديث الذي ليست هذه الزيادة فيه، قال: ولو كان صحيحًا لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعيّة، فكم من ظاهر أْوّلت بالأدلّة العقلية التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحدّ.

قال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: وإسناد هذه الزيادة لا مطعن فيه

(1)

ورواته كلهم ثقات حُفّاظ، ولكن لعلّ هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام بعض الرواة، ولهذا لا توجد في سائر أحاديث الكسوف، فقد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر صحابيًا: عائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وعلي بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب، وأبو هريرة، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو، وجابر بن عبد اللَّه، وسمرة بن جُندب، وقَبِيصة الهلالي، وعبد الرحمن بن سمرة، فلم يذكر أحد منهم في حديثه هذه اللفظة، فمن هنا يُخاف أن تكون أُدرجت في الحديث إدراجًا، وليست في لفظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، على أن هنا مسلكًا بديعَ المأخذ، لطيف المَنْزَع، يقبله العقل السليم، والفطرة السليمة، وهو أن كسوف الشمس والقمر يوجب لهما من الخشوع والخضوع بانمحاء نورهما، وانقطاعه عن هذا العالم ما يكون فيه ذهاب سلطانهما، وبهائهما، وذلك يوجب لا محالة لهما من الخشوع والخضوع لربّ العالمين، وعظمته وجلاله ما يكون سببًا لتجلي الربّ تعالى، ولا يستلزم أن يكون تجلي اللَّه سبحانه لهما في وقت معيّن، كما يدنو من أهل الموقف عشيّة عرفة، فَيُحدث لهما ذلك التجلي خشوعًا آخر، ليس هذا الكسوف، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إن اللَّه تعالى إذا تجلى لهما انكسفا، ولكن اللفظة عند أحمد، والنسائيّ:"إن اللَّه تعالى إذا بدا لشيء من خلقه خشع له"، ولفظ ابن ماجه:"فإذا تجلّى اللَّه تعالى لشيء من خلقه، خشع له"، فههنا خشوعان: خشوع أوجب كسوفهما بذهاب ضوئهما، وانمحائه، فتجلى اللَّه لهما، فحدث لهما عند تجلّيه تعالى خشوع آخر بسبب التجلّي، كما حدث للجبل إِذْ تجلى له تعالى خشوع أن صار دَكّا، وساخ في الأرض، وهذا غاية الخشوع، لكن الربّ تعالى يثبتهما لتجلّيه عنايةً بخلقه، لانتظام مصالحهم بهما، ولو شاء سبحانه لثبّت الجبلَ لتجلّيه كما يثبّتهما، ولكن أرى كليمه موسى عليه السلام أن الجبل العظيم لم يُطق الثبات لتجليه له، فكيف تطيق

(1)

سيأتي ما فيه من المطاعن قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 11

أنت الثبات للرؤية التي سألتها انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة، وقال: إنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحّت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعيّة، لا تُصادم أصلًا من أصول الشريعة.

قال ابن بزيزة: هذا عجيب منه، كيف يسلّم دعوى الفلاسفة، ويزعم أنها لا تصادم الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كُرَويّ الشكل، وظاهر الشرع يعطي خلاف ذلك، والثابت من قواعد الشريعة أن الكسوف أثر الإرادة القديمة، وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النورَ متى شاء، والظلمةَ متى شاء، من غير توقّف على سبب، أو ربط باقتراب، والحديث الذي ردّه الغزاليّ قد أثبته غير واحد، من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضًا، لأن النورية، والإضاءة من عالم الجمال الحسيّ، فإذا تجلّت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيّده قوله تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] انتهى.

ويؤيّد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس، وقد انكسفت، فبكى، حتى كاد أن يموت، وقال: هي أخوف للَّه منّا.

وقال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: ربّما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: "يخوّف اللَّه بهما عباده"، وليس بشيء، لأن للَّه أفعالًا على حسب العادة، وأفعالًا خارجة عن ذلك، وقدرتُهُ حاكمة على كلّ سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب، والمسبّبات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك، فالعلماء باللَّه لقوّة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف؛ لقوّة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء اللَّه خرقها.

وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقًا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوّفًا لعباد اللَّه تعالى انتهى ما في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن دقيق العيد رحمه الله هنا تحقيق حسن جدًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَصَلَّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا، مِنَ الْمَكْتُوبَةِ") أي مثل الصلاة المكتوبة التي صلّوها قبل حدوث الكسوف.

(1)

انظر "زهر الربى" ج 3 ص 141 - 143.

(2)

"فتح" ج 3 ص 237.

ص: 12

قال السنديّ رحمه الله: فيه أنه ينبغي أن يُلاحظ وقت الكسوف، فيصلى لأجله صلاة هي مثل ما صلاها من المكتوبة قبلها، ويلزم منه أن يكون عدد الركعات على حسب تلك الصلات، وأن يكون الركوع واحدًا. ومقتضى هذا الحديث أنه يجب على الناس العمل بهذا، وإن سُلِّمَ أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بركوعين، لأن هذا أمر للناس، وذلك فعل، فليتأمّل انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فيما قاله نظر لا يخفى، لأن الحديث ضعيف، كما سيأتي بيانه، وعلى تقدير صحته فالأحاديث الصحاح الكثيرة مقدّمة عليه.

والحاصل أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عند الكسوف من صلاة ركعتين بأربع ركوعات، وأربع سجدات هو الذي يشرع للناس، لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث النعمان بن بشير - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا ضعيف، لعلتين:

(إحداهما): كون أبي قلابة مدلسًا، وقد عنعنه في كل طرقه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه العلة فيها نظر؛ لأن أبا قلابة لم يصفه المتقدمون بالتدليس، بل صرح أبو حاتم بأنه لا يُعْرَفُ له تدليس. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" جـ 2 ص 340، وإنما وصفه الذهبي من المتأخرين انظر "ميزان الاعتدال" جـ 2 ص 425 - 426. ولم يذكر لذلك مستندًا. فالعلة الثانية هى المعتبرة في تضعيف هذا الحديثْ فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

(والثانية): الاضطراب في إسناده:

وذلك أنه روي عن أبي قلابة، عن النعمان، وروي عنه عن رجل، عن النعمان، وروي عنه، عن قبيضة بن مخارق الهلاليّ، قال: فذكر الحديث، وروي عنه، عن هلال بن عامر، أن قبيصة الهلاليّ حدّثه

(1)

.

والحاصل أن حديث، النعمان هذا لا يصحّ، لما ذُكر، واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -16/ 1485 - وفي "الكبرى" 16/ 1870 - بالإسناد المذكور، وفي 16/ 488 - و"الكبرى" 16/ 1873 - عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي قلابة به مختصرًا. و 16/ 1489 - و"الكبرى" 16/ 1874 - عن أحمد بن

(1)

راجع "إرواء الغليل" للشيخ الألباني ج 3 ص 131.

ص: 13

عثمان، عن أبي نُعيم، عن الحسن بن صالح، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة به، مختصرًا و 16/ 1490 و"الكبرى" 16/ 1875 - عن محمد بن بشار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن، عن النعمان مطوّلًا. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 1193 (ق) 1262 (أحمد) 4/ 269 و 4/ 271 (ابن خزيمة) 1403 و 1404. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1486 -

(وَأَخْبَرَنَا

(1)

إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، أَنَّ جَدَّهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْوَازِعِ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ، قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَنَحْنُ إِذْ ذَاكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ فَزِعًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ

(2)

، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، أَطَالَهُمَا، فَوَافَقَ انْصِرَافُهُ انْجِلَاءَ الشَّمْسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَصَلُّوا، كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلَّيْتُمُوهَا» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إبراهيم بن يعقوب) الْجُوزَجانيّ، نزيل دمشق، ثقة حافظ رمي بالنصب [11] 122/ 174.

2 -

(عمرو بن عاصم) بن عبيد اللَّه الكلابي القيسيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوق، في حفظه شيء، من صغار [9] 17/ 1552.

3 -

(عبيد اللَّه بن الوازع) الكلابي البصريّ، مجهول [7].

روى عن هشام بن عروة، وأيوب السختياني، وعن شيخ من بني مرّة. وعنه ابن ابنه عمرو بن عاصم. قال أبو جعفر الطبريّ: عُبيد اللَّه بن الوازع غير معروف في نَقَلَة الآثار.

روى له الترمذيّ، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(أيوب السختياني) ابن أبي تميمة البصري، الفقيه المثبت الحجة [5] 42/ 48.

5 -

(أبو قلابة) عبد اللَّه بن زيد المذكور في السند الماضي.

6 -

(قبيصة بن مُخارق) -بضم الميم، وتخفيف الخاء المعجمة- ابن عبد اللَّه بن شدّاد

(1)

وفي نسخة "حدثنا".

(2)

وفي نسخة "ثوبًا".

ص: 14

ابن معاوية بن أبي ربيعة بن نَهِيك بن هلال بن عامر بن صَعْصَعَة الهلاليّ، أبو بشرالبصريّ، وَفَدَ على النبي صلى الله عليه وسلم، وَرَوَى عنه. وروى عنه ابنه قَطَن، وكنانة بن نُعيم، وهلال بن عامر البصريّ، وأبو عثمان النَّهْديّ، وأبو قلابة الجرميّ. قال خليفة في "الطبقات": كانت له دار بالبصرة.

روى له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا، وأعاده بعده، و 2579 حديث: "إن المسألة لا تحلّ إلا لثلاثة

" الحديث، وأعاده برقم 2580 و 2591. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث قبيصة بن مُخَارق رضي الله عنه هذا ضعيف؛ لجهالة عُبيد اللَّه بن الوازع.

أخرجه المصنف هنا -16/ 4866 - بالإسناد المذكور، وفي 16/ 4876 - و"الكبرى" 16/ 1875 - عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أبي قلابة به.

وأخرجه (د) 1185 و 1186 (أحمد) 5/ 60 و 5/ 61 (ابن خزيمة)1402. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1487 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ الْهِلَالِيِّ، أَنَّ الشَّمْسَ انْخَسَفَتْ، فَصَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ

(2)

صلى الله عليه وسلم، رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى انْجَلَتْ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُمَا خَلْقَانِ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّ

(3)

اللَّهَ عز وجل يُحْدِثُ فِي خَلْقِهِ مَا شَاءَ

(4)

وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، يَخْشَعُ لَهُ، فَأَيُّهُمَا حَدَثَ، فَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ، أَوْ يُحْدِثَ اللَّهُ أَمْرًا».

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزيّ البصري، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

2 -

(معاذ بن هشام) الدستوائي البصري، صدوق ربما وهم [9] 30/ 34.

3 -

(هشام) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائي البصري، ثقة ثبت [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصري، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 34.

(1)

وفي نسخة "حدثنا".

(2)

وفي نسخة "النبي".

(3)

وفي نسخة "فإن".

(4)

وفي نسخة "ما يشاء".

ص: 15

والباقيان تقدما في السند الماضي، وكذا الكلام على الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1488 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ

(1)

مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ

(2)

صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا خَسَفَتِ

(3)

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا».

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث ضعيف للاضطراب كما سبق بيانه في 16/ 1485. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1489 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى حِينَ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، مِثْلَ صَلَاتِنَا، يَرْكَعُ، وَيَسْجُدُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن عثمان بن حكيم) الأودي، أبو عبد اللَّه الكوفي، ثقة [11] 160/ 252.

2 -

(أبو نعيم) الفضل بن دُكين الكوفي، ثقة ثبت [9] 11/ 516.

3 -

(الحسن بن صالح) الهمداني الكوفي، ثقة فقيه عابد رمي بالتشيع [7] 160/ 252.

4 -

(عاصم) بن سليمان الأحول البصريّ، ثقة [4] 148/ 239.

والباقيان تقدما قريبًا، وكذا الكلام على الحديث، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: "مثل صلاتنا" قال السندي رحمه الله: أي المعهودة، فيفيد اتحاد الركوع، أو مثل ما نصلي في الكسوف، فيلزم توقفه على معرفة تلك الصلاة. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأول هو الأولى، لقوله فيما تقدّم:"كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1490 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا، مُسْتَعْجِلاً إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقَدِ انْكَسَفَتِ

(4)

الشَّمْسُ، فَصَلَّى حَتَّى انْجَلَتْ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ

(1)

وفي نسخة "ثنا".

(2)

وفي نسخة "أن نبي اللَّه".

(3)

وفي نسخة "انخسفت".

(4)

وفي نسخة "انخسفت".

ص: 16

كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْخَسِفَانِ إِلاَّ لِمَوْتِ عَظِيمٍ، مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الأَرْضِ، وَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْخَسِفَانِ

(1)

لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا خَلِيقَتَانِ مِنْ خَلْقِهِ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ

(2)

، فَأَيُّهُمَا

(3)

انْخَسَفَ، فَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ

(4)

، أَوْ يُحْدِثَ اللَّهُ أَمْرًا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث النعمان، وفيه عنعنة الحسن، وهو البصريّ، وهو مدلس، وأيضًا ذكر في ترجمته في "تت" أنه لم يسمع من النعمان بن بشير - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فالحديث ضعيف من هذا الطريق أيضًا.

وقوله: "أو يُحدث اللَّه أمرًا" الظاهر أن "أو" للشك من الراوي، فيكون قوله:"يحدث اللَّه أمرًا" بمعنى قوله: "ينجلي"، أي تضرّعوا إلى اللَّه بالصلاة حتى يحدث اللَّه الانجلاء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1491 -

((أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَجُرُّ رِدَاءَهُ

(5)

، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ، وَثَابَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْكَشَفَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ، مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ عز وجل بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لَا يَخْسِفَانِ

(6)

لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَصَلُّوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ». وَذَلِكَ أَنَّ ابْنًا لَهُ مَاتَ، يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ لَهُ نَاسٌ فِي ذَلِكَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، والكلام على مسائله في 1/ 1459، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وعمران موسى: هو القزّاز البصريّ. وعبد الوارث هو ابن سعيد البصري، ويونس: هو ابن عبيد البصريّ، والحسن هو ابن أبي الحسن البصريّ، فالسند كله بصريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1492 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ،

(1)

وفي نسخة "لا يخسفان".

(2)

وفي نسخة "ما شاء".

(3)

وفي نسخة "وأيهما".

(4)

وفي نسخة "تنجلي".

(5)

وفي نسخة "فجرّ رداءه".

(6)

وفي نسخة "لا ينخسفان".

ص: 17

عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، مِثْلَ صَلَاتِكُمْ هَذِهِ، وَذَكَرَ كُسُوفَ الشَّمْسِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث أبي بكرة رضي الله عنه، وإسماعيل ابن مسعود: هو الجحدريّ البصريّ، وخالد: هو ابن الحارث الهُجَيْمِيُّ، وأشعث: هو ابن عبد الملك الحمراني البصريّ، وهو ثقة، ويحتمل أن يكون أشعث بن عبد اللَّه بن جابر الْحُدَّاني وهو أيضًا ثقة، وثقه ابن معين وغيره، فإن كلامهما يروي عن الحسن، ويروي عنهما خالد الهُجَيمِيُّ. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "مثل صلاتكم هذه" الظاهر أنه أشار إلى صلاة الكسوف المعهودة عندهم، وهذا هو الأرجح، قال الحافظ في "الفتح" في شرح حديث أبي بكرة هذا عند قوله:"فصلى بنا ركعتين": ما نصّه: زاد النسائيّ "كما تصلّون"، واستَدَلّ به من قال: إن صلاة الكسوف كصلاة النافلة.

وحمله ابن حبَّان، والبيهقيّ على أن المعنى كما تصلّون في الكسوف، لأن أبا بكرة خاطب بذلك أهل البصرة، وقد كان ابن عباس علّمهم أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان، كما رَوَى ذلك الشافعيّ، وابن أبي شيبة، وغيرهما، ويؤيد ذلك أن في رواية عبد الوارث عن يونس أن ذلك وقع يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في حديث جابر عند مسلم مثله، وقال فيه: إن في كل ركعة ركوعين، فدل ذلك على اتحاد القصّة، وظهر أن رواية أبي بكرة مطلقة، وفي رواية جابر زيادة بيان في صفة الركوع، والأخذ بها أولى. ووقع في أكثر الطرق عن عائشة أيضًا أن في كل ركعة ركوعين، وعند ابن خزيمة من حديثها أيضًا أن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- من حمل رواية أبي بكرة رضي الله عنه المطلقة على الروايات المبيّنة حسنٌ جدَّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

(1)

"فتح"ج 3 ص 223 - 224.

ص: 18

‌17 - (قَدْرُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ)

1493 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، قَرَأَ نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عز وجل» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ، تَنَاوَلْتَ شَيْئًا، فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ، تَكَعْكَعْتَ، قَالَ: "إِنِّى رَأَيْتُ الْجَنَّةَ"، أَوْ "أُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ، لأَكَلْتُمْ مِنْهُ، مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ". قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ». قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ، قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) المراديّ المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن الْعُتَقيّ المصريّ، ثقة فقيه، من كبار [10] 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الفقيه المثبت [7] 7/ 7.

4 -

(زيد بن أسلم) العدويّ مولاهم المدني، ثقة فقيه [3] 64/ 80.

5 -

(عطاء بن يسار) الهلالي، أبو محمد المدني، ثقة فاضل، من صغار [3] 64/ 80.

6 -

(عبد اللَّه بن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من مالك، والباقيان مصريان.

ص: 19

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كذا في "الموطإ"، وفي جميع من أخرجه من طريق مالك، ووقع في رواية اللؤلؤيّ في "سنن أبي داود""عن أبي هريرة" بدل "ابن عباس"، وهو غلط، وقاله في "الفتح"

(1)

أنه (قَالَ: خَسَفَتِ) وفي نسخة "كسفت" بالكاف، وهو بمعناه (الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ- مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، قَرَأَ نَحْوًا من سُورَةِ الْبَقرَةِ) هذا محل الترجمة، فإنه يدلّ على مقدار القراءة في صلاة الكسوف، وقد تقدّم نحوه في حديث عائشة رضي الله عنه 13/ 1481 - "قالت: فحَسِبْتُ قَرأَ سورةَ البقرة" (قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَام الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوً دُونَ الرُّكُوعِ الأَوّلِ، ثُمَّ سَجَدَ) أي سجدتين (ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَام الأوَّلِ) فيه أن الركعة الثانية أقصر من الأولى (قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَام الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوً دُونَ الرُّكُوعِ الأَوّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ) أي سلَّم من الصلاة (وَقَد تَجَلَّتِ الشَّمْسُ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَقَالَ: "إِن الشَّمْسُ وَالْقَمَرَ، آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدِ، وَلَا لِحَيَاتِه، فَإِذَا رَأَيْتُم ذَلِكَ، فَاذكُرُوا اللهَ عز وجل، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ) قال الحافظ: في حديث جابر عند أحمد بإسناد حسن: "فلما قضى الصلاة، قال له أُبيّ بن كعب: شيئًا صنعته في الصلاة لم تكن تصنعه"، فذكر نحو حديث ابن عباس، إلا أن في حديث جابر أن ذلك كان في الظهر، أو العصر، فإن كان محفوظًا فهي قصة أخرى، ولعلها التي حسماها أنس، وذكر أنها وقعت في صلاة الظهر، لكن فيه:"عُرضت عليّ الجنة والنار في عُرْض هذا الحائط"، حسبُ، وأما حديث جابر فهو شبيه بسياق ابن عباس في ذكر العنقود، وذكر النساء. واللَّه تعالى أعلم انتهى.

(رَأَينَاكَ، تَنَاوَلْتَ) بصيغة الماضي، ووقع عند البخاري في رواية الكشميهني "تناولُ" بصيغة المضارع بضم اللام، وبحذف إحدى التاءين، وأصله تتناول (شَيْئًا، فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَينَاك، تَكَعْكَعْتَ) أي تأخّرت، يقال: كعّ الرجل: إذا نكص على عقبيه، قال

(1)

"فتح" ج 3 ص 241.

ص: 20

الخطّابيّ: أصله تكععت، فاستثقلوا اجتماع ثلاث عينات، فأبدلوا من إحداها حرفًا مكررًا، ووقع في رواية مسلم "ثم رأيناك كففت" بفاءين خفيفين (قَالَ:"إِنّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ") تقدّم أن هذه الرؤية رؤية حقيقية على الراجح (أَوْ) للشكّ من الراوي ("أُرِيتُ الْجَنَّةَ (قال الحافظ رحمه الله: ظاهره أنها رؤية عين، فمنهم من حمله على أن الحجب كُشفت له دونها، فرآها على حقيقتها، وطويت المسافة بينهما، حتى أمكنه أن يتناول منها، وهذا أشبه بظاهر هذا الخبر، ويؤيده حديث أسماء رضي الله عنها، بلفظ: "دنت مني الجنّة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقِطْف من قِطافها".

ومنهم من حمله على أنها مثّلت له في الحائط، كما تنطبع الصورة في المرآة، فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس رضي الله عنه:"لقد عُرضت عليّ الجنّة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط، وأنا أصلي"، وفي رواية "لقد مثلت"، ولمسلم "لقد صُوّرت"، ولا يَرِد على هذا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الصقيلة، لأنا نقول: هو شرط عاديّ، فيجوز أن تنخرق العادة خصوصًا للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، ولا مانع أن يرى الجنّة والنار مرتين، بل مرارًا على صور مختلفة، وأبعدَ مَن قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم.

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: هذه الرؤية رؤية عيان حقيقة، لا رؤية علم، بدليل أنه رأى في الجنّة والنار أقوامًا بأعيانهم، ونعيما، وقطفا من عنب، وتناوله، وغير ذلك، ولا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، لا سيما على مذهب أهل السنّة في أن الجنة والنار قد خُلقتا، ووُجدتا، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة، وذلك راجع إلى أن اللَّه تعالى خلق لنبيه صلى الله عليه وسلم إدراكًا خاصا به، أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما، كما قد خلق له إدراكًا لبيت المقدس، فطفق يخبرهم عن آياته، وهو ينظر إليه.

ويجوز أن يقال: إن اللَّه تعالى مثّل له الجنّة والنار، وصوّرهما له في عُرْض الحائط، كما تتمثّل صور المرئيات في المرآة، ويعتضد هذا بما رواه البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه في غير حديث الكسوف، قال صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيت الآن منذ صلّيت لكم الصلاةَ الجنةَ والنارَ متمثلتين في قبلة هذا الجدار"، وفي لفظ آخر:"عُرضت عليّ الجنَّةُ والنار آنفًا في عُرْض هذا الحائط، وأنا أصلي"، وقال فيه مسلم:"إني صُوِّرت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط".

ولا يُستبعَدُ هذا من حيث إن الانطباع في المرآة إنما هو في الأجسام الصَّقِيلة؛ لأنا

(1)

"فتح" ج 3 ص 242.

ص: 21

نقول: إن شرط ذلك عاديّ، لا عقليّ، ويجوز أن تنخرق العادة، وخصوصًا في مدّة النبوّة، ولو سُلّم أن تلك الشروط عقلية، فيجوز أن تكون تلك الأمور موجودة في جسم الحائط، ولا يُدرك ذلك إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى كلام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا) قال في "المصباح": "العُنقُود" من العنب ونحوه فُنْعُول بضمّ الفاء، والْعِنْقَاد مثله انتهى (وَلَوْ أُخَذْتُهُ، لَأكَلْتُمْ مِنْهُ) وفي رواية البخاريّ: "ولو أصبته" بدل "ولو أخذته".

قال في "الفتح": واستُشكل مع قوله: "تناولت". وأُجيب يحمل التناول على تكلّف الأخذ، لا حقيقة الأخذ. وقيل: المراد تناولت لنفسي، ولو أخذته لكم، حكاه الكرماني، وليس بجيّد. وقيل: المراد بقوله: "تناولت" أي وضعت يدي عليه، بحيث كنت قادرًا على تحويله، لكن لم يقدّر لي قطفه، ولو أصبته، أي لو تمكنت من قطفه، ويدلّ عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة "أهوى بيده ليتناول شيئًا"، وللبخاري في حديث أسماء رضي الله عنها "حتى لو اجترأت عليها"، وكأنه لم يؤذن له في ذلك، فلم يجترىء عليه. وقيل: الإرادة مقدّرة، أي أردت أن أتناول، ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم "ولقد مددت يدي، وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليها، ثم بدا لي أن لا أفعل"، ومثله للبخاريّ في حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه:"حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنّة، حين رأيتموني جعلت أتقدّم"، ولعبد الرزاق من طريق مرسلة:"أردت أن آخذ منها قطفًا لأريكموه، فلم يقدّر"، ولأحمد من حديث جابر:"فحيل بيني وبينه".

قال ابن بطال رحمه الله: لم يأخذ العُنقود لأنه من طعام الجنة، وهو لا يَفنى، والدنيا فانية، لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. وقيل: لأنه لو رآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة، لا بالغيب، فيخشى أن يقع رفع التوبة، فلا ينفع نفسًا إيمانها. وقيل: لأن الجنّة جزاء الأعمال، والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة.

وحكى ابن العربي رحمه الله في "قانون التأويل" عن بعض شيوخه، أنه قال: معنى قوله: "لأكلتم منه الخ" أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائما، بحيث لا يغيب عن ذوقه.

وتعقّب بأنه رأيٌ فلسفيّ مبنيّ على أن دار الآخرة لا حقائق لها، وإنما هي أمثال. والحقّ أن ثمار الجنة لا مقطوعة، ولا ممنوعة، وإذا قُطعت خلقت في الحال، فلا

(1)

"المفهم" ج 2 ص 553 - 554.

ص: 22

مانع أن يخلق اللَّه مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، والفرق بين الدارين في وجوب الدوام

وجوازه.

[فائدة]: بيّن سعيد بن منصور في روايته من وجه آخر، عن زيد بن أسلم أن التناول المذكور كان حين قيامه الثاني من الركعة الثانية. انتهى

(1)

.

(ما بقيت الدنيا)"ما" مصدرية ظرفية، أي مدة بقاء الدنيا، أي لعدم فناء فواكه الجنة.

(وَرَأَيْتُ النَّارَ) وقع في رواية عبد الرزّاق المذكورة أن رؤيته النار كانت قبل رؤيته الجنة، وذلك أنه قال فيه:"عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم النارُ، فتأخر عن مصلاه، حتى إن الناس ليركب بعضهم بعضا، وإذا رجع عُرضت عليه الجنة، فذهب يمشي حتى وقف في مصلّاه"، ولمسلم من حديث جابر:"لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخّرت، مخافة أن يصيبني من لَفْحها"، وفيه "ثم جيء بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدّمت، حتى قمت في مقامي"، وزاد فيه:"ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه"، وفي حديث سمرة عند ابن خزيمة:"لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم".

(فَلَمْ أَرَ كالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ)"منظرًا" تمييز محول عن المضاف، أي كمنظر اليوم، والمراد باليوم الوقَت، فالمعنى: كالمنظر الذي رأيته الآن.

ولفظ البخاري: "فلم أر منظرًا كاليوم قط أفظع". قال في "الفتح": المراد باليوم الوقت الذي هو فيه، أي لم أر منظرًا مثل منظر رأيته اليوم، فحذف المرئيّ، وأدخل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه، وبعده عن المنظر المألوف. وقيل: الكاف اسم، والتقدير: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرا. ووقع في رواية المستملي، والحموي:"فلم أنظر كاليوم قط أفظع". انتهى.

(وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النًسَاءَ) قال الحافظ: هذا يفسّر وقتَ الرؤية في قوله لهنّ في خطبة العيد: "تصدّقن، فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار" انتهى.

قال الجامع -عفا اللَّه عنه-: فيما قاله نظر، إذ لا يتعيّن هذا تفسيرًا لما ذكره، إذ يحتمل أن يراهن في وقت آخر أيضًا، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالُوا: لِمَ) وفي نسخة "بم"(يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: "بِكُفْرِهِنَّ"، قِيلَ" يَكفُرْنَ باللهِ؟) القائل هي أسماء بنت يزيد بن السكن التي كانت تعرف بخطيبة النساء (قَال: "يكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) أي الزوج، قال الكرماني رحمه الله: ولم يُعدّه بالباء، كما عدّى الكفر باللَّه، لأن

(1)

"فتح" ج 3 ص 242 - 243.

ص: 23

كفر العشير لا يتضمّن معنى الاعتراف (وَيَكفُرْنَ الإِحْسَانَ) كانه بيان لقوله: "يكفرن العشير" لأن المقصود كفر إحسان العشير، لا كفران ذاته، والمراد بكفر "الإحسان تغطيته، أو جحده، ويدل عليه آخر الحديث (لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ) بيان للتغطية المذكورة، و"لو" هنا شرطية، لا امتناعية، وقال الكرمانيّ: ويحتمل أن تكون امتناعيةً بان يكون الحكم ثابتًا على النقيضين، والطرف المسكوت عنه أولى من المذكور، و"الدهرَ" منصوب على الظرفية، والمراد منه عمر الرجل، أو الزمان كله، مبالغة في كفرانهنّ، وليس المراد بقوله: "أحسنت" مخطابة رجل بعينه، بل كلّ من يتأتّى منه أن يكون مخاطبًا، فهو خاصّ لفظًا، عامّ معنى (ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا) التنوين فيه للتقلمل، أي شيئًا قليلًا لا يوافق غرضها، من أي نوع كان.

ووقع في حديث جابر رضي الله عنه ما يدل على أن المرئيّ في النار من النساء من اتصف بصفات ذميمة ذُكرتْ، ولفظه: "وأكثر من رأيت فيها من النساء اللاتي إن ائتُمنّ أفشين، وإن سُئلن بخِلنَ، وإن سألن ألْحَفْنَ، وإن أعطين لم يشكرن

" الحديث.

(قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) الظاهر أن التنوين في "خيرًا" أيضًا للتقليل، أي لم أر منك قليلًا من الخير .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -17/ 1493 - وفي "الكبرى" 17/ 1878 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 1/ 14 و1/ 118 و 2/ 45 و1/ 190 و 4/ 132 و 7/ 39 (م) 3/ 33 و 3/ 34 (د) 1189 (مالك في الموطإ) 132 (أحمد) 1/ 298 و 1/ 358 (الدارمي) 1536 (ابن خزيمة)1377. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده غير ما تقدّم:

(منها): المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يُحذر منه، واستدفاعُ البلاء بذكر اللَّه تعالى، وأنواع طاعته (ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً للنبي صلى الله عليه وسلم (ومنها): ما كان عليه من نصح أمته، وتعليمهم ما ينفعهم، وتحذيرهم مما يضرّهم (ومنها): مراجعة المتعلّم

ص: 24

للعالم فيما لا يدركه فهمُهُ، وجواز الاستفهام عن علّة الحكم، وبيان العالم ما يحتاج إليه تلميذه (ومنها): تحريم كفران الحقوق، ووجوب شكر المنعم (ومنها) أن الجنة والنار مخلوقتان، موجودتان اليوم (ومنها): جواز إطلاق اسم الكفر على ما لا يُخرِج من الملّة (ومنها): تعذيب أهل التوحيد على المعاصي (ومنها): جواز العمل في الصلاة، إذا لم يكثر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌18 - (بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ)

1494 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، كُلَّمَا رَفَعَ رَأْسَهُ، قَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وتقدم في 11/ 1473 - سندا ومتنًا، إلا أن شيخ الوليد هناك هو الأوزاعيّ، وهنا عبد الرحمن بن نمر الشامي، وفي دلالته على الترجمة واضحة، حيث صُرّح فيه بأن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف، وفيه اختلاف بين العلماء:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف أهل العلم في الجهر بالقراءة في صلاة خسوف الشمس:

فقال طائفة: يجهر بالقراءة فيها، فممن رَوينا عنه أنه جهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس علي بن أبي طالب، وفعل ذلك عبد اللَّه بن يزيد، وبحضرته البراء بن عازب، وزيد بن اْرقم، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.

وقالت طائفة: لا يجهر في كسوف الشمس بالقراءة، هذا قول مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، واحتجّ مالك، والشافعيّ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور في الباب الماضي، حيث قال:"قرأ نحوا من سورة البقرة"، إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة

ص: 25

لأخبر ابن عباس بالذي قرأه، ولا يحتاج أن يقدّر بنحو سورة البقرة.

واحتجّ من رأى الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف بأن الذي احتجّ به مالك، والشافعيّ حجة لو لم يأت غيره، وعائشة تخبر أنه جهر بالقراءة، فقبول خبرها أولى، لأنها في معنى شاهد، فقبول شهادتها يجب، والذي لم يحك الجهر في معنى نافٍ، وليس بشاهد، وقد يجوز أن يكون ابن عباس من الصفوف بحيث لم يسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدّر ذلك بغيره، وتكون عائشة سمعت الجهر، فأدّت ما سمعت.

وقال إسحاق: لو لم يأت في ذلك سنة لكان الجهرُ أشبه الأمر، تشبيهًا بالجمعة والعيدين والاستسقاء، وكل ذلك نهارًا، قال: وأما كسوف القمر فقد أجمعوا على الجهر في صلاته، لأن قراءة الليل على الجهر.

قال ابن المنذر: بهذا أقول، يجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس والقمر. انتهى كلام ابن المنذر بتصرّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي رجحه ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- من مشروعية الجهر بالقراءة هو الحقّ عندي؛ لصحة حديث الباب، وليس للقائلين بعدم الجهر دليل صريح صحيح، فحديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - عرفت تأويله آنفًا، وحديث سمرة رضي الله عنه الآتي في الباب التالي غير صحيح، وعلى تقدير صحته فهو مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك أن يُحمل على أنه نَفَى عدمَ سماعه لقراة النبي صلى الله عليه وسلم لبعده، ولا يلزم من ذلك عدم جهره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌19 - (تَرْكُ الْجَهْرِ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ)

1495 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّادٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا).

(1)

"الأوسط" ج 5 ص 296 - 298.

ص: 26

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث ضعيف، وقد تقدم في 15/ 1484 وتقدم الكلام على ضعفه، فلا يكون دليلًا لما ترجم له المصنف، وعلى تقدير صحته، يحمل على أنهم لم يسمعوا قراءته لبعدهم، لا لعدم جهره، فتنبه.

والحاصل أن الراجح هو ما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

و"ابن عباد" بكسر العين، وتخفيف الباء الموحدة هو ثعلبة بن عباد مجهول، كما تقدم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌20 - (بَابُ الْقَوْلِ فِي السُّجُودِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد بالقول الذكر، أي باب مشروعية الذكر في صلاة الكسوف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1496 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ، فَأَطَالَ، قَالَ: شُعْبَةُ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي السُّجُودِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يَبْكِي فِي سُجُودِهِ وَيَنْفُخُ، وَيَقُولُ: «رَبِّ لَمْ تَعِدْنِي هَذَا، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُكَ، لَمْ تَعِدْنِي هَذَا، وَأَنَا فِيهِمْ» ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ، حَتَّى لَوْ مَدَدْتُ يَدِي، تَنَاوَلْتُ مِنْ قُطُوفِهَا، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَجَعَلْتُ أَنْفُخُ، خَشْيَةَ أَنْ يَغْشَاكُمْ حَرُّهَا، وَرَأَيْتُ فِيهَا سَارِقَ بَدَنَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَأَيْتُ فِيهَا أَخَا بَنِي دُعْدُعٍ، سَارِقَ الْحَجِيجِ، فَإِذَا فُطِنَ لَهُ، قَالَ: هَذَا عَمَلُ الْمِحْجَنِ، وَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً، طَوِيلَةً سَوْدَاءَ، تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ، رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَسْقِهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ، وَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا انْكَسَفَتْ إِحْدَاهُمَا" أَوْ قَالَ: "فَعَلَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، عز وجل").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم في 14/ 1483 - وتقدّم

ص: 27

شرحه/ والكلام عدى مسائله مستوفًى هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: "قال شعبة الخ" يعني أن شعبة قال: إن عطاء ذكر في حديثه من إطالة السجود نحو ما ذكره في الركوع.

وقوله: "يبكي في سجوده، وينفخ" أي تأسّفا على حال أمته لما رأى في ذلك الموقف من الأمور العظام، حتى النار، فخاف عليهم.

وقوله: "رب لم تعدني الخ" هذا محل الترجمة، حيث إنه بيّن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حال سجوده في صلاة الكسوف، فيدلّ على مشروعية الدعاء، والتضرّع إلى اللَّه تعالى فيها.

وقوله: "أو قال: فعل أحدهما الخ" شكّ من الراوي، أي إذا فعل أحد القمرين شيئًا مما ذكر، يعني أن أحدهما حصل له شيء من الانكساف، فاسعوا إلى ذكر اللَّه، أي بادروا إلى ذكر اللَّه عز وجل. وذكر اللَّه يعم الصلاة، والدعاء، والاستغفار ونحوها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌21 - (بَابُ التَّشَهُّدِ، وَالتَّسْلِيمِ، فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ)

1497 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَمِرٍ، أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ، عَنْ سُنَّةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً، فَنَادَى أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، مِثْلَ قِيَامِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، هِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، هُوَ أَدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ سُجُودًا طَوِيلاً، مِثْلَ رُكُوعِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَقَامَ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلةً، هِيَ أَدْنَى مِنَ الأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، هُوَ أَدْنَى

ص: 28

مِنَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، وَهِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةَ الأُولَى، فِي الْقِيَامِ الثَّانِي، ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ أَدْنَى مِنْ سُجُودِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ فِيهِمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَأَيُّهُمَا خُسِفَ بِهِ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا، فَافْزَعُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل بِذِكْرِ الصَّلَاةِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، تقدم شرحه غير مرّة.

و"الوليد" هو ابن مسلم الدمشقي. وعبد الرحمن بن نمر: هو أبو عمرو اليحصبي الدمشقي، ثقة، لم يرو عنه غير الوليد [8].

وقوله: "عن سنة صلاة الكسوف"، أي عفا يُسنّ فيها. وقوله:"فقال: سمع اللَّه لمن حمده"، أي مع "ربنا ولك الحمد"، كما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها -11/ 1472.

وقوله: "بذكر الصلاة" وفي نسخة بالصلاة، وهي أوضح، والإضافة على الأول بيانيّة، أي بذكر هو الصلاة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1498 أ- (أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُسُوفِ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ انْصَرَفَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إبراهيم بن يعقوب) الْجُوزَجاني نزيل بغداد، ثقة حافظ رمي بالنصب [11] 122/ 174.

2 -

(موسى بن داود) الضبّيّ، أبو عبد اللَّه الطَّرَسُوسيّ، نزيل بغداد، صدوق فقيه زاهد، له أوهام، من صغار [9] 64/ 985.

3 -

(ناِفع بن عمر) بن عبد اللَّه بن جمَيل بن عامر بن حِذْيَم بن سلامان بن ربيعة بن سعد بن جمُح الْجُمَحيّ المكيّ، ثقة ثبت، من كبار [7].

روى عن ابن أبي مليكة، وسعيد بن أبي هند، وبشر بن عاصم، وغيرهم. وعنه ابن

ص: 29

مهديّ ووكيع، ويحيى القطان، وموسى بن داود، وغيرهم.

قال ابن مهديّ: كان من أثبت الناس. وقال أبو طالب، عن أحمد: ثبت ثبت صحيح الكتاب. وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: نافع بن عمر أثبت من عبد اللَّه بن مؤمل. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: هو أحبّ إليّ من عبد الجبّار بن الورد، وهو أصحّ حديثًا، وهو في الثقات

(1)

ثقة. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه؟ فقال: ثقة، قلت: يُحتجّ به؟ قال: نعم. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بفخّ سنة (269) وقال ابن سعد، عن شهاب بن عباد: مات بمكة سنة (269) وكان ثقة قليل الحديث، فيه شيء. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا، و 5221 حديث: "لا تصحب الملائكة ركبًا معهم جُلْجُل

"، وأعاده برقم 5224 و5225 و5427 حديث: "قضى أنَّ اليمين على المدعى عليه

" الحديث.

4 -

(ابن أبي مليكة) عبد اللَّه بن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي مليكة المكيّ، ثقة فقيه [3] 101/ 132.

5 -

(أسماء بنت أبي بكر) الصديق رضي الله عنها -185/ 293.

وشرح الحديث يعلم من شرح حديث عائشة رضي الله عنها وغيره، ومطابقته للترجمة في قوله:"ثم انصرف" لأن معناه سلّم من الصلاة، فهو دليل للجزء الثاني من الترجمة.

وهو حديث متّفق عليه، أخرجه المصنف هنا -21/ 4981 - وفي "الكبرى"21/ 1885 - بالإسناد المذكور، وأخرجه (خ) 1/ 189و 3/ 147 (م) في "الكسوف" 1509 (ق) 1265 (أحمد) 6/ 355 و 6/ 351. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

(1)

هكذا نسخة "تت" ولعل الصواب إسقاط "في "الثقات".

ص: 30

‌22 - (بَابُ الْقُعُودِ عَلَى الْمِنْبَرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ)

1499 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عَمْرَةَ حَدَّثَتْهُ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مَخْرَجًا، فَخُسِفَ بِالشَّمْسِ، فَخَرَجْنَا إِلَى الْحُجْرَةِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْنَا نِسَاءٌ، وَأَقْبَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ ضَحْوَةً، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَامَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ دُونَ رُكُوعِهِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ، فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ قِيَامَهُ، وَرُكُوعَهُ دُونَ الرَّكْعَةِ الأُولَى، ثُمَّ سَجَدَ، وَتَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ فِيمَا يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، كَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ». مُخْتَصَرٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم في 11/ 1475 - سندًا ومتنًا، ورجاله كلهم رجال الصحيح، وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله مستوفى هناك، فراجعه، تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

قوله: "فقال فيما يقول الخ" أي قال النبي صلى الله عليه وسلم في جملة الأقوال التي قالها في ذلك المقام، فالجارّ والمجرور متعلق بـ "قال"، وجملة:"إن الناس يُفتنون" ببناء الفعل للمفعول مقول القول، ومعنى فتنتهم اختبارهم بالسؤال، فيقال:"ما علمك بهذا الرجل؟ ".

وقوله: "مختصر" خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مختصر من حديث طويل، وتقدم بطوله في الباب المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌23 - (بَابٌ كَيْفَ الْخُطْبَةُ فِي الْكُسُوفِ؟)

1511 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ،

ص: 31

فَصَلَّى، فَأَطَالَ الْقِيَامَ جِدًّا، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ جِدًّا، ثُمَّ رَفَعَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ جِدًّا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، فَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ جُلِّىَ عَنِ الشَّمْسِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ عز وجل» ، وَقَالَ:«يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ، مِنَ اللَّهِ عز وجل، أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، ورجاله عندهم رجال الصحيح، وقد تقدم 11/ 1474 واستوفيت شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

ودلالته على الترجمة واضحة، حيث بيّن فيه كيفية خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف، وفيه اختلاف بين أهل العلم:

قال في "الفتح: اختُلف في الخطبة فيه، فاستحبّها الشافعيّ، وإسحاق، وأكثر أصحاب الحديث، قال ابن قدامة؟ لم يبلغنا عن أحمد ذلك، وقال صاحب "الهداية" من الحنفيّة: ليس في الكسوف خطبة، لأنه لم يُنقل. وتُعُقّب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهي ذات كثرة، والمشهور عند المالكيّة أن لا خطبة لها، مع أن مالكًا روى الحديث، وفيه ذكر الخطبة. وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم -لم يقصد لها خطبةً بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الردّ على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس.

وتعقّب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من الحمد، والثناء، والموعظة، وغير ذلك، مما تضمّنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل.

وقد استضعف ابن دقيق العيد التأويل المذكور، وقال: إن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معيّن، بعد الإتيان بما هو المطلوب منها، من الحمد، والثناء، والموعظة، وجميعُ ما ذكر من سبب الكسوف، وغيره هو مقاصد خطبة الكسوف، فينبغي التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف.

نعم نازع ابن قدامة في كون خطبة الكسوف كخطبتي الجمعة والعيدين، إذ ليس في الأحاديث المذكورة ما يقتضي ذلك، وإلى ذلك نحا ابن المنيّر في "حاشيته"، وردّ على

ص: 32

من أنكر أصل الخطبة؛ لثبوت ذلك صريحا في الأحاديث، وذكر أن بعض أصحابهم احتجّ على ترك الخطبة بأنه لم يُنقل في الحديث أنه صعد المنبر، ثم زيّفه بأن المنبر ليس شرطًا، ثم لا يلزم من أنه لم يُذكر أنه لم يقع انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله ابن قدامة، ونحا إليه ابن المنيّر رحمهما اللَّه هو الصواب عندي، فيستحبّ للإمام أن يخطب خطبة واحدة، كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما كونها خطبتين كالجمعة والعيدين فليس عليه دليل، فلا ينبغي أن يفعله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1501 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ:: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عِبَادٍ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، خَطَبَ حِينَ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدم 15/ 1484، وتقدم أنه ضعيف لجهالة ثعلبة بن عِبَاد -بكسر العين، وتخفيف الباء- فراجعه هناك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيق إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌24 - (الأَمْرُ بِالدُّعَاءِ فِي الْكُسُوفِ)

1502 أ- (أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ إِلَى الْمَسْجِدِ، يَجُرُّ رِدَاءَهُ، مِنَ الْعَجَلَةِ، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلُّونَ، فَلَمَّا انْجَلَتْ خَطَبَنَا، فَقَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفَ أَحَدِهِمَا، فَصَلُّوا، وَادْعُوا، حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه البخاري، وتقدّم في 1/ 1459 - ومضى مستوفى شرحه وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"فتح" ج 3 ص 232 - 233.

ص: 33

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌25 - (الأَمْرُ بِالاسْتِغْفَارِ فِي الْكُسُوفِ)

1503 -

(أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعًا، يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، فَقَامَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَقَامَ يُصَلِّي، بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الآيَاتِ، الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهَا، يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ، وَدُعَائِهِ، وَاسْتِغْفَارِهِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(موسى بن عبد الرحمن) بن سعيد بن مسروق الكنديّ المسروقيّ، أبو عيسى الكوفي، ثقة، من كبار [11] 74/ 91.

2 -

(أبو أسامة) حماد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفي، ثقة ثبت، ربما دلس، من كبار [9] 44/ 52.

3 -

(بُريد) بن عبد اللَّه بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ، أبو بردة الكوفي، ثقة يخطئ قليلًا [6].

روى عن جدّه، والحسن البصريّ، وعطاء، وغيرهم. وعنه السفيانان، وأبو أسامة، وابن المبارك، وغيرهم.

قال ابن معين، والعجليّ: ثقة. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، يُكتب حديثه. وقال عمرو بن عليّ: لم أسمع يحيى، ولا عبد الرحمن يُحدّثان عن سفيان، عنه بشيء قط.

وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال أيضًا في "الضعفاء": ليس بذاك القويّ. وقال أحمد ابن حنبل: يروي مناكير، وطلحة بن يحيى أحبُ إليّ منه. وقال الترمذي في "جامعه": وبُريد كوفي ثقة في الحديث، روى عنه شعبة. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: ثقة. وقال ابن حبّان في "الثقات": يُخطىء. وقال ابن عديّ: روى عنه الأئمة، ولم يرو عنه

ص: 34

أحد أكثر من أبي أسامة، وأحاديثه عنه مستقيمة، وهو صدوق، وأنكرُ ما روى حديث:"إذا أرد اللَّه بأمة خيرًا قبض نبيها قبلها"، قال: وهذا طريق حسن، رواته ثقات، وقد أدخله قوم في صحاحهم

(1)

، وأرجو أن لا يكون به بأس. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث هذا، والأحاديث الآتية برقم 2556 و 2560 و 4912.

4 -

(أبو بردة) بن أبي موسى الأشعريّ، اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة [3] 3/ 3.

5 -

(أبو موسى) الأشعري عبد اللَّه بن قيس الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو والترمذيّ، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعري - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النبي صلى الله عليه وسلم فَزِعًا) بكسر الزاي، صفة مشبهة، ويجوز الفتح على أنه مصدر بمعنى الصفة، قاله في "الفتح"(يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ) بالرفع على أن "تكون" تامة، أي يخشى أن تحضر الساعة، أو ناقصة، و"الساعة" اسمها، والخبر محذوف، أو العكس.

قال في "الفتح": قيل: وفيه جواز الإخبار بما يوجبه الظنّ من شاهد الحال، لأن سبب الفزع يخفى عن الْمُشاهِد لصورة الفزع، فيحتمل أن يكون الفزع لغير ما ذكر، فعلى هذا، فيشكل الحديث من حيث إن للساعة مقدمات كثيرة، لم تكن وقعت، كفتح البلاد، واستخلاف الخلفاء، وخروج الخوارج، ثم الأشراط، كطلوع الشمس من مغربها، والدابّة، والدجّال، والدخان، وغير ذلك.

ويجاب عن هذا باحتمال أن تكون قصة الكسوف وقعت قبل إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العلامات، أو لعلّه خشي أن يكون ذلك بعض المقدّمات، أو أن الراوي ظنّ أن الخشية لذلك، وكانت لغيره، كعقوبة تحدث، كما كان يخشى عند هبوب الريح.

هذا حاصل ما ذكره النووي تبعا لغيره، وزاد بعضهم أن المراد بالساعة غير القيامة، أي الساعة التي جعلت علامة على أمر من الأمور، كموته صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك.

(1)

أخرجه مسلم في "صحيحه" في "الفضائل" رقم 2288.

ص: 35

وفي الأول نظر، لأن قصة الكسوف متأخرة جدًا، فقد تقدّم أن موت إبراهيم كان في العاشر، كما اتفق عليه أهل الأخبار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من الأشراط، والحوادث قبل ذلك.

وأما الثالث فتحسين الظنّ بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم بذلك إلا بتوقيف.

وأما الرابع، فلا يخفى بُعْدُه. وأقربها الثاني، فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدّمة لبعض الأشراط، كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلّل بين الكسوف والطلوع المذكور أشياء، مما ذكر، وتقع متتالية، بعضها إثر بعض، مع استحضار قوله تعالى:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} الآية [النحل: 77].

قال الحافظ: ثم ظهر لي أنه يحتمل أن يُخرّج على مسألة دخول النسخ في الأخبار، فإذا قيل بجواز ذلك زال الإشكال.

وقيل: لعله قدّر وقوع الممكن لولا ما أعلمه اللَّه تعالى بأنه لا يقع قبل الأشراط، تعظيما منه لأمر الكسوف، ليتبيّن لمن يقع له من أمته ذلك كيف يخشى، ويفزع، لا سيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط، أو أكثرها.

وقيل: لعلّ حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط، لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرط، لم يتقدّم ذكره، فيقع المخوف بغير أشراط، لفقد الشرط، واللَّه سبحانه، وتعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الاحتمال الأخير أقرب، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَامَ حَتى أَتَى الْمَسْجدَ، فَقَامَ يُصَلِّي، بأَطوَلِ قِيَام وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ، الَّتِي يُرْسِلُ اَللهُ) بحَذف العائد المنصوب، وهو جائز، أي يرسلها اللَّه تعالى (لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ) وقوله: (وَلَكِنَّ اللهَ يُرْسِلُهَا، يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ) موافق لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، (فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَافْزَعُوا) أي الجئوا (إِلَى ذِكْرِهِ) الضمير يعود على اللَّه تعالى في قوله: "يخوف بها عباده"(وَدُعَائِهِ، وَاسْتِغْفَارِهِ") هذا محلّ الترجمة، وفيه الندب إلى الاستغفار عند الكسوف وغيره، لأنه مما يُدفع به البلاء.

واستدلّ بذلك على أن الأمر بالمبادرة إلى الذكر، والدعاء، والاستغفار، وغير ذلك لا يختصّ بالكسوفين؛ لأن الآيات أعمّ من ذلك.

قال الحافظ رحمه الله: ولم يقع في هذه الرواية ذكر الصلاة، فلا حجة فيه لمن استحبّها

(1)

"فتح"ج 3 ص 248 - 249.

ص: 36

عند كلّ آية. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله: حسن جدًا.

وحاصله أنه ينبغي المبادرة عند رؤية الآيات إلى الذكر، والدعاء، والاستغفار، وأما أن يُصلَّى لها على صفة صلاة الكسوف، فلا؛ لعدم الدليل على ذلك .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي موسى - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -25/ 1503 - وفي "الكبرى" 251890 بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 48 (م) 3/ 35 (ابن خزيمة)1371. وفوائده تقدّمت غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌16 - كِتَابُ الاسْتِسْقَاءِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الاستسقاء" لغة طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير، وشرعًا طلبه من اللَّه تعالى عند حصول الجدب على وجه مخصوص.

قال الجزري في "النهاية": هو استفعال من طلب السقيا، أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى اللَّه عباده الغيث وأسقاهم، والاسم السقيا -بالضمّ-، واستسقيت فلانًا: إذا طلبت منه أن يسقيك انتهى.

وقال النووي في "المجموع": والاستسقاء طلب السُّقْيَا، ويقال: سَقَى، وأسقى لغتان بمعنى، وقيل: سقى: ناوله ليشرب، وأسقيته: جعلت له سُقْيا انتهى

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(1)

انظر (المجموع شرح المهذب) ج5 ص 68.

ص: 37

‌1 - مَتَى يَسْتَسْقِي الإِمَامُ

1505 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ عز وجل. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي. فَقَالَ:«اللَّهُمَّ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالآكَامِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» ، فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(مالك) بن الإمام الحجة الفقيه المشهور المدني تقدم [7] 7/ 7.

3 -

(شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر) المدني صدوق يخطئ [5] تقدم 52/ 290.

4 -

(أنس بن مالك) رضي الله عنه تقدم 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (88) من رباعيات الكتاب .. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ. (ومنها): أن فيه أنسًا من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه في حديث أنس، وروى أحمد عن كعب بن مرة ما يمكن أن يفسر به هذا المبهم بأنه كعب المذكور، وللبيهقي مرسلا ما يمكن أن يفسر به بأنه خارجة بن حصن الفزاريّ، لكن رواه ابن ماجه عن شُرّحبيل بن السمط أنه قال لكعب بن مرّة: يا كعب حدثنا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه استسقي اللَّه، فرفع يديه، فقال: "اللهم اسقنا

" ففي هذا أنه غير كعب، وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس أنه أعرابي، وفي رواية يحيى بن سعيد، عن أنس: أتى رجل أعرابي من أهل البادية.

ص: 38

ولا يعارض هذا قول ثابت عن أنس: فقام الناس، فصاحوا، لاحتمال أنهم سألوا بعد أن سأل الرجل، أو نسب إليهم لموافقة سؤال السائل ما كانوا يريدونه من دعائه صلى الله عليه وسلم، ولأحمد عن ثابت، عن أنس: إذ قال بعض أهل المسجد، وهو يرجّح الاحتمال الأول، وزعم بعضهم أنه أبو سفيان بن حرب، وهو وهم، لأنه جاء في واقعة أخرى قبل إسلامه، وينفي زعمه قوله: يا رسول اللَّه، لأنه لا يقولها قبل إسلامه

(1)

(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سعيد المقبري الآتية، عن شريك، عن أنس "بينما نحن في المسجد يوم الجمعة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فقام رجل، فقال: يا رسول اللَّه

"، وفي رواية ثابت الآتية، عن أنس: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام إليه الناس، فصاحوا، فقالوا: يا نبي اللَّه قحط المطر، وهلكت البهائم

" (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَهِ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي) لعدم وجود ما تعيش به من الأقوات لحبس المطر، وفي رواية "الأموال"، والمراد بها هنا المواشي، لا الصامت، وفي لفظ "الكراع" بضم الكاف الخيل وغيرها، وفي رواية يحيى بن سعيد "هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس"، وهو من العامّ بعد الخاص (وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ) بضمتين جمع سبيل: الطرق، لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلإ ما يُقيم أَوَدَها، وقيل: المراد نفاد ما عند الناس من الطعام، أو قلّته، فلا يجلبون ما يجلبونه من الأسواق.

وفي رواية قتادة، عن أنس "قحط المطر" بفتح القاف والحاء، وحكي بضم، فكسر، وفي رواية ثابت:"واحمرّت الشجر" كناية عن يبس ورقها لعدم شربها الماء، أو لانتثاره، فيصير الشجر أعوادًا بلا ورق، ولأحمد في رواية قتادة:"وأمحلت الأرض"، وهذه الألفاظ يحتمل أن الرجل قالها كلها، ويحتمل أن بعض الرواة روى شيئا مما قاله بالمعنى، فإنها متقاربة، فلا يكون غلطًا، كما قاله صاحب "المطالع" وغيره

(2)

(فَادْعُ اللهَ عز وجل) وفي الرواية الآتية -9/ 1515 - : "فادع اللَّه أن يسقينا"، وفي -10/ 1518 - "فادع اللَّه أن يُغيثنا" (فَدَعَا رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم) وفي المذكورة:"فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يديه حذاء وجهه، فقال: اللهم اسقنا"(فَمُطِرْنَا) بالبناء للمفعول، يقال: مَطَرت السماء تمطُرُ مَطَرًا، من باب طلب، فهي ماطرة في الرحمة، وأمطرت بالألف لغةٌ، قال الأزهريّ: يقال: نَبَتَ البَقْلُ، وأنبت، كما يقال: مطرف السماء، وأمطرت، وأمطرت بالألف لا غير في العذاب، ثم سمي القطر بالمصدر، وجمعه أمطار، مثل سبب وأسباب.

(3)

وفي

(1)

راجع "شرح الزرقاني على الموطإ" ج 1 ص 386.

(2)

راجع "الفتح" ج 3 ص 193.

(3)

قاله في "المصباح" في مادة مطر.

ص: 39

رواية إسماعيل بن جعفر، عن أنس الآتية: قال أنس: ولا واللَّه ما نرى في السماء من سحابة، ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت، ودار، فطلعت سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، وأمطرت، قال أنس: ولا واللَّه ما رأينا الشمس سبتًا

" (مِنَ الْجُمُعَةِ اِلَى الْجُمُعَةِ) أي المقبلة، والمراد الأسبوع كله (فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ظاهره أنه رجل آخر؛ لأن القاعدة أن النكرة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى، قال في "عقود الجمان":

ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَة

إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ

نَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ

تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ

ويؤيد التغاير ما يأتي في الرواية الآتية -10/ 1518 - قال شريك: سألت أنسا أهو الرجل الأول؟ قال: لا، لكن في رواية البخاري: فقال: لا أدري.

قال في "الفتح": وهو يقتضي أن أنسالم يجزم بالتغاير، فالظاهر أن القاعدة المذكورة محمولة على الغالب، لأن أنسًا من أهل اللسان، وقد تعددت، وفي رواية إسحاق عن أنس "فقام ذلك الرجل أو غيره"، وكذا لقتادة، وهذا يقتضي أنه كان يشك فيه، وفي رواية يحيى بن سعيد عن أنس:"فأتى الرجل، فقال: يا رسول اللَّه"، وكلها عند البخاريّ، ومثله لأبي عوانة من طريق حفص عن أنس بلفظ فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى"، وأصله في مسلم. وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدًا، فلعلّ أنسًا تذكّره بعد أن نسيه، أو نسيه بعد أن كان تذكره.

ويؤيد ذلك رواية البيهقي في "الدلائل" من طريق يزيد بن عبيد السلمي قال: "لما قفل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلًا، وفيهم خارجة ابن حصن أخو عيينة، وفيه: قدموا عدى إبل صغار عجاف

، فقالوا: يا رسول اللَّه ادع لنا ربك أن يغيثنا

فذكر الحديث، وفيه: فقال: "اللهم اسق بلدك، وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئًا طبقا واسعًا عاجلا غير آجل نافعًا غير ضارّ، اللَّهمّ سُقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء"، وفيه "قال: فلا واللَّه ما نرى في السماء من قزعة، ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء"، فذكر الحديث نحو حديث أنس بتمامه، وفيه "قال الرجل -يعني الذي سأله أن يستسقي لهم-: هلكت الأموال" الحديث

(1)

.

(1)

"دلائل النبوة" ج 6 ص 143 - 144.

ص: 40

والظاهر أن السائل هو خارجة المذكور لكونه كان كبير الوفد، ولذلك سمي من بينهم. واللَّه أعلم انتهى ما في "الفتح" بتصرف

(1)

.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تهدَّمَتِ الْبُيُوتُ) أي بكثرة الأمطار، وفي رواية إسحاق:"هُدم البناء، وغرق المال"(وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ) أي لتعذر سلوكها من كثرة الماء، وفي رواية حميد عند ابن خزيمة:"واحتبس الركبان"(وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي) أي بسببٍ غيرِ السبب الأول، والمراد أن المرعى انقطعت بسبب كثرة الماء، فهلكت المواشي من عدم الشرعي، أو لعدم ما يُكِنُّها من المطر، ويدلّ على هذا ما يأتي من طريق سعيد المقبري، عن شريك -9/ 1515 - وهلكت الأموال من كثرة الماء" (فَقَالَ) أي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ثابت الآتية عن أنس: "فتبسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم حوالينا، ولا علينا

"، وفي رواية إسماعيل بن جعفر الآتية أيضًا عن شريك: "فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يديه" (اللهُمَّ عَلَى رُؤُوسِ الْجبَالِ) أي أنزل المطر على رؤوس الجبال التي لا يتضرر فيها أحد (والآكَامِ) بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمدّ، جمع أكمة بفتحات، قال ابن البَرْقيّ: هو التراب المجتمع، وقال الداوديّ: هي أكبر من الكُدْية، وقال القزّاز: هي التي من حجر واحد، وهو قول الخليل، وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة، وقيل: الجبل الصغير، وقيل: ما ارتفع من الأرض، وقال الثعالبي: الأكمة أعلى من الرابية، وقيل: دونها

(2)

(وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ) جمع واد، وهو -كما قال الفيومي-: كلّ منفرج بين جبال، أو آكام يكون مَنفَذًا للسيل

(3)

وقال في "الفتح": والمراد بها ما يتحصّل فيه الماء لينتفع به، قالوا: ولم تُسمَع "أفعلة" جمعَ "فاعل" إلا "الأودية"، جمع "واد"، وفيه نظر، وزاد مالك في روايته:"ورؤوس الجبال"(وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ) جمع منبت بكسر الموحدة، أي ما حولها مما يصلح أن ينبت فيه، لأن نفس المنبت لا يقع عليه المطر، أي أنزله في المحل الذي تنتفع به النبات (فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينهِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ) قال في "النهاية": أي خرجت عنها كما يخرج الثوب عن لابسه، وقال الزركشي:"انجياب" نصب على المصدر، أي تقطعت كما يتقطع الثوب قطعًا متفرّقة انتهى

(4)

. وفي "المنتقى" قال ابن القاسم: قال مالك: معناه تَدَوَّرَتْ عن المدينة كما يُدَوَّرُ جيبُ القميص، وقال ابن وهب: يعني تقطعت عنها كما يتقطع الثوب الخلق انتهى.

(1)

جـ 3 ص 195 - 196.

(2)

المصدر المذكور.

(3)

"المصباح المنير".

(4)

انظر "زهر الربى" ج 3 ص 155.

ص: 41

وفي رواية سعيد المقبريّ الآتية، عن شريك، عن أنس قال:"واللَّه ما هو إلا أن تكلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك تمزّق السحاب حتى ما نرى منه شيئًا"، أي في المدينة، وفي رواية ثابت، عن أنس: "فتقشعت عن المدينة، فجعلت تمطر حولها، وما تمطر بالمدينة قطرة

"، ولمسلم "ولقد رأيت السحاب يتمزق كأنه الملا يُطوى" بضم الميم والقصر، وقد يمدّ جمع ملاءة ثوب معروف، وللبخاريّ "فلقد رأيت السحاب يتقطّع يمينا وشمالًا، يُمطرون أهل النواحي، ولا يمطر أهل المدينة"، وله أيضًا "فجعل السحاب يتصدّع عن المدينة، يريهم اللَّه كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجابة دعوته"، وله أيضًا "فتكشطت، فجعلت تمطر حول المدينة، ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل"، ولأحمد "فتقوّر ما فوق رؤوسنا من السحاب حتى كأنا في إكليل"، والإكليل بكسر الهمزة، وسكون الكاف: كل شيء دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس، فيحيط به، وهو من ملامس الملك كالتاج، وفي رواية إسحاق عن أنس "فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة"، و"الجوبة" بفتح الجيم، ثم الموحّدة، وهي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا الفرجة في السحاب.

وقال الخطابي: المراد بالجوبة هنا الترس، وضبطها الزين ابن المنيّر تبعًا لغيره بنون بدل الموحدة، ثم فسره بالشمس إذا ظهرت في خلال السحاب، لكن جزم عياض بان من قاله بالنون فقد صحّف.

وفي رواية إسحاق من الزيادة أيضًا: "وسال الوادي وادي قناة شهرًا"، و"قناة" بفتح القاف والنون الخفيفة عَلَمٌ على أرض ذات مزارع بناحية أحد، وواديها أحد أودية المدينة المشهورة قاله الحازمي.

واستشكل بأن بقاء المطر فيما سواها يقتضي أنه لم يرتفع الإهلاك، والقطع، وهو مطلوب السائل بقوله:"تهدمت البيوت، وانقطعت السبل".

والجواب أنه استمر فيما حول المدينة من الآكام، وبطون الأودية، لا في الطرق المسلوكة، ولا البيوت المسكونة، ووقوع المطر في بقعة دون بقعة كثير، ولو كانت تجاورها، وإذا جاز ذلك جاز أن يوجد للمواشي أماكن تسكنها، وترعى فيها بحيث لا يضرّها ذلك المطر .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

ص: 42

حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا - 1/ 1504 وفي "الكبرى" 1/ 1805 - بهذا السند، وفي 9/ 1515 - و"الكبرى" 8/ 1818 - عن عيسى بن حماد، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن شريك به. وفي-10/ 1516 - و"الكبرى" 9/ 1823 - عن محمد بن بشار، عن المغيرة ابن سلمة، عن وهيب، عن يحيى بن سعيد، عنه. وفي 10/ 1518 - عن علي بن حُجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن شريك به. وفي -17/ 1527 - و"الكبرى" 15/ 1838 - عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عنه.

وأخرجه (خ) 2/ 15 و 4/ و 2/ 35 و 236و 2/ 36و 2/ 37. (م) 3/ 24 و 3/ 25 (د) 1175. (مالك) في "الموطإ" 135 (أحمد) 3/ 257 و 3/ 194 و (عبد بن حميد) 1282 (ابن خزيمة) 1788 و 1789. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده

(1)

:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان استسقاء الإمام إذا طلب الناس ذلك منه. (ومنها): طلب الناس من الإمام أن يستسقي لهم إذا حصل الجدب والقحط. (ومنها): قيام الواحد بأمر الجماعة، وإنما لم يباشر ذلك بعض أكابر الصحابة لأنهم كانوا يسلكون مسلك الأدب بالتسليم، وترك الابتداء بالسؤال، ومنه قول أنس رضي الله عنه: "كان يعجبنا أن يجيء الرجل من البادية، فيسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" (ومنها): طلب الدعاء من أهل الخير، ومن يرجى منه القبول، وإجابتهم لذلك، ومن أدبه بث الحال لهم قبل الطلب لتحصيل الرقّة المقتضية لصحة التوجه، فترجى الإجابة عنده. (ومنها): تكرير الدعاء ثلاثًا (ومنها): إدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة، والدعاء به على المنبر، ولا تحويل فيه، ولا استقبال القبلة (ومنها) الاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء، وليس في السياق ما يدلّ على أنه نواها مع الجمعة (ومنها): أن فيه علما من أعلام النبوّة في إجابة اللَّه دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم عقبه، أو معه، ابتداء في الاستسقاء، وانتهاء في الاستصحاء، وامتثال السحاب أمره بمجرّد الإشارة (ومنها): الأدب في الدعاء حيث لم يدع برفع المطر مطلقًا، لاحتمال الاحتياج إلى استمراره، فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضرر، وإبقاء النفع، فيستنبط منه أن من أنعم اللَّه عليه بنعمة لا ينبغي له أن يتسخطها لعارض يعرض فيها، بل يسأل اللَّه رفع ذلك العارض، وإبقاء

(1)

المراد فوائد الحديث التي اشتمل عليها باختلاف رواياته المذكورة في الشرح، لا خصوص ما ساقه المصنف هنا، فتنبه.

ص: 43

النعمة (ومنها): أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل (ومنها): جواز تبسم الخطيب على المنبر تعجبًا، وجواز الصياح في المسجد بسبب الحاجة المقتضية لذلك، وفيه اليمين لتأكيد الكلام (ومنها): جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، ولكن هذا لا ينافي ما ثبت من الصلاة لها، فلا يكون دليلا لأبي حنيفة في عدم مشروعية الصلاة لها، كما سيأتي في بابه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌2 - (خُرُوجُ الإِمَامِ إِلَى الْمُصَلَّى لِلاسْتِسْقَاءِ)

1505 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، قَالَ سُفْيَانُ: فَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، يُحَدِّثُ أَبِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الَّذِي أُرِيَ النِّدَاءَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا غَلَطٌ مِنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الَّذِي أُرِيَ النِّدَاءَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، وَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكي، ثقة [10] تقدم 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة المثبت [10] تقدم 1/ 1.

3 -

(المسعوديّ) عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عتبة بن عبد اللَّه بن مسعود الكوفي، صدوق اختلط قبل موته، فمن سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط [7] تقدم 50/ 849.

4 -

(عبد اللَّه بن أبي بكر) بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني القاضي، ثقة [5]

(1)

وفي نسخة "أخبرني".

ص: 44

تقدم 118/ 163.

5 -

(أبو بكر بن عمرو بن حزم) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، نسب لجده الأنصاريّ النجّاريّ المدني القاضي، اسمه كنيته، ثقة عابد [5] تقدم 118/ 163.

6 -

(عباد بن تميم) بن غَزِيّة الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقة [3] تقدم 59/ 74.

7 -

(عبد اللَّه بن زيد) بن عاصم بن كعب الأنصاريّ المازنيّ، أبو محمد الصحابيّ المشهور، روى صفة الوضوء، وغير ذلك، ويقال: إنه هو الذي قتل مسيلمة الكذّاب، واستُشهِد بالحرّة سنة (63)، وتقدمت ترجمته في 80/ 97.

[تنبيه]: كون عبد اللَّه بن زيد المذكور في هذا السند هو ابن عاصم المازنيّ هو الصواب، كما سيأتي قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وسفيان، فمكيان، والمسعودي، فكوفي. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: عبد اللَّه، وأبوه، وعباد، وفيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن سفيان بن عيينة -رحمه اللَّه تعالى- أنه (قَالَ: فَسَأَلْتُ عَبدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرِ) أي عفا حدثه به المسعوديّ، عن أبيه (فَقَالَ) أي عبد اللَّه بن أبي بكر (سَمِعْتُهُ) أي الحديث المذكور (مِنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ) المازني (يُحَدَّثَ أَبِي) جملة في محل نصب على الحال، هكذا في النسخة الهندية، وهو الصواب، ووقع في النسختين المطبوعتين:"يحدث عن أبي" بزيادة "عن" وهو غلط.

ومراد ابن عيينة أنه سمع هذا الحديث عن المسعوديّ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ثم لقي عبد اللَّه ولد أبي بكر شيخ شيخه، فسأله عن الحديث، فحدثه عن عباد شيخ أبيه، فصار له عاليًا، إذ كان أوّلًا وصل إلى عباد بواسطتين، فأسقط عنه واسطة.

وفي رواية ابن خزيمة في "صحيحه" عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان، قال: حدثنا المسعوديّ، ويحيى هو ابن سعيد، عن أبي بكر، أي ابن محمد بن عمرو بن حزم، قال سفيان: فقلت لعبد اللَّه -أي ابن أبي بكر- حديث حدثناه يحيى، والمسعوديّ

ص: 45

عن أبيك، عن عباد بن تميم؟ فقال عبد اللَّه بن أبي بكر: سمعته أنا من عباد يحدث أبي، عن عبد اللَّه بن زيد

فذكر الحديث.

(أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الَّذِي أُرِيَ النَّدَاءَ) سيأتي للمصنف أن هذا غلط، وأن الصواب "عبد اللَّه ابن زيد بن عاصم".

[تنبيه]: عبد اللَّه بن زيد هذا هو ابن عبد ربه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو محمد المدنيّ، وقيل في نسبه غير ذلك، شهد العقبة، وبدرًا، والمشاهد، وهو الذي أري النداء للصلاة في النوم، وكانت رؤياه في السنة الأولى بعد بناء المسجد. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه محمد، وابن ابنه عبد اللَّه بن محمد على خلاف فيه، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقيل: لم يسمع منه، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ولم يدركه.

قال الترمذي عن البخاريّ: لا يُعرف له إلا حديث الأذان، وقال ابن عديّ: لا نعرف له شيئًا يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديث الأذان انتهى.

قال الحافظ: وهذا يؤيد كلام البخاريّ، وهو المعتمد

(1)

، وقد وجدت له أحاديث غير الأذان جمعتها في "جزء"، واغترّ الأصفهاني بالأول، فجزم به، وتبعه جماعة، فوهموا. وقال الحاكم: الصحيح أنه قُتل بأحد، والروايات عنه كلها منقطعة. كذا قال.

وفي ترجمة عمر بن عبد العزيز من "الحلية" بسند صحيح عن عبيد اللَّه بن عمر العمريّ قال: دخلت ابنة عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه عدى عمر بن عبد العزيز، فقالت: أنا ابنة عبد اللَّه بن زيد شهد أبي بدرًا، وقتل بأحد، فقال: سليني ما شئت، فأعطاها.

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي) قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف في شيء من طرق حديث عبد اللَّه بن زيد على سبب ذلك، ولا صفته صلى الله عليه وسلم حال الذهاب إلى المصلى، ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود، وابن حبان، قالت: "شكا الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له بالمصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر

" الحديث. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه عند أحمد، وأصحاب السنن: "خرج متبذّلًا متواضعًا حتى أتى المصلّى، فرقي المنبر

". وفي حديث أبي الدرداء عند البزار، والطبرانيّ: "قحط المطر، فسألنا نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لنا، فغدا

(1)

قوله: "وهو المعتمد" فيه نظر، فإنه يأتي له قريبًا ما يدلّ أنه وهم. فتأمل.

(2)

راجع "تت" ج 2 ص 933 الطبعة الجديدة / مؤسسة الرسالة.

ص: 46

نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم

" الحديث.

وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معيّنٌ، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختصّ بيوم معيّن، وهل تُصنع بالليل؟ استنبط بعضهم من كونه صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة فيها بالنهار أنها نهاريّة كالعيد، وإلا فلو كانت تصلى بالليل لأسرّ فيها بالنهار، وجهر بالليل كمطلق النوافل.

[قال الجامع - عفا اللَّه عنه -]: الاستنباط المذكور محل تأمل. واللَّه تعالى أعلم.

ونقل ابن قُدامة رحمه الله الإجماع على أنها لا تصلى في وقت الكراهة. وأفاد ابن حبّان أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة.

(1)

(فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاْهُ) ذكر الواقدي أن طول ردائه صلى الله عليه وسلم كان ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر، كان يلبسهما في الجمعة والعيدين. ووقع في "شرح الأحكام لابن بزيزة" ذرع الرداء كالذي ذكره الواقديّ في ذرع الإزار، والأول أولى. قاله في "الفتح". وسيأتي كيفية القلب في بابه إن شاء اللَّه تعالى (وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) وفي رواية يحيى بن سعيد عند ابن خزيمة:"وصلى للناس ركعتين"، وفي رواية الزهري عند البخاري:"ثم صلى لنا ركعتين".

واستدلّ به على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة، وسيأتي البحث عنه في بابه إن شاء اللَّه تعالى.

(قَالَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ:) المصنف رحمه الله (هَذَا) أي قوله: الذي أري النداء (غَلَطٌ مِنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ) لأن الذي أري النداء غير الذي روى حديث الاستسقاء، كما بينه بقوله (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الَّذِي أُرِيَ النَّدَاءَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبدِ رَبِّهِ، وَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ) بن كعب الأنصاريّ المازنيّ.

وهذا الذي قاله المصنف -رحمه اللَّه تعالى- قاله أيضًا غيره، فقد قال البخاريّ في "صحيحه": قال أبو عبد اللَّه: كان ابن عيينة يقول: هو صاحب الأذان، ولكنه وهم، لأن هذا عبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازنيّ، مازن الأنصار انتهى.

قال في "الفتح": وقد حذف البخاريّ مقابله، والتقدير: وذاك أي عبد اللَّه بن زيد رائي الأذان عبدُ اللَّه بن زيد بن عبد ربه، وقد اتفقا في الاسم، واسم الأب، والنسبة إلى الأنصار، ثم إلى الخزرج، والصحبة، والرواية" وافترقا في الجدّ، والبطن الذي من الخزرج؛ لأن حفيد عاصم من مازن، وحفيد عبد ربه من بلحارث بن الخزرج

(2)

. واللَّه

(1)

راجع "الفتح" ج 3 ص 188 - 189.

(2)

"فتح" 3/ 190.

ص: 47

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عبد اللَّه بن زيد - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 1505 - وفي "الكبرى" 2/ 1806 - بالسند المذكور، وفي -3/ 1507 - و"الكبرى" 2/ 1809 عن قتيبة، عن عبد العزيز، عن عمارة بن غزية، عن عباد به. وفي 5/ 1509 - و"الكبرى" 5/ 1812 - عن عمرو بن عثمان، عن الوليد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهريّ عن عباد به. وفي 6/ 1510 - و"الكبرى" 5/ 1813 - عن قتيبة، عن سفيان به. وفي 7/ 1511 - و"الكبرى" 6/ 1815 - عن قتيبة، عن مالك، عن عبد اللَّه بن أبي بكر به. وفي 8/ 1512 - و"الكبرى" 7/ 1816 - عن هشام بن عبد الملك، عن بقية، عن شعيب، عن الزهريّ به. وفي 11/ 1519 - 3/ 1810 - عن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن ابن أبي ذئب به. وفي 12/ 1520 - و"الكبرى" 10/ 1825 - عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر به. و 14/ 1522 - عن محمد بن رافع، عن يحيى بن آدم، عن سفيان به.

وأخرجه (خ) 2/ 32 و 234 و2/ 39 و 2/ 38 و 8/ 93. (م) 3/ 23. (د) 1166 و 1167 و1161 و 1164. (ت) 556. (ق)1267. (مالك في الموطإ) 135 (الحميدي) 415 و 416 (أحمد) 4/ 38 و 4/ 93 و 4/ 41 و 4/ 40 و 4/ 41. (الدارمي) 1541 و 1542 (عبد بن حميد)516. (ابن خزيمة) 1406 و 1410 و 1414 و1420و 1424 و 1415. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

(منها): ما ترجم له "المصنف"رحمه الله، وهو مشروعية خروج الإمام إلى المصلى للاستسقاء. (ومنها): مشروعية استقبال القبلة في حال الدعاء (ومنها): استحباب قلب الرداء، تفاؤلًا في قلب الحال من الجدب إلى الرخاء والخصب (ومنها): استحباب صلاة ركعتين للاستقاء، وقد خالف فيه الإمام أبو حنيفة، وسيأتي الكلام عليه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 48

‌3 - (بَابُ الْحَالِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا إِذَا خَرَجَ)

1506 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الاِسْتِسْقَاءِ، فَقَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَضَرِّعًا، مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلاً، فَلَمْ يَخْطُبْ نَحْوَ خُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن منصور) الكوسج المروزيّ، ثقة ثبت [11] تقدم 72/ 88،

2 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 64/ 80.

3 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ الإمام الحجة المثبت [9] تقدم 42/ 49.

4 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحجة المثبت [7] تقدم 33/ 37.

5 -

(هشام) بن إسحاق بن عبد اللَّه بن كنانة) أبو عبد الرحمن القرشي المدني، مقبول [7].

روى عن أبيه. وعنه حفيده إسماعيل بن ربيعة بن هشام، وسفيان الثوريّ، وحاتم بن إسماعيل. قال أبو حاتم: شيخ. وقال البخاريّ: يقال: إنه سهميّ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال فيه: القرشي السهميّ. روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده برقم 1508 و 1521.

6 -

(أبوه) إسحاق بن عبد اللَّه بن الحارث بن كنانة العامريّ مولاهم، ويقال: الثقفيّ، وقد ينسب إلى جدّه، صدوق [3].

أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي هريرة، وابن عباس مرسلًا فيما قال أبو حاتم، وعن عامر بن سعد، وغيرهم. وعنه ابناه: عبد الرحمن، وهشام، وهاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وعمر بن محمد الأسلمي. وتقدم في ترجمة ابنه هشام أنه قرشيّ سهميّ.

قال أبو زرعة: مدني ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات" في التابعين، فقال: إسحاق بن عبد اللَّه بن كنانة، وصحح حديثه، وقبله أبو عوانة، وأخرج حديثه ابن خزيمة في "صحيحه"، قال: أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن الاستسقاء. ولابن القطان كلام في نسبه وحاله. روى له الأربعة، وله

ص: 49

في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بالأرقام المذكورة في ترجمته ابنه آنفًا.

7 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدم 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير هشام بن إسحاق، وأبيه، فإنهما من رجال الأربعة. (ومنها): أن شيخه ابن المثنى أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن إسحاق بن عبد اللَّه أنه (قال: أَرْسَلَنِي فُلَانٌ) وفي الرواية الآتية من طريق الثوري، عن هشام: قال أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن الاستسقاء، فقال ابن عباس: ما منعه أن يسألني؟

"

وقد بين الأمير المبهم في رواية أبي داود من طريق حاتم بن إسماعيل، عن هشام بن إسحاق، قال: أخبرني أبي، قال: أرسلني الوليد بن عُتبة، وكان أمير المدينة

" (إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَسْأَلُهُ) جملة حالية من ضمير المتكلّم (عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الاسْتِسْقَاءِ) أي عن كيفيتها، وعن كيفية خروجه إليها (فَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَضَرِّعًا) اسم فاعل تضرع إلى اللَّه: إذا ابتهل (مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا) أي لابسًا ثياب المهنة، لا ثياب الزينة. وقال السندي رحمه الله: قوله: "متبذّلًا" بمثناة، ثم موحدة، ثم ذال معجمة، من التبذّل، وهو ترك التزيّن، والتهيء بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع، ويحتمل أن يكون بتقديم الموحّدة من الابتذال بمعناه انتهى.

وفي رواية ابن ماجه: "خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متواضعًا، متبذّلًا، متخشّعًا، مترسّلًا، متضرّعًا"، ومعنى "مترسّلًا": أي متمهّلًا في مشيه (فَلَمْ يَخْطُبْ نحو خُطبَتكُمْ هَذِهِ) وفي الرواية الآتية من طريق حاتم بن إسماعيل، عن هشام:"فلم يخطب خُطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرّع، والتكبير".

والظاهر أن الخطبة التي أنكرها ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - خالية عن هذه الأمور، أو معظمها.

وإلا فقد فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خطب في الاستسقاء، فقد أخرج أبو داود في "سننه" من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فقال: حدثنا هارون بن سعيد الأيليّ، نا خالد بن

ص: 50

نزار، قال: حدثني القاسم بن مبرور، عن يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: شكا الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوُضع له في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبّر، وحمد اللَّه عز وجل، ثم قال:"إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبّان زمانه عنكم، وقد أمِركم اللَّه عز وجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم"، ثم قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، لا إله إلا اللَّه يفعل ما يريد، اللَّهمّ أنت اللَّه لا إله إلا أنت الغنيّ، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوّةً، وبلاغًا إلى حين"، ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حوّل إلى الناس ظهره، وقلب -أو حوّل- رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل، فصلى ركعتين، فأنشأ اللَّه سحابة، فرَعَدت، وبَرَقَت، ثم أمطرت بإذن اللَّه، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكِنّ ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده، فقال: "أشهد أن اللَّه على كلّ شيء قدير، وأني عبد اللَّه ورسوله". حديث حسن.

(فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) زاد في رواية حاتم بن إسماعيل: "كما كان يصلي في العيدين". فتبيّن بهذا أن صفة صلاة الاستسقاء كصفة صلاة العيد، وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك في بابه، إن شاء اللَّه تعالى.

والحديث دليل على ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو بيان الحال التي يستحبّ للإمام أن يكون عليها إذا خرج للاستسقاء، وهو أن يكون متضرّعًا إلى اللَّه، متواضعًا له، متذّلًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائلتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا حسن.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -3/ 1556 - وفي "الكبرى" -2/ 1808 - بالسند المذكور. وفي 4/ 1508 - و"الكبرى" 2/ 1807 - عن محمد بن عبيد، عن حاتم بن إسماعيل، عن هشام به. وفي 13/ 1521 - و"الكبرى"-11/ 1826 - عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن هشام به.

وأخرجه (د) 1165 (ت) 556 و 558 (ق) 1266 (أحمد) 1/ 230 و 1/ 355 و1/

ص: 51

269 (ابن خزيمة) 1405 و 1408.

1507 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى، وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة، تقدموا قريبًا غير اثنين:

1 -

(عبد العزيز) بن محمد الدراورديّ المدني، صدوق يخطئ [8] تقدم 84/ 101. 2 - (عمارة بن غَرْيّة) الأنصاري المدني، لا بأس به [6] تقدم 168/ 1137.

وقوله: "خميصة سوداء"، "الخميصة": كساء أسود مُعْلَمُ الطرفين، ويكون من خَزّ، أو صوف، فإن لم يكن مُعْلَمًا فليس بخميصة. قاله الفيومي.

وقال ابن منظور: والخَميصةُ كساء أسود مربّع له عَلَمان، فإن لم يكن معلما فليس بخميصة، قال الأَعْشَى [من الطويل]:

إِذَا جُرًدَتْ يَوْمًا حَسِبْتُ خَمِيصَةً

عَلَيْهَا وَجِرْيَالَ النَّضِيرِ الدُّلَامِصَا

أراد شعرها الأسود، شبهه بالخميصة، والخميصة سوداء، وشبه لون بشرتها بالذهب، والنضيرُ: الذهب، والجِريال بكسر فسكون لون الذهب، والدُّلَامِصُ: البّرَّاق.

قال: وهي -أي الخميصة- ثوبُ خَزّ، أو صوفٍ مُعْلَمٌ، وقيل: لا تسمى خميصةٌ إلا أن تكون سوداء معلمةٌ، وكانت من لباس الناس قديمًا، وجمعها الخمائص، وقيل: الخمائص ثياب من خَزّ ثِخَان سُودٌ وحُمْرٌ، ولها أعلام ثخان أيضًا. انتهى

(1)

.

[قال الجامع]: فعلى الأول يكون "سوداء" صفة كاشفة، وعلى الأخير يكون للاحتراز عن الأحمر. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وقد تقدم تخريجه في 2/ 1505، ودلالته على ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى- واضحة؛ لأن لبس الخميصة السوداء يدل على التواضع؛ لأنها من أدون اللباس، فيستفاد منه، ما ترجم له، وهو بيان الحال التي يستحبّ للإمام أن يكون عليها إذا خرج للاستسقاء، وهي أن يكون متواضعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

(1)

راجع "لسان العرب" في مادّة خمص جـ 7 ص 31.

ص: 52

‌4 - (بَابُ جُلُوسِ الإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِلاسْتِسْقَاءِ)

1508 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الاِسْتِسْقَاءِ؟ فَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَبَذِّلاً، مُتَوَاضِعًا، مُتَضَرِّعًا، فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث حسن، وقد تقدم الكلام عليه في الباب الماضي، وممن لم يتقدم هناك من رجاله:

1 -

(محمد بن عبيد بن محمد) بن واقد المحاربي النحّاس الكوفي، صدوق [10] تقدم 144/ 226.

2 -

(حاتم بن إسماعيل) الحارثي مولاهم، أبو إسماعيل المدني كوفي الأصل، صدوق، يهم، صحيح الكتاب [8] تقدم 48/ 604.

ومحلّ الاستدلال قوله: "فجلس على المنبر". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

‌5 - (تَحْوِيلُ الإمَامِ ظَهْرَهُ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الاسْتِسْقَاءِ)

1509 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِى، فَحَوَّلَ

(1)

وفي نسخة "أخبرني".

ص: 53

رِدَاءَهُ، وَحَوَّلَ لِلنَّاسِ

(1)

ظَهْرَهُ، وَدَعَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقَرَأَ فَجَهَرَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عثمان) أبو حفص الحمصي، صدوق [10] تقدم 21/ 535.

2 -

(الوليد) بن مسلم، أبو العباس الدمشقي، ثقة، كثير التدليس والتسوية [8] تقدم 5/ 454

3 -

(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث القرشي العامري، ثقة فقيه فاضل [7] تقدم 41/ 685.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت [4] تقدم 1/ 1. والباقيان تقدما 2/ 1505.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه البخاريّ، وشرحه واضح، ومحل الاستدلال قوله:"وحوّل للناس ظهره"، ففيه استحباب استقبال القبلة للإمام حال الدعاء في الاستسقاء حتى يكون منقطعًا إلى اللَّه تعالى، كامل التوجه إليه، فلا يشغله مواجهة الناس عن إخلاص التضرّع.

وقوله: "ثم صلى ركعتين" استدلّ به من قال بتقديم الخطبة.

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلفوا في هذا الباب، فروينا عن ابن الزبير أنه خرج يستسقي بالناس، فخطب، ثم صلى بغير أذان، ولا إقامة، وفي الناس يومئذ البراء بن عازب، وزيد بن أرقم. قال: وروينا أن عمر بن عبد العزيز استسقى على المنبر، ثم نزل، فصلى. وروينا عن عبد اللَّه بن يزيد أنه صلى، ثم استسقى، قال أبو إسحاق الراوي لهذا الحديث: فمشيت يومئذ إلى جنب زيد بن أرقم. وقال مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن: يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه خطب قبل الصلاة.

قال ابن المنذر رحمه الله: يخطب قبل الصلاة انتهى

(2)

.

وقال القرطبي رحمه الله في "المفهم": وظاهر الحديث أن الخطبة مقدمة على الصلاة، لأنه جاء فيه بـ "ثم" التي للترتيب والمهلة، وبذلك قال مالك في أول قوليه، وهو قول كثير من الصحابة والتابعين، والجمهور على أن الصلاة مقدمة على الخطبة، وإليه رجع مالك، وهو قوله في "الموطإ"، وكان مستند هذا القول رواية من روى هذا الخبر بالواو

(1)

وفي نسخة "إلى الناس".

(2)

"الأوسط" ج 4 ص 318 - 319.

ص: 54

غير المرتبة بدل "ثم"، وما روي عن إسحاق بن عيسى بن الطباع

(1)

، عن مالك: أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وهذا نص، ويعتضد هذا بقياس هذه الصلاة على صلاة العيدين، لسبب أنهما يخرج لهما، ولهما خطبة. انتهى

(2)

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله: وقد اختلفت الأحاديث في تقديم الخطبة على الصلاة، أو العكس، ففي حديث أبي هريرة، وحديث أنس، وحديث عبد اللَّه بن زيد عند أحمد أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وفي حديث عبد اللَّه بن زيد في "الصحيحين" وغيرهما، وكذا حديث ابن عباس عند أبي داود، وحديث عائشة المتقدم أنه بدأ بالخطبة قبل الصلاة، ولكنه لم يصرّح في حديث عبد اللَّه بن زيد الذي في "الصحيحين" أنه خطب، وإنما ذكر تحويل الظهر لمشابهتها للعيد، وكذا قال القرطبي: يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها للعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة.

قال في "الفتح": ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء، ثم صلى ركعتين، ثم خطب، فاقتصر بعض الرواة على شيء، وعبر بعضهم بالدعاء عن الخطبة، فلذلك وقع الاختلاف. والمرجح عند الشافعية، والمالكية البدء بالصلاة، وعن أحمد رواية كذلك، قال النووي: وبه قال الجماهير، وقال الليث بعد الخطبة، وكان مالك يقول به، ثم رجع إلى قول الجماهير، قال: وقال بعض أصحابنا: ولو قدّم الخطبة على الصلاة صحّتا، ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها، وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز التقديم والتأخير، واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة انتهى. وجواز التقديم والتاخير بلا أولوية هو الحقّ انتهى كلام الشوكاني

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الشوكاني رحمه الله حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.

وفيه الجهر بالقراءة، وسيأتي في باب مفرد، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

* * *

(1)

تصحف "ابن الطباع" في نسخة "المفهم" إلى ابن الصباغ، فتنبه.

(2)

"المفهم" ج 2 ص 538 - 539.

(3)

راجع "نيل الأوطار" ج 4 ص 8.

ص: 55

‌6 - (تَقْلِيبُ الإِمَامِ الرِّدَاءَ عَنْدَ الاسْتِسْقَاءِ)

1510 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله.

و"سفيان": هو ابن عيينة.

ودلالته على ما ترجم له واضحة، حيث قال:"وقلب رداءه"، وهو بتشديد اللام وتخفيفها.

وقد اختلفت الروايات، ففي بعضها أنه صلى الله عليه وسلم حول رداءه، كما في رواية الباب الماضي، وفي بعضها أنه قلبه، كما في رواية الباب، وقد فسر التحويل بالقلب، ففي رواية أحمد قال:"ثم تحوّل إلى القبلة، وحوّل رداءه، فقلبه ظهرًا لبطن، وتحول الناس معه". وفي رواية لأبي داود: "فحول رداءه"، وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا اللَّه عز وجل".

فهذا يدلّ على أن التحويل والقلب بمعنى واحد، كما قال الزين ابن المنيّر. واللَّه تعالى أعلم.

(مسألتان): تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): أنه اختُلِفَ في حكمة التحويل، فجزم المهلب أنه للتفاءل بتحويل الحال عما هي عليه، وتعقبه ابن العربي بان من شرط الفأل أن لا يُقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له: حوّل رداءك لتحوّل حالك. قال الحافظ: وتعقب بان الذي جزم به يحتاج إلى نقل، والذي ردّه وَرَدَ فيه حديثٌ رجاله ثقات، أخرجه الدراقطني، والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن عليّ، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه، ورجح الدارقطني إرساله، وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظنّ.

وقال بعضهم: إنما حول رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدعاء، فلا يكون سنة في كلّ حال. وأجيب بأن التحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثبوت على العاتق، فالحمل على المعنى الأول أولى، فإن الاتباع أولى من تركه لمجرّد احتمال

ص: 56

الخصوص، واللَّه تعالى أعلم انتهى.

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الأرجح مشروعية التحويل، وأنه للتفاؤل؛ لحديث جابر رضي الله عنه المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في مشروعية تحويل الرداء:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: وقد اختلفوا في تحويل الرداء، فكان مالك يقول: إذا فرغ من الصلاة في الاستسقاء خطب الناس قائمًا يدعو في خطبته، مستقبل الناس، وظهره إلى القبلة، والناس مستقبلوه، فإذا استقبل القبلة حوّل رداءه، وجعل ما على يمينه على شماله، وما على شماله على يمينه، ودعا قائمًا، واستقبل الناسُ جميعًا القبلةَ كما استقبلها الإمام قعودًا، وحوّلوا أرديتهم جميعًا كما حول الإمام، فإذا فرغ مما يريد من الدعاء استقبل الناس بوجهه، ثم انصرف.

وممن كان يرى أن يجعل اليميَن الشمالَ، والشمالَ اليمينَ أحمدُ بن حنبل، وأبو ثور، وحُكي ذلك عن ابن عيينة، وعبد الرحمن بن مهديّ، وإسحاق بن راهويه، وكان الشافعي يقول بذلك إذ هو بالعراق، ثم رجع عنه.

وفيه قول ثان، قاله الشافعي آخر قوليه، قال: آمر الإمام أن ينكّس رداءه، فيجعل أعلاه أسفله، ويزيد مع نكسه، فيجعل شقه الذي كان على منكبه الأيمن على منكبه الأيسر، والذي على منكبه الأيسر على منكبه الأيمن، فيكون جاء بما أراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من نكسه، وبما فعل من تحويل الرداء.

وفيه قول ثالث: قاله محمد بن الحسن، قال: ويقلب الإمام رداءه كله، وقلبه أن يجعل جانب الأيسر على الأيمن، والأيمن على الأيسر، وإنما يتبع في هذا السنة والآثار المعروفة، وليس ذلك على من خلف الإمام. قال أبو الزناد: كان عمر بن عبد العزيز يحوّل رداءه في الاستسقاء، قال: ولم يكن الناس يحوّلون أرديتهم انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح المذاهب عندي مذهب من قال بمشروعية تحويل الرداء؛ لوضوح أدلته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب"

* * *

(1)

"فتح" ج 3 ص 188.

(2)

"الأوسط" ج 4 ص 322 - 323.

ص: 57

‌7 - (مَتَى يُحَوِّلُ الإِمَامُ رِدَاءَهُ)

1511 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ، يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَسْقَى، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريئا، ودلالته على الترجمة واضحة، فإنه يدلّ على وقت تحويل الرداء عند استقبال القبلة، والمراد حالة الدعاء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌8 - (رَفْعِ الإِمَامِ يَدَهُ)

1512 -

(أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو تَقِيٍّ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الاِسْتِسْقَاءِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ الرِّدَاءَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هشام بن عبد الملك أبو تقي

(1)

الحمصيّ) اليَزَنيّ

(2)

، صدوق ربما وهم [10] تقدم 122/ 172.

2 -

(بقية) بن الوليد الحمصي، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء [8] تقدم 45/ 55.

3 -

(شُعيب) بن أبي حمزة الحمصي، ثقة ثبت [7] تقدم 69/ 85.

والباقون تقدموا قريبًا.

قال الجامع - عفا الله تعالى عنه -: الحديث متفق عليه، واستدلال المصنف به على ما ترجم له واضح، وقد تقدم الكلام على المسائل المتعلقة به في 2/ 1505، غير المسألة

(1)

أبو تَقِيّ - بفتح المثناة، وكسر القاف.

(2)

"اليّزني" بفتح التحتانية، ثم نون.

ص: 58

المتعلقة بالباب، فأذكرها هنا، فأقول:

[اعلم]: أن رفع اليدين في الدعاء مستحبّ، وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله في "كتاب الدعوات" من "صحيحه" بابًا في ذلك، فقال:

[باب رفع الأيدي في الدعاء]: وقال أبو موسى الأشعري، دعا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه. وقال ابن عمر: رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، وقال:"اللَّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، قال أبو عبد اللَّه: وقال الأويسيّ: حدثني محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد، وشريك سمعا أنسًا عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.

قال الحافظ رحمه الله: وفي الحديث الأول ردّ على من قال: لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء، بل فيه، وفي الذي بعده ردّ على من قال: لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلاً، وتمسك بحديث أنس:"لم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء"، وهو صحيح، لكن جمع بينه وبين أحاديث الباب، وما في معناه بأن المنفي صفة خاصّة، لا أصل الرفع، وقد أشرت إلى ذلك في أبواب الاستسقاء، وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كلّ منهما:"حتى يُرى بياض إبطيه"، بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض، وفي الدعاء يليان السماء.

قال المنذريّ: وبتقدير تعذّر الجمع، فجانب الإثبات أرجح. قال الحافظ: ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك، فإن فيه أحاديث كثيرة، أفردها المنذريّ في "جزء"، وسرد النووي في "الأذكار" وفي "شرح المهذب" جملةً، وعقد البخاريّ أيضًا في "الأدب المفرد" بابًا ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"قدم الطفيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن دوسًا عصت اللَّه، فادع اللَّه عليها، فاستقبل القبدة، ورفع يديه، فقال: "اللَّهم اهد دوسًا، وهو في "الصحيحين" دون قوله:"ورفع يديه". وحديث جابر: "أن الطفيل بن عمرو هاجر"، فذكر قصة الرجل الذي هاجر معه، وفيه:"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم وليديه، فاغفر، ورفع يديه"، وسنده صحيح، وأخرجه مسلم. وحديث عائشة رضي الله عنه أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعًا يديه يقول: "اللَّهمّ إنما أنا بشر

" الحديث، وهو صحيح الإسناد.

ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه البخاريّ في "جزء رفع اليدين": "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يدعو لعثمان"، ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في قصة

ص: 59

الكسوف: "فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رافع يديه يدعو"، وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضًا:"ثم رفع يديه يدعو"، وفي حديثها عنه في دعائه لأهل البقيع: "فرفع يديه ثلاث مرات

" الحديث.

ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل في فتح مكة: "فرفع يديه، وجعل يدعو"، وفي "الصحيحين" من حديث أبي حميد في قصة ابن اللُّتْبية: ثم رفع يديه حتى رأيت عُفْرَة إبطيه، يقول:"اللَّهم هل بلغت".

ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم، وعيسى، فرفع يديه، وقال:"اللَّهمّ أمتي".

وفي حديث عمر رضي الله عنه: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل عديه الوحي يسمع عند وجهه كدويّ النحل، فأنزل اللَّه عليه يومًا، ثم سُرّي عنه، فاستقبل القبدة، ورفع يديه، ودعا "، الحديث، أخرجه الترمذيّ، واللفظ له، والنسائي، والحاكم.

وفي حديث أسامة رضي الله عنه: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، فرفع يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه، وهو رافع يده الأخرى"، أخرجه النسائي 202/ 3011 بسند جيد.

وفي حديث قيس بن سعد رضي الله عنه عند أبي داود: ثم رفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يديه، وهو يقول: "اللَّهم اجعل صلواتك، ورحمتك على آل سعد بن عبادة،، الحديث، وسنده جيد. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

وأما ما أخرجه مسلم من حديث عُمارة بن رُويبة

(1)

رضي الله عنه أنه رأى بِشْر بن مَرْوان يرفع يديه، فأنكر ذلك، وقال:"لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما يزيد على هذا، يشير بالسبابة"، فقد حكى الطبريّ عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره، وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة، وهو ظاهر في سياق الحديث، فلا معنى للتمسّك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها.

وقد أخرج أبو داود، والترمذي، وحَسّنَه، وغبرهما من حديث سلمان رضي الله عنه رفعه:"إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفْرًا" -بكسر المهملة، وسكون الفاء- أي خالية، وسنده جيد.

قال الطبريّ: وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر، وجبير بن مطعم، ورأى شُرَيحٌ

(1)

براء، وموحدة، مصغرًا.

ص: 60

رجلاً يرفع يديه داعيًا، فقال: من تتناول بهما، لا أمّ لك؟. وساق الطبري ذلك بأسانيده عنهم. وذكر ابن التين عن عبد اللَّه بن عمرو بن غانم أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء، قال: وقال في "المدونة": ويختصّ الرفع بالاستسقاء، ويجعل بطونهما إلى الأرض.

وأما ما نقله الطبريّ عن ابن عمر، فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين، وقال: ليجعلهما حذو صدره. كذلك أسنده الطبريّ عنه أيضًا. وعن ابن عباس أن هذه صفة الدعاء. وأخرج أبو داود، والحاكم عنه من وجه آخر، قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمدّ يديك جميعًا. وأخرج الطبريّ من وجه آخر عنه، قال: يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه.

وقد صحّ عن ابن عمر خلاف ما تقدّم، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق القاسم بن محمد:"رأيت ابن عمر يدعو عند القاصّ، يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، باطنهما مما يليه، وظاهرهما مما يلي وجهه". انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تَبَيَّن بما سبق من الأحاديث ثبوت رفع اليدين في الدعاء، بل بعضها يدلّ على أنه من أسباب الإجابة، كحديث سلمان المتقدم مرفوعًا: "إن ربكم حييّ كريمٌ يستحيي من عبده

" الحديث، فلا ينبغي التهاون بمثل هذا الفضل العظيم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌9 - (كَيْفَ يَرْفَعُ)

1513 -

(أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الدُّعَاءِ إِلاَّ فِي الاِسْتِسْقَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شُعيب بن يوسف) أبو عمرو النسائيّ، ثقة [10] تقدم 42/ 49.

(1)

"الفتح" ج 21 ص 428 - 430.

ص: 61

2 -

(يحيى بن سعيد القطان) البصري الإمام الحافظ الناقد الحجة [9] تقدم 4/ 4.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة البصريّ، ثقة حافظ يُدَلِّس، واختلط [6] تقدم 34/ 83.

4 -

(قتادة) بن دعامة البصريّ، ثقة ثبت مدلس [4] تقدم 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه، تقدم 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فإنه نسائيّ. (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات رضي الله عنه سنة (2) أو (93) وقد جاوز مائة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن قتادة، عَنْ أَنَسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، وفي رواية للبخاري من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، "أن أنسًا حدثهم،. فانتفت تهمة تدليس قتادة (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيءٍ مِنَ الدُّعَاءِ إِلاَّ فِي الاسْتِسْقَاءِ) ظاهره نفي الرفع في كلّ دعاء غير الاستسقاء، وهو مُعارَض بالأحاديث السابقة التي أثبتت الرفع في غير الاستسقاء، وقد تقدم أنها كثيرة.

فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحَمَلَ حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره.

وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يُحمل النفي على صفة مخصوصة، إما على الرفع البليغ، ويدلّ عليه قوله:"حتى يُرَى بياضُ إبطيه"، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مدّ اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد، فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه، وبه حينئذ يرى بياض إبطيه، وإما على صفة رفع اليدين في ذلك، كما رواه مسلم من رواية ثابت، عن أنس:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استسقى، فاْشار بظهر كفيه إلى السماء"، ولأبي داود من حديث أنس أيضا:"كان يستسقي هكذا، ومدّ يده، وجعل بطونهما مما يلي الأرض، حتى رأيت بياض إبطيه".

قال النووي: قال العلماء: السنة في كلّّ دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء، وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء انتهى.

ص: 62

وقال غيره: الحكمة في الإشارة بظهور الكفّين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرًا لبطن، كما قيل في تحويل الرداء، أو هو إشارة إلى صفة المسؤول، وهو نزول السحاب إلى الأرض، انتهى

(1)

.

(فَإِنَّه كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ) ببناء "يُرى" للمفعول، و"بياض" بالرفع نائب فاعله.

وفيه استحباب المبالغة في رفع اليدين في دعاء الاستسقاء .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 9/ 1513 - وفي "الكبرى" 7/ 1817 - بالإسناد المذكور. وفي 52/ 1748 - و"الكبرى" -61/ 1436 - عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة، عن ثابت، عنه.

وأخرجه (خ) 2/ 39 و 4/ 231 (م) 3/ 24 (د) 1170 (ق) 1180 (أحمد) 3/ 181 و 3/ 282 (الدارمي) 1543 (ابن خزيمة)1411. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1514 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ، عَنْ آبِي اللَّحْمِ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ، يَسْتَسْقِي، وَهُوَ مُقْنِعٌ بِكَفَّيْهِ يَدْعُو).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد تقدم قريبًا.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحافظ الحجة المصريّ [7] تقدم 31/ 35.

3 -

(خالد بن يزيد) الجُمحيّ، أبو عبد الرحيم المصريّ، ثقة فقيه [6] تقدم 41/ 686.

4 -

(سعيد بن أبي هلال) الليثي مولاهم المصريّ، صدوق [6] تقدم 41/ 686.

5 -

(يزيد بن عبد اللَّه) بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، ثقة مكثر [5] تقدم 73/ 90.

6 -

(عُمير مولى آبي اللحم) الغفاريّ، له صحبة، شهد خيبر مع مواليه. وروى عن

(1)

"فتح" ج3 ص 212.

ص: 63

النبي صلى الله عليه وسلم، وعن مولاه. وروى عنه محمد بن إبراهيم التيميّ، ومحمد بن زيد بن المهاجر بن قُنفُذ، ويزيد بن عبدالله بن الهاد، ويزيد بن أبي عُبيد، وغيرهم. أخرج له الجماعة إلا البخاريّ، وله عند مسلم حديث الصدقة بغير إذن المولى، وعند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث، والحديث الذي عند مسلم أيضًا، وسيأتي برقم 2537.

7 -

(آبي اللحم) الغفاريّ، له صحبة، قيل: اسمه عبد اللَّه، وقيل: خَلَف، وقيل: الحويرث، وهو بألف ممدودة، اسم فاعل من أبى، بمعنى امتنع، وإنما قيل له: ذلك لأنه كان لا يأكل ما ذُبح على الأصنام.

له عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في الاستسقاء. روى عنه عُمير مولاه، قيل: قُتل يوم حُنين، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين

(1)

إلى سعيد بن أبي هلال، وبعده بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ آبِي اللَّحْمِ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، هكذا عند المصنف، والترمذي، أنه من مسند آبي اللحم، لا من مسند عُمير، قال الترمذيّ بعد إخراجه: كذا قال قتيبة في هذا الحديث: "عن آبي اللحم"، ولا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد، وعُمير مولى آبي اللحم قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وله صحبة. انتهى.

لكن أخرجه أحمد عن قتيبة شيخ المصنف، والترمذيّ بسندهما عن عُمير مولى آبي اللحم، أنه رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعله من مسند عمير، لا مسند مولاه، وكذلك رواه الحاكم في "المستدرك" جـ1 ص 327 من طريق يحيى بن بُكير، عن الليث به.

ورواه أبو داود عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن حيوة بن شريح، وعُمر بن مالك، كلاهما عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عمير مولى بني آبي اللحم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي

الحديث، فجعله من مسند عمير.

قال العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "الترمذي" جـ2 ص 444: فلعل قتيبة لم يحفظ هذا الحديث جيّدًا، فكان يرويه مرّة هكذا، ومرة هكذا، وقد أخطأ

(1)

وقتيبة، وإن كان بغلانيا، إلا أنه دَخَلَ مصر.

ص: 64

في إسناده خطأ آخر، إذ جعل الرواية عن يزيد بن عبدالله بن الهاد، عن عمير مباشرة، والصواب أن يزيد رواه عن محمد بن إبراهيم التيميّ، عن عُمير، كما في رواية أحمد، وأبي داود من طريق حيوة، وعُمر بن مالك، عن ابن الهاد انتهى.

قال الجامع -عفا اللَّه عنه-: ورواه الحاكم ج1 ص 327 من طريق يحى بن بُكير، عن الليث، فجعله من حديث عُمير مولى آبي اللحم، ولم يذكر "عن آبي اللحم"، وقال: صحيح الإسناد، وعُمير مولى آبي اللحم له صحبة انتهى.

وهذا يؤيد أن الحديث من مسند عمير، لا من مسند مولاه آبي اللحم، ووافق الذهبي الحاكم في تصحيح الحديث، لكن زاد في السند "عن آبي اللحم".

وروى أحمد ج 4 ص 36، وأبو داود من طريق شعبة عن عبد ربه بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، أخبرني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم "يدعو عند أحجار الزيت باسطًا كفيه". اللفظ لأبي داود، قال الحافظ في مبهمات "التقريب"، و"تهذيب التهذيب": محمد بن إبراهيم: أخبرني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم عند أحجار الزيت، هو عُمير مولى آبي اللحم انتهى. وهذا أيضًا يرجّح كون الحديث من مسند عمير، لا من مسند مولاه.

والحاصل أن الراجح كونه من مسند عمير، لا من مسند مولاه آبي اللحم. واللَّه تعالى أعلم.

(أَنهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ) هو موضع بالمدينة من الحرّة، سمي بذلك لسواد أحجاره، كأنها طُليت بالزيت. ولفظ أبي داود:"عن عمير مولى بني آبي اللحم، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء، قائمًا يدعو، يستسقي، رافعًا يديه قِبَل وجهه، لا يجاوز بهما رأسه"، ونحوه لأحمد، وزاد:"مقبل بباطن كفيه إلى وجهه". والزوراء -بفتح الزاي، وسكون الواو، بعدها راء ممدودة-: موضع عند سوق المدينة (يَسْتَسْقِي) جملة في محلّ النصب على الحال من "رسول اللَّه"(وَهُوَ مُقْنِعْ بِكَفَّيهِ) اسم فاعل من أقنع: يقال: أقنع الرجل بيديه في القنوت: مَدَّهما، واسترحم ربه، مستقبلاً ببطونهما وجهه ليدعو، قاله في "اللسان"

(1)

.

فتبين بهذا أن الإقناع هو رفع اليدين جاعلاً باطنهما إلى وجهه، وهو معنى ما تقدّم في رواية أحمد، وأبي داود، وهو محلّ استدلال المصنف على الترجمة، حيث إن فيه بيانَ كفية الرفع.

ومحل الجملة نصب على الحال، وكذا قوله (يَدْعُو) فهي من الأحوال المترادفة، أو

(1)

"لسان العرب" في مادة قنع.

ص: 65

المتداخلة

(1)

والحديث يدلّ على استحباب رفع اليدين، مستقبلاً ببطونهما وجهه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

هذا الحديث صحيح، لكن من مسند عمير مولى آبي اللحم، لا من مسند مولاه. كما تقدم تحقيقه. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -9/ 1514. وفي "الكبرى" 8/ 1820 - بالسند المذكور. وأخرجه (ت)557. وأخرجه (د) من مسند عُمير مولى آبي اللحم 1168 و (أحمد) 5/ 223. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1515 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(2)

اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ- وَهُوَ الْمَقْبُرِيُّ -عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقَطَّعَتِ

(3)

السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَأَجْدَبَ الْبِلَادُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، حِذَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِنْبَرِ، حَتَّى أُوسِعْنَا مَطَرًا، وَأُمْطِرْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى

(4)

الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَقَامَ رَجُلٌ لَا أَدْرِي هُوَ الَّذِي قَالَ: لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْتَسْقِ لَنَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْقَطَعَتِ

(5)

السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ، مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَ عَنَّا الْمَاءَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، وَلَكِنْ عَلَى الْجِبَالِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» . قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، تَمَزَّقَ السَّحَابُ، حَتَّى مَا نَرَى مِنْهُ شَيْئًا

(6)

).

(1)

أي إن قدرنا أن الأحوال الثلاثة من "رسول اللَّه" فهي مترادفة، أو الأول منه، والثاني من فاعل الأول، والثالث من فاعل الثاني، فهي متداخلة.

(2)

وفي نسخة "أخبرنا".

(3)

وفي نسخة "انقطعت".

(4)

وفي نسخة "حتى الجمعة".

(5)

وفي نسخة "تقطعت".

(6)

وفي نسخة "حتى ما يُرى منه شيء".

ص: 66

قال الجامع -عفا اللَّه عنه-: هذا الحديث متفق عليه، وتقدم تمام البحث فيه في 1/ 1504 - فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادته، بل أذكر ما لم يُذكر هناك، فممن لم يتقدم هناك من رجال إسناده:

1 -

(عيسى بن حماد) بن مسلم التُّجِيبي، أبو موسى المصري، الملقّب "زُغْبة"، ثقة [10] تقدم 135/ 211.

2 -

(الليث) بن سعد تقدم في السند الماضي.

3 -

(سعيد المقبري) بن أبي سعيد، أبو سَعْد المدني، ثقة تغير قبل موته بأربع سنين [3] تقدّم 95/ 117.

قوله: "وأجدبت البلاد"، "الجَدْبُ": هو الْمَحْلُ وزنا ومعنى، وهو انقطاع المطر، ويُبسُ الأرض، يقال: جَدُبَ البلدُ -بالضمّ- جُدُوبةَ، فهو جَدْبٌ، وجَدِيب، وأرضٌ جَدْبَةٌ، وجَدُوبٌ، وأجدَبَتْ إجدابًا، وجَدِبَت تَجْدَبُ، من باب تَعِبَ مثله، فهي مُجْدبة، والجمع مَجَاديبُ، وأجدب القومُ إجدابًا: أصابهم الجَدْب. قاله في "المصباح".

وقوله: "يسقينا" بفتح الياء، وضمها، يقال: سقانا اللَّه الغيث، وأسقانا، قال اللَّه تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وقال:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجنّ: 16].

وقوله: "اسقنا" بوصل همزته، وقطعها.

وقوله: "حتى أُوسعنا مطرًا" بالبناء للمفعول، والضمير نائب فاعله، و"مطرًا" منصوب على التمييز، ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمر يعود إلى اللَّه، أو إلى "رسول اللَّه"، أي أوسعنا بسبب دعائه مطرًا، أو إلى الدعاء.

وقوله: "وأُمطرنا" بالبناء للمفعول.

وقوله: "حوالينا" منصوب على الظرفية لفعل مقدر، أي أنزل الغيث حوالينا.

قال ابن منظور رحمه الله: وهو حَوْلَهُ، وحَوْلَيْه، وحَوَالَيْهِ، وحَوَالَهُ، ولا تقُل: حَوَاليهِ -بكسر اللام-. وقال في "التهذيب": والحَوْلُ اسم يَجمع الحَوَالَيْ، يقال: حَوَالَيِ الدارِ، كأنها في الأصل حَوَالَيْنِ، كقولك: ذو مال، وأولو مال. قال الأزهريّ: يقال: رأيت الناس حوَالَهُ، وحَوَالَيْهِ، وحَوْلَهُ، وحَوْلَيْهِ، فحَوَالَه وُحْدَانُ حَوَالَيْهِ، وأما حَوْلَيْهِ فهي تثنية حَوْلَهُ، وفي حديث الاستسقاء:"اللهمّ حوالينا، ولا علينا"، يريد: اللهمّ أنزل الغيث علينا في مواضع النبات، لا في مواضع الأبنية، من قولهم: رأيت الناس حَوَالَيْهِ، أي

ص: 67

مُطيفين به من جَوَانبه انتهى كلام ابن منظور باختصار

(1)

.

وقوله: "ما هو""ما" نافية، و"هو" ضمير شأن، أي ما الأمر والشأن، "إلا أن تكلم الخ" أي بأن تكلم، والباء المقدرة بمعنى المصاحبة والمقارنة، والجارّ والمجرور متعلق بـ "تمزّق"، والمعنى: ما الشأن إلا تمزّق السحاب، وتقطّع تمزّقًا متصلاً ومقرونًا مع تكلمه صلى الله عليه وسلم بذلك الكلام. أفاده السندي -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌10 - (ذِكْرُ الدُّعَاءِ)

1516 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هِشَامٍ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اللَّهُمَّ اسْقِنَا» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن بشار) أبو بكر بُندار البصري، ثقة حافظ [10] تقدم 24/ 27.

2 -

(أبو هشام المغيرة بن سلمة) المخزومي البصريّ، ثقة، من صغار [9] تقدم 28/ 815.

3 -

(وُهيب) بن خالد البصري، ثقة ثبت [7] تقدم 21/ 427.

4 -

(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني، ثقة ثبت [5] تقدم 23/ 22.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه تقدم في الذي قبله.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم الكلام على تخريجه في الحديث رقم 1/ 1504، واستدلال المصنف به على ما ترجم له واضح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1517 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ

(2)

عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -وَهُوَ الْعُمَرِيُّ- عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ

(1)

"لسان العرب" في مادة حول.

(2)

وفي بعض النسخ "ثنا".

ص: 68

الْجُمُعَةِ، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَصَاحُوا، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ قُحِطَتِ الْمَطَرُ، وَهَلَكَتِ الْبَهَائِمُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، قَالَ:«اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا» ، قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ، قَالَ: فَأَنْشَأَتْ سَحَابَةٌ، فَانْتَشَرَتْ، ثُمَّ إِنَّهَا أُمْطِرَتْ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى، وَانْصَرَفَ النَّاسُ

(1)

فَلَمْ تَزَلْ تَمْطُرُ

(2)

إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ

(3)

صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، صَاحُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ

(4)

يَحْبِسَهَا عَنَّا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلَا عَلَيْنَا، فَتَقَشَّعَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَتْ تَمْطُرُ حَوْلَهَا، وَمَا تَمْطُرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةً، فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الإِكْلِيلِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصريّ، ثقة [10] تقدم 5/ 5.

2 -

(المعتمر) بن سليمان التيمي، أبو محمد البصري الملقب بـ "الطفيل"، ثقة، من كبار [9] تقدم 10/ 10.

3 -

(عبيد اللَّه بن عمر العمريّ) أبو عثمان المدني، ثقة ثبت [5] تقدم 15/ 15.

4 -

(ثابت) بن أسلم البناني، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] تقدّم 45/ 53.

5 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - تقدم قريبًا.

قال الجامع -عفا اللَّه عنه-: هذا الحديث متفق عليه، وتقدم تمام البحث فيه في 1/ 1504 - فلا حاجة إلى إعادته.

قوله: "اسقنا" بوصل الهمزة، وقطعها.

وقوله: "وايم اللَّه" مختصر من "أيمن اللَّه"، بحذف الهمزة، والنون، ويختصر أيضًا ثانيًا، فيقال:"مُ اللَّه"، بضم الميم، وكسرها. "وإضافته إلى لفظ الجلالة واجبة، وهو مبتدأ محذوف الخبر وجوبًا، أي أيم اللَّه قسمي، أو خبر لمحذوف كذلك، أي قسمي أَيْمُ اللَّه

(5)

.

وقال الفيوميّ: "أَيْمُن" اسم مستعمل في القسم، والتُزم رفعه، كما التُزم رفع "لَعَمْرُ اللَّه"، وهمزته عند البصريين وصلٌ، واشتقاقه عندهم من اليُمْنِ، وهو البركة، وعند

(1)

وفي بعض النسخ أن لفظة "الناس" ساقطة، وعليه فالفاعل ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم.

(2)

وفي بعض النسخ "فلم يزل يمطر".

(3)

وفي نسخة "النبي".

(4)

وفي نسخة بإسقاط "أن".

(5)

انظر "حاشية الخضري على الخلاصة" ج 2 ص 295.

ص: 69

الكوفيين قطعٌ، لأنه جمع يمين عندهم. انتهى

(1)

.

وقوله: "قَزَعَة من سحاب" بفتحتين: أي قطعة من غيم، قال أبو عبيد: وأكثر ما يكون ذلك في الخريف. وقال الفيّوميّ: القَزَعُ: القِطَعُ من السحاب المتفرّقة، الواحدة قَزَعَة، مثلُ قَصبٍ وقَصَبَة، قال الأزهريّ: وكل شيىء يكون قِطَعًا متفرقة فهو قَزَعٌ. انتهى.

وقوله: "أنشأت سحابة" أي خرجت سحابة. وقوله: "أمطرت" بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير السحابة. وقوله:"تمطر" بالبناء للفاعل، وهو من أمطرت رباعيّا، ويحتمل أن يكون مطرف ثلاثيّا، كما تقدم. وقوله:"فتقشعت": أي أقلعت، وتصدّعت السحابة التي كانت تمطر.

وقوله: "وإنها لفي مثل الإكليل" الضمير للمدينة، والإكليل، وهو بكسر الهمزة، وسكون الكاف كل شيء دار بين جوانب الشيء، أي صارت حول المدينة كالدائرة حول الشيء، فصار كان المدينة في مثل الدائرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1518 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ: قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُغِيثَنَا،

فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا»

(2)

قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابَةٍ، وَلَا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ، وَلَا دَارٍ فَطَلَعَتْ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، وَأَمْطَرَتْ، قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللَّهِ

(3)

مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا

(4)

، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْكَ - هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا

(5)

وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ، وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» ، قَالَ: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي

(1)

"المصباح المنير" جـ2 ص 682.

(2)

وفي نسخة بدون تكرار "اللَّهم أغثنا".

(3)

وفي نسخة "فلا واللَّه".

(4)

وفي نسخة "ستًا"، وفي أخرى "سبعًا".

(5)

وفي نسخة "حولنا".

ص: 70

فِي الشَّمْسِ، قَالَ: شَرِيكٌ سَأَلْتُ أَنَسًا، أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في 1/ 1504، فممن لم يتقدم هناك من رجال إسناده:

1 -

(علي بن حُجْر) السعديّ المروزي نزيل بغداد، ثقة حافظ، من صغار [9] تقدم 13/ 13.

2 -

(إسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير الأنصاري، أبو إسحاق المدني، ثقة ثبت [8] تقدم 16/ 17.

قوله: "أن يغيثنا" قيل: فتح أوله أشهر من ضمه، من غاث اللَّهُ البلادَ يَغِيثُها: إذا أرسل إليها المطر.

وقوله: "اللَّهم أغثنا" قال القاضي عياض، والقرطبي: كذا الرواية بالهمزة، رباعيّا، أي هب لنا غَيْثًا، والهمزة فيه للتعدية. وقيل: صوابه غِثْنا، لأنه من غاث، قال: وأما أغثنا، فإنه من الإغاثة، بمعثى المعونة، وليس من طلب الغيث. قال القرطبي: والأول أصوب انتهى

(1)

.

وقال السندي بعد ما ذكر نحو ما تقدّم: والإعانة أيضًا مناسبة للمقام في الجملة، كأن المراد أعنّا على طاعتك برزقك انتهى"

(2)

.

وقوله: "ما نرى من سحابة"، أي مجتمعة، "ولا قزعة" أي سحاب متفرّق، قال ابن سيده: القَزَع قِطَعٌ من السحاب رِقَاقٌ، قاله في "الفتح".

وقوله: "سلع" بفتح المهملة، وسكون اللام: جبل معروف بالمدينة، وقد حكي أنه بفتح اللام.

وقوله: "من بيت، ولا دار"، أي يحجبنا عن رؤيته، وأشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودًا، لا مستترًا ببيت، ولا غيره، ووقع في رواية للبخاري في "علامات النبوّة":"قال أنس: "وإن السماء لفي مثل الزجاجة"، أي لشدّة صفائها، وهذا مشعر بعدم السحاب أيضًا.

وقوله: "فطلعت" أي ظهرت. وقوله: "مثل الترس" أي مستديرة، ولم يُرد أنها مثله في القدر لأن في رواية حفص بن عبيد اللَّه عند أبي عوانة:"فنشأت سحابة مثل رجل الطائر، وأنا انظر إليها"، فهذا يُشعر بأنها كانت صغيرة، وفي رواية ثابت عند البخاريّ:"فهاجت ريح أنشأت سحابًا، ثم اجتمع"، وفي رواية قتادة "فنشأ السحاب بعضه إلى

(1)

راجع "المفهم" ج2 ص 543.

(2)

"شرح السندي" ج3 ص 161.

ص: 71

بعض"، وفي رواية إسحاق "حتى ثار السحاب أمثال الجبال"، أي لكثرته، وفيه: "ثم لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته"، وهذا يدلّ على أن السقف وكَفَ لكونه كان من جريد النخل.

وقوله: "فلما توسطت السماء انتشرت" هذا يشعر بأنها استمرّت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق، فانبسطت حينئذ، وكأن فائدته تعميم الأرض بالمطر.

وقوله: "ما رأينا الشمس سبتًا" كناية عن استمرار الغيم الماطر، وهذا في الغالب، وإلا فقد يستمرّ المطر، والشمس بادية، وقد تحُجب الشمس بغير مطر.

وأصرح من ذلك رواية إسحاق بلفظ: "فمُطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى".

وأما قوله: "سبتا" فوقع للأكثر بلفظ "السبت" -يعني أحد الأيام- والمراد به الأسبوع، وهو من تسمية الشيء باسم بعضه، كما يقال:"جمعة"، قاله صاحب "النهاية"، قال: ويقال: أراد قطعة من الزمان. وقال الزين ابن المنيّر: قوله: "سبتًا" أي من السبت إلى السبت، أي جمعةً.

وقال المحبّ الطبريّ مثله، وزاد أن فيه تجوّزًا، لأن السبت لم يكن مبدأ، ولا الثاني منتهى، وإنما عبّر أنس بذلك لأنه كان من الأنصار، وكانوا قد جاوروا اليهود، فأخذوا بكثير من اصطلاحهم، وإنما سمّوا الأسبوع سبتًا لأنه أعظم الأيام عند اليهود، كما أن الجمعة عند المسلمين كذلك.

وحكى النوويّ تبعًا لغيره كثابت في "الدلائل" أن المراد بقوله: "سبتا" قطعة من الزمان، ولفظ ثابت: الناس يقولون: معناه من سبت إلى سبت، وإنما السبت قطعة من الزمان، وأن الداوديّ رواه بلفظ:"ستّا" وهو تصحيف.

قال الحافظ: وتعُقّب بأن الداوديّ لم ينفرد بذلك، فقد وقع في رواية الحمويّ، والمستملي هنا "ستًا"- وكذا رواه سعيد بن منصور، عن الدراورديّ، عن شريك، ووافقه أحمد من رواية ثابت، عن أنس، وكأن من ادعى أنه تصحيف استبعد اجتماع قوله:"سبتا"، مع قوله في رواية إسماعيل بن جعفر:"سبعًا"، وليس بمستبعد، لأن من قال:"ستّا" أراد ستة أيام تامة، ومن قال:"سبعًا" أضاف أيضًا يوما ملفّقًا من الجمعتين.

وقد وقع في رواية مالك، عن شريك:"فمطرنا من جمعة إلى جمعة"، وفي رواية للنسفي "فدامت جمعة"، وفي رواية عبدوس والقابسيّ فيما حكاه عياض "سبتنا"، كما يقال:"جمعتنا". وفي رواية قتادة "فمطرنا، فما كدنا نصل إلى منازلنا"، أي من كثرة

ص: 72

المطر. وفي رواية ثابت عند البخاري "فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا"، ولمسلم من رواية ثابت "فأمطرنا حتى رأيت الرجل تهمه نفسه أن يأتي أهله". ولابن خزيمة من رواية حميد "حتى أهمّ الشابّ القريب الدار الرجوع إلى أهله". وللبخاريّ من طريق قتادة "حتى سألت مَثَاعب المدينة"، ومثاعب جمع مَثْعَب بالمثلثة وآخره موحدة: مسيل الماء. أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقوله: "حوالينا" بفتح اللام، أي أنزل المطر حوالينا، وتقدم الكلام في لفظ "حوالينا".

وقوله: "ولا علينا" فيه بيان للمراد بقوله: "حوالينا" لأنها تشمل الطرق التي حولهم، فأراد إخراجها بقوله:"ولا علينا".

قال الطيبيّ: في إدخال الواو هنا معنى لطيف، وذلك أنه لو أسقطها لكان مستسقيًا للآكام، وما معها فقط، ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودًا لعينه، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليست الواو مخلصَةً للعطف، ولكنها للتعليل، وهو كقولهم: تجُوع الحرّة، ولا تأكل بثدييها، فإن الجوع ليس مقصودًا لعينه، ولكنه لكونه مانعًا عن الرضاع بأجرة، إذ كانوا يكرهون ذلك أَنَفًا انتهى

(2)

.

وقوله: "اللَّهم على الآكام" فيه بيان المراد بقوله: "حَوَالينا"، وتقدم الكلام على لفظ "الآكام".

وقوله: "والظراب" بكسر المعجمة، وآخره موحدة، جمع ظَرِب بكسر الراء، وقد تسكن، وقال القزاز: هو الجبل المنبسط ليس بالعالي. وقال الجوهريّ: الرابية الصغيرة.

وقوله: "فأقلعت" أي انقطعت السماء، أي السحاب الماطرة، والمعنى أنها أمسكت عن المطر على المدينة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" ج 3 ص 194 - 195.

(2)

راجع "الفتح" ج3 ص 196.

ص: 73

‌11 - (بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الدُّعَاءِ)

1519 -

(قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَيُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّهُ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا يَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ يَدْعُو اللَّهَ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: فِي الْحَدِيثِ: "وَقَرَأَ فِيهِمَا").

قال الجامع -عفا اللَّه عنه-: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه في 2/ 1505 و 5/ 1509 - وممن لم يتقدم هناك من رجاله:

1 -

(الحارث بن مسكين) المصريّ، ثقة فقيه [10] تقدم 9/ 9.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصري الحافظ المثبت [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيليّ، ثقة ثبت [7] تقدم 9/ 9.

واستدلال المصنف على ما ترجم له واضح، فإنه يدل على أن الصلاة بعد الدعاء، حيث أتى بـ "ثمّ" الدالّة على الترتيب والمهلة، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك في 5/ 1509 - وأن الراجح جواز التقديم والتأخير.

[واعلم]: أن حديث الباب يدلّ على مشروعية الصلاة للاستسقاء، وهو مذهب جمهور العلماء، وخالف فيه طائفة من علماء الكوفة، منهم النخعيّ، وهو قول أبي حنيفة، قالوا: إنما يستحبّ في الاستسقاء الدعاء، والاستغفار خاصّة.

وهؤلاء يعتذر لهم -كما قال الحافظ ابن رجب- بأنه لم تبلغهم سنة الصلاة كما بلغ الجمهور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 74

‌12 - (كَمْ صَلَاةُ الاسْتِسْتِقَاءِ)

1520 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ).

قال الجامع -عفا اللَّه عنه-: هذا الحديث متفق عليه، كما سبق بيانه في 2/ 1505، فممن لم يتقدم من رجاله هناك:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي البصري الحافظ الثقة [10] تقدم 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان البصري الإمام الحافظ الحجة [9] تقدم 4/ 4.

3 -

(يحيى) بن سعيد الأنصاري المدني، ثقة ثبت [5] تقدم قبل باب.

وأبو بكر بن محمد هو ابن عمرو بن حزم.

والحديث متفق عليه، وهو يدل على ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو بيان عدد صلاة الاستسقاء، وهو ركعتان، وهذا لا خلاف فيه بين من يقول بمشروعيتها، وهم الجمهور، وقد نقل الإجماع على ذلك النووي في "شرح مسلم"، والحافظ في "الفتح"؛ للتصريح بذلك في حديث الباب وغيره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌13 - (كَيْفَ صَلَاةُ الاسْتِسْقَاءِ)

1521 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَرْسَلَنِي أَمِيرٌ مِنَ الأُمَرَاءِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَسْأَلُهُ عَنْ الاِسْتِسْقَاءِ، فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ مَا مَنَعَهُ أَنْ يَسْأَلَنِي؟ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُتَوَاضِعًا مُتَبَذِّلاً

(1)

مُتَخَشِّعًا مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ،

(1)

وفي نسخة "مبتذلاً".

ص: 75

وَلَمْ

(1)

يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ

(2)

هَذِهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث حسنٌ، وقد تقدم الكلام عليه مستوفًى في 3/ 1506 - فلاحاجة إلى الإعادة، بل أذكر ما لم يذكر هناك.

فممن لم يتقدم هناك من رجاله:

1 -

(محمود بن غيلان) المروزي، نزيل بغداد، ثقة حافظ [10] تقدم 33/ 37.

2 -

(وكيع) بن الجراح الكوفي، ثقة حافظ حجة [9] تقدم 23/ 25.

قوله: "متواضعًا" أي في الظاهر. وقوله: "متخشعًا" أي في الباطن، وقال الشوكاني: قوله: "متخشعًا" أي مظهرًا للخشوع ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند اللَّه عز وجل. وقوله: "متضرّعا" أي مظهرًا للضراعة، وهي التذلل عند طلب الحاجة، والمبالغة في السؤال، والرغبة.

واستدلال "المصنف رحمه الله على ما ترجم له واضح، فإنه يدل على كيفية صلاة الاستسقاء، وهي أنها كصلاة العيد، وقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:

(أحدهما): أنها تصلى كما تصلى صلاة العيد بتكبيرات قبل القراءة. وقد روي هذا عن ابن عباس، وابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وأبي بكر بن عمرو بن حزم، وهو قول الشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وهو ظاهر مذهب المصنف.

(الثاني): تصلى بغير تكبير زائد، وهو قول مالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأحمد في رواية، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي خيثمة، وسليمان بن داود الهاشميّ.

واستدلّ الأولون بحديث الباب، وتأوله الآخرون على أن المراد كصلاة العيد في العدد والجهر بالقراءة، وكونها قبل الخطبة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي مذهب الأولين لظاهر حديث الباب، وتأويل الآخرين له بما ذكر بعيد.

والحاصل أن المستحب أن تُصَلَّى صلاةُ الاستسقاء عدى صفة صلاة العيد من التكبيرات الزوائد وغيرها. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: أخرج الدارقطنيّ من حديث ابن عباس أنه يكبّر فيها سبعًا، وخمسًا كالعيد، وأنه يقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وفي إسناده محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهريّ، وهو متروك. وروى يزيد بن عياض، عن أبي بكر بن عمرو

(1)

وفي نسخة "فلم".

(2)

وفي نسخة "كخطبتكم".

ص: 76

ابن حزم، وابنيه عبد اللَّه، ومحمد، ويزيد بن عبد اللَّه بن أسامة، وابن شهاب عندهم يحدّثه، عن عبد اللَّه بن يزيد، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استسقى، فذكر الحديث، قال: ثم صلى ركعتين، يجهر فيهما بالقراءة، فكبر في الركعة الأولى سبعا، وفي الآخرة خمسًا، يبدأ بالتكبير قبل القراءة في الركعتين كليهما. ويزيد بن عياض بن جُعدُبة المدني متروك، لا يحتجّ به.

وروي خلاف هذا من رواية حسين بن عبد اللَّه بن عطاء، عن شريك بن أبي نمر، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء في كل ركعة تكبيرةٌ، وخَطَبَ قبل الصلاة، وقَلَبَ رِدَاءَهُ لمّا دعا. أخرجه أبو القاسم البغوي، والترمذي في "كتاب العلل" مختصرا، وقال: سألت البخاري عنه؟ فقال: هذا خطأ، وعبد اللَّه بن حسين منكر الحديث، روى مالك وغيره، عن شريك، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى، ليس فيه هذا.

قال الحافظ ابن رجب -رحمه اللَّه تعالى-: يشير البخاريّ إلى حديث الاستسقاء في الجمعة، وهذا المتن غير ذلك المتن، فإن هذا فيه ذكر صلاة الاستسقاء، والخطبة لها، وقلب الرداء في الدعاء، لكنه غير محفوظ عن شريك، عن أنس انتهى.

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌14 - (بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ)

1522 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ، فَاسْتَسْقَى، فَصَلَّى

(2)

رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: هذا الحديث أخرجه البخاريّ، وقد تقدم البحث فيه مُسْتَوْفًى برقم 2/ 1505، وممن لم يتقدّم من رجاله هناك:

(1)

انظر "شرح ابن رجب لصحيح البخاري" ج 9 ص 205 - 207.

(2)

وفي نسخة "واستسقى، وصلى".

ص: 77

1 -

(محمد بن رافع) النيسابوريّ، ثقة عابد [11] تقدم 92/ 114.

2 -

(يحيى بن آدم) بن سليمان الأموي مولاهم، أبو زكريا الكوفي، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] تقدم 1/ 451.

وسفيان المذكور هنا هو الثوريّ الإمام الحجة الثبت الكوفي [7] 33/ 37، والمذكور هناك هو ابن عيينة.

واستدلال المصنف بالحديث فيما ترجم له واضح، حيث إنه يدل على استحباب الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء. قال النووي في شرح مسلم: أجمعوا على استحباب الجهر، وكذا نقل الإجماع على استحبابه ابن بطال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌15 - (الْقَوْلُ عِنْدَ الْمَطَرِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "القول" بمعنى المقول، أي الذكر الذي يقال عند نزول المطر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1523 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أُمْطِرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ صَيِّبًا نَافِعًا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] تقدم 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجّة المثبت [8] تقدّم 1/ 1.

3 -

(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهَير، أبو سَلَمَة الكوفي، ثقة ثبت فاضل [7] 8/ 8.

4 -

(المِقْدِام بن شُرَيح) بن هانئ بن يزيد الحارثيّ الكوفي، ثقة [6] تقدم 8/ 8.

5 -

(شُريح بن هانئ) بن يزيد الحارثيّ، أبو المقدام الكوفيّ، مخضرم ثقة [2] تقدم 8/ 8.

6 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها -، تقدمت 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 78

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه ما بين مكيين، وهما شيخه، وسفيان، وكوفيين، وهم الباقون، سوى عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرحِ الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أُمْطِرَ) بالبناء للمفعول، وفي نسخة:"إذا مُطِرْنا"، وقد تقدّم أنه يقال: مَطَرَت السماءُ، وأمطرت، ثلاثيّا، ورباعيّا، في الرحمة، وأما في العذاب، فيقال: أمطرت بالألف لا غير، كما في قوله تعالى:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [النمل: 58]، وقوله:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74] الآية (قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ صَيِّبًا) أي مطرًا مُنهمِرًا متدفْقًا، قاله في "اللسان"، وذكر البخاري في "صحيحه" أن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"الصيّب": المطر، قال في "الفتح": وإليه ذهب الجمهور، وقال بعضهم: الصيّب السحاب، ولعله أطلق ذلك مجازًا

(1)

.

ولفظ "الكبرى": "سَيْبًا" بالسين بدل الصاد، قال في "اللسان" السَّيْبُ: العطاء، قال: وفي حديث الاستسقاء: "واجعله سَيْبًا نافعًا"، أي عطاءً، ويجوز أن يريد مطرًا سائبًا، أي جاريًا انتهى.

(نَافِعًا) صفة لـ"صيّبًا"، احترز به عن الصيّب الضارّ.

وهذا الحديث من هذا الوجه مختصر، وقد ساقه المصنّف في "الكبرى" من طريق

الثوريّ، عن المقدام بن شُريح، عن عائشة رضي الله عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا رأى ناشئًا في أفق من آفاق السماء ترك عمده، وإن كان في صلاة، فإن كشفه اللَّه حَمَد اللَّه، وإن أَمطَرَت قال:"اللَّهم سيبا نافعًا".

ومن طريق يزيد بن المقدام، عن أبيه،: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى سحابا مقبلاً من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه، وإن كان في الصلاة حتى يستقبله، فيقول:"اللَّهم إنا نعوذ بك من شرّ ما أرسل له"، فإن أمطر قال:"اللَّهم سيبا نافعًا، اللَّهمّ سيبا نافعًا"، وإن كشفه اللَّه، ولم يمطر حمد اللَّه على ذلك.

(1)

"فتح" ج3 ص 212 - 213.

ص: 79

ومن طريق عطاء، عن عائشة، قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا رأى مَخِيلَة -تعني الغيم- تلوّن وجهه، وتغيّر، ودخل وخرج، وأقبل وأدبر، فإذا أمطر سُرّي عنه، قالت عائشة: فذكرت له بعض ما رأيت منه، قال: "وما يدريك لعله كما قال قوم هود: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24].

ولمسلم من رواية عطاء، عن عائشة رضي الله عنه:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم، عُرِف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مَطَرت سُرَّ به، وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته؟ فقال: "إني خشيت أن يكون عذابا سُلّط على أمتي"، ويقول: إذا رأى المطر: "رحمة".

ودلالة حديث الباب على ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى- واضحة، حيث يدلّ على استحباب الدعاء بما ذُكر عند نزول المطر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه البخاري.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-15/ 1523 - وفي الكبرى- 13/ 1828 - بالسند المذكور. وفي "الكبرى" أيضا 13/ 1829 و"عمل اليوم والليلة" 915 - عن إبراهيم بن محمد التيمي، عن يحيى القطان، عن سفيان، عن المقدام به مطوّلا. و"الكبرى"-1830 - و"عمل اليوم" 914 - عن قتيبة، عن يزيد بن المقدام، عن أبيه. و"الكبرى" 1831 - عن عبد الوهّاب بن الحكم، عن معاذ بن معاذ، عن ابن جُريج، عن عطاء، عنها. و 1832 - عن نوح بن حبيب، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عنها.

وأخرجه (خ) رقم 1032 (د) 5099 (ت) 3257 (ق)3889. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو بيان ما يُقال عند نزول المطر. (ومنها): بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من شدة الخوف من اللَّه تعالى، مع أنه تعالى وعده أن لا يُعذّب أمته، وهو فيهم.

(ومنها): أن من صفات المؤمن عدمُ الأمن من مكر اللَّه، واستدراجِهِ من حيث لا يعلم، كما قال تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44]. واللَّه تعالى أعلم

ص: 80

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌16 - (كَرَاهِيَةُ الاسْتِمْطَارِ بِالْكَوْكَبِ

(1)

)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بالكراهية التحريم، وقد تقدم في أوائل هذا الشرح بيان المراد بالكراهة عند السلف، وهو أنهم يريدون به التحريم، قال اللَّه تعالى بعد أن ذكر عدة محرمات، من الشرك، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وغيرها:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38].

وأما إطلاقه على معنى التنزيه، وخلافِ الأولى فإنه عرف طارئ للمتأخرين من الأصوليين، والفقهاء، فينبغي التنبّه لذلك، فإنه من مزالّ الأقدام، فإن كثيرًا من المتأخرين لا يعرفون إلا المعنى الثاني، فإذا سمعوا إطلاق السلف للكراهة حملوه على معنى التنزيه، وخلاف الأولى، وهذا خطأ فاحش. واللَّه تعالى أعلم.

ومعنى الاستمطار بالكوكب: الاستسقاء بها. أفاده في "اللسان".

1535 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ: اللَّهُ عز وجل: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ، إِلاَّ أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ، يَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ، وَبِالْكَوْكَبِ

(2)

).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن سوّاد بن الأسود بن عمرو) العامري، أبو محمد المصريّ، ثقة [11] تقدم 45/ 594.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصري الحافظ المثبت [9] تقدم 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيليّ، تقدم قبل أربعة أبواب.

(1)

وفي نسخة "بالكواكب".

(2)

وفي نسخة "الكوكب، والكوكب" بحذف الجارّ.

ص: 81

4 -

(ابن شهاب) الزهريّ تقدم قبل أربعة أبواب أيضًا.

5 -

(عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة) المدني الفقيه المثبت [3] تقدم 45/ 56.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات المصريين، ونصفه الثاني مسلسل بثقات المدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها) أن فيه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدموا غير مرّة. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ: اللَّهُ عز وجل) قال في "الفتح": وهذا من الأحاديث الإلهية، وهي تحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخذها عن اللَّه بلا واسطة، أو بواسطة. انتهى (مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي) هذه الإضافة للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر، بخلاف قوله: تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الحجر: 42]، فإنها إضافة تشريف (من نِعْمَةِ) "من" زائدة للتقوية، أي ما أنزلتُ عليهم من مطر (إِلاَّ أَصْبَحَ فَرِيقٌ) "أصبح" من الأفعال التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، و"فريق" اسمها، و"كافرين" خبرها، وقوله (مِنْهُمْ) متعلق بمحذوف صفة لـ"فريق" وقوله (بَها) متعلق بـ (كَافِرِينَ) أي جاحدين كونها من اللَّه تعالى، ومن فضله، أو بسببها كافرين بالمعبود، وبالمنعم الذي أنعم عليهم، لأنها تصير سببا للنسبة إلى غيره تعالى (يَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ) مبتدأ حذف خبره، أي آتٍ بها، أو فاعل لفعل محذوف، أي أتى بها الكوكب (وَبِالْكَوْكَبِ) متعلق بمحذوف، أي مُطرنا، أو سُقينا بالكوكب.

وقال في "الفتح" عند قوله: "مؤمن بي، وكافر": يحتمل أن يكون المراد بالكفر هنا كفر الشرك بقرينة مقابلته بالإيمان، ولأحمد من رواية نصر بن عاصم الليثيّ، عن معاوية الليثي، مرفوعًا:"يكون الناس مُجدبين، فَيُنزل اللَّه عليهم رزقًا من السماء، من رزقه، فيصبحون مشركين، يقولون: مُطرنا بنوء كذا".

ويحتمل أن يكون المراد به كفر النعمة، ويرشد إليه قوله في رواية معمر، عن صالح:"فأما من حمدني على سُقْيايَ، وأثنى عليّ، فذاك آمن بي"، وفي رواية سفيان

ص: 82

عند النسائي، والإسماعيليّ نحوه، وقال في آخره:"وكفر بي"، أو قال:"كفر نعمتي"، وفي رواية أبي هريرة عند مسلم:"قال اللَّه: ما أنعمت عدى عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم كافرين بها"، وله في حديث ابن عباس:"أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر".

وعلى الأول حمله كثير من أهل العلم، قال: وأعلى ما وقفت عليه من ذلك كلام الشافعي رحمه الله، قال في "الأمّ": من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يَعْنُون من إضافة المطر إلى أنه مَطَرُ نوءِ كذا، فذلك كفر، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لأن النوء وقت، والوقت مخلوق، لا يملك لنفسه، ولا لغيره شيئًا، ومن قال: مُطرنا بنوء كذا على معنى مُطرنا في وقت كذا، فلا يكون كفرًا، وغيرُهُ من الكلام أحبّ إليّ منه، يعني حسمًا للمادّة، وعلى ذلك يحمل إطلاق الحديث.

وحكى ابن قُتيبة في "كتاب الأنواء" أن العرب كانت في ذلك على مذهبين على نحو ما ذكره الشافعي، قال: ومعنى النَّوْء سقوط نجم في المغرب من النجوم الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر، قال: وهو مأخوذ من ناء: إذا سقط.

وقال آخرون: بل النوء طلوع نجم منها، وهو مأخوذ من ناء: إذا نهض، ولا تخالف بين القولين في الوقت، لأن كلّ نجم منها إذا طلع في المشرق وقع حال طلوعه آخر في المغرب، لا يزال ذلك مستمرّا إلى أن تنتهي الثمانية والعشرون بانتهاء السنة، فإن لكلّ واحد منها ثلاثة عشر يومًا تقريبًا.

قال: وكانوا في الجاهلية يظنّون أن نزول الغيث بواسطة النَّوْء، إما بصنعه على زعمهم، وإما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم، وجعله كفرًا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعًا في ذلك، فكفره كفر تشريك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة، فليس بشرك، لكن يجوز إطلاق الكفر عليه، وإرادة كفر النعمة، لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين، لتناول الأمرين. واللَّه تعالى أعلم.

ولا يَرِدُ الساكت، لأن المعتقد قد يشكر بقلبه، أو يكفر، وعلى هذا فالقول في قوله:"فأما من قال" لما هو أعمّ من النطق والاعتقاد، كما أن الكفر فيه لما هو أعمّ من كفر الشرك، وكفر النعمة، واللَّه أعلم بالصواب. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"فتح" ج 3 ص 219 - 220.

ص: 83

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -16/ 1524 - وفي "الكبرى"-14/ 1835 - وفي "عمل اليوم والليلة" رقم 923 - بالسند المذكور.

"المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 1/ 59 (أحمد) 2/ 362 و 2/ 368 و 2/ 421 و 2/ 525 (الحميديّ)979. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1525 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَلَمْ تَسْمَعُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ، إِلاَّ أَصْبَحَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ، يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَأَمَّا مَنْ آمَنَ بِي وَحَمِدَنِي عَلَى سُقْيَايَ، فَذَلِكَ الَّذِي آمَنَ بِي، وَكَفَرَ بِالْكَوْكَبِ، وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ الَّذِي كَفَرَ بِي، وَآمَنَ بِالْكَوْكَبِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد، ثقة ثبت [10] تقدم 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة المثبت [8] تقدم 1/ 1.

3 -

(صالح بن كيسان) أبو محمد المدني، ثقة ثبت فقيه [4] تقدم 196/ 314.

4 -

(عبيد اللَّه بن عبد اللَّه) بن عتبة المذكور في السند الماضي.

5 -

(زيد بن خالد الجُهَنيّ) المدني الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم 8/

756.

[تنبيه]: وقع في النسختين المطبوعتين من "المجتبى""يزيد بن خالد" بزيادة الياء، وهو غلط. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه ما بين بغلاني، وهو شيخه، ومكي، وهو سفيان، ومدنيين، وهم الباقون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 84

شرح الحديث

(عَنْ زَيدِ بْنِ خَالِدِ الْجُهَنِيّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا يقول صالح بن كيسان، لم يُختلف عليه في ذلك، وخالفه الزهريّ، فرواه عن شيخهما عبيد اللَّه، عن أبي هريرة، كما تقدم في الرواية التي قبل هذا، وقد صحح الحديث مسلم بالطريقين، فأخرجهما في "صحيحه" بهما، لأن عبيد اللَّه سمع من زيد بن خالد، وأبي هريرة رضي الله عنه جميعًا عدّة أحاديث، منها حديث العَسِيف، وحديث الأمة إذا زنت، فلعله سمع هذا منهما، فحدّث به تارة عن هذا، وتارة عن هذا، وإنما لم يجمعهما لاختلاف لفظهما، كما سنشير إليه.

وقد صرّح صالح بسماعه له من عُبيد اللَّه عند أبي عوانة، وروى صالح، عن عبيد اللَّه بواسطة الزهريّ عدة أحاديث، منها حديث ابن عباس في شاة ميمونة، وحديثه عنه في قصة هرقل انتهى

(1)

(قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "صلى لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء، كانت من الليل، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس

" (فَقَالَ: "أَلَمْ تَسْمَعُوا مَاذَا قَالَ: رَبُّكُمُ اللَّيلَةَ؟) وفي رواية البخاريّ: "هل تدرون، ماذا قال ربكم؟، قالوا: اللَّه ورسوله أعلم "(قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي من نِعْمَةٍ، إِلاَّ أَصْبَحَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَهِا كَافِرِينَ) قال القرطبي في "المفهم": ظاهره أنه الكفر الحقيقيّ، لأنه قابل به المؤمن الحقيقيّ، فيُحمل على من اعتقد أن المطر من فعل الكواكب وخدقها، لا من فعل اللَّه تعالى، كما يعتقده بعض جهال المنجّمين، والطبائعيين، والعرب.

فأما من اعتقد أن اللَّه تعالى هو الذي خلق المطر، واخترعه، ثم تكلم بذلك القول، فليس بكافر، ولكنه مخطئ من وجهين:

(أحدهما): أنه خالف الشرع، فإنه حذّر من ذلك الإطلاق.

(وثانيهما): أنه قد تشبّه بأهل الكفر في قولهم، وذلك لا يجوز، لأنا أمرنا

بمخالفتهم، فقال:"خالفوا المشركين"

(2)

، و"خالفوا اليهود"

(3)

، ونهينا عن التشبّه

بهم، وذلك يقتضي الأمر بمخالفتهم في الأفعال والأقوال، ولأن اللَّه تعالى قد منعنا من التشبه بهم في النطق بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} لآية [البقرة: 104] لَمّا كان اليهود يقولون تلك الكلمة للنبي صلى الله عليه وسلم يقصدون ترعينه، منعنا اللَّه

(1)

"فتح" ج 3 ص 218.

(2)

متفق عليه.

(3)

أخرجه أبو داود.

ص: 85

من إطلاقها، وقولها للنبي ص، وإن قصدنا بها الخير، سدّا للذريعة، ومنعنا من التشبّه بهم.

فلو قال غيرَ هذا اللفظ الممنوع يريد به الإخبار عما أجرى اللَّه تعالى به سنته جاز، كما قال ص: "إذا أنشات بحرية، ثم تشاءمت فتلك عين غُدَيقة

(1)

" انتهى كلام القرطبي

(2)

.

(يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوء كَذَا وَكَذَا) أي مُطرنا بطلوع نجم، وسقوط آخر، قال الزجّاج: والنوء على الحقيقةَ سقوط نجم في المغرب، وطلوع آخر في المشرق، فالساقطة في المغرب هي الأنواء، والطالعة في المشرق هي البَوَارحُ، قال: وقال بعضهم: النوء ارتفاع نجم من المشرق، وسقوط نظيره في المغرب، وهو نظير القول الأول، فإذا قال القائل: مُطرنا بنَوء الثريّا، فإنما تأويله أنه ارتفع النجم من المشرق، وسقط نظيره في المغرب، أي مطرنا بما ناء به هذا النجم، قال: وإنما غَلَّظ النبي صلى الله عليه وسلم فيها لأن العرب كانت تزعُمُ أن ذلك المطر الذي جاء بسقوط نجم، هو فعل النجم، وكانت تنسب المطر إليه، ولا يجعلونه سُقيا من اللَّه، وإن وافق سقوطَ ذلك النجم المطرُ يجعلون النجم هو الفاعل. ذكره في "اللسان".

وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: والنّوء في كلام العرب واحد أنواء النجوم، يقال: ناء النجم يَنُوءُ: أي نَهَضَ ينهَضُ للطلوع، وقد يكون أن يميل للمغيب، ومما قيل: ناوأت فلانا بالعداوة: أي ناهضته، ومنه قولهم: الحَمْلُ ينوءُ بالدّابّة، أي يميل بها، وكلّ ناهض بثقل وإبطاء فقد ناء. والأنواء على الحقيقة النجوم التي هي منازل القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، فكلما غاب منها منزل بالمغرب طلع رقيبه من المشرق، فليس يعدم منها أبدًا أربعة عشر للناظرين في السماء، وإذا لم ينزل مع النوء ماء، قيل: خَوَى النجمُ، وأخوى، وخوّى النوء، وأخلف، وأما العرب فكانت تضيف المطر إلى النوء، وهذا عندهم معروف مشهور في أخبارهم، وأشعارهم، فلما جاء الإسلام نهاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأدّبهم، وعرّفهم ما يقولون عند نزول الماء، وذلك أن يقولوا:"مُطرنا بفضل اللَّه، ورحمته"، ونحو هذا من الإيمان والتسليم، لما نطق به القرآن انتهى

(3)

.

(1)

أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وقال: تفرّد به الواقديّ اهـ والكلام في الواقديّ مشهور. و"غُديقة" تصغير غَدَقَة: كثيرة الماء.

(2)

انظر "المفهم" ج1 ص 259 - 261.

(3)

"التمهيد" ج 16 ص 287 - 288.

ص: 86

(فأَمَّا مَنْ آمَنَ بِي، وَحَمِدَنِي عَلَى سُقْيَايَ) بضم السين اسم من سقاه اللَّه (فَذَاكَ الَّذِي آمَنَ بِي، وَكَفَرَ بِالْكَوْكَبِ) أي صدّق بأن المطر خلقي، لا خلق الكوكب، أرحم به عبادي، وأتفضّل به عليهَم، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28](وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ الَّذي كَفَرَ بِي، وَآمَنَ بِالْكَوْكَبِ) حيث نسب للمخلوق ما هو من خصوصيات الخالق، فجحد نعمة اللَّه تعالى في ذَلك، وظلم بنسبتها لغير المنعم بها، فإن كان ذلك عن اعتقاد كان كافرًا ظالمًا حقيقة، وإن كان عن غير اعتقاد، فقد تشبّه بأهل الكفر والظلم الحقيقيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث زيد بن خالد الجهني - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -16/ 1525 - وفي "الكبرى" 14/ 1834 - و"عمل اليوم والليلة" رقم 924 - بالسند المذكور. وفي "عمل اليوم والليلة" 925 - عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك، عن صالح بن كيسان به.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 1/ 214 و 5/ 155 - و 9/ 177 (م) 1/ 59 (د) 3906 (مالك في المموطإ) 136 (الحميدي) 813 (أحمد) 4/ 115/ و 4/ 116 و 4/ 117. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو تحريم الاستمطار بالكواكب. (ومنها): وجوب شكر اللَّه تعالى، قال اللَّه تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82]، قال ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنه -: شكركم، وقال الطبريّ: المعنى وتجعلون الرزق الذي وجب عليكم به الشكر تكذيبكم به، وقيل: بل الرزق بمعنى الشكر في لغة أزد شنوءة. نقله الطبري عن الهيثم بن عديّ.

وقد أخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ:"وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون". وأخرج مسلم من طريق أبي زُميل، عن ابن عباس، قال:"مُطِرَ الناسُ على عهد رسول اللَّه ص" فذكر نحو حديث زيد بن خالد في الباب، وفي آخره: "فأنزلت هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إلى

ص: 87

قوله: {تكذّبون} [الواقعة: 75]

(1)

.

(ومنها): استحباب أن يقول عند نزول المطر: مُطرنا بفضل اللَّه ورحمته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1537 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَتَّابِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَمْسَكَ اللَّهُ عز وجل الْمَطَرَ عَنْ عِبَادِهِ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ لأَصْبَحَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ كَافِرِينَ، يَقُولُونَ: سُقِينَا بِنَوْءِ الْمِجْدَحِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبد الجبّار بن العلاء) العطار، أبو بكر البصريّ، نزيل مكة، لا بأس به، من صغار [10] 132/ 199.

2 -

(سفيان) بن عُيينة المذكور في السند الماضي.

3 -

(عمرو) بن دينار الجمحي المكيّ، ثقة ثبت [4] تقدم 112/ 154.

4 -

(عتّاب بن حُنين) أو ابن أبي حُنين، مقبول [4].

روى عن أبي سعيد الخدري حديث الباب فقط. وعثه عمرو بن دينار، ويحيى بن عبد اللَّه بن صيفي، ذكره ابن حبان في "الثقات". وفي "مسند أحمد" جـ 3 ص 7: قال سفيان -يعني ابن عيينة-: لا أدري من عتّاب؟. انفرد به المصنف بحديث الباب فقط.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ: "غياث" بالغين المعجمة، والتحتانية، والمثلثة بدل "عَتّاب"، وهو تصحيف، فتنبّه.

5 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدم 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَمْسَكَ اللَّه عز وجل الْمَطَرَ عَنْ عِبَادِهِ خَمْسَ سِنِينَ) وفي "عمل اليوم والليلة" من طريق حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار: "لو أمسك اللَّه القطر عن الناس عشر سنين

" (ثُمَّ أَرْسَلَهُ لأَصْبَحَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ كَافِرِينَ، يَقُولُونَ: سُقِينَا) بالبناء للمفعول (بنَوْءِ الْمِجْدَحِ) بكسر الميم، وتُضمّ، وفي "عمل اليوم والليلة": قال أبو عبد الرحمن -أَي النسائي-: المِجْدَح الشَّعْرَى انتهى.

(1)

انظر "الفتح" ج 3 ص 218.

ص: 88

وفي "زهر الربى": المجدح نجم من النجوم، قيل: هو الدَّبَرَان، وقيل: هو ثلاثة كواكب كالأثافي، تشبيهًا بالمِجدح

(1)

الذي له ثلاث شُعَب، وهو عند العرب من الأنواء الدالّة على المطر

(2)

.

وقال الحافظ ابن عبد البرّ: زعم الخليل أن المجدح نجم كانت العرب تزعم أنها تُمطَر به، فيقال: أرسلت السماء بمجادح الغيث، ويقال: مِجدح، ومُجدح بالكسر، والضمّ. انتهى

(3)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي سعيد الخدري - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف، لتفرد عتّاب بن حُنين به، وهو -كما في "ت"- مقبول، أي يحتاج إلى متابع، وقد تقدم أن ابن عيينة قال: لا أدري من هو؟. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -16/ 1526 - وفي "الكبرى" 14/ 1836 - بالإسناد المذكور. وفي "عمل اليوم والليلة" 926 - عن أبي داود سليمان بن سيف، عن عفّان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عمرو به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌17 - (مَسْأَلَةُ الإِمَامِ رَفْعَ الْمَطَرِ إِذَا خَافَ ضَرَرَهُ

(4)

)

1538 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قُحِطَ الْمَطَرُ عَامًا، فَقَامَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَقَالَ:

(1)

و"المِجدح" عُودٌ مُجَنَّحُ الرأس يُسَاط به الأشربة، وربما يكون له ثلاث شُعَب اهـ "لسان".

(2)

انظر "زهر الربى" ج 3 ص 165.

(3)

"الاستذكار" ج 7 ص 159 - 160.

(4)

وفي نسخة "ضررًا".

ص: 89

يَا رَسُولَ اللَّهِ قَحَطَ الْمَطَرُ، وَأَجْدَبَتِ الأَرْضُ

(1)

، وَهَلَكَ الْمَالُ، قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ

(2)

، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ سَحَابَةً، فَمَدَّ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، يَسْتَسْقِى اللَّهَ عز وجل قَالَ: فَمَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ حَتَّى أَهَمَّ الشَّابَّ الْقَرِيبَ الدَّارِ الرُّجُوعُ

(3)

إِلَى أَهْلِهِ فَدَامَتْ جُمُعَةٌ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الَّتِي تَلِيهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَاحْتَبَسَ الرُّكْبَانُ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسُرْعَةِ مَلَالَةِ ابْنِ آدَمَ، وَقَالَ بِيَدَيْهِ:«اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلَا عَلَيْنَا» . فَتَكَشَّطَتْ

(4)

عَنِ الْمَدِينَةِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(علي بن حُجْر) السعديّ المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9] تقدم 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، ثقة ثبت [8] تقدم 16/ 17.

3 -

(حميد) بن أبي حميد الطويل البصري، ثقة ثبت [5] تقدم 87/ 108.

4 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه، تقدم 6/ 6.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو (89) من رباعيات الكتاب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم الكلام عليه مستوفًى في 1/ 1505 - فلا حاجة إلى إعادته هنا، إلا أن نوضّح بعض ما يُستغرَب منه:

فقوله: "قَحَطَ المطرُ"، بالبناء للفاعل، وللمفعول، يقال: قَحَطَ المطرُ قَحْطًا، من باب نَفَعَ: احتبس، وحَكَى الفراء: قَحِطَ قَحَطًا، من باب تَعِبَ، وقَحُطَ بالضمّ، فهو قَحِيطٌ، وقُحِطَت الأرضُ، والقومُ بالبناء للمفعول، وبلدٌ مقحوطٌ، وبلادٌ مَقَاحيط، وأقحط اللَّه الأرضَ بالألف، فأَقْحَطَتْ، وهي مُقْحِطَةٌ، وأَقْحَطَ القومُ: أصابهم القَحْطُ بالبناء للفاعل والمفعول. قاله الفيّوميّ

(5)

.

وقوله: "وأجدبت الأرضُ"، ويقال: جَدِبَت، من باب تَعِبَ: انقطع المطر عنها. وقوله: "حتى أهمّ الشابّ" بالنصب مفعول "أهمّ"، و"القريبَ" صفته، وهو مضاف إلى "الدار" من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها، و"الرجوع" بالرفع فاعل "أهم". وقوله:"فدامت" أي السحابة الماطرة "جمعة" بالنصب على الظرفية، وهو في معنى

(1)

وفي نسخة "البلاد".

(2)

وفي نسخة "يده".

(3)

وفي نسخة "أن يرجع".

(4)

وفي نسخة "فتكشّفت".

(5)

"المصباح المنير" جـ 2 ص 491.

ص: 90

ما تقدم، من قوله:"سبتًا".

وقوله: "لسرعة ملالة ابن آدم" بفتح الميم مصدر مَلَّ، يقال: مَلِلْتُهُ، ومَلِلْتُ منه، مَلَلاً، من باب تَعِبَ، ومَلَالَةً: سَئِمْتُ، وضَجِرْتُ. قاله في "المصباح". أي لسرعة سآمته، وضَجَره من كثرة نعم اللَّه عليه، إذ كانوا في الجمعة السابقة يشكُون من طول الجدب، فأزال اللَّه عنهم ذلك بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم المباركة، ثم جاءوا في الجمعة الثانية يشكُون من كثرة الأمطار.

ومن طبيعة الإنسان أن يسأم عند توالي النعم عليه، فلقد سئم بنو إسرائيل من المنّ والسلوى، وطلبوا الأدنى من ذلك، كما قال اللَّه تعالى عنهم:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا} الآية [البقرة: 61]، ولقد أحسن من قال وأجاد في المقال [من الرمل]:

يَتَمَنَّى الْمَرْءُ فِي الصَّيْفِ الشِّتَا

فَإِذَا جَاءَ الشِّتَا أَنْكَرَهُ

فَهْوَ لَا يَرْضَى بِحَالٍ وَاحِدٍ

قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ

وقوله: "فتكشطت"، أي تكشّفت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌18 - (بَابُ رَفْعِ الإِمَامِ يَدَيْهِ عِنْدَ مَسْأَلَةِ إِمْسَاكِ الْمَطَرِ)

1528 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَصَابَ النَّاسُ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ سَحَابٌ

(2)

(1)

وفي نسخة "حدثنا"، وفي أخرى "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة "السحاب".

ص: 91

أَمْثَالُ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَالَّذِى يَلِيهِ، حَتَّى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ، أَوْ قَالَ: غَيْرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلَا عَلَيْنَا» ، فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ

(1)

إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ، إِلاَّ انْفَرَجَتْ

(2)

، حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ الْوَادِي، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ

(3)

، إِلاَّ أَخْبَرَ بِالْجَوْدِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمود بن خالد) السلميّ، أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، من صغار [18] تقدم 45/ 595.

2 -

(الوليد بن مسلم) القرشيّ مولاهم، أبو العباس الدمشقي، ثقة كثير التدليس والتسوية [8] تقدم 5/ 454.

3 -

(أبو عمرو الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الإمام الفقيه الحجة [7] تقدم 45/ 56.

4 -

(إسحاق بن عبد اللَّه) بن أبي طلحة، أبو يحيى الأنصاريّ المدني، ثقة حجة [4] تقدم 45/ 68.

5 -

(أنس بن مالك) رضي الله عنه المذكور في السند الماضي.

وقوله: "أصاب الناسَ سنةٌ" بنصب "الناس" على أنه مفعول مقدم، ورفع "سَنَةٌ" على أنه فاعل مؤخر والسنة: القحط.

وقوله: "حتى ثار سحاب أمثال الجبال" أي هاج، وهذا بالنظر إلى المآل، وما سبق من قوله:"فطلعت سحابة مثل الترس" كان بالنظر إلى ما عليه في أول الحال، فلا منافاة بين الروايتين.

وقوله: "يتحادر" أي يسيل.

وقوله: "ما وضعها" هكذا نسخ "المجتبى" بإفراد الضمير مع أن المرجع مثتى، ويؤوّل بالمذكورة، والذي في "الكبرى""ما وضعهما" بضمير التثنية، وهو الأولى.

(1)

وفي نسخة "بيديه".

(2)

وفي نسخة "تفرّجت".

(3)

وفي نسخة "من ناحيته".

ص: 92

وقوله: "مثل الجَوْبة" بفتح الجيم، وسكون الواو، بعدها موحدة: أي الفرجة.

وقال ابن منظور: والجَوْبة: فَجْوَةُ ما بين البيوت، والجَوبةُ: الحفرة، والجوبةُ فضاء أملس، سهلٌ بين أرضين، وقال أبو حنيفة -يعني الدينوريّ -: الجوبة من الأرض الدّارَة، وهي المكان المُنْجَاب الوَطِىءُ من الأرض، القليلُ الشجرِ، مثلُ الغائط المستدير، ولا يكون في رَمْل، ولا جبل، إنما يكون في أَجْلاد الأرض، ورِحَابها، سمي جوبة لانجياب الشجر عنها، والجمع جَوْبَات، وجُوَبٌ نادرٌ.

وفي "التهذيب": الجَوْبة شِبْهُ رَهْوَة تكون بين ظهراني دُور القوم، يسيل منها ماء المطر، وكلّ منفتق يتّسع فهو جَوبة، وفي حديث الاستسقاء:"حتى صارت المدينة مثل الجوبة" قال: هي الْحُفْرَة المستديرة الواسعة، وكلّ منفتق بلا بناء جَوْبةٌ، أي حتى صار الغيم والسحاب محيطًا بآفاق المدينة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبي: المعنى أن السحاب تقطّع حول المدينة مستديرًا، وانكشف عنها حتى باينت ما جاورها مباينة الجوبة لما حولها

(2)

.

وضبطه بعضهم بالنون بدل الموحّدة، قال عياض: وهو تصحيف

(3)

.

وقوله: "بالجود" بفتح الجيم، وسكون الواو، بعدها قال مهملة: أي المطر الواسع الغزير.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في 1/ 1505، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"لسان العرب" في مادة "جوب".

(2)

"المفهم" ج 2 ص 545.

(3)

"زهر الربى" ج 3 ص 167.

ص: 93

‌17 - كِتَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ

أي هذا كتاب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية صلاة الخوف، وبيان كيفيتها. والإضافة من باب إضافة الحكم إلى سببه.

(اعلم): أنه لما كان لصلاة الخوف أحكام، وصفات تختصّ بها عن غيرها من الصلوات الأَمْنِيَّة دعت الحاجة إلى تقديم بعض تنبيهات، ليكون الطالب على بصيرة، ويمكن الإحالة إليها عند الحاجة في بيان الأحاديث الآتية، إن شاء اللَّه تعالى:

(الأول): قال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم": قولنا: صلاة الخوف، هي الصلاة المعهودة، تحضر، والمسلمون متعرّضون لحرب العدوّ، وقد اختلف العلماء، هل للخوف تأثير في تغيير الصلاة المعهودة عن أصل مشروعيتها المعروفة، أم لا؟:

فذهب الجمهور إلى أن للخوف تأثيرًا في تغيير الصلاة على ما يأتي تفصيل مذاهبهم.

وذهب أبو يوسف إلى أنه لا تغيير في الصلاة لأجل الخوف اليوم، وإنما كان التغيير المرويّ في ذلك، والذي عليه القرآن خاصّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، مستدلاً بخصوصية خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية [النساء: 102]. قال: فإذا لم يكن فيهم لم تكن صلاة الخوف. وهذا لا حجة فيه لثلاثة أوجه:

(أحدها): أنا أُمرنا باتباعه، والتأسي به، فيلزم اتباعه مطلقًا، حتى يدلّ دليل واضحٌ على الخصوص، ولا يصلح ما ذكره دليلاً على ذلك، ولو كان مثل ذلك دليلاً على الخصوصية للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها، لكن قد تقرّر بدليل إجماعيّ أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع، وكذلك ما يُخاطَبُ هو به، كقوله تعالى:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس: 94]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال: 64]، ونحوه كثير.

(وثانيها): أنه قد قال النبي صلى الله عليه وسلم "صلّوا كما رأيتموني أصلي". متفق عليه.

(وثالثها): أن الصحابة رضي الله عنه اطّرحوا توهّم الخصوص في هذه الصلاة، وعَدَّوْه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، فلا يُلتفت إلى قول من ادّعى الخصوصية. انتهى كلام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(1)

"المفهم" ج 2 ص 468 - 469.

ص: 94

وقال في "الفتح": معنى قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} أي سافرتم، ومفهومه أن القصر مختصّ بالسفر، وهو كذلك، وأما قوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ} فمفهومه اختصاص القصر بالخوف أيضًا، وقد سأل يعلي بن أميّة الصحابيُ عمرَ بن الخطّاب عن ذلك رضي الله عنه، فذكر أنه سأل رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"صدقة تصدّق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته"، أخرجه مسلم، فثبت القصر في الأمن ببيان السنّة. واختُلف في صلاة الخوف في الحضر، فمنعه ابن الماجشون، أخذًا بالمفهوم أيضًا، وأجازه الباقون.

وأما قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فقد أخذ بمفهومه أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه، والحسن بن زياد اللؤلؤيّ من أصحابه، وإبراهيم ابن عليّة، وحكي عن المزنيّ صاحب الشافعيّ.

واحتُجّ عليهم بإجماع الصحابة على فعل ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، فعموم منطوقه مقدّم على ذلك المفهوم.

وقال ابن العربيّ وغيره: شرط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم، لا لوجوده، والتقدير بيّن لهم بفعلك لكونه أوضح من القول، ثم إن الأصل أن كلّ عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفيةُ وردت لبيان الحَذَر من العدوّ، وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم.

وقال الزين ابن المنيّر: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم، كالخوف في قوله تعالى:{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} . وقال الطحاويّ: كان أبو يوسف قد قال مرةً: لا تُصلِّى صلاةُ الخوف بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وزعم أن الناس إنما صلّوها معه لفضل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا القول عندنا ليس بشيء، وقد كان محمد بن شُجاع يَعيبه، ويقول: إن الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعًا، إلا أنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره انتهى

(1)

.

(الثاني): أنه قد ورد في كيفية صلاة الخوف صفات كثيرة، ورجّح ابن عبد البرّ الكيفية الواردة في حديث ابن عمر رضي الله عنه الآتي -15540 - على غيرها لقوة الإسناد، ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يُتمّ صلاته قبل سلام إمامه. وعن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث، أو سبعة أيّها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه الآتي "1536 - و 1553"، وكذا رجحه الشافعيّ، ولم يختر إسحاق شيئًا على شيء، وبه قال الطبريّ، وغير واحد، منهم ابن المنذر، وسَرَدَ ثمانية

(1)

- فتح ج 3 ص 100.

ص: 95

أوجه، وكذا ابن حبّان في "صحيحه"، وزاد تاسعًا.

وقال ابن حزم: صحّ فيها أربعة عشر وجهًا، وبينها في "جزء مفرد". وقال ابن العربي في "القبس": جاء فيها روايات كثيرة، أصحها ستة عشر رواية مختلفة، ولم يُبيّنها. وقال النوويّ: نحوه في "شرح مسلم"، ولم يبينها أيضًا، وقد بينها الحافظ أبو الفضل العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، وزاد وجهًا آخر، فصارت سبعة عشر وجهًا، لكن يمكن أن تتداخل. وقال صاحب "الهدي": أصلها ستّ صفات، وبلّغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصّة جعلوا ذلك وجهًا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة انتهى.

قال الحافظ: وهذا هو المعتمد، وإليه أشار شيخنا -يعني الحافظ العراقي- بقوله: يمكن تداخلها. وحكى ابن القصّار المالكي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها عشر مرّات. وقال ابن العربي: صلاها أربعًا وعشرين مرة. وقال الخطابي: صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة بأشكال متباينة، يتحرّى فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى انتهى

(1)

.

وقال الحافظ الزيلعي رحمه الله في "نصب الراية": ذكر بعض الفقهاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع، والذي استقر عند أهل السير، والمغازي أربعة مواضع: ذات الرقاع، وبطن نخل، وعُسفان، وذو قرد، فحديث ذات الرقاع أخرجه البخاريّ وغيره عن سهل بن أبي حثمة، وفي لفظ للبخاريّ "عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم "، وحديث بطن نخل أخرجه أبو داود، والنّسائيّ عن جابر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، والعدوّ بيننا وبين القبلة

الحديث. وحديث عُسفان أخرجه أبو داود، والنسائيّ عن أبي عياش الزرقيّ. وحديث ذي قرد أخرجه النسائي عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد

الحديث انتهى

(2)

.

(الثالث): أنه اختُلف في أيّ سنة شُرعت صلاة الخوف؟ فقال الجمهور: إن أول ما صليت في غزوة ذات الرقاع، واختلف أهل السير في أيّ سنة كانت هي؟، فقال عامّة أهل السير، ابن إسحاق، وابن عبد البرّ، وغيرهما: إنها كانت بعد بني النضير، والخندق، في جمادى الأولى سنة أربع. وقال ابن سعد، وابن حبّان: في عاشر محرّم سنة خمس. وقال أبو معشر: بعد بني قريظة في آخر السنة الخامسة، وأول التي تليها.

وقال البخاريّ: بعد خيبر في السنة السابعة، ورجحه الإمام ابن القيّم، والحافظ،

(1)

- راجع "الفتح" ج 3 صلى الله عليه وسلم 102.

(2)

- راجع "نصب الراية" ج 2 ص 247.

ص: 96

وذهب ابن القيّم إلى أن أول صلاة صليت للخوف بعسفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق، وقريظة سنة ست، وصليت بذات الرقاع أيضًا، فعلم أنها بعد الخندق، وبعد عُسفان، وقد بسط الكلام في "الهدي" في الاستدلال لذلك، وإليه جنح الحافظ في "الفتح"، حيث قال بعد الاستدلال لهذا القول: وإذا تقرّر أن أول ما صليت صلاة الخوف بعسفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة، وقد صليت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وهي بعد عسفان، فتعين تأخرها عن الخندق، وعن قريظة، وعن الحديبية أيضًا، فيقوى القول بأنها بعد خيبر، لأن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية انتهى

(1)

.

(الرابع): أنهم اتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الخوف في غزوة الخندق، واختلفوا في سبب ذلك، فقيل: كانت بعد نزول صلاة الخوف، وأنه أخرها نسيانًا، يدل عليه ما روى أحمد من حديث ابن لهيعة عن أبي جمعة حبيب بن سباع، قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال:"هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟ " قالوا: لا يا رسول اللَّه، ما صليتها، فأمر المؤذن، فأقام، فصلى العصر، ثم أعاد المغرب. قال الحافظ: وفي صحته نظر، لأنه مخالف لما في "الصحيحين" من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر:"واللَّه ما صليتها". ويمكن الجمع بينهما بتكلف.

وقيل: أخرها عمدًا، لأنه كان مشغولاً بالقتال، والاشتغالُ بالقتال، والمسايفة يمنع الصلاة. قاله صاحب "الهداية"، والطحاويّ، وأبو بكر الجصاص.

وقيل: لأنه لم يكن أُمر حينئذ أن يصلي صلاة الخوف راكبا، فقد رُوي عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: "كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فشغلنا

" الحديث، وفي آخره: "وذلك قبل أن ينزل عليه: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ، أخرجه أحمد، والنسائيّ، والطيالسيّ، وعبد الرزاق، وغيرهم. وقيل: لتعذر الطهارة. وقيل: لأنه كان في الحضر، وشرط صلاة الخوف أن تكون في السفر

(2)

. قاله ابن الماجشون.

وقيل: أخرها عمدًا لأنه كانت قبل نزول صلاة الخوف، وإليه ذهب الجمهور، كما قال ابن رشد، وبه جزم ابن القيّم في "الهدي"، والحافظ في "الفتح"، والقرطبي في "شرح مسلم"، وعياض في "الشفا"، وغبرهم، وهو الراجح

(3)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- راجع، الفتح" ج 8 ص 187 - 188. ومرعاة "المفاتيح"ج 5 ص1.

(2)

- سيأتي أن الراجح مشروعيتها في الحضر أيضًا.

(3)

- "المرعاة" ج5 ص 1 - 2.

ص: 97

1529 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي بِطَبَرِسْتَانَ، وَمَعَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَوَصَفَ، فَقَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً، صَفٍّ خَلْفَهُ، وَطَائِفَةٍ أُخْرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الَّتِي تَلِيهِ رَكْعَةً، ثُمَّ نَكَصَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ أُولَئِكَ، وَجَاءَ أُولَئِكَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الإمام الحجة المثبت [10] تقدم 2/ 2.

2 -

(وكيع) بن الجرّاح، أبو سفيان الرؤاسي الكوفي، ثقة حافظ [9] تقدم 23/ 25.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة المثبت [7] تقدم 33/ 37.

4 -

(الأشعث بن أبي الشعثاء) الأسود بن يزيد الكوفي، ثقة [6] تقدم 90/ 112.

5 -

(الأسود بن هلال) المحاربيّ، أبو سَلاّم الكوفيّ، ثقة مخضرم جليل [2].

روى عن معاذ بن جبل، وعمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وثعلبة بن زَهْدَم.

وعنه أشعث بن أبي الشعثاء، وأبو حَصين، وأبو إسحاق السبيعي، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.

قال أحمد: ما علمت إلا خيرًا. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: كان جاهليًا، وكان رجلاً من أصحاب عبد اللَّه، ووثقه، وذكره الباروديّ وجماعة ممن ألّف في الصحابة لإدراكه. وقال ابن سعد، عن الأسود: هاجرتُ زمنَ عمر، فذكر قصة. وقال ابن سعد: توفي زمن الحجاج بعد الجماجم، وقال عمرو بن علي: سنة (84). أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب أحد عشر حديثًا.

6 -

(ثعلبة بن زَهْدم) الحنظليّ التميميّ، مختلف في صحبته، حديثه في الكوفيين.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم على اختلاف في ذلك، وعن حُذَيفة، وأبي مسعود. وعنه الأسود ابن هلال. قال الحافظ: جزم بصحبته ابن حبّان، وابن السكن، وأبو محمد بن حزم، وجماعة ممن صنّف في الصحابة يطول تعدادهم. وذكره البخاريّ في "التاريخ الكبير"، وقال: قال الثوريّ: له صحبة، ولا يصحّ. وقال الترمذيّ في "تاريخه": أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وعامة روايته عن الصحابة. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة. وذكره مسلم في الطبقة الأولى من التابعين. أخرج له أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث.

ص: 98

7 -

(حذيفة) بن اليمان حِسْل، أو حُسَيل الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدم 2/ 2. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى ثعلبة، فقد تفرّد به المصنف، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، إن ثبتت صحبة ثعلبة، وإلا ففيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ) الحنظليّ أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي) -وفي نسخة "العاص" بحذف الياء- ابن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، أبي عثمان، ويقال: أبو عبد الرحمن، قُتل أبوه يوم بدر كافرًا، ومات جدّه أبو أُحَيحَة قبل بدر مشركًا. قال ابن سعد قُبض النبي صلى الله عليه وسلم، ولسعيد تسع سنين، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعن عمر، وعثمان، وعائشة، وعنه ابناه: عُمر، ويحيى، ومولاه كعب، وغيرهم. قال الزبير بن بكّار: استعمله عثمان على الكوفة، وغزا بالناس طبرستان، واستعمله معاوية على المدينة. وقال سعيد بن عبد العزيز: لكلّ قوم كريم، وكريمنا سعيد، وقال أيضًا: أُقيمت عربية القرآن عدى لسان سعيد، لأنه كان أشبههم لهجة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البرّ: كان من أشراف قُريش، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان. وروى الطبراني في "معجمه" أن عثمان رضي الله عنه قال: أيّ الناس أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص. وقال ابن عبد البرّ: كان ممن اعتزل الجَمَلَ وصِفِّين. وقال الزبير: مات في قصره بالعَرْصَة على ثلاثة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع سنة (58) وقال البخاري: قال مسدد: مات سعيد، وأبو هريرة، وعائشة، وابن عامر سنة (57) أو (58) قال: وقال غيره: مات سعيد سنة (59) وهو قول خليفة بن خيّاط.

(بِطَبَرِسْتَانَ) وفي نسخة "في طبرستان"، وهي بفتح الطاء، والباء، وكسر الراء: بلاد واسعة بالعجم، وهي مركبة من كلمتين، "طبر"، وهي بالفارسية اسم للفأس، و"استان"، وهي الناحية، ولكثرة اشتباك أشجارها، لا يتمكن الجيش من سلوكها، إلا بعد قطع الأشجار بالطبر، فلذا سميت "طبرستان"، وقيل:"الطبر" ما يشقّ به الأحطاب، ونحوها، وعليه سميت طبرستان، لأن أهل تلك الجهة كثيروا الحروب، وأكثر أسلحتهم الأطبار. فُتحت في عهد عثمان رضي الله عنه على يد سعيد بن العاص رضي الله عنه -

ص: 99

سنة (29) من الهجرة

(1)

.

(وَمَعَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) جملة في محل نصب على الحال (فَقَالَ) أي سعيد بن العاص (أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ؟، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا) أي أنا صليتها معه (فَوَصَفَ) أي وصف حذيفة صلى الله عليه وسلم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالقول، والرواية التالية صريحة في أنه بينها بالفعل، والظاهر أنه جمع بينهما زيادة في الإيضاح (فَقَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً) أي بكل طائفة ركعة واحدة (صَفَّ) بصيغة الماضي، كما هو بضبط القلم في النسخة الهندية، ويدلّ على هذا ما في "الكبرى" بلفظ "صفّت" بتاء التأنيث، والجملة في محل جرّ صفة لـ"طائفة"، أو حال منه، وذكّر الفعل بتأويل "طائفة" بصِنْفٍ، أو بعض، وقوله (خَلْفَهُ) ظرف لـ"صَفَّ"، ويحتمل أن يكون "صفّ" اسمًا مبتدءًا خبره الظرف، وسوّغ الابتداء بالنكرة التفصيل، أو كونه موصوفًا بمقدّر، أي صفّ منها.

وقال السندي رحمه الله في "شرحه": قوله: "صفّ خلفه" بالجرّ بدل من "طائفة". انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: هذا الذي قاله إن صحت الرواية به فذاك، وإلا فلا يتعيّن. واللَّه أعلم.

(وَطَائِفَةٌ أُخْرَى بَيْنَهُ وَبَينَ الْعَدُوِّ)"طائفة" مبتدأ خبره الظرف (فَصَلَّى بالطَّائِفَةِ الَّتِي تَلِيهِ رَكْعَةَ، ثُمَّ نَكَصَ هَؤُلَاءِ) أي رجع الذين صلّوا ركعة معه، يقال: نكَص على عقبيه نكُوصًا، من باب قَعَدَ: رجع. قال ابن فارس: والنكوصُ الإحجام عن الشيء (إِلَى مَصَافٍّ أُولَئِكَ) بفتح الميم، وتشديد الفاء، جمع مصفّ: أي أماكن صفوفهم في الحراسة (وَجَاءَ أُولَئِكَ) أي الذين واجهوا العدوّ (فَصَلَّى بِهمْ رَكْعَةَ) أخرى، زاد في الرواية التالية:"ولم يقضوا"، وهي صريحة في اجتزاء كل طائفة بركعة واحدة، وبه يقول بعض أهل العلم، وسيأتي تحقيق القول في المسائل الآتية، إن شاء اللَّه تعالى.

وقد ساق الإمام أحمد الحديث في "مسنده" مطولاً، فقال:

حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد السلولي، قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، ومعه نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أيكم صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فَأْمُرْ أصحابك يقومون طائفتين، طائفة خلفك، وطائفة بإزاء العدو، فتكبروا، ويكبرون جميعا، ثم

(1)

- انظر "المنهل العذب المورود" ج 7 ص 122.

ص: 100

تركع فيركعون جميعا، ثم ترفع فيرفعون جميعا، ثم تسجد ويسجد معك الطائفة التي تليك، والطائفة التي بإزاء العدو قيام بإزاء العدو، فإذا رفعت رأسك من السجود يسجدون، ثم يتأخر هؤلاء، ويتقدم الآخرون، فقاموا في مَصَافّهم، فتركع فيركعون جميعا، ثم تسجد فتسجد الطائفة التي تليك، والطائفة الأخرى قائمة بإزاء العدو، فإذا رفعت رأسك من السجود سجدوا، ثم سلمت وسلم بعضهم على بعض، وتأمر أصحابك إن هاجهم هَيْجٌ من العدو، فقد حل لهم القتال والكلام. انتهى.

وقوله في هذه الرواية "فتكبر، ويكبرون جميعًا" لا ينافي ما يأتي في رواية المصنف أن حذيفة هو الذي صلى بالناس، لأن هذا تعليم لسعيد كيف يصلي؟، ولكنه قدم حذيفة لكونه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم حين صلاها، فهو أضبط، وفعله أحوط.

ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: "فقام حذيفة، فصفّ الناس خلفه" لسعيد، أي صفّ حذيفة الناس خدف سعيد تعليما لهم كيف يصفّون، فصلى سعيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث حذيفة رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا- 17/ 1529 - وفي "الكبرى" 22/ 1917 - بالإسناد المذكور، وفي 17/ 1530 - و"الكبرى" 22/ 1918 - عن عمرو بن علي الفلاس، عن يحيى القطان، عن الثوريّ به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (أبو داود) 1246 و (أحمد) 5/ 385 و 395 و 399 و 404 و 406 (ابن خزيمة) 1343 و 1365. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: حديث حذيفة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا اشتمل على إحدى الكيفيات التي وردت في صلاة الخوف، وهي أن كل طائفة اكتفت بركعة واحدة، حيث قال:"ولم يقضوا"، ومثله حديث زيد بن ثابت الآتي بعده -1531 - ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي أيضًا-1532 و 15323 - وفيه أيضا:"ولم يقضوا"، وحديث جابر رضي الله عنه الآتي أيضًا -1545 - وفي آخره "فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولهم ركعة".

وقد حقّق هذا الموضوع الإمام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- وبَيَّنَه بيانًا شافيًا، ودونك عبارته:

[مسألة]: من حضره خوف من عدوّ ظالم، كافر، أو باغ من المسلمين، أو من

ص: 101

سيل، أو من نار، أو من حنش، أو سبع، أو غير ذلك، وهم ثلاثة، فصاعدًا، فأميرهم مخيّر بين أربعة عشر وجهًا، كلها صح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قد بيناها غاية البيان، والتقصّي في غير هذا الكتاب.

قال: فإن كان في سفر، فإن شاء صلى بطائفة ركعتين، ثم سلم، وسلموا، ثم تأتي طائفة أخرى، فيصلي بهم ركعتين، ثم يسلم، ويسلمون، وإن كان في حضر صلى بكل طائفة أربع ركعات، وإن كانت الصبح صلى بكلّ طائفة ركعتين، وإن كانت المغرب صلى بكلّ طائفة ثلاث ركعات، الأولى فرض الإمام، والثانية تطوّع له.

وإن شاء في السفر أيضا صلى بكل طائفة ركعة، ثم تسلم تلك الطائفة ويجزئهما، وإن شاء هو سلّم، وإن شاء لم يسلم، ويصلي بالأخرى ركعة، ويسلم، ويسلمون، ويجزئهم.

وإن شاءت الطائفة أن تقضي الركعة، والإمام واقف فعلت، ثم تفعل الثانية أيضًا كذلك، فإن كانت الصبح صلى بالطائفة الأولى ركعة، ثم وقف، ولا بدّ، وقضوا ركعة، ثم سلموا، ثم تأتي الثانية، فيصلي بهم الركعة الثانية، فإذا جلس قاموا، فقضوا ركعة، ثم سلم ويسلمون، فإن كانت المغرب صلى بالطائفة الأولى ركعتين، فإذا جلس قاموا، فقضوا ركعة، وسلموا، وتأتي الأخرى، فيصلي بهم الركعة الباقية، فإذا قعد صلوا الركعة، ثم جلسوا، وتشهدوا، ثم صلوا الثالثة، ثم يسلم ويسلمون.

فإن كان وحده فهو مخيّر بين ركعتين في السفر، أو ركعة واحدة، وتجزئه، وأما الصبح، فثنتان ولابدّ، والمغرب ثلاث ولابدّ، وفي الحضر أربع ولا بدّ. سواء في ذلك من طُلب بحقّ، أو بغير حقّ.

قال اللَّه تعالي: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 101 - 102]، فهذه الآية تقتضي بعمومها الصفات التي قلنا نصّا.

ثم كلّ ما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلا يحلّ لأحد أن يرغب عن شيء منه، قال اللَّه تعالي آمرًا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]. وكل شيء فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو ملته، وملته ملة إبراهيم عليه السلام.

ص: 102

قال: في حديث أبي بكرة، وجابر:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة ركعتين في الخوف، ثم سلم، وبطائفة أخرى ركعتين، ثم سلم". قال: وهذا آخر فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأن أبا بكرة شهد معه، ولم يُسلِم إلا يوم الطائف، ولم يغز عليه السلام بعد الطائف غير تبوك فقط، فهذه أفضل صفات صلاة الخائف، لما ذكرنا، وقال بهذا الشافعيّ، وأحمد ابن حنبل.

قال: وحديث ابن عباس: "فرض اللَّه الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركع".

ثم أخرج حديث ثَعْلَبَة بن زَهْدَم المذكور في الباب من طريق المصنف، وحديثَ زيد ابن ثابت الآتي بعد حديث، ثم قال: الأسودُ بن هلال ثقة مشهور، وثعلبة بن زهدم أحد الصحابة حنظليّ، وفد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسمع منه، وروى عنه. قال: وصحّ هذا أيضًا مسندًا من طريق يزيد بن زريع، وأبي داود الطيالسيّ، كلاهما عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه المسعوديّ، عن يزيد الفقير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر جابر أن القصر المذكور في الآية عند الخوف هو هذا، لا كون الصلاة ركعتين في السفر. وصح أيضًا من طريق الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أيضًا عن ابن عمر.

فهذه آثار متظاهرة متواترة، وقال بهذا جمهور من السلف، كما روي عن حذيفة أيام عثمان رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، لا ينكر ذلك أحد منهم، وعن جابر وغيره.

وروينا عن أبي هريرة: أنه صلى بمن معه صلاة الخوف، فصلاها بكلّ طائفة ركعة، إلا أنه لم يقض، ولا أمر بالقضاء. وعن ابن عباس: يومئ بركعة عند القتال. وعن الحسن أن أبا موسى الأشعريّ صلى في الخوف ركعة. وعن معمر، عن عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه، قال: إذا كانت المسايفة، فإنما هي ركعة، يومئ إيماء، حيث كان وجهه، راكبًا كان أو ماشيًا. وعن سفيان الثوريّ، عن يونس بن عُبيد، عن الحسن، قال: صلاة المطاردة ركعة. ومن طريق سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول في صلاة الخوف: إذا لم يقدر القوم على أن يصلوا على الأرض صلّوا على ظهور الدوابّ ركعتين، فإذا لم يقدروا، فركعة، وسجدتان، فإن لم يقدروا أخروا حيث يأمنون.

قال ابن حزم: أما تأخيرها عن وقتها فلا يحلّ البتة، لأنه لم يسمع اللَّه تعالى في تأخيرها، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، قال اللَّه تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} .

وقال سفيان الثوريّ: حدثني سالم بن عجلان الأفطس، سمعت سعيد بن جُبير يقول: كيف يكون قصر، وهم يصلون ركعتين؟ وإنما ركعة ركعة، يومئ بها حيث كان

ص: 103

وجهه. وعن شعبة، عن أبي مسلمة -هو سعيد بن يزيد- عن أبي نضرة، عن جابر بن غُراب

(1)

كنا مصافّي العدوّ بفارس، ووجوهنا إلى المشرق، فقال هرم بن حيّان: ليركع كل إنسان منكم ركعة تحت جُنّته، حيث كان وجهه. وعن عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة، قال: سألت الحكم بن عُتيبة، وحماد بن أبي سليمان، وقتادة عن صلاة المسايفة؟ فقالوا: ركعة حيث كان وجهه. وعن وكيع، عن شعبة، عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم مثل قول الحكم، وحماد، وقتادة. وعن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد في قول اللَّه تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} قال: في العدو يصلي راكبًا، وراجلاً يومئ، حيث كان وجهه، والركعة الواحدة تجزئه. وبه يقول سفيان الثوريّ، وإسحاق بن راهويه.

قال ابن حزم: وهذان العملان أحبّ إلينا، من غير أن نَرْغَبَ عن سائر ما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومَعاذَ اللَّه من هذا، لكن مِلْنَا إلى هذين لسهولة العمل فيهما على كلّ جاهل، وعالم، ولكثرة من رواهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة من قال بهما من الصحابة والتابعين، ولتواتر الخبر بهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولموافقتهما القرآن. انتهى المقصود من كلام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر في كلام ابن حزم رحمه الله أن كثيرًا من السلف قالوا بموافقة حديث الباب، فأرجح المذاهب القول بمشروعية الاكتفاء بركعة واحدة عند الخوف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1530 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي بِطَبَرِسْتَانَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَقَامَ حُذَيْفَةُ، فَصَفَّ النَّاسُ، خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، صَفًّا خَلْفَهُ، وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِي خَلْفَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وهو طريق آخر لحديث حذيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وقد تقدم الكلام عليه سندًا ومتنًا في الذي قبله. وعمرو بن علي هو الفلاس، ويحيى هو القطان، وقد تقدما قبل ستة أبواب. وقوله: "فصفّ

(1)

- قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المحلى": لم أجد ترجمته. انظر هامش "المحلى" ج 5 ص 36.

(2)

- "المحلى" ج 5 ص 33 - 36.

ص: 104

الناس" يحتمل أن يكون الناس فاعلاً، وأن يكون مفعولاً، لأن "صفّ" يتعدى، ويلزم.

وقوله: "موازي العدو" أي مقابله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1531 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الرُّكَيْنُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ صَلَاةِ حُذَيْفَةَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا السند هو الذي قبله، سوى:

1 -

(الرُّكين بن الربيع) -بتصغير الأول، وتكبير الثاني -بن عَمِيلة -بفتح المهملة، وكسر الميم- الفَزَاريّ، أبو الربيع الكوفي، ثقة [4] 130/ 193.

2 -

(القاسم بن حسان) العامريّ الكوفيّ، مقبول [3].

روى عن أبيه، وعمه عبد الرحمن بن حرملة، وزيد بن ثابت، وفُلفُلة الجعفيّ. وعنه الرُّكين بن الربيع، والوليد بن قيس السكونيّ. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: ثقة. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله.

أخرج له أبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وفي "كتاب الزينة" 5088 حديث: "كان يَكره عشر خصال

" الحديث.

3 -

"زيد بن ثابت" بن الضحّاك الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم 122/ 179.

وقوله: "مثل صلاة حذيفة" لم يسق المصنف لفظ حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، بل أحاله على لفظ حذيفة رضي الله عنه، وساقه ابن حبان في "صحيحه" جـ7/ 121 - ولفظه:"عن القاسم بن حسّان، قال: أتيت زيد بن ثابت، فسألته عن صلاة الخوف؟، فقال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصَفٌّ خلفه، وصفٌّ بإزاء العدوّ، فصلى بهم ركعة، ثم ذهبوا إلى مصافّ إخوانهم، وجاء الآخرون، فصلّى بهم ركعة، ثم سلم، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولكلّ طائفة ركعة".

والحديث صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه القاسم بن حسان، قال عنه ابن القطّان: لا يُعرف حاله، وقال عنه في "التقريب": مقبول؟.

[قلت]: القاسم بن حسان روى عنه اثنان، ووثقه أحمد بن صالح، كما تقدم عن ابن شاهين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فلا يضرّه قول ابن القطّان، ولا ما قاله في "التقريب"، فتنبّه.

ص: 105

وأخرجه المصنف هنا -17/ 1531 - وفي، "الكبرى" 22/ 1919 - بالإسناد المذكور.

وأخرجه عبد الرزاق 4250 وابن أبي شيبة 2/ 461 وأحمد 5/ 183 والطحاويّ في "شرح معاني الآثار" 1/ 310 والطبراني 4919 والبيهقي 3/ 262 - . 263 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1532 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِى السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِى الْخَوْفِ رَكْعَةً".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم الكلام عليه سندًا ومتنًا في 3/ 456 - وأبو عوانة: وضاح بن عبد اللَّه اليشكريّ.

والحديث صريح في كون الفرض في الخوف ركعة واحدة، وهو المذهب الصحيح، كما تقدم قريبًا.

وقال النووي: هذا الحديث قد عمل بظاهره طائفة من السلف، منهم الحسن البصريّ، والضحّاك، وإسحاق بن راهويه، وقال الشافعيّ، ومالك، والجمهور: إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات، فإن كانت في الحضر وجب أربع، وإن كانت في السفر وجب ركعتان، ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال، وتأولوا الحديث على أن المراد ركعة مع الإمام، وركعة أخرى يأتي بها منفردًا، كما جاءت الأحاديث في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في صلاة الخوف، وهذا التأويل لا بدّ منه، للجمع بين الأدلّة انتهى.

قال السندي -رحمه اللَّه تعالى-: لا منافاة بين وجوب واحدة، والعمل باثنتين، حتى يُحتاج إلى التأويل للتوفيق، لجواز أنهم عملوا بالأحبّ والأولى. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: التأويل الذي ذكره النووي تأويل بعيد، منابذ لما صرحت به الأحاديث "الصحيحة" من أحاديث حذيفة، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد اللَّه، وابن عباس رضي الله عنه، من الاكتفاء بركعة واحدة، كما تقدم، ولما قاله كثير من السلف كما أسلفناه، فلا يُلتفت إليه، بل الحق جواز الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- "شرح السندي" ج 3 صلى الله عليه وسلم 169 - 170.

ص: 106

1544 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْجَهْمِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِذِي قَرَدٍ، وَصَفَّ النَّاسُ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، صَفًّا خَلْفَهُ، وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشار) بُندار، أبو بكر البصري، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(يحيى) القطان، و 3 - (سفيان) الثوري تقدما قريبًا.

4 -

(أبو بكر بن أبي الجهم) هو: ابن عبد اللَّه بن أبي الجَهْم العدويّ، نسب لجدّه، ثقة [4]. واسم أبي الجهم صُخَير، ويقال: عُبيد بن حُذَيفة بن غانم بن عبد اللَّه بن عُبيد بن عُوَيج.

روى عن عمه محمد بن أبي الجهم، وابن عمر، وفاطمة بنت قيس، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، وغيرهم. وعنه الثوري، وشعبة، وشريك، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الزبير بن بكار: كان فقيهًا. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والباقون، سوى أبي داود، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 1533 و 3418 و 3551.

5 -

(عبيد اللَّه بن عبد اللَّه) بن عُتبة بن مسعود المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 45/ 56.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 310 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عبيد اللَّه من الفقهاء السبعة، وفيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العباداة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِذِي قَرَدٍ) بفتح

(1)

- وفي نسخة "حدثنا".

ص: 107

القاف والراء: ماء على ليلتين من المدينة، بينها وبين خيبر، ويقال: ذو القَرَد. قاله في "اللسان" واختلف في أيّ سنة هي؟، فقيل: قبل خيبر بثلاث ليال، وإليه جنح البخاري في "صحيحه"، ورجّحه الحافظ. وقال ابن سعد: كانت غزوة ذي قرد في ربيع الأول، سنة ستّ، قبل الحديبية، وقيل: في جُمادى الأولى. وعن ابن إسحاق في شعبان منها

(1)

.

(وَصَفَ النَّاسُ) تقدم أنه يحتمل الرفع والنصب، وفي نسخة "فصفّ الناس"(خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، صَفًّا خَلْفَهُ، وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوً) أي مقابله (فَصَلَّى بالَّذِينَ) وفي نسخة "بالذي"، أي بالصفّ الذي (خَلْفَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ إِلَى مكَانِ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهمْ رَكْعَة، وَلَمْ يَقْضُوا") أي لم يقض الفريقان الركعة الأخرى، بل اكتفوا بركعة واحدة، وهذا هو الراجح، وتأوله القائلون بعدم مشروعية ركعة واحدة في الخوف بأن المراد أنهم لم يقضوا في علم الراوي، أو أن مراده أنهم لم يقضوا إذا أمنوا، إذ لا يقضي الخائف إذا أمن ما صلى على تلك الهيأة، أو أنهم صلوا في الخوف ركعة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسكت عن الثانية لأنهم صلّوها إفرادًا

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه التأويلات كلها بعيدة عن نصّ الحديث، فلا يُلتفت إليها .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

وحديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف رحمه الله، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا -17/ 1533 - وفي "الكبرى"- 22/ 1921 - بالإسناد المذكور.

وأخرجه (أحمد) 1/ 232 و1/ 357 و5/ 183 و (ابن خزيمة). 1344 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1534 -

أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعَ أُنَاسٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَتَأَخَّرَ الَّذِينَ سَجَدُوا مَعَهُ، وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ، وَأَتَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَرَكَعُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَجَدُوا، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلَاةٍ، يُكَبِّرُونَ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

(1)

- راجع "الفتح" ج 8 صلى الله عليه وسلم 233 - 234.

(2)

- أفاده في "طرح التثريب" ج 3 صلى الله عليه وسلم 146.

ص: 108

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير) أبو حفص الحمصي، صدوق [10] 21/

535.

2 -

(محمد) بن حرب الخَوْلانيّ الحمصيّ الأبرش، ثقة [9] 122/ 172.

3 -

(الزُّبَيديّ) محمد بن الوليد، أبو الهذيل الحمصي القاضي، ثقة ثبت، من كبار أصحاب الزهريّ [7] 45/ 56.

والباقون تقدموا قريبًا، وشرح الحديث واضح.

وقوله: "ولكن يحرس بعضهم بعضًا" محل هذه الصورة إذا كان العدوّ في جهة القبلة، فلا يفترقون، والحالة هذه، بخلاف ما يأتي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الطحاويّ: ليس هذا بخلاف القرآن، لجواز أن يكون قوله تعالى:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} إذا كان العدوّ في غير القبلة، وذلك ببيانه صلى الله عليه وسلم، ثمّ بيّن كيفية الصلاة إذا كان العدوّ في جهة القبلة. واللَّه أعلم

(1)

.

ثم ظاهر هذه الرواية أنهم لم يقضوا الركعة الثانية، فهي توافق الرواية السابقة قبل هذا لابن عباس رضي الله عنه، كما أشار إليه في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه البخاري 2/ 18، وأخرجه المصنف هنا 17/ 1534 وفي "الكبرى" 22/ 1922 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1535 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ إِلاَّ سَجْدَتَيْنِ، كَصَلَاةِ أَحْرَاسِكُمْ هَؤُلَاءِ الْيَوْمَ، خَلْفَ أَئِمَّتِكُمْ هَؤُلَاءِ، إِلاَّ أَنَّهَا كَانَتْ عُقَبًا، قَامَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ جَمِيعًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَجَدَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامُوا مَعَهُ جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ، وَرَكَعُوا مَعَهُ جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ، فَسَجَدَ مَعَهُ الَّذِينَ كَانُوا قِيَامًا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ سَجَدُوا مَعَهُ، فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ، سَجَدَ الَّذِينَ كَانُوا قِيَامًا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ جَلَسُوا، فَجَمَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّسْلِيمِ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبيد اللَّه بن سعد بن إبرهيم) الزهري، أبو الفضل البغداديّ، قاضي أصبهان،

(1)

- "فتح" ج 3 ص 104.

ص: 109

ثقة [11] 17/ 480.

2 -

(عمه) يعقوب بن إبراهيم بن سعد، أبو يوسف المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 312.

3 -

(أبوه) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 312.

4 -

(ابن إسحاق) هو محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبيّ مولاهم، أبو إسحاق المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلّس، ورمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5] 5/ 480.

5 -

(داود بن الحُصين) الأمويّ مولاهم، أبو سليمان المدني، ثقة، إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج [6] 20/ 1226.

6 -

(عكرمة) مولى ابن عباس، أبو عبد اللَّه المدني، ثقة ثبت عالم بالتفسير، ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة [3] 2/ 325.

7 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 310 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: مَا كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ إِلاَّ سَجْدَتَيْنِ) أي ركعتين (كَصَلَاةِ أَخرَاسِكُمْ) بالحاء المهملة، جمع حارس، قال المجد: حَرَسَه حَرْسًا، وحِرَاسَةً، فهو حارسٌ، جمعه حَرَسٌ -أي بفتحتين-، وأَخرَاسٌ، وحُرَّاسٌ -أي بالضمّ-، والحَرَسِيّ واحد حَرَس السلطان. انتهى

(1)

وقال ابن منظور: حَرَسَ الشيءَ يحرُسُهُ -أي بالضمّ-، ويَحْرِسُهُ -أي بالكسر-: حَفِظَهَ، وهم الحُرَّاسُ، والحَرَسُ، والأَحراسُ، قال: والحَرَس: حَرَسُ السلطان، وهم الحُرَّاس، الواحد حرسيّ، لأنه قد صار اسم جنس، فنسب إليه، ولا تقل: حارسٌ، إلا أن تذهب به إلى

(1)

- "ق" مادة حرس.

ص: 110

معنى الحِرَاسة، دون الجنس. وقال أيضًا: والحَرَس: خدم السلطان المُرَتَّبُون لحفظه وحراسته انتهى

(1)

.

ووقع في بعض نسخ "المجتبى" بالخاء المعجمة، وهو تصحيف.

(هَؤُلَاءِ) بدل من "أحراسكم"(الْيَوْمَ) ظرف لـ"أحراسكم"، وكذا قوله (خَلْفَ أَئِمَّتِكُمْ هَؤُلَاءِ، إِلاَّ أَنهَا كَانَتْ عُقَبًا) بضمّ، ففتح، جمع عُقْبة بضم، فسكون، وهي النوبة، مثل غُرْفَة وغُرَف، والمعنى أن طائفة سجدت بعد طائفة (قَامَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) هذا بيان لمعنى العُقَب (وَهُمْ جَمِيعًا مَعَ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محل نصب على الحال (وَسَجَدَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَامَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامُوا مَعَهُ جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ، وَرَكَعُوا مَعَهُ جَميعًا) أي ركع الطائفتان معه صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ سَجَدَ، فَسَجَدَ مَعَهُ الَّذَينَ كَانُوا قِيَامًا أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعني الطائفة الأولى التي كانت تحرس حينما سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالذين وراءه (فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ سَجَدُوا مَعَهُ، فِي آخِرِ صَلَاتهِمْ") وهم الطائفة الأولى في الحراسة (سَجَدَ الَّذِينَ كَانُوا قِيَامًا لأَنْفُسِهِمْ) وهم الطائفة الثانية في الحراسة (ثُمَّ جَلَسُوا، فَجَمَعَهُمْ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّسْلِيم) أي سلم صلى الله عليه وسلم، وسلم الطائفتان معه.

وهذي الكيفيَة هي الكيفية الثالثة من الكيفيات التي ذكرها المصنف، وحاصلها أن الطائفتين جميعًا دخلوا في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وركعوا معه، ثم سجدت معه في الركعة الأولى طائفة، وحرست أخرى، ثم سجدت هذه معه في الركعة الثانية، وسجدت الأولى لنفسها، ثم سلموا كلهم معه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث في سنده داود بن الحصين، وهو وإن كان ثقة، إلا أنه منكر الحديث في عكرمة، كما قاله ابن المديني، وغيره، إلا أن لحديثه هذا شواهدَ، فيصحّ بها.

وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى- من بين أصحاب الأصول، وأخرجه أحمد 1/ 265. واللَّه تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1536 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَفَّ صَفًّا خَلْفَهُ، وَصَفًّا مُصَافُّو الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قَامُوا، فَقَضَوْا رَكْعَةً رَكْعَةً".

(1)

- "لسان العرب" مادة حرس.

ص: 111

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاّس تقدم قريبا.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان، تقدم قريبًا.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المثبت الشهير [7] 24/ 26.

4 -

(عبد الرحمن بن القاسم) بن محمد المدني، ثقة فاضل [6] 120/ 166.

5 -

(القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي المدنيّ، ثقة فاضل فقيه [3] 120/ 166.

6 -

(صالح بن خَوَّات) -بفتح المعجمة، وتشديد الواو- ابن جبير بن النعمان الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [4].

روى عن أبيه، وخاله، وسهل بن أبي حَثْمَة. وعنه ابنه جُبير، ويزيد بن رُومان، وعامر بن عبد اللَّه بن الزبير، والقاسم بن محمد.

قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: قليل الحديث. أخرج الجماعة حديث الباب فقط.

7 -

(سهل بن أبي حثمة) الأنصاري الخزرجي المدنيّ، صحابي صغير ابن صحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وُلد سنة ثلاث من الهجرة 5/ 7480 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة، أصحاب الأصول الذين رووا عنهم من غير واسطة، وهم تسعة، وقد جمعهتم في قولي:

اشتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُ الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

في تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌ السَّرِي

وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارِ كَذَا

ابْنُ المُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبالمدنيين بعده. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: عبد الرحمن، عن أبيه القاسم، عن صالح بن خوّات، وكلهم مدنييون. (ومنها): أن فيه القاسم بن محمد من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة المجموعين في قول بعضهم:

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي النَّاسِ سَبعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتُهُمْ لَيسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ

ص: 112

فَقُلْ هُمْ عُبَيدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمْ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيمَانُ خَارِجَهْ

وقد تقدّم هذا كلّه غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا لطول العهد به. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) -بفتح المهملة، وسكون المثناة، واسمه عبد اللَّه، وقيل: عامر، وقيل: اسم أبيه عبد اللَّه، وأبو حَثْمة جدّه، واسمه عامر بن ساعدة، وهو أنصاريّ، من بني الحارث بن الخزرج.

واتفق أهل العلم بالأخبار على أن سهلاً كان صغيرًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا ما ذكر ابن أبي حاتم، عن رجل من ولد سهل أنه حدّثه أنه بايع تحت الشجرة، وشهد المشاهد، إلا بدرًا، وكان الدّليلَ للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُحُد.

وقد تعقّب هذا جماعة من أهل المعرفة، وقالوا: إن هذه الصفة لأبيه، وأما هو فمات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان سنين، وممن جزم بذلك الطبريّ، وابن حبّان، وابن السكن،، وغير واحد، وعلى هذا فتكون روايته لقصة صلاة الخوف مرسلة، ويتعيّن أن يكون مراد صالح بن خوّات في الرواية التالية:"عمن صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف" غيرَهُ، والذي يظهر أنه أبوه، كما سيأتي، إن شاء اللَّه تعالى. أفاده في الفتح"

(1)

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهمْ) أي بالصحابة رضي الله عنهم، ولفظ أبي داود:"صلى بأصحابه في خوف"(صَلَاةَ الْخَوْفِ) الظاهر أنها غزوة ذات الرقاع، كما صرّح به في الرواية التالية (فَصَفَّ صَفًا خَلْفَهُ، وَصَفًا مُصَافُّو الْعَدُوِّ) خبر لمحذوف، هم مصافّوا العدوّ، والجملة في محل نصب صفة لـ"صفّا"(فَصَلَّى بهِمْ رَكْعَةَ) أي صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذين صفّوا خلفه ركعة، ولم يُبيّن في هذه الرواية أن الطائفة الأولى أتَمّوا لأنفسهم الركعة الباقية.

وقد بُيّن ذلك في رواية مسلم، ولفظها، من طريق معاذ بن معاذ، عن شعبة:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه في الخوف، فصفّهم خلفه صفّين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام، فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا، وتأخر الذين كانوا قدّامهم، فصلى بهم ركعةً، ثم قعد، حتى صلى الذين تخلّفوا ركعةً، ثم سلم". (ثُمَّ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ) أي الذين صلّوا معه الركعة الأولى، وأتموا لأنفسهم (وَجَاءَ أُولَئِكَ) أي الذين كانوا مصافّي العدوّ (فَصَلَّى بهِمْ رَكْعَةً) أي الركعة الثانية له (ثُمَّ قَامُوا، فَقَضَوْا

(1)

- "فتح" ج 8 صلى الله عليه وسلم 189 - 190.

ص: 113

رَكْعَةً رَكْعَةً") أي قضى كل رجل من الطائفة الثانية لنفسه الركعة الباقية. بعد ما سلّم النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذه الرواية صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم سلم بعد ما أتمّت الطائفة الثانية صلاتها، وهي تخالف روايةَ المصنف الآتية برقم "1553" وروايةَ مالك في "الموطإ"، ولفظها:

عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خَوَّات: أن سهل بن أبي حثمة حدّثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام، ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدوّ، فيركع الإمام ركعة، ويسجد سجدةً بالذين معه، ثم يقوم، فإذا استوى قائمًا ثبت، وأتمّوا لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون، وينصرفون، والإمام قائم، فيكونون وِجَاه العدوّ، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا، فيكبّرون وراء الإمام، فيركع بهم الركعة، ويسجد، ثم يسلم، فيقومون، فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلّمون" انتهى

(1)

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: وهذا الذي رجع إليه مالك، بعد أن قال بحديث يزيد ابن رُومان، وإنما اختاره، ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات أن الإمام لا ينتظر المأموم، وأن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام، قال: وهذا الحديث موقوف عند رواة "الموطإ"، ومثله لا يقال بالرأي، وقد جاء مرفوعا مسندًا انتهى.

وتابع مالكًا على وقفه يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى الأنصاريّ، في الرواية الآتية للمصنف في -1553 - ويحيى القطان، وعبد العزيز بن أبي حازم، كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عند البخاريّ، ورفعه يحيى القطان في روايته عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خَوّات، عن سهل بن أبي حثمة، كما في رواية الباب، قال ابن عبد البرّ: وعبد الرحمن بن القاسم أسنّ من يحيى بن سعيد، وأجلّ. انتهى.

والحاصل أن حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه صحّ مرفوعًا وموقوفاً .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث سهل بن أبي حثمة - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

(1)

- "الموطأ" بنسخة الزقاني ج1 ص 370.

ص: 114

أخرجه هنا -17/ 1536 - وفي "الكبرى" 22/ 1924 - بالسند المذكور. وفي 17/ 1553 - و"الكبرى" 22/ 1941 - عن أبي حفص عمرو بن عليّ، عن يحيى القطان، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خَوَّات، عن سهل بن أبي حَثْمَة في صلاة الخوف، قال: يقوم الإمام

الحديث، موقوفًا عليه. واللَّه أعلم.

المسالة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 5/ 146 و 5/ 145 و 5/ 146 (م) 4/ 212. (د) 1237 و 1239 (ت) 565 و 566 (ق) 1259. و (أحمد) 3/ 448 و (الدارمي) 1530 و 1531.

و (ابن خزيمة) 1356 و 1357 و 1358. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1537 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، صَلَاةَ الْخَوْفِ، أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لأَنْفُسَهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد، تقدم قريبًا.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه [7] 7/ 7.

3 -

(يزيد بن رُومَان) الأسديّ، أبو رَوْح المدني، مولى آل الزبير، ثقة [5].

روى عن ابن الزبير، وأنس، وصالح بن خوّات، وغيرهم. وعنه هشام بن عروة، وابن إسحاق، ومالك، وغيرهم.

وثقه ابن معين، والنسائي، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان عالما كثير الحديث، مات سنة (150). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 1537 و 2234 و 2903 و 3452.

4 -

(صالح بن خَوَّات) المذكور في السند السابق.

5 -

(من صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ رحمه الله: قيل: إن اسم هذا المبهم سهل بن أبي حثمة، لأن القاسم بن محمد روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خَوّات، عن سهل بن أبي حثمة، وهذا هو الظاهر من رواية البخاريّ، ولكن الراجح أنه أبوه خوّات بن جُبير، لأن أبا أويس روى هذا الحديث عن يزيد بن رُومَان شيخ مالك

ص: 115

فيه، فقال: عن صالح بن خوّات، عن أبيه. أخرجه ابن مَنْدَهْ في "معرفة الصحابة" من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقيّ من طريق عبد اللَّه بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوّات، عن أبيه. وجزم النوويّ في "تهذيبه" بأنه خوّات بن جُبير، وقال: إنه محقق من رواية مسلم وغيره. وسبقه لذلك الغزاليّ، فقال: إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوّات بن جُبير. وقال الرافعي في "شرح الوجيز": اشتهر هذا في كتب الفقه، والمنقول في كتب الحديث رواية صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حَثْمَة، وعمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلعلّ المبهم هو خوّات والد صالح. قال الحافظ: وكأنه لم يقف على رواية خوّات التي ذكرتها، وباللَّه تعالى التوفيق.

ويحتمل أن صالحًا سمعه من أبيه، ومن سهل بن أبي خثْمة، فلذلك يُبهمه تارة، ويعيّنه أخرى، إلا أن تعيين كونها كانت ذات الرقاع إنما هو في روايته عن أبيه، وليس في رواية صالح، عن سهل أنه صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وينفع هذا فيما سنذكره قريبًا من استبعاد أن يكون سهل بن أبي حثمة كان في ست تاريخ من يخرج في تلك الغَزَاة، فإنه لا يلزم من ذلك أن لا يرويها، فتكون روايته إياها مرسل صحابيّ، فبهذا يقوى تفسير الذي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بخّوّات، واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ) بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الواو، آخره مثناة، أي ابن جبير بن النعمَان الأنصاري، وصالح تابعيّ ثقة، ليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث الواحد

(2)

، وأبوه أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وهو صحابيّ جليل، أول مشاهده أحد، ومات بالمدينة سنة أربعين. أفاده في "الفتح"

(3)

(عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ذكرنا آنفًا أن الراجح أنه أبوه خَوّات (يَومَ ذَاتِ الرِّقَاعِ) بكسر الراء جمع

(1)

- "فتح" ج 8 ص 186.

(2)

- قاله في "تت" ج 2 ص 192 طبع مؤسسة الرسالة.

(3)

- "فتح" ج 8 ص 186.

ص: 116

الرُّقعة بمعنى الخِرْقة، وهي القطعة من الثوب، سميت هذه الغزوة ذات الرقاع، لأن الظهر كان قليلاً، وأقدام المسلمين نَقِبَت من الحَفَاء، فلفّوا عليها الخِرَق، وهي الرقاع.

رواه البخاريّ ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو الصحيح في تسميتها. وقيل: لأنهم رقّعوا فيها راياتهم. وقيل: بشجرة في ذلك الموضع، يقال له: ذات الرقاع. وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع. وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض. قاله ابن حبّان. وقال الواقدي: سميت بجبل هناك، فيه بُقَع، وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحّف جبل بخيل. وقد رجّح السهيلي، والنوويّ السبب الذي ذكره أبو موسى، ثم قال النووي: ويحتمل أن تكون سميت بالمجموع، وأغرب الداوديّ، فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها. كذا في "الفتح".

واختُلف في هذه الغزوة متى كانت، فجنح البخاريّ في "الصحيح" إلى أنها كانت بعد خيبر، وعن ابن إسحاق أنها بعد بني النضير، وقبل الخندق، سنة أربع، وعند ابن سعد، وابن حبّان أنه كان في المحرم سنة خمس. وقد تقدم الكلام في هذا في التنبيهات التي في أوَّل "كتاب صلاة الخوف".

(صَلَاةَ الْخَوْفِ) مفعول "صلّى"(أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ) أي للصلاة (وَطَائِفَةٌ) بالنصب عطفا على "طائفة"، ويجوز الرفع على الابتداء، أي وطائفة أخرى (وِجَاهَ الْعَدُوِّ) بكسر الواو، وضمها، أي مقابل العدوّ، ونُصب على الظرفية، إما عطفًا على "معه"، أو متعدق بخبر المبتدإ، إن كان "طائفة"، مبتدءًا (فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ) لما قام إلى الركعة الثانية (ثَبَتَ) حال كونه (قَائِمًا، وَأتَمُّوا) أي الطائفة التي صلى بها الركعة الأولى (لأَنْفُسِهِمْ) الركعة الثانية (ثُمَّ) بعد سلامهم (انْصَرَفُوا) إلى وجه العدوّ (فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ) أي وهم في غير حالة الصلاة (وَجَاءَتِ الطائِفَةُ الأُخْرَى) التي كانت مواجهة العدوّ إلى مكان الطائفة الأولى، فاقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم (فَصَلَّى بِهمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتهِ) وهي الركعة الثانية له (ثُمَّ ثَبَتَ) صلى الله عليه وسلم حال كونه (جَالِسًا) في التشهْد، ولم يخرج من صلاته بسلام (وَأَتَمُّوا) أي الطائفة الثانية (لأَنْفُسِهِمْ) الركعة الأخرى، وجلسوا معه في التشقد (ثُمَّ سَلَّمَ بهِمْ) أي معهم، ليحصل لهم فضيلة التسليم معه صلى الله عليه وسلم، كما حصل للأولى فضيلة التحريم معه، وقد صلى كل طائفة معه صلى الله عليه وسلم ركعةً، وركعة لأنفسهم وُحدانا، وهذه إحدى الكيفيات الثابتة في صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختارها الشافعيّ، وأحمد -رحمهما اللَّه تعالى-، وسيأتي في المسألة الرابعة تحقيق القول في ذلك، إن شاء اللَّه تعالى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو

ص: 117

المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا 17/ 1537 - وفي "الكبرى" 22/ 1925 بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 5/ 145 (م) 2/ 214 (د) 1238 و (مالك في الموطإ). 130 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في كيفية صلاة الخوف:

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: كان مالك يقول بحديثه عن يزيد بن رُومان أن الإمام ينتظر تمام الطائفة الثانية، ويسلّم بهم، وهو قول الشافعيّ، واختياره، ثم رجع مالك عن ذلك إلى حديث يحيى بن سعيد، عن القاسم أن الإمام يسلّم إذا أكمل صلاته، ويقوم مَن وراءه، فيأتون بركعة، ويسلّمون. وقد زاد ابن القاسم في "الموطإ" في آخر حديث يحيى بن سعيد: وقال مالك: هذا الحديث أحبّ إليّ. قال أحمد بن خالد: وبه قال جماعة أصحاب مالك، إلا أشهب، فإنه أخذ بحديث ابن عمر في صلاة الخوف. ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم بن محمد القياسُ على سائر الصلوات في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء، وأن السنّة المجتمع عليها أن يقضي المأمون ما سُبقوا به بعد سلام الإمام. وقول أبي ثور في ذلك كقول مالك سواءً، لحديث القاسم، عن صالح بن خوّات، عن سهل ابن أبي حثمة. وقال الشافعي: حديث يزيد بن رُومان، عن صالح بن خَوّات مسندٌ، والمصير إليه أولى من حديث القاسم، لأنه موقوف

(1)

، قال: وهو أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب اللَّه عز وجل.

ومن حجته أن اللَّه عز وجل ذكر استفتاح الإمام ببعضهم لقوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] وذكر انصراف الطائفتين، والإمام من الصلاة معا بقوله:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء:103] ذلك للجميع، لا للبعض، ولم يذكر أن على واحد منهم قضاءً، قال: وفي الآية دليل على أن الطائفة الثانية لا تدخل في الصلاة إلا بانصراف الأولى،

(1)

- الصحيح أنه صح مرفوعًا من طريق القاسم، كما تقدم للمصنف قبل هذا رقم 1536.

ص: 118

لقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} وفي قوله: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} دليل على أن الطائفة الثانية تنصرف، ولم يبق عليها من الصلاة شيء تفعله بعد الإمام.

هذا كله نَزَعَ به بعض أصحاب الشافعيّ بالاحتجاج له على الكوفيين وغيرهم.

ولم يختلف قول مالك، والشافعيّ، وأبي ثور أن الإمام إذا قرأ في الركعة الثانية بأم القرآن وسورة قبل أن تأتي الطائفة الأخرى، ثم أتته، فركع بها حين دخلت معه، قبل أن تقرأ شيئا أنه يجزئهم، إلا أن الشافعي قال: إن أدركوا معهم ما يمكنهم فيه قراءة فاتحة الكتاب فلا يجزئهم إلا أن يقرؤها.

قال الجامع: قد تقدم في باب القراءة أن الراجح أن المسبوق إذا أدرك الركوع ولم يدرك القراءة لا تجزئه تلك الركعة، بل لا بدّ من قضائها بعد سلام الإمام، لأنه لا صلاة إلا بأم القرآن. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

قال أبو عمر: وقول أحمد بن حنبل في صلاة الخوف كقول الشافعي سواءً على حديث سهل بن أبي حثمة، وروايةُ يزيد بن رُومان هو المختار عند أحمد، وكان لا يَعيب مَن فعل شيئًا من الأوجه المروية في صلاة الخوف، قال: ولكني أختار حديث سهل بن أبي حثمة، لأنه أنكى للعدوّ. وقال الأثرم: قلت له: حديث سهل بن أبي حثمة تستعمله، والعدوّ مستقبلُ القبلة، وغيرُ مستقبلها؟ قال: نعم هذا أنكى لهم، لأنه يصلي بطائفة، ثم يذهبون، ثم يصلي بأخرى، ثم يذهبون.

واختار داود بن عليّ وأصحابه أيضًا حديث سهل بن أبي حثمة من رواية يزيد بن رومان، وغيره، عن صالح بن خَوّات، عن سهل بن أبي حثمة.

قال: وأما أبو حنيفة وأصحابه، إلا أبا يوسف، فإنهم ذهبوا إلى ما رواه الثوريّ، وشريك، وزائدة، وابن فضيل، عن خُصيف، عن أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبيه، قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بطائفة، وطائفة مستقبلو العدوّ، صلى بالذين وراءه ركعة وسجدتين، وانصرفوا، ولم يسلّموا، فوقفوا بإزاء العدوّ، ثم جاء الآخرون، فقاموا مقامهم، فصلى بهم ركعة، ثم سلم، فقام هؤلاء، فصلّوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، وذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي القبلة، ورجع أولئك إلى مقامهم، فصلّوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا

(1)

.

وروى أبو الأسود، عن عروة بن الزبير، عن مروان، عن أبي هريرة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فذكر مثل حديث ابن مسعود سواء

(2)

.

(1)

- أخرجه أبو داود، وفيه خُصيف بن عبد الرحمن مختلف فيه، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه.

(2)

- سيأتي للمصنف رقم 1543.

ص: 119

وأما الثوري فخَيَّرَ في صلاة الخوف على ثلاثة أوجه: (أحدها): حديث ابن مسعود الذي ذهب إليه أبو حنيفة. (والثاني): حديث أبي عياش الزُّرقي

(1)

، وإليه ذهب ابن أبي ليلى جملة، وذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه إذا كان العدوّ في القبلة. (والثالث): حديث ثعلبة بن زهدم، عن حُذيفة

(2)

. انتهى كلام ابن عبد البرُ بتصرّف

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحق أن كل ما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه فعله، يجوز العمل به، كما قال الإمام أحمد وغيره، وأن اختيار بعض الكيفيات يكون على حسب المصالح المترتبة عليه، فأيّ كيفية كانت أحوط في الحراسة، فهي الأولى بالنسبة لتلك الحالة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1538 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ انْطَلَقُوا، فَقَامُوا فِي مَقَامِ أُولَئِكَ، وَجَاءَ أُولَئِكَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً أُخْرَى، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ هَؤُلَاءِ فَقَضُوا رَكْعَتَهُمْ، وَقَامَ هَؤُلَاءِ فَقَضُوا رَكْعَتَهُمْ".

رجال هذا الإسناد: سنة:

1 -

(إِسْمَعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ) الجَحْدريّ البصري، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة الصنعاني، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم تقدم قريبًا.

5 -

(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 23/ 490.

6 -

(عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، ومعمر، وإن كان يمنيّا،

(1)

- سيأتي للمصنف رقم -1549 و1550.

(2)

- تقدم للمصنف برقم 1529.

(3)

- "الاستذكار" ج 7 ص 67 - 73. "التمهيد" ج 15/ 257.

ص: 120

إلا أنه بصريّ الأصل، ونصفه الثاني مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه سالم من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً) وفي الرواية التالية: "قال: غزوت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نجد، فوازينا العدوّ، وصاففناهم، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، فقامت طائفة منّا معه، وأقبلت طائفة على العدوّ

".

(وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ) أي مقابلتُهُ (ثُمَّ انْطَلَقُوا) أي ذهبت الطائفة التي قامت معه بعد أن صلى بها ركعة (فَقَامُوا فِي مَقَامِ أُولَئِكَ) أي الذين واجهوا العدوّ (وَجَاءَ أُولَئِكَ، فَصَلَّى بِهمْ رَكْعَةً أُخْرَى) هي الركعة الثانية له (ثُمّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ) أي على الطائفة الثانية (فَقَامَ هَؤُلَاءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهُمْ، وَقَامَ هَؤُلَاءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهُمْ) وفي الرواية الآتية: "ثم قام كل رجل من الطائفتين، فصلى كل رجل لنفسه ركعة، وسجدتين".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهره أنهم أتمّوا لأنفسهم في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب، وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإمام وحده، ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه: ثم سلم، فقام هؤلاء -أي الطائفة الثانية- فقضوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم، فصلّوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا" انتهى.

وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها، ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، ووقع في الرافعي تبعًا لغيره من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت، وجاءت الطائفة الأولى، فأتموا ركعة، ثم تأخروا، وعادت الطائفة الثانية، فأتموا، ولم نقف على ذلك في شيء من الطرق.

واستدلّ بقوله: "طائفة" على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بدّ أن تكون التي تحرس يحصل الثقة بها في ذلك، والطائفة تطلق على الكثير والقليل، حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة، ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد، ويحرس واحد، ثم يصلي الآخر، وهو أقلّ ما يتصوّر في صلاة الخوف جماعة على القول بأقل الجماعة مطلقًا، لكن قال الشافعيّ: أكره أن تكون كل طائفة أقلّ من ثلاثة، لأنه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله:{أَسْلِحَتَهُمْ} . ذكره النوويّ في "شرح مسلم" وغيره.

ص: 121

واستدلّ به على عظم أمر الجماعة، بل على ترجيح القول بوجوبها، لارتكاب أمور كثيرة لا تُغتفر في غيرها، ولو صلى كل امرئ منفردًا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك

(1)

.. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -17/ 1538 - وفي "الكبرى"-22/ 1928 - بالسند المذكور، وفي 1539 - و"الكبرى" 1929 - عن كثير بن عُبيد، عن بقية، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري به. و 1540 - و"الكبرى" 1926 - عن محمد بن عبد اللَّه بن عبد الرحيم البَرْقيّ، عن عبد اللَّه بن يوسف، عن سعيد بن عبد العزيز، عن الزهريّ به.

و1541 - و"الكبرى" 1927 - عن عمران بن بكّار، عن محمد بن المبارك، عن الهيثم ابن حميد،، عن العلاء، وأبي أيوب، كلاهما عن الزهري، عن ابن عمر. و 1542 - و"الكبرى" 1935 - عن عبد الأعلي بن واصل بن عبد الأعلى، عن يحيى بن آدم، عن سفيان الثوريّ، عن موسى بن عُقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 17 و 2/ 18 و 5/ 146 و 6/ 38 (م) 2/ 212 (د) 1243 (ت) 564 (ق) 1258 (مالك في الموطإ) 130 (أحمد) 2/ 132 و 147 و 150 و 155 (الدارمي) 1529 (ابن خزيمة) 980 و 981 و 1354 و 1355 و 1366 و 13670 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1539 -

أَخْبَرَنِي

(2)

كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ، وَصَافَفْنَاهُمْ

(3)

، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي بِنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مِنَّا مَعَهُ، وَأَقْبَلَ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ مَعَهُ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَكَانُوا

(4)

مَكَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَرَكَعَ

(1)

- "فتح" ج 3 ص 101 - 102.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

- وفي نسخة "وصففناهم".

(4)

- وفي نسخة "وكانوا"

ص: 122

بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً، وَسَجْدَتَيْنِ".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(كثير بن عُبيد) أبو الحسن الحمصى الحَذّاء المقرئ، ثقة [10] 5/ 486.

2 -

(بقية) بن الوليد الحمصيّ، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 55.

3 -

(شعيب) بن أبي حمزة الحمصي، ثقة ثبت [7] 69/ 85.

والباقون تقدموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده بقية بن الوليد، وهو كثير التدليس عن "الضعفاء" كما سبق آنفًا، وقد عنعنه؟.

[قلت]: لم ينفرد به بقية، بل تابعه أبو اليمان الحكم بن نافع في روايته عن شعيب ابن أبي حمزة، عند البخاريّ في "صحيحه" ج 2/ 17 و5/ 146، فالحديث به صحيح، فتنبه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "قِبَل نجد" بكسر، ففتح، منصوب على الظرفية، أي جهة نجد، و، "النجد" بفتح، فسكون: كل ما ارتفع من بلاد العرب من تهامة إلى العراق، وقال الأبهريّ: المراد هنا نجد الحجاز، لا نجد اليمن. قال العينيّ والقسطلاني: هذه الغزوة هي غزوة ذات الرقاع.

وقوله: "فوازينا العدو" بالزاي، من الموازاة، وهي المقابلة والمواجهة، وأصله من الإزاء بهمزة في أوله، قال الجوهريّ: يقال: هو بإزائه، أي بحذائه، وقد آزيته: إذا حاذيته، ولا تقل: وازيته بالواو.

فعلى هذا أصل وازينا آزينا، قُلبت الهمزة واوًا. وقال القاري بعد نقل كلام الجوهريّ: لكن رواية المحدثين مقدمة على نقل اللغويين، مع أن المثبت مقدم على النافي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، لا سيما وقد وافقهم صاحب "النهاية"، أو هما لغتان، كالمواكلة، والمواخذة انتهى

(1)

.

وقوله: "فقام كل رجل من المسلمين، فركع لنفسه الخ" فيه دليل على أن المسبوقين يصلي كل منهم لنفسه، ولا يُشرع لهم أن يقدّموا أحدهم فيصلوا خلفه جماعة، لأنهم في حكم صلاة الإمام الذي سلّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو

(1)

- انظر "المرعاة" ج5 ص5.

ص: 123

حسبنا، ونعم الوكيل.

1540 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، يُحَدِّثُ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَصَفَّ خَلْفَهُ طَائِفَةٌ مِنَّا، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَرَكَعَ بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَصَلُّوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَصَلَّى لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَبدِ الرَّحِيمِ) بن سَعْيَهْ

(1)

بن أبي زرعة، المصريّ، أبو عبد اللَّه بن الْبَرْقِيُّ -بفتح الموحدة، وسكون الراء- مولى بني زُهرة، وقد يُنسب إلى جدّه، قيل:"البَرْقيّ" لأنه كان يتّجر هو وأخوه إلى بَرْقَة، ثقة [11].

روى عن أسد بن موسى، وموسى بن هارون، وعبد اللَّه بن يوسف التنّيسيّ، وغيرهم. وعنه أبو داود، والنسائي، وابنه عبيد اللَّه، وأبو حاتم، وغيرهم.

قال النسائيّ: لا بأس به. وقال ابن يونس: كان ثقة، حدّث بكتاب "المغازي" عن عبد الملك بن هشام، توفي في جمادى الآخرة سنة (249). تفرّد به المصنف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث.

2 -

(عبد اللَّه بن يوسف) التنّيسيّ -بمثناة، ونون ثقيدة، بعدها تحتانية، ثم مهملة- أبو محمد الكَلاعيّ المصريّ، أصله من دمشق، نزيل تِنِّيس، ثقة متقن، من أثبت الناس في "الموطإ"، من كبار [10] 129/ 192.

3 -

(سعيد بن عبد العزيز) التَّنُوخِيّ الدمشقيّ، ثقة إمام، لكنه اختلط في آخره [7] 5/ 460.

والباقون تقدموا قريبًا، والحديث، وإن كان فيه انقطاع كما سينبه عليه المصنف، في الرواية التالية، إلا أنه صحيح بما سبق، وما يأتي، فتنبه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1541 -

أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ، قَامَ، فَكَبَّرَ، فَصَلَّى خَلْفَهُ طَائِفَةٌ مِنَّا، وَطَائِفَةٌ مُوَاجِهَةَ

(1)

- ضبطه ابن ماكولا سَعْيَهْ بسكون العين المهملة، وفتح التحتانية، ثم هاء. قاله في "تت" ج 3 ص 609. فما وقع في "ت" من أنه سعيد فتصحيف. فتنبه.

ص: 124

الْعَدُوِّ، فَرَكَعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَلَمْ يُسَلِّمُوا، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ، فَصَفُّوا مَكَانَهُمْ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَصَفُّوا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَتَمَّ رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ قَامَتِ الطَّائِفَتَانِ، فَصَلَّى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ.

قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السُّنِّيِّ: الزُّهْرِيُّ سَمِعَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثَيْنِ، وَلَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْهُ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمران بكّار) بن راشد الكلاعيّ أبو موسى البرّاد -بموحدة ثقيلة- الحمصيّ المؤذن، ثقة [11].

روى عن الحسن بن خُمَير، وبشر بن أبي حمزة، ومحمد بن المبارك الصّوريّ، وغيرهم. وعنه النسائي، وأبو حاتم، ومحمد بن جرير الطبريّ، وغيرهم. قال النسائيّ: ثقة. وقال مَسلمة بن قاسم: لا بأس به، مات بحمص سنة (271). تفرّد به المصنّف، وروى عنه في هذا الكتاب عشرين حديثًا.

2 -

(محمد بن المبارك) بن يعلى القرشيّ الصوريّ، أبو عبد اللَّه القلانسيّ، سكن دمشق، ثقة، من كبار [10].

روى عن الهيثم بن حُميد، ومعاوية بن سلاّم، وصدقة بن خالد، وغيرهم. وعنه ابنه محمد، وعمران بن بكار، والذهليّ، وغيرهم. قال أبو زرعة الدمشقي، عن الوليد بن عتبة: سمعت مروان بن محمد يقول: ليس فينا مثله. قال أبو زرعة: وشهدت جنازته في شوّال سنة (215) وصلى عليه أبو مسهر، فلما فرغ أثنى عليه، وقال: -يَرَحِمَهُ اللَّهُ-، فذكر جميلاً. وقال محمود بن خالد: قال ابن معين: محمد بن المبارك شيخ الشام بعد أبي مسهر. وقال العجليّ، وأبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مولده سنة (153) ومات سنة (15) وكان من العبّاد. وذكره ابن شاهين في "الثقات".

وقال الخليليّ: ثقة. وقال الذهليّ: كان أفضل أهل الشام. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط.

3 -

(الهيثم) بن حُميد الغسّانيّ مولاهم، أبو أحمد، أو أبو الحارث الدمشقيّ، صدوق، رمي بالقدر [7] 134/ 204.

4 -

(العلاء) الحارث بن عبد الوارث الحضرميّ، أبو وهب، ويقال: أبو محمد الدمشقي، صدوق فقيه، لكن رمي بالقدر، وقد اختلط [5].

روى عن عبد اللَّه بن بُسر، ومكحول، والزهري، وغيرهم. وعنه الأوزاعي، والهيثم بن حُميد، ويحيى بن حمزة، وغيرهم. قال معاوية بن صالح، عن أحمد: صحيح الحديث، وكذا قال المفضل الغلابي، وقال الدوريّ، عن ابن معين: ثقة، قيل له: في حديثه شيء؟ قال: لا، ولكن كان يرى القدر. وقال ابن المديني: ثقة. وقال

ص: 125

دُحيم: كان مقدمًا على أصحاب مكحول، ثقة. وقال أبو حاتم: لا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أوثق منه، وقال الكناني: قلت لأبي حاتم عنه، فقال: كان يرى القدر، كان دمشقيّا من خيار أصحاب مكحول، صدوقًا في الحديث ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، ولكنه أعلم أصحاب مكحول، وأقدمهم، كان يُفتي حتى خُولط. وقال أبو مسهر: مات يوم مات وهو فقيه الجند، وفي رواية أفقه الجند. مات سنة (136) وهو ابن (70) سنة. روى له الجماعة، سوى البخاري، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 1541 و 4840 و 5435 و 5436.

5 -

(أبو أيوب) الشامي، عن الزهريّ، عن ابن عمر حديث الباب فقط، وعنه الهيثم ابن حميد، مجهول [7]. انفرد به النسائيّ بحديث الباب.

والباقيان تقدما قريبًا، والحديث صحيح بما سبق، ويأتي، وقد تقدم البحث فيه مستوفى قريباُ. وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: (قَالَ: أَبُو بَكرِ ابْنُ السُّنِّيِّ) هو: الحافظ أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الدِّينوريّ، راوي "السنن" عن النسائي، المتوفّى سنة 364 هـ تقدمت ترجمته في مقدّمة هذا الشرح (الزُّهْرِيُّ سَمِعَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثَيْنِ، وَلَمْ يَسْمَعُ هَذَا مِنْهُ) غرضه بهذا بيان الانقطاع الواقع في سند هذا الحديث هنا، والذي قبله، حيث لم يسمعه الزهري من ابن عمر رضي الله عنه. لكن الحديث متصل بذكر سالم في الرواييتن السابقتين، ونافعٍ في الرواية التي بعد هذا، فلا يضره الانقطاع المذكور.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: (اعلم): أنه قد اختُلف في سماع الزهريّ من ابن عمر رضي الله عنهما، فالأكثرون على أنه لم يسمع منه، فعن أحمد أنه قال: لم يسمع الزهريّ من عبد اللَّه بن عمر. وقال أبو حاتم: لا يصحّ سماعه من ابن عمر، رآه، ولم يسمع منه.

وعن ابن معين: ليس للزهريّ عن ابن عمر رواية. وقال الذهلي: لست أدفع رواية معمر عن الزهريّ أنه شهد سالما، وعبدَ اللَّه عمر مع الحجاج في الحج، فقد روى ابن وهب عن عُبيد اللَّه العمريّ، عن الزهريّ نحوه.

ورواية معمر التي أشار إليها الذهليّ أخرجها عبد الرزّاق في "مصنّفه" عنه، ولفظه: كتب عبد الملك إلى الحجّاح أن اقتد بابن عمر في المناسك، فأرسل إليه الحجاج يوم عرفة إذا أردت أن تروح فآذنّاه، فراح هو وسالم، وأنا معهما، وقال في آخره: قال ابن شهاب: وكنت صائمًا، فلقيتُ من الحرّ شدّة. قاله في "تهذيب التهذيب"

(1)

.

[تنبيه]: وقع في نسخة "صحيح النسائي" للشيخ الألباني: ما نصه: قال أبو

(1)

- تت ج 3 ص 698 - 699.

ص: 126

عبد الرحمن: قال أبو بكر ابن السنّي: الزهري سمع من ابن عمر الخ. زيادة أبي عبد الرحمن قبل أبي بكر ابن السنّيّ غلط، لأن ابن السنّي تلميذ لأبي عبد الرحمن النسائي، لا العكسُ فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1553 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ وَاصِلِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ، فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبُوا، وَجَاءَ الآخَرُونَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قَضَتِ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً رَكْعَةً.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبد الأعلي بن واصل بن عبد الأعلى) الأسديّ الكوفيّ، ثقة، من كبار [10] 54/ 618.

2 -

(يحيى بن آدم) بن سليمان، الأمويّ مولاهم، أبو زكريا الكوفي، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] 1/ 451.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري، تقدم قريبًا.

4 -

(موسى بن عُقْبة) بن أبي عيّاش الأسدي مولى آل الزبير، المدني، ثقة فقيه، إمام في المغازي [5] 96/ 122.

5 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.

والصحابي تقدم قريبًا، وكذا الكلام عدى الحديث، وباللَّه تعالى التوفيق.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، رواه المصنف رحمه الله من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا، ورواه مالك رحمه الله في "الموطإ" موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنه، وقال في آخره: قال مالك: لا أرى عبد اللَّه بن عمر حدثه إلا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- في "الاستذكار": هكذا روى مالك هذا الحديث عن نافع على الشكّ في رفعه، ورواه عن نافع جماعة لم يشكّوا في رفعه، وممن رواه مرفوعًا عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير شكّ ابنُ أبي ذئب، وموسى بن عقبة، وأيوب ابن موسى، وكذلك رواه الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه خالد بن معدان، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أحاديثهم عنه بالأسانيد من طرق في "التمهيد"، وكذا ذكرنا من روى مثل ذلك في صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس، وأبي موسى، وأبي هريرة رضي الله عنه في "التمهيد" أيضًا.

ص: 127

وقال بحديث ابن عمر هذا من الفقهاء جماعة، منهم الأوزاعيّ، وإليه ذهب أشهب بن عبد العزيز صاحب مالك. وكان أحمد بن حنبل، ومحمد بن جرير الطبريّ، وطائفة من أصحاب الشافعيّ يذهبون إلى جواز العمل بكلّ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف انتهى كلام أبي عمر -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1543 -

أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ -ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، وَذَكَرَ آخَرَ، قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو الأَسْوَدِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، يُحَدِّثُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ، هَلْ صَلَّيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ. قَالَ: مَتَى؟ قَالَ: عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّ، وَظُهُورُهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَبَّرُوا جَمِيعًا، الَّذِينَ مَعَهُ، وَالَّذِينَ يُقَابِلُونَ الْعَدُوَّ، ثُمَّ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَرَكَعَتْ مَعَهُ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَلِيهِ، ثُمَّ سَجَدَ، وَسَجَدَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَلِيهِ، وَالآخَرُونَ قِيَامٌ، مُقَابِلَ الْعَدُوِّ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ، فَذَهَبُوا إِلَى الْعَدُوِّ، فَقَابَلُوهُمْ، وَأَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ، فَرَكَعُوا، وَسَجَدُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ، كَمَا هُوَ، ثُمَّ قَامُوا، فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً أُخْرَى، وَرَكَعُوا مَعَهُ، وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ، فَرَكَعُوا، وَسَجَدُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ، وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ كَانَ السَّلَامُ، فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَلَّمُوا جَمِيعًا، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ.

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهيمَ) أبو قُدَيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 17/ 898.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبدِ اللَّهِ بْن يَزِيدَ) المقرئ، أبو يحيى المكيّ، ثقة [10] 11/ 11.

3 -

(أبوه) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ المكيّ بصريّ الأصل، ثقة فاضل [9] 4/ 746.

4 -

(حَيْوَةُ) بن شُريح بن صفوان التُّجِيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقة ثبت فقيه زاهد [5] 17/ 478.

[تنبيهٍ]: قوله: "وذكر آخر" أي ذكرُ عبد اللَّه بن يزيد مع حيوة رجلاً آخر حدثه أيضًا، وهو عبد اللَّه بن لَهِيعة، كما صرح به في رواية أبي داود، ومن عادة المصنف رحمه الله

(1)

- "الاستذكار" ج 7 ص 74 - 75.

ص: 128

تعالى أنه إذا روى عن ثقة وقرن معه ابن لهيعة، يبهمه؛ لضعفه، وهكذا يفعل مسلم في "صحيحه" إذا روى عن ضعيف قرنه في الرواية بثقة، وقد تقدم البحث في هذا في المقدمة في [المسألة الخامسة عشرة]، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

5 -

(أَبُو الأَسْوَدِ) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسديّ المدنيّ، يتيم عروة، ثقة [6] 4/ 746.

6 -

(عروة بن الزبير) بن العوّام المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.

7 -

(مروان بن الحكم) بن أبي العاص بن أميّة، أبو عبد الملك الأمويّ المدني، ليست له صحبة، قال عروة بن الزبير: مروان لا يُتَّهَم في الحديث [2] 118/ 163.

8 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخيه، فالأول من أفراده، والثاني من أفواده وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من أبي الأسود. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، أَنهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (هَلْ صَلَّيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ؟، فَقَالَ أَبوَ هُرَيْرَةَ: نَعَمْ، قَالَ:) أي مروان (مَتَى؟) أي فيّ وقت صليتها معه؟ (قَال عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ) أي الغزوة التي كانت في أرض نجد، وهي غزوة ذات الرقاع، وكانت في السنة السابعة بعد خيبر، على ما اختاره البخاريّ رحمه الله، كما تقدّم، فقد قال أبو هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة نجد صلاة الخوف، وإنما جاء أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيام خيبر.

قال الحافظ رحمه الله: يريد بذلك تأكيد ما ذهب إليه من أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد خيبر، لكن لا يلزم من كون الغزوة كانت في جهة نجد أن لا تتعدّد، فإن نجدًا وقع القصد إلى جهتها في عدة غزوات انتهى.

لكن يؤيّد -كما قال بعضهم- ما اختاره البخاريّ ما رواه جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف في الغزوة السابعة ذات الرقاع".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في شرح هذا الحديث: في التنصيص على أنها سابع غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تأييد لما ذهب إليه البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- من أنها كان

ص: 129

بعد خيبر، فإن المراد الغزواة التي وقع فيها القتال، وهي بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمُرَيسيعُ، وخيبر، والسابعة ذات الرقاع انتهى بتصرّف

(1)

.

(قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّ) ولفظ أبي داود: "مقابلي العدو"، وفي نسخة منه "مقابلوا العدوّ"(وَظُهُورُهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ) أي والحال أن ظهور هذه الطائفة إلى جهة القبلة، حيث كان العدوّ في تلك الجهة (فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَبَّرُوا جَمِيعًا، الَّذينَ مَعَهُ، والذينَ يُقَابِلُونَ الْعَدُوَّ، ثُمَّ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةَ وَاحِدَةَ، وَرَكَعَتْ مَعَهُ الطَّائِفَةُ الَّتي تَلِيهِ، ثُمَّ سَجَدَ، وَسَجَدَتِ الطائِفَةُ الَّتي تَلِيهِ، وَالآخَرُونَ قِيَام، مُقَابِلَ) وفي نسخة مقابلة (الْعَدُوَّ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَتِ الطائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ، فَذَهَبُوا إِلَى الْعَدُوَّ، فَقَابَلُوهُمْ) أي قابلوا العدوّ (وَأَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ) وفي نسخة "مقابلة"(الْعَدُوِّ، فَرَكَعُوا، وَسَجَدُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ، كَمَا هُوَ) أي على حالته التي هو عليها، فالكاف بمعنى "على".

[تنبيه]: (اعلم): أن للنحاة في هذه الجملة، وأمثالها أوجه من الإعراب، فقد ذكر ابن هشام الأنصاري في "مغني اللبيب"، في "كن كما أنت": ما خلاصته: وللنحاة في هذا المثال أعاريب:

1 -

أن "ما" موصولة، و"أنت" مبتدأ، حذف خبره.

2 -

أنها موصولة، و"أنت" خبر، حذف مبتدؤه، أي كالذي هو أنت.

3 -

أن "ما" زائدة مُلْغاة، والكاف أيضًا جارّة، و"أنت" ضمير مرفوع أُنيب عن المجرور.

4 -

أن "ما" كافّة، و"أنت" مبتدأ حُذف خبره، أي عليه، أو كائن.

5 -

أن "ما" كافة أيضًا، و"أنت" فاعل، والأصل كما كنت، ثم حذف "كان"، فانفصل الضمير، وهذا بعيد، بل الظاهر أن "ما" على هذا التقدير مصدرية انتهى

(2)

(ثُمَّ قَامُوا) وفي نسخة "قام"(فَرَكعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم برَكْعَةَ أُخْرَى، وَرَكَعُوا مَعَهُ، وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ) وفي نسخة "مقابلة"(الْعَدُوِّ، فَرَكَعُوا، وَسَجَدُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ، وَمَنْ مَعَهُ) لا يخفى أنه في هذه الحالة لم يبقَ أحد في هذه الصورة وِجَاه العدوّ، فكأن هذه الصورة فيما إذا كان الخوف قليلاً بحيث لا يضرّ بقاء أحد وجاه العدوّ، أو لأن العدوّ إذا رأهم ذاهبين، وآيبين لا يجترىء بالإقدام عليهم، بخلاف ما إذا لم يفعلوا ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "فتح" ج 8 ص182.

(2)

- "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" ج1 ص 177 - 179 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

ص: 130

(ثُمَّ كَانَ السَّلَامُ، فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَلَّمُوا جمَيعًا، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ) بالرفع اسم "كان" مؤخّرًا، وخبرها الجارّ والمجرور (وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ).

والحديث فيه بيان صفة من صفات صلاة الخوف، وهي أن تدخل الطائفتان مع الإمام في الصلاة جميعًا، ثم تقوم إحدى الطائفتين بإزاء العدوّ، وتصلي معه إحدى الطائفتين ركعة، ثم يذهبون، فيقومون في وِجاه العدوّ، ثم تأتي الطائفة الأخرى، فتصلي لنفسها ركعة، والإمام قائم، ثم يصلي بهم الركعة التي بقيت معه، ثم تأتي الطائفة القائمة في جاء العدوّ، فيصلّون لأنفسهم ركعة، والإمام قاعد، ثم يسلم، ويسلمون جميعًا .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[فإن قلت]: في إسناده مروان بن الحكم، وقد عاب الإسماعيلي على البخاريّ تخريج حديثه، وعدّ من موبقاته أنه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل، وهما جميعًا مع عائشة، فقتله، ثم وثب على الخلافة بالسيف.

[قلت]: أجيب عنه بجوابين:

(أحدهما): ما ذكره الحافظ في "هدي الساري"، قال: يقال: له رؤية، فإن ثبتت، فلا يُعرّج على من تكلّم فيه، وقال عروة بن الزبير: كان مروان لا يُتّهم في الحديث. وقد روى عنه سهل بن سعد الساعديّ الصحابي رضي الله عنه اعتمادًا على صدقه. قال: فأما قتل طلحة فكان متأولاً فيه، وأما ما بعد ذلك، فإنما حَمَلَ عنه سهلُ بن سعد، وعروةُ، وعليّ بن الحسين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث -وهؤلاء أخرج البخاريّ أحاديثهم عنه في "صحيحه"- لَمّا كان أميرًا عندهم بالمدينة قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا. واللَّه تعالى أعلم. وقد اعتمد مالك على حديثه، ورأيه، والباقون سوى مسلم. انتهى

(1)

.

(ثانيهما): أن حديث الباب سمعه عروة، عن أبي هريرة نفسه، فقد أخرجه ابن خزيمة من طريق محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الأسود، عن عروة، قال: سمعت أبا هريرة، ومروان يسأله عن صلاة الخوف

الحديث، وقد

(1)

- "هدي الساري" ص 620.

ص: 131

صرح ابن إسحاق بالتحديث، فزالت تهمة التدليس. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -17/ 1543 - وفي "الكبرى" 22/ 1931 - بالسند المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 1240 و 1241 (أحمد) 2/ 320 (ابن خزيمة) 1361 و 1362 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1544 -

أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْهُنَائِيُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلاً بَيْنَ ضَجْنَانَ وَعُسْفَانَ، مُحَاصِرَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَبْكَارِهِمْ، أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ، ثُمَّ مِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ أَصْحَابَهُ نِصْفَيْنِ، فَيُصَلِّيَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، وَطَائِفَةٌ مُقْبِلُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، قَدْ أَخَذُوا حِذْرَهُمْ، وَأَسْلِحَتَهُمْ، فَيُصَلِّيَ بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ يَتَأَخَّرَ هَؤُلَاءِ، وَيَتَقَدَّمَ أُولَئِكَ، فَيُصَلِّيَ بِهِمْ رَكْعَةً، تَكُونُ لَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ

(1)

صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً رَكْعَةً، وَلِلنَّبِيٍّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(العباس بن عبد العظيم) بن إسماعيل العَنبريّ، أبو الفضل البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [11] 96/ 119.

2 -

(عبد الصمد بن عبد الوارث) بن سعيد العنبريّ مولاهم التّنّوريّ، أبو سهل البصريّ، صدوق، ثبت في شعبة [9] 122/ 174.

3 -

(سعيد بن عُبيد الهُنَائيّ) -بضم الهاء، وتخفيف النون- البصريّ، لا بأس به [6].

روى عن بكر بن عبد اللَّه المزنيّ، والحسن البصريّ، وعبد اللَّه بن شقيق. وعنه عبد الصمد بن عبد الوارث، وأبو سعيد مولى بني هاشم، وأبو قُتيبة، وغيرهم. قال أبو حاتم: شيخ. وقال البزّار: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الترمذيّ، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(عبد اللَّه بن شَقيق) العُقَيليّ -بالضمّ- أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد البصريّ، ثقة، فيه نصبٌ [3].

(1)

- وفي نسخة "رسول اللَّه".

ص: 132

روى عن عمر، وعثمان، وعليّ، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه ابنه عبد الكريم، ومحمد بن سيرين، وعاصم الأحول، وسعيد بن عُبيد، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، وتال: روى عن عمر، قال: وقالوا: كان عبد اللَّه بن شقيق عثمانيّا، وكان ثقة في الحديث، وروى أحاديث صالحة.

وقال يحيى بن سعيد: كان سليمان التيميّ سيء الرأي في عبد اللَّه بن شقيق. وقال أحمد بن حنبل: ثقة، وكان يحمل على عليّ. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة من خيار المسلمين، لا يُطعن في حديثه. وقال أبو حاتم: ثقة. وقال ابن خِرَاش: كان ثقة، وكان عثمانيّا، يبغض عليّا. وقال ابن عديّ: ما بأحاديثه بأس إن شاء اللَّه تعالى.

وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: ثقة. وقال العجلي: ثقة يَحمل على عليّ. وقال الجُريريّ: كان عبد اللَّه بن شقيق مُجاب الدعوة، كانت تمرّ به السحابة، فيقول: اللَّهمّ لا تجوز كذا وكذا حتى تُمطر، فلا تجوز ذلك الموضع حتى تمطر، حكاه ابن أبي خيثمة في "تاريخه". قال الهيثم بن عديّ، ومحمد بن سعد: توفي في ولاية الحجّاج على العراق. وقال خليفة: مات بعد المائة. وقال غيرهم: مات سنة (108). أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وله ذكر في "صحيحه"، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير سعيد بن عبيد، فتفرد به المصنف، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلاً بَيْنَ ضَجْنَانَ) بفتح الضاد المعجمة، وسكون الجيم: موضع، أو جبل بين مكة والمدينة. قاله ابن الأثير في "النهاية"

(1)

(وَعُسْفَانَ) بضم العين، وسكون السين المهملتين: هي قرية جامعة بين مكة والمدينة، وقيل: هي منهلة من منهل الطريق بين الجحفة ومكة. قاله في

(1)

- "نهاية ابن الأثير" ج 3 ص 74.

ص: 133

"اللسان"، حال كونه (مُحَاصِرَ الْمُشْرِكِينَ) اسم فاعل من المحاصرة، والمراد به حَصْرهم، وهو الإحاطة بهم، يقال: حَصَره العدوُّ حَصْرًا، من باب قتل: أحاطوا به، ومنعوه من المضيّ لأمره. وقال ابن السِّكِّيت، وثَعْلبٌ: حَصَرَه العدوّ في منزله: حَبَسَه، وأحصره المرض بالألف: منعه من السفر، وقال الفرّاء: هذا كلام العرب، وعليه أهل اللغة، وقال ابن القُوطِيّة، وأبو عَمْرو الشيبانيّ: حَصَرَه العدوّ، والمرض، وأحصره، كلاهما بمعنى: حَبَسَه. ذكره الفيّومي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

(فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةً هِيَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَبْكَارِهِمْ) أي بناتهم، وإنما خص الأبكار لأنهن المرغوب فيهنّ عند الناس، ولفظ أحمد: "إن لهم صلاةً، هي أحبّ إليهم من آبائهم، وأبنائهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم

" (أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) أي اتفقوا عليه، يقال: أجمعت المسيرَ والأمرَ، وأجمعت عليه، يتعدى بنفسه، وبالحرف: عزمت عليه، واْجمعوا على الأمر: اتفقوا عليه. أفاده في "المصباح" (ثُمَّ مِيلُوا عَلَيهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً" أي شُدّوا عليهم شَدَّةً واحدةً، وأصيبوهم إصابة واحدةً، يقال: مال عليهم الدهر: أصابهم بجوائحه (فَجَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ أَصْحَابَهُ نِصْفَيْنِ، فَيُصَلِّيَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، وَطَائِفَةٌ مُقْبلُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، قَدْ أَخَذُوا حِذْرَهُمْ) بكسر، فسكون، أو بفتحتين: أي التحرّز منهم (وَأَسْلِحَتَهُمْ، فَيُصَليَ بِهِمْ) أي بالطائفة التي معه (رَكْعَةً، ثُم يَتَأَخَّرَ هَؤُلَاءِ) أي الذين صلّوا ركعة معه (ويتَقَدَّمَ أُولَئِكَ) أي الذين هم مقبلون على العدوّ (فَيُصَلِّيَ بِهمْ رَكْعَةً، تَكُونُ لَهُمْ) أي للطائفتين (مَعَ النَّبِيِّ

(2)

صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً رَكْعَةً) الظاهر أنهم اكتفوا بركعة واحدة، ويحتمل أنهم صلوا لأنفسهم ركعة أخرى، والاحتمال الأول أقوى (وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-17/ 1544 - وفي "الكبرى" 22/ 1932 - بالإسناد المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ت)3035. (أحمد) 2/ 522. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- "المصباح المنير" مادة حصر.

(2)

- وفي نسخة "رسول اللَّه".

ص: 134

1545 -

أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَقَامَ صَفٌّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَصَفٌّ خَلْفَهُ، صَلَّى بِالَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ، حَتَّى قَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ، وَجَاءَ أُولَئِكَ، فَقَامُوا مَقَامَ هَؤُلَاءِ، وَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ، وَلَهُمْ رَكْعَةٌ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ الحَسَنِ) أبو إسحاق المصّيصيّ الْمِقْسِمِيّ، ثقة [11] 51/ 64.

2 -

(حجاج بن محمد) الأعور المصيصي، ثقة ثبت اختلط بآخره [9] 28/ 32.

3 -

(شعبة) بن الحجاج تقدم قريبًا.

4 -

(الحكم) بن عُتيبة، أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، ربما دلّس [5] 86/ 104.

5 -

(يزيد الفقير

(1)

) ابن صُهَيب، أبو عثمان الكوفي، ثقة [4] 26/ 432.

6 -

(جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حَرَام الصحابيّ ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى - عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: الحكم، عن يزيد الفقير. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من الكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - ("أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهمْ) أي الصحابة الذين كانوا معه (صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَقَامَ صَفٌّ بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مقابل العدوّ للحراسة (وَصَفٍّ خَلْفَهُ صَلَّى) وفي نسخة "فصلى" بالفاء، وفي أخرى "يصلي"(بالَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةَ) أي ركوعًا بعد القراءة (وَسَجدَتَيْنِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ) أي الذين صلو ركعة معه (حَتَّى قَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهمْ) أي الذين وجاه العدوّ (وَجَاءَ أُولَئِكَ، فَقَامُوا مَقَامَ هَؤُلَاءِ، وَصَلَّى) وفي نسخة "فصلى"(بهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةَ وَسَجْدَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَكَانَتْ)

(1)

- "والفقير" بفتح الفاء، بعدها قال، قيل له: ذلك لأنه كان يشكو فَقَار ظهره. اهـ "ت".

ص: 135

وفي نسخة "فكان"(لِلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ، وَلَهُمْ رَكْعَةٌ) أي لكلّ رجل من الطائفتين ركعة، وهذا ظاهر في كونهم اكتفوا بركعة واحده، وأصرح منه الرواية التالية لهذه من طريق عبد الرحمن المسعوديّ، عن يزيد الفقير بلفظ:"ثم إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سلّم، فسلّم الذين خلفه، وسلم أولئك"، ففيه أن الطائفتين سلموا بسلامه صلى الله عليه وسلم، فلو كانوا صلوا ركعة أخرى لبُيّن كما بُيّن في الروايات الأخرى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -17/ 1545 - وفي "الكبرى" 22/ 1933 - بالسند المذكور. وفي 1546 - و"الكبرى" 1934 - عن أحمد بن المقدام، عن يزيد بن زريع، عن عبد الرحمن ابن عبد اللَّه المسعوديّ، يزيد الفقير، عنه. والحديث من أفراد المصنف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) 3/ 298. (ابن خزيمة) 1347 و 1348 و 1364. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1546 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنِي يَزِيدُ الْفَقِيرُ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَتْ خَلْفَهُ طَائِفَةٌ، وَطَائِفَةٌ مُوَاجِهَةَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً، وَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا، فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ، فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً، وَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلَّمَ، فَسَلَّمَ الَّذِينَ خَلْفَهُ، وَسَلَّمَ أُولَئِكَ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن المقدام) أبو الأشعث العجلي البصري، صدوق [10] 138/ 319.

2 -

(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [5] 5/ 5.

3 -

(عبد الرحمن بن عبد اللَّه) بن عُتبة بن عبد اللَّه بن مسعود المسعوديّ، صدوق اختلط بآخره، فمن سمع منه في بغداد، فبعد الاختلاط [7] 5/ 849.

والباقيان تقدما في الذي قبله، وكذا الكلام على الحديث، وباللَّه تعالى التوفيق.

ص: 136

[قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -:] في سند هذا الحديث المسعودي، وقد اختلط بآخره، كما ذكرته آنفًا، لكن تابعه الحكم في روايته عن يزيد الفقير، كما سبق في الرواية الماضية، فالحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1547 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الدِّرْهَمِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَقُمْنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَبَّرْنَا، وَرَكَعَ، وَرَكَعْنَا، وَرَفَعَ، وَرَفَعْنَا، فَلَمَّا انْحَدَرَ لِلسُّجُودِ، سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ يَلُونَهُ، وَقَامَ الصَّفُّ الثَّانِي حِينَ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالصَّفُّ الَّذِينَ يَلُونَهُ ثُمَّ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي حِينَ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْكِنَتِهِمْ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِينَ كَانُوا يَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الآخَرُ، فَقَامَ فِي مَقَامِهِمْ، وَقَامَ هَؤُلَاءِ فِي مَقَامِ الآخَرِينَ قِيَامًا، وَرَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَرَكَعْنَا، ثُمَّ رَفَعَ، وَرَفَعْنَا، فَلَمَّا انْحَدَرَ لِلسُّجُودِ، سَجَدَ الَّذِينَ يَلُونَهُ، وَالآخَرُونَ قِيَامٌ، فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ يَلُونَهُ، سَجَدَ الآخَرُونَ، ثُمَّ سَلَّمَ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(علي بن الحسين) بن مطر "الدرهميّ" البصريّ، صدوق، من كبار [11].

روى عن خالد بن الحارث، وعبد الأعلي بن عبد الأعلى، ومحمد بن عديّ، وغيرهم. وعنه أبو داود، والنسائي، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به.

وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات في جمادى الآخرة سنة (253). تفرد به المصنف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث.

2 -

(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

3 -

(خالد) بن الحارث الهُجَيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

4 -

(عبد الملك بن أبي سليمان) مَيْسَرة، العَرْزَميّ -بفتح المهملة، وسكون الراء، بعدها زاي مفتوحة- الكوفي، صدوق له أوهام [5] 7/ 406.

5 -

(عطاء) بن أبي رَبَاح: أسلم المكي الإمام الحجة المثبت الفقيه [3] 112/ 154، والصحابي تقدم في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 137

رجال الصحيح، غير شيخيه، فالأول من أفراده وأبي داود، والثاني من أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَقُفنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، وَالْعَدُوْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ) جملة في محل نصب على الحال، وفي الرواية التالية تعيين المحلّ، حيث قال:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بنخل"، وفي رواية لمسلم تعيين القوم الذين حاربوهم، ولفظها: "غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة، فقاتلونا قتالاً شديدًا، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو مِلْنا عليهم مَيْلَة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة، هي أحبّ إليهم من الأولاد، فلما حضرت العصر، قال: صفنا صفّين، والمشركون بيننا وبين القبلة

" الحديث (فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي للتحريم (وَكَبَّرْنَا) زاد مسلم: "جميعًا" أي كبر الصفّان معه صلى الله عليه وسلم (وَرَكَعَ) ولمسلم "ثم ركع" أي بعد القراءة (وَرَكَعْنَا، وَرَفَعَ، وَرَفَعْنَا، فَلَمَّا انْحَدَرَ لِلسُّجُودِ) أي هبط وخرّ لأجل السجود، والمعنى: فلما أراد السجود (سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والَّذِينَ يَلُونَهُ) أي الصحابة الذين يلون النبي صلى الله عليه وسلم (وَقَامَ الصَّفُّ الثَّاني) أي بقي الصفّ المؤخّر الذي يحرس (حِينَ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ولفظ "الكبرى" "حتى رفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، بـ"حتّى" بدل "حين"، وهو أوضح، وأما "حين" فتحتاج إلى تقدير، أي انتهى قيامهم حين رفع إلخ.

(وَالصَّفُّ الَّذِينَ يَلُونَهُ) الموصول صفة لصفّ؛ لأنه عبارة عن الجماعة الذين وقفو متساوين (ثُمَّ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي) أي الذي كان يحرس (حِينَ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْكِنَتِهِمْ) متعلّق بـ "سجد"، أي سجدوا في المحل الذي وقفوا فيه (ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِينَ كَانُوا يَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وهم الذين سجدوا معه في الركعة الأولى (وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الآخَرُ، فَقَامُوا فِي مَقَامِهِمْ) أي في مقام الصفّ الأول (وَقَامَ هَؤُلَاءِ فِي مَقَامِ الآخَرِينَ قِيَامًا) أي قام الصفّ الثاني في مقام الصفّ الأول، ليستووا في القيام خلفه صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية.

قيل: الحكمة في التقدّم والتأخّر حِيَازة فضيلة المعيّة في الركعة الثانية، جبرّا لما فاتهم من المعيّة في الركعة الأولى

(1)

.

(وَرَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي بعد أن قرأ (وَرَكَعْنَا) معه (ثُمَّ رَفَعَ) صلى الله عليه وسلم رأسه من الركوع

(1)

- انظر "المرعاة" ج5 ص 17.

ص: 138

(وَرَفَعْنَا، فَلَمَّا انْحَدَرَ) أي انخفض، ونزل (لِلسُّجُودِ، سَجَدَ الَّذينَ يَلُونَهُ) هم الذين كانوا حارسين في الركعة الأولى (وَالآخَرُونَ قِيَامٌ) زاد في الرواية التالية "يحرسونهم"، يعني أن الذين سجدوا معه في الركعة الأولى قاموا في هذه حارسين لهم (فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ يَلُونَهُ، سَجَدَ الآخَرُونَ، ثُمَ سَلَّمَ) ولفظ مسلم: "ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمنا جميعًا. وزاد في الرواية التالية: "قال جابر: كما يفعل أمراؤكم"، ولفظ مسلم: "قال جابر: كما يصنع حَرَسكم هؤلاء بأمرائهم" .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسأدة الأولى: في درجته: حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -17/ 1547 - وفي "الكبرى" 22/ 1935 - بالسند المذكور. وفي - 1548 - و"الكبرى" 1936 - عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ، عن أبي الزبير، عنه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 2/ 213. (ق) 1260 (أحمد) 3/ 319 و 3/ 374 (ابن خزيمة) 1350. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1548 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَخْلٍ، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَبَّرُوا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَالآخَرُونَ قِيَامٌ، يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الآخَرُونَ مَكَانَهُمُ، الَّذِينَ كَانُوا فِيهِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، فَرَكَعَ فَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَرَفَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالصَّفُّ الَّذِينَ يَلُونَهُ، وَالآخَرُونَ قِيَامٌ، يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا سَجَدُوا، وَجَلَسُوا، سَجَدَ الآخَرُونَ مَكَانَهُمْ، ثُمَّ سَلَّمَ. قَالَ: جَابِرٌ: كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكُمْ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفي البصري، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ البصري الإمام الحجة الثبت [9] 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري، تقدم قريبًا.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي، صدوق يدلس 31/ 35.

ص: 139

والصحابي تقدم قريبًا، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به. وباللَّه تعالى التوفيق.

[تنبيه]: أورد البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- حديث جابر رضي الله عنه هذا من طريق أبي الزبير معلّقًا مختصرًا، ولفظه: "وقال معاذ: حدثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:، كئا مع النبي صلى الله عليه وسلم بنخل

"، فذكر صلاة الخوف. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف انتهى.

قال الحافظ في "الفتح": أورده مختصرًا معلّقًا، لأن غرضه الإشارة إلى أن روايات جابر متفقة على أن الغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف هي غزوة "ذات الرِّقاع"، لكن فيه نظر، لأن سياق رواية هشام، عن أبي الزبير هذه تدلّ على أنه حديث آخر في غزوة أخرى.

وبيان ذلك أن في هذا الحديث عند الطيالسيّ وغيره: "أن المشركين قالوا: دعوهم، فإن لهم صلاةً هي أحبّ إليهم من أبنائهم، قال: فنزل جبريل، فأخبره، فصلى بأصحابه العصر، وصفّهم صفّين

"، فذكر صفة صلاة الخوف، وهذه القصّة إنما هي في غزوة عُسفان.

وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق زُهير بن معاوية، عن أبي الزبير، بلفظ يدلّ على مغايرة هذه القصة لغزوة محارب في ذات الرقاع، ولفظه:

عن جابر رضي الله عنه، قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم قومًا من جُهينة، فقاتلونا قتالاً شديدًا، فلما أن صلينا الظهر قال المشركون: لو مِلْنا عليهم مَيلَة واحدة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: وقالوا: ستأتيهم صلاة هي أحبّ إليهم من الأولاد

"، فذكر الحديث.

وروى أحمد، والترمذيّ، وصححه، والنسائي

(1)

من طريق عبد اللَّه بن شقيق، عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نزل بين ضَجْنَان وعُسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاةً هي أحب إليهم من أبنائهم

"، فذكر الحديث في نزول جبريل لصلاة الخوف.

وروى أحمد، وأصحاب السنن

(2)

، وصححه ابن حبان من حديث أبي عياش الزرقيّ خنض، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعُسفان، فصلّى بنا الظهر، وعلى المشركين يومئذ خالد ابن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلةً، ثم قالوا: إن لهم صلاةً بعد هذه، هي أحبّ

(1)

- تقدم في 1544.

(2)

- سيأتي للمصنف برقم 1549.

ص: 140

إليهم من أموالهم، وأبنائهم، فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا العصر، ففرّقنا فرقتين

" الحديث، وسياقه نحو رواية زُهير، عن أبي الزبير، عن جابر، وهو ظاهر في اتحاد القصّة.

وقد روى الواقديّ من حديث خالد بن الوليد، قال: "لَمّا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحُديبية لقيته بعُسفان، فوقفت بإزائه، وتعرّضت له، فصلّى بأصحابه الظهر، فهممنا أن نُغير عليهم، فلم يُعزَم لنا، فأطلع اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فصلى بأصحابه العصرَ صلاةَ الخوف

" الحديث، وهو ظاهر فيما قرّرته أن صلاة الخوف بعسفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وأن جابرًا روى القصّتين معًا.

فأما رواية أبي الزبير عنه ففي قصّة عُسفان، وأما رواية أبي سلمة، ووهب بن كيسان، وأبي موسى البصريّ عنه، ففي غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب، وثعلبة.

وإذا تقرّر أن أول ما صلّيت صلاف الخوف في عُسفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة، وقد صلَّيت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وهي بعد عُسفان، فتعيّن تأخرها عن الخندق، وعن قُريظة، وعن الحديبية أيضًا، فيَقْوَى القولُ بأنها بعد خيبر، لأن غزوة خيبر عقب الرجوع من الحديبية. وأما قول الغزاليّ: إن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات فهو غلطٌ واضحٌ، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره.

وقال بعض من انتصر للغزاليّ: لعله أراد آخر غزوة صُلّيت فيها صلاة الخوف. وهذا انتصار مردود أيضًا، لما أخرجه أبو داود، والنسائي

(1)

، وصححه ابن حبّان من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، وإنما اْسلم أبو بكرة في غزوة الطائف باتفاق، وذلك بعد غزوة ذات الرقاع قطعًا. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1549 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ شُعْبَةُ: كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ، وَسَمِعْتُهُ مِنْهُ يُحَدِّثُ، وَلَكِنِّي حَفِظْتُهُ، قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ: حِفْظِي مِنَ الْكِتَابِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ مُصَافَّ الْعَدُوِّ بِعُسْفَانَ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَصَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ لَهُمْ صَلَاةً بَعْدَ هَذِهِ، هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، فَصَفَّهُمْ صَفَّيْنِ خَلْفَهُ، فَرَكَعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعًا، فَلَمَّا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، سَجَدَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الآخَرُونَ، فَلَمَّا رَفَعُوا

(1)

- سيأتي للمصنف برقم 1551.

(2)

- "فتح" ج 8 ص 187 - 188.

ص: 141

رُءُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ، سَجَدَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِرُكُوعِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَقَامِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَكَعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعًا، فَلَمَّا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ مِنَ الرُّكُوعِ، سَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الآخَرُونَ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ سُجُودِهِمْ، سَجَدَ الآخَرُونَ، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

2 -

(محمد بن بَشّار) أبو بكر بُندَار البصري، ثقة حافظ [10] 42/ 62.

3 -

(محمد) بن جعفر غُندر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

4 -

(شعبة) المذكور قريبًا.

5 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عَتّاب الكوفي، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

6 -

(مجاهد) بن جبر، أبو الحجّاج المخزوميّ المكي الإمام الحجة المفسّر [3] 27/ 31.

7 -

(أبو عياش الزُّرَقيّ) الأنصاريّ، اسمه زيد بن الصّامت، وقيل: ابن النعمان، وقيل: اسمه عُبيد، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية بن الصامت بن زيد بن خَلْدَة بن مُخَلَّد بن عامر زُرَيق بن عبد حارثة بن مالك بن عضب بن جُشَم بن الخزرج، كان يقال له: فارس حُلْوة

(1)

.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صلاة الخوف بعُسفان. وعنه مجاهد بن جبر، وأبو صالح الزيات، إن كان محفوظًا، وذكره ابن سعد فيمن شهد أحدًا وما بعدها. يقال: إنه مات بعد الأربعين في خلافة معاوية رضي الله عنه. أخرج له أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، فقد تفرّد به المصنف وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، ومنصور كوفيّ، ومجاهد مكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ عند من جعل منصورًا تابعيًا. (ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس إلا هذا الحديث عند المصنف، وأبي داود، راجع "تحفة الأشراف" 3/ 251 - 252 و"الإصابة" 7/ 2450 واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- وعبارة "تهذيب الكمال": "وهو فارس حُلوة فرس كان له" انتهى

ص: 142

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي عَيَّاشِ الزُّرَقِيِّ) زيد بن الصامت - رضي اللَّه تعالى عنه -، وفي رواية البيهقي في "المعرفة": حدثنا أبو عيّاش الزرقي، فصرّح مجاهد بسماعه من أبي عياش، فبطل دعوى الانقطاع، وسيأتي الكلام عليه إن شاء اللَّه تعالى (قَالَ: شُعْبَةُ: كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ) أي كتب منصور بهذا الحديث إلى (وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ) أي قرأت عليه ما كتبه إليّ أيضًا (وَسَمِعْتُهُ مِنْهُ يُحَدِّثُ) أي سمعت من لفظه أيضًا (وَلَكِنِّي) وفي نسخة "ولكن"(حَفِظْتُهُ، قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ: حِفْظِي مِنَ الْكِتَابِ) يعني أن ابن المثنى قال في روايته: قال شعبة: "حفظته من الكتاب"، وقال ابن بشار في روايته: قال: "حفظي من الكتاب". فقوله: "من الكتاب" تنازعه "حفظته"، و"حفظي". واللَّه تعالى أعلم.

وغرض شعبة بهذا أنه أخذ هذا الحديث عن منصور بثلاث طرق، الكتابةِ، والقراءةِ، والسماعِ، ولكن حفظه من الكتاب، وذلك لا يضرّ بصحة الرواية.

[تنبيه]: طرق تحمل الحديث ثمانية:

(الأول): سماع لفظ الشيخ، إملاءً أو غيره، من حفظ، أو من كتاب، وهو أرفع الأقسام عند الجمهور.

(الثاني): القراءة على الشيخ، ويسمّى عند الأكثرين عَرْضًا، سواء قرأه بنفسه، أو سمع من قراءة غيره، وهي صحيحة أيضًا عند الجمهور، واختلفوا في مساواتها للسماع.

(الثالث): الإجازة، والصحيح الذي عليه الجمهور جواز الرواية والعمل بها.

(الرابع): المناولة، والجمهور أيضا على أنها صحيحة.

(الخامس): الكتابة، وهي أن يكتب الشيخ مسموعه لحاضر، أو غائب بخطه، أو بأمره. والأكثرون على جوازها أيضًا.

(السادس): إعلام الشيخ الطالبَ أن هذا الحديث، أو الكتاب مسموعه، دون أن يأذن له في الرواية.

(السابع): الوصية، وهي أن يوصي عند موته، أو سفره بكتاب يرويه.

(الثامن): الوجادة، وهي أن يجد أحاديث بخط راويها، ولم يسمعها منه.

وهذه الثلاثة لا تجوز الرواية بها، ولكن يُعمل بها، إذا صح سندها، كما قال الحافظ السيوطي في "ألفيته":

وَفِي الثَّلَاثةِ إِذَا صَحَّ السَّنَدْ

نَرَى وُجُوبَ عَمَلٍ فِي الْمُعْتَمَدْ

ولمعرفة تفاصيل هذه الأقسام راجع "تدريب الراوي" للحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى ج2 ص 8 - 63، وكذا "ألفيته"، وشرحي عليها.

ص: 143

(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ مُصَافَّ الْعَدُوِّ بِعُسْفَانَ) بضم العين، وسكون السين: موضع على مرحلتين من مكة، وقيل: هي قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلاً من مكّة، وهي حدّ تهامة. كذا في "مراصد الإطلاع"

(1)

وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم فيها في جمادى الأولى، سنة ست من الهجرة، بعد الخندق وبني قريظة

(2)

.

(وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) حيث كان أميرهم (فَصَلَّى بهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، قَالَ: الْمُشْرِكُون: إِنَّ) وفي نسخة "إنهم"(لَهُمْ صَلَاةً بَعْدَ هَذِهِ، هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ) وفي الرواية التالية: "فقال المشركون: لقد أصبنا منهم غِرّة، ولقد أصبنا منهم غفلة، فنزلت -يعني صلاة الخوف- بين الظهر والعصر، فصلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العصر

" (فَصَلى بِهمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، فَصَفَّهُمْ صَفَّيْنِ خَلْفَهُ، فَرَكَعَ بِهمْ رَسُولُ

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جمَيعًا، فَلَمَّا رَفَعُوارُءُوسَهُمْ، سَجَدَ بالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ) وفي نسخة "سجد الصفّ الذي يليه"(وَقَامَ الآخَرُونَ، فَلَمَّا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ منَ السُّجُودِ، سَجَدَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِرُكُوعِهِمْ) متعلق بحال محذوف، أي حال كونهم مكتفين بركوعهم الذي ركعوه (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، وَتَقَدَّمَ الصّفُّ الْمُؤَخَّرُ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُمْ فِي مَقَامِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَكَعَ) أي للركعة الثانية (بِهمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جمَيعًا، فَلَمَّا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ مِنَ الرُّكُوع، سَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ) أَي الذين كانوا في الأولى حارسين (وَقَامَ الآخَرُونَ) أي قام الذين سجدوا معه صلى الله عليه وسلم في الأولى حارسين (فَلَمَّا فَرَغُوا من سُجُودِهِمْ) أي فرغ الذين سجدوا معه صلى الله عليه وسلم في الثانية من سجودهم معه (سَجَدَ الآخَرُونَ) أي الذين كانوا حارسين في الثانية (ثُمَّ سلَّمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِمْ) أي على الطائفتين جميعًا، يعني أن كلتا الطائفتين سلمتا معه صلى الله عليه وسلم، زاد في الرواية التالية:"فكانت لكلهم ركعتان ركعتان مع إمامهم" .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي عياش الزُّرقيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا

صحيح.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله في "معرفة السنن والآثار" بعد أن أخرج حديث أبي عيّاش الزرقي - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا من طريق أبي داود: ما نصه: قال أحمد: هذا إسناد صحيح.

(1)

- انظر "عون المعبود" ج 4 ص 105.

(2)

- راجع "المنهل" ج 7 ص 100.

ص: 144

وقد رواه الشافعيّ في رواية الربيع، عن الثقة، عن منصور بن المعتمر إلا أن بعض أهل العلم بالحديث يشكّ في سماع مجاهد، عن أبي عياش.

وقد أخبرنا أبو حازم الحافظ، أخبرنا أبو أحمد الحافظ، أخبرنا أبو العبّاس الثقفيّ، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، حدثنا أبو عيّاش الزرقيّ، قال: "كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعُسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد

"، فذكره، وبَيَّنَ فيه سماعَ مجاهد من أبي عيّاش انتهى كلام البيهقي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -17/ 1549 - بالسند المذكور. وفي "الكبرى" 22/ 19370 و 1550 - و"الكبرى" 1938 - عن عمرو بن علي، عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور به. واللَّه أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 1236 (أحمد) 4/ 59 و 4/ 60 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1550 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعُسْفَانَ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ

(2)

غِرَّةً، وَلَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غَفْلَةً، فَنَزَلَتْ، -يَعْنِي صَلَاةَ الْخَوْفِ- بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَفَرَّقَنَا فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً تُصَلِّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِرْقَةً يَحْرُسُونَهُ، فَكَبَّرَ بِالَّذِينَ يَلُونَهُ، وَالَّذِينَ يَحْرُسُونَهُمْ، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعَ هَؤُلَاءِ، وَأُولَئِكَ جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ الَّذِينَ يَلُونَهُ، وَتَأَخَّرَ هَؤُلَاءِ وَالَّذِينَ يَلُونَهُ

(3)

، وَتَقَدَّمَ الآخَرُونَ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ قَامَ، فَرَكَعَ بِهِمْ جَمِيعًا الثَّانِيَةَ بِالَّذِينَ يَلُونَهُ، وَبِالَّذِينَ يَحْرُسُونَهُ، ثُمَّ سَجَدَ بِالَّذِينَ يَلُونَهُ

(4)

، ثُمَّ تَأَخَّرُوا، فَقَامُوا فِي مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الآخَرُونَ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَتْ لِكُلِّهِمْ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ مَعَ إِمَامِهِمْ، وَصَلَّى مَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ.

(1)

- "معرفة السنن والآثار" ج 3 ص 15.

(2)

- وفي نسخة "لهم".

(3)

- وفي نسخةا وتأخر هؤلاء والذين يلونه" بالواو، والصواب إسقاطها، إذ الموصول صفة لـ"هؤلاء".

(4)

- وفي نسخة "ثم سجد بالذين يعني يلونه" بزيادة "يعني".

ص: 145

رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم تقدموا في الذي قبله، إلا اثنين، وهما:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس، وتقدم قبل حديث.

2 -

(عبد العزيز بن عبد الصمد) العمّيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [9] 14/ 1482.

والحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي.

وقوله: "غِرّة" بكسر المعجمة، وتشديد الراء: أي غفلة، فعطف جملة "لقد أصبنا غفلة" يكون من عطف المؤكد. والمعنى أننا وجدنا من المسلمين غفلة في صلاة الظهر، فلو حملنا عليهم كان أحسن. وقوله:"وصلى مرّة بأرض بني سُليم"، ولفظ أحمد، والدارقطني:"فصلاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرتين، مرّة بعُسفان، ومرة بأرض بني سُليم". يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الخوف مرتين، مرة بعُسفان، ومرة بأرض بني سُليم.

وقوله: "وتقدم الآخرون، وسجدوا الخ" ظاهر هذه الرواية يخالف الرواية السابقة، حيث إن سجود الصف الأخير في الركعة الأولى كان بعد تبادل الصفوف، بخلافه في الرواية السابقة، فإنه كان قبل التبادل، وهي الرواية الراجحة، حيث إن شعبة تابعه عليها الثوريّ عند أحمد، وجريرُ بن عبد الحميد عند أبي داواد، كلهم عن منصور، وعبد العزيز بن عبد الصمد، وإن كان ثقة، إلا أن هؤلاء الجماعة يقدّمون عليه. أفاده بعض المحققين

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1551 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى بِالْقَوْمِ فِي الْخَوْفِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِالْقَوْمِ الآخَرِينَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم للمصنف رحمه الله في باب "اختلاف نية الإمام والمأموم" رواه عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن أشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى صلاة الخوف، فصلى بالذين خلفه ركعتين، وبالذين جاءوا ركعتين، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربعًا، ولهؤلاء ركعتين

(1)

- راجع "المنهل العذب المورود" ج 7 ص 100 - 101

ص: 146

ركعتين"، وتقدم البحث فيه مستوفى هناك، وسيأتي أيضًا آخر الباب برقم 1555.

ومحمد بن عبد الأعلى، هو الصنعاني، وإسماعيل بن مسعود، هو الجحدريّ، وخالد، هو ابن الحارث الْهُجَيميّ، وأشعث، هو ابن عبد الملك الحُمْراني، والحسن هو البصريّ، وأبو بكرة، هو نفيع بن الحارث بن كَلَدَة الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنه -.

والحديث فيه بيان إحدى كفيات صلاة الخوف، وهي أن يصلي بكل طائفة ركعتين، يسلم عليهما، فتكون لكلتا الطائفين صلاة تامة من غير مخالفة لهيئة صلاة الأمن ، ويكون الإمام مفترضًا في ركعتين، ومتنفّلاً في ركعتين، قال أبو داود رحمه الله في "سننه" بعد أن أخرج الحديث: وبذلك كان يفتي الحسن. انتهى.

وقال النووي: وبهذا قال الشافعي، وحكوه عن الحسن. وادعى الطحاويّ أنه منسوفي، ولا تقبل دعواه، إذ لا دليل لنسخه انتهى. وقال السنديّ: فيه اقتداء المفترض بالمتنفّل قطعًا، ولم أر لهم -يعني الحنفية المانعين من ذلك- عنه جوابًا شافيًا انتهى.

[تنبيه]: قال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "تهذيب السنن": وحديث أبي بكرة هذا رواه الدارقطني عنه، فقال فيه:"إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات، ثم انصرف، وجاء الآخرون، فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ست ركعات، وللقوم ثلاث ثلاث".

قال ابن القطّان: وعندي أن الحديثين غير متصلين، فإن أبا بكرة لم يصلّ معه صلاة الخوف، لأنه بلا ريب أسلم في حصار الطائف، فتدلّى ببكرة من الحصين، فسمّي أبا بكرة، وهذا كان بعد فراغه صلى الله عليه وسلم من هوازن، ثم لم يلقَ صلى الله عليه وسلم كيدًا إلى أن قبضه اللَّه.

قال ابن القيّم: وهذا الذي قاله لا ريب فيه، لكن مثل هذا ليس بعلة، ولا انقطاع عند جميع أئمة الحديث والفقه، فإن أبا بكرة، وإن لم يشهد القصّة، فإنه سمعها من صحابي غيره، وقد اتفقت الأمة على قبول رواية ابن عباس، ونظرائه من الصحابة، مع أن عامتها مرسلة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنازع في ذلك اثنان من السلف، وأهل الحديث والفقهاء، فالتعليل على هذا باطل. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي رد به ابن القيم على ابن القطان إنما هو في صحة صلاة الخوف من طريق أبي بكرة، لا بخصوص صلاة المغرب، فإنه وَهَمٌ، كما قال البيهقي، والصحيح أنه في الظهر، لا في المغرب. وأما المغرب فيحتمل أن يكون من قول الأشعث، كما ظنه البيهقي، أو من قول أبي داود، ونص أبي داود في "سننه":

(1)

- "تهذيب السنن" من هامش "عون المعبود" ج 4 ص 126.

ص: 147

وكذلك المغرب، يكون للإمام ست ركعات، وللقوم ثلاثًا انتهى.

قال البيهقي في "المعرفة": ورواه عمرو بن خليفة البكراويّ، عن أشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب، وهو وهم، والصحيح هو الأول انتهى

(1)

.

يعني ما أخرجه أبو داود من طريق معاذ بن معاذ، عن الأشعث، ولفظه: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوفٍ الظهرَ، فصفّ بعضهم خلفه

" الحديث.

والحاصل أن حديث صلاة الخوف صحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأن الصلاة هي الظهر، لا المغرب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل

1563 -

أَخْبَرَنِي

(2)

إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِآخَرِينَ أَيْضًا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إبراهيم بن يعقوب) الجُوزجاني، نزيل دمشق، ثقة حافظ رمي بالنصب [11] 122/ 174.

2 -

(عمرو بن عاصم) بن عبيد اللَّه الوازع الكلابيّ القيسيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوق في حفظه شيء، من صغار [9] 16/ 1486.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، من كبار [8] 181/ 288.

4 -

(قتادة) بن دِعَامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت [4] 30/ 34.

والباقيان تقدما قريبًا.

والحديث بمعنى حديث الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه المتقدم، ففيه بيان إحدى كيفيات صلاة الخوف، وهي أن يصلي بطائفة ركعتين، ويسلم، وبأخرى ركعتين، ويسلم، فيكون له أربع ركعات، ولكلّ طائفة ركعتان .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- "معرفة السنن والآثار" ج 3 ص 17.

(2)

- وفي نسخة "أخبرنا".

ص: 148

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له.

أخرجه هنا 17/ 1552 - وفي "الكبرى" 22/ 1940 - بالسند المذكور. وفي 17/ 1554 - و"الكبرى" 1942 - عن عمرو بن عليّ، عن عبد الأعلى، عن يونس بن عُبيد، عن الحسن، عنه، وهو بهذا السياق من أفراده، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره. وأخرجه (ابن خزيمة) 13530 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1553 -

أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ، عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، قَالَ: يَقُومُ الإِمَامُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ

(1)

، وَتَقُومُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ قِبَلَ الْعَدُوِّ، وَوُجُوهُهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، فَيَرْكَعُ بِهِمْ رَكْعَةً، وَيَرْكَعُونَ لأَنْفُسِهِمْ، وَيَسْجُدُونَ سَجْدَتَيْنِ فِي مَكَانِهِمْ، وَيَذْهَبُونَ إِلَى مَقَامِ أُولَئِكَ، وَيَجِيءُ أُولَئِكَ، فَيَرْكَعُ بِهِمْ، وَيَسْجُدُ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، فَهِيَ لَهُ ثِنْتَانِ وَلَهُمْ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يَرْكَعُونَ رَكْعَةً رَكْعَةً، وَيَسْجُدُونَ سَجْدَتَيْنِ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم برقم 1536 - من طريق شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خَوّات، عن سهل بن أبي حثمة، مرفوعًا، وتقدّم الكلام هناك، وبيان الخلاف في رفعه ووقفه، وأن الأصحّ صحته مرفوعًا وموقوفًا. وعمرو بن علي، هو الفلاّس، ويحيى بن سعيد هو القطان، ويحيى شيخه هو ابن سعيد الأنصاريّ.

وقوله: "فهي له ثنتان" أي تكون تلك الركعة للإمام تمام ثنتين، فتكون له ركعتان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1554 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَلَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجُوهُهُمْ قِبَلَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامُوا مَقَامَ الآخَرِينَ، وَجَاءَ الآخَرُونَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم البحث فيه مستوفًى قبل حديث، فلا حاجة إلى إعادته.

(1)

- وفي نسخة "فيستقبل القبلة".

ص: 149

وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، ثقة [8] 20/ 386. ويونس هو ابن عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع [5] 88/ 109. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1555 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِالَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَالَّذِينَ جَاءُوا بَعْدُ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلِهَؤُلَاءِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم البحث فيه قبل ثلاثة أحاديث، فليُرَاجَع هناك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌18 - كِتَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كان الأولى للمصنف -رحمه اللَّه تعالى- أن يذكر هذا الكتاب عقب كتاب الجمعة، كما فعل في "الكبرى"، ولعله تابع في ذلك الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" حيث ذكره عقب "صلاة الخوف". واللَّه تعالى أعلم.

قال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: سمي العيد عيدًا لعَوْده، وتكرره في كلّ سنة. وقيل: لعوده بالفرح والسرور. وقيل: سمي بذلك على جهة التفاؤل، لأنه يعود على من أدركه انتهى

(2)

.

ونحوه للنوويّ في "شرح مسلم"، وزاد: وقيل: تفاؤلاً بعوده على من أدركه، كما سميت القافلة حين خروجها، تفاؤلاً لقفولها سالمةً، وهو رجوعها، وحقيقتها الراجعة انتهى

(3)

.

(1)

- يوجد هنا في النسخة "الهندية": ما نصه: "آخر كتاب صلاة الخوف".

(2)

- "المفهم" ج2 ص 523.

(3)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 171.

ص: 150

وقال في "لسان العرب": العيد كلُّ يوم فيه جَمْعٌ، واشتقاقه من عادَ يعود، كأنهم عادوا إليه، وقيل: اشتقاقه من العادة، لأنهم اعتادوه، والجمع أعياد، لَزِم البدل، ولو لم يلزم لقيل: أعواد، كريح وأرواح، لأنه من عاد يعود. وعَيَّدَ المسلمون: شَهِدُوا عيدهم، قال الْعَجَّاجُ يَصِفُ الثور الوحشيّ:

وَاعْتَادَ أَرْبَاضًا لَهَا آرِيُّ

كَمَا يَعُودُ الْعِيدَ نَصْرَانِيُّ

فجعل العيد من عاد يعود، وتحولت الواو في "العيد" ياء لكسرة العين، وتصغير "عيد""عُيَيْدٌ"، تركوه على التغيير، كما أنهم جمعوه أَعْيَادًا، ولم يقولوا: أَعْوَادًا. وقال الأزهريّ: والعيد عند العرب الوقت الذي يعود فيه الفَرَح والْحُزْن، وكان في الأصل "الْعِوْدَ" فلما سَكَنَت الواو، وانكسر ما قبلها صارت ياءً. وقيل: قُلبت الواو ياء ليفرّقوا بين الاسم الحقيقيّ وبين المصدريّ. وقال الجوهريّ. إنما جمُع أعيادٌ بالياء للزومها في الواحد، ويقال: للفرق بينه وبين أعواد الخشب. وقال ابن الأعرابي: سمي العيدُ عيدًا لأنه يعود كلَّ سنة بفرح مجدّد انتهى

(1)

.

واختلف في حُكمها، فقال الشافعيّ، وجمهور أصحابه، وجماهير العلماء: سنة مؤكّدة. وقال أبو سعيد الإصطخريّ من الشافعية: هي فرض كفاية. وقال أبو حنيفة: هي واجبة، فإذا قلنا: فرض كفاية، فامتنع أهل موضع من إقامتها قوتلوا عليها، كسائر فروض الكفاية، وإذا قلنا: إنها سنة لم يقاتلوا بتركها، كسنة الظهر، وغيرها، وقيل: يقاتلون، لأنها شعار ظاهر. قاله النووي في "شرح مسلم"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الجمهور من أنها سنة مؤكّدة هو الراجح، لحديث طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه عند الشيخين وغيرهما: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطّوّع".

وحديث معاذ رضي الله عنه المشهور، فقد أخرج الشيخان وغيرهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن، فقال:"ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم، أن اللَّه قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم".

(1)

- "لسان العرب" في مادة عود.

(2)

- ج 6 ص 171.

ص: 151

ففي هذين الحديثين دلالة ظاهرة على أن صلاة العيد تطوع غير فريضة. واللَّه تعالى أعلم.

واتفقوا على أن أوّل عيدٍ صلاةُ النبي صلى الله عليه وسلم عيدَ الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وهي التي فُرض رمضان في شعبانها، ثم داوم عليه صلى الله عليه وسلم إلى أن توفّاه اللَّه تعالى، وقيل: شرع عيد الأضحى أيضا في السنة الثانية من الهجرة

(1)

.

[تنبيه]: ثبت هنا في "الكبرى" قبل الحديث: ما نصّه: "بدء العيدين"، وفي نسخة "باب بدء العيدين". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1556 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ لأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ، فِي كُلِّ سَنَةٍ، يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، قَالَ: «كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا، وَقَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا، يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَضْحَى.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(علي بن حُجر) السعديّ المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، ثم البغدادي، ثقة ثبت [8] 16/ 17.

3 -

(حُميد) بن أبي حميد الطويل البصري، ثقة عابد يدلس [5] 87/ 108.

4 -

(أنس بن مالك) - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 60 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (89) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه ما بين مروزي، وهو شيخه، ومدنيّ، ثم بغداديّ، وهو إسماعيل، وبصريين، وهما حميد وأنس. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: كَانَ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ) الجاهليةُ زمنُ الفترة التي كانت قبل الإسلام (يَوْمَانِ، فِي كُلِّ سَنَةٍ، يَلْعَبُونَ فِيهِمَا) هما يوم النَّيْرُوز والمِهْرَجَان، والنيروز هو أول يوم تتحوّل فيه الشمس إلى بُرْج الحمل، وهو أول السنة

(1)

- انظر "المرعاة" ج5 ص 21 - 22.

ص: 152

الشمسية، كما أن غُرّة المحرم أول السنة القمرية، والمهرجان أول يوم الميزان، كما يظهر من مقابلته بالنيروز، وهما يومان معتدلان في الهواء، والحرارة، والبرودة، يستوي فيهما الليل والنهار. قيل: اختارهما الحكماء المتعلّقون بالهيئة للعيد في أيامهم، واتبعهم أهل زمانهم، فجاء الأنبياء، فأبطلوا ذلك

(1)

(فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ) مهاجرًا من مكة (قَالَ: كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا) وفي رواية أبي داود: فقال: "ما هذان اليومان؟ " قالوا: كنا ندعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه قد أبددكم بهما خيرًا منهما، يوم الأضحى، ويوم الفطر"(وَقَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهمَا خَيرًا مِنْهُمَا) يريد أن اللَّه تعالى قد أبطل ما كانوا يعملونه في هذين اليومين من أعمال الجاهلية، وشرع لهم في مقابلهما يومي العيدين. و"خيرًا" أفعل تفضيل، ولكن ليس هنا على بابه، إذ لا خيرية في يومي الجاهلية (يَوْمَ الْفِطْرِ) بالنصب بدل من "خيرًا"، أو مفعول لفعل مقدّر، أي أعني، ويحتمل الرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هما يوم الفطر الخ، وسمي يوم الفطر -بكسر، فسكون- لأن فيه الفطر من الصوم (وَيَوْمَ الْأَضْحَى) إعرابه كسابقه، وهو بفتح الهمزة، سمي به لأنه يُتقرّب فيه إلى اللَّه تعالى بالأضحية. ولفظ "الكبرى":"ويوم النحر". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته. حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا - 1/ 1556 - وفي "الكبرى" 1/ 1755 - بالسند المذكور.

المسألةَ الثالثه: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د)1134. (أحمد) 3/ 103 و 178 و 235 و 250 (عبد بن حميد) 1392. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: سماحة الشريعة، وسهودة أمور الدين؛ حيث شرع اللَّه تعالى للمسلمين يومين يلعبون فيهما. ومنها: ما كان عليه الجاهلية من تعظيم يومين في السنة بأفعالهم القبيحة، وأقوالهم الشركية، فجاء اللَّه تعالى بالإسلام، وأبدل ذلك بالأفعال الحسنة، والأقوال المحمودة، من التكبير والتهليل، والتسبيح، وغير ذلك. ومنها: الابتعاد عن العادات

(1)

- منقول من "المنهل" بتصرّف ج 6 ص 305

ص: 153

الجاهلية، فلا يجوز لمسلم أن يعظّم أعياد الكفرة.

قال الحافظ في "الفتح": استنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين، والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفيّ من الحنفية، فقال: من أهدى فيه، أي في النيروز بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم، فقد كفر باللَّه تعالى انتهى

(1)

.

وقال القاضي أبو المحاسن الحسن بن منصور الحنفيّ: من اشترى فيه شيئًا لم يكن يشتريه في غيره، أو أهدى فيه هدية إلى غيره، فإن أراد بذلك تعظيم اليوم، كما يعظّمه الكفرة، فقد كفر، وإن أراد بالشراء التنعّم والتنزّه، وبالإهداء التحابّ جريًا على العادة، لم يكن كفرًا، لكنه مكروه للتشبه بالكفرة حينئذ، فينبغي التحرّز عنه انتهى.

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌2 - بَابُ الْخُرُوجِ إِلَى الْعِيدَيْنِ مِنَ الْغَدِ

1568 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ، أَنَّ قَوْمًا رَأَوُا الْهِلَالَ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا، بَعْدَ مَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ، وَأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْعِيدِ مِنَ الْغَدِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو بشر) بن أبي وَحْشيّة جعفر بن إياس البصريّ، ثقة [5] 13/ 520.

2 -

(أبو عُمير بن أنس) بن مالك الأنصاريّ، وكان أكبر أولاد أنس، ثقة [4].

قال الحاكم أبو أحمد: اسمه عبد اللَّه. روى عن عمومة له من الأنصار، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الهلال، والأذان. وعنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشيّة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وذكره ابن حبَّان في "الثقات". وصحح حديثه أبو

(1)

- "فتح" ج3 ص 116.

(2)

- انظر "المرعاة" ج 5 ص 45.

ص: 154

بكر بن المنذر، وغير واحد. وقال ابن عبد البر: مجهول لا يحتجّ به. روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والباقون تقدموا قريبًا، سوى شيوخ أبي عمير، وهم من الصحابة، كما ذُكر آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى أبي عمير، فقد تفرد به هو وأبو داود، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ) بن مالك (عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ) زاد في رواية أبي داود: "من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والعمومة جمع عمّ، كالخؤولة جمع خال (أَنَّ قَوْمًا رَأَوُا الْهِلَالَ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) ولفظ أبي داود: "أن ركبا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم".

وفي رواية ابن ماجه: "عن أبي عمير، قال: حدثني عمومتي من الأنصار، من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالوا: أُغمي علينا هلال شوّال، وأصحبنا صيامًا، فجاء ركب، من آخر النهار، فشهدوا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يفطروا، وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد".

(فَأَمَرَهُمْ) أي أمر المسلمين عمومًا، لا أولئك القوم خصوصًا (أَنْ يُفْطِرُوا، بَعْدَ مَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ) أي بعد ما ارتفعت الشمس إلى وسط السماء في النهار، والظرف متعلق بـ "أمر"(وَأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْعِيدِ مِنَ الْغَدِ) قال السنديّ رحمه الله. لعلّه ضاق الوقت عن إدراك الصلاة في وقتها مع الاستعداد، فأمر بالتأخير. واللَّه تعالى أعلم.

وفيه دليل أنه إذا فات وقت صلاة العيد في أول اليوم تصلى في اليوم الثاني، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي عمير، عن عمومة له من الصحابة - رضي اللَّه

تعالى عنهم - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

ص: 155

أخرجه هنا-2/ 1557 - وفي "الكبرى" 2/ 1756 - بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 1157 (1) 1653 (أحمد) 5/ 570 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في فوات صلاة العيد في اليوم الأول:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله: اختَلَف أهل العلم في طائفة تشهد يوم ثلاثين من هلال شهر رمضان أن الهلال رؤي بالأمس، فقالت طائفة: إن عُدِّلَا قبل الزوال صلى الإمام بالناس صلاة العيد، وإن عُدِّلا بعد الزوال لم يكن عليهم أن يصلّوا يومهم بعد الزوال، ولا من الغد، لأنه عمل في وقت إذا جاوز ذلك الوقت لم يعمل في غيره.

هذا قول الشافعيّ

(1)

، وأبي ثور، وقال أبو ثور: لو ثبت الحديث قلنا به. وحكي عن مالك أنه قال: قد ذهب العيد لأول وقته أول نهارهم من يوم الفطر، فإذا ذهب يوم الفطر، فقد ذهب يومه.

وقالت طائفة: إن شهدت بَيّنة قبل نصف النهار خرجوا، وأفطروا، وإن شهدت بعد نصف النهار أفطروا، وخرجوا إلى العيد من الغد. هذا قول الأوزاعيّ، وبه قال الثوريّ، وأحمد، وإسحاق، واحتجّ أحمد بحديث أبي عُمَير بن أنس.

قال ابن المنذر رحمه الله: وحديث أبي عُمير بن أنس ثابت، والقول به يجب انتهى

(2)

.

وقال النوويّ في "شرح المهذّب": الصحيح من مذهبنا أنه يستحبّ قضاؤها أبدًا، وحكاه ابن المنذر عن مالك، وأبي ثور، وحكى العبدريّ عن مالك، وأبي حنيفة، والمزنيّ، وداود أنها لا تُقضى، وقال أبو يوسف، ومحمد: تقضى صلاة الفطر في اليوم الثاني، والأضحى في الثاني، والثالث، وقال أصحاب أبي حنيفة: مذهبه كمذهبما، وإذا صلاها من فاتته مع الإمام في وقتها، أو بعده صلاها ركعتين كصلاة الإمام، وبه قال أبو ثور، وهو رواية عن أحمد، وعنه رواية يصليها أربعًا بتسليمة، وإن شاء بتسليمتين، وبه جزم الْخِرَقيّ، والثالثة مخيّر بين ركعتين، وأربع، وهو مذهب الثوريّ، وقال ابن مسعود: يصليها أربعًا، وقال الأوزاعيّ: ركعتين بلا جهر، ولا تكبيرات زوائد، وقال إسحاق: إن صلاّها في المصلّى فكصلاة الإمام، وإلا أربعًا انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح المذاهب عندي قول من قال: إنها إن فاتت

(1)

- هكذا قال ابن المنذر عن الشافعي، وهو مخالف لما يأتي عن النووي، فإن مذهب الشافعي أنها تقضى أبدا. اللَّهم إلا أن يكون للشافعي قولان، فليحرّر.

(2)

- "الأوسط" ج 4 ص 295.

(3)

- "المجموع" ج5 ص 35

ص: 156

تصلّى في الغد؛ لصحة حديث الباب. قال الخطابي صلى الله عليه وسلم بعد ذكر قول من قال: لا تصلى في اليوم الثاني: ما نصه: سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع، وحديث أبي عُمير صحيح، فالمصير إليه واجب انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌3 - خُرُوجُ الْعَوَاتِقِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ فِي الْعِيدَيْنِ

1558 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: كَانَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، لَا تَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ قَالَتْ بِأَبَا، فَقُلْتُ: أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَذْكُرُ كَذَا وَكَذَا؟ ، فَقَالَتْ: نَعَمْ بِأَبَا، قَالَ: «لِيَخْرُجِ

(1)

الْعَوَاتِقُ، وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، وَالْحُيَّضُ، وَيَشْهَدْنَ

(2)

الْعِيدَ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلْيَعْتَزِلِ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى».

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم للمصنف في "باب شهود الحيّض العيدين ودعوة المسلمين" برقم 22/ 390 سندًا ومتنًا، ومضى شرحه هناك مستوفًى، فلتراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"إسماعيل": هو ابن علية، و"أيوب": هو السختياني، و"حفصة": هي بنت سيرين، و"أم عطية": هي نُسيبة بنت كعب، أو بنت الحارث الأنصارية - رضي اللَّه تعالى عنها -.

وقوله: "بأبا" أصله بأبي بالياء أبدلت ألفًا، والتقدير هو مَفْديّ بأبي، أو فديته بأبي، وقد تقدم الكلام فيه مستوفًى بالرقم المذكور.

وقوله: "يقول: كذا وكذا" المكنيّ عنه هنا قد تبين في رواية أخرى عند البخاريّ وغيره، فقد أخرج البخاري رحمه الله، من طريق عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب، عن حفصة، قالت: كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين، فَقَدِمَتْ امرأةٌ، فنزلت قصر

(1)

- وفي نسخة "فيخرج".

(2)

- وفي نسخة "فيشهدن".

ص: 157

بني خَلَف، فحدّثت عن أختها - وكان زوج أختها غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة، وكانت أختي معه في ستّ- قالت: كنّا نُدوي الكَلْمَى، ونقوم على المرضى، فسألت أختي النبي صلى الله عليه وسلم أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جِلْبَاب أن تخرج؟ قال:"لتلبسها صاحبتها من جلبابها، ولْتشهد الخير، ودعوة المسلمين"، فلَمّا قَدِمَتْ أم عطية سألتها أسمعتِ النَّبي صلى الله عليه وسلم

" الحديث.

وقوله: "ليخرج العواتق" بلام الأمر، والفعل مجزوم، وكسر لالتقاء الساكنين.

و"العواتق" جمع عاتق، وهي مَنْ بلغت الحُلُم، أو قاربت، واستحقت التزويج، أو هي الكريمة على أهلها. وقوله:"وذوات الخُدُور" أي النساء صواحبات الخدور، و"الخُدُور" جمع خِدْر - بكسر، فسكون - وهو سِتْرٌ يُتّخذ في البيت، تقعد الأبكار وراءه، صيانةً لهنّ، فيكون بين العواتق، وذوات الخدور عموم وخصوص وجهيّ، كما تقدم في الباب المذكور.

وقوله. "الْحُيْض" جمع حائض. وإنما أُمَرَ هؤلاء باعتزال المصلّى لئلا يتلوّث مكان الصلاة بالدم، أو لئلا يَظْهَرن بمظهر من يَستهين بالصلاة إذا قعدن، والناس يُصلّون.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم تمام البحث لمحيه برقم 22/ 390 كما أشرت إليه آنفًا، وبقي البحث فيما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فأقول:

[مسألة]: في اختلاف العلماء في مشروعية خروج النساء للعيدين:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: قد اختلف أهل العلم في خروج النساء إلى الأعياد، فرَوَينا عن أبي بكر، وعليّ أنهما قالا: حقّ على كلّ ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين، ورُوي عن عليّ أنه قال: الخروج إلى العيدين سنة للرجال والنساء، وكان ابن عمر يُخرج من استطاع من أهله في العيد.

وكَرِهَتْ طائفة خروج النساء إلى العيدين، كره ذلك إبراهيم النخعيّ، وكان عروة بن الزبير لا يدع امرأة من أهله تخرج إلى فطر، ولا إلى أضحى، وقال يحيى الأنصاريّ: لا نعرف خروج المرأة الشابّة عندنا في العيدين. وقال أصحاب الرأي في خروج النساء إلى العيد: أما اليوم فإنا نكره لهنّ ذلك، ونرخّص للعجوز الكبيرة بأن تشهد العشاء والفجر، والعيدين، وأما غير ذلك فلا. انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ ما قاله الأولون؛ لحديث الباب، ولا مُتَمَسَّكَ للمانع، إلا مجرّد النظر لتغير الزمان، وهذا غير مانع، فإن الشارع لَمَّا أمر بخروج النساء

(1)

- "الأوسط" ج4 ص 262 - 263.

ص: 158

مطلقًا، شابّة كانت أو عجوزا شرط عليها أن تتجلبب، وأن لا تخرج متطيّبة، ولا متبخّرة، فإذا وجد الشرط لا تُمنع، وأما إذا لم تلتزم بما اشترط عليها الشارع فقد منعت نفسها من الخروج، لا أن الشارع منعها، فإن حكم الشارع مستمرّ إلى قيام الساعة، لا يتغير بتغيّر الزمان، فالقول بمنع الشوابّ، دون العجائز، أو التفريق بين الصلوات مما لا برهان له، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ بتقليد ذوي الاعتساف.

والحاصل أن الصواب مشروعية خروج النساء إلى العيدين مطلقا، إذا التزمت ما أوجب عليها الشرع. واللَّه تعالى أعلم.

ثم إن الجمهور على أن الأمر للاستحباب، وهو محلّ نظر؛ إذ الأمر للوجوب عند الجمهور، وهو الراجح، إلا لصارف، ولم يذكروا هنا صارفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌4 - اعْتِزَالُ الْحُيَّضِ مُصَلَّى النَّاسِ

1559 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَقِيتُ أُمَّ عَطِيَّةَ، فَقُلْتُ لَهَا: هَلْ سَمِعْتِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ إِذَا ذَكَرَتْهُ، قَالَتْ: بِأَبَا قَالَ: «أَخْرِجُوا الْعَوَاتِقَ، وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ الْعِيدَ

(1)

، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلْيَعْتَزِلِ الْحُيَّضُ مُصَلَّى النَّاسِ».

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، ودلالته على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- واضحة، وقد تقدّم الكلام عليه في الذي قبله، و"سفيان": هو ابن عيينة، و "محمد": هو ابن سيرين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

(1)

- وفي نسخة "الخير".

ص: 159

‌5 - (بَابُ الزِّينَةِ لِلْعِيدَيْنِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دلالة حديث الباب على الترجمة واضحة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قرّر عمر رضي الله عنه في قوله: "فتجمّلْ بها للعيد"، وإنما أنكر عليه كون التجمل بالحرير، حيث لا يحلّ لبسه للرجال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1560 -

أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي اللَّه تعالى عنه - حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ بِالسُّوقِ، فَأَخَذَهَا، فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ، فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ، وَالْوَفْدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ"، أَوْ "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ"، فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةِ

(1)

دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا، حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ:«إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ» . ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«بِعْهَا وَتُصِبْ بِهَا حَاجَتَكَ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم، في "باب الهيئة للجمعة" برقم 11/ 1382 - وتقدّم شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به هناك، فراجعه تستفد. وباللَّه تعالى التوفيق.

و"سليمان بن داود": هو المهريّ، أبو الربيع المصريّ، ثقة [11] 63/ 79. و"ابن وهب": هو عبد اللَّه المصري الحافظ الثقة [9] 9/ 9 و"يونس بن يزيد": هو الأيلي، ثقة ثبت [7] 9/ 9. و"عمرو بن الحارث": هو أبو أيوب المصري، ثقة ثبت [7] 63/ 79.

و"ابن شهاب": هو محمد بن مسلم الإمام الحافظ الحجة المشهور [4] 1/ 1.

و"سالم": هو ابن عبد اللَّه بن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 23/ 490. و"أبوه": عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12.

وقوله:، استبرق" هو الحرير الغليظ. وقوله:"ابتع" أي اشتر. وقوله: "فتجمّل بها للعيد" منه يعلم أن التجمّل يوم العيد كان عادة متقررة بينهم، ولم ينكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم بقاؤها. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.

وقوله: "من لا خلاق له" أي لا نصيب له في الآخرة في الحرير. وقوله: "الديباج"

(1)

- وفي نسخة "بحلّة".

ص: 160

بكسر: ثوبٌ سَدَا5، ولُحْمَتُهُ إِبْرَيْسَمٌ

(1)

.

وقوله: "وتصب بها حاجتك" هكذا معظم نسخ "المجتبى" بالجزم، وفي بعضها "واقض بها حاجتك"، وفي "الكبرى""وتصيب" بالرفع، وهو واضح، وللأول أيضًا وجه، وهو أن يكون مجزومًا بلام الأمر المقدرة، أي لتصب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌6 - الصَّلَاةُ قَبْلَ الإِمَام يَوْمَ الْعِيدِ

1561 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَشْعَثِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ، أَنَّ عَلِيًّا اسْتَخْلَفَ أَبَا مَسْعُودٍ عَلَى النَّاسِ، فَخَرَجَ يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلَّى قَبْلَ الإِمَامِ".

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق برق منصور) الكَوْسَج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ الحافظ الحجة المشهور [9] 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحجة المثبت [7] 33/ 37.

4 -

(الأشعث) بن أبي الشعثاء سليم بن الأسود الكوفي، ثقة [6] 90/ 112.

5 -

(الأسود بن هلال) المحاربيّ الكوفي، ثقة مخضرم جليل [2] 17/ 1529.

6 -

(ثَعْلَبة بن زَهْدَم) الحنظلي الكوفيّ، مختلف في صحبته، وقال العجلي: تابعي ثقة 17/ 1529.

7 -

(أبو مسعود) عقبة بن عمرو الأنصاريّ البدري، الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 494. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "الإبريسم" بفتح السين، وضمّها: الحرير. قاله في "القاموس". وفي "المصباح": فيه لغات، كسر الهمزة والراء والسين، واببن السكّيت يمنعها، ويقول: ليس في الكلام إِفْعِيلِلٌ بكسر اللام، بل بالفتح، مثل إهْليلَجٍ، وإطْرِيفَل، والثانية فتح الثلاثة، والثالثة كسر الهمزة، وفتح الراء والسين. انتهى.

ص: 161

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ، وعبد الرحمن، فبصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ، أَن عَلِيًّا) يعني ابن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - (اسْتَخْلَفَ أَبَا مَسْعُود عَلَى النَّاسِ) أي جعله خليفة له في الحكم، وإقامة الجُمَع، والأعياد، والقيام بأمور المسلمين، وذلك لما خرج إلى صفّين، فقد أخرج حديث الباب ابن المنذر رحمه الله "الأوسط"، من طريق أبي الأحوص، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زَهْدَم، قال: لما خرج عليّ إلى صفين استعمل أبا مسعود الأنصاريّ على الناس، فكان يوم عيد، فخرج أبو مسعود، فأتى الْجَبّانَة، والناس بين مصلّ وقاعد، فلمّا توسطهم قال:"أيها الناس إنه لا صلاة في يومكم هذا حتى يخرج الإمام"(فَخَرَجَ) أي أبو مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّه لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلَّى قَبْلَ الإمَامِ) ظاهره يدلّ على أنه لا صلاة قبله سواء كان في المصلَّى، أم في غيره، وظاهره أيضًا يدلّ على مشروعية الصلاة بعد صلاة الإمام، سواء كان في المصلَّى، أو في البيت، وقد اختلف العلماء في ذلك، وسيأتي تحقيقه قريبًا إن شاء اللَّه تعالى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-6/ 1561 - وفي "الكبرى" 6/ 1761 - بالسند المذكور، وهو من أفراده، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 2/ 178 وابن المنذر في "الأوسط" 4/ 268 - 269. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: ثابت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه خرج في يوم فطر، أو أضحى، فصلّى ركعتين، لم يصلّ قبلها، ولا بعدها.

وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فقالت طائفة: لا يُصَلَّى قبلها، ولا بعدها،

ص: 162

وممن كان لا يصلي قبلها، ولا بعدها ابن عمر، ورُوي ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وحذيفة، وابن أبي أوفى، وجابر بن عبد اللَّه، ورَوينا عن عبد اللَّه بن عمرو أنه قال في الصلاة قبل العيد: ليس قبله، ولا بعده.

ورأت طائفة أن يُصَلَّى قبلها وبعدها، هذا قول أنس بن مالك، ورُوي عن أبي هريرة. وهو قول الحسن البصريّ، وأخيه سعيد، وجابر بن زيد، وعروة بن الزبير، وبه قال الشافعيّ، وقال عطاء: إذا طلعت الشمس فصلّ.

وفيه قول ثالث. وهو أن يصلي بعدها، ولا يصلي قبلها، روينا عن أبي مسعود البدري أنه قال في يوم عيد: أيها الناس إنه لا صلاة في يومكم هذا حتى يخرج الإمام.

وروينا عن ابن مسعود أنه صلى بعد العيدين أربعًا.

وممن مذهبه أن يصلَّى بعدها، ولا يصلى قبدها علقمة، والأسود، ومجاهد، وابن أبي ليلى، وسعيد، وإبراهيم النخعي، وبه قال سفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، وأصحاب الرأي، وحُكي عن الأوزاعيّ أنه قال: اجتمعت العامّة على أن لا صلاة قبل خروج الإمام يوم الفطر والأضحى، وُيصَلَّى بعدُ.

وفيه قول رابع: وهو كراهية الصلاة في المصلى قبل صلاة العيد وبعدها، والرخصة في الصلاة في غير المصلى، هذا قول مالك، وكان إسحاق يقول: الفطر والأضحى ليس قبلهما صلاة، ويُصَلِّي بعدهما أربع ركعات، يفصل بينهنّ إذا رجع إلى بيته، ولا يصلي في الجَبّان

(1)

أصلاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين يوم الفطر، لم يصل قبلها ولا بعدها. ثم رجّح ابن المنذر قول من أباح الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها، راجع كلامه في كتابه "الأوسط" 4/ 268 - 269.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأرجح قول من قال بعدم مشروعيّة الصلاة قبل صلاة العيد، أو بعدها؛ لعدم ثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصرح دليل على ذلك قول أبي مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - في حديث الباب:"إنه ليس من السنة أن يصلّى قبل الإمام؟ "، فإنه من أهل اللغة يفهم مقاصد الشريعة، وقد أنكر على من رآهم يصلّون قبل صلاة العيد، وقال لهم: إنها ليست من السنة، فلا أدلّ على عدم مشروعيتها من هذا.

والحاصل أنه لا يُشرع التنفّل قبل صلاة العيد، ولا بعدها. واللَّه تعالى أعلم

(1)

- قال في "المصباح": "الجبّانة" بفتح الجيم مثقل الباء، وثبوتُ الهاء أكثر من حذفها: هي المصلَّى في الصحراء، وربّما أطلقت على المقبرة، لأن المصلَّى غالبا تكون في المقبرة انتهى بزيادة يسيرة.

ص: 163

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌7 - تَرْكُ الأذَانِ لِلْعِيدَيْنِ

1562 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:"صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِيدٍ، قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي برقم (19/ 1575) مطوّلاً، وسيأتي شرحه، وبيان مسائله هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

و"أبو عوانة" هو الوضاح بن عبد اللَّه اليشكري الواسطي. و"عبد الملك بن أبي سليمان" هو: الْعَرْزَميّ. و"عطاء" هو: ابن أبي رباح:

ودلالة الحديث على الترجمة واضحة؛ حيث صرح بعدم مشروعية الأذان والإقامة للعيدين.

قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: وهو قول يحيى الأنصاريّ، ومالك بن أنس، والأوزاعيّ، وابن جابر، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وقال مالك: تلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا. وقال الشافعيّ: أرى أن يأمر المؤذّن أن يقول في الأعياد: الصلاة جامعة، أو الصلاة.

وقد روينا عن ابن الزبير أنه أذّن، وأقام، وقال أبو قلابة: أول من أحدث الأذان في العيدين ابن الزبير. وقال سعيد بن المسيب: أول من أحدثه معاوية. وقال حصين: أول من أذّن في العيد زياد انتهى

(1)

.

وعلّق الإمام البخاري -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء، أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له أنه لم يكن يؤذّن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة. قال. وأخبرني عطاء، عن ابن عباس، وعن جابر ابن عبد اللَّه، قالا: لم يكن يؤذَّن يوم الفطر، ولا يوم الأضحى انتهى. وأخرج مسلم من طريق عبد الرزّاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، قال:"لا أذان للصلاة يوم العيد، ولا إقامة، ولا شيء" انتهى. قال في "الفتح،: واستدلّ بقوله: "ولا إقامة، ولا شيء" على أنه لا يقال أمام صلاتها شيء من الكلام.

(1)

- "الأوسط" ج 4 ص 259.

ص: 164

لكن روى الشافعيّ، عن الثقة، عن الزهريّ، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذّن في العيدين أن يقول: "الصلاة جامعة"، وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف، لثبوت ذلك فيها. قال الشافعي: أُحِبُّ أن يقول: الصلاة، أو الصلاة جامعة، فإن قال: هلمّوا إلى الصلاة لم أكرهه، فإن قال: حيّ على الصلاة، أو غيرها من الألفاظ كرهت له ذلك.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد اعترض بعض المحققين -وقد أصاب- على ما قاله الشافعيّ رحمه الله بأن مراسيل الزهريّ ضعيفة عند أهل العلم، والقياسُ لا يصحّ اعتباره مع وجود النصّ الثابت الدّالّ على أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العيد أذان، ولا إقامة، ولا شيء، ومن هنا يعلم أن النداء للعيد بدعة بأي لفظ كان. واللَّه تعالى أعلم.

واختُلِف في أول من أحدث الأذان في العيد، فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيّب أنه معاوية، وروى الشافعيّ، عن الثقة، عن الزهريّ مثله، وزاد: فأخذ به الحجّاج حين أُمِّر على المدينة. وروى ابن المنذر، عن حُصين بن عبد الرحمن، قال: أول من أحدثه زياد بالبصرة. وقال الداوديّ: أول من أحدثه مروان.

قال الحافظ رحمه الله: وكل هذا لا ينافي أن معاوية أحدثه، كما تقدّم في البداءة بالخطبة. وقال ابن حبيب: أول من أحدثه هشام. وروى ابن المنذر عن أبي قلابة، قال: أول من أحدثه عبد اللَّه بن الزبير. وقد وقع عند البخاري أن ابن عباس أخبره أنه لم يكن يُؤذَّن لها. لكن في رواية يحيى القطّان أنه لَمّا ساء ما بينهما أذّن -يعني ابن الزبير- وأقام. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌8 - الْخُطْبَة يَوْمَ الْعِيدِ

هذه الترجمة أحسن مما في "الكبرى"، حيث قال فيها:"الخطبةُ يوم النحر قبل الصلاة"، فقد اعتُرض عليه في ذلك، فقال ابن بطّال -كما في الفتح-: غَلِطَ النسائيّ،

(1)

- "فتح" ج 3 ص 129.

ص: 165

فترجم بحديث البراء، فقال. "باب الخطبة قبل الصلاة"، وخفي عليه أن العرب قد تضع الفعل المستقبل مكان الماضي، وكأنه قال صلى الله عليه وسلم: أول ما يكون به الابتداء في هذا اليوم الصلاة التي قدمنا فعلها، قال: وهو مثل قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا} الآية [البروج: 8]، أي الإيمان المتقدّم منهم انتهى.

وقال الحافظ: وأما حديث البراء، فظاهره يخالف الترجمة -يعني ترجمة البخاري- بقوله:"باب الخطبة بعد العيد"، لأن قوله:"أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع، فننحر" مشعر بأن هذا الكلام وقع قبل إيقاع الصلاة، فيستلزم تقديم الخطبة على الصلاة، بناءً على أن هذا الكلام من الخطبة، ولأنه عقّب الصلاة بالنحر.

والجواب أن المراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى العيد، ثم خطب، فقال: هذا الكلام، وأراد بقوله:"إن أول ما نبدأ به" أي في يوم العيد تقديم الصلاة في أيّ عيد كان. والتعقيب بـ "ثم" لا يستلزم عدم تخلّل أمر آخر بين الأمرين.

قال: والمعتمد في صحة ما تأولناه رواية محمد بن طلحة، عن زُبَيد في هذا الحديث بعينه، بلفظ:"خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أضحى إلى البقيع، فصلّى ركعتين، ثمّ أقبل علينا بوجهه، وقال: "إن أول نسكنا في يومنا هذا، أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع، فننحر

" الحديث، فتبين أن ذلك الكلام وقع منه بعد الصلاة. وقال الكرماني: المستفاد من حديث البراء أن الخطبة مقدّمة على الصلاة، ثم قال في موضع آخر:

فإن قلت: فما دلالته على الترجمة؟. قلت: لو قدم الخطبة على الصلاة لم تكن الصلاة أول ما بدىء به، ولا يلزم من كون هذا الكلام وقع قبل الصلاة أن تكون الخطبة وقعت قبلها انتهى.

وحاصله أنه يجعل الكلام المذكور سابقًا على الصلاة، ويمنع كونه من الخطبة.

قال الحافظ: لكن قد بيّنتْ رواية محمد بن طلحة، عن زبيد المذكورة أن الصلاة لم يتقدّمها شيء، لأنه عقّب الخروج إليها بالفاء. وصرّح منصور في روايته عن الشعبي في هذا الحديث بأن الكلام المذكور وقع في الخطبة، ولفظه: عن البراء بن عازب، قال: خطبنا النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال

" فذكر الحديث، فتعيّن التأويل الذي قدمناه انتهى ما في "الفتح" بتصرّف

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1563 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، عِنْدَ سَارِيَةٍ، مِنْ سَوَارِي

(1)

- "فتح" ج3 ص131.

ص: 166

الْمَسْجِدِ، قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ:«إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ، فِي يَوْمِنَا هَذَا، أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ، يُقَدِّمُهُ لأَهْلِهِ» ، فَذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ، قَالَ:«اذْبَحْهَا، وَلَنْ تُوفِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عثمان) بن أبي صفوان الثقفي، أبو عبد اللَّه، أو أبو صفوان البصريّ، ثقة [11] 10/ 468.

2 -

(بهز) بن أسد العمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقة ثبت [9] 24/ 24.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج، تقدم قريبًا.

4 -

(زُبَيد) بن الحارث، أبو عبد الكريم الكوفي، ثقة ثبت عابد [6] 37/ 1420.

5 -

(الشعبي) عامر بن شَرَاحيل الهَمْداني، أبو عمرو الكوفي، ثقة مشهور فقيه فاضل [3] 66/ 82.

6 -

(البراء بن عازب) الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 86/ 105. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، وأبو داود. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن الشعبي -رحمه اللَّه تعالى-، أنه قال:(حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ) - رضي اللَّه تعالى - عنهما (عِنْدَ سَارِيَةِ، من سَوَارِي الْمَسْجِدِ) الظاهر أنه أراد مسجد الكوفة، لأن البراء رضي الله عنه من الصحابة الذين نزلوا الكوفة، ومات بها زمن مصعب بن الزبير

(1)

(قَالَ: خَطَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم "، وفي أخرى:"خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "(يَوْمَ النَّحْرِ) أي اليوم العاشر من ذي الحجة، وهذا محل الترجمة، حيث إن ذلك اليوم يوم العيد، وقد خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ:"إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ) قال السنديّ رحمه الله: قد يقال: "ما نبدأ به" هو الأول، فما معنى إضافة الأول إليه.

(1)

- انظر ترجمته في "تت" ج1 ص 215.

ص: 167

والجواب أنه يمكن اعتبار أمور متعددة، مبتدأ بها باعتبار تقدّمها على غيرها، كأن يُعتبر جميع ما يقع أول النهار مبتدأ به، فما يكون منها متقدّما، يقال له: أولها.

ثم قوله: "نذبح" ينبغي أن يكون معطوفًا على مقدّر، أي فنصلي، ثم نذبح، ولا يستقيم عطفه على "أن نصلي" لأنه خبر عن "أولُ"، والأول لا يتعّدد، إلا أن يُراد بالأول ما يعمّ الأول حقيقةً، وإضافةً، أي يكون أولَ بالنظر إلى ما بعده، وعلى هذا يُعتبر أوّلية الأمرين، أعني الصلاة، والذبح بالنظر إلى الأكل والشرب، اللذين هما من متعلّقات هذا اليوم دِينًا، فكأنه اعتبر الصلاة، والنحر، والأكل، والشرب مبتدأ بها، ثم اعتبر الصلاة، والنحر أول المبتدإ بها، على أن الصلاة أوّلٌ حقيقةً، والنحر أولٌ إضافة انتهى

(1)

. (فِي يَوْمِنَا هَذَا) أي يوم النحر (أن نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا) أي طريقتنا (وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ) أي قبل الصلاة (فَإِنّمَا هُوَ لَحْمٌ، يُقَدِّمُهُ لأَهْلِهِ) من التقديم، أي يجعله لأهله مقدّمًا (فَذَبَحَ) الظاهر أن الفاء لجواب شرط مقدّر، أي إذا عرفت ذلك، فاعرف أنه ذبح أبو بردة قبل ذلك، فقال الخ. قاله السنديّ (أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ) بكسر النون، وتخفيف الياء المثناة من تحتُ، وآخره راء، واسمه هانئ، واسم جده عمرو بن عُبيد، وهو بَلَويّ، من حُلَفاء الأنصار، وقد قيل: إن اسمه الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هُبَيرة، والأول هو الأصحّ. وأخرج ابن منده من طريق جابر الجعفي، عن الشعبيّ، عن البراء، قال: كان اسم خالي قليلاً، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وقال:، "يا كثير إنما نسكنا بعد صلاتنا"، ثم ذكر حديث الباب بطوله، وجابر ضعيف، وأبو بردة ممن شهد العقبة، وبدرًا، والمشاهد، وعاش إلى سنة اثنتين، وقيل: خمس وأربعين. له في الكتب الستة حديث واحد: "لا يُجلد فوق عشر جلدات، إلا في حدّ من حدود اللَّه"

(2)

، وله عند المصنف خمسة أحاديث، الحديث المذكور، وحديثٌ في الذي تزوّج امرأة أبيه، وحديث الباب

(3)

، وحديث:"اشربوا في الظروف، ولا تَسْكَروا". وحديث: "من صلى علي من أمتي صلاة

" في "عمل اليوم والليلة".

[تنبيه]: وقع في النسخ المطبوعة "ابن دينار" بدل "ابن نيار"، وهو غلط، فتنبّه. واللَّه أعلم.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي جَذَعَةٌ) بفتح الجيم، والذال المعجمة: هي ما طعنت في السنة الثانية، والمراد أي من المعز، إذ الجذع من الضأن مُجزئة (خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ) هي ما طعنت في الثالثة (قَالَ:"اذْبَحْهَا، وَلَنْ تُوفِيَ" من الإيفاء، وفي نسخة:"ولن تجَزي"،

(1)

- "شرح السنديّ" ج 3 ص 182.

(2)

- "فتح" ج 11 ص 127 - 128.

(3)

أخرجه في "الأضاحي" برقم (17/ 4397).

ص: 168

وهو بمعناه، قال في "المصباح": جَزَى الأمرُ، يَجْزي، مثلُ قَضَى يَقضي قَضَاءً وزنًا ومعنىً، وفي التنزيل:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، وفي الدعاء:"جزاه اللَّه خيرًا: أي قضاه له، وأثابه عليه، وقد يُستعمل أجزأ بالألف والهمز بمعنى جزى، ونقلهما الأخفش بمعنىً واحد، فقال: الثلاثي من غير همز لغة الحجاز، والرباعي المهموز لغة تميم انتهى (عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ") يعني أنها رخصة لا تعمّ غير أبي بردة رضي الله عنه، وسيأتي ما يتعلّق بالأضحية في بابه إن شاء اللَّه تعالى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث البراء بن عازب - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا -8/ 1563 - وفي "الكبرى" 8/ 1764 - بالسند المذكور وفي -17/ 4394 - عن هناد بن السريّ، عن ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن فراس، وداود بن أبي هند، كلاهما، عن الشعبيّ، عنه. وفي 23/ 1581 و 17/ 4395 - عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن منصور، عن الشعبي، عنه. وفي 17/ 4397 - عن عُبيد اللَّه بن سعيد، وعمرو بن علي، كلاهما، عن يحيى القطّان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بُشَير ابن يسار، عن أبي بُرْدَةَ نفسه. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 20 و 2/ 23 و 2/ 24/ و 2/ 28 و 7/ 128 و 7/ 132 (م) 6/ 74 و 75 (د) 2800 (ت) 1508 (أحمد) 4/ 281 و 4/ 187 و 4/ 297 و 4/ 303 (الدارمي)(1968)(ابن خزيمة)1427. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى- وهو مشروعية الخطبة للعيد.

ومنها: أن ذبح الأضحية يكون بعد الصلاة، فلو قُدّم عليها أعيد بعد الصلاة، وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: ما قاله في "الفتح": إن المفتي إذا ظهرت له من المستفتي أمارة الصدق كان له أن يسهّل عليه، حتى لو استفتاه اثنان في قضيّة واحدة جاز أن يفتي كلاّ منهما بما يُناسب حاله انتهى

(1)

. واللَّه تعالى

(1)

- "فتح" ج 3 ص 124.

ص: 169

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلاَّ باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌9 - (بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ)

1564 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما، كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهويه، ثقة حافظ ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(عبدة بن سليمان) الكلابيّ، أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت، من صغار [8] 7/ 339.

3 -

(عبيد اللَّه) بن عمر العمريّ المدني، ثقة ثبت فقيه [5] 15/ 15.

4 -

(نافع) مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) عبد اللَّه بن الخطاب رضي الله عنهما 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزي، وعبدة، فكوفيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرِ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما، كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ) ولفظ الشخين: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر،

ص: 170

وعمر رضي الله عنهما يُصلّون العيدين قبل الخطبة" انتهى.

وفي حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - عند الجماعة

(1)

إلا الترمذيّ، قال:"شهدت العيد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكلهم كانوا يُصلّون قبل الخطبة"، وفي لفظ:"أشهد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لصلَّى قبل الخطبة" .. وعن أنس رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر، ثمّ خطب". متفق عليه. وعن البراء رضي الله عنه: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الأضحى بعد الصلاة". أخرجه الشيخان، وأبو داود.

وعن جندب رضي الله عنه: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح". متفق عليه.

وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: "خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أضحى، أو فطر إلى المصلى، فصلى، ثم انصرف، فقام، فوعظ الناس

" الحديث. أخرجه الشيخان، والمصنف

(2)

، وابن ماجه. وعن عبد اللَّه بن السائب رضي الله عنه، قال:"شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العيد، فلمّا قضى الصلاة قال: "إنا نخطب، فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب". رواه أبو داود، والمصنّف

(3)

، قال أبو داود: وهو مرسل. وقال النسائي: هذا خطأ، والصواب مرسل.

وعن عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه، أنه قال حين صلى قبل الخطبة، ثمّ قام يخطب: أيها الناس كلّ سنّة اللَّه، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد، قال الحافظ العراقي: إسناده جيّد. فهذه الأحاديث تدلّ على أن المشروع في صلاة العيد تقديم الصلاة على الخطبة، وسيأتي الكلام على أقوال أهل العلم في ذلك في المسألة الرابعة إن شاء اللَّه تعالى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-9/ 1564 - وفي "الكبرى"-9/ 1767 - بالسند المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 22 و 2/ 23 (م) 3/ 20 (ت) 531 (ق) 1276 (أحمد) 2/ 12 و 2/ 38 و 2/ 92 (ابن خزيمة)1443. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- يأتي للمصنف برقم 19/ 1575.

(2)

- يأتي برقم 20/ 1576.

(3)

- سيأتي برقم 15/ 1571.

ص: 171

المسألة الرابعة: في أقوال أهل العلم في تقديم الصلاة على الخطبة:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: قد ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة في يوم العيد، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون المهديون، وعليه عوامّ علماء الأمصار.

فممن كان يبدأ بالصلاة قبل الخطبة أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة، وابن مسعود، رضي الله عنه، وهذا قول ابن عباس، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبي ثور، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

قال: وفيه قول سواه، روينا أن عثمان كان يخطب بعد الصلاة، فلما كثر الناس على عهده رآهم لا يدركون الصلاة خطب ثم صلى، وروينا عن ابن الزبير أنه فعل ذلك، وروي ذلك عن مروان بن الحكم. انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- باختصار

(1)

.

وقال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: هذا هو المتّفق عليه بين علماء الأمصار، وأئمّة الفتوى، ولا خلاف بين أئمتهم فيه، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده، إلا ما روي أن عمر

(2)

في شطر خلافته الآخر قدّم الخطبة، لأنه رأى من الناس مَن تفوته الصلاة، وليس بصحيح، ثمّ قال: وقد فعله ابن الزبير في آخر أيامه.

وقال ابن قُدَامة -رحمه اللَّه تعالى-: لا نعلم خلافًا بين المسلمين إلا عن بني أميّة، قال: وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أنهما فعلاه، ولم يصحّ عنهما، قال: ولا يُعتدّ بخلاف بني أمية، لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم، ومخالف لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم "الصحيحة" وقد أُنكر عليهم فعلهم، وعُدّ بدعةً، ومخالفا للسنّة.

وقال العراقي -رحمه اللَّه تعالى-: إن تقديم الصلاة على الخطبة قول العلماء كافّةً، وقال: إنّ ما روي عن عمر، وعثمان، وابن الزبير لم يصحّ عنهم.

أما رواية ذلك عن عمر، فرواها ابن أبي شيبة أنه لما كان عمر، وكثر الناس في زمانه، فكان إذا ذهب ليخطب ذهب أكثر الناس، فلما رأى ذلك بدأ بالخطبة، وختم بالصلاة. قال: وهذا الأثر، وإن كان رجاله ثقات، فهو شاذّ، مخالف لما في "الصحيحين" عن عمر من رواية ابنه عبد اللَّه، وابن عباس، وروايتهما عنه أولى.

قال: وأما رواية ذلك عن عثمان، فلم أجد لها إسنادًا

(3)

.

(1)

- "الأوسط" ج 4 ص 270 - 273.

(2)

- تقدم في كلام ابن المنذر أنه عثمان، ولعله مرويّ عنهما.

(3)

- بل رواه ابن المنذر في "الأوسط" بإسناد صحيح إلى الحسن البصري، فانظره ج4 ص 272 - 273، فالأولى الجمع بأنه فعل ذلك في بعض الأحيان. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 172

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: يقال: إن أوّل من قدّمها عثمان، وهو كذبٌ لا يُلتفت إليه انتهى. ويردّه ما ثبت في "الصحيحين" من رواية ابن عباس عن عثمان كما تقدّم.

وقال الحافظ في "الفتح": إنه روى ابن المنذر ذلك عن عثمان بإسناد صحيح إلى الحسن البصريّ، قال: أوّل من خطب الناس قبل الصلاة عثمان. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانًا، وقال بعد أن ساق الرواية المتقدّمة عن عمر، وعزاها إلى عبد الرزّاق، وابن أبي شيبة، وصحح إسنادها: إنه يحمل على أن ذلك وقع منه نادرًا.

قال العراقي: وأما فعل ابن الزبير، فرواه ابن أبي شيبة في "المصنّف"، وإنما فعل ذلك لأمر وقع بينه وبين ابن عبّاس، ولعلّ ابن الزّبير كان يرى ذلك جائزًا، وقد تقدّم عن ابن الزبير أنه صلى قبل الخطبة.

وثبت في "صحيح مسلم" عن عطاء أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير أوّل ما بويع له أنه لم يكن يؤذن للصلاة يوم الفطر، فلا تؤذّن لها، قال: فلم يؤذّن لها ابن الزبير يومه، وأرسل إليه مع ذلك: إنما الخطبة بعد الصلاة، وإن ذلك قد كان يُفعل، قال: فصلّى ابن الزبير قبل الخطبة.

قال الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ويُقال: إن أول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكَم انتهى.

وقد ثبت في "صحيح مسلم" من رواية طارق بن شهاب، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أولُ من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان.

وقيل: أول من فعل ذلك معاوية حكاه القاضي عياض، وأخرجه الشافعيّ عن ابن عباس رضي الله عنه بلفظ:"حتى قدم معاوية، فقدّم الخطبة". ورواه عبد الرزّاق عن الزهريّ بلفظ: "أول من قدم الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية".

وقيل: أولُ من فَعَل ذلك زياد في البصرة في خلافة معاوية، حكاه القاضي عياض أيضًا.

وروى ابن المنذر، عن ابن سيرين: أولُ من فعل ذلك زياد بالبصرة، قال: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان، لأنّ كلاّ من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية، فيحمل على أنه ابتدأ ذلك، وتبعه عمّاله.

قال العراقيّ: الصواب أنّ أول من فعله مروان بالمدينة في خلافة معاوية، كما ثبت في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: ولم يصحّ فعله عن أحد من

ص: 173

الصحابة، لا عمر، ولا عثمان، ولا معاوية، ولا ابن الزبير انتهى.

قال العلامة الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى-: وقد عرفت صحة بعض ذلك، فالمصير إلى الجمع أولى.

وقد اختلف في صحّة صلاة العيدين مع تقدّم الخطبة، ففي "مختصر المزنيّ" عن الشافعيّ رحمه الله ما يدل على عدم الاعتداد بها

(1)

.

قال النووي في "شرح المهذّب": لو حْطب قبل صلاة العيد فهو مسيء، وفي الاعتداد بالخطبة احتمال لإمام الحرمين، والصحيح، بل الصواب أنه لا يُعتدّ بها، لقوله صلى الله عليه وسلم:"صلّوا كما رأيتموني أصلّي"، وقياسًا على السنة الراتبة بعد الفريضة إذا قدّمها عليها، وهذا الذي صححته هو ظاهر نصّ الشافعيّ في "الأمّ"، ونقله القاضي أبو الطيّب في "التجريد" عن نصّه في "الأمّ"، قال: فإن بدأ بالخطبة قبل الصلاة رأيت أن يعيد الخطبة بعد الصلاة، فإن لم يفعل لم يكن عليه إعادة صلاة، ولا كفّارة، كما لو صلى ولم يخطب. هذا نصّه بحروفه. وهو ظاهر في أن الخطبة غير محسوبة، ولهذا قال: كما لو صلّى ولم يخطب انتهى كلام النووي بتصرف يسير

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الستة تقديم الصلاة على الخطبة، وأنه إن بدأ بالخطبة قبل الصلاة لا يُعتدّ بها؛ لمخالفته السنةَ، لكن الصلاة صحيحة؛ لأن الخطبة ليست من شروط صحتها، بل هي سنة من سننها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌10 - (بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ إِلَى الْعَنَزَةِ)

" العنَزَة" بفتحات: عصًا أقصرُ من الرمح، ولها زُجٌّ من أسفلها، والجمع عَنَزٌ، وعَنَزَات، مثلُ قَصَبَة، وقَصَبٍ، وقَصَبَات. قاله في "المصباح".

1565 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ

(1)

- "نيل الأوطار" ج 3 ص 349 - 350.

(2)

- "المجموع" ج5 ص30.

ص: 174

أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُخْرِجُ الْعَنَزَةَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ الأَضْحَى، يُرْكِزُهَا، فَيُصَلِّى إِلَيْهَا".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبد الرّزّاق) بن همّام بن نافع الصنعانيّ، ثقة حافظ تغير في آخره [9] 61/ 77.

2 -

(معمر) بن راشد الصنعاني، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختياني، ثقة ثبت حجة [5] 42/ 48.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم،

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُخْرِجُ الْعَنَزَةَ) وتقدّم للمصنف -4/ 747 - بلفظ: "كان يركز الحربة، ثم يصلي إليها".

ومعني قوله: "كان يخرج العنزة" أي يأمر بإخراجها، ففي رواية البخاري من طريق عُبيد اللَّه، عن نافع:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها .. " الحديث، وفي رواية له من طريق الأوزاعيّ، عن نافع:"كان يَغْدُو إلى المصلَّى، والعنزة تحُمَل بين يديه، فيصلي إليها، زاد في رواية ابن ماجه، وابن خزيمة، والإسماعيليّ: "وذلك أنّ المصلّى كان فَضَاء، ليس فيه شيء يستره".

ولا تنافي بين رواية العنزة ورواية الرمح لإمكان الجمع بأنه استعمل كلاّ منهما في أوقات مختلفة، فقد ذكر في "الفتح": أنه قد روى عمر بن شبّة في "أخبار المدينة" من حديث سعد القرظ: إنّ النجاشي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حربة، فأمسكها لنفسه، فهي التي يُمشَى بها مع الإمام يوم العيد. ومن طريق الليث أنه بلغه أن العَنَزَة التي كانت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كانت لرجل من المشركين، فقتله الزبير بن العوّام يوم أحد، فأخذها منه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينصبها بين يديه إذا صلّى.

قال: ويحتمل الجمع بأن عنزة الزبير كانت أوّلاً قبل حربة النجاشي. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فإن قلت: إن الحربة من سلاح الحرب، وقد ورد

(1)

- "فتح" ج1 ص 683 نسخة طبعة دار الريان للتراث.

ص: 175

النهي عن حمل السلاح يوم العيد، فكيف يجمع بينه، وبين حمل الحربة هنا؟.

وقد بوّب البخاريّ رحمه الله، في "صحيحه" "باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم". وقال الحسن: نهُوا أن يحملوا السلاح يوم عيد، إلا أن يخافوا عدوّا، ثم أخرج بسنده قصّة ابن عمر رضي الله عنه مع الحجّاج بن يوسف حين أُصيب ابن عمر بسنان الرمح في أخمص قدمه، فجاء الحجاج ليعوده، فقال: لو نعلم من أصابك، فقال ابن عمر: أنت أصبتني، قال: وكيف؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يُحمَل فيه .. " الحديث، وفي رواية: أصابني من أمر يحمل السلاح في يوم لا يحلّ فيه حمله".

أجيب بأن النهي عن حمل السلاح إنما هو عند خشية التأذّي به، فأما إذا أُمن من ذلك فلا حرج فيه

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

(يَومَ الْفِطْر، وَيوْمَ الأَضْحَى) الظرف متعلّق بـ"يخرج"(يَرْكِزُهَا) من بابي ضرب، وقتل، كما في "القاموس"، يقال: رَكَزتُ الرمح، رَكْزًا: أثبتُّهُ بالأرض، فارتكز، والمركِزُ وزان المسجد: موضع الثبوت. أفاده في "المصباح"(فَيُصَلِّي إِلَيْهَا) زاد في رواية الشيخين من طريق عبيد اللَّه، عن نافع، "والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثَمَّ اتخذها الأمراء".

قال في "الفتح": وهذه الجملة الأخيرة فصلها عليّ بن مُسهر من حديث ابن عمر رضي الله عنه، فجعلها من كلام نافع، كما أخرجه ابن ماجه، وأوضحتُهُ في كتاب "المدرج". انتهى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث

(2)

:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا- 10/ 1565 - وفي "الكبرى" 10/ 1769 - بالسند المذكور، وتقدّم رقم 4/ 747 - و"الكبرى" 2/ 822 - عن عبيد اللَّه بن سعيد، عن يحيى القطّان، عن عبيد اللَّه ابن عمر، عن نافع، عنه بلفظ:"كان يَركز الحربة، ثم يصلي إليها". واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- راجع "الفتح" ج3 ص 142.

(2)

- تقدم تخريج هذا الحديث برقم 4/ 747 - حيث أورده المصنف رحمه الله من طريق عبيد اللَّه، عن نافع، بلفظ:"كان يركز الحربة، ثم يصلي إليها"، لكنه مختصر، فأعدته هنا استكمالا لما لم يُذكرهناك. فتنبّه.

ص: 176

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 1/ 133 و 2/ 25 (م) 2/ 55 (د) 687 (ق) 9411304 (أحمد) 2/ 18 و 2/ 98 و 2/ 142 و 2/ 145 (ابن خزيمة) 798 و 799 و 1433 وو 1434 و 1435 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية صلاة العيدين إلى العنَزَة. ومنها: اتخاذ السترة لمن يصلي في الصحراء لئلا يقطع صلاتَه المارُّ بين يديه.

ومنها: جواز الاستخدام. ومنها: أخذ آلة دفع الأعداء، فإن الحربة من آلات الدفع، وقد تقدّم الجمع بين حديث النهي عن حمل السلاح يوم العيد وحديث الباب، فلا تغفل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب"

‌11 - (عَدَدُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دلالة حديث الباب على الترجمة واضحة، فإنه صريح في كون صلاة العيدين ركعتين، وهذا مجمع عليه، كما صرّح به النووي في "المجموع". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1566 -

أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ زُبَيْدٍ الأَيَامِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، ذَكَرَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ:"صَلَاةُ الأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ لَيْسَ بِقَصْرٍ، عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث قد تقدّم في "كتاب الجمعة" برقم - 37/ 1420 - أورده هناك مستدلاّ على عدد صلاة الجمعة، رواه عن علي بن حُجر، عن شريك، عن زُبيد به، وأعاده في المسافر برقم - 1/ 1440 - عن حميد بن مَسْعَدة، عن سفيان بن حبيب، عن شعبة، عن زبيد به، وهو حديث صحيح، وإن كان فيه انقطاع، حيث إن ابن أبي ليلى لم يسمع من عمر، كما تقدّم ذلك للمصنّف، لكن له سند آخر أخرجه به ابن ماجه في "سننه"، والمصنف في "الكبرى"، وصححه ابن خزيمة من

ص: 177

رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن عمر رضي الله عنه، وقد تقدّم الكلام عليه مُستوفّى في "الجمعة"، فلا حاجة إلى تطويل الكتاب بإعادته هنا، وإنما أتكلّم فيما يتعلّق بما ترجم له المصنف -رحمه تعالى-، فأقول:

[مسألة]: أجمع أهل العلم - كما سبق عن النووي رحمه الله على أن صلاة العيدين ركعتان، وإنما اختلفوا في التكبيرات الزوائد فيهما:

فقد اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال:

(أحدها): أنه يكبّر في الأولى سبعًا، وفي الآخرة خمسًا، وبه قال كثير من أهل العلم: رُوي ذلك عن أبي هريرة، وابن عباس، وأبي سعيد، وابن عمر رضي الله عنهما. وبه قال يحيى الأنصاريّ، والزهريّ، ومالك بن أنس، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، قال الشافعيّ: ليس من السبع تكبيرةُ الافتتاح، ولا من الخمس في الثانية تكبيرةُ القيام. وقال أبو ثور: يكبّر سبع تكبيرات مع تكبيرة الافتتاح، ويقوم في الثانية فيكبّر خمس تكبيرات.

(الثاني): أن التكبير في العيدين تسعٌ تسعٌ، روي ذلك عن ابن عباس، والمغيرة بن شعبة، وفسّر ذلك ابن مسعود لبعض الأمراء

(1)

، فقال: تقوم، فتكبّر أربعًا متواليات، ثم تقرأ، ثم تكبّر، فتركع، وتسجد، ثم تقوم، فتقرأ، ثم تكبّر تركع بآخرهن، وحضر قول ابن مسعود هذا حذيفة، وأبو موسى الأشعريّ، وأبو مسعود عقبة بن عمرو، فقالوا: صدق أبو عبد الرحمن، ورُوي هذا القول عن أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وبه قال النخعيّ، وأصحاب الرأي. وقال سفيان الثوريّ في التكبير في الفطر والأضحى: يكبر أربع تكبيرات قبل القراءة، ثم يقوم في الركعة الثانية، فيقرأ، ثم يكبّر أربع تكبيرات، ثم يركع بالرابعة.

(الثالث): روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أن التكبير يوم الفطر ثلاث عشرة يكبرهنّ، وهو قائم سبع في الركعة الأولى منهن تكبيرة الاستفتاح للصلاة، وتكبيرة الركوع، فهنّ ستّ قبل القراءة، وواحدة بعدها، وفي الآخرة ستّ تكبيرات، منهنّ تكبيرة الركعة، فهنّ خمس قبل القراءة، وواحدة بعدها.

(الرابع): روي عن الحسن البصريّ، قال: في الأولى خمس تكبيرات، وفي الآخرة ثلاث، سوى تكبيرتي الركوع.

(الخامس): أن التكبير في العيدين كالتكبيرات على الجنائز أربع أربع، روي هذا عن

(1)

- هو سعيد بن العاص الأموي.

ص: 178

حذيفة، وأبي موسى، وابن مسعود، وابن الزبير.

(السادس): أنه يكبّر في الأولى أربع تكبيرات قبل القراءة، سوى تكبيرة الصلاة، وفي الثانية ثلاث تكبيرات بعد القراءة، سوى تكبيرة الصلاة، وهو مرويّ عن جابر رضي الله عنه.

(السابع): أن يكبّر واحدة يفتتح بها الصلاة، ثم يكبّر ثلاثًا، ثم يقرأ، ثم يكبر، فيركع ويسجد، ثم يقوم، فيقرأ، ثم يكبّر ثلاثاً، ثم يكبّر أخرى، فيركع ويسجد. قاله ابن سيرين.

(الثامن): يكبر واحدة يفتتح بها الصلاة، ثم ثلاثًا، ثم يقرأ، ثم يكبّر، فيركع ويسجد، ثم يقوم، فيقرأ، ثم يكبّر ثلاثًا، فيركع بالثالثة ويسجد. قاله الحسن البصري في رواية عنه.

(التاسع): يكبّر في الفطر ثنتي عشرة تكبيرة، يفتتح بتكبيرة، ثم يقرأ، ثم يكبر خمسا يركع بإحداهنّ، ثم يقوم، فيقرأ، ثم يكبّر خمسا يركع بإحداهنّ، وكان يكبّر خمسًا في الأضحى، يكبّر تكبيرة واحدة التي توجب بها الصلاة، ثم يقرأ، ثم يكبّر ثنتين يركع بإحداهما، ثم يقوم، فيقرأ، ثم يكبر ثنتين يركع بإحداهما. يروى هذا القول عن علي رضي الله عنه.

(العاشر): روي عن يحيى بن يعمر أنه قال في الأضحى إذا دخلت المسجد، فكبر تكبيرين، ثم اقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وأسمع من حولك، ولا ترفع صوتك، وفي الأخرى مثل ذلك، وقال في الفطرة مثل قول ابن مسعود رضي الله عنه في الأولى أربع أربع، وفي الأخرى ثلاث، سوى تكبيرتي الركوع، وأسمع من حولك.

(الحادي عشر): قاله حماد بن أبي سليمان قال: ليس في تكبيرة العيد شيء مؤقّت.

(الثاني عشر): وهي رواية أخرى عن ابن عباس أن التكبير يوم الفطر، ويوم النحر تسع تكبيرات، واحدى عشرة، وثلاث عشرة، وكلّ سنّة.

قال ابن المنذر رحمه الله: وبالقول

(1)

الأول أقول، لحديث عبد اللَّه بن عمرو، وعمرو ابن عوف رضي الله عنه.

قال: حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفي، أنه سمع عمرو بن شعيب، يحدّث عن أبيه، عن جدّه، "أن رسول صلى الله عليه وسلم كبّر يوم الفطر في الركعة الأولى سبعًا، ثم قرأ، فكبّر تكبيرة الركوع، ثم كبّر في الأخرى خمسًا، ثم

(1)

- عبارة "الأوسط": "وبالحديث الأول الخ"، والظاهر أن الصواب "القول الأول" فتنبه.

ص: 179

قرأ، ثم كبّر، ثم ركع".

حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: ثنا ابن إدريس، عن كثير بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن جدّه، "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكبّر في العيدين في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا قبل القراءة". انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- بتصرف واختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أما حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه المذكور فأخرجه أيضًا أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، وفي إسناده عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفي، قال عنه في "ت": صدوق يخطئ ويهم. لكن قال الحافظ في "التلخيص" بعد ذكر الحديث: صححه أحمد، وعلي -يعني ابن المديني-، والبخاريّ فيما حكاه الترمذيّ. انتهى.

والظاهر -كما قال بعض المحققين- أن تصحيحهم لشواهده، فقد وردت أحاديث تشهد له:

فمنها: حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود، والحاكم، والبيهقي، وفي سنده ابن لهيعة، لكن الراوي عنه عبد اللَّه بن وهب، فقد قال الحافظ عبد الغنيّ بن سعيد الأزدفي: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة، فهو صحيح: ابن المبارك، وابن وهب، وعبد اللَّه بن يزيد المقرئ انتهى، وزاد غيره عبد اللَّه بن مسلمة القعني، وقد نظمت ذلك بقولي:

ابْنُ لَهِيعةَ ضَعِيفٌ غَيْرَ مَا

رَوَى الْعَبَادِلَةُ عَنْهُ فَاعْلَمَا

أَبْنَاءُ وَهْبٍ وَيَزِيدَ مَسْلَمَهْ

وَابْنُ الْمُبَارَكِ حَلِيفُو الْمَكرَمَهْ

والحاصل أن الحديث صحيح، ولا سيما وحديث الباب يقوّيه. واللَّه تعالى أعلم.

ومنها: عن عبد الرحمن سعد بن عمّار بن سعد مؤذّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أبيه، عن جدّه، "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يكبّر في العيدين، في الأولى سبعًا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة". أخرجه ابن ماجه، والحاكم، والبيهقي. وفي سنده ضعف، واختلاف.

ومنها: عن ابن عمر رضي الله عنه عند الطحاويّ، والدارقطني، وفيه الفرج بن فَضَالة، وهو ضعيف. ومنها: عن عليّ رضي الله عنه، رواه الضياء في "المنتقى من مسموعاته بمرو".

ومنها: حديث كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، "أن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر في العيدين، في الأولى سبعًا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة".

(1)

- "الأوسط" ج 4 ص 273 - 279.

ص: 180

رواه الترمذيّ، وابن ماجه، والطحاويّ، والدارقطنيّ، والبيهقي، وابن عديّ، وقال الترمذيّ: حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم. كذا قال، لكن أنكر جماعة تحسينه، لأن كثير بن عبد اللَّه واه جدّا، حتى قال الشافعيّ: هو ركن من أركان الكذب. انتهى. وقال بعض المحققين: وأحسن أحاديث الباب حديث عائشة، وعبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه، فإن الضعف الذي في سنديهما يسير، بحيث يصلح أن يتقوّى أحدهما بالآخر انتهى.

والحاصل أن حديث الباب صحيح، بهذه الأحاديث، ويؤيده عمل كثير من الصحابة به، فقد تقدم ذلك عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنهم -.

فتلخّص من هذا أن أصح المذاهب في هذه المسألة المذهب الأول، وهو أن يكبّر في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌12 - بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِيدَيْنِ بِـ {ق} ، و {اقْتَرَبَتِ}

1567 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ضَمْرَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ رضي الله عنه يَوْمَ عِيدٍ، فَسَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ، بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟ فَقَالَ: بِقَافْ وَاقْتَرَبَتْ.

هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عُيينة الإمام المثبت الحجة [8] 1/ 1.

3 -

(ضمرة بن سعيد) الأنصاريّ المدني، مقبول [4] 35/ 566.

4 -

(عُبيد اللَّه بن عبد اللَه) بن عتبة المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 45/ 56.

5 -

(أبو واقد الليثي) الصحابيّ رضي الله عنه، قيل: اسمه الحارث بن مالك، وقيل: ابن وقيل: اسمه عوف بن الحارث بن أسيد بن جابر بن عُويمرة بن عبد مناة بن

ص: 181

أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن عليّ بن كنانة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر رضي الله عنه. وعنه ابناه عبد الملك، وواقد، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، وأبو مرّة مولى عَقيل بن أبي طالب، وعطاء ابن يسار، وغيرهم. قيل: إنه شهد بدرًا، قال الواقديّ: توفّي سنة (68) وهو ابن (65) وفيها أرّخه يحيى بن بُكير، وابن نُمير، وغير واحد، زاد ابن بُكير: وسنّه (70) سنة، وقال غيرهم: وهو ابن (75) سنة، وقال البخاريّ، وابن حبّان: شهد بدرًا، وقال ابن عبد البرّ: قيل: إنه شهد بدرًا، وتوفي، وسنه (85) سنة، وقال الباورديّ في "الصحابة": شهد بدرًا، ثم صفّين، ومات، وله (87) سنة. انتهى. وصحح في "ت" أنه مات سنة (68) وهو ابن (85) سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن افراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمكيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه عبيد اللَّه من الفقهاء السبعة. (ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا خمسة أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن عتبة، أنه (قَالَ:) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث غير متصل، لأن عبيد اللَّه لا سماع له من عمر، وقد وصله مسلم من طريق فُليح، عن ضمرة ابن سعيد، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن أبي واقد الليثيّ، قال: سألني عمر، فذكره انتهى. وسيأتىِ تمام الكلام عليه قريبا إن شاء اللَّه تعالى (خَرَجَ عُمَرُ) بن الخطّاب (رضي الله عنه يَوْمَ عِيدٍ، فَسَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثيَّ، بِأَيّ شَيْءٍ كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَقْرَأ فِي هَذَا الْيَوْم؟) ولفظ "مسلم" من طريق مالك، عن ضمرة بن سعيد: أن عمر بن الخطاب سألَ أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟، فقال: كان يقرأ فيهما بقاف والقرآن المجيد"، و"اقتربت الساعة"، "وانشقّ القمر".

قال الباجيّ رحمه الله: يحتمل أن يسأله على معنى الاختبار، أو نسي، فأراد أن يتذكّر. وقال النووي رحمه الله: قالوا: يحتمل أنه شكّ في ذلك، فاستثبته، أو أراد إعلام الناس بذلك، أو نحو هذا من المفاسد، قالوا: ويبعد أن عمر لم يعلم ذلك مع شهود صلاة

ص: 182

العيد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّات، وقربه منه انتهى

(1)

. (فَقَالَ) أي أبو واقد الليثيّ رحمه الله (بِقَافْ وَاقْتَرَبَتْ) متعلق بمحذوف يدلّ عليه السؤال، أي يقرأ بـ"قاف" في الركعة الأولى، و"اقتربت" في الركعة الثانية.

قال العلماء: الحكمة في قراءتهما لما اشتملتا عليه من الإخبار بالبعث، والإخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذّبين، وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم للبعث، وخروجهم من الأجداث، كأنهّم جراد منتشر (1). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي واقد الليثيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه انقطاع؛ لأن عبيد اللَّه لم يُدرك عمر رضي الله عنه؟.

[قلت]: الانقطاع إنما هو في هذا الطريق فقط، فقد أخرجه مسلم بعد أن أخرجه من هذا الوجه من طريق فُليح، عن ضمرة بن سعيد، عن عبيد اللَّه، عن أبي واقد الليثي - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: سألني عمر بن الخطّاب

فذكره. قال النووي رحمه الله بعد أن ذكر أن الرواية الأولى مرسلة، لأن عبيد اللَّه لم يدرك عمر: ما نصّه: ولكن الحديث صحيح بلا شكّ، متّصل من الرواية الثانية، فإنه أدرك أبا واقد بلا شكّ، وسمعه بلا خلاف، فلا عَتْبَ على مسلم حينئذ في روايته، فإنه صحيح متّصل، واللَّه أعلم انتهى.

وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: وقد زعم بعض أهل العلم بالحديث أن هذا الحديث منقطع، لأن عبيد اللَّه لم يلق عمر، وقال غيره: هو متّصل مسند، ولقاء عبيد اللَّه لأبي واقد الليثيّ غير مدفوع، وقد سمع عبيدُ اللَّه من جماعة من الصحابة، ولم يذكر أبو داود في "باب ما يقرأ به في العيدين" إلا هذا الحديث، وهذا يدلّ على أنه عنده متصل صحيح

(2)

انتهى كلام ابن عبد البرّ

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: الحاصل أن الحديث متصل صحيح من طريق فُليح كما أخرجه مسلم رحمه الله في "صحيحه"، من الطريقين إشارةً إلى أن مثل هذا الانقطاع لا يضرّ بصحة الحديث. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

(1)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 181 - 182.

(2)

- في هذا الكلام نظر لا يخفى، لأن أبا داود رحمه الله لم يلتزم أن يخرّج الصحيح المتصل عنده في كتابه حتى يُستدلّ بصنيعه هذا على صحة الحديث عنده، فتأمل.

(3)

- "التمهيد" ج 16 ص 328.

ص: 183

أخرجه هنا-12/ 1567 - وفي "الكبرى" 12/ 1773 - بالسند المذكور، وفي "الكبرى"

(1)

عن قتيبة، عن مالك، عن ضمرة به، وعن أحمد بن سعيد، عن يونس بن محمد، عن فليح بن سليمان، عن ضمرة بن سعيد، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن أبي واقد الليثيّ، قال: سألني عمر بن الخطاب عما قرأ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في يوم العيد

فذكره. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 3/ 21. (د) 1154 (د) 534 و 535 (ت) 1282 (مالك في الموطإ) ص 128 (الحميدي) 849 (أحمد) 5/ 217 و 5/ 219 (ابن خزيمة) 1440. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في أقوال أهل العلم فيما يقرأ في صلاة العيدين:

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى: اختلفت الآثار في هذا الباب، وكذلك اختلف الفقهاء أيضا فيه، فقال مالك: يقرأ في صلاة العيدين بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ونحوها. وقال الشافعيّ بحديث أبي واقد الليثيّ هذا في {قاف} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . وقال أبو حنيفة: يقرأ فيهما بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وما قرأ من شيء أجزأه. وقال أبو ثور: يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وقد روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مثل ذلك.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ فيهما بأمّ القرآن وسورة من المفصّل. وكان أبان بن عثمان يقرأ فيهما بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .

وليس في هذا الباب أثر مرفوع إلا حديث أبي واقد الليثيّ المذكور في هذا الباب، وحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}

(2)

، وحديث حبيب بن أبي سالم، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

مثله.

قال: وفي اختلاف الآثار في هذا الباب دليل على أن لا توقيت فيه. واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-

(4)

.

وقال: الإمام أبو بكر ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ذكر نحو ما تقدّم من

(1)

- هكذا عزاه إلى الكبرى في "تحفة الأشراف" ج 11/ ص 15513، ولم أره فيه.

(2)

- أخرجه أحمد في "مسنده"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" ج 2/ 176 بسند صحيح ج 5/ 7.

(3)

- يأتي للمصنف في الباب التالي.

(4)

- "التمهيد" ج 16 ص 328 - 329.

ص: 184

الاختلاف: ما نصّه: الإمام بالخيار، إن شاء قرأ في صلاة العيدين بـ {ق} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} وإن شاء قرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} والاختلاف في هذا من الاختلاف المباح، وإن قرأ بفاتحة الكتاب وسورة سوى ما ذكرناه أجزأه. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر من الأحاديث أنه يستحبّ للإمام أن يقرأ بهذه السور في العيدين، تارة بهذا وتارة بهذا، ولكن لا يتعيّن عليه ذلك، كما قال ابن المنذر، وابن عبد البرّ، -رحمهما اللَّه تعالى- من أن هذا الاختلاف من الاختلاف المباح، فيجوز أن يقرأ بعد الفاتحة بما شاء من القرآن. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌13 - بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِيدَيْنِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}

1568 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَيَقْرَأُ بِهِمَا".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح وقد تقدم في "الجمعة" 40/ 1424 - سندا ومتنًا، رواه عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد الْهُجَيمي، عن شعبة، عن إبراهيم ابن المنتشر به، وتقدم الكلام عليه مُستوفًى هناك، فراجعه تستفد.

وأبو عوانة: اسمه الوضاح بن عبد اللَّه اليشكري الواسطيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- "الأوسط" ج4 ص 284 ببعض تصرّف.

ص: 185

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌14 - (بَابُ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدَيْنِ بَعْدَ الصَّلَاةِ)

1569 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ أَيُّوبَ يُخْبِرُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنِّي شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختياني البصريّ تقدم قبل بابين.

2 -

(عطاء) بن أبي رَبَاح أسلم المكي الإمام الحجة الفقيه [3] 112/ 154.

3 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31.

والباقيان تقدّما قبل باب، وسفيان هو ابن عيينة.

والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي في 28/ 1586 - مطوّلاً، ويأتي شرحه، وبيان ما يتعلّق به من المسائل هناك، إن شاء اللَّه تعالى، ودلالته على التوجمة واضحة، وقد تقدّم الكلام في تقديم الصلاة على الخطبة في 9/ 1564 مستوفّى، فراجعه هناك تستفد.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1570 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ:"خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ".

قال الجامعَ - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح وقد تقّدم في باب "الخطبة بعد العيد" 18/ 1563 - رواه عن محمد بن عثمان، عن بهز، عن شعبة، عن زُبَيد، عن الشعبي به، ومضى البحث فيه مستوفًى هناك، فراجعه تستفد.

و"أبو الأحوص": هو سلاّم بن سُليم الحنفيّ الكوفي، و"منصور: هو ابن المعتمر".

ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 186

‌15 - التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْجُلُوسِ فِي الْخُطْبَةِ لِلْعِيدَيْنِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الكلام يحتاج إلى تقدير؛ لأن "بين" لا تضاف إلا إلى متعدد، أو متعاطف، نحو المال بين القوم، والدار بين زيد وعمرو. والتقدير هنا "وبين الذهاب" أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على تخيير الشخص بين جلوسه لسماع الخطبة وبين ذهابه إلى حاجته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1571 -

حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعِيدَ، قَالَ:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلْيَنْصَرِفْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيُقِمْ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن يحيى بن أيوب) بن إبراهيم الثقفي، أبو يحيى المروزيّ القَصْريّ المعلّم، ثقة حافظ [10] 162/ 254.

2 -

(الفضل بن موسى) السِّينَانيّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، ثقة ثبت، وربّما أغرب، من كبار [9] 82/ 100.

3 -

(ابن جُريج) عبد الملك بن عبد العزيز المكيّ الفقيه المثبت الحجة، إلا أنه يدلس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح المذكور في الباب الماضي.

5 -

(عبد اللَّه بن السائب) بن أبي السائب بن عائذ المخزومي المكيّ قارئ أهل مكة، له ولأبيه صحبة رضي الله عنه، تقدم في 5/ 776. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمروزيّان. (ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا نحو ستة أحاديث، راجع "تحفة الأشراف" 3/ 346 - 348. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- وفي نسخة "أنا".

ص: 187

شرح الحديث

(عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى الْعِيدَ، قَالَ:) ولفظ "الكبرى": "وقال" بالواو، وهو ظاهر، وللأول أيضًا وجه صحيح، وهو أن يجعل بدلاً من الفعل، كما قال ابن مالك رحمه الله:

وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ كمَنْ

يَصِلْ اِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ

ولفظ أبي داود: شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العيد، قد ما قضى الصلاة قال:"إنا نخطب، فمن أحبّ أن يجلس للخطبة، فليجلس، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب"(مَن أَحَبَّ أَنَّ يَنْصَرِفَ) أي يرجع إلى بيته قبل سماع الخطبة (فَلْيَنْصَرِفْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ) من الإقامة، أي يجلس (لِلْخطْبَةِ) أي لأجل سماعها (فَلْيُقِمْ) بضم الياء، من الإقامة، أي فليثبت في محلّه حتى يسمع الخطبة. وفيه دليل على أن الجلوس لسماع خطبة العيد غير واجب. قال في "المنتقى": وفيه بيان أن الخطبة سنّة، إذ لو وجبت لوجب سماعها انتهى.

قال الشوكاني رحمه الله: وفيه أن تخيير السامع لا يدك على عدم وجوب الخطبة، بل على عدم وجوب سماعها، إلا أن يقال: إنه يدلّ من باب الإشارة، لأنه إذا لم يجب سماعها لا يجب فعلها، وذلك لأن الخطبة خطاب، ولا خطاب إلا لمخاطب، وإذا لم يجب السماع على المخاطب لم يجب الخطاب، وقد اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيرُهُم على عدم وجوب خطبته، ولا أعرف قائلاً بوجوبها انتهى

(1)

.

وقال النووي رحمه الله: واتفق أصحابنا على أنه لو قدّمها على الصلاة صحّت، ولكنه يكون تاركًا للسنّة، مفوّتا للفضيلة، بخلاف خطبة الجمعة، فإنه يشترط لصحّة صلاة الجمعة تقدّم خطبتها عليها، لأن خطبة الجمعة واجبة، وخطبة العيد مندوبة انتهى

(2)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

هذا الحديث قال أبو داود رحمه الله: مرسل عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى، وقال النسائيّ رحمه الله: هذا خطأ، والصواب أنه مرسل انتهى

(3)

. وأخرج البيهقي عن العبّاس الدُّورِيّ، قال: سمعت يحيى -يعني ابن معين- يقول: عبد اللَّه بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم العيد هذا إنما هو عن عطاء، فقط، وإنما يَغلَط فيه الفضل بن موسى السِّينَانيّ، يقول: عن

(1)

- "نيل الأوطار" ج3 ص 363.

(2)

- "شرح مسلم" ج6 ص 178.

(3)

- لم أجد كلام النسائي هذا في أي موضع ذكره؟، فلينظر.

ص: 188

عبد اللَّه بن السائب. ثم ذكر البيهقي ما يدلّ عدى صحة ما قاله ابن معين، فأخرج بسنده عن قَبِيصة، عن سفيان، عن ابن جُريج، عن عطاء، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس العيد، ثم قال: من شاء أن يذهب فليذهب، ومن شاء أن يقعد فليقعد. انتهى

(1)

.

وتعقبه ابن التركمانيّ، فقال: الفضل بن موسى ثقة جليل، روى له الجماعة، وقال أبو نعيم: هو أثبت من ابن المبارك، وقد زاد ذكرَ ابن السائب، فوجب أن تُقبل زيادته، ولهذا أخرجه هكذا مسندًا الأئمة في كتبهم، أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، والرواية المرسلة التي ذكرها البيهقيّ في سندها قبيصة، عن سفيان، وقبيصة، وإن كان ثقة إلا أن ابن معين، وابن حنبل، وغيرهما ضعفوا روايته عن سفيان، وعلى تقدير صحة هذه الرواية لا تُعلّل بها رواية الفضل لأنه سداد

(2)

الإسناد، وهو ثقة انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله ابن التركماني رحمه الله هو المتّجه عندي، فالحديث متصل صحيح من حديث عبد اللَّه بن السائب رضي الله عنه، ولا يضرّه إرسال من أرسله، لأن الفضل بن موسى ثقة ثبت يجب قبول زيادته. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-15/ 1571 - وفي "الكبرى" 14/ 1779 - بالسند المذكور، واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه.

أخرجه (د) 1155 (ق) 1290 (ابن خزيمة)1462. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌16 - (الزِّينَةُ لِلْخُطْبَةِ لِلْعِيدَيْنِ)

وفي بعض النسخ إسقاط لفظ "العيدين".

1583 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ

(1)

- "السنن الكبرى" ج 3 ص 301.

(2)

- هكذا عبارة "الجوهر النقيّ""سداد الإسناد الخ"، ولعل صوابه "لأنه زاد في الإسناد الخ".

(3)

- "الجوهر النقي" ج 3 ص 301.

ص: 189

إِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ، قَالَ:"رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ، وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن بشار) بُندار البصريّ الحافظ المثبت [10] 24/ 27.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ الإمام الحافظ الحجة البصريّ [9] 42/ 49.

3 -

(عُبيد اللَّه بن إياد) بن لَقيط السَّدُوسيّ، أبو السَّليل

(1)

الكوفيّ، ثقة

(2)

، ليّنه البزّار وحده [7].

روى عن أبيه، وعبد اللَّه بن سعيد، وكُليب بن وائل، وعبد الرحمن بن نُعيم الأعرجيّ، والصحيح عن أبيه، عنه. وعنه ابن مهديّ، وابن المبارك، وأبو داود الطيالسيّ، وغيرهم.

قال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقة، وكان عَريف قومه. وقال يحيى بن حسّان. كان عبد اللَّه بن المبارك يعجب به. وقال النسائيّ: ثقة، وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وقال العجليّ: ثقة. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أبو نعيم كان ابن إياد ثقة، وكان له صحيفة فيها أحاديثه، فإذا جاءه إنسان رمى إليه تلك الصحيفة، فكتب منها ما أراد. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال البزّار في "كتاب السنن". ليس بالقويّ.

وقال ابن قانع، وابن منده: مات سنة (169). روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون سوى ابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(أبوه) إياد بن لَقِيط

(3)

السّدوسيّ، ثقة [4].

روى عن البراء بن عازب، والحارث بن حسان العامريّ، وأبي رِمْثة، وامرأة بَشير ابن الخَصَاصيّة، وغيرهم. وعنه ابنه عُبيد اللَّه، وعبد الملك بن عُمير، والثوريّ، وعبد الملك بن سعيد ابن أبجر، ومِسعَر، وغيرهم. قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة.

وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال يعقوب بن سُفيان: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون سوى ابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وكرره خمس مرّات، برقم 1572 و 4832 و 5083 و 5084 و 55319.

5 -

(أبو رمثة) البَلْويّ، ويقال: التميميّ، ويقال: التيميّ، تيّم الرَّبَاب. قيل: اسمه رِفَاعة بن يَثْربيّ، وقيل: يَثربيّ بن رفاعة، وقيل: ابن عوف، وقيل: عُمَارة بن يَثربيّ،

(1)

- بفتح المهملة، وكسر اللام، وآخره لام أيضًا. اهـ ت.

(2)

- وفي "ت": صدوق إلخ، والحقُّ أنه ثقة، لاتفاق الجمهور سوى البزّار على أنه ثقة.

(3)

- "إياد" بكسر الهمزة، وتخفيف التحتانية، بعدها دال مهملة. و"لقيط" بفتح اللام، وكسر القاف، آخره طاء مهملة.

ص: 190

وقيل. حيّان بن وهب، وقيل: حَبيب بن حيّان، وقيل. خَشْخَاش. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه إياد بن لقيط، وثابت بن أبي مُنقِذ. وفرق ابن عبد البرّ بين أبي رمثة التيميّ، وبين أبي رمثة البلويّ، فذكر أن البلويّ سكن مصر، ومات بإفريقية. روى له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وكرّره خمس مرّات، بالأرقام المذكورة في ترجمة إياد قبله، واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابي، فقد تفرّد به هو وأبو داود، والترمذيّ. (ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا ثلاثة أحاديث عند أصحاب السنن، غير ابن ماجه، راجع "تحفة الأشراف " 9/ 208 - 209. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي رِمْثَةَ) -بكسر الراء، وسكون الميم- تقدم آنفا الاختلاف في اسمه -رضي اللَّه تعالى عنه - أنه (قَالَ:"رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ) جملة حالية من المفعول، وليست مفعولاً ثانيًا لـ"رأى"، لأنها بصريّة تتعدى إلى مفعول واحد فقط (وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ) بضم الموحّدة، وسكون الراء المهملة: تثنية بُرد، وهو ثوب مخطّط، جمعه أَبْراد، وأبرُد، وبُرُود، وأَكْسية يُلتحفه بها، الواحدة بهاء، قاله المجد اللغويّ

(1)

.

والمراد هنا المعني الثاني، أي وعليه كساءان (أَخْضَرَانِ) صفة لـ"بُردان"، والجملة في محل نصب على الحال من المفعول أيضًا. ودلالة الحديث على الترجمة واضحة، حيث يدلّ على استحباب التجمّل للخطبة، بلبس الأخضر.

والحديث فيه قصّة، وقد ساقها أحمد في "مسنده" مطولة من طرق، بألفاظ، فمنها: عن أبي رمثة، قال: انطلقت مع أبي نحوَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلمّا رأيته قال لي أبي: هل تدري من هذا؟ قلت: لا، فقال لي أبي: هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاقشعررتُ حين قال ذاك، وكنت أظنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا لا يُشبه الناس، فإذا بشر، له وَفْرة، وبها رَدْعٌ

(2)

من حنّاء، عليه ثوبان أخضران، فسلّم عليه أبي، ثم جلسنا، فتحدّثنا ساعة، ثم إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لأبي:"ابنك هذا؟ "، قال: إِي وربّ الكعبة، قال: حقًا أشهد به،

(1)

- "القاموس" في مادة برد.

(2)

- أي لطخ.

ص: 191

فتبسّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضاحكًا من ثَبَت شَبَهِي بأبي، ومن حَلِف أبي عليّ، ثم قال:"أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه"، قال: وقرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال: ثم نظر إلى مثل السِّلْعَةُ

(1)

بين كتفيه، فقال: يا رسول اللَّه، إني لأَطَبُّ الرجال، ألا أعالجها لك؟، قال:"لا، طبيبُهَا الذي خلقها". انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي رِمْثَة البَلَويّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-16/ 1572 - وفي "الكبرى" 16/ 1781 - بالسند المذكور، وفي 41/ 4832 - و"الكبرى" 40/ 7036 - عن هارون بن عبد اللَّه، عن سفيان، عن عبد الملك ابن أبجر، عن إياد، عنه، و 16/ 5083 - و"الكبرى" 21/ 9356 و 9357 - عن محمد ابن بشار- وعمرو بن عليّ فرقهما - كلاهما عن ابن مهديّ، عن سفيان الثوريّ، عن إياد، عنه، و-96/ 5319 - و"الكبرى" 93/ 9657 - عن العباس بن محمد، عن أبي نوح، عن جرير بن حازم، عن عبد الملك بن عمير، عن إياد عنه. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 4065 و 4206 و 4495 و 4207 و 4208 (ت) 2812 وفي "الشمائل" 43 و 45 و 65 (الحميديّ) 966 (أحمد) 2/ 226 و 4/ 163 (الدارميّ) 2393 و 2394.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "السِّلْعَةُ" بكسر، فسكون: كالغدّة في الجسد، ويفتح، ويحرّك، وكعِنَبَة، أو خُرَاجٌ فِي العنق، أو غُدّةٌ فيها، أو زيادةٌ في البدن، كالغدة تتحرّك إذا حرّكت، وتكون من حمّصة إلى بطيخة. اهـ "ق".

(2)

- انظر "المسند" ج 2 ص 226.

ص: 192

‌17 - (الْخُطْبَةُ عَلَى الْبَعِيرِ)

1573 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ أَبِي كَاهِلٍ الأَحْمَسِيِّ، قَالَ:"رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ عَلَى نَاقَةٍ، وَحَبَشِيٌّ آخِذٌ بِخِطَامِ النَّاقَةِ".

رجال هذا الإسناد. خمسة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

22 -

(ابن أبي زائدة) يحيى بن زكريا الهمداني الكوفي، ثقة متقن، من كبار [9] 144/ 226.

3 -

(إسماعيل بن أبي خالد) البجلي الأحمسى الكوفي، ثقة ثبت [4] 5/ 471.

4 -

(أخوه) له أربع إخوة: أشعث، وسعيد، وخالد، والنعمان، قاله في "ت". وفي "تت" في "المبهمات": إسماعيل بن أبي خالد، عن أخيه، عن أبي موسى في "الولاية"، وعن أبي كاهل، إخوته أربعة، فذكرهم. وقال الحافظ أبو الحجّاج المزي -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف": اسم أخيه سعيد، وقيل: أشعث انتهى

(1)

. وفي "تت" في "الأسماء": سعيد بن أبي خالد الأحمسي الكوفي، روى عن أبي كاهل في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أخوه إسماعيل على اختلاف عنه فيه. قال العجليّ: إسماعيل بن أبي خالد تابعيّ ثقة، وأخوه سعيد ثقة. وذكره ابن حبَّان في "الثقات". روى له النسائي، وابن ماجه من حديث إسماعيل، عن أخيه، ولم يسمياه، ولأبي خالد ابنان غير هذين، وهما النعمان، وأشعث انتهى

(2)

.

5 -

(أبو كاهل الأحمسيّ) اسمه قيس بن عائذ، وقيل: عبد اللَّه بن مالك، صحابي، له عند المصنّف وابن ماجه حديث الباب فقط. - رضي اللَّه تعالى عنه -. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أخي إسماعيل، والصحابيّ، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل

(1)

- انظر "تحفة الأشراف" ج 9 ص 273.

(2)

- "تت" ج 2 ص 14.

ص: 193

بالمدنيين. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا حديث الباب عند المصنف، وابن ماجه، انظر "تحفة الأشراف" 9/ 272 - 2730 واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن إسماعيل بن أبي خالد (عَنْ أَخِيهِ) هكذا في رواية يحيى بن أبي زائدة عند المصنف، وتابعه وكيع عند أحمد، وابن ماجه، وأبو أسامة عند المصنف في "الكبرى"، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أخيه. ولفظ أحمد: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أخيه، عن أبي كأهل -قال إسماعيل: قد رأيت أبا كاهل- قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب الناس

الحديث. ولفظ ابن ماجه: حدثنا محمد ابن عبد اللَّه بن نمير، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: رأيت أبا كاهل، وكانت له صحبة، فحدّثني أخي عنه، قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على ناقة

الحديث.

ووقع عند ابن ماجه 1285 - من طريق محمد بن عُبيد بلا واسطة أخيه، ولفظه: حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن نمير، حدثنا محمد بن عُبيد، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن عائذ -هو أبو كاهل- قال. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على ناقة حسناء

فذكره، ولم يقل إسماعيل:"عن أخيه" انتهى.

وقال الحافظ في "الإصابة": وجاء هذا الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن عائذ، بلا واسطة. وقال البغويّ: لا أعلم له غيره. وفي "كنى الدولابيّ" من وجه آخر عن إسماعيل، قال: رأيت أبا كاهل، وكان إما منا، وهلك أيام المختار. وفي رواية البخاريّ: قال إسماعيل: وكان أبو كاهل إمام الحيّ انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مثل هذا الاختلاف لا يضرّ، لإمكان حمله على أن إسماعيل رواه عن أبي كاهل بواسطة أخيه، ثم سمعه منه. واللَّه تعالى أعلم.

(عَنْ أَبِي كَاهِلِ الأَحْمَسِيِّ) رضي الله عنه (قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ) وفي رواية أحمد "يخطب الناس يوم عيد"(عَلَى نَاقَةٍ) زاد في رواية ابن ماجه: "حَسْناء"، وعند أحمد:"خوماء"، و"الخرماء": في التي شقّت أذنها عَرْضًا. أفاده في "ق"(وَحَبَشِيّ) الواو واو الحال، أي والحال أن رجلاً منسوبًا إلى الحبشة، ولفظ "الكبرى" في "الحجّ""عبد حبشيّ"، وذكر السنديّ أنه بلال رضي الله عنه، ولم يذكر مُستنده، فليُنظر (آخِذٌ بِخِطَامِ النَّاقَةِ) بكسر الخاء المعجمة: كلّ حبل يُعلّق في حلق البعير، ثمّ يُعقد على أنفه، سواء كان من

(1)

- "الإصابة" ج11 ص 314.

ص: 194

جلد، أو صوف، أو لِيفٍ، أو قَتَبٍ. أفاده "في تاج العروس" .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي كاهل - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا حسن.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-17/ 1573 - وفي "الكبرى" 17/ 1782 - بالسند المذكور، وفي "كتاب الحجّ" من "الكبرى" 239/ 4095 - عن إسحاق بن منصور، عن أبي أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أخيه، عن أبي كأهل عبد اللَّه بن مالك، قال:"رأيت رسول اللَّه لمجلى يخطب على ناقة آخذٌ بخطامها عبدٌ حبشيّ". واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ق) 1285 - (أحمد) 4/ 3060 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌18 - قِيَامُ الإِمَامِ فِي الْخُطْبَةِ

1585 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا، أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ قَائِمًا؟ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ قَعْدَةً، ثُمَّ يَقُومُ".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم في 32/ 1415 - "باب كم يخطب؟ " رواه عن عليّ بن حُجر، عن شريك، عن سماك به، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. وباللَّه تعالى التوفيق.

و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ، و"سماك": هو ابن حرب، و"جابر": هو ابن سمرة - رضي اللَّه تعالى عنه -.

ودلالة الحديث على الترجمة واضحة، حيث إنه يدلّ على مشروعيّة قيام الخطيب في حال خطبته، وتقدّم الكلام على أقوال أهل العلم في حكم هذه المسألة في الباب

ص: 195

المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌19 - (قِيامُ الإِمَامِ فِي الْخُطْبةِ، مُتوكِّئًا عَلَى إِنْسَانٍ)

1575 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ، وَذَكَّرَهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، ثُمَّ مَالَ، وَمَضَى إِلَى النِّسَاءِ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ حَثَّهُنَّ عَلَى طَاعَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:«تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ» . فَقَالَتِ امْرَأَةٌ، مِنْ سَفِلَةِ النِّسَاءِ، سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:«تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» ، فَجَعَلْنَ يَنْزِعْنَ قَلَائِدَهُنَّ، وَأَقْرُطَهُنَّ، وَخَوَاتِيمَهُنَّ، يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ، يَتَصَدَّقْنَ بِهِ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفي البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(عبد الملك بن أبي سُليمان) مَيْسَرة العَرْزَميّ الكوفي، صدوق، له أوهام [5] 7/ 406.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح المكي المذكور قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الستة أصحاب الأصول بلا واسطة،

ص: 196

وقد تقدّم أنهم تسعة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن جابِرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: شَهِدْتُ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَبَدَأَ بِالصّلَاةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ) فيه تقديم الصلاة على الخطبة، وقد تقدّم الكلام عليه مستوفى في "باب صلاة العيدين قبل الخطبة" -9/ 1564 - (بِغَيْرِ أَذَانِ، وَلَا إِقَامَةٍ) فيه أنه لا يؤذّن للعيد، وقد تقدم الكلام عليه أيضًا في باب "ترك الأذان للعيدين" -7/ 1562 - (فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاة، قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ) التوكّؤ على العصا هو التحمّل عليها، والمراد أنه كان معتمدًا على يد بلال رضي الله عنه، كما تفيده رواية "صحيح البخاري"، قاله السنديّ (فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ) الظاهر أن العطف هنا للتأكيد (وَوَعَظَ النَّاسَ) أي أمرهم بالطاعة، يقال: وَعَظَه يَعِظه وَعْظًا، وعِظَة: أمره بالطاعة، ووصّاه بها، وعليه قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} الآية [سبأ: 46]، أي أُوصيكم، وآمركم، فاتّعَظ: أي ائتمر، وكفّ نفسه، والاسم الْمَوْعِظَة، وهو واعظٌ، والجمع وُعّاظ. قاله الفيومي (وَذَكَّرَهُمْ) من التذكير، وهو الوعظ، فيكون العطف للتأكيد (وَحَثَّهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ) من باب قتل: أي حرّضهم عليها (ثُمَّ مَالَ، وَمَضَى إِلَى النِّسَاءِ) أي ذهب إلى صفّ النساء، لظنّه أن موعظته لم تصل إليهنّ، ففي حديث ابن عبّاس رضي الله عنه عند البخاري: "فظنّ أنه لم يُسمِع النساء، فوعظهنّ، وذكّرهنّ

" انتهى.

(وَمَعَهُ بِلال) جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أن بلالاً مع النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت (فَأَمَرَهُنَّ بتَقْوَى اللَّهِ، وَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ) الظاهر أن الحمد والثناء بعد أمرهن بالتقوى، ووعظهنّ، ويحتمل أن يكون قبل ذلك، إذ الواو لا تفيد الترتيب على الراجح (ثُمَّ حَثَّهُنَّ عَلَى طَاعَتِهِ) يحتمل أن يكون بمعنى "فأمرهنّ بتقوى اللَّه الخ"، ويحتمل أنه كرّر عليهنّ الحث على الطاعة مبالغة (ثُمَّ قال: تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ) أي أكثر جنس النساء، لا أكثر المخاطبات (حَطَبُ جَهَنَّمَ) الحطب محرّكة: ما أُعدّ من الشجر شَبُوبًا. قاله المجد اللغويّ، وقال: الشَّبُوب -أي بالفتح-: ما توقد به النار انتهى (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ، مِنْ سَفِلَةِ النِّسَاءِ) بفتح السين، وكسر الفاء: الساقطة من الناس. قال الفيّومي رحمه الله: وَتَسَفَّلَ: خلافُ جاد، ومنه قيل للأراذل: سَفِلَة بكسر الفاء، وفلان من السَّفِلَة، ويقال: أصله سَفِلَة البهيمة، وهي قوائمها، ويجوز التخفيف، فيُقال: سِفْلَةٌ، مثلُ كَلِمَة، وكِلْمِة انتهى.

ص: 197

ووقع في رواية مسلم: "فقالت امرأة من سِطة النساء"، قال النووي: هكذا هو في النسخ "سِطَة" بكسر السين، وفتح الطاء المخفّفة، وفي بعض النسخ "واسطة النساء". قال القاضي: معناه من خيارهنّ، والوَسَطُ العدلُ والخيارُ، قال: وزعم حُذّاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم، وأن صوابه "من سفلة النساء"، وكذا رواه ابن أبي شيبة في "مسنده"، والنسائي في "سننه"، وفي رواية لابن أبي شيبة "امراة ليست من علية النساء"، وهذا ضدّ التفسير الأول، ويعضده قوله بعده:"سفعاء الخدين". هذا كلام القاضي.

قال النووي: وهذا الذي ادّعوه من تغيير الكلمة غير مقبول، بل هي صحيحة، وليس المراد بها من خيار النساء، كما فسّره هو، بل المراد امرأة من وسط النساء، جالسة في وسطهنّ، قال الجوهري وعيره من أهل اللغة: يقال: وَسَطتُ القوم أَسِطُهُم وَسْطًا، وسِطَةً: أي توسطتُهُم انتهى

(1)

.

(سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ) بفتح السين، بوزن حمراء: أي ليهما تغير وسواد، السُّفْعَةُ نوع من السواد، وليس بالكثير، وقيل: هي سواد مع لون آخر

(2)

. وقال الفيومي: السُّفْعَة وِزَان غُرْفة: سواد مُشْرب بحمرة، وسَفِعَ الشيءُ، من باب تَعِبَ: إذا كان لونه كذلك، فالذكر أسفَعُ، والانثى سَفْعاء، مثل أحمر وحمراء انتهى. (بِمَ) وفي نسخة "لم؟ " باللام بدل الباء (يَا رسُولَ اللَّهِ؟) أي بأيّ سبب كان أكثرنا حطب جهنم؟ (قال: تُكْثِرْنَ) من الإكثار، وفي نسخة "يُكثرن الشكاة، ويكفرن العشير" بالياء في الموضعين (الشَّكَاةَ) بفتح الشين، أي التشكّي. قال القرطبي: يعني التشكّي بالأزواج، أي يكتمن الإحسان،

ويُظهرن التشكّي كثيرًا انتهى

(3)

. (وتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) فعِيل بمعنى مُعاشر، مثل أَكِيل بمعنى مؤاكل، أي تجحدن حقّ الخليط، وهو الزوج، أو أعمّ من ذلك. أفاده في "الفتح".

وقال القرطبي: و"العشير": الزوج، وهو معدول عن اسم الفاعل للمبالغة، من المعاشرةِ والعِشْرةِ، وهي الْخُلْطَة، قال الخليل: يقال: هذا عَشِيرك، وشَعِيرك على القلب انتهى

(4)

.

وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: وخصّ كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد

(1)

- "شرح مسلم" ج6 ص 175.

(2)

- "زهر الربى" ج3 ص 187.

(3)

- "المفهم" ج2 عز وجل ص 531.

(4)

- "المفهم" ج2 ص 531 - 532.

ص: 198

لزوجها"، فقرن حقّ الزوج على الزوجة بحقّ اللَّه، فإذا كفرت المرأة حقّ زوجها -وقد بلغ من حقّه عليها هذه الغاية- كان ذلك دليلاً على تهاونها بحقّ اللَّه، فلذلك يطلق عليها الكفر، لكنه كفر دون كفر، لا يُخرج عن الملّة انتهى

(1)

. (فَجَعَلْن) أي أخذن وشرعن (يَنْزِعْنَ) من باب ضرب، أي يُخرِجن (قَلَائِدَهُنَّ) جمع قِلادة بالكسر: هو ما يجعل في العنق من الحلى (وَأَقْرُطَهُنَّ) هكذا في معظم نسخ "المجتبى""أقرطهنّ" على وزن أفعُل، ولم أجد في "المصباح، ولا في "القاموس"، ولا في "اللسان" جمع قُرْط بضمّ، فسكون، على أقرُط، وإنما المذكور فيها جمعه على أقرِطَة، وقِرَطة، وقِرَاطٍ، وقُروطٍ، وأَقْرَاط.

فقال الفيّوميّ في "المصباح المنير": القُرط: ما يُعلّق في شحمة الأذن، والجمع أَقْرِطَة، وقِرَطَة، وران عِنَبَة انتهى. وقال المجد في "القاموس": جمعه أَقراطٌ، وقِرَاطٌ، وقُرُوطٌ، وقِرطَةٌ، كقِرَدَة. انتهى، ونحوُه في "اللسان".

ووقع في بعض النسخ "أقرطتهن"، وفي بعضها "قِرَطَتهنّ"، وهما صحيحتان، ولعل الأُولى مصحّفة من "أقرطتهنّ". واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن دريد: كل ما علق في شحمة الأذن فهو قُرْط، سواء كان من ذهب، أو خرز، وأما الْخُرْص فهو الحلقة الصغيرة من الحلي. قال القاضي: قيل: الصواب قِرَطَتهنّ بحذف الألف، وهو المعروف في جمع قُرط، كخُرْجٍ وخِرَجَة، ويقال في جمعه: قِرَاط، كرُمْحٍ ورِمَاح، قال: لا يبعد صحّة أقرطة، ويكون جمعَ جمعٍ، أي جمع قِرَاط، لا سيّما وقد صحّ في الحديث انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن مما تقدّم في عبارة "المصباح" من أن "أقرطة" جمع قُرْط صريح في كونه جمعًا، فلا داعي لدعوى كونه جمع جمع، فتأمل. واللَّه تعالى أعلم.

(وَخَوَاتِيمَهُنَّ) جمع خاتم، هي: حَلْقَة ذات فَصّ من غيرها، فإن لم يكن لها فصّ فهي فَتَخَةٌ، بفاء، وتاء مثنّاة من فوق، وخاء معجمة، وزان قَصَبَة. قاله الفيّوميّ (يَقْذِفْنَه فِي ثَوْبِ بِلَالٍ) من باب ضرب، أي يَرمينه فيه، ليصرفه النبي صلى الله عليه وسلم في مصارف الصدقة، والجملة في موضع نصب على الحال من الفاعل، وذكّر الضمير في "يقذفنه"، وكذا في "به" الآتي مع كون المرجع جمعًا لتأويله بالمذكور (يَتَصَدَّقْنَ بهِ) الجملة حال أيضًا، إما متداخلة، أو مترادفة .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- راجع "الفتح"ج1 ص 105 طبعة الريان.

(2)

- "شرح مسلم" للنووي ج 6 ص 176.

ص: 199

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-19/ 1575 - وفي "الكبرى" 19/ 1784 - بالإسناد المذكور، وفي 7/ 1562 - و"الكبرى" 7/ 1762 - عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن أبي سليمان به، مختصرًا. وفي "الكبرى" 9/ 1765 - عن الحسن بن قَزَعَة، عن حُصين بن نُمير، عن حُصين بن عبد الرحمن، عن عطاء به، مختصرًا أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 22 و 2/ 26 (م) 3/ 18 و 3/ 19 (د) 1141 (أحمد) 1/ 242 و 3/ 296 و 3/ 314 و 18/ 33 و 3/ 381 و 382 (الدارمي) 1610 و 1618 (ابن خزيمة)1460. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية قيام الإمام في الخطبة متوكئا على إنسان.

وقد ورد أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم خطب متكئًا على قوس، فقد أخرج أبو داود بإسناد حسن، عن البراء بن عازب رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم -نُوِّلَ يوم العيد قوسًا، فخطب عليه"، وأخرجه أحمد مختصرًا، ومطولاً، ولفظه مطولاً ج 4/ 282 - . ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، ثنا أبو جناب الكلبي، حدثني يزيد بن البراء بن عازب، عن البراء بن عازب، قال: كنّا جلوسًا في المصلى يوم أضحى، فأتانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسلّم على الناس، ثم قال:"إن أول نسك يومكم هذا الصلاة"، قال: فتقدّم، فصلّى ركعتين، ثم سلّم، ثم استقبل الناس بوجهه، وأُعطِيَ قوسًا، أو عصًا، فاتكأ عليه، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، وأمرهم، ونهاهم، وقال:"من كان منكم عجل ذبحًا، فإنما هي جزرة أطعمه أهله، إنما الذبح بعد الصلاة"، فقام إليه خالي أبو بردة بن نيار، فقال: أنا عجلت ذبح شاتي يا رسول اللَّه، ليصنع لنا طعام، نجتمع عليه إذا رجعنا، وعندي جَذَعَة من معز أوفَى من الذي ذبحت، أفتُغني عنّي يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال:"نعم، ولن تغني عن أحد بعدك"، قال: ثم قال: "يا بلال"، قال: فمشى، واتبعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أتى النساء، فقال:"يا معشر النسوان، تصدّقن، الصدقةُ خير لكُنَّ"، قال: فما رأيت يوما قطّ أكثر خَدَمَةً مقطوعة، وقلادة، وقُرطًا من ذلك اليوم. وأبو جناب اسمه يحيى بن أبي حية، تكلموا فيه لكثرة تدليسه، لكنه صرح هنا بالتحديث، فزالت تهمة التدليس

ص: 200

و"الخدمة" بفتح الخاء المعجمة، والدال المهملة: الخلخال. واللَّه تعالى أعلم.

ومنها: تقديم صلاة العيدين على الخطبة، وتقدّم في بابه. ومنها: عدم مشروعية الأذان والإقامة للعيدين، وتقدم في بابه أيضًا. ومنها: ابتداء الخطبة بالحمد والثناء على اللَّه تعالى. ومنها: الوعظ، والتذكير، والحثّ على الطاعة في الخطبة. ومنها: استحباب وعظ النساء، وتعليمهنّ أحكام الإسلام، وتذكيرهنّ بما يجب عليهنّ. ومنها. استحباب حثّهنّ على الصدقة، وتخصيصهنّ بذلك في مجلس منفرد، قيل: محلّ ذلك إذا أُمنت الفتنة والمفسدة. ومنها: خروج النساء إلى المصلى. ومنها: جواز صدقة المرأة مالها من غير توقّف على إذن زوجها، أو على مقدار معيّن من مالها، كالثلث، خلافا لبعض المالكية، ووجه الدلالة من القصّة ترك الاستفصال عن ذلك كلّه.

قال القرطبيّ: ولا يقال في هذا: إن أزواجهنّ كانوا حُضُورًا؛ لأن ذلك لم يُنقل، ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهنّ لهنّ ذلك، لأن من ثبت له الحقّ، فالأصل بقاؤه حتى يصرّح بإسقاطه، ولم ينقل أن القوم صرّحوا بذلك انتهى.

وقال في "الفتح": وأما كونه من الثلث، فما دونه، فإن ثبت أنهنّ لا يجوز لهنّ التصرّف فيما زاد على الثلث لم يكن في هذه القصّة ما يدلّ على جواز الزيادة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عدم جواز تصرّفهنّ فيما زاد على الثلث مما لا دليل عليه، بل حديث الباب ونحوه يردّ عليه، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

ومنها: أن الصدقة من دوافع العذاب، لأنه أمرهنّ بالصدقة، ثم علّل بأنهنّ أكثر أهل النار، لما يقع منهنّ من كفران النعم، وغير ذلك. ومنها: بذل النصيحة، والإغلاظ بها لمن احتيج في حقّه إلى ذلك. ومنها: جواز طلب الصدقة من الأغنياء للمحتاجين، ولو كان الطالب غير محتاج.

قال في "الفتح": وأخذ منه الصوفية جواز ما اصطلحوا عليه من الطلب، ولا يخفى ما يشترط فيه من أن المطلوب له أن يكون غير قادر على التكسّب مطلقًا، أو لما لا بدّ له منه. انتهى.

ومنها: مراجعة المتعلّم لمعلّمه، والتابع لمتبوعه فيما لا يظهر له معناه. ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق العظيم، والصفح الجميل، والرفق، والرأفة، زاده اللَّه تشريفًا وتكريمًا. ومنها: ما كان عليه النساء المؤمنات في ذلك العصر من رفيع مقامهنّ في الدين، وحرصهنّ على المبادرة إلى امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث بَذَلْنَ ما يَعِزّ عليهنّ من حليّهنّ مع ضيق الحال في ذلك الوقت، - رضي اللَّه تعالى عنهنَّ -. واللَّه تعالى

ص: 201

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌20 - اسْتِقْبَالُ الإِمَامِ النّاسَ بِوَجْهِهِ فِي الخُطْبَةِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "استقبال الإمام الناس": من إضافة المصدر إلى الفاعل، ونصب المفعول، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ

كَمِّلْ بِرَفْعٍ أو بِنَصْبٍ عَمَلَهْ

وقوله: "بوجهه" متعلّق بـ"استقبال"، وكذا قوله:"في الخطبة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1576 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ الأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَسَلَّمَ، قَامَ، فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ، يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ بَعْثًا، ذَكَرَهُ لِلنَّاسِ، وَإِلاَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ، قَالَ:«تَصَدَّقُوا» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(عبد العزيز) بن محمد الدَّرَاورْديّ المدني، صدوق، كان يحدّث من كتب غيره، فيخطىء [8] 84/ 101.

3 -

(داود) بن قيس الفرّاء الدبّاغ، القرشيّ، أبو سليمان المدني، ثقة فاضل [5] 96/ 120.

4 -

(عياض بن عبد اللَّه) بن سعْد بن أبي سَرْح القرشيّ العامريّ المكيّ، ثقة [3] 26/ 1408.

5 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سِنَان الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 202

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبعلانيّ، وعياض، فمكي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، وفي رواية عبد الرزّاق، عن داود بن قيس، عن عياض، قال: سمعت أبا سعيد، وكدا أخرجه أبو عوانة من طريق ابن وهب، عن داود. قاله في "الفتح"(أَنَّ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ الأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى) بصيغة اسم المفعول: هو موضع بالمدينة، معروف، بينه وبين باب المسجد ألف ذراع. قاله عمر بن شَبّة في "أخبار المدينة" عن أبي غسّان الكنانيّ صاحب مالك

(1)

.

قال النووي رحمه الله: هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلّى، وأنه أفضل من فعلها في المسجد، وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار، وأما أهل مكة، فلا يصلّونها إلا في المسجد من الزمن الأول، ولأصحابنا وجهان. أحدهما الصحراء أفضل لهذا الحديث. والثاني -وهو الأصحّ عند أكثرهم- المسجد أفضل، إلا أن يضيق قالوا: وإنما صلى أهل مكة لي المسجد لسعته، وإنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى لضيق المسجد، فدلّ على أن المسجد أفضل إذا اتسع. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأول هو الصواب؛ لهذا الحديث، إذ لو كان المسجد أفضل لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، وعَلَّلَ خروجه بضيق المسجد، فتبصر. واللَّه تعالى أعلم.

(فيُصَلِّي بِالنَّاسِ) ولي الرواية الآتية -23/ 1579 - "كان يخرج يوم العيد، فيصلي ركعتين

" (فَإِذَا جَلَسَ فِي الثَّانِيَةِ) أي في آخر الركعة الثانية (وَسَلَّمَ) أي بعد قراءة التشهد، وما يتبعه (قَامَ، فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوجْهِهِ) هذا محل الترجمة، ففيه استحباب استقبال الإمام الناس حال الخطبة (وَالنَّاسُ جُلُوسٌ) ولفظ البخاري: "والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم

" (فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ، يُرِيدُ) الظاهر أنه بتقدير حرف مصدريّ حبر لمحذوف، أي هو أن يريد الخ، فتكون الجملة تفسيرًا للحاجة، ويحتمل أن يكون بتقدير عاطف، أي أو يريد الخ، ويؤيده ما يأتي من طريق

(1)

- "فتح" ج 3 ص 125.

(2)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 177.

ص: 203

يحيى القطان، عن داود بن قيس، ولفظه:، فإن كانت له حاجه، أو أراد أن يبعث بعثًا تكلّم، وإلا رجع"، ولفظ مسلم: "فإن كانت له حاجة ببعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها" (أَنْ يَبْعَثَ بَعْثًا) في تأويل المصدر مفعول "يريد"، أي يخرج طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات (ذَكَرَهُ لِلنَّاسِ) أي عيّن ذلك الجيش، وبيّنه للناس (وَإِلاَّ) أي وإن لم يُردْ بعثَ الجيش (أَمَرَ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ) وقوله (قَالَ) تفسير لـ"أمر" (تَصَدَّقُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) ولفظ مسلم: "وكان يقول: تصدّقوا، تصدّقوا، تصدّقوا" (فَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ) بالرفع اسم "كان" مؤخّرًا، وخبرها الجارّ والمجرور قبله، يعني أن أكثر الناس صدقةً في ذلك الوقت النساء، وفيه بيان فضلهنّ حيث بادرن بامتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

زاد في رواية الشيخين قصة لأبي سعيد رضي الله عنه، ولفظ البخاري: قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجتُ مع مروان -وهو أمير المدينة- في أضحى، أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كَثير بن الصَّلْت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه، فجبذني، فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيّرتم واللَّه، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت. ما أعلم واللهِ خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة. انتهى.

ولفظ مسلم: فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم، فخرجت مخاصرًا مروان

(1)

حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبرًا من طين ولبِنٍ، فإذا مروان ينازعني يَدَهُ كأنه يجرّني نحو المنبر، وأنا أجرّه نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه، قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا، يا أبا سعيد قد تُرك ما تعلم، قلت: كلاّ والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم، ثلاث مرار، ثم انصرف

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي سعيد الخدري - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-20/ 1576 - وفي "الكبرى" 20/ 1785 - بالإسناد المذكور، وفي 23/

(1)

- أي مماشيًا له، يده في يدي. اهـ شره النووي.

(2)

- أي رجع أبو سعيد عن جهة المنبر إلى جهة الصلاة، وليس معناه أنه انصرف من المصلى، وترك الصلاة معه، بل في رواية البخاريّ أنه صلى معه، وكلّمه في ذلك بعد الصلاة، وهذا يدل على صحة الصلاة بعد الخطبة، ولولا صحتها كذلك لما صلاها معه. اهـ "شرح مسلم" ج 6 ص 178.

ص: 204

1579 -

و"الكبرى" 33/ 1801 - عن عمرو الفلاس، عن يحيى القطان، عن داود ابن قيس به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 22 (م) 3/ 20 (ق) 1288 (أحمد) 3/ 31 و 3/ 36 و 3/ 42 و 3/ 54 و 3/ 56 (ابن خزيمة) 143 و 1445. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو مشروعية اسقبال الإمام الناس بوجهه في حال الخطبة. ومنها: استحباب الخروج إلى الصحراء للعيد. ومنها: مشروعية بَعْثُ الإمامِ الجيشَ في الخطبة. ومنها: أَمرُ الناسِ بالتصدّق، والتأكيدُ في ذلك. ومنها: كثرة استجابة النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، وشدة حرصهنّ في ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌21 - الإِنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أخذ المصنف -رحمه اللَّه تعالى- من إطلاق قوله: "والإمام يخطب" شموله لخطبة العيد، لكن يردّ عليه ما تقدّم من التخيير بين الجلوس للاستماع، والذهاب إلى حاجته، وقد جمع السندي في "شرحه" بما حاصله: أنه لا تنافي بينهما، لجواز وجوب الاستماع، وعدم جواز الكلام لمن أقام.

قلت: الذي يظهر لي أن المطلق هنا محمول على المقيّد في حديث: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت"، كما سبق في "الجمعة" فالمراد خطبة الجمعة؛ لأن مخرج الحديث واحد، فيحمل على أن بعض الرواة اختصره.

والحاصل أن الخطبة التي يجب الإنصاف لها هي خطبة الجمعة، وأما غيرها فليس على وجوب الإنصاف لها دليل صريح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1577 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ -

ص: 205

وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم في "باب الإنصات للخطبة يوم الجمعة"[22/ 1401 و 1402] وتقدم الكلام عليه هناك مستوفًى، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌22 - (كَيْفَ الْخُطْبَةُ؟)

1578 -

أَخْبَرَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ، يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِى عَلَيْهِ، بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ:«مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» ، ثُمَّ يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ السَّاعَةَ احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ، يَقُولُ:«صَبَّحَكُمْ، مَسَّاكُمْ» . ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضِيَاعًا، فَإِلَيَّ، أَوْ عَلَيَّ، وَأَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُتبة بن عبد اللَّه) بن عُتبة اليُحمِديّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، صدوق [10] 81/ 98.

2 -

(ابن المبارك) عبد اللَّه الإمام الحافظ الحجة [8] 32/ 36.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام المثبت الحجة [7] 33/ 37.

4 -

(جعفر بن محمد) الصادق، أبو عبد اللَّه المدني، صدوق فقيه إمام [6] 23/ 182.

5 -

(محمد بن علي) بن الحسين بن علي بن أبي طالب الباقر، أبو جعفر المدني ،

ص: 206

ثقة فاضل [4] 123/ 182.

6 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور قبل بابين. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من جعفر، وسفيان كوفيّ، والباقيان مروزيّان. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة، كما تقدم قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ) الظاهر أن مقول القول "من يهده اللَّه الخ"، وجملة قوله:(يَحْمَدُ اللَّه، ويُثْنِي عَلَيهِ، بِما هُوَ أَهْلُهُ) في محل نصب على الحال معترضة بين القول ومقوله، وقوله (ثُمَّ يَقُولُ) مؤكد لـ"يقول" السابق، ووقوع مثل هذا التأكيد واقع في فصيح الكلام، كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} الآية، فجواب {لَمَّا} قوله:{كَفَرُوا بِه} وكرر {وَلَمَّا جَاءَهُمْ} تأكيدًا لطول الفصل (مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ) بإثبات الضمير المنصوب، وفي نسخة بحذفه، أي من يوفّقه اللَّه لاتباع طريق الحقّ (فَلَا مُضِلَّ لَهُ) من شيطان، أو نفس، أو غير ذلك (ومن يُضْلِلْهُ) بضم الياء، من الإضلال، أي من يُزغه عن اتباع الحقّ (فَلَا هَادِيَ لَهُ) أي لا أحد يَهديه إلى اتباع الحقّ، لا من جهة العقل، ولا من جهة النقل، ولا من جهة أحد من الخلق (إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ) وفي رواية مسلم "فإن خير الحديث كتاب اللَّه"(وأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم، قال النووي رحمه الله: هو بضم الهاء، وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء، وإسكان الدال أيضًا، ضبطناه بالوجهين، وكذا ذكره جماعة بالوجهين، وقال القاضي عياض: رويناه في مسلم بالضمّ، وفي غيره بالفتح، وبالفتح ذكره الهرويّ، وفسّره الهرويّ على رواية الفتح بالطريق، أي أحسنُ الطرق طريقُ محمد صلى الله عليه وسلم، يقال: فلانٌ حسن الهدي، أي الطريقة، والمذهبِ، "اهتدوا بهدي عَمّار"

(1)

.

وأما على رواية الضمّ، فمعناه الدلالة، والإرشاد.

(1)

- رواه أحمد 5/ 399 والترمذي 3807 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 207

قال العلماء: لفظ الهدى له معنيان: [أحدهما]: بمعنى الدلالة والإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل، والقرآن، والعباد، قال اللَّه تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] و {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصّلت: 17]، أي بيّنّا لهم الطريق، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3]، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].

[والثاني]: بمعنى اللطف، والتوفيق، والعصمة، والتأييد، وهو الذي تفرّد اللَّه تعالى به، ومنه قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية [القصص: 56]. وقالت القدرية حيث جاء الهدى، فهو للبيان، بناءً على أصلهم الفاسد في إنكار القدر، وردّ عليهم أصحابنا وغيرهم ص أهل الحقّ، مثبتي القدر للَّه تعالى بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] ، ففرّق بين الدعاء والهداِية انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا) قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: "المحدثات" بفتح الدال جمع محدثة، والمراد بها ما أُحدث، وليس له أصل في الشرع، وُيسمّى في عرف الشرع "بدعةً"، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع، فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة، بخلاف اللغة، فإن كلّ شيء أُحدث على غير مثال يسمى بدعةً، سواء كان محمودًا، أو مذمومًا، وكذا القول في المحدثة، وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة رضي الله عنه:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ" انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

وقال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: يعني المحدثات التي ليس لها في الشريعة أصل يشهد لها بالصحّة والجواز، وهي المسمّاة بالبِدَعِ، ولذلك حُكم عليها بأنّ كلّ بدعة ضلالة، وحقيقة البدعة: ما ابتدىء، وافْتُتح من غير أصل شرعيّ، وهي التي قال فيها صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"

(3)

0 انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى

(4)

. وقال السندي رحمه الله: والمراد المحدثات في الدين، وعلى هذا فقوله:"وكلّ بدعة ضلالة" على عمومه انتهى

(5)

.

(1)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 154.

(2)

- "فتح" ج 13 ص 266 - 267 طبعة دار الريان.

(3)

- متفق عليه.

(4)

- "المفهم" ج 2 ص 508.

(5)

- "شرح السندي" ج 3 ص 189.

ص: 208

(وكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ) أي كل خصلة مُنشَأَةٍ، وفي نسخة "وكل مُحدّث" أي وكل أمر مُنَشىءٍ بعد كمال الدين بدعةٌ -بكسر، فسكون- وهي -كما قال المجد اللغوي رحمه اللَّه تعالى-: الحَدَث في الدين بعد الإكمال، أو ما استُحدِثَ بعد النبي صلى الله عليه وسلم، من الأهواء، والأعمال.

(1)

.

وقال الفيّومي -رحمه اللَّه تعالى-: أباع اللَّه الخلق إبداعا. خلقهم، لا مثال، وأبدعت، الشيءَ، وابتدعته: استخرجته، وأحدثته، ومنه قيل للحالة المخالفة: بِدْعَة، وهي اسم من الابتداع، كالرِّفْعَة، من الارتفاع، ثمّ غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين، أو زيادة، لكن قد يكون بعضها غير مكروه، فيسمّى بدعة مباحة، وهو مصلحة، يندفع بها مفسدة، كاحتجاب الخليفة عن أَخْلاطِ الناس انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بهدا أن البدعة لغةً اسم لما أُحدث بعد أن لم يكن، سواء كان دينيًا، أو غير ديني، وأما في الشرع، فهي اسم لما أُحدِثَ في الدين مما لا يدلّ عليه دليل شرعي من كتاب، أو سنّة، أو إجماع، فالبدعة الشرعية أخصّ من اللغوية، فكلّ بدعة شرعية لغويةٌ، ولا عكس.

والحاصل أن كلّ ما أُحدث في الدين بعد ما أخبر اللَّه تعالي بكماله، حيث قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، وليس له أصل في الشرع، فهو بدعة ينطبق عليه حديثُ الباب، وحديثُ عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان-:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ".

فلا يُستثنى من قوله: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" شيء، وأما ما اشتهر من تقسيم الشافعي -رحمه اللَّه تعالى-، وغيره البدعة إلى محمودة، ومذمومة فإنما هو للبدعة اللغوية، وهي كل ما أُحدث، سواء كان دينيّا، أو غيره، فكلّ ما أحدث وله أصل لي الشرع، فهو محمود، وما لا أصل له فهو مذموم. وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الخامسة، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَكُلُّ بِدْعَةِ ضَلَالَةٌ) الضلالة كالضلال، مصدر ضلّ، من باب ضرب، وله مصادر أخرى في "ق"، قال الراغب الأصفهاني: الضلالُ العدولُ عن الطريق المستقيم، ويُضادّه الهداية، قال تعالى:{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء: 15] ويقال: الضلال لكلّ عدول عن المنهج، عمدًا كان، أو سهوًا، يسيرًا كان، أو كثيرًا، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعبٌ جدًّا.

(1)

- راجع "القاموس".

(2)

- راجع "المصباح".

ص: 209

قال: ولكون الضلال تركَ الطريق المستقيم عمدًا كان، أو سهوا، قليلاً كان، أو كثيرًا صحّ أن يُستَعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأٌ مّا، ولذلك نُسب الضلال إلى الأنبياء، وإلى الكفّار، وإن كان بين الضلالين بَوْنٌ بَعِيد، ألا ترى إلى قول اللَّه تعالى في النبي صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ، أي غير مهتد لما سِيقَ لك من النبوة، وقال موسى عليه السلام:{قَالَ: فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] تنبيهًا على أن ذلك منه سهو. انتهى كلام الراغب باختصار.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. المراد هنا العمدُ الذي يكون سببا للعدول عن منهج الهدى، بدليل الوعيد في قوله (وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ) وهو على حذف مضاف، أي كلّ أصحاب الضلالة في النار، وهذه الجملة زائدة في رواية المصنف من طريق عبد اللَّه بن المبارك، وليست في "صحيح مسلم"، وغيره، وهي زيادة صحيحة.

(ثُمَّ يَقُولُ) صلى الله عليه وسلم (بُعِثْتُ) بالبناء للمفعول (أَنَا) ضمير رفع منفصل ذُكر توكيدًا للمتصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ المُنْفَصِلْ

(والسَّاعةُ) قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: رُوي بنصبها، ورفعها، والمشهور نصبها على المفعول معه انتهى. وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قيّدناه بالفتح، والضمّ، فأما الفتح: فهو على المفعول معه، والرفع على أنه معطوف على التاء في "بُعِثتُ"، وفُصل بينهما بـ"أنا" توكيدًا للضمير، على ما هو الأحسن عند النحويين، وقد اختار بعضهم النصب، بناءً على أن التشبيه وقع بملاصقة الأصبعين، واتصالهما، واختار آخرون الرفعَ، بحاء على أن التشبيه وقع بالتفاوت الذي بين رؤوسهما، ويعني أن ما بين زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وقيام الساعة قريبٌ، كقرب السبّابة من الوسطى، وهذا أوقع. واللَّه أعلم.

وقد جاء من حديث سهل رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سَبَقْتُهَا بما سَبَقَتْ هذه هذه"

(1)

، يعني الوُسطى والسبّابة انتهى كلام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

(كَهَاتَيْنِ) زاد في رواية مسلم: "ويقرُنُ بين إصبعيه السبّابة والوسطى"، فالإشارة في قوله:"كهاتين" إلى الإصبعين المذكورتين. قال السندي رحمه الله: التشبيه في المقارنة بينهما، أي ليس بينهما إصبع أخرى، كما أنه لا نبيّ بينه صلى الله عليه وسلم وبين الساعة، أو في قلّة التفاوت بينهما، فإن الوسطى تزيد على المسبحة بقليل، فكأن ما بينه صلى الله عليه وسلم وبين الساعة

(1)

- رواه الترمذي من حديث المستورد بن شدّاد رقم 2213.

(2)

- "المفهم" ج 2 ص 506 - 507.

ص: 210

في القلّة قدرُ زياده الوسطى على المسبّحة انتهى

(1)

.

(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا ذَكَرَ السَّاعَةَ احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ) ولفظ مسلم: "احمرّت عيناه". قال الفيوميّ رحمه الله: "الوجنة" من الإنسان: ما ارتفع من لحم خدّه، والأشهر فتح الواو، وحكي التثليث، والجمع وجَنَات، مثلُ سَجْدَة، وسَجَدَات انتهى. وقال المجد رحمه الله:"الوجنة" مثلّثةً، وككَلِمَة، ومحرّكَةً، والأجْنَة مثلّثةً: ما ارتفع من الخدّ انتهى.

(وَعَلَا) أي ارتفع (صَوْتُهُ) بالرفع على الفاعلية (وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ) إنما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لإزالة الغفلة من قلوب الناس، ليتمكّن فيها كلامُهُ صلى الله عليه وسلم فضلَ تمكّن، أو لأنه يتوجّه فكره إلى الموعظة، فيظهر عليه آثار الهيبة الإلهيّة.

واسْتُدلّ به على أنه يستحبّ للخطيب أن يفخّم أمر الخطبة، ويرفع صوته وُيجزل كلامه، ويكون مطابقًا للفصل الذي يتكلّم فيه، من ترغيب، أو ترهيب. ولعلّ اشتداد غضبه صلى الله عليه وسلم كان عند إنذاره أمرًا عظيمًا، وتحديده خَطْبًا جسيمًا

(2)

.

(كَأنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ) ولفظ مسلم "منذر جيش"، و"النذير" فَعيل بمعنى مُفعِل، ومنذر الجيش هو الذي يجيء القوم مخبرًا لهم بما قد دَهَمَم، من عدوّ، أو غيره. يعني صفته صلى الله عليه وسلم في حال الخطبة والموعظة كصفة من يُنذر قومًا بقرب جيش عظيم قَصَدَ الإغارةَ عليهم، فالضمير في قوله (يَقُولُ) للمنذر، والجملة صفته وقوله (صَبَّحَكُمْ) بتشديد الباء، وفاعله ضمير يعود إلى العدوّ المُنذَر منه، والضمير المنصوب يعود إلى المُنذَرِين، أي نَزَل بكم العدوّ وقت الصباح، والمراد أنه سينزل، وصيغة الماضي للتحقق.

مَثَّلَ حالَ الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته، وإنذاره بمجيء القيامة، وقرب وقوعها، وتَهالُك الناسِ فيما يُرْدِيهم بحال من يُنذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم، يقصد اجتياحهم بَغْتةً، من كلّ جانب، فكما أن المنذِر يرفع صوته، وتحمرّ وَجنتاه، ويشتدّ غضبه على تغافلهم، كذلك حال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونظيره ما رُوي أنه لما نزل:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، صَعِدَ الصفا، فجعل ينادي، يا بني فهر، يا بني عديّ

الحديث (مَسَّاكُمْ) بتشديد السين، مثل "صبّحكم"، ورواية المصنف "مسّاكم" بدون عاطف، والمعنى أتاكم إما صباحًا، وإما مساءً، ولفظ مسلم "ومسّاكم". بواو العطف.

ويحتمل أن يكون ضمير "يقول" للنبي صلى الله عليه وسلم، والجملة حال، وضمير "صبّحكم"، و"مسّاكم" للعذاب المفهوم من ذكر الساعة، والمراد أنه قريب منكم إن لم تطيعوني.

(1)

- "شرح السندي" ج3 ص 189.

(2)

- "شرح مسلم" ج6 ص 155 - 156 ..

ص: 211

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ) أي فماله موروث لأهله (وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا" هو بالفتح: الهلاك، ثم سمّي به كل ما هو بصدد أن يضيع لو لم يقم أحد بأمره، كالأطفال.

وقال القرطبيّ: "والضَّيَاع" العيال، قاله النضر بن شُميل، وقال ابن قتيبة: هو مصدر ضاع، يَضيع، ضَيَاعًا، ومثله مَضَى يَمضي، مَضَاءً، وقَضَى يَقضي، قَضَاء، أراد: من ترك عيالاً، عالة، أو أطفالاً، فجاء بالمصدر موضيع الاسم، كما تقول ترك فَقْرًا، أي فُقَراء، والضَّيَاع بالكسر جمع ضائع، مثل جائع وجياع، وضَيعَةُ الرجل أيضًا ما يكون منه معاشه، من صِنَاعة، أو غلّة، قاله الأزهريّ، وقال شَمِر: ويدخل فيه التجارة، والحرفة، يقال: ما ضيعتك؟ فتقول كذا

(1)

(فإِلَيّ) أي أمره إليّ (أَوْ عَلَيَّ) أي إصلاحه عليّ، ولفظ مسلم "وعليّ" بالواو (وَأَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ) ولفظ الرواية الآتية في "الجنائز" 67/ 1962 - :"أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه"، وهو الذي لمسلم. وهي حديث أبي هريرة الآتي في "الجنائز"-67/ 1963 - "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم". وهذه الجملة -أعني "أنا أولى الخ"- وقعت عند مسلم، وكذا عند المصنف في "الجنائز"، مقدمةً على قوله:"من ترك الخ"، فلذا جعل القرطبي قوله:"من ترك" مُفسِّرًا لقوله: "أنا

أولى"، ونصه:

وقوله: "أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه" أي أقرب له من نفسه، أو أحقّ به منها، ثم فسّر وجهه بقوله:"من ترك مالاً، فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعًا فإليّ، وعليّ". وبيانه أنه إذا ترك دينا، أو ضياعًا، ولم يقدر على أن يُخلّص نفسه منه، إذ لم يترك شيئًا، يسدّ به ذلك، ثم يخلّصه النبي صلى الله عليه وسلم بقيامه به عنه، أو سدّ ضيعته كان أولى به من نفسه، إذ قد فعل معه ما لم يفعل هو بنفسه. واللَّه تعالى أعلم.

وأما رواية من رواه: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" في غير الأصل

(2)

، فيحتمل أن يُحمل على ذلك، ويحتمل أن يكون معناه: أنا أولى بالمؤمنين من بعضهم لبعض، كما قال تعالى:{أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66] أي ليقتل بعضكم بعضًا في أشهر أقوال المفسّرين انتهى.

وقال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه" هو موافق لقول اللَّه تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، أي أحقّ، قال أصحابنا: لو اضطرّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام غيره، ومالكه مضطرّ إليه لنفسه كان له صلى الله عليه وسلم أخذه من مالكه المضطرّ،

(1)

- "المفهم" ج2 ص 509.

(2)

-أي في غير "صحيح مسلم" لأنه أصل كتاب القرطبي، حيث اختصر كتابه منه.

ص: 212

ووجب على مالكه بذله له صلى الله عليه وسلم، قالوا: ولكن هذا - وإن كان جائزًا - لم يقع انتهى

(1)

.

وقال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا الكلام إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حين رَفَع ما كان قرّره من امتناعه من الصلاة على من مات، وعليه دين، لم يترك وفاءً، كما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤتَى بالميت، عليه الدين، فيَسأَلُ. "هل ترك لدينه وفاء؟ "، فإن قيل: إنه ترك وفاءً صلى عليه، وإن قالوا: لا، قال:"صلّوا على صاحبكم"، قال: فلما فتح اللَّه عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من تُوفّي، فترك دينًا، فعليّ، ومن ترك مالاً فلورثته"

(2)

.

قال القاضي: وهذا مما يلزم الأئمة من الفرض في مال اللَّه تعالى للذرّيّة، وأهل الحاجة، والقيام بهم، وقضاء ديون محتاجهم انتهى كلام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-

(3)

.

ونقل السيوطيّ عن القاضي عياض -رحمهما اللَّه-، أنه قال: اختلف الشارحون في معنى هذا الحديث، فذهب بعضهم إلى أنه ناسخ لتركه الصلاة على من مات، وعليه دين، وقوله:"صلّوا على صاحبكم"، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تكفّل بديون أمته، والقيام بمن تركوه، وهو معنى قوله هذا عنده.

وقيل: ليس بمعنى الحمالة، لكنه بمعنى الوعد بأنّ اللَّه تعالى يُنجز له، ولأمته ما وعدهم من فتح البلاد، وكنوز كسرى، وقيصر، فيقضي منها ديون من عليه دين انتهى

(4)

.

وقال النووي رحمه الله: قال أصحابنا: وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على من مات، وعليه دين، لم يَخلُف به وفاءً، لئلا يتساهل الناس في الاستدانة، ويُهملوا الوفاء، فزجرهم عن ذلك بترك الصلاة عليهم، فلما فتح اللَّه على المسلمين مبادئ الفتوح، قال صلى الله عليه وسلم:"من ترك دينا، فعلي قضاؤه"، فكان يقضيه، واختَلَف أصحابنا، هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه قضاء ذلك الدين، أم كان يقضيه تكرّمًا، والأصحّ عندهم أنه كان واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم، واختُلف هل هذه من الخصائص، أم لا؟ فقال بعضهم: هو من خصائص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا، بل يلزم الإمام أن يقضي من بيت المال دينَ من مات، وعليه دين، إذا لم يخلُف وفاء، وكان في بيت المال سَعَة، ولم يكن هناك أهمّ منه انتهى

(5)

.

(1)

- "شرح مسلم" بتصرف ج 6 ص 155.

(2)

- متفق عليه، ويأتي للمصنف برقم 67/ 1962.

(3)

- "المفهم" ج2 ص 510.

(4)

- راجع "زهر الربى" ج3 ص 189 - 190.

(5)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 155.

ص: 213

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إيجابه على الإمام يحتاج إلى دليل، ولا يكفي مجرّد فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجةً على الإيجاب عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهدا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-22/ 1578 - وفي "الكبرى" 21/ 1786 - بالإسناد المذكور، وفي 65/ 1311 - عن عمرو الفَلاّس، عن يحيى القطان، عن جعفر بن محمد به، محتصرًا:"كان يقول لي صلاته بعد التشهد بلفظ: "أحسنُ الكلام كلام اللَّه، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ". وفي 67/ 1962 - و"الكبرى" 67/ 2089 - عن نوح بن حبيب، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عنه مقتصرًا على قصة ترك الصلاة على من عليه دين. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 3/ 11 (د) 2954 (ق) 2416 (أحمد) 3/ 337 و 3/ 371 (ابن خزيمة) 17850 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كيفيّة الخطبة. ومنها: استحباب الحمد والثناء على اللَّه تعالى بما هو أهله في الخطبة. ومنها: أن الهداية والإضلال من اللَّه تعالى، لا يقدر عليهما أحد من الخلق. ومنها: أن كتاب اللَّه أصدق الحديث، وأحسنه، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]. ومنها: أن كلّ بدعة ضلالة توقع صاحبها في النار، والمراد بها البدعة الشرعية، فكلّ من ابتدع في الدين، فقد عرّض نفسه للنار. ومنها: بيان قرب الساعة، وأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من علاماتها. ومنها: أنه ينبغي للخطيب أن يخطب بقوّة حتى يؤثّر وعظه في قلوب المستمعين. ومنها: كون النبي صلى الله عليه وسلم أولى بكلّ مؤمن من نفسه، فكان يقوم لأمته بما لا يستطيعون القيام به، من قضاء الديون التي عجزوا عنها، وكفالة عيالهم بعد موتهم، وأنه يجب على كل مؤمن أن يقدّمه صلى الله عليه وسلم على نفسه، فلا يخرج عن سنته، وإن لم يوافق هواه، ولا يجوز له أن يبتدع في شريعته ما ليس منها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: قوله: "كلّ بدعة ضلالة الخ" تقدم أنه عامٌ لا يخصّص منه شيء ،

ص: 214

لأن المراد به البدعة الشرعية، وهي التي أحدثت في الدين بعد كماله، ولا يشهد لها كتاب، ولا سنة، ولا إجماع.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: "قوله: فإن كل بدعة ضلالة"، بعد قوله:"وإياكم ومحدثات الأمور"، فإنه يدلّ على أن المحدث يسمّى بدعة، وقوله:"وكل بدعة ضلالة" قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يُقال: حكم كذا بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، فلا تكون من الشرع، لأن الشرع كله هُدى، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدّمتان، وأنتجتا المطلوب. والمراد بقوله:"كل بدعة ضلالة" ما أُحدث، ولا دليل له من الشرع بطريق خاصّ، ولا عامّ انتهى

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه اللَه تعالى- في "منهاح السنة": إنما سماها عمر رضي الله عنه يعني صلاة التروايح- بدعةً، لأن ما فُعل ابتداء بدعةٌ لغويةٌ، وليس ذلك بدعة شرعيّة، فإن البدعة الشرعيّة التي هي ضلالة ما فُعل بغير دليل شرعيّ، كاستحباب ما لم يحبّه اللَّه، وإيجاب ما لم يوجبه اللَّه، وتحريم ما لم يحرّمه اللَّه، وبه يندفع ما يقال: إن قول عمر: رضي الله عنه "نعمت البدعة" مخالف لحديث: "كلُّ بدعة ضلاة" بأن المراد بالبدعة في الكلية البدعة الشرعيّة، والوصف بالحسن للبدعة اللغوية. وقال أيضًا: وفي وصفها بـ "نعمت" إشارة إلى أن أصلها سنة، وليست ببدعة شرعية حتى تكون ضلالة، بل بدعة لغوية، وهي حسنة، وقد تعتريها الأحكام الخمسة، والبدعة الشرعيّة ما ليس لها أصل في الشرع، فلا تكون إلا سيئة انتهى

(2)

.

ونقل الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح"، عن الشافعي رحمه الله، أنه قال: البدعة بدعتان: محمودة، ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالفها فهو مذموم. أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي، وجاء عن الشافعي أيضا ما أخرجه البيهقيّ في "مناقبه"، قال: المحدثات ضربان: ما أُحدث يخالف كتابًا أو سنّة، أو أثرًا، أو إجماعًا، فهذه بدعة الضلال، وما أحدث من الخير، لا يخالف شيئًا من ذلك، فهذه محدثة غير مذمومة انتهى.

وقسم بعض العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة، وهو واضح.

وقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قد أصبحتم على الفطرة، وإنكم ستُحدثون، ويُحدَثُ لكم، فإذا رأيتم محدثة، فعليكم بالهدي الأول.

فمما حدث تدوين الحديث، ثم تفسير القرآن، ثم تدوين المسائل الفقهية المولّدة

(1)

- "فتح" 13 ص 267 - 268.

(2)

- نقله في "المرعاة" ج 4 ص 327، ونقلته بتصرّف.

ص: 215

عن الرأي المحض، ثم تدوين ما يتعلّق بأعمال القلوب. فأما الأول فأنكره عمر، وأبو موسى، وطائفة، ورخّص فيه الأكثرون. وأما الثاني، فأنكره جماعة من التابعين، كالشعبي. وأما الثالث، فأنكره الإمام أحمد، وطائفة يسيرة، وكذا اشتدّ إنكار أحمد للذي بعده.

ومما حدث أيضًا تدوين القول في أصول الديانات، فتصدّى لها المثبتة والنُّفَاة، فبالغ الأول حتى شبّه، وبالغ الثاني حتى عطّل، واشتد إنكار السلف لذلك، كأبي حنيفة، وأبي يوسف، والشافعي، وكلامهم في ذمّ أهل الكلام مشهور، وسببه أنهم تكلّموا فيما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وثبت عن مالك أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر شيء من الأهواء -يعني بدع الخوارج والروافض، والقدريّة- وقد توسّع من تأخّر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين، وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردّون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل، ولو مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه، فهو عاميّ جاهل.

فالسعيد من تمسّك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بُدّ فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة، واللَّه ولي التوفيق.

وقد أخرج أحمد بسند جيّد عن غُضيف بن الحارث، قال: بَعَث إليّ عبد الملك بن مروان، فقال: إنا قد جمعنا الناس على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة، وعلى القصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بِدَعِكم عندي، ولستُ بمجيبكم إلى شيء منهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما أحدث قوم بدعةً، إلا رُفع من السنة مثلها، فتمسُّكٌ بسنّة خير من إحداث بدعة". انتهى.

وإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة، فما ظنّك بما لا أصل له فيها، فكيف بما يشتمل على ما يخالفها. وفي "كتاب العلم" من "صحيح البخاري" أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يذكر الناس كل خميس لئلا يَمَلّوا. وفي "كتاب الرقاق" منه أن ابن عباس رضي الله عنه قال: حدِّثِ الناسَ كلّ جمعة، فإن أبيت فمرّتين، ونحوُهُ وصيّة عائشة لعُبيد بن عُمير، والمراد بالقصص التذكير والموعظة، وقد كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يكن يجعله راتبًا كخطبة الجمعة، بل بحسب الحاجة. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- ببعض تصرّف

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه

(1)

- "فتح" ج 13 ص 267 - 268.

ص: 216

المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌23 - (حَثُّ الإِمَام عَلَى الصدَقَةِ فِي الْخُطبَةِ)

1579 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيَاضٌ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْعِيدِ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَخْطُبُ، فَيَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ بَعْثًا تَكَلَّمَ، وَإِلاَّ رَجَعَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متَّفَقٌ عليه، وقد مرّ قبل بابين، في 20/ 1576 "استقبال الإمام الناس بوجهه في الخطبة"، رواه عن قتيبة، عن عبد العزيز الدراوري، عن داود بن قيس به، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه، تستفد. وباللَّه تعالى التوفيق.

و"عمر بن علي": هو الفلاّس، و"يحيى": هو القطّان، ودلالة الحديث على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1580 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، خَطَبَ بِالْبَصْرَةِ، فَقَالَ: أَدُّوا زَكَاةَ صَوْمِكُمْ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ قُومُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ، فَعَلِّمُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ".

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الحديث سيأتي للمصنف في "كتاب الزكاة" برقم 36/ 2508 - ويأتي شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

وفيه انقطاع؛ لأن الحسن البصريّ لم يسمع من ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، لكن المرفوع منه صحيح؛ لأنه سيأتي للمصنف في "الزكاة" بسند آخر متّصل، إن شاء اللَّه تعالى.

وحميد هو الطويل، والحسن هو البصريّ، وقوله:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" بفتح همزة "أن" لكونها سدَّت مسدّ مفعولين "يعلمون"، ويحتمل أن تكون بالكسر؛ لوقوعها في

ص: 217

الابتداء، وتكون الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيَّا، وهو ما وقع جوابًا لسؤال مقدر، فكأن سائلًا سأله، فقال: ما هي زكاة الصوم؟ فأجاب بقوله: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلخ.

ودلالة الحديث على الترجمة من حيث إن ابن عباس رضي الله عنه خطب في آخر رمضان، وحثّ الناس على أداء زكاة الفطر. واللَّه تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1581 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ:«مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ» . فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ نَسَكْتُ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، عَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَتَعَجَّلْتُ، فَأَكَلْتُ، وَأَطْعَمْتُ أَهْلِي، وَجِيرَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ» . قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً، خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَهَلْ تُجْزِي عَنِّي؟ ، قَالَ:«نَعَمْ، وَلَنْ تُجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في باب "الخطبة يوم العيد" 8/ 1563 - وتقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وأبو الأحوص هو سلاّم بن سُليم الحنفي الكوفيّ، ومنصور هو ابن المعتمر، والشعبيّ هو عامر ابن شَرَاحيل، والإسناد كله كوفي، إلا شيخه، فبَغْلانيّ.

ومعنى "فقد أصاب النسك" أي أصاب النسك المشروع المجزىء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌24 - (الْقَصْدُ فِي الْخُطْبَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "القصد" بفتح القاف، وسكون الصاد المهملة: التوسط، يقال: قَصَدَ في الأمر قَصْدًا من باب ضرب: إذا توسط، وطلب الأسدّ، ولم يُجاوز الحدّ، وهو على قَصْدٍ: أي رُشْدِ وطريق قَصْدٌ: أي سَهْلٌ قاله الفيومي

(1)

.

1582 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ،

(1)

"المصباح المنير" جـ2 ص 505.

ص: 218

قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث حسن، من أجل الكلام في سماك بن حرب، فقد ضعفه قوم، ووثقه آخرون، كما سبق تفصيل ذلك في ترجمته برقم 2/ 325، والقول الفصل فيه هو ما قاله ابن عديّ -رحمه اللَّه تعالى-. أحاديثه حسان، وهو صدوقٌ، لا بأس به. انتهى. وما قاله يعقوب بن شيبة -رحمه اللَّه تعالى-: من سمع منه قديمًا، مثل شعبة، وسفيان، فحديثهم عنه صحيح مستقيم. انتهى. راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 115.

وهذا الحديث مما رواه عنه سفيان الثوريّ، كما سيأتي بعد باب، فهو حسنٌ. واللَّه تعالى أعلم.

و"أبو الأحوص": هو سلاّم بن سُليم الحنفيّ الثقة المتقن. والسند من رباعيات المصنف، وهو (94) من رباعيات هذا الكتاب، وقد تقدم في "الجمعة" في "باب القراءة في الخطبة الثانية، والذكر فيها"، وتقدم تمام البحث فيه هناك، وباللَّه تعالى التوفيق.

ودلالة الحديث على الترجمة واضحة، ومعنى قوله:"قصدًا" أي متوسّطة بين القصر والطول، وكذا الصلاة، ولا يلزم مساواتهما، إذ توسط كل يُعتبر في بابه، كما تقدّم.

قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌25 - " الجُلُوسُ بَينَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَالسُّكُوتُ فِيهِ"

1583 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ قَعْدَةً، لَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ خُطْبَةً أُخْرَى، فَمَنْ خَبَّرَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، خَطَبَ قَاعِدًا، فَلَا تُصَدِّقْهُ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث حسنٌ أيضًا؛ لما تقدّم في الباب الماضي، والسند من رباعيات المصنّف أيضًا، وهو (95) من رباعيات هذا الكتاب، وقد تقدم في "الجمعة" في "باب كم الخطبة؟ " 32/ 1415 - وتقدم الكلام عليه هناك مستوفًى، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

و"أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الثقة الثبت.

وقوله: "خبرك" بتشديد الباء، لغة في "أخبرك". ودلالة الحديث على الترجمة

ص: 219

واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌26 - (الْقِرَاءَةُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ)

1584 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سِمَاكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ، وَيَقْرَأُ آيَاتٍ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ، وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ قَصْدًا، وَصَلَاتُهُ قَصْدًا".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث حسنٌ، كما سبق بيانه قبل باب، فإن الحديث واحد، و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ، و"سفيان": هو الثوريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌27 - (نُزُولُ الإِمَامِ عَنِ الْمِنْبَرِ قَبْلَ فرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ)

1585 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، يَخْطُبُ، إِذْ أَقْبَلَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، عليهما السلام عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ، أَحْمَرَانِ، يَمْشِيَانِ، وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ، وَحَمَلَهُمَا، فَقَالَ:«صَدَقَ اللَّهُ، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] رَأَيْتُ هَذَيْنِ، يَمْشِيَانِ، وَيَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا، فَلَمْ أَصْبِرْ، حَتَّى نَزَلْتُ، فَحَمَلْتُهُمَا» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيحٌ، وقد تقدم في "الجمعة" أيضًا - 30/ 1413 - وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

ص: 220

و"يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّورقيّ.

و"أبو تُمَيلة" -بمثنّاة مصغرًا-: هو يحيى بن واضح الأنصاريّ مولاهم المروزيّ مشهور بكنيته، ثقة، من كبار [9].

روى عن حسين بن واقد، ومحمد بن إسحاق، والأوزاعي، وأبي حمزة السكّريّ، وغيرهم. وعنه أحمد، وإسحاق، ومحمد بن سلام البيكنديّ، وغيرهم. قال عبد اللَّه ابن أحمد، عن أبيه: ثقة. وقال الأثرم، عن أحمد: ليس به بأس، ثم قال: أرجو إن شاء اللَّه تعالى أن لا يكون به بأس، كتبنا عنه على باب هُشيم. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ليس به بأس، وكذا قال النسائيّ. وقال ابن أبي خيثمة، وغيره عن ابن معين: قد رأيته ما كان يحسن شيئا. وقال عبدالله بن عدي بن المديني: سئل أبي عن أبي تُميلة، والسِّينانيّ، فقدّم يحيى بن واضح، وقال: روى الفضل بن موسى أحاديث مناكير. وقال ابن خراش: صدوق، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ثقة في الحديث، أدخله البخاريّ في "الضعفاء"، فسمعت أبي يقول: يُحَوَّل من هناك. وقال صاحب "الميزان": لم أر له في "الضعفاء" للبخاريّ ذكرًا.

وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العبّاس بن مصعب المروزيّ: كان أبو تُمَيلة عالما بأيام الناس. وقال زُنَيج، عن أبي تُميلة كان أبي، والمبارك والد عبد اللَّه، تاجرين، وكانا قد جعلا لنا مَنْ حَفِظَ منّا قصيدة فله درهم، قال أبو غسّان: فخرجا شاعرين. وقال صالح بن محمد جَزَرَة. ثقة في الحديث، وكان محمود الرواية. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم 1585 وفي "كتاب النكاح" 3225 حديث:"إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال".

و"ابن بُريدة": هو عبدالله بن بُريدة بن الحصيب.

وقوله. "يعثران" من باب نصر، وضرب، وكرُم، من العَثْرة، وهي الزلّة، أي يمشيان مشيَ صغير، يميل في مشيه تارة إلى هنا، وتارة إلى هنا، لضعفه في المشي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلتُ، وإليه أنيب".

ص: 221

‌28 - مَوْعِظَةُ الإِمَامِ النِّسَاءَ بَعْدَ الْفرَاغِ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَحَثُّهُنَّ عَلَى الصَّدَقَةِ

1586 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَهُ رَجُلٌ: شَهِدْتَ الْخُرُوجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلَا مَكَانِي مِنْهُ، مَا شَهِدْتُهُ -يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ- أَتَى الْعَلَمَ، الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُهْوِى بِيَدِهَا إِلَى حَلَقِهَا، تُلْقِي فِي ثَوْبِ بِلَالٍ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس البصري، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصري، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.

4 -

(عبد الرحمن بن عابس) النخعي الكوفي، ثقة [4] 50/ 851.

5 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، كما سبق غير مرة. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عبد الرحمن بن عابس -رحمه اللَّه تعالى- أنه (قال: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاس) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (قَالَ: لَهُ رَجُلٌ) جملة حالية من المفعول، ولم يُسمَّ الرجلُ (شَهِدْتَ الْخُرُوجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟) بتاء الخطاب، وتقديرِ همزة الاستفهام، ولفظ البخاريّ:"قيل له: أشهدت العيدَ مع النبي صلى الله عليه وسلم"؟ (قَالَ: نَعَمْ، وَلولَا مَكَانِي مِنْهُ) أي لولا قرابتي من النبي

ص: 222

- صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أبي داود: "ولولا منزلتي منه

" (مَا شَهِدْتُهُ) أي حضرته (-يَعْني مِنْ صِغَرِهِ-) أي إنما يمتنع شهوده للنبي صلى الله عليه وسلم لأجل كونه صغيرًا.

قال ابن بطال رحمه الله: خروج الصبيان للمُصلَّى إنما هو إذا كان الصبيّ ممن يَضبط نفسه عن اللعب، ويعقل الصلاة، ويتحفّظ مما يُفسدها، ألا ترى إلى ضبط ابن عبّاس القصّة انتهى.

وتعقبه الحافظ رحمه الله: بقوله: وفيه نظر؛ لأن مشروعيّة إخراج الصبيان إلى المصلى إنما هو للتبرّك، وإظهار شعار الإسلام بكثرة من يحضر منهم، ولذلك شرع للحُيَّض، فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة، أو لا، وعلى هذا إنما يُحتاج أن يكون مع الصبيان من يضبطهم عما ذُكر من اللعب ونحوه، سواءٌ صَلَّوا، أم لا، وأما ضَبطُ ابن عباس رضي الله عنه القصةَ فلعلّه لفرط ذكائه. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

وقوله: (أتى العَلَمَ الذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ) جملة مستأنفةٌ بَيَّنَ فيها الحالة التي شهد النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليها حين شهد العيد معه.

والمعنى: جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلامة التي عند دار كثير بن الصلت، فالمراد بالعلم - بفتحتين-: العلامة، لا الجبل. وظاهره أن دار كثير بن الصلت كانت موجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك، فإن كثيرًا بَنَاها بعده صلى الله عليه وسلم بزمن، فصارت شهيرة في تلك البقعة، ووُصِفَ المُصلَّى بمجاورتها.

وقال في "الفتح": وتعريفه -أي المصلى- بكونه عند دار كثير بن الصلت على سبيل التقريب للسامع، وإلا فدار كثير بن الصلت محدثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر من هذا الحديث أنهم جعلوا لمصلاه شيئًا عُرف به، وهو المراد بالعلم، وهو- بفتحتين-: الشيءُ الشاخص انتهى.

(2)

وكثير بن الصلت -بفتح الصاد المهملة، وسكون اللام، ومثنات فوقيّة-: هو ابن معدي كرب بن وَكِيعَة بِن شُرَحبيل بن معاوية الكنديّ، يُكنَى أبا عبد اللَّه، حليف قريش، وعداده في بني جمُح، ثم تحولوا إلى العبّاس، وقال ابن سعد: وَفَدَ عُمُومته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، ثم رجعوا إلى اليمن، فارتدّوا، فقُتلوا يوم النُّجَير، ثم هاجر كثيرٌ، وزُبيد، وعبد الرحمن بنو الصلت إلى المدينة، قال ابن سعد: وُلد كثيرٌ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له شَرَف، وحال جميلةٌ، وكذا جزم البخاريّ، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والعسكري، وابن منده بأنه وُلد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأورده ابن حبّان في التابعين، وقال البخاريّ: أدرك عثمان، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: روى عن أبي بكر الصدّيق، وأخرج ابن سعد بسند صحيح إلى نافع، قال: كان اسم كثير بن الصلت قليلاً، فسمّاه

(1)

- "فتح" ج 3 ص 145.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 145.

ص: 223

عمر كثيرًا، ووصله أبو عوانة في "صحيحه" من وجه آخر، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وفيه: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم، واستغربه ابن منده، وفي سنده راو ضعيف، والأول أصحّ، قال الحافظ: ولكن للموصول شاهد، ذكره الفاكهيّ من رواية ميمون بن الحكم، عن محمد بن جُعشُم، عن ابن جُريج.

ورَوَى كثير بن الصلت عن أبي بكر، وعمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم، وروى عنه يونس بن جُبير، وأبو علقمة، وحديثه فى النسائيّ

(1)

، وله ذكر في "الصحيح"، في نقله المنبر بالمصلَّى. قاله في "الإصابة"

(2)

.

(فصلّى، ثُمَّ خَطَبَ) أي صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد، ثم خطب بعد الصلاة (ثم أَتَى النِّسَاءَ) هذا يشعر بأن النساء كنّ على حِدَة من الرجال، غير مختلطات بهم (فَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ) هذا موضع الترجمة (فَجَعَلَتِ الْمَرأَةُ تهُوِي بِيَدِهَا) قال الفيومي -رحمه اللَّه تعالى-: وأهوى إلى سيفه بالألف. تناوله بيده، وأهوى إلى الشيء بيده مدها ليأخذه، إذا كان عن قُرْب، فإن كان عن بُعد قيل: هَوَى إليه، بغير ألف، وأهويت بالشيء بالألف. أو مأت به انتهى.

قلت: المناسب هنا بضم التاء، من أهوى رباعيّا، لأن حلقهن قريب، أي تَمُدُّ يدها إلى حلقها، لتأخذ منه حُليًّا تتصدق بها (إِلَى حَلَقِهَا، تُلْقِي) جملة في موضع نصب على الحال من "المرأة"، وفي نسخة. "فتلقي" بزيادة الفاء (فِي ثَوْبِ بِلَالٍ) أي ترمي في ثوب بلال رضي الله عنه ما تتصدّق به من أنواع الحليّ، وقد فسّر ذلك في رواية طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنه عند البخاريّ:"قال: فتصدّقن، فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هَلُمّ لَكُنَّ فدًا أبي وأمي، فيُلقين الْفَتَخَ، والخواتيم في ثوب بلال. قال عبد الرزاق: الفتخ الخواتيمُ العظام، كانت في الجاهلية انتهى. قال في "الفتح": لم يذكر عبد الرزاق في أيّ شيء كانت تلبس، وقد ذكر ثعلب أنهنّ كنّ يلبسنها في أصابع الأرجل انتهى، ولهذا عطف عليها الخواتيم، لأنها عند الإطلاق تنصرف إلى ما يُلبس في الأيدي، وقد وقع في بعض طرقه عند مسلم هنا ذكر الخَلاخيل، وحكى عن الأصمعيّ أن الفتخ الخواتيمُ التي لا فُصوص لها، فعلى هذا هو من عطف الأعم على الأخصّ انتهى

(3)

.. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- هو حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: "الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما

" الحديث.

(2)

- "الإصابة" ج 8 ص 322 - 323.

(3)

- "فتح" ج 3 ص 148 - 149.

ص: 224

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-28/ 1586 - وفي "الكبرى" 13/ 1776 - بالإسناد المذكور، وتقدّم برقم 14/ 1569 - و"الكبرى" 13/ 1778 - عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن عطاء بن أبي رباح، عنه، مختصرًا:"أشهد أني شهدت العيدَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب". واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أما طريق عبد الرحمن بن عابس فأخرجها (خ) في 1/ 218 وفي 2/ 26 وفي 7/ 51 وفي 9128 (د) 1146 (أحمد) 1/ 232 و 1/ 345 و 1357 و1/ 368. وأما طريق عطاء فأخرجها (خ) في 1/ 35 و 2/ 144 (م) 3/ 18 (د) 1142 و 1143 و 1144 (ق) 1273 (الحميدي) 476 (أحمد) 1/ 220 و 1226 و1/ 286 (الدارمي) 1611 (ابن خزيمة) 1437. وفوائد الحديث تقدّمت غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌29 - (الصَّلَاةُ قَبْلَ العِيدِ، وَبَعْدَهَا)

1587 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبد اللَّه بن سعيد الأشجّ) أبو سعيد الأشج الكوفي، ثقة، من صغار [10] 22/ 907.

2 -

(ابن إدريس) عبد اللَّه الأوديُّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة فقيه عابد [8] 85/ 102.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 26.

4 -

(عديّ) بن ثابت الأنصاريّ الكوفيّ، ثقة رمي بالتشيّع [4] 49/ 605.

ص: 225

5 -

(سعيد بن جبير) الأسدي الوالبي الكوفيّ، ثقة فقيه إمام [3] 28/ 436، والصحابي تقدّم في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها). أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الستة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَومَ الْعِيدِ) أي عيد الفطر، ففي رواية البخاريّ:"خرج يوم الفطر"(فَصَلَّى رَكعَتَيْنِ، لَم يُصَلِّ قَبلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا) إنما أفرد الضمير مع أن المرجع قوله: "ركعتين" باعتبار أنهما صلاة واحدة، زاد في رواية الشيخين. "ثم أتى النساء، ومعه بلال، فأمرهنّ بالصدقة، فجعلن يُلقين، تلقي المرأة خُرْصها، وسِخَابها".

و"الْخُرْص" بضم الخاء المعجمة، وحكي كسرها، وسكون الراء، بعدها صاد مهملة: هو الحلقة من الذهب، أو الفضة، وقيل: هو القرط، إذا كان بحبة واحدة.

و"السِّخَاب" بكسر المهملة، ثم معجمة، ثم موحدة: هو قِلادة من عَنبر، أو قَرَنفُل، أو غيره، ولا يكون فيه خَرَز، وقيل: هو خيط، فيه خرز، وسمي سِخَابًا لصوت خرزه عند الحركة، مأخوذ من السَّخَب، وهو اختلاط الأصوات، يقال: بالصاد والسين.

والحديث دليل على عدم التنفّل قبل صلاة العيد وبعدها.

قال في "الفتح": وقد اختلف السلف في ذلك، فذكر ابن المنذر، عن أحمد أنه قال: الكوفيون يصلون بعدها، لا قبلها، والبصريون يصلون قبلها، لا بعدها، والمدنيون لا قبلها، ولا بعدها. وبالأول قال الأوزاعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، وبالثاني قال الحسن البصريّ، وجماعة، وبالثالث قال الزهريّ، وابن جريج، وأحمد. وأما مالك فمنعه في المصلَّى، وعنه في المسجد روايتان. وقال الشافعي في "الأمّ" ونقله عنه البيهقي في "المعرفة" بعد أن رَوَى حديث ابن عباس حديثَ الباب: ما نصه: وهكذا يجب

(1)

للإمام أن لا يتنفّل قبلها، ولا بعدها، وأما المأموم فمخالف له في ذلك، ثم بسط الكلام في ذلك. وقال الرافعي: يكره للإمام التنفّل قبل العيد وبعدها، وقيّده في

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، ولعل الصواب "ينبغي".

ص: 226

"البويطيّ" بالمصلّى، وجرى على ذلك الصيمريّ، فقال: لا بأس بالنافلة قبلها وبعدها مطلقًا، إلا للإمام في موضع الصلاة، وأما النوويّ في "شرح مسلم"، فقال: قال الشافعي، وجماعة من السلف: لا كراهة في الصلاة قبلها، ولا بعدها، فإن حمل كلامه على المأموم فهو مخالف لنصّ الشافعيّ المذكور، ويؤيد ما في "البويطيّ" حديثُ أبي سعيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد شيئًا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين". أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن، وقد صححه الحاكم، وبهذا قال إسحاق، ونقل بعض المالكية الإجماع على أن الإمام لا يتنفّل في المصلى.

وقال ابن العربيّ: التنفل في المصلى لو فعل لَنُقل، ومن أجازه رأى أنه وقتٌ مطلقٌ للصلاة، ومن تركه رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ومن اقتدى فقد اهتدى انتهى.

والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها، ولا بعدها، خلافًا لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاصّ، إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام. واللَّه تعالى أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما أشار إليه ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح.

وحاصله عدم مشروعية التنفّل في المصلَّى؛ لعدم ثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم تحقيق الأقوال بأطول من هذا في 6/ 1561، فراجعه تستفد .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته. حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-29/ 1587 - وفي "الكبرى"-27/ 1792 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 23 و 2/ 30 و 2/ 140 و 7/ 204 (م) 3/ 21 (د) 1159 (ت) 537 (ق) 1291 (أحمد) 1/ 280 و1/ 340 و1/ 355 (الدارمي) 1613 و 1619 (ابن خزيمة). 1436 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" ج 3 ص 159.

ص: 227

‌30 - (ذَبْحُ الإِمَامِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَعَدَدُ مَا يُذْبَحُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "ذَبحُ الإمامِ" خبر لمبتدإ محذوف: أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالين على مشروعية ذبح الإمام الخ، والإضافة فيه من باب إضافة المصدر إلى فاعله، ومفعوله محذوف: أي أضحيّته. وقوله: "يوم العيد" متعلّق بـ "بذبح". وقوله: "وعدد ما يذبح" يحتمل أن يكون الفعل مبنيّا للفاعل، والفاعل ضمير

الإمام، والمفعول محذوف: أي عدد ما يذبحه من الأضحيّة، ويحتمل أن يكون مبنيّا للمفعول: أي عدد ما يُذبَح من الضحايا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1588 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:"خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أَضْحَى، وَانْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ البصري، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(حاتم بن وَرْدَان) السعدي، أبو صالح البصري، ثقة [8] 14/ 1206.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختياني البصريّ، ثقة ثبت حجة فقيه [5] 42/ 42.

4 -

(محمد بن سيرين) أبو بكر بن أبي عمرة البصري الإمام الحجة الثبت الفقيه [3] 46/ 57.

5 -

(أنس بن مالك) - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الاسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها). أن فيه رواية تابعي عن تابعي، (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (92) أو (93)، وقد جاوز المائة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه (قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ

ص: 228

أَضْحًى) أي يوم عيد الأضحى، والحديث سيأتي مطولاً في "كتاب الضحايا" 17/ 4396 - من طريق ابن عليّة، عن أيوب، ولفظه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة، فليُعِد"، فقام رجل، فقال: يا رسول اللَّه هذا يوم يُشتهَى فيه اللحم، فذكر هَنَةً من جِيرَانه، كأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدّقه، قال: عندي جذعة هي أحبّ إلي من شاتي لحم، فرخّص له، فلا أدري أبلغت الرخصة مَنْ سواه، أم لا، ثم انكفأ إلى كبشين، فذبحهما. وقوله: هنة بفتحتين: أي حاجة، يعني أنه ذكر فقراء محتاجين إلى اللحم. وسيأتي تمام الشرح هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَانْكَفَأَ) بهمزة في آخره: أي انقلب، ومال (إِلَى كَبْشَيْنِ) تثنية كَبْش -بفتح، فسكون-: الْحَمَلُ إذا أَثْنَى -أي ألقى ثَنيّته-، أو خرجت رَبَاعِيتُهُ، جمعه أَكْبُشٌ، وكِبَاشٌ، وأَكْبَاش. أفاده المجد اللغوي

(1)

. (أَمْلَحَيْنِ) قال في "النهاية": "الأملح" الذي

بياضه أكثر من سواده، وقيل: هو النقيّ البياض انتهى

(2)

(فَذَبَحَهُمَا) هذا محلّ استنباط الترجمة، حيث إنه صلى الله عليه وسلم ذبح بنفسه كبشين أملحين، فدل على أن السنة للإمام أن يذبح أضحيته بنفسه في المصلى ليراه الناس، فيقتدوا به، ويستحب كونهما كبشين أملحين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصف له:

أخرجه هنا-30/ 1588 - وفي "الكبرى"- في "كتاب الضحايا"-15/ 4477 - بالإسناد المذكور، وفي "كتاب الضحايا" 17/ 4596 - و"الكبرى" فيه -18/ 4488 - عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن عليّة، عن أيوب به مطوّلاً. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 21 و 2/ 28 و 7/ 129 و 7/ 132 (م) 6/ 76 (ق) 3151 (أحمد) 3/ 113 و117 وسائر ما يتعلق بمسائل الضحايا سيأتي تمام بحثها في موضعها، إن شاء اللَّه تعالى، أسال اللَّه تعالى أن يبلغني ذلك الباب، وأن ييسر لي إتمام الكتاب، وإكماله على الوجه المطلوب، إنه سميع قريب مجيب الدعوات آمين آمين آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- "ق" في مادة كبش.

(2)

- "النهاية" ج 4 ص 354.

ص: 229

1589 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَذْبَحُ، أَوْ يَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبدالله بن عبد الحكم) المصريّ الفقيه، ثقة [11] 120/ 166

2 -

(شُعيب) بن الليث بن سعد، أبو عبد الملك المصري، ثقة فقيه نبيل، من كبار [10] 120/ 166.

3 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن، أبو الحارث الفَهْميّ، والد شعيب الراوي عنه، المصري الإمام الحجة الفقيه [7] 31/ 35.

4 -

(كثير بن فَرْقَد) المدني، نزيل مصر، ثقة [7].

روى عن نافع، وعبد اللَّه بن مالك بن حُذَافة، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعُبَيد بن السَّبَّاق. وعنه عمرو بن الحارث، ومالك، وابن لهيعة، والليث. قال الدُوري، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح، كان من أقران الليث، وكان ثبتا. وقال أبو عُبيد الآجرّيّ: سمعت أبا داود قال: قال مالك. كان يُوَطَّدُ لهذا الأمر بعد ربيعة أربعةٌ، كثيرُ بن فرقد، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وعاصم، ومالك، أما أحدهم فعاجلته منيّته -يعني كثير بن فرقد- وأما الآخر فغرّب بنفسه- يعني عاصمًا صار إلى أُسوان، قال أبو داود: بناحية المغرب- وأما الآخر فأخذ في الأغاليط -يعني عبد العزيز، وسكت عن نفسه. وذكره ابن حبان في "الثقات"

(1)

. روى له البخاريّ، وأبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث برقم 1589 و 2943 و 3828 و 3912 و 4248 و 4366 و 4497.

5 -

(نافع) مولى ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.

6 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، كثير، والباقيان مدنيان. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

-"تهذيب الكمال" ج 24 ص 144 - 146.

ص: 230

شرح الحديث

(عَن نَافِعٍ، أَنَّ عَبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَخْبَرَهُ، "أَنَّ رَسُولَ اللَهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَذْبَحُ) البقر، أو الغنم (أَو يَنْحَرُ) البُدْن. قال ابن منظور رحمه الله: الذبح -بفتح، فسكون-: قطع الحُلْقُوم من باطنٍ، عندَ النَّصِيل، وهو موضع الذبح من الحلق. وقال أيضًا: ونَحَرَ البعيرَ يَنحَرُهُ نَحرًا: طعنه في مَنْحَره، حيث يبدو الْحُلقُوم من أعلى الصدر. انتهى

(1)

.

وقال المجد اللغوي رحمه الله: ذَبَحِ، كَمَنَعَ ذبحًا -بفتح، فسكون- وذُبَاحًا - كغُراب-: شقّ، وفَتَقَ، ونَحَر، وخَنَق انتهى. فقال الشارح المرتضى رحمه الله: قال شيخنا: قضيته أن الذبح والنحر مترادفان، والصواب أن الذبح في الحلق، والنحر في اللبة، هكذا فصّله بعضهم، وفي "شرح الشفا": أن النحر يختصّ بالبُدْنِ، وفي غيرها يقال: ذَبَحَ، ولهم فرُوق أُخَر، ولا يبعد أن يكون الأصل فيهما إزهاقَ الروح بإصابة الحلق والمنحر، ثم وقع التخصيص من الفقهاء، أخذوا من كلام الشارع، ثم خصصوه

تخصيصا آخر بقطع الوَدَجَين، وما ذُكر معهما، على ما بُيِّن في الفروع. واللَّه أعلم انتهى

(2)

. وقوله: (بالْمُصَلَّى) تنازعاه الفعلان قبله.

ومعنى الحديث أَنه صلى الله عليه وسلم كان يوم الأضحى إما أن ينحر البُدْن، أو يذبح البقر، أو الغنم، فـ"أو" للتخيير، ويدلّ على هذا رواية ابن عمر رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينحر يوم الأضحى بالمدينة، قال: وكان إذا لم ينحر ذبح"، وفي رواية عنه:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحر يوم الأضحى بالمدينة، قال: وقد كان إذا لم ينحر يذبح بالمصلى"

(3)

.

قال الحافظ رحمه الله عند قول البخاري رحمه الله: "باب النحر، والذبح بالمصلى": ما نصه: قال الزين ابن المنيّر رحمه الله: عطف الذبح على النحر في الترجمة، وإن كان حديث الباب ورد بـ "أو" المقتضية للتردّد، إشارةً إلى أنه لا يمتنع أن يجمع يوم النحر بين نسكين، أحدهما مما يُنحر، والآخر مما يُذبح، وليُفهَم اشتراكهما في الحكم انتهى.

قال: ويحتمل أن يكون إشارة إلى أنه ورد في بعض طرقه بواو الجمع، كما سيأتي في "كتاب الأضاحي"، ويأتي الكلام هناك على فوائده، إن شاء اللَّه تعالى انتهى

(4)

.

(1)

- "لسان العرب" في مادة ذبح، ونحر.

(2)

- "تاج العروس" ج 2 ص 137.

(3)

- سيأتي للمصنف في "كتاب الأضاحي" 3/ 4367.

(4)

- "فتح" ج 3 ص 152.

ص: 231

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "أو" للتردد فيه نظر، فإنها هنا ليست للتردد، كما هو مبيّن في رواية ابن عمر الأخرى التي قدمناها، بل هي للتخيير، فكان صلى الله عليه وسلم يفعل تارة هذا، وتارة هذا. واللَّه تعالى أعلم.

ودلالة الحديث على الترجمة واضحة حيث يدلّ على الجزء الأول منها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى. في درجته: حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا- 30/ 1589 - وفي "كتاب الأضاحي" 7/ 4366 - وفي "الكبرى" فيه 3/ 4456 - بالإسناد المذكور، وفي "كتاب الأضاحي" 7/ 4367 - و"الكبرى" فيه 3/ 4457 - عن علي بن عثمان النُّفيليّ، عن سعيد ين عيسى، عن المفضّل بن فَضَالة، عن عبد اللَّه بن سليمان، عن نافع عنه، واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 28 و 2/ 209 و7/ 130 (د) 2811 (ق) 3161 (أحمد) 2/ 108 و 2/ 152 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌31 - (اجْتِمَاعُ الْعِيدَيْنِ وَشُهُودُهُمَا)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد باجتماع العيدين اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد، فالجمعة عيد أسبوعي، فلذا يقوم العيد مقام الجمعة كما يأتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

وقوله: وشهودهما عطف على "اجتماع"، أي مشروعية شهود الجمعة بعد شهود العيد. ودلالة الحديث على الترجمة واضحة، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد والجمعة بالسورتين المذكورتين في يوم واحد، فدلّ على مشروعية شهودهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ص: 232

1590 -

أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، قُلْتُ: عَنْ أَبِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ

(1)

، بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجُمُعَةُ، وَالْعِيدُ فِي يَوْمٍ، قَرَأَ بِهِمَا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحدَيث أخرجه مسلم، وقد تقدم في "كتاب الجمعة"(4/ 1423 و 1424) سندًا ومتنًا، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"محمد بن قُدامة": هو المصّيصيّ الثقة [10]. و"جرير". هو ابن عبد الحميد الضبي الثقة الثبت [8]. و"إبراهيم بن محمد بن المنتشر": هو الهمدانيّ الكوفيّ الثقة [5]. و"أبوه": هو محمد بن المنتشر الهمدنيّ الكوفي الثقة [4]. و"حبيب بن سالم": هو مولى النعمان بن بشير - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وكاتبه، لا بأس به [3].

وقوله: "قلت: عن أبيه" الظاهر أن القائل هو محمد بن قُدامة، سأل جريرًا هل إبراهيم يروي هذا الحديث عن أبيه، فأجابه بنعم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌32 - (الرخصَةُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ شَهِدَ الْعِيدَ)

1591 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ أَبِي رَمْلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ، سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِيدَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، صَلَّى الْعِيدَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفَلاّس البصري الثبت، تقدم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

- وفي نسخة "والعيدين".

ص: 233

2 -

(عبد الرحمن بن مهدي) الإمام البصري الحجة الثبت، تقدم قبل خمسة أبواب.

3 -

(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، ثقة [7] 75/ 1006.

4 -

(عثمان بن المغيرة) الثقفيّ مولاهم، أبو المغيرة الكوفيّ، وهو عثمان الأعشى، وهو عثمان ابن أبي زُرعة، وهو عثمان الثقفيّ، كما قاله الإمام أحمد، ثقة [6].

روى عن زيد بن وهب، وإياس بن أبي رَمْلة، وسالم بن أبي الجعد، وغيرهم. وعنه شعبة، وإسرائيل، والثوري، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد، عن أبيه: كوفي ثقة، ليس أحد أروى عنه من شريك. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم، والنسائيّ، وعبد الغنيّ بن سعيد: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". ووثقه العجلي، وابن نمير. روى له الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(إياس بن أبي رَمْلَة) الشاميّ مجهول [3].

سمع معاوية، يسأل زيد بن أرقم عن اجتماع العيد والجمعة؟. روى عنه عثمان بن المغيرة الثقفي. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن المنذر: إياس مجهول. قال ابن القطّان: هو كما قال. روى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، الصحابي المشهور - رضي اللَّه تعالى عنه - 13/ 13 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى إياس، كما سبق آنفًا. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن إِيَاسِ بْنِ أَبِي رَمْلَة) ووقع في بعض النسخ "ابن أبي ريطة"، وهو تصحيف، فتنبّه. أنه (قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان رضي الله عنه (سَأَلَ) وفي نسخة "يسأل"(زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ) رضي الله عنه (أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِيدَيْنِ؟) زاد في رواية أبي داود "اجتمعا في يوم واحد"، والمراد بالعيدين، الجمعة والعيد، وأطلق على الجمعة عيدًا، لما رواه البيهقيّ عن ابن شهاب، عن السبّاق: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال في جمعة من الجُمَعِ: "معاشرَ المسلمين هذا يوم جعله اللَّه عز وجل لكم عيدًا، فاغتسلوا، وعليكم

ص: 234

بالسواك ". وهو مرسل صحيح الإسناد، وروي موصولاً من حديث أبي هريرة، وأنس

بن مالك، رضي الله عنهما، وصحح البيهقي إرساله. ولأنها تعود في كلّ شهر مرّات (قَالَ:) أي زيد بن أرقم رضي الله عنه (نَعَمْ) أي حضرت ذلك (صَلَّى الْعِيد مِن أَوَّلِ النَّهَارِ) وفي رواية أبي داود: "قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد"(ثُمَّ رَخصَ فِي الْجُمُعَةِ) زاد في رواية أبي داود: "فقال: "من شاء أن يصلي فليصل". أي أجاز ترك صلاة الجمعة، فقال: من أراد صلاة الجمعة ممن حضر العيد، فليصلّها، ومن لا فلا.

قال السنديّ رحمه الله: فيه أنه يجزىء حضور العيد عن حضور الجمعة، لكن لا يسقط به الظهر، كذا قاله الخطابي، ومذهب علمائنا -يعني الحنفية- لزوم الحضور للجمعة، ولا يخفى أن أحاديث الباب دالة على سقوط لزوم حضور الجمعة، بل بعضها يقتضي سقوط الظهر أيضًا، كروايات حديث ابن الزبير. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده إياس بن أبي رملة، وهو مجهول، كما تقدّم في ترجمته؟.

[قلت]: قد جاءت في الباب أحاديث تشهد له، فيصحّ بها

فمنها: فعل ابن الزبير رضي الله عنه الآتي بعد هذا، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: لَمّا سمع به "أصاب السنّة"، ومن المقرر أن الصحابي إذا قال: هذا من السنة، أنه مرفوع حكمًا، عند جمهور أهل العلم، كما هو معروف في مصطلح الحديث.

ومنها: ما رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه عن الجمعة، وإنا مُجَمِّعون". وفي إسناده بقية، ورواه عن شعبة، عن مغيرة الضبيّ، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن أبي صالح به، وتابعه زياد بن عبد اللَّه البكّائيّ، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، وصحح الدارقطني إرساله، لرواية حماد، عن عبد العزيز، عن أبي صالح، وكذا صحح ابن حنبل إرساله. ورواه البيهقيّ من حديث سفيان بن عيينة، عن عبد العزيز، موصولاً، مقيدًا بأهل العوالي، وإسناده ضعيف.

(1)

- "شرح السندي" ج 3 ص 194 - 195.

ص: 235

ووقع عند ابن ماجه عن أبي صالح، عن ابن عباس، بدل أبي هريرة، وهو وهم، نبّه هو عليه. ورواه أيضا من حديث ابن عمر، وإسناده ضعيف. ورواه الطبرانيّ من وجه آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ورواه البخاريّ في "صحيحه" تعليقًا من قول عثمان رضي الله عنه، ورواه الحاكم من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أحاديث الباب، وإن كان في مرفوعها مقال، لكن فعل ابن الزبير رضي الله عنهما صحيح، وقول ابن عباس رضي الله عنهما:"أصاب السنة" صحيح، وقد قدمنا أن قول الصحابي "هذا سنة" يكون في حكم الرفع، فيصحّ حديث الباب به، وقد نقل الحافظ رحمه الله في "تلخيصه" أن علي بن المدينيّ صحح حديث زيد بن أرقم هذا

(2)

قلت. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي

(3)

واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-32/ 1591 - وفي "الكبرى" 28/ 1793 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 1070 (ق) 1310 (أحمد) 4/ 372 (الدارمي) 1620 (ابن خزيمة)1464. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في بيان اختلاف أهل العلم في حكم اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد:

ذهبت طائفة إلى أن العيد يجزىء عن الجمعة، وهو مذهب ابن الزبير، وابن عباس رضي الله عنه. وأخرج ابن المنذر رحمه الله عن علي رضي الله عنه أنه اجتمعا في عهده، فصلى بهم العيد، ثم خطبهم على راحتله، فقال:"أيها الناس من شهد منكم العيد، فقد قضى جمعته، إن شاء اللَّه". وأخرج عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال في يوم عيد: "قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، فمن أحبّ من أهل العالية أن ينتظر الجمعة، فلينتظرها، ومن أحبّ أن يرجع، فليرجع، فقد أذنت له". وروي نحو ذلك عن عمر بن عبد العزيز.

وبه قال عطاء بن أبي رباح. وروي عن الشعبي، والنخعيّ، أنهما قالا: يجزىء عنك أحدهما

(4)

.

(1)

- "التلخيص الحبير" ج 2 ص 178 الطبعة المحققة الجديدة.

(2)

- انظر "التخليص الحبير" ج 2 ص 178.

(3)

- راجع "المستدرك" ج 1 ص 288.

(4)

- راجع "الأوسط" لابن المنذر ج 4 ص 289 - 290.

ص: 236

وذهبت الحنابلة إلى أن الجمعة تسقط عمن حضر العيد مع الإمام إلا الإمام، فلا تسقط عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"وإنا مجمّعون".

وللمالكية في هذا روايتان، فروى مطرّف، وابن وهب، وابن الماجشون عن مالك الاكتفاء بالعيد عن الجمعة، لما رواه الشافعيّ في "الأمّ" عن عثمان رضي الله عنه، أنه قال:"اجتمع في يومكم عيدان، فمن أحبّ من أهل العالية أن ينتظر، فلينتظرها، ومن أحبّ أن يرجع، فقد أذنت له". ووجه الدلالة في هذا أن عثمان خطب بذلك في جمع من الصحابة، ولم ينكروا عليه، فهو إجماع منهم على جواز ذلك. وروى ابن القاسم، عن مالك أنه لابد من الجمعة، وهو مشهور المذهب، وقول الحنفية، والحديث حجة عليهم.

وذهبت الشافعية إلى أنه تجب الجمعة على أهل البلد، ولا يجزئهم العيد عنها، واختلفوا في أهل القرى الذين يسمعون نداء الجمعة، ومشهور المذهب أن الجمعة تسقط عنهم، ويصلّون الظهر، لرواية عثمان المتقدّمة

(1)

.

وقال العلامة الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى- عند شرح قوله "ثم رَخّص في الجمعة": ما نصّه: فيه أن صلاة الجمعة في يوم العيد يجوز تركها، وظاهر الحديث عدم الفرق بين من صلى العيد ومن لم يصل، وبين الإمام وغيره، لأن قوله:"لمن شاء" يدلّ على أن الرخصة تعمّ كلّ أحد. قال: ويدلّ على عدم الوجوب، وأن الترخيص عامّ لكلّ أحد ترك ابن الزبير للجمعة، وهو الإمام إذ ذاك، وقول ابن عباس: أصاب السنّة، وعدم الإنكار عليه من أحد من الصحابة انتهى كلام الشوكاني بتصرف

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي قول من قال: إن صلاة العيد تجزىء عن الجمعة، فيُرخّص لكل من حضر العيد أن يتخلف عن الجمعة، وأما القول بسقوط الظهر عمن سقطت عنه الجمعة، فمما لا دليل عليه، فالذين قالوا بسقوط الظهر ما أتوا بدليل صريح، بل كلها محتملات، كفعل ابن الزبير المتقدّم، فالحقّ أن لا يسقط وجوب أداء الظهر؛ لأن وجوبه بالنصوص القطعية، وهذا الذي ادّعوه من السقوط إنما هو بالنصوص المحتملة، فلا تبرأ الذمة بيقين إلا بالأداء، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1592 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ

(1)

- راجع "المنهل العذب" ج 6 ص 222 - 223.

(2)

- "نيل الأوطار" ج 3 ص 336.

ص: 237

جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، قَالَ: اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخَّرَ الْخُرُوجَ، حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ، ثُمَّ خَرَجَ، فَخَطَبَ، فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْجُمُعَةَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن بشّار) بُندَار البصريّ الحافظ الثبت [10] 24/ 27.

2 -

(يحيى) القطان المتقدّم قريبًا.

3 -

(عبد الحميد بن جعفر) الأنصاريّ المدني، صدوق، رمي بالقدر، وربّما وهم [6] 26/ 914.

4 -

(وهب بن كَيسان) القرشيّ مولى آل الزبير، أبو نُعيم المدني الْمُعَلّم، ثقة، من كبار [4] 17/ 526.

5 -

(ابن عباس) رضي الله عنهما 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وفيه بصريان: شيخه، ويحيى، ومدنيان: عبد الحميد، ووهب، والصحابي مدني بصري، وفيه ابن عباس رضي الله عنهما البحر الحبر أحمد العبادة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن وهب بن كيسان رحمه الله أنه (قال: اجتَمَعَ عِيدَان) أي عيد الفطر، والجمعة، فعند أبي داود من رواية عطاء: "قال: اجتمع يوم جمعة، ويوم فطر على عهد ابن الزبير

".

وفي رواية الحاكم عن وهب بن كيسان، قال:"شهدت ابن الزبير بمكة، وهو أمير، فوافق يومُ فطر، أو أضحى يومَ الجمعة، فأخر الخروج حتى ارتفع النهار، فخرج، وصعد المنبر، فخطب، وأطال الخطبة، ثم صلّى ركعتين، ولم يصلّ الجمعة، فعاتبة عليه ناس من بني أمية بن عبد شمس، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: "أصاب ابنُ الزبير السنّةَ"، فبلغ ابنَ الزبير، فقال: "رأيت عمر بن الخطاب، إذا اجتمع عيدان، صنع مثل هذا".

وتقدّم وجه تسمية الجمعة عيدًا في الحديث الماضي (عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ) أي في مدّة خلافة عبد اللَّه ابن الزبير رضي الله عنه (فَأَخرَ الخُرُوجَ، حَتَّى تَعَالَى) أي ارتفع (النَّهَارُ، ثُمَّ خَرَجَ، فَخَطَبَ) وفي نسخة "يخطب"، وفيه أنه قدّم الخطبة، وقد سبق أن ابن الزبير

ص: 238

ممن يرى تقديم خطبة العيد على الصلاة، والجمهور على خلافه (فَأَطَالَ الخُطْبَةَ، ثُم نَزَلَ) أي من المنبر (فَصَلَّى) أي صلاة العيد (وَلَمْ يُصَلً لِلنَّاسِ) وفي نسخة "بالناس (يَؤمَئِذٍ الْجُمُعَةَ) وفي نسخة "يوم الجمعة"، أي لم يصل في ذلك اليوم، وهو يومُ الجمعة صلاةَ الجمعة، وفي رواية أبي داود: "فصلاهما ركعتين بُكرةَ، لم يزد عليهما حتى صلّى العصر"

قال العلامة الشوكاني رحمه الله: ظاهره أنه لم يصلّ الظهر، وفيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء، حكى ذلك عنه في "البحر"، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة الأصل، وأنت خبير بأن الذي افترضه اللَّه تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب صلاة الظهر على من تركها لعذر، أو لغير عذر محتاجٌ إلى دليل، ولا دليل يصلح للتمسّك به على ذلك فيما أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدم أن القول بسقوط صلاة الظهر هو الذي يحتاج إلى دليل، فالحقّ أن صلاة الظهر لا تسقط عمن سقطت عنه الجمعة لما ذُكِرَ، هذا ما عندي، واللَّه تعالى أعلم.

وقال صاحب "المنتقى" بعد أن ذكر رواية ابن الزبير هذه: ما نصه: إنما وَجْهُ هذا أنه رأى تقدمة الجمعة قبل الزوال، فقدّمها، واجتزأ بها عن العيد انتهى.

قال الشوكاني: لا يخفى ما في هذا الوجه من التعسف انتهى

(1)

.

(فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَباس) ببناء الفعل للمفعول، واسم الإشارة نائب فاعله، أي ذُكر لعبد اللَّه ابن عباس رضي الله عنهما ما صنعه عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما من الاجتزاء بصلاة العيد عن صلاة الجمعة لاجتماعهما في يوم واحد (فَقَالَ) أي ابن عباس رضي الله عنهما (أَصَابَ السُّنَّةَ) أي الطريقة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن الرخصة في هذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 32/ 1592 - وفي "الكبرى" - 28/ 1794 - بالإسناد المذكور، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "نيل الأوطار" ج 3 ص 336.

ص: 239

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) من رواية عطاء بنحوه 1071 (ابن خزيمة) 1465 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌33 - ضَرْبُ الدُّفِّ يَوْمَ الْعِيدِ

1593 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ، تَضْرِبَانِ بِدُفَّيْنِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«دَعْهُنَّ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) البَغْلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(محمد بن جعفر) غندر البصريّ، ثقة [9] 21/ 22.

3 -

(معمر) بن راشد الصنعاني، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام المشهور الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(عروة) بن الزبير المدني الفقيه الثبت [3] 40/ 44

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الاسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهري، وشيخه بغلانيّ، ومحمد ابن جعفر بصريّ، ومعمر يمنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعى عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَيهَا، وَعِنْدَهَا جَارِيتَانِ) جملة في محل نصب على الحال من الضمير المجرور، أي والحال أن جاريتين كائنتان عندها.

ص: 240

والجارية في النساء كالغلام في الرجال، يقعان على من دون البلوغ فيهما (تَضْرِبَانِ بِدُفَّيْنِ) تثنية دفّ -بضمّ الدال، وفتحها-: الذي يَضرب به النساء، وفي "المُحكَم": الذي يُضرَبُ به، والجمع دُفُوف. ذكره في "اللسان". وقال السنديّ: وهو الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو الْمِزهَر

(1)

، والمراد تضربان بدفّين مع الغناء انتهى (فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرِ) أي منعهما أبو بكر الصدّيق - رضي اللَّه تعالى عنه -؛ لعدِم اطلاعه على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهما على ذلك (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ) أي اتركهنّ، وجَمعَ الضميرَ مع أن المرجع اثنتان، إشارة إلى أن هذا الحكم لا يخصّ هاتين الجاريتن، فكأنه يقول له: دع النساء يضربن بالدفوف في هذا اليوم، لأنه يوم فرح وسرور. واللَّه تعالى أعلم (فَإنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا) زاد في رواية البخاريّ:"وهذا عيدنا".

وفيهَ تعليل لإباحة ذلك لهنّ، أي لأن كل قوم لهم عيد يلعبون فيه، وهذا اليوم عيدنا، فيباح لهن اللعب فيه .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديَث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-33/ 1593 - وفي "الكبرى" 29/ 1795 - بالسند المذكور، وفي 36/ 1597 - عن أحمد بن حفص بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن إبراهيم بن طَهْمَان، عن مالك ابن أنس، عن الزهريّ به. وفي "الكبرى" 30/ 1796 - عن محمد بن عبد اللَّه بن عمّار، عن المعافَى، عن الأوزاعيّ، عن الزهري به. وفيه 30/ 1797 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 21 و 2/ 29 و 4/ و 5/ 86 (م) 3/ 21 و (ق) 1898 (أحمد) 6/ 33 و 84 و 99 و 127 و 134 واللَّه تعالى أعلم.

وفوائد الحديث، وبيان مذاهب العلماء في ضرب الدف يوم العيد ستأتي بعد بابين، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "المزهر" كمنبر: العود يُضرَب به. اهـ "ق".

ص: 241

‌34 - (اللَّعِبُ بَينَ يَدَيِ الإِمَامِ يَوْمَ الْعِيدِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "اللَّعِب" - بفتح اللام، وكسر العين المهملة- ويجوز تخفيفه بكسر اللام، وسكون العين، قال ابن قُتيبة: ولم يُسمع في التخفيف فتح اللام مع السكون. قاله في "المصباح".

قلت: ما ادّعاه ابن قتيبة من عدم سماع فتح اللام مع السكون، أثبته غيره، كالمجد في "القاموس"، بل قال بعضهم. إن هذا مطرد في كل ثلاثي مكسور الوسط، حلقيّه، اسمًا كان، أو فعلاً، كنعم، وبئس. راجع "تاج العروس في شرح القاموس" 1/ 470.

والحاصل أنه يجوز في نحو اللعب فتح أوله، وكسر ثانيه، وهو الأصل، ويجوز تخفيفه بتسكين الوسط، مع فتح أوله، وكسره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1594 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ السُّودَانُ، يَلْعَبُونَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَدَعَانِي، فَكُنْتُ أَطَّلِعُ إِلَيْهِمْ، مِنْ فَوْقِ عَاتِقِهِ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي انْصَرَفْتُ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن آدم) بن سليمان الجُهَنيّ، صدوق [10] 93/ 115.

2 -

(عبدة) بن سليمان الكِلَابي، أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت، من صغار [8] 7/ 339.

3 -

(هشام) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، ربما دلس [5] 49/ 61.

والباقيان تقدما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه أيضًا، فمصّيصيّ، وعبدة، فكوفيّ. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 242

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: جَاءَ السُّودَانُ) المراد بهم الحبشة، لما في الرواية الآتية في الباب التالي:"وأنا أنظر إلى الحبشة، يلعبون في المسجد"، وفي رواية مسلم:"جاء حبش يلعبون في المسجد"، وفي رواية له:"والحبشة يلعبون بِحِرَابهم في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

قال في "الفتح": قال المحبّ الطبري رحمه الله: هذا السياق يُشعر بأن عادتهم ذلك في كلّ عيد، ووقع في رواية ابن حبّان "لما قَدِمَ الحبشة قاموا يلعبون في المسجد"، وهذا يشعر بأن الترخيص لهم في ذلك بحال القدوم، ولا تنافي بينهما لاحتمال أن يكون قدومهم صادف يوم عيد، وكان من عادتهم اللعب في الأعياد، ففعلوا ذلك كعادتهم، ثم صاروا يلعبون يوم كلِّ عيد.

ويؤيّده ما رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لَعِبَت الحبشة، فَرَحًا بذلك، لعبوا بحرابهم". ولا شك أن يوم قدومه صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من يوم العيد. قال الزين ابن المنيّر رحمه الله: سماه لعبًا، وإن كان أصله التدريب على العرب، وهو من الجدّ، لما فيه من شبه اللعب، لكونه يَقصد إلى الطعن، ولا يفعله، ويوهم بذلك قرنه

(1)

، ولو كان أباه، أو ابنه انتهى

(2)

.

(يَلْعَبُونَ) جملة حالية من الفاعل (بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي يَوْمِ عِيدٍ) الظرف والجارّ والمجرور متعلقان بـ "يلعبون"(فَدَعَانِي) وفي رواية البخاري "فإِمّا سَألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإما قال: تشتهين، تنظرين".

قال في "الفتح": هذا تردّد منها فيما كان وقع له، هل كان أذن لها في ذلك ابتداءً منه، أو عن سؤال منها، وهذا بناءٌ على أن "سألْتُ" بسكون اللام على أنه كلامُها، ويَحتملُ أن يكون بفتح اللام، فيكون كلام الراوي، فلا ينافي مع ذلك قوله:"وإما قال: تشتهين تنظرين".

وقد اختلفت الروايات عنها في ذلك، ففي رواية النسائيّ -18/ 8957 - من طريق يزيد بن رُومان عنها: "سمعتُ لغَطًا، وصوت صبيان، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حَبَشيّة تَزْفِن

(3)

"أي تَرقُص" والصبيان حولها، فقال:"يا عائشة، تعالي، فانظري". ففي هذا

(1)

- هكذا نسخة الفتح "قرنه" ولعل صوابه "قتله". واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 118.

(3)

- "زفن" من باب ضرب، و"رقص" من باب نصر.

ص: 243

أنه ابتدأها، وفي رواية عُبيد بن عُمير، عنها عند مسلم أنها قالت للعّابين:"وددتُ أني أراهم"، ففي هذا أنها سألت، ويُجمَع بينهما بأنها التمست منه ذلك، فأذن لها. وفي رواية النسائي من طريق أبي سلمة، عنها:"دخل الحبشة، يلعبون، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا حُميراء، أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم"، إسناده صحيح.

قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا.

وفي رواية أبي سلمة هذه من الزيادة عنها، قالت:"ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبًا"، كذا فيه بالنصب، وهو حكاية قول الحبشة، ولأحمد، والسراج، وابن حبّان من حديث أنس رضي الله عنه:"أن الحبشة كانت تَزفِن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكلّمون بكلام لهم، فقال: "ما يقولون؟ قال: يقولون: محمد عبد صالح

(1)

. ولفظ أحمد: كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويرقصون، ويقولون: محمد عبد صالح، فقال رسول اللَه صلى الله عليه وسلم:"ما يقولون؟ "، قالوا: يقولون: محمد عبد صالح

(2)

.

(فَكُنْتُ أَطَّلِعُ إِلَيْهِمْ) أي أنظر إلى لعبهم (مِنْ فَوْقِ عَاتِقِهِ) هو ما بين المنكب والعنق، وهو موضع الرداء، ويذكّر، ويؤنّث، والجمع عواتق، قاله في "المصباح".

وفي رواية البخاري: "فأقامني وراءه، خدّي على خدّه". وفي رواية مسلم: "فوضعت رأسي على منكبه"، وفي رواية أبي سلمة المذكورة:"فوضعت ذَقَني على عاتقه، وأسندت وجهي إلى خدّه"، وفي رواية عُبيد بن عُمير، عنها "أنظر بين أذنه وعاتقه"، ومعانيها متقاربة، ورواية أبي سلمة أَبْيَنُها. وفي رواية الزهري، عن عروة الآتية في الباب التالي:"يسترني بردائه، وأنا أنظر".

قال الحافظ: ويتعقّب به على الزين بن المنيّر في استنباطه من لفظ حديث الباب جواز اكتفاء المرأة بالتستّر بالقيام خلف من تستتر به، من زوج، أو ذي رحم محرم، إذا قام ذلك مقام الرداء، لأن القصّة واحدة، وقد وقع فيها التنصيص على وجود التستر بالرداء انتهى

(3)

.

(فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي إلى لعبهم (حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي انْصَرَفْتُ) وفي رواية الزهري عند البخاريّ "حتى أكون أنا الذي أسأم"، وفي رواية لمسلم من طريقه "ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا الذي أنصرف"، وفي رواية يزيد بن رُومان عند النسائي في - الكبرى 18/ 8957 - أَمَا شَبِعتِ؟ قالت: فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده"، وله

(1)

- راجع "الفتح" في 3 ص 118.

(2)

- راجع "المسند" ج 3 ص 152.

(3)

- "فتح" ج 3 ص 118 - 119.

ص: 244

من رواية أبي سلمة، عنها "قلت: يا رسول اللَّه لا تعجل، فقام لي، ثم قال: حسبك؟ قلت: لا تعجل، قال: وما بي حبّ النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي، ومكاني منه".

وفي الرواية الآتية في الباب التالي "حتى أكون أنا أسأم، فاقدروا قدرَ الجارية الحديثة السنّ، الحريصة على اللَّهو".

وأشارت بذلك إلى أنها كانت شابّة، وقد تمسك به من ادّعى نسخ هذا الحكم، وأنه كان في أول الإسلام، وردّ بأن قولها:"يسترني بردائه" دالّ على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، وكذا قولها:"أحببت أن يبلغ النساء مقامُهُ لي" مشعر بأن ذلك وقع بعد أن صارت لها ضرائر، أرادت الفخر عليهنّ، فالظاهر أن ذلك وقع بعد بلوغها، وقد تقدّم من رواية ابن حبان أن ذلك لما قدم وفد الحبشة، وكان قدومهم سنة سبع، فيكون عمرها خمس عشرة سنة. قاله في "الفتح" .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته. حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا- 34/ 1594 - وفي "الكبرى" 31/ 1798 - بالإسناد المذكور، وفي 35/ 1595 - و"الكبرى" 32/ 1800 - عن علي بن خَشْرَم، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عنها.

وفي "الكبرى" في "كتاب عِشْرَة النساء" 18/ 8951 عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي:"يا حُميراء، أتحُبّبين، أن تنظري إليهم؟ "، فقلت: نعم، فقام بالباب، وجئته، فوضعت ذَقَني على عاتقه، فأسندت وجهي إلى خدّه، قالت: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"حسبك"، فقلت: يا رسول اللَّه، لا تَعْجل، فقام لي، ثم قال:"حسبك"، فقلت: لا تعجل يا رسول اللَّه، قالت: وما لي حبّ النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ النساء مقامُه لي، ومكاني منه.

وفي -8952 - عن الربيع بن سليمان، عن إسحاق بن بكر، عن أبيه، عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عروة، قالت عائشة: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون، وأنا جارية، في المسجد، فاقدروا قدرَ

ص: 245

الجارية الحديثة السنّ.

وفي -8953 - عن عمرو بن منصور، عن الحكم بن نافع، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عروة، أن عائشة قالت: واللَّه لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحراب في المسجد، يسترني بردائه، لكي أنظر إلى لعبهم، ثم أقوم من أجلي، حتى أكون أنا التي أَمَلُّ، فاقدروا بقدر الجارية الحديثة السنّ، الحريصة على اللَّهو.

وفي -8954 - عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قالت عائشة: كان الحبش يلعبون بحراب لهم، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعلت أنظر بين أذنه وعاتقه، حتى كنت أنا التي صَدَرتُ.

وفي-8955 - عن عمرو بن علي، عن ابن أبي عديّ، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: لَعِبَت الحبشة، فجئتُ من ورائه صلى الله عليه وسلم، فجعل يطأطىء ظهره حتى أنظر.

وفي-8957 - عن عبدالله بن محمد الثّغْري، عن زيد بن حُبَاب، عن خارجة بن عبد اللَّه، عن يزيد بن رُومان، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسا، فسمعنا لغَطًا، وصوت الصبيان، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا حبشيّة تَزْفِن، والصبيان حولها، فقال:"يا عائشة، تعالي، فانظري"، فجئت، فوضعت، ذَقَني على منكب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعلت، أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي:"أما شبعتِ؟ "، فجعلت، أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر، فارفض الناس عنها، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إني لأنظر إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا من عمر"، قالت: فرجعتُ.

وفي-8958 - عن محمد بن خَلَف العَسْقلاني، عن آدم بن أبي إياس، عن إسرائيل، عن قَرَظة، عن عكرمة، عن عائشة، قالت: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والحبشة يلعبون، وأنا أطّلع من خَوخَة

(1)

لي، فدنا مني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوضعت يدي على منكبه، وجعلت أنظر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "خُذن بنات أرفدة"، فما زلت، وهم يلعبون، ويَزفِنُون، حتى كنت أنا التي انتهيت"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 1/ 123 و 2/ 29 و 4/ 225 و 7/ 36 و 7/ 48 (م) 3/ 21 و 3/ 22 و 3/

(1)

- "الخوخة" بفتح المعجمة، وسكون الواو: كُوّة تؤدي الضوء إلى البيت اهـ ق.

(2)

- راجع "الكبرى" ج5 ص 307 - 309.

قال الجامع: "وإنما أوردت هذه الروايات سنداً ومتناً لخلوّ "المجتبى" عنها، مع كثرة فوائدها.

ص: 246

23 (ت) 3691 (الحميدي) 254 (أحمد) 6/ 56 و 6/ 83 و 6/ 84 و 6/ 85 و 6/ 116 و 6/ 166 أو 6/ 186 و 6/ 247 و 6/ 270 و 6/ 233 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو مشروعية اللعب بين يدي الإمام يوم العيد.

ومنها: جواز اللعب بالسِّلَاح على طريق التواثب، للتدريب على الحرب، والتنشيط عليه في المسجد، ويلتحق به ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد، وأنواع البرّ.

قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله: في تمكينه صلى الله عليه وسلم الحبشة من اللعب في المسجد دليلٌ على جواز ذلك، فَلِمَ كره العلماء اللعب في المساجد؟، قال: والجواب أن لعب الحبشة كان بالسلاح، واللعب بالسلاح مندوب إليه للقوّة على الجهاد، فصار ذلك من القُرَب، كإقراء علم، وتسبيح، وغير ذلك من القُرَب، ولأن ذلك كان على وجه الندور، والذي يُفضي إلى امتهان المساجد إنما هو أن يتخذ ذلك عادة مستمرّة، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: لا أكره القضاء في المسجد المرّة والمرّتين، وإنما أكرهه على وجه العادة

(1)

انتهى

(2)

.

ومنها. جواز المثاقفة

(3)

، لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب، ومنها: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله، وكريم معاشرته لهنّ. ومنها: فضل عائشة رضي الله عنها، وعظيم محلّها عند النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: ما قاله القاضي عياض رحمه الله: فيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجال الأجانب، لأنه إنما يكره لهنّ النظر إلى المحاسن، والاستلذاذ بذلك، وقال النوويّ رحمه الله: أما النظر بشهوة، وعند خشية الفتنة، فحرام اتفاقا، وأما بغير شهوة، فالأصحّ أنه محرّم، وأجاب عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة. وسيأتي في الباب التالي ما يردّ عليه أن ذلك كان سنة سبع من الهجرة، وعائشة قد بلغت من غير شكّ.

قال: أو كانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم، لا إلى وجوههم، وأبدانهم، وإن وقع بلا قصد أمكن أن تصرفه في الحال انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي قريبًا أن الأرجح جواز نظر المرأة إلى الرجل عند أمن الفتنة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- قال الجامع: كراهة الشافعي رحمه الله القضاء في المسجد إلا مرة، أو مرتين مشكل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له محل قضاء بين الناس إلا المسجد، فكان قضاؤه فيه، فليتأمل. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- انظر "زهر الربى" ج 3 ص 196.

(3)

قال في "ق": ثاقفه فثَقَهُ، كنَصَرَهُ: غالبه، فغلبه في الحِذْقِ. انتهى.

ص: 247

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌35 - (اللَّعِبُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَنَظَرُ النِّسَاءِ إِلَى ذَلِكَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بوّب -رحمه اللَّه تعالى- لمسألتين:

إحداهما: جواز اللعب في المسجد يوم العيد.

الثانية: جواز نظر النساء إلى اللعب.

وقد بوّب الإمام البخاري رحمه الله في "كتاب النكاح" من "صحيحه": "باب نظر المرأة إلى الحبش، ونحوهم من غير رِيبة". ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب.

قال الحافظ رحمه الله: وظاهر الترجمة أن المصنف كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبيّ بخلاف عكسه، وهي مسألة شهيرة، واختلف الترجيح فيها عند الشافعية، وحديث الباب يُساعد من أجاز، وقد تقدّم في "أبواب العيدين" جواب النووي عن ذلك بأن عائشة كانت صغيرة، دون البلوغ، أو كان قبل الحجاب، وقوّاه بقولها في هذه الرواية:"فاقدروا قدر الجارية، الحديثة السنّ".

لكن تقدّم ما يعكر عليه بأن في بعض طرقه أن ذلك كان بعد قدوم وفد الحبشة، وأن قدومهم كان سنة سبع، ولعائشة رضي الله عنها، يومئذ ست عشرة سنة، فكانت بالغة، وكان ذلك بعد الحجاب. وحجة من منع حديثُ أم سلمة الحديث المشهور:"أفعَمْيَاوان أنتما"، وهو حديث أخرجه أصحاب السنن

(1)

من رواية الزهري، عن نَبْهان، مولى أم سلمة، عنها، وإسناده قويّ، وأكثر ما عُلّل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلّة قادحة، فمن من يعرفه الزهريّ، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة، ولم يجرحه أحدٌ، لا تُردّ روايته.

(1)

- ولفظه: عن ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، أنه حدثه أن أم سلمة حدثته، أنها كانت عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وميمونة، قالت: فبينا نحن عنده، أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"احتجبا منه"، فقلت: يا رسول اللَّه أليس هو أعمى لا

يبصرنا، ولا يعرفنا؟، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟ ". قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.

ص: 248

والجمع بين الحديثين احتمالُ تقدم الواقعة، أو أن يكون في قصّة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يَمنع النساءَ من رؤيته، لكون ابن أم مكتوم كان أعمى، فلعلّه كان منه شيء، ينكشف، ولا يشعر به.

ويقوّي الجوازَ استمرارُ العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد، والأسواق، والأسفار، منتقبات، لئلا يراهنّ الرجال، ولم يؤمر الرجالُ قطّ بالانتقاب، لئلا يراهم النساء، فدلّ على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتجّ الغزاليّ على الجواز، فقال: لسنا نقول: إن وجه الرجل في حقّها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل كوجه الأمرد في حقّ الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة، فقط، وإن لم تكن فتنة فلا، إذ لم تزل الرجال على ممرّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنساءُ يخرجن منتقبات، فلو استووا لأُمِرَ الرجالُ بالتنقّب، أو مُنِعْنَ الخروجَ انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -:

ما قاله الغزالي -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ عندي، وإن كان ظاهر تبويب المصنف رحمه الله يوافق مذهب المانعين، حيث قيّد النظر باللعب، فإن اسم الإشارة في قوله:"ونظر النساء إلى ذلك" يرجع إلى اللعب، فكأنه يقول. النظر للعب، لا للرجال، وهو مخالف لظاهر تبويب البخاريّ رحمه الله، كما تقدّم.

والحاصل أن مذهب المجوّزين لنظر المرأة إلى وجه الرجل دون العكس عند الأمن من الفتنة هو الراجح؛ لظاهر حديث الباب، ولما شاع عند المسلمين في كلّ عصر ومصر من استمرار العمل على جواز خروج المرأة إلى المساجد ونحوها، محتجبة لئلا يراها الرجال، ولم يؤمر الرجال بذلك، فلو كان نظر المرأة كنظر الرجل إلى المرأة لأُمر الرجال بالاحتجاب كالنساء، وهذا أقوى حجة في هذه المسألة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1595 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَسْتُرُنِى بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ، يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ، الْحَدِيثَةِ السِّنِّ، الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عليّ بن خَشْرم) المروزيّ، ثقة، من صغار [9] 8/ 8.

(1)

- فتح ج 10 ص 422.

ص: 249

2 -

(الوليد) بن مسلم الدمشقي، ثقة يدلّس، ويسوّي [8] 5/ 454.

3 -

(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ، ثقة ثبت فقيه [7] 45/ 56.

والباقون تقدموا قريبًا، والحديث متفق عليه، وشرحه، والمسائل المتعلقة به ذُكرت في الباب الماضي، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقولها: "فاقدروا" بضم الدال، وكسرها، لغتان، حكاهما الجوهري، وغيره، أي اعرفوا قدرها، وراعوا حالها. أو هو من التقدير، أي قدروا رغبتها في ذلك إلى أن يتنهي.

وحاصل معنى كلامها أنها تحبّ اللَّهو، والتفرج، والنظر إلى اللعب حبَّا بليغًا، وتحرص على إدامته ما أمكنها، ولا تَمَلّ ذلك، إلا بعذر من تطويل.

ولفظ مسلم: "فاقدروا قدرَ الجارية العَرِبَة حديثة السن". وقولها: "العربة" بفتح العين، وكسر الراء، والباء الموحّدة، ومعناها المشتهية للعب المحبّة له.

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1596 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«دَعْهُمْ يَا عُمَرُ، فَإِنَّمَا هُمْ بَنُو أَرْفِدَةَ» .

رجال هذا الاسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن موسى) بن عبدالله بن موسى بن عبدالله بن يزيد الأنصاريّ الخطمي، أبو موسى المدني، قاضي نيسابور، ثقة متقن [10].

روى عن ابن عيينة، والوليد بن مسلم، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم. وعنه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وابنه موسى بن إسحاق الحافظ القاضي، وابن خزيمة، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: كان أبي يُطنِب القول فيه، في صدقه، وإتقانه. وقال النسائيّ: أصله كوفيّ، وكان في العَسْكَر، ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الخطيب: وَرَدَ بغداد، وحدّث بها، وكان ثقة. وقال ابن عساكر: ولي القضاء بنيسابور. وقال يحيى بن محمد الذّهليّ: هو من أهل السنة. قال البغويّ: مات سنة (244) بحمص،

(1)

- راجع "شرح مسلم" ج 6 ص 185.

ص: 250

وقال أبو الحسن محمد بن أحمد بن القوّاس الورّاق: مات بجُوسيةَ راجعًا من دمشق.

روى له مسلم، والترمذي، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1596) و (3820).

2 -

(سعيد بن المسيب) الإمام الفقيه الحجة الثبت [3] 9/ 9.

3 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1، والباقون تقدموا في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير الوليد والأوزاعيّ، فدمشقيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه سعيد أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه - (وَالْحَبَشَةُ) الواو واو الحال، أي والحال أن الحبشة (يَلعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ) أي النبويّ (فَزَجَرَهُمْ) من باب قتل: أي منعهم عن لعبهم (عُمَرُ رضي الله عنه) بين في رواية البخاريّ في "الجهاد" -كما قال في "الفتح"

(1)

، كيفيةَ الزجر، حيث قال. "فأهوى إلى الحصباء، فحصبهم بها"(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُمْ يَا عُمَرُ) أي اتركهم على ما هم عليه من اللعب (فَإِئمَا هُم بَنُو أَرفِدَةَ) -بفتح الهمزة، وسكون الراء، وكسر الفاء، وقد تفتح- قيل: هو لقب للحبشة، وقيل: هو اسم جنس لهم، وقيل: اسم جدّهم الأكبر، وقيل: المعنى بنو الإماء. فكأنه يعني أن هذا شأنهم، وطريقتهم، وهو من الأمور المباحة، فلا إنكار عليهم. وفي رواية البخاري في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المتقدم:"دونكم يا بني أرفدة"، و"دون" بالنصب على الإغراء، والمغرَى به محذوف، أي خذوا لعبكم بالحراب، وفيه إذن لهم، وتنشيط. قال المحبّ الطبري رحمه الله: فيه تنبيه على أنه يُغتفر لهم ما لا يغتفر لغيرهم، لأن الأصل في المساجد تنزيهها عن اللعب، فيُقتصر على ما ورد فيه النصّ انتهى.

ورى السرّاج من طريق أبي الزناد، عن عروة، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنه

(1)

- "فتح" ج3 ص 119.

ص: 251

- صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بُعثتُ بحنيفية سَمْحَة".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا يشعر بعدم التخصيص، وكأن عمر رضي الله عنه بنى على الأصل في تنزيه المساجد، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم وجه الجواز فيما كان هذا سبيله، أو لعلّه لم يكن عَلِمَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن اللعب يوم العيد في المسجد بمثل لعب الحبشة جائز للكلّ؛ لعموم الأدلة، وأما تخصيصه بالحبشة، كما أشار إليه المحبّ الطبريّ في كلامه السابق، فيرده حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور آنفًا، فتبصّر، ولا تتحيّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: هذا الحديث صحيح، وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 35/ 1596 - وفي "الكبرى" 31/ 1799 ودلالته على الترجمة واضحة، حيث إن لَعِبَهم ذلك كان في يوم العيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌36 - (الرُّخْصَة فِي الاسْتِمَاعِ إِلَى الغِنَاءِ وَضَرْبِ الدُّفِّ يَوْمَ الْعِيدِ)

1597 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ، حَدَّثَتْهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ، تَضْرِبَانِ بِالدُّفِّ، وَتُغَنِّيَانِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: مُتَسَجٍّ ثَوْبَهُ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ:«دَعْهُمَا، يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ» ، وَهُنَّ أَيَّامُ مِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن حفص بن عبد اللَّه) السلمي النيسابوريّ، صدوق [11] 7/ 409.

2 -

(أبوه) حفص عبد اللَّه بن راشد السلميّ، أبو عمرو النيسابوري، قاضيها، والد

(1)

- "فتح" ج6 ص 119.

ص: 252

أحمد الراوي عنه، صدوق [9] 7/ 409.

3 -

(إبراهيم بن طَهْمَان) الخراسانيّ، نزيل نيسابور، ثم مكة، ثقة يُغْرب، وتكلم فيه بالإرجاء، ويقال: رجع عنه [7] 7/ 409.

4 -

(مالك بن أنس) إمام دار الهجرة الفقيه الحجة الثبت المدني [7] 7/ 7. والباقون تقدّموا في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، وشيخه، وأبو شيخه نيسابوريان، وإبراهيم خراساني، ثم مكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُرْوَةَ، أنَّهُ حَدَّثَهُ) أي حدث عروةُ الزهريَّ (أَنَّ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (حَدَّثَتْهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ الصِّدِّيقَ) - رضي اللَه تعالى عنه - (دَخَلَ عَلَيْهَا) وفي رواية البخاريّ: "دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعندي جاريتان، تغنيّان بغِنَاء بُعاثٍ، فاضطجع على الفراش، وحوّل وجهه

" (وَعِنْدَهَا جَارَيتَانِ) جملة من مبتدإ وخبر، في محل نصب على الحال من الضمير المجرور. زاد في رواية للبخاريّ "من جواري الأنصار"، وللطبرانيّ من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن إحداهما كانت لحسان بن ثابت، وفي "الأربعين" للسلمي أنهما كانتا لعبد اللَّه بن سلام، وفي "العيدين" لابن أبي الدنيا من طريق فُليح، عن هشام بن عروة: "وحمامةُ وصاحبتها تغنّيان"، وإسناده صحيح قال الحافظ رضي الله عنه: ولم أقف على تسمية الأخرى، لكن يحتمل أن يكون اسم الثانية زينب، وقد ذكرته في "كتاب النكاح"، ولم يذكر حمامةَ الذين صنّفوا في الصحابة، وهي على شرطهم انتهى

(1)

. (تَضْرِبَانِ بِالدُّفِّ) جملة في محل رفع صفة لـ"جاريتان"، الدفّ بضم الدال على الأشهر، وقد تُفتح، ويقال له أيضًا الكربال، بكسر الكاف، وهو الذي لا جلاجل

(2)

فيه، فإن كانت فيه فهو الْمِزهَر (وَتُغَنِّيَانِ) أي ترفعان أصواتهما بإنشاد العرب، وهو المسمّى عندهم بالنَّصْب، وهو إنشاد بصوت رقيق، فيه تمطيط، وهو يجري

(1)

- "فتح" ج3 ص 114.

(2)

- جمع "جُلجُل" بالضم: الجرس الصغير. اهـ ق.

ص: 253

مجرى الْحُدَاء، قاله القرطبيّ

(1)

، زاد في رواية البخاري "بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث"، أي قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء.

ويوم بُعاث يوم قُتل فيه صناديد الأوس والخزرج، وهو يوم قدّمه اللَّه لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقد قَدِمَ المدينةَ، وقد افترق ملؤهم، وقُتلت سَرَوَاتهم. و"بُعاث" بضم الموحدة، وبعدها مهملة، وآخره مثلّثة، وهو موضع على ليلتين من المدينة، وقيل: اسم حصن للأوس، وكانت وقعة بُعاث على ما رجحه الحافظ في "الفتح" قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بثلاث سنين، وقيل: بخمس سنين. ودامت العرب بين الحيين قبل ذلك مائة وعشرين سنة، وسببه أن رجلا يقال له كعب من بني ثعلبة، نزل على مالك بن عَجْلان الخزرجي، فحالفه، فقتله رجل من الأوس، يقال له سُمَير، فكان ذلك سبب الحرب بينهما، وكان رئيس الأوس يوم بُعاث حُضير والد أُسيد، فجُرح يومئذ، فمات بعد مدة من جراحته، وكان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان، فجاءه سهم في القتال، فصرعه، فهزموا بعد أن كانوا قد استظهروا.

(وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجَّى بثَوْبِهِ) أي متلفّف، ومتغطّ به، وإنما تسجّى النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه، إعراضًا عن ذلك، لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دالّ على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقرّه، إذ لا يُقِرّ على باطل

(2)

، والأصل التنزّه عن اللعب واللَّهو، فيُقتصر على ما ورد فيه النصّ وقتًا، وكيفيّة، تقليلاً لمخالفة الأصل، واللَّه تعالى أعلم، أفاده في "الفتح".

(وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: مُتَسَجٍّ ثَوْبَهُ، فَكَشَف عَنْ وَجهِهِ، فَقَالَ: "دَعهُمَا، يَا أَبَا بَكْرٍ) في رواية المصنّف اختصار، أي فانتهَرَهُما أبو بكر، فقال له صلى الله عليه وسلم:"دعهما يا أبا بكر".

وفي رواية للبخاريّ: وجاء أبو بكر، فانتهرني، وقال: مِزْمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"دعهما"، فلما غَفَلَ غَمَزتُهُمَا، فخرجتا.

وقوله: مزمارة الشيطان بكسر الميم، يعني الغناء، أو الدف، لأن المزمارة، أو المزمار مشتق من الزمير، وهو الصوت الذي له الصّفِير، ويُطلق على الصوت الحسن، وعلى الغناء، وسميت به الآلة المعروفة التي يُزمَر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تُلهي، فقد تشغل القلب عن الذكر، وفي رواية حماد بن سلمة عند أحمد: فقال: (يا عباد اللَّه أبمزمور الشيطان عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". قال القرطبي: المزمور الصوت،

(1)

- "المفهم" ج 2 ص 533.

(2)

هذا التقرير بالنسبة لأول الأمر قبل أن ينتهرهما أبو بكر رضي الله عنه، وأما بالنسبة إليه فقد صرح صلى الله عليه وسلم بالإذن لهما، بل عمم فيه، فقال:"إنها أيام عيد" وفي رواية "لتعلم يهود أن في ديننا فسْحة، إني بُعثتُ بالحنيفية السمحة".

ص: 254

ونسبته إِلى الشيطان ذمّ على ما ظهر لأبي بكر رضي الله عنه. وضبطه عياض بضم الميم، وحكي فتحها. قاله في "الفتح". وقال القرطبي رحمه الله: قال الإمام: فأما الغناء بآلة مُطربة، فَيُمنع، وبغير آلة اختلف الناس فيه، فمنعه أبو حنيفة، وكرهه الشافعيّ، ومالك، وحكى أصحاب الشافعي أن مذهبه الإجازة من غير كراهة.

قال القاضي: المعروف من مذهب مالك المنع، لا الإجازة.

قلت: ذكر الأئمةُ هذا الخلاف هكذا مطلقًا، ولم يفصلوا موضعه، والتفصيل الذي ذكرنا لا بدّ من اعتباره، وبما ذكرناه يجتمع شَمْل مقصود الشرع الكلّيّ، ومضمون الأحاديث الواردة في ذلك، وينبغي أن يُستثنى من الآلات التي ذكر الإمام الدفُّ، فإنه قد جاء ذكره في هذا الحديث، وفي حديث العُرْس انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.

(إِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ) جملة تعليلية، أي لأن هذه الأيام أيام فرح وسرور، فيباح لهما أن يلعبا بالتغني المباح، وفي رواية هشام عند البخاري:"يا أبا بكر، إن لكلّ قوم عيدًا، وهذا عيدنا".

ففيه تعليل للأمر بتركهما، وإيضاح خلاف ما ظنه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه صلى الله عليه وسلم، لكونه دخل، فوجده مُغَطَّى بثوبه، فظنه نائما، فتوجّه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه، مستصحبا لما تقرّر عنده من منع الغناء واللَّهو، فبادر إلى إنكار ذلك، قياما عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، مستندا إلى ما ظهر له، فأوضح له النبي صلى الله عليه وسلم الحال، وعرّفه الحكم، مقرونا ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أي يوم سرور شرعيّ، فلا يُنكَرُ فيه مثلُ هذا، كما لا يُنكر في الأعراس.

وبهذا يرتفع الإشكال عمن قال: كيف ساغ للصديق إنكار شيء أقرّه النبي صلى الله عليه وسلم؟

وتكلف جوابا لا يخفى تعسفه.

(وَهُنَّ أَيَّامُ مِنًى) أي تلك الأيام أيام عيد الأضحى، وقولها (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَؤمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ) دفع لما يُتوهّم أن ذلك وقع في منى، حيث قالت: وهنّ أيام منى، يعني أن هذه القصة وقعت في المدينة أيام عيد الأضحى. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم تخريجه قبل بابين، وبقي ذكر فوائده، فلنذكرها هنا:

فـ منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الرخصة في الاستماع إلى الغناء، وضرب الدف يوم العيد. ومنها: مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد

ص: 255

بأنواع ما يحصّل لهم بسطَ النفس، وترويحَ البدن من كُلَفِ العبادة، وأن الأعراض عن ذلك أولى. ومنها: أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين. ومنها: جواز دخول الرجل على ابنته، وهي عند زوجها، إذا كان له بذلك عادة. ومنها: تأديب الأب ابنته بحضرة الزوج، وإن تركه الزوج، لقول عائشة:"وجاء أبو بكر، فانتهرني" إذ التأديب وظيفة الآباء، والعطف مشروع من الأزواج للنساء. ومنها: الرفق بالمرأة، واستجلاب مودّتها. ومنها: أن مواضع أهل الخير تُنزّه عن اللَّهو واللغو، وإن لم يكن فيه إثم، إلا بإذنهم. ومنها: أن التلميذ إذا رأى عند شيخه ما يستنكره مثله بادر إلى إنكاره، ولا يكون في ذلك افتيات على شيخه، بل هو أدبٌ منه، ورعاية لحرمته، وإجلال لمنصبه.

ومنها: فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرفه من طريقته، ويحتمل أن يكون أبو بكر ظنّ أن النبي صلى الله عليه وسلم نام، فخشي أن يستيقظ، فيغضب على ابنته، فبادر إلى سدّ هذه الذريعة. وفي قول عائشة رضي الله عنها:"فلما غفل غَمَزتهُما، فخرجتا" دلالة على أنها مع ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لها في ذلك راعت خاطر أبيها، وخشيت غضبه عليها، فأخرجتهما، واقتناعها في ذلك بالإشارة فيما يظهر للحياء من الكلام بحضرة من هو أكبر منها. ومنها: أنه استدلّ به على جواز سماع صوت الجارية بالغناء، ولو لم تكن مملوكة، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر سماعه، بل أنكر إنكاره، واستمرّتا إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج. قال الحافظ. ولا يخفى أن محلّ الجواز ما إذا أُمنت الفتنةُ بذلك. ومنها: أنه استنبط من تسمية أيام منى بأنها أيام عيد مشروعيةُ قضاء صلاة العيد فيها لمن فاتته، كما تقدّم في بابه. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح": استدلّ جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء، وسماعه بآلة، وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة رضي الله عنها في الحديث بقولها في الجاريتين:"وليستا بمغنّيتين"، فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ، لأن الغناء يُطلق على رفع الصوت، وعلى الترنّم الذي تسميه العرب النّصْب -بفتح النون، وسكون المهملة- وعلى الْحُدَاء، ولا يسمى فاعله مغنيّا، وإنما يسمى بذلك من يُنشد بتمطيط، وتكسير، وتهييج، وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش، أو تصريح

(1)

.

وقال القرطبي: قولها: "ليستا بمغنيتين"، أي ليستا ممن يَعرف الغناء، كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرّز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرّك النفوس، ويبعثها على الهوى، والغَزَل، والْمُجُون، الذي يُحرّك الساكن، ويَبعَث

(1)

- "فتح" ج 3 ص 116 - 117.

ص: 256

الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر يُشَبَّب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهنّ، وذكر الخمور، والمحرّمات، لا يُختَلَف في تحريمه، لأنه اللَّهو، واللعب المذموم بالاتفاق.

فأما ما يَسلَم من تلك المحرّمات، فيجوز القليل منه، وفي أوقات الفرح، كالعُرس، والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقّة، ويدل على جواز هذا النوع هذا الحديث، وما في معناه، مثل ما جاء في الوليمة، وفي حَفْر الخَنْدَق، وفي حَدْو الحبشة، وسلمة بن الأكوع.

فأما ما ابتدعه الصوفيّة اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة، فمن قبيل ما لا يُختَلَف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية، والأغراض الشيطانية قد غلبت على كثير ممن يُنسب إلى الخير، وشُهِر بذكره حتى عَمُوا عن تحريم ذلك، وعن فُحْشه، حتى قد ظهرت منْ كثير منهم عَوَاراتُ الْمُجَّان، والمخانيث، والصبيان، فَيَرقُصُون، ويَزْفِنون بحركات متطابقة، وتقطيعات متلاحقة، كما يَفعل أهل السفَه والمجون، وقد انتهى التواقح بأقوام منهم إلى أن يقولوا: إن تلك من أبواب القُرَب، وصالحات الأعمال، وأن ذلك يُثمر صفاء الأوقات، وسنيّات الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة، وقول أهل البطالة، والمخرقة، نعوذ باللَّه من البدع، والفتن، ونسأله التوبة، والمشي على السُّنَن انتهى كلام القرطبي رحمه اللَّه تعالى

(1)

وهو بحث نفيس، وتحقيق أنيس.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-بعد ذكر كلام القرطبي هذا -: ما نصه: وينبغي أن يُعكس مرادهم، ويقرأ "سيء" يعني قوله. "سنيّ الأحوال" عوض النون الخفيف المكسورة بغير همز، بمثنات تحتانية ثقيلة مهموزا - أي فيقال:"وسيّئات الأحوال". انتهى. واللَه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[خاتمة]: في بيان مسألة مهمة طالما يتسائل الناس عن حكمها، وهي مسألة التهنئة بمناسبة العيد ونحوه.

(اعلم): أن أصل التهنئة ورد في عدة مناسبات:

فمنها: ما أخرجه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه قال: أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآي: [الفتح: 2] مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد أنزِلَت عليَّ آية أحبّ إليّ مما على وجه الأرض" ثم قرأها عليهم فقالوا: هنيئًا لك يا رسول اللَّه.

ومنها: ما أخرجه أحمد، ومسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أيُّ آية في كتاب اللَّه أعظم؟، قال: آية الكرسي، قال:"ليَهْنِكَ العلم أبا المنذر".

ومنها: ما أخرجه الشيخان عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة توبته، قال: وانطَلَقْتُ

(1)

- "المفهم" ج 2 ص 534.

ص: 257

أتأمَّمُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجًا فوجًا، يهنئوني بتوبتي، ويقولون: لِيَهْنِكَ توبة اللَّه عليك، حتى دخلت المَسجد، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حوله الناس، فقام طلحة بن عبير اللَّه يَهُروِلُ حتى صافحني، وهنأني، فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال -وهو يبرق وجهه من السرور-: "أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك"

الحديث. وغير ذلك من الأحاديث.

وقد ألف الإمام السيوطي -رحمه اللَّه تعالى- رسالة سماها "وصول الأماني بأصول التهاني" جمع فيها ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار، فمن ذلك ما جاء عن جبير بن نفير أنه قال:"كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل اللَّه منا ومنكم" حسنه السيوطي، وحسنه الحافظ قبله في "الفتح" جـ 2 ص 446.

ومن ذلك ما أخرجه ابن حبان في "الثقات" عن علي بن ثابت قال: سألت مالكًا عن قول الناس في العيد: تقبل اللَّه منا ومنك؟ فقال. ما زال الأمر عندنا كذلك. ومن ذلك ما أخرجه زاهر بن طاهر عن محمد بن زياد الألهاني قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يقول في العيد لأصحابه: تقبل اللَّه منا ومنكم. حسنه السيوطي.

ومن ذلك ما أخرجه البيهقي عن آدم مولى عمر بن عبد العزيز قال: كنا نقول لعمر ابن عبد العزيز في العيدين: تقبل اللَّه منا ومنك يا أمير المؤمنين، فيرد علينا مثله، ولا ينكر ذلك. وغير ذلك من الآثار التي أوردها السيوطي في تلك الرسالة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى- في "مجموع الفتاوى" جـ 24 ص 253: أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد: تقبل اللَّه منا ومنكم، وأحاله اللَّه عليك، ونحو ذلك، فهذا قد رُوِيَ عن طائفة من الصحابه أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة، كأحمد وغيره، لكن قال أحمد: أنا لا أبتدئ أحدا، فإن ابتدأني أحدٌ أجبته، وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس بسنة مأمورًا لها، ولا هو أيضًا مما نُهِي عنه، فمن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة. واللَّه أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي نُقِلَ عن الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- حسن جدًّا.

والحاصل أن التهنئة في الأصل مشروعة في مناسبات كثيرة، كما سبقت في الأحاديث الصحيحة المذكورة، وأما بخصوص يوم العيد فلم يُنقل مرفوعًا، وإنما نُقِلَ من آثار الصحابة فمن بعدهم، فمن فعله فهم القدوة له، ومن تركه فحجته عدم ثبوته مرفوعًا، فلا يُنكَر على من تركه، ولا على من فعله؛ لثبوت التهنئة في غير العيد بكثرة، ولفعل الصحابة رضي الله عنهم له في العيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 258

‌19 - كِتَاب قِيَامِ اللَّيْلِ وَتَطَوُعِ النَّهَارِ

‌1 - بَابُ الْحَثِّ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ وَالفَضلِ فِي ذَلِكَ

1609 -

أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(العباس بن عبد العظيم) بن إسماعيل، العَنْبَريّ أبو الفضل البصري، ثقة حافظ، من كبار [11] 96/ 119.

2 -

(عبد اللَّه بن محمد بن أسماء) بن عُبيد الضُّبَعيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة جليل [10] 197/ 315.

3 -

(جويرية بن أسماء) بن عبيد الضُّبَعيّ البصريّ، عم عبد اللَّه الراوي عنه صدوق [7] 197/ 315.

4 -

(الوليد بن أبي هشام) زياد، القرشي مولاهم، أخو أبي المقدام، البصريّ، وقيل: المدني، ثقة

(1)

[6].

روى عن الحسن البصريّ، وفرقد أبي طلحة، ومسلم بن أبي مريم، ونافع مولى ابن عمر، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. وعمه أخوه أبو المقدام هشام بن زياد، ووهيب بن خالد، وجويرية بن أسماء، وغيرهم. قال أبو القاسم البغويّ، عن أحمد: ثقة في الحديث جدًّا. وقال ابن معين، وأبو داود، وأبو حاتم: ثقة. زاد أبو حاتم: لا بأس به، أوثق من أخيه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". له في مسلم حديثه عن ابن حزم، عن عمرة، عن عائشة في الصلاة النافلة قاعدًا. روى له الجماعة، سوى البخاري، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم (1598) و (1650) و (5096).

(1)

- قال في "ت": صدوق، والظاهر أنه ثقة، إذ لم يُختَلَف فيه، بل اتفقوا على توثيقه، كما يظهر من مراجعة ترجمته في "تهذيب التهذيب" 4/ 327. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 259

5 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني الفقيه الحجة الثبت [3] 12/ 12.

6 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى الوليد، والباقيان مدنيّان. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن نَافِع، أَنَّ عَبدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا فِي بُيُوتكُمْ) هذا لفظ مسلم من طريق أيوب، عن نافع، وفي لفظ له:"اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم"، ولفظ البخاري:"اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم".

قال القرطبيّ رحمه الله: "من" للتبعيض، والمواد النوافل بدليل ما رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته"

وقال القاضي عياض: هذا في الفريضة، ومعناه: اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم، ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة، وعبيد، ومريض، ونحوهم، قال: وقال الجمهور: بل هو في النافلة، لإخفائها، وللحديث الآخر:"أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

قال النووي: الصواب أن المراد النافلة، وجميع أحاديث الباب تقتضيه، ولا يجوز حمله على الفريضة. انتهى.

قال الحافظ بعد نقل كلام عياض: ما نصه: وهذا، وإن كان محتمِلاً، لكن الأول هو الراجح.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما صوّبه النووي رحمه الله هو الحقّ عندي، وكونه محتملا للفريضة كما قال الحافظ بعيد، وكيف يحتمل، مع حديث. "فمن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"؟. واللَّه تعالى أعلم.

وإنما حثّ على النافلة في البيت، لكونه أخفى، وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك، وتنزل فيه الرحمة، والملائكة، وينفر منه الشيطان، كما جاء في الحديث الآخر عند مسلم في "صحيحه"، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية

ص: 260

الأخرى عند مسلم أيضًا: "فإن اللَّه جاعل في بيته من صلاته خيرًا"

(1)

.

(وَلَا تَتَّخِذوهَا قُبُورًا) أي لا تصيّروها كالقبور التي ليست فيها صلاة. وقال السنديّ: أي كالقبور في الخلوّ عن ذكر اللَّه، والصلاة، أو لا تكونوا كالأموات في الغفلة عن ذكر اللَّه، والصلاة، فتكون البيوت لكم قبورًا، مساكن للأموات انتهى.

وقد احتجّ الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" بهذا الحديث على كراهية الصلاة في المقابر، فقال:"باب كراهية الصلاة في المقابر"، فاعترض عليه الإسماعيليّ بأن الحديث دالّ على كراهة الصلاة في القبر، لا في المقابر. ورُدّ عليه بأنه قد ورد الحديث بلفظ "المقابر" كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لا تجعلوا بيوتكم مقابر".

وقال ابن التين: تأوله البخاريّ على كراهة الصلاة في المقابر، وتأوله جماعة على أنه إنما فيه الندب إلى الصلاة في البيوت، إذ الموتى لا يصلّون، كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلّون في بيوتهم، وهي القبور، قال: فأما جواز الصلاة في المقابر، أو المنع منه، فليس في الحديث ما يؤخذ منه ذلك.

قال الحافظ: إن أراد أنه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق، فمسلّم، وإن أراد نفي ذلك مطلقًا، فلا، فقد قدمنا وجه استنباطه

(2)

.

وقال في "النهاية"، تبعًا لـ "المطالع": إن تأويل البخاريّ مرجوح، والأولى قول من قال: معناه إن الميت لا يصلي في قبره.

وقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلّوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة، وكذا قال البغوي في "شرح السنّة"، والخطابيّ، وقال أيضًا: يحتمل أن المراد لا تجعلوا بيوتكم وطنًا للنوم فقط، لا تصلون فيها، فإن النوم أخو الموت، والميت لا يصلّي.

وقال التوربشتيّ: حاصل ما يحتمله أربعة معان، فذكر الثلاثة الماضية، ورابعها: يحتمل أن يكون المراد أنّ مَن لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت، وبيته كالقبر.

قال الحافظ: ويؤيده ما رواه مسلم: "مثلُ البيت الذي يذكرُ اللَّهُ فيه، والبيت الذي لا يُذكر اللَّه فيه، كمثل الحيّ والميت".

قال الخطابيّ: وأما مَن تأوّله على النهي عن دفن الموتى في البيوت، فليس بشيء، فقد دُفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته.

(1)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 67 - 68.

(2)

- وهو قوله في شرح الترجمة: استَنبط من قوله في الحديث: "ولا تتخذوها قبوراً" أن القبور ليست بمحلّ العبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة.

ص: 261

قال الحافظ: ما ادعى أنه تأويل هو ظاهر لفظ الحديث، ولا سيّما إن جُعل النهي حكما منفصلاً عن الأمر، وما استدل به على رده تَعَقّبه الكرماني، فقال: لعلّ ذلك من خصائصه، وقد رُوي أن الأنبياء يُدفنون حيث يموتون.

قال الحافظ: هذا الحديث رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس، عن أبي بكر رضي الله عنه، مرفوعَا:"ما قُبض نبيّ إلا دُفن حيث يُقبض"، وفي إسناده حسين بن عبد اللَّه الهاشميّ، وهو ضعيف، وله طرق أخرى، مرسلة، ذكرها البيهقيّ في "الدلائل"، ورَوَى الترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ في "الكبرى" من طريق سالم بن عُبيد الأشجعيّ الصحابيّ رضي الله عنه، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قيل له:"فأين يُدفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: في المكان الذي قَبَض اللُه فيه روحَهُ، فإنه لم يَقبض روحَه إلا في مكان طيّب". وإسناده صحيح، لكنه موقوف، والذي قبله أصرح في المقصود.

وإذا حُمل دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك، بل هو متّجه، لأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيّرها مقابر، فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله:"لا تجعلوا بيوتكم مقابر"، فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقًا. واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هو كلام نفيسٌ جدًا .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا- 1/ 1598 - وفي "الكبرى" - 1/ 1290 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) في "كتاب الجمعة" 901 (م) في "صلاة المسافر" 699 (د) 777 (ت)

1066 (ق) 1255 (أحمد) 3590 و 4497 و 21169 واللَّه تعالى أعلم بالصواب،

وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1599 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ،

(1)

- فتح ج3 ص 95 - 96.

ص: 262

قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ، يُحَدِّثُ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ، مِنْ حَصِيرٍ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا لَيَالِيَ، حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ نَائِمٌ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ، لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:«مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صُنْعِكُمْ، حَتَّى خَشِيتُ، أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ، مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ» .

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن سليمان) الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42.

2 -

(عفّان بن مسلم) الصفّار البصريّ، ثقة ثبت، من كبار [10] 21/ 427.

3 -

(وُهيب) بن خالد الباهلي مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، تغيّر قليلاً بآخره [7] 21/ 427.

4 -

(موسى بن عُقبة) بن أبي عيّاش الأسديّ مولى آل الزبير المدني، ثقة فقيه إمام في المغازي [5] 96/ 122.

5 -

(أبو النضر) سالم بن أبي أمية، مولى عمر بن عبيد اللَّه التيمي المدنيّ، ثقة ثبت، يرسل [5] 98/ 121.

6 -

(بُسر بن سعيد) المدني العابد، مولى ابن الحضرميّ، ثقة جليل [2] 11/ 517.

7 -

(زيد بن ثابت) بن الضحّاك الأنصاريّ النجّاري، الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 122/ 179 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من موسى بن عقبة، وشيخه رُهاويّ، والباقيان بصريان. (ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين المدنيين يروي بعضهم عن بعض: موسى، عن أبي النضر، عن بُسْر. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذِكرُ سالم أبي النضر بين موسى بن عقبة، وبسر في هذا الإسناد هو رواية الأكثرين، عن موسى، وخالفهم ابن جريج، عن موسى، فلم يذكر أبا النضر في الإسناد، أخرجه المصنّف في "الكبرى" 2/ 1291 - ، قال الحافظ: ورواية الجماعة أولى، وقد وافقهم مالك في الإسناد، لكن لم يرفعه في "الموطإ"، وقد أخرجه من طريقه المصنف في "الكبرى" أيضًا 2/ 1292 - ورُوي عنه خارج "الموطإ"، مرفوعًا. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 263

شرح الحديث

(عَن زَيدِ بْن ثَابِت) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، اتَّخَذَ حُجْرَةً) بالراء قال الحافظ رحمه الَله تعالى: كذا للأكثر بالراء، ولأبي ذرّ عن الكشميهنيّ بالزاي، أي شيئًا حاجزًا، يعني مانعًا بينه وبين الناس.

قال في "المصباح": "الحُجْرة" أي بضم، فسكون-: البيت، والجمع حُجَر، وحُجُرَات، مثلُ غُرَف، وغُرُفات في وجوهها انتهى.

(فِي الْمَسْجِدِ) أي النبويّ، متعلق بـ "اتخذ"، أو بصِفَة لـ"حجرة"، وكذا قوله (مِنْ حَصِيرٍ) أو هو متعلق بحال محذوف من "حجرة".

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم حوّط في رمضان موضعا من المسجد بحصير، ليستره، فجعل الحصير كالْحُجْرة، ليصلي فيه التطوّع، ولا يمرّ بين يديه مار، ويتوفّر خشوعه، ويتفرّغ قلبه.

وفيه جواز مثل هذا في المسجد، إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين، ونحوهم، ولم يتخذه دائمًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجزه بالليل، يصلي فيه، ويبسطه بالنهار، فيجلس عليه، كما في رواية عائشة رضي الله عنها، عند الشيخين، وغيرهما (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا) أي في تلك الحُجْرة.

واستُشْكِلَ صلاته صلى الله عليه وسلم في المسجد، لأنه يلزم منه أن يكون تاركًا للأفضل الذي أَمَر الناس به، حيث قال. "صلّوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

وأجيب عنه بأوجه:

منها: أن هذه الصلاة مما استُثنِيَ، لأن الأفضل عند الجمهور في صلاة التراويح المسجد.

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان معتكفًا، إن ذاك، والمعتكف لا يصلي إلا في المسجد.

ومنها: أنه إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصه.

ومنها: أن السبب في كون صلاة التطوّع في البيت أفضل عدم شَوْبه بالرياء غالبًا، والنبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن الرياء في بيته، وفي غير بيته

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ويظهر لي وجه آخر، وهو أن ذلك لبيان الجواز، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئًا للتشريع يكون أفضل في حقه، وإن كان في حقّ غيره أدون. واللَّه أعلم.

(1)

- انظر "المرعاة"ج 4 ص 312.

ص: 264

(لَيَالِيَ) أي من رمضان، كما بيّن في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - (حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ) أي ليصلُّوا بصلاته، ففي حديث عائشة رضي الله عنه عند البخاريّ

(1)

: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" الحديث، وفي رواية "فلما أصبح تحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد من جوف الليل، فاجتمع أكثر منهم"، وفي رواية "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية، فصلّوا معه، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج، فصلّوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله" (ثُمَّ فَقدُوا صَوْتَهُ لَيلَةً) أي لكراهته اجتماعهم لصلاة الليل، لما سيذكره من العلة (فَظَنُّوا أَنّهُ نَائِمٌ) حيث لم يخرج كعادته (فَجَعَلَ بَعضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ، لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) وفي رواية البخاري في "كتاب الأدب": "ثم جاءوا ليلة، فحضروا، وأبطأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحَصَبُوا الباب".

وقوله: "حصبوا الباب" يدلّ بظاهره على أنه دخل بيتًا من بيوت أزواجه بعد ما صلى بهم الفريضة، فلم يخرج منه إلى الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، فحصبوا باب بيته، ليخرج منه إلى حجرة الحصير، فيصلّوا بصلاته من ورائها.

وفي حديث عائشة عند أحمد "حتى سمعتُ ناسا منهم يقولون: الصلاة"(فَقَالَ) منكرًا عليهم (مَا زَالَ بِكُم الَّذِي رَأَيْت)"بكم" خبر "زال" قدّم على الاسم، وهو الموصول وقوله (مِنْ صُنْعِكُمْ) بيان للموصول، وللبخاريّ "صَنيعكم". يعني اجتماعهم، وتنحنحهم، ونحو ذلك، وفي حديث عائشة عند البخاري:"فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم"، وفي رواية "فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس، فتشهّد، ثم قال: أما بعد، فإنه لم يَخْفَ عليّ مكانكم"(حَتى خَشِيتُ، أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ) أي يُفرض عليكم قيام الليل، وهذا ظاهر في أن عدم خروجه إليهم كان لهذه الخشية، لا لكون المسجد امتلأ، وضاق عن المصلين، قاله في "الفتح"(وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ، مَا قُمْتُمْ بِه) أي لتركتموه مع القدرة عليه، وفي رواية للبخاري:"ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها"، أي تشق عليكم، فتتركونها مع القدرة عليها، وليس المراد العجز الكلّيّ، لأنه يُسقطُ التكليفَ من أصله.

قال في "الفتح": ثم إنّ ظاهر هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم توقّع ترتّب افتراض الصلاة بالليل

(1)

- ويأتي للمصنف في 4/ 1604.

ص: 265

جماعةً على وجود المواظبة عليها، وفي ذلك إشكال، وقد بناه بعض المالكية على قاعدتهم في أن الشروع مُلزِم، وفيه نظر.

وأجاب المحبّ الطبريّ بأنه يحتمل أن يكون اللَّه عز وجل أوحى إليه أنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتُها عليهم، فأَحَبَّ التخفيف عنهم، فترك المواظبة، قال: ويحتمل أن يكون ذلك وقع في نفسه، كما اتفق في بعض القُرَب التي داوم عليها، فأفْتُرضت. وقيل. خشي أن يَظنّ أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوبَ، وإلى هذا الأخير نحا القرطبيّ، فقال: قوله: "فتفرض عليكم"، أي تظنّونه فرضًا، فيجب على من ظنّ ذلك، كما إذا ظنّ المجتهد حِلّ شيء، أو تحريمه، فإنه يجب عليه العمل به، قال: وقيل: كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا واظب على شيء من أعمال البرّ، واقتدى الناسُ به فيه أنه يُفرض عليهم انتهى.

ولا يخفى بُعْدُ هذا الأخير، فقد واظب النبي صلى الله عليه وسلم على رواتب الفرائض، وتابعه أصحابه، ولم تُفرض.

وقال ابن بطّال: يحتمل أن يكون هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم لَمّا كان قيام الليل فرضًا عليه، دون أمته، فخشي إن خرج إليهم، والتزموا معه قيام الليل أن يسوّي اللَّه بينه وبينهم في حكمه، لأن الأصل في الشرع المساواة بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أمته في العبادة، قال. ويحتمل أن يكون خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها، فيعصي من تركها بترك اتباعه صلى الله عليه وسلم.

وقد استشكل الخطّابي أصل هذه الخشية، مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن اللَّه تعالى قال:"هنّ خمس، وهنّ خمسون، لا يُبدّل القول لديّ"، فإذا أُمن التبديل، فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وهذا يَدفع في صدور الأجوبة التي تقدمت، وقد أجاب عنه الخطّابيّ بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم، وأفعاله الشرعيّة يجب على الأمة الاقتداء به فيها -يعني عند المواظبة- فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به، لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر، فتجب عليه، ولا يلزم من ذلك زيادة فرض في أصل الشرع، قال: وفيه احتمال آخر، وهو أن اللَّه فرض الصلاة خمسين، ثمّ حطّ معظمها بشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا عادت الأمة فيما استوهبه لها، والتزمت ما استعفى لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم منه لم يُستنكر

أن يثبت ذلك فرضَا عليهم، كما التزم ناس الرهبانية من قِبَل أنفسهم، ثم عاتب اللَّه عليهم التقصير فيها، فقال:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الآية [الحديد: 27]، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يكون سبيلُهم سبيلَ أولئك، فقطع العمل، شفقةً عليهم من ذلك، وقد تلقّى هذين

ص: 266

الجوابين من الخطّابي جماعةٌ من الشراح، كابن الجوزي، وهو مبنيّ على أن قيام الليل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفي كلّ من الأمرين نزاع.

وأجاب الكرمانيّ بأن حديث الإسراء يدلّ على أن المراد بقوله تعالى: "ما يبدل القول لديّ" الأمنُ من نقص شيء من الخمس، ولم يتعرّض للزيادة انتهى.

لكن في ذكر التضعيف بقوله: "هن خمس، وهن خمسون" إشارة إلى عدم الزيادة أيضا، لأن التضعيف لا ينقص عن العشر.

ودفع بعضهم في أصل السؤال بأن الزمان كان قابلاً للنسخ، فلا مانع من خشية الافتراض. وفيه نظر، لأن قوله:"لا يبدّل القول لديّ" خبر، والنسخ لا يدخله على الراجح، وليس هو كقوله مثلاً لهم. صوموا الدهر أبدًا، فإنه يجوز فيه النسخ. قال الحافظ: وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى: (أحدها): يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام، بمعنى جعل التهجّد في المسجد جماعةً شرطًا في صحة التنفّل بالليل، ويومىء إليه قوله في حديث زيد بن ثابت -يعني حديث الباب-:"حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلّوا أيها الناس في بيوتكم"، فمنعهم من الجمع في المسجد، إشفاقًا عليهم من اشتراطه، وأَمِنَ مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم. (ثانيها): يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية، لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائدًا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها. (ثالثها): يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصّة، فقد وقع في حديث عائشة أن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سفيان ابن حسين:"خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر"، فعلى هذا يرتفع الإشكال، لأن قيام رمضان لا يتكرّر كل يوم في السنة

(1)

، فلا يكون ذلك قدرًا زائدًا على الخمس.

قال: وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول، واللَّه سبحانه، وتعالى أعلم انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-. وهو بحث نفيس، واللَّه تعالى أعلم.

{فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ) أي صلّوا النوافل التي لا تستحبّ فيها الجماعة، والتي لا تختصّ بالمسجد، كركعتي تحيّة المسجد، والأمرُ للاستحباب (فَإنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ) هذا عامّ في جميع النوافل والسنن، إلا النوافل التي هي من شعار الإسلام، كالعيد، والكسوف، والاستسقاء، وكذا ما يختص بالمسجد، كركعتي تحية المسجد.

قال السنديّ رحمه الله: قد ورد هذا الحديث في صلاة رمضان فى مسجده صلى الله عليه وسلم، فإذا

(1)

- هكذا نسخة "الفتح"، ولعل الصواب "بل في السنة" بزيادة "بل".

ص: 267

كان صلاة رمضان في البيت خيرًا منها في مسجده صلى الله عليه وسلم، فكيف غيرها في مسجد آخر، نعم كثير من العلماء يرون أن صلاة رمضان في المسجد أفضل، وهذا يخالف هذا الحديث، لأن مورده صلاة رمضان، إلا أن يقال: صار أفضل، حين صار أداؤها في المسجد من شعار الإسلام، واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في كلامه الأخير نظر لا يخفى، ومتى صار أداؤها في المسجد شعار الإسلام؟ وقد قال عمر رضي الله عنه بعد ما جمع الناس على إمام واحد:"نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون". يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري.

والحاصل أن صلاة رمضان في البيت أفضل في كلّ زمن، على ظاهر حديث الباب. واللَّه تعالى أعلم (إِلا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ) أي المفروضة، وتقدّم أنه إنما حثهم على التنفّل في البيت، لكونه أخفى، وأبعد عن الرياء، ولتحصل البركة للبيت به، وتنزل الرحمة فيه، وينفر الشيطان .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث زيد بن ثابت - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا- 1/ 1598 - وفي "الكبرى" 2/ 1292 - بالإسناد المذكور، وفي "الكبرى" 2/ 1291 - عن عبدالله بن محمد بن تميم المصّيصيّ، عن حجاج الأعور، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن بُسر سعيد، عنه، ولم يذكر أبا النضر، واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 1/ 182 و 8/ 34 و 9/ 117 (م) 2/ 188 (د) 1447 و 1044 (ت) 450 (أحمد) 5/ 182 و 5/ 183 و 5/ 184 و 5/ 186 و 5/ 187 (عبد بن حميد) 250 (الدارمي) 1373 (ابن خزيمة) 1203 و 1204 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الحثّ على الصلاة في البيوت، وبيان فضل ذلك، ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم فَضَّلَ الصلاة في البيت على الصلاة في مسجده، مع

(1)

- "شرح السندي" ج 3 ص 198.

ص: 268

أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. ومنها: مشروعية قيام الليل، ولا سيما في رمضان جماعة، لأن الخشية المذكورة أُمنت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا جمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب رضي الله عنهما، قاله في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا لا ينافي أفضلية الصلاة في البيت. واللَّه تعالى أعلم.

ومنها: أن الكبير إذا فعل شيئًا، خلافَ ما اعتاده منه أتباعه يذكر لهم عذره، وحكمه، والحكمة فيه. ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا، والاكتفاء بما قلّ منها، والشفقة على أمته، والرأفة بهم. ومنها. ترك بعض المصالح لخوف المفسدة، وتقديم أهمّ المصلحتين. ومنها: جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة. ومنها: ترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صُلّيتْ جماعةً. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1600 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْفِطْرِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، فِي مَسْجِدِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَلَمَّا صَلَّى، قَامَ نَاسٌ يَتَنَفَّلُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشار) بُندار البصري الحافظ الثبت [10] 24/ 27.

2 -

(إبراهيم بن أبي الوزير) عُمر بن مطرّف، الهاشميّ مولاهم، أبو عمرو، أو أبو إسحاق المكيّ، نزيل البصرة، صدوق [9].

روى عن مالك، وفُليح، ومحمد بن موسى الفطري، وغيرهم. وعنه بندار، ومحمد بن المثنى، وابن المدينيّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: لا بأس به. ووثقه بُندار. وقال الدارقطني: ثقة، ليس في حديثه ما يخالف الثقات، وقال ابن حبان في "الثقات": هو خال عبد الرحمن بن مهديّ.

قال البخاريّ: مات بعد أبي عاصم، ومات أبو عاصم سنة (212) وقال ابن قانع: مات سنة (212). روى له الجماعة، إلا مسلمًا، روى له البخاري مقرونًا، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1600) و (4038) و (5219).

3 -

(محمد بن موسى) بن أبي عبد اللَّه، الفِطْريّ -بكسر الفاء، وسكون الطاء- مولاهم، أبو عبد اللَّه المدني، صدوق رُمي بالتشيع [7].

(1)

- وفي نسخة "حدثنا".

ص: 269

روى عن المقبريّ، ويعقوب بن سلمة الليثيّ، وسعد بن إسحاق، وغيرهم. وعنه ابن مهديّ، وإبراهيم بن أبي الوزير، ومَعْن بن عيسى، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صالح الحديث، كان يتشيّع، وقال الترمذي: ثقة. وقال أبو جعفر الطحاوي. محمود في روايته، ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: محمد بن موسى الفطريّ شيخ ثقة، من الفطريين، حسن الحديث، قليل الحديث. روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم (1600) و (1938) و (3340) و (5371).

4 -

(سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة) البَلَويّ المدني، حليف بني سالم من الأنصار، ثقة [5].

روى عن أبيه، وعمته زينب، وعمه عبد الملك، وأنس، ومحمد بن كعب، وغيرهم. وعنه الزهري، أكبر منه، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومحمد بن موسى الفِطْريّ، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائيّ، والدارقطنيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. ووثّقه صالح جَزَرَة، وابن المدينيّ، وابن نمير، والعجليّ. وقال ابن عبد البرّ: ثقة، لا يُختَلف فيه.

وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات قبل خروج محمد بن عبد اللَّه بن الحسن. وأَرّخه ابن سعد بعد سنة (140) وقال. كان ثقة، وله أحاديث. روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1600) و (3528) وكرّره أربع مرات و (4428).

5 -

(أبوه) إسحاق بن كعب بن عُجرة البَلَويّ، حليف الأنصار، مجهول الحال [3].

روى عن أبيه، وأبي قتادة. وعنه ابنه سعد، ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن القطان: مجهول الحال، ما روى عنه غير ابنه سعد. وذكر الدمياطي أنه قُتل في الحرّة (63). روى له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله فى هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(جدّه) كعب بن عُجْرة الأنصاريّ المدني، أبو محمد الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 86/ 104 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير سعد بن إسحاق، فمن رجال الأربعة، وغير أبيه، فمن رجالهم إلا ابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جدّه، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 270

شرح الحديث

(عَنْ سَعْدِ بنِ إِسْحَقَ بنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَن أَبِيهِ) إسحاق (عَنْ جَدِّهِ) كعب - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: صَلَّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْمَغْرِب، فِي مَسْجِدِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ) بطن من الأنصار (فَلَمَّا صَلَّى) أي انتهى من صلاة المغرب. ولفظ أبي داود: "فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبّحون بعدها

(قَامَ نَاسٌ يَتَنَفَّلُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ" أي الزموا هذه الصلاة في بيوتكم، لا في المسجد. ولفظ أبي داود:"هذه صلاة البيوت". وهو خبر بمعنى الأمر، وفي رواية أحمد:"اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم" للسبحة بعد المغرب".

قال السندي رحمه الله: قوله: "بهذه الصلاة" أي الصلاة بعد المغرب، أو النافلة مطلقًا، والأول أقرب، ويلزم منه أن يكون للصلاة التي بعد المغرب زيادة اختصاص بالبيت فوق اختصاص مطلق النافلة به، انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث كعب بن عُجْرة رضي الله عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده إسحاق بن كعب، وهو مجهول الحال، كما تقدم؟

[قلت]: يشهد له حديث محمود بن لبيد، عند الإمام أحمد رحمه الله، في "مسنده" ج 5 ص 427 قال: حدثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاريّ، عن محمود بن لبيد، أحد بني عبد الأشهل، قال: أتانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى بنا المغرب في مسجدنا، فلما سلّم منها قال:"اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم "للسبحة بعد المغرب". وقال أيضًا: حدثنا ابن أبي عديّ، عن محمد بن إسحاق، حدثني عاصم عمر

فذكره. ورجاله رجال الصحيح، فيشهد لحديث كعب المذكور.

والحاصل أن حديث كعب رضي الله عنه هذا صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا- 1/ 1600 بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

-"شرح السندي" ج 3 ص 199.

ص: 271

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (د) 1300 (ت) 604 (ابن خزيمة). 1201 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: دلّ حديث كعب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا على الأمر بأداء سنة المغرب في البيوت.

وقد أخذ بظاهر الأمر ابن أبي ليلى، فقال بعدم صحة سنة المغرب في المسجد، واستحسنه أحمد. فقد ذكر عبد اللَّه بن أحمد بعد ذكر حديث محمود بن لبيد المتقدّم: ما نصّه: قلت لأبي: إن رجلاً قال: من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تجُزه، إلا أن يصليهما في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هذه من صلوات البيوت". قال: من قال هذا؟ قلت: محمد بن عبد الرحمن، قال: ما أحسن ما قال! أو ما أحسن ما انتزع!. انتهى

(1)

.

لكن الجمهور حملوا الأمر على الندب للأحاديث الصحيحة الدالة على جواز النافلة في المسجد: فمنها: الحديث الماضي أنه صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد، فصلى فيها، وصلى بصلاته قوم، فلو كانت النافلة لا تصحّ لبيّن لهم ذلك، وإنما أرشدهم إلى ما هو الأفضل، وهو التنفل في البيوت.

ومنها: ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا صلّيتم الجمعة، فصلّوا أربعًا"، زاد في رواية:"فإن عجل بك شيء، فصلّ ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت".

ومنها: حديث أنس رضي الله عنه، قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صُلّيت، من كثرة من يصليهما". رواه مسلم، ورواه البخاري أيضًا بنحوه، ورواه أحمد، والنسائي، والبيهقيّ.

ومنها: حديث حذيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فصليت معه المغرب، فصلى إلى العشاء. رواه النسائي بإسناد جيّد. وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة الدالّة على مشروعية التطوع في المسجد، لكن الأفضل التطوع في البيوت؛ لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه المتقدم:"فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

هذا كله في حقّ غير المعتكف، أما هو فيتنفّل في المسجد بلا كراهة، اتفاقًا

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- "المسند" ج 5 ص 428.

(2)

- راجع "المنهل" ج 7 ص 217.

ص: 272

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌2 - بَابُ قِيَامِ اللَّيْلِ

1601 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّهُ لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْوَتْرِ؟ ، فَقَالَ: أَلَا أُنَبِّئُكَ بِأَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عَائِشَةُ، ائْتِهَا، فَسَلْهَا، ثُمَّ ارْجِعْ إِلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِرَدِّهَا عَلَيْكَ، فَأَتَيْتُ عَلَى حَكِيمِ بْنِ أَفْلَحَ، فَاسْتَلْحَقْتُهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِبِهَا، إِنِّي نَهَيْتُهَا، أَنْ تَقُولَ فِي هَاتَيْنِ الشِّيعَتَيْنِ شَيْئًا، فَأَبَتْ فِيهَا، إِلاَّ مُضِيًّا، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ مَعِي، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لِحَكِيمٍ: مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قُلْتُ: سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَتْ: مَنْ هِشَامٌ؟ قُلْتُ: ابْنُ عَامِرٍ، فَتَرَحَّمَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: نِعْمَ الْمَرْءُ، كَانَ عَامِرًا، قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَلَيْسَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنُ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ، فَبَدَا لِي قِيَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَلَيْسَ تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ، فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ، حَوْلاً، حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عز وجل خَاتِمَتَهَا، اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل، التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ فَرِيضَةً، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ، فَبَدَا لِي وِتْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ، وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ عز وجل، لِمَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهِنَّ، إِلاَّ عِنْدَ الثَّامِنَةِ، يَجْلِسُ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل، وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا، يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً، فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَا بُنَيَّ فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَخَذَ اللَّحْمَ، أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، بَعْدَ مَا سَلَّمَ، فَتِلْكَ تِسْعُ رَكَعَاتٍ، يَا بُنَيَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يَدُومَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ، أَوْ مَرَضٌ، أَوْ وَجَعٌ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا قَامَ لَيْلَةً كَامِلَةً، حَتَّى الصَّبَاحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلاً، غَيْرَ

ص: 273

رَمَضَانَ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِهَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ، أَمَا إِنِّي لَوْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهَا، لأَتَيْتُهَا حَتَّى تُشَافِهَنِي مُشَافَهَةً.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِي، وَلَا أَدْرِي مِمَّنِ الْخَطَأُ، فِي مَوْضِعِ وِتْرِهِ عليه السلام.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن بشار) بُندار البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة: مِهْرَان البصريّ، ثقة ثبت، يدلّس، واختلط بآخره [6] 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت مدلس [4] 30/ 34.

5 -

(زُرَارة) بن أوفَى العامريّ الْحَرَشيّ، أبو حاجب البصريّ، قاضيها، ثقة عابد [3] 27/ 917.

6 -

(سعد بن هشام) بن عامر الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [3] 67/ 1315.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين إلى زُرارة، والباقيان مدنيّان. (ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين، يروي بعضهم عن بعض: قتادة، عن زُرارة، عن سعد. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَعْدِ) بسكون العين المهملة (بْنِ هِشَامٍ) الأنصاري المدني ابن عمّ أنس رضي الله عنه، من أوساط التابعين، استُشهد بأرض الهند غازيًا ببلدة تسمّى مُكران -بضم الميم- (أَنَّهُ لَقِيَ ابنَ عَبَاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فَسَألَهُ عَنِ الْوَتْرِ؟) وفي الحديث قصّة ساقها مسلم في "صحيحه" من طريق محمد بن أبي عديّ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، أن سعد ابن هشام بن عامر، أراد أن يغزو في سبيل اللَّه، فقدم المدينة، فاراد أن يبيع عَقَارًا له بها، فيجعله في السلاح، والكُرَاع، ويجاهد الروم حتى يموت، فلما قدم المدينة لقي أُناسًا، من أهل المدينة، فنَهَوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطًا ستّةً، أرادوا ذلك في حياة نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنهاهم نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقال:"أليس لكم فيّ أسوةٌ؟ "، فلمّا حدّثوه بذلك،

ص: 274

راجع امرأته، وقد كان طلّقها، وأشهد على رجعتها، فأتى ابن عباس، فسأله عن وتر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن عباس: ألا أدلّك على أعلم أهل الأرض

" الحديث.

(فَقَالَ) ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَلَا أُنَبِّئُكَ) من الإنباء، أو من التنبيء، ولفظ مسلم:"ألا أدلّك"(بِأَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فيه أنه يستحبّ للعالم إذا سئل عن شيء، ويعرف أن غيره أعلم به منه أن يرشد السائل إليه، فإن الدين النصحية، ويتضمّن مع ذلك الإنصاف، والاعتراف بالفضل لأهله، والتواضع.

(قَالَ:) سعد (نَعَمْ) أي أنبئيني به، ولفظ مسلم:"مَن؟ "، أي من هو الأعلم بذلك؟ (قَالَ:) ابن عباس (عَائِشَةُ) خبر لمحذوف، أي هي عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وإنما كانت عائشة أعلم بذلك لأن الوتر صلاة ليليّة، تؤدّى في البيت، وأمهات المؤمنين أعلم بذلك، وأولاهنّ به عائشة، لشدة حرصها على حفظ آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يخصّها بما لم يخصّ به غيرها، من نسائه، فقد كان يحبّ الْمُقام عندها كثيرًا، وقد تنازلت لها سودة بنت زَمْعة عن نَوْبتها رضي الله عنهما (ائْتِهَا) بهمزتين، الأولى همزة وصل، والثانية فاء الكلمة، وفي نسخة "ايتها" بإبدال الهمزة الثانية ياء، لوقوعها ساكنة بعد كسرة همزة الوصل، ولم تُبدل في النسخة الأولى على تقدير إسقاط همزة الوصل، لوصل الكلمة السابقة بها (فَسَلْهَا) وفي نسخة، "فاسألها"(ثُمَّ ارْجِعْ إِلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي) وفي نسخة "وأخبرني"(بِرَدِّهَا عَلَيْكَ) أي بجوابها على سؤالك، وفيه شدّة حرص ابن عبّاس رضي الله عنهما على تعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لم يتعلّم بنفسه منها، لكونه لا يدخل عليها، كما سيذكره آخر الحديث (فَأَتَيْتُ عَلَى حَكِيمِ ابْنِ أَفْلَحَ) حجازيّ، روى عن أبي مسعود، وعائشة، وروى عنه جعفر بن عبد اللَّه، والد عبد الحميد، لم يرو عنه غيره، كما قاله الذهبيّ، له في "ابن ماجه" حديث واحد في ما للمسلم على المسلم، وذكره ابن حبّان في "الثقات"(فَاسْتَلْحَقْتُهُ) وفي نسخة "واستلحقته"(إِلَيْهَا) أي طلبت منه أن يلحق بي، ويصاحبني في ذهابي إلى عائشة رضي الله عنها، وإنما طلب ذلك منه لمعرفتها إياه، دون سعد ابن هشام، كما يدلّ عليه ما يأتي (فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِبِهَا) اسم فاعل من قَرَب يقرُب، كقتل يقتُلُ، وفيه لغة أخرى، كتعب، يقال: قَرَبْتُ الأمرَ، أَقرُبُهُ، من باب قَتَلَ، وتَعِبَ، قِرْبَانًا بالكسر: فعلته، أو دانيته، ومن الأول قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ، ومن الثاني قولك: لا تقرب الحمى، أي لا تدن منه. وأما قرُب بضم الراء، ككَرُم، فإنه لازم يتعدى بـ "من"، يقال: قرُب الشيء، منّا، قُرْبًا، وقَرَابة، وقُرْبة، وقُرْبَى

(1)

.

(1)

- راجع "المصباح المنير".

ص: 275

(إِنِّي نَهَيْتُهَا) هذا بيان لسبب عدم قربه منها (أَنْ تَقُولَ فِي هَاتَيْنِ الشِّيعَتَيْنِ شَيْئًا)"الشيعتان" الفرقتان، والمراد تلك الحروب التي جرت بين فرقتى عليّ ومعاوية رضي الله عنهما (فَأَبَتْ فِيهَا، إِلا مُضِيَّا) أي امتنعت من قبول نصحي، ومضت على وجهها، حتى حصل وقعة الْجَمَل المشهور (فَأقْسَمْتُ عَلَيْهِ) أي حلفت عليه على أن يذهب معي (فَجَاءَ مَعِي، فَدَخَلَ عَلَيْهَا) أي بعد الاستئذان، ففي رواية مسلم:"فجاء، فانطلقنا إلى عائشة، فاستأذنّا عليها، فأذنت لنا، فدخلنا عليها"(فَقَالَتْ لِحَكِيمٍ: مَن هَذَا مَعَكَ؟) ولمسلم "فقالت: أحكيمٌ؟ فعرفَتْهُ، فقال: نعم، فقالت: ومن معك؟ قال: سعد (قُلْتُ: سَعدُ بْنُ هِشَام) خبر لمحذوف: أي أنا سعد بن هشام (قَالَتْ: مَنْ هِشَامٌ؟ قُلْتُ: ابْنُ عَامِرٍ، فَتَرَحُمَتْ عَلَيْهِ) أي دعت له بالرحمة، وفي الرواية الآتية 18/ 1651 - من طريق الحسن، عن سعد بن هشام: "قالت: رحم اللَّه أباك" (وَقَالَتْ: نعْمَ الْمَرْءُ، كَانَ عَامِرًا) هكذا في رواية المصنّف بنصب عامر، وفي رواية مسلم: "نعم المرء كان عامر" برفعه، وهو الظاهر، قال أبو البقاء الْعُكبريّ في إعراب الحديث، ص 474 - 476: "المرء" فاعل "نعم"، و"عامر" المخصوص بالمدح، و"كان" يجوز أن تكون زائدة، ويجوز أن تكون الجملة من "نعم" والمرفوعين بعدها خبر "كان"، ويكون في "كان" ضمير الشأن، كما تقول: كان نعم الرجل زيد، وزيد نعم الرجل كان، ليس من ضمير الشأن؛ لأن ضمير الشأن مُصدَّرٌ على الجملة، وإنما ينبغي أن يكون على هذا اسم كان مضمرًا فيها، وهو عامر، وتكون الجملة المتقدّمة خبرًا لها مُقدّمًا، ونظير زيادة "كان" ههنا زيادتها في التعجّب، كقولك: ما كان أحسن زيدًا. انتهى كلام أبي البقاء.

وزاد في رواية مسلم: "قال قتادة: وكان أصيب يوم أحد". يعني إنما ترحمت عليه عائشة رضي الله عنها، ومدحته لأنه كان ممن استشهد يوم أحد (قَالَ) ولمسلم "فقلت"(يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، أَنْبئِيني) أي أخبريني، ولأبي داود "حدثيني"(عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي عن صفاته الطبيعية، والخُلُق بضم المعجمة، واللام، وقد تسكن، في الأصل مَلَكَة راسخة في النفس، تَصدُر عنها الأفعال بسهولة، فإن صدر عنها المحمود عقلاً وشرعًا، فهي الخلق الحسن، وإلا فهي الخلق السيّء، والمراد به هنا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الآداب والمكارم (قَالَتْ: أَلَيْسَ تَقْرَأُ القُرْآن؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَت: فإن خُلُقَ نَبيٍّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنُ) قال النووي رحمه الله: معناه العمل بالقرآن، والوقوف عند حدوده، والتأدّب بآدابه، والاعتبار بأمثاله، وقصصه، وتدبّره، وحسن تلاوته انتهى.

فكان صلى الله عليه وسلم متمسكًا بآدابه، وأوامره، واقفًا عند حدوده، معتبرًا بأمثاله وقصصه، محسّنًا لتلاوته، فكان عاملاً بقول اللَّه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ

ص: 276

الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقوله تعالي إخبارًا عن لقمان:{أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، وقوله:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13]، وغير ذلك، متحلّيًا بما حثّ عليه اللَّه تعالى بنحو قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90]، وقوله:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقوله:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، متجنّبًا ما نهى اللَّه عنه، بنحو قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} الآية [الحجرات: 11]. وبالجملة، فكلّ ما قصّ اللَّه تعالى في كتابه عن الأنبياء وغيرهم، من مكارم الأخلاق، أو حثّ عليه، أو ندب إليه، أو ذكر بالوصف الأتمّ، والنعت الأكمل، كان النبي صلى الله عليه وسلم متحلّيًا به، ومتوليًا له، ومتخلّقًا به، وبالغًا فيه من المراتب أقصاها، حتى جمُع له من ذلك ما تفرّق في سائر الخلق، وكلّ ما نهى اللَّه عنه كان صلى الله عليه وسلم لا يحوم حوله، بل كان أبعد الناس منه، ولذا أثنى اللَّه تعالى عليه بأعظم الثناء، حيث قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

(فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ) زاد في رواية مسلم: "ولا أسأل أحدًا عن شيء، حتى أموت".

يعني أن سعدًا أراد أن يقوم من عند عائشة رضي الله عنها، حيث أجملت له ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، على وجه أكمل، وأوجز، حينما أحالته على القرآن الكريم الجامع لكلّ صفات الكمال، والمنفّر عن كلّ ذميم الخصال، فيمكنه تتبع أخلاقه صلى الله عليه وسلم منه إجمالاً وتفصيلاً، فلا يبقى عليه حاجة إلى سؤال شيء من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقوله:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وهذا من فصاحة عائشة رضي الله عنها، وغزارة علمها، حيث أوجزت، وأبلغت، وأتقنت (فَبَدَا لِي قِيَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي ظهر لي السؤال عن كيفية قيامه صلى الله عليه وسلم في الليل (فَقَال) ولمسلم:"فقلت"(يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، أَنْبئِينِي عَنْ قِيَامِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَلَيسَ تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]) بدل من "هذه السورة"(قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل افْتَرَضَ) وفي نسخة "فرض"(قِيَامَ اللَّيْل، فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ) أي في قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ، حَوْلَا) أي سنة كاملة (حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ) أي من طول قيامهم (وَأَمْسَكَ اللَّهُ عز وجل خَاتِمَتَهَا، اثنَيْ عَشَرَ شَهْرًا) هو معنى قولها: "حولَا"(ثُم أَنزَلَ اللَّهُ عز وجل، التخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ) أي في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} الآية [المزّمّل: 20]، (فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا، بَعدَ أَنْ كَانَ فَرِيضَةً) قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: هذا ظاهر أنه صار

ص: 277

تطوعا في حق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والأمة، فأما الأمة، فهو تطوع في حقهم بالإجماع، وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا في نسخه في حقّه، والأصحّ عندنا نسخه. وأما ما حكاه القاضي عياض رحمه الله عن بعض السلف أنه يجب على الأمة من قيام الليل ما يقع عليه الاسم، ولو قدر حلب شاة، فغلط، ومردود بإجماع مَنْ قبله، مع النصوص الصحيحة أنه لا واجب إلا الصلوات الخمس انتهى.

(فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ، فَبَدَا لِي وِترُ رَسُولِ اللَهِ صلى الله عليه وسلم) أي ظهر لي السؤال عن وتره صلى الله عليه وسلم (فَقُلتُ: يَا أُمَّ الْمُؤمِنِين، أَنبِئِيني عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي عن وقته، وكيفيته، وعدد ركعاته (قَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ) من الإعداد، أي نهيّء (له سِوَاكَهُ، وَطَهُورَهُ) بفتح الطاء، أي الماء الذي يتطهر به، وفيه استحباب إعداد ذلك، والتأهب بأسباب العبادة قبل وقتها، والاعتناء بها (فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ عز وجل) أي يوقظه (لِمَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ) اللام للتوقيت، أي في الوقت الذي شاء أن يوقظه فيه، ويحتمل أن يكون بفتح اللام، وتشديد الميم، فتكون بمعنى "حين"، أي يوقظه حين شاء اللَّه عز وجل (مِنَ اللَّيْلِ) أي في بعض ساعات الليل، وأوقاته، فـ"من" تبعيضية، وقيل: بيانية

(1)

(فَيَتَسَوَّكُ) أي يستعمل السواك، وفيه استحباب السواك عند القيام من النوم (وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي ثَمَانِيَ) وفي نسخة "ثمان"(رَكَعَاتٍ) هذا من الأخطاء في هذه الرواية، وسيأتي أن الصواب "تسع ركعات"(لَا يَجْلِسُ فِيهِنَّ) أي في خلال تلك الركعات (إِلاَّ عِنْدَ الثَّامِنَةِ) فيه الردّ على الحنفية القائلين بوجوب الجلسة عند كلّ ركعتين، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثمانيًا متصلا، بلا تخلّل جلسات بينها على الشفعات.

وأجابوا بأن المراد بالجلسة المنفية الجلسة الخالية عن السلام، قالوا: فالوتر منها ثلاث ركعات، والست قبله من النفل. قال العيني: وهذا اقتصار منها على بيان جلوس الوتر وسلامه، لأن السائل إنما سأل عن حقيقة الوتر، ولم يسأل عن غيره، فأجابته مبيّنة بما في الوتر من الجلوس على الثانية بدون سلام، والجلوس أيضًا على الثالثة بسلام، وسكتت عن جلوس الركعات التي قبلها، وعن السلام فيها، كما أن السؤال لم يقع عنها، فجوابها قد طابق سؤال السائل انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله العيني مكابرة، وتحريف للنصّ الصريح -قاتل اللَّه التعصّب- كيف يقول: وسكتت عن جلوس الركعات التي قبلها الخ، وقد صرّحت بقولها: لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فأين السكوت المزعوم،

(1)

- "المرعاة" ج 4 ص 264.

(2)

- "المرعاة" ج 4 ص 265.

ص: 278

فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ بتقليد ذوي الاعتساف.

والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أوتر بتسع ركعات، جلس في الثامنة بلا تسليم، وفي التاسعة بتسليم، ولم يجلس في غيرهما، وهذه إحدى أنواع إيتاره صلى الله عليه وسلم.

(يَجْلِسُ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل) أي يقرأ التشهد (وَيَدْعُو، ثُم يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا، يُسْمِعُنَا) من الإسماع، أي يرفع صوته بالتسليم بحيث نسمعه، وهذا أيضًا من الأخطاء، فإن هذا التسليم بعد التاسعة، لا بعد الثامنة، كما يأتي (ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ) فيه مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، وجعل الأمر في قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا، مختصّا بمن أوتر آخر الليل، وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان جواز النفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسًا، يعني أن الأمر فيه أمر ندب، لا أمر إيجاب، فلا تعارض بينهما.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله النووي -رحمه اللَّه تعالى- من وجه الجمع هو الصواب عندي، وأما ما جمع به الشوكاني رحمه الله من أنه لا يعارض فعله قوله، فالجواز مختصّ به، والأمر مختص بالأمة، فليس بصحيح، وقد تقدم الرد عليه غير مرة، فتنبّه واللَّه تعالى أعلم.

(ثُم يُصَلِّي رَكْعَةً) وهذا من الأخطاء أيضًا، فإن الصواب أن هذه الركعة قبل الركعتين اللتين يصليهما، وهو جالس، وهذا هو الخطأ الذي أشار إليه المصنف -رحمه اللَّه تعالى- في آخر الحديث.

(فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَا بُنَيَّ، فَلَما أَسَنَّ رَسُولُ اللَهِ صلى الله عليه وسلم) أي كبر سِنُّهُ (وَأَخَذَ اللَّحْمَ) وفي نسخة "وأخذه اللحم". قيل: أي السمن، وقيل: معناه ضَعُفَ، وكان ذلك قبل موته بنحو سنة، على ما قيل.

وقال السندي -رحمه اللَّه تعالى-: فيه أنه أخذ اللحم في آخر عمره صلى الله عليه وسلم، ولعلّ ذلك لفرحه بقدومه على اللَّه بما جاءه من البشارات الأخروية صلى الله عليه وسلم انتهى. (أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، بَعْدَ مَا سَلَّم) وفي نسخة "يسلّم"(فَتِلْكَ تِسْعُ ركَعَاتٍ، يَا بُنَيَّ) فنقص ركعتين من التسع لأجل الضعف (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا صَلى صَلَاة) أي من النوافل، وفي نسخة "إذا صلى الصلاة" بالتعريف (أَحَبَّ أَنْ يَدُومَ عَلَيهَا) وفي نسخة "أن يداوم"، أي لأن أحب الأعمال إلى اللَّه تعالى أدومها (وَكَانَ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ، أَوْ مَرَضٌ، أَوْ وَجَعٌ) كمَرَضٍ وَزْنًا ومعنى، قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: وجِع فلانًا رأسُهُ، أو بطنُهُ، يُجعل الإنسان مفعولاً، والعضوُ فاعلاً، وقد يجوز العكس، وكأنه على القلب، لفهم المعنى، يَوجَعُ وَجَعًا، من باب تَعِبَ، فهو وَجِعٌ: أي مريض متألّم، ويقع

ص: 279

الوجع على كلّ مرض، وجمعه أَوْجاع، مثل سبب وأسباب، ووِجَاع أيضًا بالكسر، مثل جَبَل وجِبَال انتهى. فيكون عطفه على "مرض" للتأكيد (صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةَ) تعني أنه صلى الله عليه وسلم إذا منعه من قيام الليل مانع صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة بدلاً مما فاته من قيام الليل، وهو ظاهر في كونه يقتصر في القضاء على ثنتي عشرة ركعة فقط.

وإنما لم تذكر الوتر لأنه لم يقضه، فلعلّه صلى الله عليه وسلم كان إذا طرأ عليه ما يفوّت صلاة الليل بادر بالوتر فأوتر بالليل، وأخر غيره، فقضاه بالنهار. واللَّه تعالى أعلم. وقال النووي رحمه الله: هذا فيه دليل على استحباب المحافظة على الأوراد، وأنها إذا فاتت تُقضَى انتهى.

(وَلَا أَعْلَمُ أَن نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةِ) تعني أنه صلى الله عليه وسلم ما ختم القرآن كله في ليلة واحدة (وَلَا قَامَ لَيْلَةً كَامِلَةً، حَتَّى الصَّبَاحَ) هذا على حسب علمها رضي الله عنها، كما يدلّ عليه قولها:"ولا أعلم"، وإلا فقد ثبت في حديث خبّاب ابن الأرتّ رضي الله عنه الآتي 16/ 1638 أنه راقب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ليلة، فصلى الليلة كلها حتى كان مع الفجر (وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلاً، غَيْرَ رَمَضَانَ) هذا لا ينافي ما ثبت عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله، لأن المراد به أنه يصوم أكثره، كما سيأتي في محله، إن شاء اللَه تعالى وقوله:(فَأتَيْتُ ابْنَ عَباسٍ) من كلام سعد بن هشام: أي ثم، بعد ما سمعت الحديث من عائشة رضي الله عنها، جئتُ إلى ابن عباس رضي الله عنهما لأخبره بما سمعت منها حيث طلب مني ذلك (فَحَدَثْتُهُ بِحَدِيثِهَا، فَقَالَ) أي ابن عباس رضي الله عنهما (صَدَقَتْ، أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، مثل "ألا" (إِنِّي لَوْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهَا) قيل: سبب عدم دخوله عليها هو السبب الذي تقدّم في عدم دخول حكيم بن أفلح عليها، وهو الأمر الذي كان بين علي ومعاوية رضي الله عنهما (لَأَتَيْتُهَا، حَتى تُشَافِهَنِي مُشَافَهَةً) أي حتى تكلمني بهذا الحديث مشافهة. زاد في رواية مسلم: "قلت لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدّثتك حديثها"، وهذا قاله سعد معاتبة لابن عباس على مقاطعته إياها، وعدم دخوله عليها.

[فإن قيل]: كيف جاز لابن عباس مقاطعتها، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم:"لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" متفق عليه؟.

[أجيب]: بأنه ليس المنهي عنه ترك الكلام مطلقا، وإنما المنهي عنه الإعراض، وترك الكلام عند اللقاء، كما يدلّ عليه قوله:"يلتقيان الخ"، وابن عباس لم يترك الكلام عند اللقاء، بل ترك الدخول عليها، والقرب منها.

أو يقال: إن مقاطعته لها، لا لغرض نفسيّ، بل لأمر دينيّ في ظنه، وذلك أنه ظنّ أنها عاصية في دخولها في أمر الشيعتين المتقدّمتين، ولا شكّ أن هجران العاصي جائز.

ص: 280

واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائي -رحمه اللَه تعالى- (كَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِي، وَلَا أَدْرِي مِمَّنِ الْخَطَأُ، فِي مَوضِعِ وَتْرِهِ عليه السلام؟) يعني أنه وقع هذا الحديث في كتابه على هذا السياق، وفيه خطأ في موضع وتره صلى الله عليه وسلم، حيث جعله بعد الركعتين اللتين يصليهما جالسًا، ولم يعلم مَن هو المخطىء، هل هو نفسه حينما كتبه، أم شيخه، أم غيرهما؟.

والحاصل أن هذا السياق فيه أخطاء، فقوله:"ثماني ركعات" خطأ، والصواب "تسع ركعات"، وقوله:"ثم يسلم الخ" خطأ أيضًا، والصواب أن التسليم بعد الركعة التاسعة، وقوله:"ثم يصلي ركعتين، وهو جالس" خطأ أيضًا، والصواب أنهما بعد ركعة الوتر، لا قبلها.

وسيأتي للمصنف على الصواب في 1651 و 1719 و1725 و 1721 ولفظه في

43/ 1720 - : "ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيهنّ إلا عند الثامنة، يحمد اللَّه، ويصلي على نبيّه صلى الله عليه وسلم، ويدعو بينهنّ، ولا يسلّم تسليما، ثم يصلي التاسعة، ويقعد، - وذكر كلمة نحوها - ويحمد اللَّه، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ويدعو، ثم يسلّم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلّم، وهو قاعد .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-2/ 1601 - وفي "الكبرى" 3/ 1294 بالإسناد المذكور، وفي 67/ 1316 عن محمد بن بشار، عن يحيى القطان به. و 17/ 1641 و 43/ 1720 - عن هارون بن إسحاق، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة به. و 18/ 1651 - و"الكبرى" 55/ 1416 عن عمرو بن عليّ، عن عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن، عن سعد بن هشام به. و 36/ 1698 و"الكبرى" 50/ 1400 عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضّل، عن سعيد بن أبي عروبة به. و 42/ 1718 - عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد الْهُجَيمي، عن شعبة، عن قتادة به. و 42/ 1719 - و"الكبرى" 53/ 1409 عن زكريا بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة به. و 43/ 1721 و 43/ 1722 - عن زكريا بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزّاق، عن معمر، عن قتادة به. و 43/ 1723 و"الكبرى" 53/ 1410 عن محمد بن بشار، عن حجاج، عن حماد، عن قتادة به. و 43/ 1724 - عن محمد بن

ص: 281

عبدالله الخَلَنْجي، عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن حُصين بن نافع، عن الحسن به. و 64/ 1789 - عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة به. و 70/ 2348 و"الكبرى" 53/ 1408 و"الكبرى" 55/ 1414 عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 2/ 168 و 2/ 170 و 2/ 171 (د) 1342 و 1343 و 1344 و 1345 و 1349 (ت) 445 وفي "الشمائل" 267 (ق) 1191 (أحمد) 6/ 53 و 6/ 94 و 6/ 109 و 6/ 163 و 168 و 6/ 236 و 6/ 258 (الدارمي) 1483 (البخاري) في "خلق أفعال العباد" 48 (ابن خزيمة) 1078 و 1127 و 1169 و 1178. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية قيام الليل. ومنها: ما كان عليه السلف من السؤال، والبحث عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقتدوا به فيها. ومنها: أن من أدب العالم المسؤول إذا كان هناك من هو أعلم منه أن يرشد إليه، لأن الدين النصحية. ومنها: بيان فضل عائشة رضي الله عنها، حيث كانت أعلم الناس بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة ابن عباس رضي الله عنهما لها بذلك. ومنها: ما أكرم اللَّه تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم حيث أدبه بآداب القرآن، فكان المثل الأعلى في التخلق بالأخلاق السامية، كما وصفه اللَّه تعالى بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ومنها: بيان أن قيام الليل كان واجبا، ثم نسخ رحمةً من اللَّه تعالى ولطفًا. ومنها: استحباب التأهب لقيام الليل بإعداد السواك، والطُّهُور. ومنها: استحباب السواك لمن قام من النوم. ومنها. مشروعية الوتر بتسع، يجلس في الثامنة منها، دون تسليم، وفي التاسعة مع التسليم. ومنها: أن أحب العمل إلى اللَّه تعالى ما داوم عليه صاحبه، وإن قلّ. ومنها. استحباب قضاء ما فات من قيام الليل لمرض، أو نحوه. ومنها: أنه لا ينبغي إحياء الليل كله بالعبادة، لأنه ليس من

هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكذا استيعاب الشهر كله بالصوم غير رمضان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 282

‌3 - بَابُ ثَوَابِ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا

1602 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني الفقيه الحجة [7] 7/ 7.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الإمام الثبت الحجة [4] 1/ 1.

4 -

(حُميد بن عبدالرحمن) بن عوف الزهري المدني، ثقة [2] 32/ 725.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، والظاهر أنه دخل المدينة؛ للأخذ عن مالك. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ)"من" شرطية (إِيمَانًا) أي تصديقًا بأنه حقّ وطاعة للَّه تعالى. وقيل: أي يحمله على ذلك الإيمان باللَّه، أو بفضل رمضان (وَاحْتِسَابًا) أي إرادة وجه اللَّه تعالى، لا لرياء، ونحوه، فقد يفعل الإنسان الشيء الذي يعتقد أنه صدق، لكن لا يفعله مخلصًا، بل لرياء، أو خوف، ونحو ذلك. وانتصابهما على المفعول لأجله، أو على الحال، أو التمييز (غُفِرَ لَهُ) جوب الشرط (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) اسم جنس مضاف، فيتناول جميع الذنوب، إلا أنه مخصوص عند الجمهور بالصغائر، للأدلة الأخرى، وسيأتي تمام الكلام على ذلك في "كتاب الصيام" إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 283

قال الكرماني: وكلمة "مِنْ" إما متعلّقة بقوله: "غُفر له"، أي غفر من ذنبه ما تقدّم، فهو منصوب المحلّ، أو هي مبينة لـ "ما تقدّم"، وهو مفعول لما لم يسمّ فاعله، فيكون مرفوع المحلّ انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وسيأتي تمام شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في كتاب "الصيام" إن شاء اللَّه تعالى؛ لأنه المحل المناسب لها.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1603 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن إسماعيل أبو بكر) الطبراني، ثقة [12].

روى عن أحمد بن حنبل، وعبد اللَّه بن محمد بن أسماء، وأبي علي عبد الرحمن بن بَحْر الخلاّل، وأبي مروان عبد الملك بن حبيب البزّاز. وعنه النسائي، وقال: ثقة، حسن الأخذ للحديث. وقال مسلمة بن قاسم: روى عنه محمد بن وضّاح. انفرد به المصنّف. وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 1603 و 2201 و 2718 و 3922 و 4934 و 5026.

2 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أخو حميد المذكور معه، المدني، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

والباقون تقدموا قريبًا، فعبد اللَّه، وجويرية تقدما قبل باب، والباقون في السند الماضي.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدم البحث عنه مستوفى في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" ج 4 ص 609 - 610

ص: 284

‌4 - (بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ)

1604 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، ذَاتَ لَيْلَةٍ وَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ، وَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا، مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ، إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ». وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث خمسة كلهم تقدّموا قريبًا، والحديث متفق عليه، وشرحه يعلم من شرح حديث زيد بن ثابت - رضي اللَّه تعالى عنه - الماضي؛ لأنه بمعناه.

أخرجه المصنف هنا -4/ 1604 - وفي "الكبرى" 5/ 1297 - بالإسناد المذكور، وفي 39/ 2139 عن زكريا بن يحيى، عن إسحاق، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن يونس الأيلي، عن الزهري به. و 39/ 2195 - عن محمد بن خالد، عن بشر بن شُعيب، عن أبيه، عن الزهري به.

وأخرجه (خ) 2/ 13 و 3/ 58 و 2/ 62 و 3/ 58 (م) 2/ 177 (د) 1373 (مالك في الموطإ) ص 91 (أحمد) 6/ 169 و 6/ 177 و 6/ 182 و 6/ 232 (عبد بن حميد) 1469 (ابن خزيمة) 1128 و 2207 و 1128 واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "صلى ذات ليلة في المسجد" وفي رواية عمرة عن عائشة، "أنه صلى في حجرته" وليس المراد بها بيته، وإنما المراد الحصير الذي كان يحتجره بالليل في المسجد، فيجعله على باب بيت عائشة رضي الله عنها، فيصلي فيه، ويجلس عليه بالنهار.

وقوله: "ثم صلى من القابلة" أي في الليلة المقبلة.

وقوله: "ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، أو الرابعة" كذا رواه مالك بالشكّ، وفي رواية عقيل، عن ابن شهاب عند البخاري، "فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس، فتحدثوا"، ولأحمد من رواية ابن جريج، عن ابن شهاب:"فلما أصبح تحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد من جوف الليل، فاجتمع أكثر منهم"، زاد يونس:"فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية، فصلوا معه، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فأكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج، فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله". وفي رواية معمر، عن ابن شهاب "امتلأ المسجد حتى غُصّ بأهله". أفاده في "الفتح".

ص: 285

وقوله: "فلما أصبح قال الخ" في رواية عُقيل "فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس، فتشهد، ثم قال: أما بعد، فإنه لم يَخْفَ عليّ مكانكم"، وفي رواية يونس، وابن جريج "لم يخف عليّ شأنكم"، زاد في رواية أبي سلمة "اكلَفُوا من العمل ما تُطيقون"، وفي رواية معمر أن الذي سأله عن ذلك بعد أن أصبح عمر بن الخطاب.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولم أر في شيء من طرقه بيان عدد صلاته في تلك الليالي، لكن رَوَى ابن خزيمة، وابن حبان من حديث جابر، قال. "صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات، ثم أوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا، ثم دخلنا، فقلنا: يا رسول اللَّه" الحديث، فإن كانت القصة واحدة احتمل أن يكون جابر ممن جاء في الليلة الثالثة، فلذلك اقتصر على وصف ليلتين، وكذا ما وقع عند مسلم من حديث أنس "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان، فجئت، فقمت إلى جنبه، فجاء رجل فقام حتى كنا رهطًا، فلما أحس بنا تجوّز، ثم دخل رحله" الحديث، والظاهر أن هذا كان في قصة أخرى انتهى

(1)

.

وقوله: "خشيت أن يُفرض عليكم". زاد في رواية مسلم: "صلاةُ الليل، فتعجزوا عنها".

وسئل الشيخ عزّ الدين ابن عبد السلام -رحمه اللَّه تعالى- عن هذا الحديث، فإنه يدلّ على أن المداومة على ما ليس بواجب تُصيره واجبَا، والمداومة لم تُعهد في الشرع مغيّرة لأحكام الأفعال، فكيف خشي صلى الله عليه وسلم أن يُغَيَّر بالمداومة حكم القيام؟

فأجاب بأنه صلى الله عليه وسلم منه تُتلقّى الأحكام، والأسباب، فإن أخبر أن هاهنا مناسبة اعتقدنا ذلك، واقتصرنا بهذا الحكم على مورده. انتهى

(2)

. وقد تقدم تمام البحث في هذا عند شرح حديث زيد بن ثابت - رضي اللَّه تعالى عنه -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1605 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي رَمَضَانَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا، حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا، حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي السَّادِسَةِ، فَقَامَ بِنَا فِي الْخَامِسَةِ، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ، قَالَ:«إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ، حَتَّى يَنْصَرِفَ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ» ، ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ بِنَا، وَلَمْ يَقُمْ حَتَّى بَقِيَ ثَلَاثٌ مِنَ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا فِي

(1)

- "فتح" ج 3 ص 318.

(2)

- راجع "زهر الربى" ج3 ص202 - 203.

ص: 286

الثَّالِثَةِ، وَجَمَعَ أَهْلَهُ، وَنِسَاءَهُ، حَتَّى تَخَوَّفْنَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وبيان مسائله في 103/ 1364 - فراجعه هناك تستفد.

و"عبد اللَّه بن سعيد" هو أبو قُدَامة السرخسي، ثقة ثبت. و"محمد بن الفضيل": هو ابن غزوان أبو عبد الرحمن الضبيّ الكوفيّ، صدوق عارف رُمي بالتشيّع [9]. و"داود بن أبي هند" بصري ثقة متقن تغير بآخره. و"الوليد بن عبد الرحمن": هو الجُرَشيّ الحمصيّ ثقة. و"جُبير بن نُفير" هو الحضرمي الحمصيّ ثقة مخضرم نبيل. و"أبو ذرّ" هو جندب بن جنادة الصحابي المشهور رضي الله عنه.

وقوله: "نفلتنا" بتشديد الفاء، وتخفيفها: أي أعطيتنا الزيادة من القيام في بقية ليلتنا هذه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1606 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ زِيَادٍ، أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، عَلَى مِنْبَرِ حِمْصَ، يَقُولُ: قُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَا نُدْرِكَ الْفَلَاحَ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ السُّحُورَ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهَاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42.

2 -

(زيد بن الحُبَاب) العُكليّ، أبو الحسين الكوفي، صدوق [9] 33/ 37.

3 -

(معاوية بن صالح) الحمصيّ، صدوق له أوهام [7] 50/ 62.

4 -

(نُعيم بن زياد أبو طلحة) الأنماريّ -بفتح أوله، وسكون النون- الشامي، ثقة يرسل [3] 108/ 147.

5 -

(النعمان بن بشير) بن سعد الأنصاري الخزرجي، الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما - سكن الشام، ثم الكوفة 19/ 528 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراد، ونعيم بن زياد، فتفرد به هو وأبو داود في "كتاب التفرّد" له. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين من معاوية، وزيد كوفي، وشيخه رُهاويّ. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 287

شرح الحديث

عن نعيم بن زياد أنه (قال: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَلَى مِنْبَرِ حِمْصَ) بكسر، فسكون بالصرف وعدمه: البلد المعروف (يَقُولُ: قُمنَا مَعَ رَسُولِ اللَهِ صلى الله عليه وسلم، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ، إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، ثُم قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ خَمْسِ وَعِشْرِينَ، إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُم قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، حَتى ظَنَنَّا أَنْ لَا نُدْرِكَ الفَلَاحَ) هو بمعنى قول حذيفة رضي الله عنه: "حتى تخوّفنا أن يفوتنا الفلاح"(وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ السُّحُورَ) قال السندي -رحمه اللَّه تعالى-: الضمير هو المفعول الثاني، و"السحور" هو المفعول الأول، فهو من تقديم المفعول الثاني على الأوّل انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ووقع في نسخة من "الكبرى""يسمون به السحور". وهو واضح، ويمكن أن يحمل ما هنا عليه، بأن يكون من الحذف والإيصال، حذفت الباء، فاتصل الضمير بالفعل. والمعنى أنهم يسمون السحور بالفلاح. و"السُّحُور" بالضم اسم للأكل وقت السحر، و"السَّحُور" بالفتح وزان رَسُول: اسم لما يؤكل في ذلك الوقت. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث النعمان بن بشير هذا صحيح، انفرد به المصنف، أخرجه هنا-4/ 1606 - وفي "الكبرى" 5/ 1299 بالإسناد المذكور.

وأخرجه (أحمد) 4/ 272 و (ابن خزيمة) 2204 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌5 - بَابُ التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ

1607 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا نَامَ أَحَدُكُمْ، عَقَدَ الشَّيْطَانُ عَلَى رَأْسِهِ، ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ، لَيْلاً طَوِيلاً، أَيِ ارْقُدْ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ، فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ كُلُّهَا، فَيُصْبِحُ طَيِّبَ النَّفْسِ، نَشِيطًا، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ، كَسْلَانَ» .

ص: 288

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن يزيد) المقرئ، أبو يحيى المكيّ، ثقة [10] 11/ 11.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحافظ الحجة [8] 1/ 1.

3 -

(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذَكْوان المدني، ثقة فقيه [5] 7/ 7.

4 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدني، ثقة ثبت [3] 7/ 7.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد له هو وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وسفيان، فمكيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين رواية للحديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا نَامَ أَحَدُكُمْ، عَقَدَ الشَّيْطَان) أي إبليس، أو بعض جنوده، ولعله بالنظر إلى كلّ شخص شيطانه. قاله السنديّ. وقال في "الفتح": كأن المراد به الجنس، وفاعل ذلك هو القرين، أو غيره، ويحتمل أن يراد به رأس الشياطين، وهو إبليس، وتُجوّز نسبة ذلك إليه، لكونه الآمر به الداعي إليه. انتهى (عَلَى رَأْسِهِ) وفي رواية البخاريّ: "على قافية رأس أحدكم". أي مؤخّر عنقه، وقافيةُ كلّ شيء مؤخّره، ومنه قافية القصيدة. وفي "النهاية": القافية القفا، وقيل: مؤخّر الرأس، وقيل: وسطه.

وظاهر قوله: "أحدكم" التعميم في المخاطبين، ومن في معناهم، ويمكن أن يُخصّ منه من ورد في حقّه أنه يحفظ من الشيطان، كالأنبياء، ومن تناوله قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ، وكمن قرأ آية الكرسيّ عند نومه، فقد ثبت أنه يُحفظ من الشيطان حتى يُصبح. أفاده في "الفتح". وقال في موضع آخر: وقد يُظنّ أن بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إن قارئ آية الكرسيّ عند نومه لا يقربه الشيطان" معارضة، وليس كذلك، لأن العقد إن حُمل على الأمر المعنويّ، والقربَ على الأمر الحسيّ، وكذا العكس، فلا إشكال، إذ لا يلزم من سحره إياه مثلًا أن يماسّه، كما لا يلزم من مماسّته أن يقربه بسرقة، أو أذى في جسده، ونحو ذلك، وإن حُملا على المعنويين، أو العكس، فيجاب بادعاء الخصوص في عموم أحدهما، والأقرب أن

ص: 289

المخصوص حديث الباب، كما تقدّم تخصيصه عن ابن عبد البرّ بمن لم ينو القيام، فكذا يمكن أن يقال: يختصّ بمن لم يقرأ آية الكرسيّ لطرد الشيطان. واللَّه تعالى أعلم.

(ثَلَاثَ عُقد) قال البيضاوي رحمه الله: التقييد بالثلاث، إما للتأكيد، أو لأن ما تنحلّ به عقده ثلاثة أشياء، الذكر، والوضوء، والصلاة، فكأن الشيطان منع عن كلّ واحدة منها بعقدة عقدها انتهى

(1)

. (يَضْرِبُ) أي بيده (عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ) تأكيدًا لها وإحكامًا، قائلًا ذلك، وقيل. معنى يضرب يحجب الحسّ عن النائم حتى لا يستيقظ، ومنه قوله تعالى:{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} ، أي حجبنا الحسّ أن يلج في آذانهم، فينتبهوا، وفي حديث أبي سعيد:"ما أحد ينام، إلا ضُرب على سِمَاخِه بجرير معقود". أخرجه المخلص في "فوائده". و"السماخ"

(2)

-بكسر المهملة، وآخره معجمة، ويقال بالصاد المهملة بدل السين-، وعند سعيد بن منصور بسند جيّد عن ابن عمر. "ما أصبح رجل على غير وتر إلا أصبح على رأسه جرير قدر سبعين ذراعًا".

(لَيلاً طَوِيلاً) بالنصب على الإغراء، في رواية ابن عيينة، عن أبي الزناد، وهي رواية الأكثرين عند مسلم، وعند البخاري في جميع طرقه بالرفع على الابتداء، أي باق عليك، أو بإضمار فعل، أي بَقِيَ. وقال القرطبي: الرفع أولى من جهة المعنى، لأنه الأمكن في الغرور من حيث إنه يخبره عن طول الليل، ثم يأمره بالرُّقَاد بقوله:"فارقد"، وإذا نُصِب على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذ يكون قوله:"فارقد" ضائعًا. ومقصود الشيطان بذلك تسويفه بالقيام، والإلباس عليه. قال في "الفتح": ظاهره اختصاص ذلك بنوم الليل، وهو كذلك، لكن لا يبعد أن يجيء مثله في النهار كالنوم حالة الإبراد مثلاً. قال: وقد اختلف في هذه العُقَد، فقيل: هو على الحقيقة، وأنه كما يعقد الساحر مَن يسحره، وأكثر من يفعله النساء، تأخذ إحداهنّ الخيط، فتعقد منه عُقدة، وتتكلّم عليه بالسحر، فيتأثّر المسحور عند ذلك، ومنه قوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ، وعلى هذا فالمعقود شيء عند قافية الرأس، لا قافية الرأس نفسها، وهل العقد في شعر الرأس، أو في غيره؟ الأقرب الثاني، إذ ليس لكلّ أحد شعر، ويؤيده ما ورد في بعض طرقه أن على رأس كل آدمي حبلاً، ففي رواية ابن ماجه، ومحمد بن نصر من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"على قافية رأس أحدكم حبل، فيه ثلاث عُقد"، ولأحمد من طريق الحسن، عن أبي هريرة

(1)

- راجع "زهر الربى" ج3 ص 203 - 204.

(2)

- "صِمَاخِ الأذن": الخَرْقُ الذي يُفضي إلى الرأس، وهو السمع، وقيل: هو الأذن نفسها، والجمع أَصْمِخَة، مثل سلاح وأسلحة. اهـ "المصباح".

ص: 290

- رضي الله عنه بلفظ: "إذا نام أحدكم عُقِد على رأسه بجرير"، ولابن خزيمة، وابن حبان من حديث جابر رضي الله عنه، مرفوعًا: "ما من ذَكَر، ولا أنثى إلا على رأسه جَرير معقود حين يرقُد

" الحديث. وفي "الثواب" لآدم بن أبي إياس من مرسل الحسن نحوه. و"الجرير" بفتح الجيم: هو الحبل. وفَهِمَ بعضهم من هذا أن العُقَدَ لازمة، ويردّه التصريح بأنها تنحلّ بالصلاة، فيلزم إعادة عَقْدها، فأبهم فاعله في حديث جابر، وفسّر في حديث غيره.

وقيل: هو على المجاز كأنه شُبّه فعل الشيطان بالنائم بفعل الساحر بالمسحور، فلما كان الساحر يمنع بعقده ذلك التصرّف مَن يحاول عقده كان هذا مثله من الشيطان للنائم.

وقيل: المراد به عقد القلب، وتصميمه على الشيء، كأنه يوسوس له بأنه بقي من الليلة قطعة طويلة، فيتأخّر عن القيام، وانحلال العُقَد كناية عن علمه بكذبه فيما وسوس به.

وقيل: العقد كناية عن تثبيط الشيطان للنائم بالقول المذكور، ومنه عَقَدت فلانًا عن امرأته، أي منعته عنها، أو عن تثقيله عليه النوم، كأنه قد شدّ عليه شدادا. وقال بعضهم: المراد بالعُقَد الثلاث الأكل، والشرب، والنوم، لأن من أكثر الأكل والشرب كثُر نومه. واستبعده المحبّ الطبريّ لأن الحديث يقتضي أن العُقَد تقع عند النوم، فهي غيره.

قال القرطبي: الحكمة في الاقتصار على الثلاث أن أغلب ما يكون انتباه الإنسان في السَّحَر، فإن اتفق له أن يرجع إلى النوم ثلاث مرّات لم تنقَض النومة الثالثة إلا وقد ذهب الليل.

وقال البيضاويّ: التقييد بالثلاث إما للتأكيد، أو لأنه يريد أن يقطعه عن ثلاثة أشياء، الذكر، والوضوء، والصلاة، فكأنه مُنع كلّ واحدة منها بعقدة عقدها على رأسه، وكأن تخصيص القفا بذلك لكونه محل الوهم، ومجال تصرّفه، وهو أطوع القوى للشيطان، وأسرعها إجابة لدعوته.

وفي كلام الشيخ الملويّ أن العقد يقع على خِزَانة الالهيات من الحافظة، وهي الكنز المحصّل من القوى، ومنها يتناول القلب ما يريد التذكر به انتهى "فتح"

(1)

.

(أَي ارْقُدْ) هكذا في رواية المصنّف بـ "أي" التفسيرية، وفي رواية الشيخين:"فارقد" بالفاء (فَإِنِ اسْتَيْقَظَ) أي من نومه (فَذَكَرَ اللَّهَ) قال في "الفتح": لا يتعين للذكر شيء مخصوص لا يجزئ غيره، بل كلّ ما صدق عليه ذكر اللَّه أجزأ، ويدخل فيه تلاوة

(1)

- "فتح" ج 3 ص 333 - 334.

ص: 291

القرآن، وقراءة الحديث النبويّ، والاشتغال بالعلم الشرعي، وأولى ما يُذكر به ما أخرجه البخاري من حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من تعارّ من الليل، فقال: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، الحمد للَه، وسبحان اللَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا باللَه، ثم قال: اللَّهم اغفر لي -أو دعا- استجيب، فإن توضأ قُبلت صلاته انتهى (انْحَلت عُقدَة) أي واحدة من تلك العقد الثلاث (فَإِنْ تَوَضَّأَ) إنما خصّ الوضوء بالذكر، لأنه الغالب، وإلا فالجنب لا يحل عقدته إلا الاغتسال، وهل يقوم التيمم مقام الوضوء، أو الغسل لمن ساغ له ذلك؟ محل بحث، قال الحافظ: والذي يظهر إجزاؤه، ولا شكّ أن في مُعاناة الوضوء عونا كبيرًا على طرد النوم لا يظهر مثله في التيمم (انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتِ العُقَدُ كُلُّهَا) قال في "الفتح": بلفظ الجمع بغير اختلاف في البخاريّ، ووقع لبعض رواة "الموطإ" بالإفراد، ويؤيّده رواية أحمد المشار إليها قبلُ، فإن فيها:"فإن ذكر اللَّه انحلت عقدة واحدة، وإن قام، فتوضأ أُطلقت الثانية، فإن صلى أطلقت الثالثة"، وكأنه محمول على الغالب، وهو من ينام مضطجعًا، فيحتاج إلى الوضوء إذا انتبه، فيكون لكلّ فعل عقدة يحلُّها. انتهى.

(فَيُصْبِحُ طَيِّبَ النَّفْس) أي لسروره بما وفّقه اللَّه تعالى له من الطاعة، وبما وعده من الثواب، وبما زال عنه من عقد الشيطان، قال الحافظ رحمه الله: كذا قيل، والذي يظهر أن في صلاة الليل سرًّا في طيب النفس، وإن لم يستحضر المصلي شيئا مما ذُكر، وكذا عكسه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]. وقد استنبط بعضهم منه أن من فعل ذلك مرة، ثم عاد إلى النوم لا يعود إليه الشيطان بالعقد المذكور ثانيًا. واستثنى بعصهم ممن يقوم، ويذكر، ويتوضأ، ويصلي من لم ينهه ذلك عن الفحشاء، بل يفعل ذلك من غير أن يُقلع، والذي يظهر فيه التفصيل بين من يفعل ذلك مع الندم والتوبة والعزم على الإقلاع، وبين المصرّ. (نَشِيطًا، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ) أي بتركه ما كان اعتاده، أو أراده من فعل الخير، كذا قيل، وقد تقدم ما فيه (كَسْلَانَ) غير مصروف للوصف، ولزيادة الألف والنون، ومقتضى قوله:"وإلا أصبح" أنه إن لم يجمع الأمور الثلاثة دخل تحت من يصبح خبيثًا كسلان، وإن أتى ببعضها، وهو كذلك، لكن يختلف ذلك بالقوّة والخفّة، فمن ذكر اللَّه مثلاً كان في ذلك أخفّ ممن لم يذكر أصلًا. وفي حديث أبي سعيد:"فإن قام فصلى انحلّت العُقَد كلهن، وإن استيقظ، ولم يتوضأ، ولم يصلّ أصبحت العقد كلها كهيئتها".

وقال ابن عبد البر -رحمه اللَّه تعالى-: هذا الذمّ يختصّ بمن لم يَقُم إلى صلاته

ص: 292

وضيّعها، أما من كانت عادته القيام إلى الصلاة المكتوبة، أو إلى النافلة بالليل، فغلبته عينه، فنام، فقد ثبت أن اللَّه يكتب له أجر صلاته، ونومُهُ عليه صدقة. وقال أيضًا: زعم قوم أن هذا الحديث يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولنّ أحدكم خبُثت نفسي"، وليس كذلك، لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة، وهذا الحديث وقع ذمًا لفعله، ولكلّ من الحديثين وجه. وقال الباجيّ: ليس بين الحديثين اختلاف، لأنه نَهَى عن إضافة ذلك إلى النفس، لكون الخبث بمعنى فساد الدين، ووَصَفَ بعضَ الأفعال بذلك تحذيرا منها وتنفيرًا.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: تقرير الإشكال أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضافة ذلك إلى النفس، فكل ما نُهي المؤمن أن يضيفه إلى نفسه نُهي أن يضيفه إلى أخيه المؤمن، وقد وصف صلى الله عليه وسلم هذا المرء بهذه الصفة، فيلزم جواز وصفنا له بذلك لمحل التأسي، ويحصل الانفصال فيما يظهر بأن النهي محمول على ما إذا لم يكن هناك حامل على الوصف بذلك، كالتنفير والتحذير

(1)

.

[تنبيه]: ذكر الحافظ أبو الفضل العراقي في "شرح الترمذيّ" أن السرّ في استفتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين المبادرةُ إلى حلّ عُقَد الشيطان، وبناه على أن الحلّ لا يتمّ إلا بتمام الصلاة، وهو واضح؛ لأنه لو شرع في صلاة، ثم أفسدها لم يساو من أتمّها، وكذا الوضوء، وكأن الشروع في حلّ العقد يحصل بالشروع في العبادة، وينتهي بانتهائها.

وقد ورد الأمر بصلاة الركعتين الخفيفتين عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فاندفع إيراد من أورد أن الركعتين الخفيفتين إنما وردتا من فعله صلى الله عليه وسلم، وهو منزّه عن عقد الشيطان، حتى ولو لم يَرِد الأمر بذلك لأمكن أن يقال: يحمل فعله على تعليم أمته، وإرشادهم إلى ما يحفظهم من الشيطان. وقد وقع عند ابن خزيمة من وجه آخر عن أبي هريرة في آخر الحديث:"فحُلُّوا عقد الشيطان ولو بركعتين". قاله في "الفتح"

(2)

. وهو بحث نفيس جدًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

(1)

- "فتح" ج 3 ص 330 - 336.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 336 - 337.

ص: 293

أخرجه هنا-5/ 1607 - وفي "الكبرى" 6/ 1301 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 65 و 4/ 148 (م) 2/ 187 (د) 1306 (أحمد) 2/ 243 و 2/ 253 و 2/ 497 (1) 1329 (ابن خزيمة) 1131 و 1132. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الترغيب في قيام الليل. ومنها: بيان تسلط الشيطان على الإنسان، وحرصه على أن لا يتقرّب إلى ربّه، فيصدّه عن ذكر اللَّه، وعن الصلاة. ومنها: فضل ذكر اللَّه تعالى، والوضوء، والصلاة، حيث تنحلّ بها العُقَد التي يعقدها الشيطان على رأس الإنسان. ومنها: أن من اجتهد، ودافع عن نفسه مكائد الشيطان، فاز بالنفحات الربانية، فأصبح طيّب النفس، نشيطًا، ومن تقاعس عن ذلك، ولم يجتهد، فقد وافق مراد الشيطان، وابتعد عن تلك النفحات، فأصبح خبيث النفس، كسلان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1608 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، نَامَ لَيْلَةً، حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ:«ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ» .

رجال هذا بإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الإمام المروزي، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبي، ثقة ثبت [8] 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر الكوفي، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

4 -

(أبو وائل) شقيق بن سلمة الكوفي، ثقة مخضرم نبيل [2] 2/ 2.

5 -

(عبد اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ عند من يجعل منصورًا من صغار التابعين. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 294

شرح الحديث

(عَنْ عَبدِ اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، لكن أخرج سعيد بن منصور، عن عبد الرحمن ابن يزيد النخعي، عن ابن مسعود ما يؤخذ منه أنه هو، ولفظه بعد سياق الحديث بنحوه:"وايم اللَّه، لقد بال في أذن صاحبكم ليلة" يعني نفسه (نَامَ لَيْلَةَ، حَتَّى أَصْبَحَ) ظاهر صنيع المصنّف رحمه الله أنه حمله على ترك قيام الليل، لكن يحتمل أنه ترك صلاة العشاء. وفي رواية البخاريّ من طريق أبي الأحوص، عن منصور:"ما زال نائما حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة". قال في "الفتح": المراد الجنس، ويحتمل العهد، ويُراد به صلاة الليل، أو المكتوبة (قَالَ:"ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيهِ") بالتثنية، وفي رواية البخاري المذكورة بالإفراد. واختُلف في بول الشيطان، فقيل هو على حقيقته، قال القرطبيّ وغيره: لا مانع من ذلك، إذ لا إحالة فيه؛ لأنه ثبت أن الشيطان يأكل، ويشرب، ويَنكِح، فلا مانع من أن يبول. وقيل: كناية عن سدّ الشيطان أذن الذي نام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر. وقيل: معناه أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل، فحجب سمعه عن الذكر. وقيل: هو كناية عن ازدراء الشيطان به. وقيل: معناه أن الشيطان استولى عليه، واستخفّ به، حتى اتخذه كالكنيف المعدّ للبول، إذ من عادة المستخفّ بالشيء أن يبول عليه. وقيل: هو مثل مضروب للغافل عن القيام بثقل النوم، كمن وقع البول في أذنه، فثقّل أذنه، وأفسد حسّه، والعرب تَكني عن الفساد بالبول، قال الراجز:

بَالَ سُهَيلٌ فِي الْفَضِيخِ فَفَسَدْ

وكنى بذلك عن طلوعه لأنه وقت إفساد الفضيخ، فعبَّر عنه بالبول.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي القول الأول هو الصواب، فبول الشيطان في أذن هذا النائم على حقيقته، إذ ما لا نع من ذلك، كما تقدم عن القرطبي وغيره، فلا داعي لصرف ظاهر النصّ إلى هذه التكلّفات التي ذكروها، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

ووقع في رواية الحسن عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - في هذا الحديث عند أحمد: "قال الحسن: إن بوله واللَّه لثقيل". ورَوى محمد بن نصر من طريق قيس بن أبي حازم، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"حسبُ الرجل من الخيبة والشرّ أن ينام حتى يصبح، وقد بال الشيطان في أذنه". وهو موقوف صحيح الإسناد.

وقال الطيبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: خصّ الأذن بالذكر، وإن كانت العين أنسب بالنوم

ص: 295

إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الانتباه، وخصّ البول لأنه أسهل مدخلاً في التجاويف، وأسرع نفوذًا في العروق، فيورث الكسل في جميع الأعضاء. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-5/ 1608 - وفي "الكبرى" 7/ 1302 - بالإسناد المذكور، وفي 5/ 1609 - عن عمرو بن عليّ، عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 66 و 4/ 148 (م) 2/ 187 (ق) 1330 (أحمد) 1/ 375 و 1/ 427 (ابن خزيمة). 1130 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1609 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانًا نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ الْبَارِحَةَ، حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ:«ذَاكَ شَيْطَانٌ، بَالَ فِي أُذُنَيْهِ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وهذا طريق آخر لحديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور قبله، تقدم الكلام عليه.

وعمرو بن عليّ: هو الفلاّس البصريّ المثبت الحافظ [10]. 4/ 4. وعبد العزيز بن عبد الصمد: هو العَمّيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [9] 17/ 1551.

وقوله: "البارحة": هي أقرب ليلة مضت قاله المجد. وقال الفيّوميّ: العرب تقول قبل الزوال: فعلنا الليلةَ كذا لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البارحةَ انتهى.

وقوله: "ذاك" مبتدأ، وقوله:"شيطان" مبتدأ ثان، سوغ الابتداء به مع تنكيره كونه فاعلا في المعنى، وجملة "بال في أذنيه" خبر للمبتدإ الثاني، والجملة خبر للأول. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

-"فتح" ج 3 ص 338.

ص: 296

1610 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَعْقَاعُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّى، ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ، نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً، قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّتْ، ثُمَّ أَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرقيّ أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحجة المثبت [9] 4/ 4.

3 -

(ابن عجلان) محمد المدني، صدوق [5] 36/ 40.

4 -

(القعقاع) بن حكيم الكنانيّ المدنيّ، ثقة [4] 36/ 40.

5 -

(أبو صالح) ذكوان السمّان الزيات المدني، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغداديّ، ويحيى، فبصريّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعيين يروي بعضهم عن بعض: ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً) هذا إخبار من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم باستحقاق الشخص الفاعل لذلك الرحمة، أو دعاء منه له بها، وثناء بحسن ما فعله (قَامَ مِنَ اللَّيْلِ) "من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض، والجملة في محل نصب صفة لـ "رجلا" (فَصَلَّى) أي صلاة الليل، أو أعمّ من ذلك (ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ) أي نبهها من نومها بالحكمة، والموعظة الحسنة (فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ) أي امتنعت من القيام لثقل نومها، لا لعذر شرعيّ من حيض، أو مرض (نَضَحَ) من باب نفع: أي رشّ (فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ) خص الوجه بالنضح، لأن رشّه يُذهب النوم أكثر من غيره (وَرَحِمَ اللَّه امْرَأَةَ، قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّتْ، ثُمَّ أَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَصَلَّى، فَإن أَبَى نَضَحَت فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ") فيه أن هذا لا يدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، بل

ص: 297

هو من باب التعاون على البرّ والتقوى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 5/ 1610 - وفي "الكبرى" 6/ 1300 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 1308 و 1450 (ق) 1336 (أحمد) 2/ 250 و 436 (ابن خزيمة)1148. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الترغيب في قيام الليل. ومنها: مشروعية الدعاء بالرحمة للحيّ، كما يُدْعَى بها للميت. ومنها: بيان فضل قيام الليل. ومنها: فضل حث الرجل امرأته على قيام الليل، وكذا المرأة زوجها. ومنها: مشروعية إيقاظ النائم للتنفل. ومنها: حَثّ مَن تكاسل عن الخير على فعله، ولو بطريق الإزعاج من النوم، وهو من باب التعاون على البرّ والتقوى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1611 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، حَدَّثَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ، وَفَاطِمَةَ، فَقَالَ: أَلَا تُصَلُّونَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ، أَنْ يَبْعَثَهَا بَعَثَهَا، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ قُلْتُ لَهُ: ذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ، وَهُوَ مُدْبِرٌ، يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيَقُولُ:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البَغْلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد، الإمام المصريّ الفقيه الثقة الحجة [7] 31/ 35.

3 -

(عُقيل) بن خالد الأيلي، ثقة ثبت [6] 125/ 187.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحافظ الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(علي بن حسين) بن علي بن أبي طالب، زين العابدين، ثقة ثبت عابد فقيه فاضل مشهور [3] 78/ 95.

ص: 298

6 -

(الحسين بن علي) بن أبي طالب، أبو عبد اللَّه المدني، سبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وريحانته، حفظ عنه، واستشهد - رضي اللَّه تعالى عنه - بكَرْبَلاء يوم عاشوراء سنة (61) تقدم 78/ 95.

7 -

(علي بن أبي طالب) بن عبد المطلب بن هاشم، الهاشمي، ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأحد الخلفاء الراشدين - رضي اللَّه تعالى عنه -، مات سنة (40) 47/ 91. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها). أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من الزهريّ، وشيخه بغلانيّ، والباقيان مصريان. (ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، عن جدّه، ورواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر في "الفتح": أن هذا الإسناد من أصح الأسانيد، ومن أشرف التراجم الواردة فيمن روى عن أبيه، عن جدّه. وحكى الدارقطني أن كاتب الليث رواه عن الليث، عن عُقيل، عن الزهريّ، فقال:"عن علي بن الحسين، عن الحسن بن عليّ". وكذا وقع في رواية الحجاج بن أبي مَنِيع، عن جدّه، عن الزهريّ، في تفسير ابن مردويه، وهو وهَمٌ، والصواب:"عن الحسين"، ويؤيّده رواية حَكيم بن حَكيم، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه"، أخرجها النسائي

(1)

والطبريّ انتهى.

وقال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" بعد إيراد السند المذكور: ما نصه: هكذا ضبطناه "أن الحسين بن عَليّ" بضم الحاء على التصغير، وكذا في جميع نسخ بلادنا التي رأيتها مع كثرتها، وذكر الدارقطني في "كتاب الاستدراكات"، وقال: إنه وقع في رواية مسلم "أن الحسن" بفتح الحاء على التكبير، قال الدارقطنيّ: كذا رواه مسلم عن قتيبة، "أن الحسن بن علي"، وتابعه على ذلك إبراهيم بن نصر النهاونديّ، والجعفيّ، وخالفهم النسائيّ، والسرّاج، وموسى بن هارون، فرووه عن قُتيبة "أن الحسين" يعني بالتصغير، قال: ورواه أبو صالح، وحمزة بن زياد، والوليد بن صالح، عن ليث، فقالوا فيه:"الحسن"، وقال يونس المؤدب، وأبو النضر، وغيرهما عن ليث:"الحسين" يعني بالتصغير، قال: وكذلك قال أصحاب الزهريّ، منهم صالح بن كيسان، وابن أبي عَتيق، وابن جُريج، وإسحاق بن راشد، وزيد بن أبي أُنيسة، وشعيب، وحكيم بن

(1)

- هو الحديث الآتي بعد هذا.

ص: 299

حكيم، ويحيى بن أُبي أنيسة، وعُقيل من رواية ابن لَهِيعة عنه، وعبد الرحمن بن إسحاق، وعُبيد اللَّه بن أبي زياد، وغيرهم. وأما معمر، فأرسله عن الزهري، عن علي ابن الحسين.

وقول من قال، عن ليث:"الحسن بن علي" وَهَمٌ يعني من قاله بالتكبير، فقد غلط. هذا كلام الدارقطنيّ -رحمه اللَّه تعالى-. وحاصله أنه يقول: إن الصواب من رواية الليث "الحسين"، وقد بيّنّا أنه الموجود في روايات بلادنا. واللَّه أعلم انتهى كلام النووي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِب) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ) أي أتاه ليلاً، يقال: طَرَق النجمُ طُرُوقًا، من باب قَعَدَ: طَلَعَ، وكلّ ما أتى ليلاً، فقد طَرَقَ، وهو طارق. قاله في "المصباح". وفي رواية البخاريّ:"طرقه وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً"، فقوله:"ليلةً" للتأكيد، وحكى ابن فارس أن معنى "طرق" أتى، فعلى هذا يكون قوله:"ليلة" لبيان وقت المجيء، ويحتمل أن يكون المراد بقوله:"ليلة" أي مرّة واحدة. قاله في "الفتح".

(وَفَاطِمَةَ) بالنصب عطفًا على الضمير المنصوب (فَقَالَ: "أَلَا تُصَلُّونَ) بضمير الجمع، قال النووي رحمه الله: هكذا هو في الأصول "تصلّون"، وجمع الاثنين صحيح، لكن هل هو حقيقة، أو مجاز فيه الخلاف المشهور، الأكثرون على أنه مجاز، وقال آخرون: حقيقة انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: الأرجح أنه حقيقة، وإليه ذهب مالك رحمه الله، وشواهد في كتاب اللَّه تعالى وغيره كثيرة، كقوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وقوله:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]. واللَّه تعالى أعلم. وفي رواية البخاري: "ألا تصليان" بالتثنية، وهي واضحة.

(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ) اقتبس عليّ ذلك من قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية [الزمر: 42]. وفي الرواية التالية من طريق حكيم بن حكيم: "قال علي: فجلست، وأنا أعرُك

(3)

عيني، وأنا أقول: واللَّه ما نصلي إلا ما كتب اللَّه لنا، إنما أنفسنا بيد اللَّه". (فَإِذَا شَاءَ، أَنْ يَبْعَثَهَا) أي النفس، وفي رواية

(1)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 64.

(2)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 65.

(3)

- عرَكَه: دلكه، وحكّه حتى عفّاه. اهـ "ق".

ص: 300

البخاريّ: "أن يبعثنا بعثنا"(بَعَثَهَا) أي أيقظها، وأصله إثارة الشيء من موضعه.

(فَانْصَرَفَ) أي رجع (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ قُلتُ لَهُ ذَلِكَ) زاد في رواية البخاري: "ولم يَرجع إليّ شيئًا". أي لم يُجبني، وفيه أن السكوت يكون جوابًا، والإعراض عن القول الذي لا يطابق المراد، وإن كان حقّا في نفسه (ثُمّ سَمِعْتُهُ، وَهُوَ مُدْبِرٌ) لفظ البخاريّ: "مُوَلٍّ"(يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيَقُول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]) هذا إنكار لجدل علي رضي الله عنه، لأنه تمسك بالتقدير، والمشيئة في مقابلة التكليف، وهو مردود، ولا يتأتى إلا عن كثرة جدله، نعم التكليف هنا ندبيّ، لا وجوبي، فلذلك انصرف صلى الله عليه وسلم عنهما ، ولو كان وجوبيا لما تركهما على حالهما. أفاده السندي رحمه الله تعالى.

وقال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: المختار في معناه أنه تعجب من سُرعة جوابه، وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ، ولهذا ضرب فخذه، وقيل: قاله تسليما لعذرهما، وأنه لا عتب عليهما انتهى.

وقال في "الفتح": فيه جواز ضرب الفخذ عند التأسف، وقال ابن التين رحمه الله: كره احتجاجه بالآية المذكورة، وأراد منه أن ينسُب التقصير إلى نفسه. وفيه جواز الانتزاع من القرآن، وترجيح قول من قال: إن اللام في قوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ} للعموم، لا لخصوص الكفار. وفيه منقبة لعليّ رضي الله عنه، حيث لم يكتم

(1)

ما فيه عليه أدنى غَضَاضة، فقدّم مصلحة نشر العلم، وتبليغه على كتمه.

ونقل ابن بطال عن المهلب، قال: فيه أنه ليس للإمام أن يُشدّد في النوافل، حيث قنع صلى الله عليه وسلم بقول عليّ رضي الله عنه:"أنفسنا بيد اللَّه"، لأنه كلام صحيح في العذر عن التنقل، ولو كان فرضًا ما عذره. قال: وأما ضربه فخذه، وقراءته الآية، فدالّ على أنه ظنّ أنه أحرجهم، فندم على إنباههم. كذا قال، وأقرّه ابن بطال، قال الحافظ: وليس بواضح، وما تقدم أولى. انتهى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث علي - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 5/ 1611 - وفي "الكبرى" - 11/ 1311 - بالإسناد المذكور. وفي 5/

(1)

- يعني بذلك تحديث علي رضي الله عنه بهذا الحديث للناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 301

1612 -

عن عُبيد اللَّه بن سعد إبراهيم، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن حَكيم بن حَكيم بن عَبَّاد بن حُنيف، عن الزهريّ به، واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 62 و 9/ 131 أو 9/ 168 و 6/ 110 (م) 2/ 187 (أحمد) 1/ 91 و1/ 112 (البخاري في الأدب المفرد) 955 (ابن خزيمة) 1139 و 1140. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الترغيب في قيام الليل. ومنها: فضيلة صلاة الليل، وإيقاظ النائمين من الأهل والقرابة لذلك. قال الطبري رحمه الله: لولا ما عَلم النبي صلى الله عليه وسلم من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يُزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله اللَّه لخلقه سَكَنًا، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدَّعَة والسكون، امتثالاً لقوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية [طه: 132]. انتهى.

ومنها: أن فيه إثبات المشيئة للَّه تعالى، وأن العبد لا يفعل شيئًا إلا بمشيئة اللَّه تعالى، قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية [الإنسان: 30].

ومنها: أن فيه تعاهد الإمام، والكبير رعيّته بالنظر في مصالح دينهم ودنياهم. ومنها: أنه ينبغي للناصح إذا لم تُقبَل نصيحته، أو اعتُذر إليه بما لا يرتضيه أن ينكفّ، ولا يُعنّف إلا لمصحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1612 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى فَاطِمَةَ، مِنَ اللَّيْلِ، فَأَيْقَظَنَا لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَصَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمْ يَسْمَعْ لَنَا حِسًّا، فَرَجَعَ إِلَيْنَا، فَأَيْقَظَنَا، فَقَالَ: «قُومَا، فَصَلِّيَا». قَالَ: فَجَلَسْتُ، وَأَنَا أَعْرُكُ عَيْنِي، وَأَقُولُ إِنَّا وَاللَّهِ، مَا نُصَلِّى، إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، قَالَ: - فَوَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ، وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِهِ: «مَا نُصَلِّى إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا، {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عُبيد اللَّه بن سعد بن إبراهيم بن سعد) الزهريّ، أبو الفضل البغداديّ، قاضي أصبهان، ثقة [11] 17/ 480.

ص: 302

2 -

(يعقوب بن إبراهيم) بن سعد بن إبراهيم الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 314.

3 -

(إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 186/ 314.

4 -

(ابن إسحاق) هو محمد إمام المغازي، المدني، نزيل العراق، صدوق، يدلس، ورُمي بالتشيع والقدر، من صغار [5] 5/ 480.

5 -

(حَكيم بن حَكيم بن عَبّاد بن حُنَيف) الأنصاري الأوسيّ، صدوق [5].

روى عن ابن عمه أبي أمامة بن سهل، ومسعود بن الحكم الزُّرَقيّ، والزهريّ، وغيرهم. وعنه أخوه عثمان، وابن إسحاق، وسهيل بن أبي صالح، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان قليل الحديث، ولا يحتجّون بحديثه. وقال العجلي: ثقة.

وذكره ابن حبّان في "الثقات". وصحح حديثه الترمذيّ، وابن خزيمة، وغيرهما. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، والباقون تقدموا في السند الماضي.

وقوله: "هَويًا" بفتح الهاء، وتشد الياء التحتانية، قال في "النهاية": الْهَويُّ: الحين الطويل من الزمان، وقيل: هو مختصّ بالليل. وقال ابن سيده: مَضى هَويٌّ -أي بالفتح- من الليل، وهُويّ -أي بالضمّ- وتَهْوَاءٌ -أي بالفتح-: أي ساعة منه انتهى

(1)

.

وقوله: "وأنا أعرك" من باب نصر: أي أدلُكُ، يقال: عَرَكَه: دَلَكَه، وحَكَّه، حتى عَفَّاه. انتهى "ق". والجملة في محل نصب على الحال من الفاعل.

وقوله: "حِسّا" الحِسّ بالكسر، والْحَسِيسُ: الصوت الخفي. قاله في "المصباح".

وقال في "ق": الحسّ بالكسر: الحركة، وأن يمرّ بك قريبًا، فتسمعه، ولا تراه انتهى.

وقوله: "ما نصلي إلا ما كتب اللَّه لنا": مقول "يقول"، وجملة قوله:"ويضرب بيده الخ" معترضة، وإنما قال صلى الله عليه وسلم:"ما نصلي الخ" للإنكار على عليّ رضي الله عنه، حيث اعتذر إليه بما لا ينبغي الاعتذار به، وهو الاستناد إلى القَدَر، كما تقدّم الكلام عليه.

والحديث متَّفق عليه، وقد تقدم تمام شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "لسان العرب" مادة هوى.

ص: 303

‌6 - بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ اللَّيْلِ

1613 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هُوَ ابْنُ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(أبو عوانة) وضّاح بن عبد اللَّه اليشكُريّ الواسطيّ، ثقة ثبت [7] 41/ 46.

3 -

(أبو بِشْر) بن أبي وَحْشيّة جعفر بن إياس البصري، ثم الواسطي، ثقة [5] 13/ 520.

4 -

(حُميد بن عبد الرحمن) الحِميَريّ البصريّ، ثقة فقيه [3] 147/ 238.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى" هنا زيادة "وهو ابن عوف" وهو غلط؛ لأن حميدًا هذا هو الحميريّ، كما صرح به مسلم في "صحيحه"، لا ولد عبد الرحمن بن عوف، قال الحافظ في "النكت الظراف": وقع في رواية ابن السنّيّ: عن قتيبة، سنده: عن أبي بشر

(1)

، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف. وقوله:"ابن عوف"، وَهَمٌ من غير النسائيّ، وقد رواه غير ابن السنّيّ، فلم يقل فيه:"ابن عوف"، ونسبه مسلم في رواية "الحميريّ" انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: اعلم أن أبا هريرة رضي الله عنه يروي عنه اثنان، كل منهما حميد بن عبد الرحمن:(أحدهما): هذا الحميريّ. (والثاني): حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ. قال الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين" كلّ ما في "الصحيحين" حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، فهو الزهريّ، إلا في هذا الحديث خاصّة، وهذا الحديث لم يذكره البخاريّ في "صحيحه"، ولا ذِكرَ للحميريّ في البخاري أصلاً، ولا في مسلم إلا في هذا الحديث انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: قوله: "ولا ذكر للحميري في البخاري أصلًا ، ولا في مسلم الخ" إن أراد بقيد روايته عن أبي هريرة، فمسلم، وإن أراد مطلقًا ففيه نظر، فقد أخرج له

(1)

- وقع في "النكت""عن الزهريّ" بدل "عن أبي بشر"، وهو غلط بلا ريب، فإن الموجود من رواية ابن السنّي "عن أبي بشر" على الصواب، فتنبّه.

(2)

- "النكت الظراف" ج 9 ص 335 - 336 من هامش "تحفة الأشراف".

ص: 304

البخاري، ومسلم، والنسائيّ، وابن ماجه حديثه عن أبي بكرة رضي الله عنه "أي يوم هذا؟ وأي شهر هذا؟ وأيّ بلد هذا؟

" فتنبه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها). أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ) أي بعد فضل صيام شهر رمضان (شَهْرُ اللَهِ الْمُحَرَّمُ) قال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان أفضل -واللَّه تعالى أعلم- من أجل أن المحرّم أول السنة المستأنفة التي لم يجىء بعدُ رمضانُها، فكان استفتاحها بالصوم الذي هو من أفضل الأعمال، والذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنه ضياء، فإذا استفتح سَنَتَهُ بالضياء مشى فيه بقيتها. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى- بتغيير يسير

(1)

.

وفيه تصريح بأنه أفضل المشهور للصوم بعد رمضان.

[فإن قيل]: هذا يعارض ما صح من حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:"لم أره -تعني النبي صلى الله عليه وسلم صائمًا من شهر قطّ أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، يصوم شعبان إلا قليلا".

[أجيب]: عنه بجوابين: (أحدهما): لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه. (الثاني): لعله كان يعرض له فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، كسفر، ومرض، وغيرهما. أفاده النووي -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو الفضل العراقى رحمه الله في "شرح الترمذيّ": الحكمة في تسمية المحرّم شهر اللَّه، والشهور كلها للَّه يحتمل أن يقال: إنه لما كان من الأشهر الحرم التي حرّم اللَّه تعالى فيها القتال، وكان أول شهور السنة، أُضيف إليه إضافة تخصيص، ولم يصح إضافة شهر من المشهور إلى اللَّه تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهر اللَّه المحرّم انتهى

(3)

.

(1)

-"المفهم" ج 3 ص 235.

(2)

- "شرح مسلم" ج 8 ص 55.

(3)

- انظر "زهر الربى" ج 3 ص 207.

ص: 305

(وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لما اتفق العلماء عليه، أن تطوّع الليل أفضل من تطوّع النهار، وفيه حجة لأبي إسحاق المروزيّ من أصحابنا، ومن وافقه أن صلاة الليل أفضل من السنن الراتبة، وقال أكثر أصحابنا: الرواتب أفضل لأنها تشبه الفرائض، والأول أقوى، وأوفق للحديث. واللَّه أعلم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قوّاه النووي -رحمه اللَّه تعالى- من أن صلاة الليل أفضل من السنن الرواتب، هو الصواب، فإن ما استند إليه الأكثرون تعليل في مقابلة النصّ، وذلك باطل، ولقد أحسن منِ قال، وأجاد في المقال [من الوافر]:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمَا

تجُارِي في مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-6/ 1613 - وفي "الكبرى" 12/ 1312 - بالإسناد المذكور، وفي 6/ 1614 - و"الكبرى" 12/ 1313 - عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر، أنه سمع حميد بن عبد الرحمن يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه مرسلاً. وفي "الكبرى" أيضًا 117/ 2905 عن محمد بن قُدامة، عن جَرير- و 117/ 2906 - عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن زائدة- كلاهما عن عبد الملك بن عمير، عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 3/ 169 (د) 2429 (ت) 438 و 740 (ق) 1742 (أحمد) 2/ 303 و 2/ 329 و 2/ 342 و 2/ 535 (الدارمي) 1484 و 1764 و1765 (عبد بن حُميد) 1423 (ابن خزيمة) 1134 و 2076. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل صلاة الليل. ومنها: أن صلاة الليل أفضل من النوافل مطلقًا، حتى على السنن الرواتب. ومنها: أن صوم شهر اللَّه المحرّم أفضل الصيام مطلقًا بعد رمضان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 306

1614 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، قِيَامُ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ، الْمُحَرَّمُ» . أَرْسَلَهُ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وهو طريق آخر للحديث السابق، وسُويد بن نصر: هو المروزيّ، الملقّب بـ "شاه" راوية ابن المبارك. وعبد اللَّه: هو ابن المبارك الإمام المشهور. وشعبة: هو ابن الحجاج الإمام العلم المشهور.

وقوله: "أرسله شعبة بن الحجّاج. يعني أن شعبة خالف الرواة، فجعله عن حميد بن عبد الرحمن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلاً. لكن مثل هذا الإرسال لا يضرّ في صحة الحديث، فإن الأكثرين على وصله، فيقدّم وصلهم على إرساله، فقد رواه موصولاً أبو عوانة، عن أبي بشر، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الرواية السابقة، ووصله أيضًا جرير بن عبد الحميد، وزائدة بن قُدامة، وأبو عوانة، كلهم عن عبد الملك بن عمير، عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ولذا ذكر ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: أن الصحيح أنه متصل، حميد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونصه جـ1 ص254: سألت أبي عن حديث رواه عُبيد اللَّه بن عمرو، عن عبد الملك بن عمير، عن جندب بن سفيان، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصيام بعد شهر رمضان المحرّمُ". قال أبي: أخطأ فيه عُبيد اللَّه، الصواب ما رواه زائدة، وغيره عن عبد الملك بن عُمير، عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن، منهم من يقول: عن أبي هريرة، ومنهم من يُرسله، يقول: حميد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح متصل، حميد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

وقال أيضًا جـ1 ص 260: قال أبو زرعة: هكذا رواه عُبيد اللَّه بن عمرو، ورواه زائدة، وأبو عوانة، وجرير، عن عبد الملك بن عُمير، عن محمد بن المنتشر، عن حُميد بن عبد الرحمن الحميريّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تحصّل مما ذُكر أن الحديث متصلٌ مرفوعٌ، فلا يضرّه إرسال شعبة؛ لأن الحكم لمن وصله؛ لأن معهم زيادةَ علم، وهم الأكثرون. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- انظر "صحيح مسلم" 3/ 169 و "مسند أحمد" 2/ 303 و 2342 والدارامي 1484، وابن خزيمة 1134.

ص: 307

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌7 - فَضْلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ فِي السّفَرِ

1615 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيًّا، عَنْ زَيْدِ بْنِ ظَبْيَانَ، رَفَعَهُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عز وجل: رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا، فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَهُمْ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ، فَأَعْطَاهُ سِرًّا، لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ، إِلاَّ اللَّهُ عز وجل، وَالَّذِى أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ، مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، نَزَلُوا، فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي، وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَانْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ، حَتَّى يُقْتَلَ، أَوْ يُفْتَحَ لَهُ» .

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن المثنّى) أبو موسى العَنَزيّ البصري، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

2 -

(محمد) بن جعفر غُندَر البصري، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج المذكور في السند الماضي.

4 -

(منصور) بن المعتمر الكوفي، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

5 -

(رِبْعيّ) بن حِرَاش، أبو مريم العَبْسيّ الكوفيّ، ثقة عابد مخضرم [2] 8/ 508.

6 -

(زيد بن ظَبْيَان) -بفتح المعجمة، وسكون الباء الموحدة- الكوفيّ، مقبول [2].

روى عن أبي ذَرّ. وعنه رِبْعيّ بن حِرَاش. روى له الترمذيّ، والنسائيّ حديث الباب فقط. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وأخرج هو، وابن خُزيمة حديثه في "الصحيح". تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده في "كتاب الزكاة" برقم 75/ 2570.

7 -

(أبو ذرّ) جُندب بن جُنَادة الغفاري الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 203/ 322. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال

ص: 308

الصحيح، غير زيد بن ظبيان، فتفرّد به المصنف، والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من منصور، والباقون بصريون. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة الذين يرون عنهم بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ زَيْدِ بنِ ظَبْيَانَ، رَفَعَهُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ) أي نسب الحديث إلى أبي ذرّ الغفاريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ثَلَاَثة يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عز وجل) زاد في الرواية الآتية في "الزكاة": "وثلاثة يُبغضهم اللَّه عز وجل"(رَجُلٌ) بدل تفصيل من ثلاثة، أو خبر لمحذوف، أي أحدهم رجل الخ، قال السنديّ رحمه الله: ظاهره أن السائل أحد الثلاثة الذين يحبهم اللَّه، وليس كذلك، بل معطيه، فلا بدّ من تقدير مضاف، أي معطي رجل، وكذا قوله:"وقوم" بتقدير مضاف، أي وعابد قوم انتهى.

(أَتى قَومَا، فَسَأَلَهُمْ) حاجته (بِاللَّهِ، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ) يعني أن سؤاله لم يتسبب عن القرابة، وإنما هو سؤال مقرون بذكر اسم اللَّه تعالى، وفيه تعظيم اسم اللَّه تعالى (فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَهُمْ رَجُلٌ بأعْقَابِهمْ) يقال: تخلّف عن القوم: إذا قعد عنهم، ولم يذهب معهم. قاله في "المصباح".

والمعنى أنه خرج رجل من بينهم، بحيث صار خلفهم في ظهورهم، فقوله:"بأعقابهم" بمعنى ظهورهم بمنزلة التأكيد لما يدلّ عليه قوله: "فتخلّفهم". وفي الرواية الآتية في "الزكاة": "فتخلفه" بإفراد الضمير (فَأَعْطَاهُ سِرًّا، لَا يَعْلَمُ بِعَطيَّتهِ، إِلا اللَّه عز وجل، وَالَّذِي أَعْطَاهُ) أي الشخص المُعْطَى (وَقَوْمٌ) إعرابه كإعراب "رجل" السابق، وهو أيضًا على حذف مضاف، أي وعابد قوم الخ (سَارُوا لَيْلَتَهُمْ، حَتى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ، مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ) بالبناء للمفعول، أي مما يُجعل عَديلاً له، ومِثْلاً، ومساويًا في العادة (نَزَلُوا، فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ) كناية عن نومهم (فَقَامَ يَتَمَلقُنِي) هذا حكايته كلام اللَّه تعالى في شأن ذلك العابد. أي قام يتودّد إليّ بأحسن ما يكون.

والمَلَق بفتحتين: الزيادة في التودّد، والدعاء، والتضرّع فوق ما ينبغي. قاله في "النهاية"

(1)

. وقال الفيومي: ومَلِقْتُهُ مَلَقًا، ومَلِقتُ له أيضًا: تَوَدَّدته، من باب تَعِبَ، وتَمَلَّقْتُ له كذلك انتهى

(2)

.

(1)

- "نهاية ابن الأثير" ج 4 ص 358.

(2)

- "المصباح المنير".

ص: 309

(وَيَتْلُو آيَاتيْ) أي يقرأ القرآن (وَرَجُلٌ) هذا لا يحتاج إلى تقدير مضاف (كَانَ فِي سَرِيَّةِ) فعِيلة بمعنى فاعلة: القطعة من الجيش، سميت بذلك لأنها تَسري في خُفية، والجمع سَرَايَا، وسَرِيّات، مِثل عطيّة، وعَطَايَا، وعَطِيّات. قاله في "المصباح".

(فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَانْهْزَمُوا، فَأقْبَلَ بِصَدْرِهِ) تأكيد للإقبال؛ لأنه لا يكون إلا بالصدر (حَتَّى يُقْتَلَ) بالبناء للمفعول أي حتى يُسْتَشْهَد في سبيل اللَّه (أَوْ يُفْتَحَ لَهُ) أي بغلبته على العدوّ.

زاد في الرواية المذكورة: "والثلاثة الذين يُبغضهم اللَّه عز وجل: الشيخُ الزاني، والفقير المختالُ، والغني الظلوم" .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي ذرّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده زيد بن ظبيان، وهو مجهول الحال، لم يرو عنه غير رِبْعيّ بن حِرَاش؟.

[قلت]: زيد وثقه ابن حبان، وصحح حديثه هذا، وصححه أيضًا الترمذيّ [2568] وابن خزيمة [2456]، والحاكم [ج 2 ص 113]، ووافقه الذهبيّ، وهو كما قالوا، فقد رواه أحمد في "مسنده" [جـ5 ص 176] قال:

2102 -

حدثنا يزيد، أخبرنا الأسود بن شيبان، عن يزيد أبي العلاء، عن مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير، قال: بلغني عن أبي ذر حديث، فكنت أحب أن ألقاه، فلقيته، فقلت له: يا أبا ذر بلغني عنك حديث، فكنت أحب أن ألقاك، فأسألَك عنه، فقال: قد لقيت فأسأل، قال: قلت: بلغني أنك تقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاثة يحبهم اللَّه عز وجل، وثلاثة يبغضهم اللَّه عز وجل"، قال: نعم، فما أَخَالني أكذب على خليلي محمد صلى الله عليه وسلم، ثلاثا يقولها، قال: قلت: مَن الثلاثة الذين يحبهم اللَّه عز وجل؟، قال:"رجل غزا في سبيل اللَّه، فلقي العدو مجاهدا محتسبا، فقاتل حتى قتل، وأنتم تجدون في كتاب اللَّه عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، ورجل له جار يؤذيه، فيصبر على أذاه، ويحتسبه حتى يكفيه اللَّه إياه بموت، أو حياة، ورجل يكون مع قوم، فيسيرون حتى يشق عليهم الكَرَى، أو النعاس، فينزلون في آخر الليل، فيقوم إلى وضوئه وصلاته"، قال: قلت: مَن الثلاثة الذين يبغضهم اللَّه؟، قال:"الفخور المختال، وأنتم تجدون في كتاب اللَّه عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، والبخيل المنان، والتاجر، والبَيّاع الْحَلاّف"، قال: قلت: يا أبا ذر، ما المال؟ قال: فرق لنا وذود، يعني بالفرق غنما يسيرة، قال:

ص: 310

قلت: لست عن هذا أسأل، إنما أسألك عن صامت المال، قال: ما أصبح لا أمسى، وما أمسى لا أصبح، قال: قلت: يا أبا ذر مالك ولإخوتك قريش؟ قال: واللَّه لا أسألهم دنيا ، ولا أستفتيهم عن دين اللَّه تبارك وتعالى، حتى ألقى اللَّه ورسوله، ثلاثا يقولها. وهذا إسناد صحيح، يشهد للأول.

والحاصل أن حديث أبي ذرّ - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-7/ 1616 و 75/ 2570 وفي "الكبرى" 13/ 1314 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ت) 2568 (أحمد) 5/ 153 (ابن خزيمة) 2456 (ابن حبان)3349. (الحاكم) 2/ 113. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، فضل صلاة الليل في السفر. ومنها: استحباب التملّق للَّه تعالى بتلاوة القرآن، والدعاء، والتضرّع. ومنها: إثبات صفة المحبة للَّه تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، ومثله صفة البغض. ومنها: فضل صدقة السرّ. ومنها: فضل القتال عند إنهزام الجيش، والمصابرة على العدوّ حتى يُستشهد، أو يأتي الفتح من اللَّه تعالى.

ومنها: كون الزنى من الشيخ العاجز أقبح من غيره، وإنما كان كذلك، لضعف دواعيه، حيث كانت شهوته ضعيفة، فيدل على أن الحامل له عليه مجرد عدم المبالاة بالمحرّمات، ومثله الفقير المختال، أي المتكبر، والغني الظلوم، فما حمل هؤلاء على هذه المعاصي إلا مجرّد الاستهانة بأمر اللَّه تعالى ونهيه، حيث كانت الأسباب الداعية لهم إلى الوقوع في المعاصي ضعيفة، فاستحقّوا البغض من اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 311

‌8 - بَابُ وَقْتِ الْقِيَامِ

أي بيان الوقت الذي يُستحبّ فيه القيام لصلاة الليل.

1616 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ بِشْرٍ، هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ، قُلْتُ: فَأَيُّ اللَّيْلِ كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن إبراهيم) بن صُدْران أبو جعفر المؤذّن البصريّ، صدوق [10] 66/ 82.

2 -

(بِشر بن المفضّل) بن لاحق، الرّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج المذكور في الباب الماضي.

4 -

(أشعث بن سُليم) المحاربي الكوفي، ثقة [6] 90/ 112.

5 -

(أبوه) سُلَيم بن الأسود أبو الشعثاء المحاربي الكوفيّ، ثقة، من كبار [3] 90/ 112.

6 -

(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمداني، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم [2] 90/ 112.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود، والترمذيّ. (ومنها): أن الثلاثة الأولين بصريون، والباقون كوفيّون، غير عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة.

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مَسرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟، قَالَتِ: الدَّائِمُ) بالرفع لأنه خبر مبتدإ محذوف، أي هو الدائم، وقيل:

ص: 312

بالنصب. قال الطيبيّ: أي العمل الذي يدوم عليه صاحبه، ويستقرّ عليه عامله، ومن ثَمّ أدخل حرف التراخي في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الآية [فصّلت: 3، والأحقاف: 13]. والمراد بالدوام الملازمة العرفية، لا شمول الأزمنة، لأنه متعذّر. انتهى.

وقال القرطبي رحمه الله: وسبب محبته صلى الله عليه وسلم الدائم أن فاعله لا ينقطع عن عمل الخير، ولا ينقطع عنه الثواب والأجر، ويجتمع منه الكثير، وإذ قلّ العمل في الزمان الطويل، ولا تزال صحائفه مكتوبة بالخير، ومَصعَد عمله معمورًا بالبرّ، ويحصل به مشابهة الملائكة في الدوام. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

(قُلْتُ: فَأَيُّ اللَّيْل) يحتمل نصب "أيّ" على الظرفية و"يقوم"، ورفعه على أنه مبتدأ، خبره جملة قوله (كَانَ يَقُومُ؟) والرابط محذوف، أي "فيه". والمعنى في أيّ أوقات الليل كان يقوم، فيصلي، وفي رواية مسلم من طريق أبي الأحوص، عن الأشعث، عن مسروق. "سألت عائشة عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت لها: أي حين كان يصلي؟، قالت: إذا سمع الصارخ، قام، فصلى". (قَالَتْ: إِذَا سَمِعَ الصَّارخَ) أي يقوم إذا سمع صوت الصارخ، وهو الديك، قال النوويّ: هو المراد هنا باتفاق العلماء. وسمي صارخا، لكثرة صياحه.

وقال في "الفتح": وقع في "مسند الطيالسي" في هذا الحديث: الصارخُ الديكُ.

والصَّرْخَة: الصيحة الشديدة، وجرت العادة بأن الديك يصيح عند نصف الليل غالبًا، قاله محمد بن نصر، وقال ابن التين: هو موافق لقول ابن عباس رضي الله عنهما: "نصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل". وقال ابن بطال: الصارخ يصرخ عند ثلث الليل، وكان داود

(2)

يتحرّى الوقت الذي ينادي اللَّه فيه "هل من سائل؟ "، كذا قال، والمراد بالدوام قيامه كل ليلة في ذلك الوقت، لا الدوام المطلق.

قال صاحب "المرعاة" لعل صراخ الديك في الليل يختلف باختلاف البلاد، وفي بلادنا يصيح في الثلث الأخير، بل في السدس الأخير، وروى أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن زيد بن خالد الجهني، مرفوعًا:"لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة". وإسناده جيّد

(3)

، وفي لفظ "فإنه يدعو إلى الصلاة". وليس المراد أن يقول بصراخه حقيقةً: الصلاة، بل العادة جرت أنه يَصرُخ صرخات متتابعات عند طلوع الفجر، وعند الزوال،

(1)

- "المفهم" ج2 ص 375 - 376.

(2)

- هكذا نسخة الفتح "وكان داود"، ولا ذكر لداود في هذا الحديث، فليُنظَر.

(3)

- حديث صحيح أخرجه أحمد برقم 21171، وأبو داود 5101.

ص: 313

فطرةً فَطَرَه اللَّه عليها، فيذكّر الناس بصراخه الصلاة. قاله القسطلاني انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-8/ 1616 وفي "الكبرى" 14/ 1316 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 63 و 8/ 122 (م) 2/ 167 (د) 1317 (أحمد) 6/ 94 و 6/ 110 و 6/ 147 و 6/ 203 و 6/ 279 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان الوقت الأفضل لقيام الليل، وهو وقت صُراخ الديك. ومنها: بيان أن قيام النبي صلى الله عليه وسلم الغالب كان في النصف الأخير من الليل، أو قبله بقليل، في الوقت الذي يصيح فيه الديك، وإنما اختار ذلك لأنه وقت نزول الرحمة، وهدوء الأصوات. ومنها: أن أحبّ الأعمال إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الدائم الذي لا ينقطع، وهذا بمعنى الحديث الآخر "أحبّ الأعمال إلى اللَّه ما داوم عليه صاحبه، وإن قلّ". ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم بعض الليل، لا كلّه، لما يترتّب عليه من الملل والسآمة، وإضعاف البدن بالسهر. ومنها: استحباب الاقتصاد في العبادة، وترك التعمّق فيها؛ لأن ذلك أنشط، والقلب به أشدّ انشراحًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌9 - بَابُ ذِكْرِ مَا يُسْتَفْتَحُ بِهِ الْقِيَامُ

أي باب ذكر الأحاديث الدالّة على الأذكار التي يُستحبّ افتتاح صلاة الليل بها.

1617 -

أَخْبَرَنَا عِصْمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ

(1)

- "المرعاة" ج 4 ص 195.

ص: 314

صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَزْهَرُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، بِمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَسْتَفْتِحُ قِيَامَ اللَّيْلِ؟ ، قَالَتْ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ، مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُكَبِّرُ عَشْرًا، وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيُسَبِّحُ عَشْرًا، وَيُهَلِّلُ عَشْرًا، وَيَسْتَغْفِرُ عَشْرًا، وَيَقُولُ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عِصمة بن الفضل) النُّمَيريّ -بضم النون-، أبو الفضل النيسابوريّ، نزيل بغداد، ثقة [11].

روى عن زيد بن الْحُبَاب، ويحيى بن آدم، وحسين الجعفيّ، وغيرهم. وعنه النسائيّ، وابن ماجه، والدارميّ، وأبو حاتم، وغيرهم. قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال مسلمة بن القاسم: لا بأس به. وروى عنه بَقِيّ بن مَخْلَد، ولا يروي إلا عن ثقة. تفرد به المصنّف، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم (1617) و (3117) و (4672).

2 -

(زيد بن الْحُبَاب) العُكليّ، أبو الحسين الكوفي، صدوق [9] 33/ 37.

3 -

(معاوية بن صالح) الحمصي، صدوق له أوهام [7] 50/ 62.

4 -

(الأزهر بن سعيد) الْحَرَازيّ

(1)

-بمهملة، وراء خفيفة، وبعد الألف زاي- الحمصيّ، صدوق [5].

روى عن أبي أمامة الباهليّ، وعبد الرحمن بن السائب، وعاصم بن حُمَيد السَّكُوني، وغيرهم. وعنه معاوية بن صالح، ومحمد بن الوليد الزُّبَيديّ. قال ابن سعد: كان قليل الحديث، مات سنة (129) وقال ابن أبي عاصم: سنة (28). قال الحافظ: أكثرهم على أن أزهر بن عبد اللَّه الحَرَازيّ هو أزهر بن سعيد الحَرَازيّ. قال البخاريّ: أزهر بن

عبد اللَّه، وأزهر بن سعيد، وأزهر بن يزيد واحد، نسبوه مرة مراديًا، ومرّة هَوْزَنيّا، ومرة حَرَازيّا، ووافقه جماعة على ذلك. وثقه العجليّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، لكنه فرق بين أزهر بن سعيد، وبين أزهر بن عبد اللَّه. وقال النسائي في "كتاب الاستعاذة" 63/ 5535 - يقال: له: الحرازيّ شاميّ عزيز الحديث.

وقال ابن الجارود في كتاب "الضعفاء": كان يسبّ عليّا. وقال أبو داود: إني لأُبغض

(1)

- الحَرَازي" بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الراء- نسبة إلى حَرَاز بوزن سحاب بطن من ذي الكلاع. وقيل: مِخلاف باليمن قرب زَبيد، سمي باسم بطن من حمير.

ص: 315

أزهر الحرازيّ، ثم ساق بإسناده إلى أزهر، قال: كنت في الخيل الذين سَبَوا أنس بن مالك، فأتينا به الحجّاج وذكر ابن الجوزيّ، عن الأزديّ، قال: يتكلمون فيه. قال الحافظ: لم يتكلّموا إلا في مذهبه. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وأعاده في "كتاب الاستعاذة" برقم (5535) وحديث رقم (4874).

5 -

(عاصم بن حُمَيد) السكوني الحمصيّ، صدوق مخضرم [2] 102/ 1049.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين غير شيخه، فنيسابوريّ، ثم بغداديّ، وزيد بن الحباب، فكوفيّ، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَاصِم بْنِ حُمَيْدٍ) السكونيّ، أنه (قَالَ:، سَأَلْتُ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (بِمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"ما" استفهامية، ولم تحذف ألفها مع كونها مجرورة على قلّة، وفي نسخة: "بما كان يستفتح قيام الليل؟ -يعني النبي صلى الله عليه وسلم (يَسْتَفْتِحُ) السين، والتاء زائدتان للتوكيد. ولفظ أبي داود: بأيّ شيء كان يفتتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قيام الليل؟ (قِيَامَ اللَّيْلِ؟) أي صلاة الليل، ففيه إطلاق العام الذي هو قيام الليل، وإرادة الخاصّ، وهو الصلاة.

(قَالَتْ: لَقَدْ سأَلْتَني عَنْ شَيْءِ، مَا سأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ) جملة معترضة بين السؤال والجواب، والغرض منه تحسين السؤال، وتنشيط السائل بالثناء عليه (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يكَبِّرُ عَشْرًا) قال السندي رحمه الله: أي مع تكبيرة التحريم، أو بعده، وأما أنه كان يقول قبل الشروع في الصلاة فبعيد انتهى. (وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيسَبِّحُ عَشْرًا، وَيُهَلِّلُ عَشْرًا، وَيَسْتَغْفِرُ عَشْرًا) تعني أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة ليلاً، وكبّر تكبيرة الإحرام، قال:"اللَّه أكبر" عشرًا، "والحمد للَّه" عشرًا، "وسبحان اللَّه" عشرًا، و"لا إله إلا اللَّه" عشرًا، و"أستغفر اللَّه" عشرًا (وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي) أي من البلاء الحسيّ والمعنويّ في الدنيا والآخرة (أَعُوذُ بِاللَّهِ) أي أتحصّن باللَّه تعالى، وألتجىء إليه (مِنْ ضِيقِ الْمَقَام) من ضاق الشي ضَيقًا، من باب سارَ، والاسم الضِّيق بالكسر:

ص: 316

خلاف اتسع. و"المقام" بفتح الميم: محلّ القيام (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) دل الحديث على أنه يستحب افتتاح صلاة الليل بهذه الأذكار .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-9/ 1617 - وفي "الكبرى" 15/ 1317 - بالإسناد المذكور، وفي 63/ 5535 - عن إبراهيم بن يعقوب، عن زيد بن الْحُباب به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (د) 766 (ق)1356. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1618 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، يَقُولُ:«سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ، الْهَوِيَّ، ثُمَّ يَقُولُ:«سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» ، الْهَوِيَّ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزيّ الملقّب بشاه، راوية ابن المبارك، ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(عبد اللَّه) بن المبارك الحنظليّ المروزي الإمام الحجة الثبت [8] 32/ 36.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة اليمنى، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عَمْرو الدمشقيّ، ثقة إمام [7] 45/ 56.

5 -

(يحيى بن أبي كثير) اليمامي، ثقة ثبت مُدلّس [5] 23/ 24.

6 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدني، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

7 -

(ربيعة بن كعب الأسلميّ) أبو الفِرَاس المدني، صحابيّ من أهل الصّفّة - رضي اللَّه تعالى عنه - 169/ 1138. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرد به هو والترمذي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ.

ص: 317

(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث عند مسلم، وأصحاب السنن. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ رَبيعَةَ بنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ) وعند أحمد "كنتَ أنام"(عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي عند باب الحُجْرة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقدم في 169/ 1138 قال: "كنت آتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بوَضُوئه، وبحاجته، فقال

". وفي رواية لأحمد: قال: كنت أخدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقوم له في حوائجه، نهاري أجمع، حتى يصلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، فأجلس ببابه، إذا دخل بيته، أقول: لعلها أن تحدث لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجة، فما أزال أسمعه، يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سبحان اللَّه سبحان اللَّه، سبحان اللَّه، وبحمده، حتى أَمَلَّ، فأرجع، أو تغلبني عيني، فأرقد

وقد تقدّم بطوله في 169/ 1138.

(فَكُنْتُ أَسْمَعُه) بصيغة المتكلّم، والضمير المنصوب للنبي صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض، أي قام يصلى في الليل، والظاهر أنه يقول ذلك بعد الدخول في الصلاة (يَقُولُ:"سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، الهَويَّ) بفتح الهاء، وكسر الواو، وتشدّد الياء، والنصب على الظرفية، قال: في "النهاية": "الْهَويُّ: الحيُن الطويلُ من الزمان، وقيل: مختصّ بالليل. (ثم يَقُولُ. "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبحَمْدِهِ"، الْهَوِيَّ) وفي رواية لأحمد فكنت أسمعه إذا قام من الليل، يصلي، يقول: "الحَمد للَّه رب العالمين" الهَويّ، قال: ثم يقول: "سبحان اللَّه العظيم وبحمده" الهويّ. وفي رواية له. أيضًا: كنت أبيت عند باب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أعطيه وَضوءه، فأسمعه بعد هَوِيّ من الليل، يقول: "سمع اللَّه لمن حمده"، وأسمعه بعد هَويّ من الليل يقول: "الحمد للَّه رب العالمين"

(1)

واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وتقدم في 169/ 1138 - وتقدم تخريجه هناك، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1619 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَحْوَلِ، يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، يَتَهَجَّدُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ،

(1)

- انظر "المسند" ج 4 ص 57.

ص: 318

وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ حَقٌّ، وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، لَكَ أَسْلَمْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ». ثُمَّ ذَكَرَ قُتَيْبَةُ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا:«وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيية بن سعيد) تقدم قبل بابين.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة المثبت [8] 1/ 1.

3 -

(سُليمان بن أبي مسلم الأحول) المكي، خال ابن أبي نَجيح، قيل: اسم أبيه عبد اللَّه، ثقة [5].

روى عن طاوس، وعطاء، ومجاهد، وغيرهم. وعنه ابن جريج، وشعبة، وابن عيينة، وغيرهم.

وثقه ابن عيينة، وأحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي، والعجليّ، وابن وضّاح، وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا، وحديث رقم (2920) وأعاده برقم (2921) و (3810) و (3811) وحديث رقم (5650).

4 -

(طاوس) بن كيسان اليماني، ثقة ثبت فقيه [3] 27/ 31.

5 -

(ابن عباس) الحبر البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ) في رواية مالك، عن أبي الزبير، عن طاوس:"إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل"، وظاهر السياق أنه كان يقوله أولَ ما يقوم إلى الصلاة، وترجم عليه ابن خزيمة "الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا التحميد بعد أن يكبر"، ثم ساقه من طريق قيس بن

ص: 319

سعد، عن طاوس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجّد، قال بعد ما يكبّر: "اللهم لك الحمد"

(1)

.

ولأبي داود من هذا الوجه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام للتهجّد قال بعد ما يقول: "اللَّه أكبر

".

(يَتَهَجَّدُ) أي يَسهَر بصلاة، قال الفيّومي: هَجَدَ هجُودًا، من باب قَعَد: نام بالليل، فهو هاجد، والجمع هُجُود، مثل راقد، ورُقُود، وقاعد، وقعود، وواقف، ووُقُوف، وهُجَّد أيضا مثل رُكَّع، وهَجَد أيضًا: صلى بالليل، فهو من الأضداد، وتهجّد: نام ، وصلى، كذلك انتهى.

وقال في "الفتح": وتفسير التهجّد بالسَّهَر معروف في اللغة، وهو من الأضداد، يقال: تهجّد: إذا سَهِرَ، وتهجّد: إذا نام، حكاه الجوهريّ وغيره. ومنهم من فرّق بينهما، فقال: هَجَدتُ: نِمْتُ، وتهجّدتُ: سَهِرتُ، حكاه أبو عبيدة، وصاحب "العين"، فعلى هذا الهُجُود النوم، ومعنى تهجدت: طرحت عنّي النوم. وقال الطبريّ: التهجد السهَرُ بعد نومة، ثم ساقه عن جماعة من السلف. وقال ابن فارس المتهجّد المصلي ليلاً. وقال كراع: التهجّد صلاة الليل خاصّة انتهى

(2)

.

(قَالَ:) جملة في موضع نصب خبر "كان"، و"إذا" لمجرد الظرفية، أي كان عليه السلام عند قيامه من الليل، متهجدًا، يقول. وقال الطيبيّ: الظاهر أن "قال" جواب "إذا"، والجملة الشرطية خبر "كان" انتهى. (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ) قَدَّمَ الخبرَ للدلالة على التخصيص (أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ) أي منوّرهما، وبك يَهتدي من فيهما. وقيل: المعنى أنت المنزّه عن كلّ عيب، يقال: فلان مُنَوَّر، أي مبرّأ من كلّ عيب، ويقال: هو اسم مدح، تقول: فلان نُورُ البلد، أي مزيّنه.

قاله في "الفتح". وقال القرطبيّ: أي منوّرهما في قول الحسن، دليله قراءة عليّ رضي الله عنه "اللَّه نَوّرَ السموات" بفتح النون، والواو مشدّدة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هادي أهلهما، وقال مجاهد: مُدبّرهما، وقيل. هو المنزّه في السموات والأرض من كلّ عيب، من قول العرب: امرأة نَوارة، أي مبرّأة من كلّ ريبة. وقيل: اسم مدح، يقال: فلان نُور البلد، وشمس الزمان، كما قال النابغة:[من الطويل]

فَإِنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ

إِذَا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ

وقال الآخر: [من الطويل]

(1)

- "فتح" ج 3 ص 306.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 306.

ص: 320

إَذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ فِي مَرْوَ لَيلَةَ

فَقد سَارَ فِيهَا نُورُهَا وَجَمَالُهَا

وقال أبو العالية. مُزَيِّن السموات بالشمس، والقمر، والنجوم، ومزيّن الأرض بالأنبياء، والأولياء، والعلماء. انتهى

(1)

.

ولفظ، "الكبرى"، وهي رواية لمسلم:"أنت رب السموات والأرض" بدل "نور السموات الخ": أي مصلحهما، ومصلح مَن فيهما، مْأخوذ من الرّبّة، وهي نبت تصلح عليه المواشي، يقال: ربّ يرُبّ رَبّا، فهو رابّ، وربّ، ورَبَّى يرَبِّي تَرْبية، فهو مربّ، قال النابغة:[من الطويل]

وَرَبَّ عَلَيْهِ اللَّهُ أَحَسَنَ صُنْعَهُ

وقال آخر: [من الطويل]

يَرُبُّ الَّذِي يَأتِي مِنَ الْخَيْرِ أَنَّهُ

إِذَا فَعَلَ الْمَعرُوفَ زَادَ وَتَمَّمَا

والربّ أيضا السيّد، فيكون معناه أنه سيد من في السموات والأرض. والربّ المالك: أي هو مالكهما، ومالك من فيهما. قاله في "المفهم".

(وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ) قَيّام على المبالغة، من قام بالشيء: إذا هيّأ له ما يحتاج إليه، ويقال. قَيُّوم، وقَيّام، وقَيِّم، وقرأ عمر:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وعلقمةُ. القيّم. وقال قتادة: هو القائم بتدبير خلقه، وقال الحسن: القائم على كلّ نفس بما كسبت، وقال ابن جُبير. الدائم الوجود، وقال ابن عباس: الذي لا يحول، ولا يزول. قاله في "المفهم".

وفي "المرعاة": أي القائم بأمرِ وتدبيرِ السماوات والأرض وغيرها. وفي رواية "قيّم، وفي أخرى "قيّوم"، وهي من أبنية المبالغة، وهي من صفات اللَّه تعالى، ومعناها واحد. وقيل: "القيّم": معناه القائم بأمور الخلق، ومدبّر العالم في جميع أحواله، و"القيّام": القائم بنفسه، بتدبير خلقه المقيم لغيره، و"القيّوم": من أسماء اللَّه تعالى المعدودةِ، وهو القائم بنفسه مطلقًا، لا بغيره، وهو مع ذلك يقوم به كلّ موجود حتى لا يتصوّر وجود شيء، ولا دوام وجوده إلا به انتهى.

وهذه الجملة تعليل للحمد، فكأنه يقول: إنما حمدتك، لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات، وتراعيها، وتؤتي كل شيء ما به قوامه، وما به يَنتفع إلى غير ذلك، وتكرير الحمد المُخَصَّص للاهتمام بشأنه، ولِيُنَاط به كلَّ مرة معنى آخر.

(وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) بكسر اللام، أي المتصرّف فيهما

(1)

-"المفهم" ج 2 ص 396 - 397.

ص: 321

تصرّفا كليّا، مُلكًا، ومِلكًا، ظاهرا وباطنا، لا نزاع في مُلكه، ولا شريك له في مِلكه.

(وَمَنْ فِيهِنَّ) عبّر بـ "من" تغليبًا للعقلاء، لشرفهم، وإلا فهو ربّ كلّ شيء، ومليكه (وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ حَقٌّ) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شكّ. وقال القرطبي: أي واجب الوجود، وأصله من حَقَّ الشيء: إذا ثبتَ، ووجبَ، ومنه قوله تعالى:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} الآية [الزمر: 19]، وقوله:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} الآية [السجدة: 13]، أي ثَبَت، ووجب.

وهذا الوصف للَّه سبحانه وتعالى بالحقيقة والخصوصية، لا ينبغي لغيره، إذ وجوده لنفسه، فلم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، وما عداه ممن يقال عليه هذا الاسم، مسبوق بعدم، ويجوز عليه لَحَاق العدم، ووجوده من مُوجده، لا من نفسه، وباعتبار هذا المعنى كان أصدقَ كلمة قالها الشاعر كلمةُ لبيد:[من الطويل]

أَلَا كُلُّ شَيْء مَا خلَا اللَّهَ بَاطِلُ

وإليه الإشارة بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] انتهى. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون معناه. أنت الحقّ بالنسبة إلى من يدّعى فيه أنه إله، أو بمعنى أن من سمّاك إلها فقد قال الحق انتهى.

(وَوَعْدُكَ حَقٌّ) أي صادق لا يمكن التخلّف فيه، وفي رواية البخاري:"ووعدك الحقّ" بالتعريف، قال في "الفتح": وعرّفه، ونكّر ما بعده، لأن وعده مختصّ بالإنجاز، دون وعد غيره، والتنكير في البواقي للتعظيم قاله الطيبيّ. زاد في رواية الشيخين "ولقاءك حقّ" وهو عبارة عن مآل الخلق في الدار الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال، وفيه الإقرار بالبعث بعد الموت. وقيل معنى "لقاؤك حقّ": أي الموت، وأبطله النووي. وزاد أيضًا:"وقولك حقّ" أي مدلوله ثابت.

(وَالجَنَّةُ حَقٌّ) هذا وما بعده داخل تحت الوعد، لكن الوعد مصدر، وما بعده هو الموعود به، ويحتمل أن يكون من عطف الخاصّ على العامّ (وَالنَّارُ حَقٌّ) فيه إشارة إلى أن الجنة والنار موجودتان الآن (وَالسَّاعَةُ حَقٌّ) أي يوم القيامة آتية لا ريب فيها، وأصل "الساعة" القطعة من الزمان، لكن لما لم يكن هناك كواكب تُقدَّر بها الأزمان، سمّيت بذلك.

وإطلاق اسم الحقّ على هذه الأمور كلها معناه أنها لابدّ من كونها، وأنها مما ينبغي أن يصدق بها، وتكرارُ الحقّ في تلك المواضع على جهة التأكيد، والتفخيم، والتعظيم لها انتهى. (وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ) صلى الله عليه وسلم (حَقٌّ) خصّه بالذكر تعظيما له، وعطفه على النبيين إيذانًا بالتغاير بأنه فائق عليهم بأوصاف مختصّة به، فإن تغاير الوصف ينزّل منزلة تغاير الذات.

(لَكَ أَسْلَمْتُ) أي انقدت، وخضعت (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أي فوضت أمري إليك، لا

ص: 322

إلى الأسباب العاديّة، وإن كنتُ آخذا بها، فإن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، وإنما ينافيه الاعتماد عليها (وَبِكَ آمنْتُ") أي صدّقت بك، وبكلّ ما أخبرت، وأمرت، ونهيت. زاد في رواية الشيخين:"وإليك أنبت"، أي أطلعت، ورجعت إلى عبادتك، أي أقبلت عليها، وقيل: معناه رجعت إليك. قاله النووي -رحمه اللَّه تعالى-. قال المصنف رحمه الله (ثُمَّ) بعد أن ذكر هذه الأشياء (ذَكَرَ قُتَيْبَةُ كَلِمَةً) الظاهر أن المراد بالكلمة الجمل الآتية (مَعْنَاهَا: "وَبِكَ خَاصَمْتُ) أي بما أعطيتني من البراهين والقوّة، وبما لقّنتني من الحجج خاصمت من عاند فيك، وكفر بك، وقمعتُهُ بالحجة والسيف (وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ) أي رفعت أمري إليك، والمحاكمة رفع الأمر إلى القاضي. وقال النووي رحمه الله: أي كلُّ من جحد الحقّ حاكمته إليك، وجعلتك الحَكَم بيني وبينه، لا غيرك، مما كانت تتحاكم إليه الجاهلية، وغيرهم، من صنم، وكاهن، ونار، وشيطان، وغيرها، فلا أرضى إلا بحكمك، ولا أعتمد غيره انتهى.

وقال في "الفتح": قدّم مجموع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص، وإفادةً للحصر، وكذا قوله:"ولك الحمد" انتهى.

(اغْفِرْ لِي) وفي رواية الشيخين: "فاغفر لي"، قال ذلك مع كونه مغفورًا له إما على سبيل التواضع، والهضم لنفسه، وإجلالا، وتعظيمًا لربّه، أو على سبيل التعليم لأمته، لتقتدي به فيه، كذا قيل. والأولى أنه لمجموع ذلك، وإلا لو كان للتعليم فقط لكفى فيه أمرهم بأن يقولوا ذلك. أفاده في "الفتح"(مَا قَدَّمْتُ) أي قبل هذا الوقت (وَمَا أَخَّرْتُ) عنه (وَمَا أَعْلَنْتُ) هكذا نسخ "المجتبى" ليس فيها "وما أسررت"، والذي في "الكبرى":

"وما أسررت، وما أعلنت"، وهو الذي في "الصحيحين" وغيرهما، والظاهر أنه سقط سهوًا من بعض نُسّاخ "المجتبى". واللَّه تعالى أعلم.

والمعنى: اغفر لي ما أخفيت، وما أظهرت، أو ما حدّثتُ به نفسي، وما تحرّك به لساني، زاد في رواية عند البخاري:"وما أنت أعلم به مني"، وهو من ذكر العام بعد الخاصّ.

(أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ) قال المهلّب. أشار بذلك إلى نفسه؛ لأنه المقدَّم في البعث في الآخرة، والمؤخَّر في البعث في الدنيا. انتهى. وقال القاضي عياض رحمه الله: قيل: معناه المنزِّل للأشياء منازلها، يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويُعزّ من يشاء، وُيذلّ من يشاء، وجعل عباده بعضهم فوق بعض درجات. وقيل: هو بمعنى الأول، والآخر، إن كلّ متقدّم على متقدّم فهو قبله، وكلّ متأخّر على متأخر فهو بعده، ويكون المقدم والمؤخّر بمعنى الهادي، والمضلّ، قدّم من شاء لطاعته، لكرامته، وأخر من

ص: 323

شاء بقضائه، لشقاوته انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المعنى الأول مما ذكر عياض رحمه الله هو الأظهر عندي. واللَّه تعالى أعلم.

قال الكرماني رحمه الله: هذا الحديث من جوامع الكلم؛ لأن لفظ "القيّم" إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه، و"النور" إشارة إلى أن الأعراض أيضا منه، و"الملك" إشارة إلى أنه حاكم عليها إيجادًا وإعدامًا، يفعل ما يشاء، وكلّ ذلك من نعم اللَّه على عباده، فلهذا قَرَن كلاّ منها بالحمد، وخصّص الحمد به. ثم قوله:"أنت الحقّ" إشارة إلى المبدإ، والقول ونحوه إلى المعاش، والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد، وفيه الإشارة إلى النبوّة، وإلى الجزاء ثوابًا وعقابًا، ووجوب الإيمان، والإسلام، والتوكل، والإنابة، والتضرّع إلى اللَّه، والخضوع له انتهى.

(لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) أي لا معبود بحقّ إلا أنت الواحد الأحد الصمد (وَلَا حَوْلَ وَلَا قوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ") قيل معناه. لا حول عن المعصية، ولا قوّة على الطاعة، إلا بتوفيق اللَّه. قاله الفيومي.

[تنبيه]: ظاهر سياق المصنف -رحمه اللَّه تعالى- أن قوله: "ولا حول ، ولا قوّة، إلا باللَّه" من رواية سفيان، عن سليمان الأحول، وليس كذلك، فإن البخاري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قال بعد أن أخرج الحديث من طريق سفيان، عن سليمان، عَقِبَ قوله:"لا إله إلا أنت"، أو "لا إله غيرك": ما نصّه: قال سفيان: وزاد عبد الكريم أبو أمية: "ولا حول، ولا قوة إلا باللَّه" انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا موصول بالإسناد الأول، ووَهِمَ من زعم أنه معلّق، وقد بيّن ذلك الحميديّ في "مسنده" عن سفيان، قال:"حدثنا سليمان الأحول خال ابن أبي نَجِيح، سمعت طاوسًا"، فذكر الحديث، وقال في آخره: قال سفيان: وزاد عبد الكريم: "ولا حول، ولا قوّة إلا بك". ولم يقلها سليمان. وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق إسماعيل القاضي، عن علي بن عبد اللَّه بن المدينيّ، شيخ البخاري فيه، فقال في آخره: قال سفيان: وكنت إذا قلت لعبد الكريم: آخر حديث سليمان "ولا إله غيرك" قال: "ولا حول، ولا قوّة إلا باللَّه"، قال سفيان. وليس هو في حديث سليمان انتهى.

ومقتضى ذلك أن عبد الكريم لم يذكر إسناده في هذه الزيادة، لكنه على الاحتمال، ولا يلزم من عدم سماع سفيان لها من سليمان أن لا يكون سليمان حدّث بها، وقد وَهِمَ

(1)

- انظر "زهر الربى" ج 3 ص 210 - 211.

ص: 324

بعض أصحاب سفيان، فأدرجها في حديث سليمان، أخرجه الإسماعيلي، عن الحسن ابن سفيان، عن محمد بن عبد اللَّه بن نمير، عن سفيان، فذكرها في آخر الخبر بغير تفصيل انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. قد تبين بهذا أن هذه الزيادة مدرجة في حديث سفيان، عن سليمان، في رواية المصنف، إما منه، أو من شيخه قتيبة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق يهذا الحديث:

المسألة الأولى. في درجته: حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-9/ 1619 - وفي "الكبرى" 17/ 1319 - بالإسناد المذكور، وفي "عمل اليوم والليلة" 868 - عن قتيبة، عن مالك بن أنس، عن أبي الزبير المكيّ، عن طاوس به. وفي "الكبرى" عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة- وعن محمود بن غيلان، وعبد الأعلي بن واصل، كلاهما عن يحيى بن آدم، عن الثوري، عن ابن جريج- كلاهما عن سليمان الأحول به. وعن محمد بن مَعمَر، عن حماد بن مسعدة، عن عمران بن مسلم، عن قيس بن سعد، عن طاوس به

(2)

واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 60 و 8/ 86 و 9/ 144 و 9/ 162 و 9/ 176 (م) 2/ 184 (د) 771 (ت) 3418 (ق) 1355 (مالك في الموطإ) 150 (الحميدي) 495 (أحمد) 1/ 298 و1/ 308 و 10/ 358 و10/ 366 (عبد بن حميد) 621 (الدارمي) 1494 (البخاري) في "الأدب المفرد" 697 وفي "خلق أفعال العباد" 78 (ابن خزيمة)1152. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو بيان ما تُستفتح به صلاة الليل من الأذكار. ومنها: زيادة معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بعظمة ربّه، وعظيم قدرته، ومواظبته على الذكر، والدعاء، والثناء على ربه، والاعتراف له بحقوقه، والإقرار بصدق وعده ووعيده. ومنها. استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم. واللَّه

(1)

- "فتح" ج 3 ص 308.

(2)

- هذه الأسانيد التي عزوتها لـ "الكبرى" لم أرها فيه، وإنما ذكرها في "تحفة الأشراف". واللَّه أعلم.

ص: 325

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.

1620 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

مَخْرَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَالَتُهُ، فَاضْطَجَعَ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ، فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ قَلِيلاً، أَوْ بَعْدَهُ قَلِيلاً، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسَ، يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِيمَ، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ، فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى، عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى، يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) المراديّ المصريّ، ثقة ثبت [10] 19/ 20

2 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن المصري ثقة فقيه، من كبار [10] 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الفقيه الحجة الثبت [7] 7/ 7.

4 -

(مخرمة بن سليمان) الأسديّ الوالبيّ المدنيّ، ثقة [5] 41/ 686.

5 -

(كريب) بن أبي مسلم، مولى ابن عباس، المدني، أبو رِشْدِين، ثقة [3] 161/ 253.

6 -

(ابن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما - تقدم في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، والباقون مصريّون. (منها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ كُرَيْبٍ، أَنِّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَباسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَخْبَرَهُ، أنَهُ بَاتَ عِنْدَ ميْمُونَةَ، أُمِّ المُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَالَتُهُ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -. زاد شريك بن أبي نمر، عن

(1)

- وفي نسخة "أخبرني".

ص: 326

كُريب، عند مسلم:"فَرَقَبتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كيف يصلي؟ "، زاد أبو عوانة في "صحيحه" من هذا الوجه "بالليل"، ولمسلم من طريق عطاء، عن ابن عبّاس، قال:"بعثني العبّاس إلى النبي صلى الله عليه وسلم "، زاد النسائي، من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن كُريب "في إبل، أعطاه إياها من الصدقة"، ولأبي عوانة من طريق علي بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه "أن العباس بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، قال: فوجدته جالسًا في المسجد، فلم أستطع أن أكلّمه، فلما

صلّى المغرب، قام، فركع حتى أُذِّنَ بصلاة العشاء"

(1)

ولابن خزيمة من طريق طلحة بن نافع، عنه:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَعَدَ العباسَ ذوْدًا من الإبل، فبعثني إليه بعد العشاء، وكان في بيت ميمونة". وهذا يخالف ما قبله، ويُجمع بأنه لَمّا لم يكلّمه في المسجد أعاده إليه بعد العشاء إلى بيت ميمونة. ولمحمد بن نصر في "كتاب قيام الليل" من طريق محمد بن الوليد ابن نُويفع، عن كُريب، من الزيادة:"فقال لي: يابُنيّ بِتِ الليلة عندنا"، وفي رواية حبيب المذكورة "فقلت: لا أنام حتى أنظر ما يصنع في صلاة الليل"، وفي رواية مسلم، من طريق الضحّاك بن عثمان، عن مخرمة "فقلت لميمونة: إذا قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأيقظيني"، وكان عزم على السهَرِ، ليَطّلع على الكيفية التي أرادها، ثم خشي أن يغلبه النوم ،فوصّى ميمونة أن توقظه. قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَاضْطَجَعَ) وفي نسخة "فأضطجعت"(فِي عَرْضِ الوِسَادَةِ) بفتح أوله على المشهور، وبالضمّ أيضًا، وأنكره الباجيّ من جهة النقل، ومن جهة المعنى، قال: لأن العُرْض بالضمّ هو الجانب، وهو لفظ مشترك. قال الحافظ: لكن لَمّا قال: "في طولها" تعيّن المراد، وقد صحّت به الرواية، فلا وجه للإنكار انتهى

(3)

.

وقال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا ضبطناه "عَرْض" بفتح العين، وهكذا نقله القاضي عياض، عن رواية الأكثرين، قال: ورواه الداوديّ بالضمّ، وهو الجانب، والصحيح الفتح.

والمراد بالوسادة الوسادة المعروفة التي تكون تحت الرؤوس، ونقل القاضي عن الباجيّ، والأصيليّ، وغيرهما أن الوسادة هنا الفراش، لقوله:"اضطجع في طولها"، وهذا ضعيف، أو باطل. انتهى

(4)

. وقال في "الفتح": قوله: "في عرض وسادة" في

(1)

- فيه جواز التنفّل في المسجد بعد المغرب، وهو من جملة صوارف الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا في بيوتكم الخ" عن الوجوب إلى الاستحباب. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 166.

(3)

- "فتح" في "كتاب الوضوء" ج 1 ص 345 طبعة دار الريان.

(4)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 47.

ص: 327

رواية محمد بن الوليد المذكورة "وسادة من أدم حشوها ليف"، وفي رواية طلحة بن نافع المذكورة "ثم دخل مع امرأته في فراشها"، وزاد "أنها كانت في ليلتئذ حائضًا"، وفي رواية شريك بن أبي نمر، عن كريب في "التفسير""فتحدّث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة" انتهى.

(وَاضْطَجَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ، فِي طُولِهَا) وفيه دليل على جواز نوم الرجل مع امرأته من غير مواقعة بحضرة بعض محارمها، وإن كان مميّزًا، قال القاضي: وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: قال ابن عباس. بتّ عند خالتي في ليلة كانت فيها حائضًا، قال: وهذه الكلمة، وإن لم تصحّ طريقًا

(1)

، فهي حسنة المعنى جدًا، إذ لم يكن ابن عبّاس يطلب المبيت في ليلة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة إلى أهله، ولا يُرسله أبوه إلا إذا علم عدم حاجته إلى أهله؛ لأنه معلوم أنه لا يفعل حاجته مع حضرة ابن عباس معهما في الوسادة، مع أنه كان مراقبًا لأفعال النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يَنَم، أو نام قليلاً جدًا انتهى

(2)

.

(فَنَامَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَو قَبْلَهُ قلِيلاً، أَوْ بَعْدَهُ قَلِيلاً) وفي نسخة "أو قبله بقليل، أو بعده بقليل"، وفي رواية للبخاريّ. "حتى إذا انتصف الليل، أو قريبًا منه". قال في "الفتح": جزم شريك بن أبي نمر في روايته المذكورة "بثلث الليل الأخير"، ويُجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرّتين، ففي الأولى نظر إلى السماء، ثم تلا الآيات، ثم عاد لمضجعه، فنام، وفي الثانية أعاد ذلك، ثم توضأ وصلّى، وقد بيّن ذلك محمد بن الوليد في روايته المذكورة، وفي رواية الثوريّ، عن سلمة بن كُهيل، عن كُريب في "الصحيحين": "فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الليل، فأتى حاجته، ثم غسل وجهه، ويديه، ثم نام، ثم قام، فأتى القِرْبة

" الحديث. وفي رواية سعيد بن مسروق، عن سلمة، عند مسلم. "ثم قام قومة أخرى"، وعنده من رواية شعبة، عن سلمة: "فبال"، بدل "فأتى حاجته". انتهى.

(اسْتَيْقَظَ) وفي نسخة "فاستيقظ"(رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسَ، يَفْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بيَدِهِ) أي يمسح بيده عينيه، من باب إطلاق اسم الحالّ على المحلّ، أو أثرَ النوم، من بَاب إطلاق السبب على المسبب. (ثُمّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِيمَ، من سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) التي أولها: {إن في خلق السموات والأرض} إلى آخر السورة.

(1)

- فيه أن الظاهر أنها صحيحة، كما أشار إليه فيما تقدم من عبارة "الفتح"، حيث عزاها إلى "صحيح ابن خزيمة"، واللَّه أعلم.

(2)

- المصدر المذكور.

ص: 328

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: فيه جواز القراءة للمحدث، وهذا إجماع المسلمين، وإنما تحرم القراءة على الجنب، والحائض

(1)

، وفيه استحباب قراءة هذه الآيات عند القيام من النوم، وفيه جواز قول "سورة آل عمران"، و"سورة البقرة"، و"سورة النساء"، ونحوها، وكرهه بعض المتقدّمين، وقال: إنما يقال: السورة التي يُذكر فيها آل عمران، والتي يُذكر فيها البقرة، والصواب الأول، وبه قال عامّة العلماء، من السلف والخلف، وتظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة، ولا لبس في ذلك انتهى.

وقال في "الفتح": قال ابن بطال ومن تبعه: فيه دليل على ردّ من كره قراءة القرآن

على غير طهارة، لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ. وتعقّبه ابن المنيّر وغيره بأن ذلك مفَرّعٌ على أن النوم في حقّه ينقض، وليس كذلك، لأنه قال:"تنام عيناي، ولا ينام قلبي"، وأما كونه توضأ عقب ذلك، فلعله جدّد الوضوء، أو أحدث بعد ذلك، فتوضأ.

قال الحافظ. وهو تعقيب جيّد بالنسبة إلى قول ابن بطال. بعد قيامه من النوم، لأنه لم يتعيّن كونه أحدث في النوم، لكن لما عَقّب ذلك بالوضوء كان طاهرًا في كونه أحدث، ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث، وهو نائم، نعم خصوصيته أنه إن وقع شَعَرَ به، بخلاف غيره، وما ادعوه من التجديد، وغيره الأصل عدمه انتهى

(2)

.

(ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلقَةٍ) زاد محمد بن الوليد: "ثم استفرغ من الشّنّ في إناء، ثم توضأ". والشَّنّ بالفتح. الِجْلد البالي، وجمعه شِنَان، مثل سَهْم وسِهَام. قاله في "المصباح". وقال النوويّ: إنما أنثها على إرادة القِرْبة، وفي رواية لمسلم "إلى شنّ معلّق" على إرادة السِّقَاء والوعاء". قال أهل اللغة. الشَّنُّ: القربة الخَلَق، وجمعه شِنَان انتهى

(3)

.

(فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَأحْسَنَ وُضُوءَهُ) في رواية محمد بن الوليد، وطلحة بن نافع جميعًا:"فأسبغ الوضوء"، وفي رواية عمرو بن دينار، عن كريب:"فتوضأ وضوءًا خفيفًا"، وُيجمع بين هاتين الروايتين برواية الثوري، فإن لفظه:"فتوضأ وضوءًا بين وضوءين، لم يُكثر، وقد أبلغ"، ولمسلم من طريق عياض، عن مخرمة:"فأسبغ الوضوء، ولم يمسّ من الماء إلا قليلاً"، وزاد "فتسوّك"، وكذا لشريك عن كريب "فاستنّ". قاله في "الفتح".

(1)

- قلت: تقدم الخلاف لبعض السلف في جوازه لهما في "أبواب الطهارة"، فأرجع إليه.

(2)

- (فتح) ج1 هـ 345. "باب قراءة القرآن بعد الحدث" من "كتاب الوضوء".

(3)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 46.

ص: 329

(ثُم قَامَ يُصَلِّي) في رواية محمد بن الوليد "ثم أخذ بُرْدًا له حضرمياً، فتوشّحه، ثم دخل البيت، فقام يصلي". (قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْت، فَصَنعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ) ظاهره يقتضي أنه صنع جميع ما ذكره من القول، والنظر، والوضوء، والسواك، والتوشّح، ويَحتمل أن يُحمَل على الأغلب، وزاد سلمة، عن كريب عند البخاري في "الدعوات" في أوله:"فقمت، فتمطّيتُ، كراهية أن يرى أني كنت أرقُبُه"، وكأنه خشي أن يَترك بعض عمله لما جرى من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يُفرض على أمته (ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ) أي عن شماله، ففي الرواية المتقدمة 22/ 806 - من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال:"فقمت عن شماله، فقال بي هكذا، فأخذ برأسي، فأقامني عن يمينه"(فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَدَهُ الْيُمْنَى، عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ) وفي نسخة "فأخذ (بِأُذُنِي الْيُمْنَى، يَفْتِلُهَا) وفي نسخة "ففتلها". قال النووي: قيل: إنما فَتَلَها تنبيها له من النُّعاس، وقيل: ليتنبه لهيئة الصلاة، وموقفِ المأموم، وغير ذلك، والأول أظهر، لقوله في الرواية الأخرى: "فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني" انتهى.

وقال في "الفتح". قوله: "وأخذ بأذني" زاد محمد بن الوليد في روايته "فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنّسني بيده في ظلمة الليل" وفي رواية الضحاك بن عثمان "فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني". وفي هذا ردّ على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان في حالة إدارته له من اليسار إلى اليمين، متمسكًا برواية سلمة بن كهيل، حيث قال:"فأخذ بأذني، فأدارني عن يمينه"، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكره من تأنيسه، وإيقاظه، لأن حاله كانت تقتضي ذلك لصغره انتهى. (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَينِ، ثُمَّ رَكْعَتَينِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكعَتَينِ، ثُمَّ رَكْعَتيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ) كذا في هذه الرواية، وظاهره أنه فصل بين كلّ ركعتين، ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع، حيث قال:"يسلّم من كلّ ركعتين"، ولمسلم من رواية علي بن عبد اللَّه بن عباس التصريح بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كلّ ركعتين إلى غير ذلك.

ثم إن رواية الباب فيها التصريح بذكر الركعتين ست مرّات، ثم قال:"ثم أوتر"، ومقتضاه أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، وصرّح بذلك في رواية سلمة عند البخاريّ، حيث قال:"فتتامّت"، ولمسلم "فتكاملت صلاته ثلاث عشرة ركعة". وفي رواية عبد ربه بن سعيد عند البخاري أيضًا عن كريب، "فصلى ثلاث عشرة ركعة"، وفي رواية محمد بن الوليد المذكورة مثله، وزاد "وركعتين بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح"، وهي موافقة لرواية الباب لأنه قال بعد قوله:"ثم أوتر": "فقام، فصلى ركعتين". فاتفق

ص: 330

هؤلاء على الثلاث عشرة، وصرح بعضهم بأن ركعتي الفجر من غيرها، لكن رواية شريك بن أبي نمر عند البخاري في "التفسير" عن كريب تخالف ذلك، ولفظه "فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذّن بلال، فصلى ركعتين، ثم خرج".

فهذا ما في رواية كريب من الاختلاف، وقد عُرف أن الأكثر خالفوا شريكًا فيها، وروايتهم مقدّمة على روايته لما معهم من الزيادة، ولكونهم أحفظ منه. وقد حمل بعضهم هذه الزيادة على سنة العشاء، ولا يخفى بُعده، ولا سيّما في رواية مخرمة في حديث الباب، إلا إن حُمل على أنه أخّر سنة العشاء حتى يستيقظ، لكن يعكر عليه رواية المنهال الآتية.

وقد اختلف على سعيد بن جبير أيضًا، ففي رواية شعبة، عن الحكم، عنه "فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم صلى خمس ركعات"، وقد حمل محمد بن نصر هذه الأربع على أنها سنة العشاء، لكونها وقعت قبل النوم ، لكن يعكر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن عمرو، عن علي بن عبد اللَّه بن عباس، فإن فيه "فصلى العشاء، ثم صلى أربع ركعات بعدها، حتى لم يبق في المسجد غيره

(1)

، ثم انصرف" فإنه يقتضي أن يكون صلى الأربع في المسجد، لا في البيت، ورواية سعيد بن جبير أيضًا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم، وفيه نظر، وقد رواها أبو داود من وجه آخر عن الحكم، وفيه "فصلى سبعا، أو خمسًا، أوتر بهنّ، لم يسلّم إلا في آخرهنّ".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وقد ظهر لي من رواية أخرى عن سعيد بن جبير ما يرفع هذا الإشكال، ويوضح أن رواية الحكم وقع فيها تقصير، فعند النسائيّ من طريق يحيى بن عباد، عن سعيد بن جبير "فصلى ركعتين، ركعتين، ثم صلى ثمان ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهنّ".

فبهذا يُجمع بين رواية سعيد ورواية كريب.

وأما ما وقع في رواية عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عند أبي داود "فصلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر"، فهو نظير ما تقدّم من الاختلاف في رواية كريب.

وأما ما في روايتهما من الفصل والوصل، فرواية سعيد صريحة في الوصل، ورواية كريب محتملة، فتحمل على رواية سعيد.

وأما قوله في رواية طلحة بن نافع "يُسلّم من كلّ ركعتين"، فيحتمل تخصيصه

(1)

- فيه جواز التنفّل في المسجد، وهو مما يصرف الأمر بالصلاة في البيوت عن الوجوب إلى الاستحباب، كما تقدّم.

ص: 331

بالثمان، فيوافق رواية سعيد، ويؤيده رواية يحيى بن الجزّار الآتية.

ولم أر في شيء من طرق حديث ابن عباس ما يخالف ذلك، لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددًا، ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة، ولم ينقص عن إحدى عشرة، إلا أن في رواية علي بن عبد اللَّه بن عباس عند مسلم

(1)

ما يُخالفهم، فإن فيه "فصلى ركعتين، أطال فيهما، ثم انصرف، فنام، حتى نفخ، ففعل ذلك ثلاث مرّات، بستّ ركعات، كل ذلك يستاك، ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات -يعني آخر آل عمران- ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن، فخرج إلى الصلاة".

فزاد على الرواة تكرار الوضوء، وما معه، ونقص عنهم ركعتين، أو أربعا، ولم يذكر ركعتي الفجر أيضًا، وأظن ذلك من الراوي عنه، حبيب بن أبي ثابت، فإن فيه مقالاً، وقد اختُلف عليه فيه في إسناده ومتنه اختلافا، تقدّم ذكر بعضه، ويحتمل أن يكون لم يذكر الأربع الأُوَل كما لم يذكر الْحَكَم الثمانَ كما تقدم، وأما سنة الفجر، فقد ثبت ذكرها في طريق أخرى عن علي بن عبد اللَّه، عند أبي داود.

والحاصل أن مبيت ابن عباس يغلب على الظنّ عدم تعددها، فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها، ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر، والأحفظ أولى مما خالفهم فيه مَن دونهم، ولا سيما إن زاد، أو نقص.

والمُحَقَّقُ من عدد صلاته في تلك الليلة إحدى عشرة، وأما رواية ثلاث عشرة، فيحتمل أن يكون منها سنة العشاء، ويوافق ذلك رواية أبي جمرة، عن ابن عباس بلفظ "كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة" يعني بالليل، ولم يبين هل سنة الفجر منها، أو لا، وبينها يحيى بن الجزّار، عن ابن عباس عند النسائيّ بلفظ "كان يصلي ثمان ركعات، ويوتر بثلاث، ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح"، ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق الباب، فيمكن أن يحمل قوله:"صلى ركعتين، ثم ركعتين" أي قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء، وقوله:"ثم ركعتين الخ" أي بعد أن قام، وسيأتي نحو هذا الجمع في حديث عائشة رضي الله عنها.

وجمع الكرماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به فيه، وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملاً. واللَّه أعلم

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأقرب في وجه الجمع هو الجمع الذي جمع

(1)

- سيأتي للمصنف نحوه 39/ 1704.

(2)

- فتح ج 3 ص 167 - 169.

ص: 332

به الكرماني -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم.

(ثُم اضْطَجَعَ) سيأتي بيان الاختلاف في هذا الاضطجاع، هل كان قبل ركعتي الفجر، أو بعدهما في [58/ 1762] إن شاء اللَّه تعالى (حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ) هو بلال رضي الله عنه (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) هما سنة الصبح، واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم الكلام على مسائله في "باب الدعاء في السجود" - 153/ 1121 - فراجعه تستفد، ولنذكر هنا فوائده التي لم يتقدم ذكرها

(1)

:

فمنها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما تُستفتح به صلاة الليل، ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قرأ خواتيم آل عمران قبل الدخول في صلاة الليل، وهذا، وإن كان خارجها غير أنه لقربه يعدّ مما استُفتحت به، فيكون قوله:"باب ذكر ما يُستفتح به القيام" أعمّ من كونه داخل الصلاة، أو خارجها، واللَّه تعالى أعلم.

ومنها: جواز إعطاء بني هاشم من الصدقة، وهو محمول على التطوّع، ويحتمل أن يكون إعطاؤه العباس ليتولى صرفه في مصالح غيره ممن يحلّ له أخذ ذلك. ومنها: جواز تقاضي الوعد، وإن كان مَن وَعد به مقطوعا بوفائه. ومنها: الملاطفة بالصغير، والقريب، والضيف، وحسن المعاشرة للأهل، والردّ على من يؤثر دوام الانقباض.

ومنها: مبيت الصغير عند محرمه، وإن كان زوجها عندها. ومنها: جواز الاضطجاع مع المرأة الحائض، وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير، وإن كان مميّزًا، بل مراهقًا.

ومنها: صحة صلاة الصبيّ، وجواز فتل أذنه لتأنيسه وإيقاظه، وقد قيل: إن المتعلّم إذا تعوهد بقتل أذنه كان أذكى لفهمه. ومنها: حمل أفعاله صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به. ومنها: مشروعية التنفل بين المغرب والعشاء. ومنها: جواز التنفل في المسجد، وهذا مما يصرف الأمر في قوله: "أيها الناس صلوا في بيوتكم

" الحديث عن الوجوب إلى الاستحباب، كما هو رأي الجمهور. ومنها: فضل صلاة الليل، ولا سيما في النصف الثاني، ومنها: البداءة بالسواك، واستحبابه عند كل وضوء، وعند كل صلاة. ومنها: استحباب تلاوة آواخر آل عمران عند القيام إلى صلاة الليل. ومنها: استحباب غسل الوجه، واليدين لمن أراد النوم، وهو مُحدِث، لقوله: "فأتى حاجته، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام". ومنها: جواز الاغتراف من الماء القليل، لأن الإناء المذكور كان

(1)

- المراد من الفوائد هي الفوائد التي اشتمل عليها الحديث باختلاف طرقه، لا خصوص رواية المصنف، فتنبّه.

ص: 333

قصعة، أو صحفة. ومنها: استحباب التقليل من الماء في التطهير، مع حصول الإسباغ. ومنها: بيان فضل ابن عباس، وقوّة فهمه، وحرصه على تعلم أمر الدين، وحسن تأدبه في ذلك. ومنها: اتخاذ مؤذن راتب للمسجد، ومنها: إعلام المؤذن الإمام بحضور وقت الصلاة، واستدعاؤه لها. ومنها: جواز الاستعانة باليد في الصلاة، وتكرار ذلك. ومنها: مشروعية الجماعة في النافلة.

ومنها: جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة. ومنها: بيان موقف الإمام والمأموم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه ، عليه توكلت، وإليه أنيب"

‌10 - بَابُ مَا يَفعَلُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ مِنَ السِّوَاكِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -، قوله:"يفعل" -بفتح ياء، مبنيّا للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى القائم المفهوم من "قام"، وعائد الموصول محذوف، أي ما يفعله القائم، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، والضمير النائب عن الفاعل يعود إلى الموصول، أي الشيء الذي يفعله الشخص إذا قام من الليل، و"مِن" في قوله:"من الليل" بمعني "في"، أو هي للتبعيض، وقوله:"من السواك" بيان لـ "ما يفعل". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1621 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالأَعْمَشِ، وَحُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ.

قال الجامع عفا اللَّه تعالىَ عنه: هذا الحديث متفق عليه، وقد مضى في 2/ 2 "باب السواك إذا قام من الليل"، وتقدم الكلام عليه هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"عمرو بن علي" هو الفلاّس. و"عبد الرحمن" هو ابن مهديّ. و"سفيان" هو الثوري. و"حُصين" هو ابن عبد الرحمن الكوفي. و"أبو وائل" هو شقيق بن سلمة.

ص: 334

والثلاثة الأولون بصريون والباقون كوفيون.

وقوله: "يَشُوص فاه" أي يدلك أسنانه، ويُنَقِّيها، وقيل: هو أن يستاك من سُفل إلى عُلو، وأصل الشوص الغَسْل. وتقدم تمام الكلام فيه في الباب المذكور .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

1622 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، يُحَدِّثُ عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث حذيفة رضي الله عنه المذكور قبله، وفيه تصريح حصين بالسماع من أبي وائل.

و"خالد" هو بن الحارث، أبو عثمان الْهُجَيمي البصري المثبت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌11 - ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي حَصِينٍ، عُثمَانَ بنِ عَاصِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف فيه أن أبا سِنَان رواه عن أبي حَصين، عن شقيق، وهو أبو وائل، عن حُذيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وخالفه إسرائيل، فرواه، عن أبي حَصين، عن شقيق قولَه، ولم يذكر فيه حذيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -.

والذي يظهر لي أن كلا الطريقين لا يَصِحّان، لأن الحفاظ من أصحاب أبي وائل رووه عن حذيفة رضي الله عنه، من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لا من قوله، فقدرواه منصور، والأعمش، وحُصين بن عبد الرحمن، عندهم عن أبي وائل، عن حذيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك". وقد تقدم تخريج الطرُق كلها في الباب الثاني من "أبواب الطهارة" واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ص: 335

1634 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِالسِّوَاكِ، إِذَا قُمْنَا مِنَ اللَّيْلِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدَامة السرخسيّ، ثقة ثبت [10] 15/ 15.

2 -

(إسحاق بن سليمان) الرازيّ، كوفي الأصل، أبو يحيى العبديّ، ثقة فاضل [9].

روى عن مالك، وابن أبي ذئب، وأفلح بن حُميد، وأبي سِنَان، وغيرهم. وعنه قتيبة، وعمرو الناقد، وعبيد اللَّه بن سعيد، وغيرهم. قال أبو أسامة: كنا نَستسقي به، وأثنى عليه أحمد. وقال أبو مسعود: يقال: كان من الأبدال. وقال محمد بن سعيد الأصبهاني. حدثنا إسحاق بن سليمان، وكان ثقة، وقال أبو الأزهر: كان من خيار المسلمين. وقال العجليّ: ثقة صالح. وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس له. وقال النسائي: ثقة. وقال محمد بن سعد. كان ثقة، له فضل في نفسه، ووَرعٌ، مات بالرَّيّ سنة (199). وقال أبو الحسين بن قانع: مات سنة (200)، وقال ابن قانع: صالح.

ووثقه ابن نمير، والحاكم، والخليلي في "الإرشاد"، وقال ابن وَضّاح الأندلسيّ: ثقة ثبت في الحديث، متعبّد كبير. وذكره ابن حبان في الطبقة الرابعة من "الثقات"، وأرّخه سنة (200). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا، و (1794) حديث: "من ثابر على اثنتي عشرة ركعة

" الحديث، وأعاده بعده (1795)، و (4057) حديث: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث

" الحديث.

3 -

(أبو سنان) الشيبانيّ الأصغر، سعيد بن سِنَان البُرْجمُيّ- بضم الموحّدة، والجيم، بينهما راء ساكنة- الكوفيّ نزيل الرّيّ، صدوق له أوهام [6].

رَوَى عن طاوس، وأبي إسحاق السبيعي، وعمرو بن مرّة، وأبي حَصين، وغيرهم. وعنه الثوريّ، وابن المبارك، ووكيع، وإسحاق بن سليمان، وغيرهم. قال أبو طالب، عن أحمد: كان رجلاً صالحًا، ولم يكن يُقيم الحديث. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ليس بالقويّ في الحديث. وقال الدُّوريّ وغيره عن ابن معين: ثقة. وقال العجليّ: كوفيّ جائز الحديث. وقال ابن سعد: كان من أهل الكوفة، ولكنه سكن الريّ، وكان سيّء الخلُق. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: ثقة من رُفَعَاء الناس. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان عابدًا فاضلاً. ووثقه يعقوب بن سفيان. وقال ابن عديّ: له غرائب، وأفرادات، وأرجو أنه ممن لا يتعمّد الكذب، ولعله إنما يَهِمُ في الشيء بعد الشيء.

ص: 336

وقال الدارقطنيّ: سعيد بن سنان اثنان: أبو مهديّ حمصيّ يَضَع الحديث، وأبو سنان كوفيّ سكن الريّ من الثقات. روى له البخاري في "جزء القراءة"، والباقون، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: أبو سنان هذا هو الشيبانيّ الأصغر، كما مرّ آنفًا، ولهم أبو سنان الشيبانيّ الأكبر، واسمه ضِرَار بن مرّة الكوفيّ، ثقة ثبت، من السادسة، وسيأتي في 100/ 2032، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 2032 وأعاده برقم 5652 وحديث 2213 وحديث 5442. واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(أبو حَصين) - بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين- عثمان بن عاصم الأسديّ الكوفيّ، ثقة ثبت سنّيّ، وربما دلّس [4] 102/ 152.

والباقيان تقدما في الباب الماضي، والحديث تقدّم أن الصحيح كونه من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا من قوله، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1624 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ، إِذَا قُمْنَا مِنَ اللَّيْلِ، أَنْ نَشُوصَ أَفْوَاهَنَا بِالسِّوَاكِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهَاوي، ثقة حافظ [11] 38/ 42.

2 -

(عُبيد اللَّه) بن موسى بن باذام العَبْسيّ الكوفي، ثقة، يتشيّع [9] 72/ 1326.

3 -

(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفي، ثقة [7] 75/ 1006.

والباقون تقدموا في السند السابق، وكذا الكلام على الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 337

‌12 - بَابٌ بِأَيِّ شَيْءٍ تُسْتَفْتَحُ صَلَاةُ اللَّيْلِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أنه لا حاجة لهذه الترجمة، لأنها تقدّمت قبل بابين، بلفظ:"باب ذكر ما يُستفتح به القيام"، فكان الأولى للمصنف -رحمه اللَّه تعالى- أن يذكر حديثي الباب هناك، فإنهما من جملة أحاديثه، اللَّهم إلا إذا أراد أن الباب السابق معقود لما يقال قبل الدخول في الصلاة، وهذا الباب معقود لما يقال بعد الدخول فيها، لكن هذا يَرُدُّه الحديث الثاني، فإنه لما يقال قبل الدخول، بلا شكّ، فليُتأمّل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1625 -

أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ، قَالَ:«اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اللَّهُمَّ اهْدِنِي، لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، مِنَ الْحَقِّ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ، إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(العباس بن عبد العظيم) العَنْبَريّ البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [11] 96/ 119.

2 -

(عُمر بن يونس) بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص اليماميّ الجُرَشيّ، ثقة [9].

روى عن أبيه، وعكرمة بن عمّار، وأيوب بن عُتبة، وغيرهم. وعنه ابن ابنه أحمد بن محمد بن عمر، وبُندار، والعباس بن عبد العظيم، وغيرهم. قال أحمد: ثقة، ولم أسمع منه. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال إسماعيل القاضي: حدثنا علي، هو ابن المدينيّ، حدثنا عُمر بن يونس اليماميّ، وكان ثقة ثبتًا. ووثقه البزّار. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يُتّقى حديثه من رواية ابن ابنه عنه، لأنه كان يقلب الأخبار.

يقال: مات سنة (206). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث رقم (4183).

3 -

(عكرمة بن عمّار) اليماميّ البصريّ الأصلِ، صدوق يَغلَط [5] 57/ 1299.

والباقون تقدّموا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 338

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل باليماميين إلى يحيى، غير شيخه، فبصري، والباقيان مدنيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (بأيِّ شَيْءٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ؟) أي صلاة الليل (قَالَتْ: كَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ) وفي رواية لأبي داود: "كان إذا قام كبرّ، ويقول"، وفيه أنه كان يقول ذلك بعد تكبيرة الإحرام. ولا منافاة بين هذا الحديث والأحاديث المتقدّمة، لأنه يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفتتح تارة بهذا، وتارة بهذا.

(قَالَ:) جملةٌ في محل نصب على الحال، أي قائلاً ("اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ) أي مُبدعهما.

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: قال العلماء: خصّهم بالذكر، وإن كان اللَّه تعالى ربّ كلّ المخلوقات، كما تقرّر

(1)

في القرآن والسنّة من نظائره، من الإضافة إلى كلّ عظيم المرتبة، وكبير الشأن، دون ما يُستَحقر، ويستصغر، فيقال له سبحانه وتعالى: رب السموات والأرض، رب العرش الكريم، ورب الملائكة والروح، رب المشرقين، ورب المغربين، رب الناس، مالك الناس، إله الناس، رب العالمين، ربّ كل شيء، رب النبيين، خالق السموات والأرض، فاطر السموات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً، فكلّ ذلك وشبهه وصف له سبحانه بدلائل العظمة، وعظيم القدرة، والملك، ولم يُستعمل ذلك فيما يُحتقر، ويُستصغر، فلا يقال: ربّ الحشرات، وخالق القِرَدَة،

والخنازير، وشبه ذلك على الإفراد، وإنما يقال: خالق المخلوقات، وخالق كلّ شيء، وحينئذ تدخل هذه في العموم. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(2)

.

قيل: إنما خصّ الثلاثة المذكورين من الملائكة بالذكر، تشريفا لهم، وتعظيما، إذ

(1)

- هكذا نسخة "شرح مسلم" للنوويّ "كما تقرر" بالكاف، ولعل الأوضح "لما تقرر باللام، فتأمل.

(2)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 56 - 57.

ص: 339

بهم تنتظم أمور العباد، لأن جبريل كان موكّلا بالوحي، وإنزال الكتب السماوية على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وتعليم الشرائع، وأحكام الدين، وميكائيل موكّل بجميع القطر، والنبات، وأرزاق بني آدم وغيرهم. وإسرافيل موكّل باللوح المحفوظ، وهو الذي ينفخ في الصور

(1)

.

(عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي ما غاب عن العباد، وما شاهدوه، وظهر لهم (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك، فِيَمَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي في الدنيا من أمر دينهم، فتعذّب العاصي، إن شئت، وتثيب الطائعين (اللَّهُمَّ اهْدِني) معناه ثبّتني عليه، أو زدني هداية، كقوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ) بالبناء للمفعول (مِنَ الْحَقِّ) بيان لـ"ما"{إِنكَ تهدِي مَن تشَاءُ، إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"} أي طريق الحقّ، وهو دين الإسلام، وسمي صراطًا لأنه موصل للمقصود، كما أن الطريق الحسيّ كذلك. والجملة تعليل لطلب الهداية منه، أي لأنك تهدي من تشاء الخ .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له.

أخرجه هنا- 12/ 1625 - وفي "الكبرى" 20/ 1322 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 2/ 185 (د) 767 (ت) 3420 (ق)1357. (أحمد) 6/ 156 (ابن خزيمة) 1153. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما تُفتتح به صلاة الليل من

الأذكار. ومنها: بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء، ونحوه في صلاة الليل، تواضعًا، وإشفاقًا، وليُقتَدَى به في الدعاء، والخضوع، وحسن التضرّع. ومنها: بيان شرف هؤلاء الملائكة، وأنهم أفضل من سائر الملائكة. ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى طريق الحقّ، لأنه تعالى هو الهادي إلي ذلك. ومنها: أن الهداية بيد اللَّه تعالى، لا أحد يَقدِر عليها، غيره سبحانه، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

(1)

- انظر "المنهل" ج 5 ص 178.

ص: 340

وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1626 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ رَجُلاً، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قُلْتُ -وَأَنَا فِي سَفَرٍ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهِ، لأَرْقُبَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةٍ، حَتَّى أَرَى فِعْلَهُ فَلَمَّا صَلَّى صَلَاةَ الْعِشَاءِ، وَهِيَ الْعَتَمَةُ، اضْطَجَعَ هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَنَظَرَ فِي الأُفُقِ فَقَالَ:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} حَتَّى بَلَغَ {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} . ثُمَّ أَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى فِرَاشِهِ، فَاسْتَلَّ مِنْهُ سِوَاكًا، ثُمَّ أَفْرَغَ فِي قَدَحٍ، مِنْ إِدَاوَةٍ عِنْدَهُ مَاءً، فَاسْتَنَّ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى، حَتَّى قُلْتُ: قَدْ صَلَّى قَدْرَ مَا نَامَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى قُلْتُ: قَدْ نَامَ قَدْرَ مَا صَلَّى، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) المراديّ المصريّ، تقدم قبل بابين.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصري الحافظ الثبت [9] 9/ 9.

3 -

(يونس بن يزيد) الأيلي، ثقة ثبت [7] 9/ 9.

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الإمام المدني الشهير المثبت الحجة [4] 1/ 1.

5 -

(حُميد بن عبد الرحمن بن عوف) الزهري المدنيّ، ثقة [3] 32/ 725، والصحابيّ مبهم، ولا يضرّ ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى يونس، وبعده بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثّنِي حُمَيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ رَجُلاً، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) لم يُعرف اسمه، ولكن لا يضرّ ذلك في صحة الحديث، لأن الصحابَة كلهم عدول بإجماع من يُعتدّ بإجماعه (قَالَ: قُلْتُ -وَأَنا فِي سَفَرٍ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الظرف متعلق بحال محذوف، أي حال كوني كائنًا مع رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم (وَاللَّهِ لَأرْقُبَنَّ) من باب قتل، يقال: رَقَبتُه أرقُبُهُ:

ص: 341

حَفِظته، فأنا رَقيب، ورَقَبتهُ، وترقّبته، وارتقبته، والرِّقْبة بالكسر اسم منه: انتظرته، قاله في "المصباح"، فيحتمل أن يكون المعنى هنا: لأحفظنّ ما يفعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صلاته، ويحتمل أن يكون: لأنتظرنّه حتى يفرغ من صلاته، لأحفظ كيفيتها (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعولية (لِصَلَاةٍ) متعلّق بـ "أرقُبنّ" واللام بمعنى "في"، أو هي للتعليل، أي لأجل صلاة (حَتَّى أَرَى فِعْلَهُ) أي ما يفعله في صلاته (فَلَمَا صَلَّى صَلَاةَ العِشَاءِ، وَهِيَ الْعَتَمَةُ) تقدم أن العتمة اسم للعشاء الأخيرة، فذكره بعد لفظ العشاء، لئلا يُتوهّم أن المراد به المغرب، حيث إنها يطلق عليها العشاء أيضًا، وقد ورد النهي عن التسمية بـ "العتمة"، وورد أيضًا جواز تسميتها به، وقد تقدم الجمع بينهما بأن النهي محمول على الإكثار من التسمية، لا على أصل التسيمية، فراجع ما تقدّم في أبواب الأوقات- 22/ 540 و 23/ 541 أو 542 - تستفد (اضْطَجَعَ هَوِيًّا) بفتح الهاء، وكسر الواو، وتشديد الياء: أي حينًا طويلاً (مِنَ اللَّيْلِ) بيان للَّهَوِيّ (ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فنظَرَ فِي الْأُفُقِ) بضمتين: الناحيةُ من الأرض، ومن السماء، والجمع آفاق، والنسبة إليه أُفُقيّ ردّا إلى الواحد، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَالوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبَا لِلْجَمْعِ

إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْعِ

وربّما قيل: أَفَقِيٌّ بفتحتين، تخفيفًا، على غير قياس، حكاهما ابن السكّيت

(1)

.

(فقَالَ) أي قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]، حَتَّى بَلَغَ {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194] ولعله ما ختم الآيات إلى آخر السورة في تلك الليلة، كما تقدّم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث قرأ الآيات حتى ختم السورة، أو ختمها ، لكن الذي سمع منه ذلك الصحابيّ هذا القدر فقط، واللَّه تعالى أعلم.

(ثم أَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى فِرَاشِهِ) أي مَدّ يده إليه، يقال: أهوى إلى سيفه بالألف: تناوله بيده، وأهوى إلى الشيء بيده: مدّها ليأخذه، إذا كان عن قُرْب، فإن كان عن بُعْد قيل: هَوَى إليه بغير ألف. قاله في "المصباح"، وقد تقدم نحو هذا (فَاسْتَلَّ مِنْهُ سِوَاكًا) أي أخرجه منه في رفق، قال المجد اللغوي رحمه الله: السَّلُّ بالفتح: انتزاعك الشيء، وإخراجه في رفق، كالاستلال انتهى (ثُمَّ أَفْرَغَ فِي قَدَحٍ) بفتحتين: إناء يُرْوِي الرجلين، جمعه أقداح (مِنْ إِدَاوَةٍ) بالكسر: المِطْهرة، جمعها الأدَوَى بفتح الواو (عِنْدَهُ) ظرف متعلق بصفة لـ"إداوة"(مَاء) مفعول "أفرغ"، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم صبّ ماء من إداوة

(1)

- "المصباح" بزيادة.

ص: 342

كائنة عنده في قَدَح (فَاسْتَنَّ) بتشديد النون: أي استعمل السواك في الأسنان، والظاهر أنه لم يتوضأ، لأن نومه لا ينقض وضوءه، بل استاك، فقام إلى الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك الاستنان عند الوضوء، فيكون المراد بقوله:"فاستنّ"، أي توضأ مع الاستنان. واللَّه تعالى أعلم.

(ثُم قَامَ، فَصَلَّى، حَتَّى قُلْتُ: قَدْ صَلَّى قَدّرَ مَا نَامَ) غاية لطول صلاته صلى الله عليه وسلم.

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم طوّل صلاته إلى أن قدّرت تطويله لها بالوقت الذي نامه، وقد ذكر أنه نام طويلاً، حيث قال:"اضطجع هَوِيّا من الليل"، ومعنى الهَويّ. الحين الطويل (ثُمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى قُلْتُ. قَد نَامَ قَدْرَ مَا صَلَّى) يعني أنه نام طويلاً (ثم اسْتَيْقَظَ، فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي من صبّه الماءَ من الإداوة في القدح، والاستنان (وَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ) أي من قراءة الآيات المذكورة (فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثَلَاثَ مَرَّاتِ قَبْلَ الْفَجْرِ) أي كلّ ذلك حصل منه قبل طلوع الفجر .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث حميد بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 12/ 1626 - وفي "الكبرى" 18/ 1320 - بالإسناد المذكور، وفي "عمل اليوم والليلة" رقم (307) عن محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحَكَم، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد الْجُمَحيّ، عن ابن أبي هلال، عن الأعرج، عن حميد به، وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، لم يخرجه معه غيره. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان ما تُفتتح به صلاة الليل، يعني الذكر الذي يتقدمها وهو وإن كان خارجها، إلا أنه وقع قربَ افتتاحها. ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، من الحرص على تتبع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، حتى يقتدوا به فيها. ومنها: استحباب التأهّب لصلاة الليل بإعداد السواك، والطَّهُور. ومنها: تقسيم أجزاء الليل إلى أقسام، فيجعل بعضه للصلاة، وبعضه للاستراحة، حتى تأخذ النفس حظّها من الراحة، كما جعل الشارع لها ذلك، حيث قال:"فإن لنفسك عليك حقا"، فينبغي إعطاء كل ذي

ص: 343

حق حقّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌13 - بَابُ ذِكْرِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ

1627 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مَا كُنَّا نَشَاءُ، أَنْ نَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي اللَّيْلِ مُصَلِّيًا، إِلاَّ رَأَيْنَاهُ، وَلَا نَشَاءُ أَنْ نَرَاهُ نَائِمًا، إِلاَّ رَأَيْنَاهُ.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزي الإمام الثبت الحجة [10] 2/ 2.

2 -

(يزيد) بن هارون، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقن عابد [7] 153/ 244.

3 -

(حميد) بن أبي حميد الطويل البصريّ، ثقة عابد مدلّس [5] 87/ 108.

4 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له، كما سبق غير مرّة، وهو (89) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - بالبصرة، مات سنة (92) أو (93) وقد جاوز مائة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أنس) - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ: مَا كُنَّا نَشَاءُ) ولفظ أحمد: "سئل أنس عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الليل، فقال: ما كنّا نشاء أن نراه من الليل مصليا إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائمًا إلا رأيناه، وكان يصوم من الشهر حتى نقول: لا يفطر منه شيئًا، ويفطر حتى نقول: لا يصوم منه شيئًا".

ص: 344

وقد ساقه البخاري في "كتاب الصيام"، من "صحيحه" مطوّلاً، من طريق أبي خالد الأحمر، عن حميد، أنه سأل أنسًا رضي الله عنه عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم؟، فقال. ما كنتُ أُحبّ أن أراه من الشهر صائمًا إلا رأيته، ولا مفطرًا إلا رأيته، ومن الليل قائمًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته، ولا مَسِستُ خَزّةً، ولا حَريرةً، ألين من كَفّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا شَمِمْتُ مِسْكةً، ولا عَبِيرةً، أطيب رائحةً من رائحة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ".

(أَنْ نَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي اللَّيْل) الجار والمجرور تنازعه "نشاء"، و"نرى"(مُصَلِّيًا) منصوب على الحال (إِلاَّ رَأَيْنَاهُ) أَي مصليًا (وَلَا نَشاءُ، أَن نَرَاهُ نائِمًا، إِلاَّ رَأَيْنَاهُ) أي نائمَا.

ومعنى الحديث أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ونومه ما كانا مخصوصين بوقت دون وقت، بل كانا مختلفين في الأوقات، وكلّ وقت صلّى فيه أحيانًا، نام فيه أحيانًا أخرى.

والحاصل أن صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، لم يكن لها وقت معين ، بحيث يواظب عليه، ولا يتركه، بل كان ينتقل من وقت لآخر بحسب ما يتيسّر له. واللَّه تعالى أعلم.

[فإن قلت:]: هذا الحديث يعارض ما تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها: "كان يقوم إذا سمع الصارخ"، فكيف التوفيق بينهما؟

[أجيب]: بأنها أخبرت عما اطلعت عليه، وذلك أن صلاة الليل، كانت تقع منه غالبا في البيت، فأخبرت عما شاهدته في غالب أوقاته، وأخبر أنس رضي الله عنه على ما شاهده خارج البيت في بعض الأوقات.

ويؤيّد هذا الجمع ما ثبت في "الصحيح" من قول عائشة رضي الله عنها: "من كلّ الليل قد أوتر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، وما سيأتي للمصنف 30/ 1681 - من قولها:"أوتر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أوله، وآخره، وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر"، فخبرها هذا يوافق خبر أنس رضي الله عنهما.

فدلّ على أن خبرها الأول محمول على ما كان يفعله في بعض الأحيان، فلا تعارض بين الخبرين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا- 13/ 1627 - وفي "الكبرى" -21/ 1323 - بالإسناد المذكور. واللَّه أعلم.

ص: 345

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 65 و 3/ 50 (ت) 769 وفي "الشمائل" 299 (أحمد) 3/ 104 و 3/ 114 و 3/ 179 و 3/ 182 و 3/ 236 و 3/ 252 و 3/ 264 (عبد بن حميد) 1394 و 1395 (ابن خزيمة) 2134 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.

1628 -

أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ يَعْلَى بْنَ مَمْلَكٍ، أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ، عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي الْعَتَمَةَ، ثُمَّ يُسَبِّحُ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَرْقُدُ مِثْلَ مَا صَلَّى، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ مِنْ نَوْمِهِ ذَلِكَ، فَيُصَلِّي مِثْلَ مَا نَامَ، وَصَلَاتُهُ تِلْكَ الآخِرَةُ تَكُونُ إِلَى الصُّبْحِ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا تقدم في 83/ 1022 - وتقدم الخلاف فيه تصحيحًا وتضعيفًا، وأن الأرجح تصحيحه، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"حجاج" هو ابن محمد الأعوره. و"ابن جريج" هو عبد الملك بن عبد العزيز.

ووالد ابن جريج هو عبد العزيز بن جُريج مولى قريش، لين الحديث [4].

قال البخاري: لا يُتابع في حديثه، وكذا قال العُقيلي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لم يسمع من عائشة، وكذا قال العجليّ، لكن في "مسند" أحمد وغيره التصريح بسماعه منها، من رواية خُصَيف عنه. لكن قالوا: أخطأ خصيف فيه، فصرّح بسماعه

(1)

، وقال الدارقطني مجهول، قيل له: هو والد عبد الملك، قال: إن كان هو فلم يسمع من عائشة، يُترك هذا الحديث. روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

وقولها: "وصلاته تلك الخ""صلاته" مبتدأ، واسم الإشارة صفة له، أو بدل، أو عطف بيان، وجملة "تكون" خبره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1629 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ صَلَاتِهِ؟ ، فَقَالَتْ: مَا لَكُمْ وَصَلَاتَهُ؟ ، كَانَ يُصَلِّي، ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى، ثُمَّ يُصَلِّي قَدْرَ

(1)

- "المرعاة" ج 4 ص 222.

ص: 346

مَا نَامَ، ثُمَّ يَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى، حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ نَعَتَتْ لَهُ قِرَاءَتَهُ، فَإِذَا هِيَ تَنْعَتُ، قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً، حَرْفًا حَرْفًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث أم سلمة رضي الله عنها، وهذا أصحّ من الذي قبله، وقد تقدّم الكلام عليه بالرقم المذكور.

و"يعلي بن مملك" -بوزن جعفر- المكيّ مقبول [3] 13/ 1022 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌14 - ذِكْرُ صَلَاةِ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام بِاللَّيلِ

1630 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، صِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ، صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيية) بن سعيد، تقدم قريبًا.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الشهير الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(عمرو بن دينار) أبو محمد الْجُمَحيّ المكي، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(عمرو بن أوس) بن أبي أوس الثقفي الطائفيّ، تابعيّ كبير [2] ووَهِمَ من ذكره في الصحابة، وإنما الصحبة لأبيه 17/ 653.

5 -

(عبد اللَّه بن عمرو بن العاص) السهمي، أحد السابقين، وأحد العبادلة الفقهاء، الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه مكيين، وهما سفيان، وعمرو بن دينار، وطائفيّين،

ص: 347

وهما عمرو بن أوس، والصحابيّ رضي الله عنه، وبغلانيّ، وهو شيخه. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ) الثقفي (أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبَّ الصِّيَامِ) أي أكثر ما يكون محبوبًا، واستعمال "أحبّ" بمعنى محبوب قليل، لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل

(1)

(إِلَى اللَّهِ عز وجل، صِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام) إنما كان أحب الصيام إلى اللَّه تعالى لأن فاعله يؤدي حقّ نفسه، وحقّ أهله، وحقّ زائره أيام فطره، بخلاف من يسرُدُ الصوم، فإنه يُخلّ ببعض الحقوق (كَانَ) جملة مستأنفة مبينة للجملة السابقة (يَصُومُ يَوْمًا، ويفْطِرُ يَوْمَا) قال ابن المنيّر رحمه الله: كان داود عليه السلام يَقسم ليله ونهاره لحقّ ربه، وحق نفسه، فأما الليل فاستقام له ذلك في كلّ ليلة، وأما النهار فلما تعذّر عليه أن يجزّئه بالصيام، لأنه لا يتبعّض، جعل عوضًا من ذلك أن يصوم يومًا، ويفطر يومًا، فيتنزّل ذلك منزلة التجزئة في شخص اليوم، قيل: وهو أشدّ الصيام على النفس، فإنه لا يعتاد الصوم، ولا الإفطار، فيَصعُب عليها كلّ منهما.

وظاهر قوله: "أحبّ الصيام" يقتضي ثبوت الأحبّيّة مطلقًا. ووقع في بعض الروايات: "أفضل الصيام صيام داود"، ومقتضاه أن تكون الزيادة عليه كصوم يومين، وإفطار يوم، وكصيام الدهر بلا صيام أيام الكراهة مفضولة.

وإنما كان ذلك أعدل الصيام، وأحبه إلى اللَّه تعالى، لأن فاعله يُؤَدِّي الحقوق الواجبة عليه، كما تقدّم قريبًا، بخلاف من يصوم الدهر، أي يتابع الصوم، ويسرده، فإنه يفوّت بعض الحقوق، وقد لا يشقّ عليه باعتياده، فلا يحصّل المقصود من قمع النفس، نظير ما قاله الأطبّاء من أن المرض إذا تعوّد عليه البدنُ لم يَحتَج إلى دواء.

ولم يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم الوصف المذكور في صيامه لما قيل: إن فعله كان مختلفًا، يتضمن مصالح راجعة إلى أمته، أقويائِهم وضعفائِهم، وكان يفعل العبادات بحسب ما يظهر له من الحكمة في أوقات الطاعات، دون الحالات المألوفات والعادات. وقد روى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: إن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ العملَ بالشيء، وهو يحبّ أن يعمل به، خشيةَ أن يَعمَل به الناس، فَيُفْرَض عليهم"، زاد في رواية: قالت: "وكان يحبّ ما خفّ على الناس".

(1)

- "المرعاة" ج 4 ص 223.

ص: 348

(وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ، صَلَاةُ دَاوُدَ) عليه السلام (كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ) أي النصف الأول منه. قال السنديّ رحمه الله: الظاهر أنه كان ينام من الوقت الذي يعتاد فيه النوم إلى نصف الليل، أو المراد بالليل ما سوى الوقت الذي لا يعتاد فيه النوم من أوله، والقول بأنه ينام من أول غروب الشمس بعيد. واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قال المهلّب -رحمه اللَّه تعالى-: كان داود عليه السلام يُجِمّ نفسه

(1)

بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي اللَّه تعالى فيه:"هل من سائل، فأعطيه سؤله"، ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل، وهذا هو النوم عند السحر، وإنما كانت هذه الطريقة أحبّ من أجل الأخذ بالرفق للنفس التي يُخشى منها السآمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه لا يمَلّ حتى تملّوا"، واللَّه يحبّ أن يُديم فضلَهُ، ويوالي إحسانه.

وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يُريح البدن، وُيذهب ضرر السهَر، وذُبُول الجسم، بخلاف السهر إلى الصباح، وفيه من المصلحة أيضًا استقبال صلاة الصبح، وأذكار النهار بنشاط وإقبال، وأنه أقرب إلى عدم الرياء، لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون، سليم القُوَى، فهو أقرب إلى أن يُخفي عمله الماضي على من يَراه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد.

وحَكَى عن قوم أن معنى قوله: "أحب الصلاة" هو بالنسبة إلى من حاله مثل حال المخاطب بذلك، وهو من يشقّ عليه قيام أكثر الليل، قال: وعمدة هذا القائل اقتضاءُ القاعدة زيادة الأجر بسبب زيادة العمل لكن يعارضه هنا اقتضاءُ العادةِ والجبلّةِ التقصيرَ في حقوق يُعارضُها طولُ القيام، ومقدارُ ذلك الفائت مع مقدار الحاصل من القيام غيرُ معلوم لنا، فالأولى أن يُجرَى الحديث على ظاهره، وعمومه، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة، بمقدار تأثير كلّ منهما في الحثّ، أو المنع غير محقّق لنا، فالطريق حينئذ أن نفوّض الأمر إلى صاحب الشرع، ونَجرِي على ما دلّ عليه ظاهر اللفظ مع ما ذكرناه من قوّة الظاهر هنا. واللَّه تعالى أعلم

[تنبيه]: قال ابن التين: هذا المذكور إذا أجريناه على ظاهره، فهو في حقّ الأمة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمره اللَّه تعالى بقيام أكثر الليل، فقال:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1، 2]. انتهى. وفيه نظر؛ لأن هذا الأمر قد نسخ، كما تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها[2/ 1601]

(2)

.

(1)

- بضم الياء من الإجمام، أي يُريحها.

(2)

- انظر "الفتح" ج 3 ص 323.

ص: 349

(وَيَقُومُ ثُلُثَهُ) بضم اللام، وتسكن، ويقال فيه: الثَّلِيث أيضًا: والمراد الثلث الذي بعد النصف، لما في رواية ابن جُريج، عن عمرو بن دينار، عند مسلم:"كان يَرقُد شطر الليل، ثم يقوم ثلث الليل بعد شطره". قال ابن جريج: قلت لعمرو بن دينار: عمرو بن أوس هو الذي يقول "يقوم ثلث الليل؟ " قال: نعم انتهى. وظاهره أن تقدير القيام بالثلث من تفسير الراوي، فيكون في الرواية الأولى إدراج، ويحتمل أن يكون قوله:"عمرو بن أوس ذكره" أي بسنده، فلا يكون مدرجًا.

وفي رواية ابن جريج من الفائدة ترتيب ذلك بـ "ثمّ"، ففيه الرد على من أجاز في حديث الباب أن تحصل السنّة بنوم السدس الأول مثلاً، وقيام الثلث، ونوم النصف الأخير، والسبب في ذلك أن الواو لا ترتّب.

(ويَنَامُ سُدُسَهُ) بضم الدال، وتسكن، ويقال فيه: السَّدِيس أيضًا، أي سدسه الأخير من الليل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى - عنهما متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-14/ 1630 - وفي "الكبرى" 22/ 1327 و 69/ 2344 - بالإسناد المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 63 و 4/ 195 (م) 3/ 165 (د) 2448 (ق) 1712 (الحميدي 589)(أحمد) 2/ 160 (الدارمي) 1759 (ابن خزيمة)1145. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: مشروعية الاقتداء بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في العبادات، كما أمر اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الآية [الأنعام: 90]. ومنها: أنه يدلّ على أن صوم يوم، وفطر يوم أحبّ إلى اللَّه تعالى من غيره، وإن كان أكثرَ منه، وما كان أحبّ إلى اللَّه تعالى فهو أفضل، والاشتغال به أولى، وقد ثبت في رواية مسلم: أن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا أفضل من ذلك". ومنها: أن الأفضل للشخص أن يقوم ثلث الليل بعد نوم نصفه، ثم يُعقّب ذلك بنوم السدس الأخير،

ص: 350

ليستعين به على القيام بنشاط لصلاة الصبح، وأذكار النهار. ومنها: استحباب المداومة على صلاة الليل، وعدم قطعها بسبب طول السهر المؤدِّي إلى الملل والسآمة، بل يلتزم ذلك على الوجه الذي لا يشق على نفسه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌15 - ذِكْرُ صَلَاةِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عليه السلام، وَذِكْرِ الاخْتِلَاف عَلَى سُلَيمَانَ التَّيْمِيِّ فِيهِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل الاختلاف في هذا الحديث أن معاذ بن خالد رواه عن حمّاد بن سلمة، عن سليمان التيمي، عن ثابت، عن أنس، فأدخل ثابتًا بين سليمان وأنس - رضي اللَّه تعالى عنه -. وخالفه الحفّاظ من أصحاب حماد بن سلمة، وهم يونس بن محمد، وحَبّان بن هلال، عند المصنف، والحسنُ بن موسى، وعفّانُ مسلم عند أحمد، وهُدْبَة بن خالد، وشيبان بن فَرّوخ، عند مسلم، كلهم قالوا: عن حماد بن سلمة، عن سليمان التيمي، عن أنس، بدون ذكر ثابت، ووافق حمادَ بنَ سلمة في ذلك الثوريُّ، وعيسى بنُ يونس، وجريرُ بن عبد الحميد، ومعتمرُ بن سليمان، فكلهم قالوا: عن سليمان، عن أنس، بل صرّح سليمان بالسماع من أنس في رواية عبدة بن سليمان، عن الثوريّ عند مسلم، وكذا في رواية معتمر، عن أبيه، كما في الرواية الآتية للمصنّف [1636]. فلهذا قال المصنف -رحمه اللَّه تعالى- عقب الحديث الثاني: هذا أولى بالصواب عندنا من حديث معاذ بن خالد. انتهى.

فخالد بن معاذ له مناكير، كما يأتي ذلك عن الحافظ الذهبي -رحمه اللَّه تعالى-، فهذا من جملة مناكيره حيث خالف الحفاظ الأثبات، واللَّه تعالى أعلم.

وفي الإسناد أيضًا اختلاف آخر، وهو أنه اختُلف فيه على سليمان، هل هو عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أنس، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ، لأن الإرسال في الطريق الأول له حكم الاتصال، إذ هو

ص: 351

مرسل صحابي، وهو متصل صحيح حكمًا عند الجمهور.

فلهذا - واللَّه أعلم- لم يتعرّض له المصنف رحمه الله هنا

(1)

، بل أشار إلى الاختلاف الأول فقط. واللَّه تعالى أعلم.

ثم إن مناسبة حديث موسى عليه السلام لأبواب قيام الليل من حيث كونه صلى الله عليه وسلم رآه يصلي في قبره ليلة أسري به، فدلّ على أن موسى عليه السلام ممن كان يصلي صلاة الليل، وهو من الأنبياء الذين أمرنا بالاقتداء بهم، كما تقدم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1631 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِي، عَلَى مُوسَى عليه السلام، عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عليّ بن حرب) المروزيّ المعروف بـ "التُّرْك"- بضم المثناة، وسكون الراء- وقد يُنسب إلى جدّه، ثقة [11] 109/ 148.

2 -

(معاذ بن خالد) بن شَقيق بن دينار، العبديّ مولاهم، أبو بكر المروزيّ، صدوق، من كبار [10].

روى عن حماد بن سلمة، والثوري، وابن المبارك، وغيرهم. وعنه محمد بن علي بن حرب، وابن راهويه، ووهب بن زَمْعة، وغيرهم. قال الذهبيّ: له مناكير، وقد احتُمل. وقال ابن حبّان في "الثقات": مات قبل المائتين. قال الحافظ: كذا قال، والأشبه أن يكون مات بعدها. انفرد به المصنّف، روى له في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار البصري، ثقة عابد، تغيّر بآخره، من كبار [8] 18/ 288.

4 -

(سليمان) بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، ثقة عابد [4] 87/ 107.

5 -

(ثابت) بن أسلم البُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.

6 -

(أنس بن مالك) - رضي اللَّه تعالى عنه - 5/ 5. واللَّه تعالى اعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير معاذ بن خالد، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمروزيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- وإنما تعرّض له في "الكبرى" ج 1 ص 419.

ص: 352

شرح الحديث

(عَنْ أَنسِ بنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،قالَ: "أتيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، عَلَى مُوسَى عليه السلام، عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ)"الكثيب" بفتح، فكسر: هو ما ارتفع من الرَّمْل، كالتَّلِّ الصغير، قيل: هذا ليس صريحا في الإعلام بقبره الشريف، ومن ثمّ اختلفوا فيه.

قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: [فإن قيل]: كيف رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ببيت المقدس، ووجدهم على مراتبهم في السموات، وسلّموا عليه، ورحّبوا به؟.

[فالجواب]: أنه يحتمل أن تكون رؤيته موسى في قبره عند الكثيب الأحمر كانت قبل صعود النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وفي طريقه إلى بيت المقدس، ثم وجد موسى قد سبقه إلى السماء. ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء صلوات اللَّه، وسلامه عليهم، وصلى بهم على تلك الحال لأوّل ما رآهم، ثم سألوه، ورحّبوا به، أو يكون اجتماعه بهم، وصلاته، ورؤيته موسى بعد إنصرافه ، ورجوعه عن سدرة المنتهى. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ) قال الشيخ بدر الدين الصاحب في مؤلّف له في حياة الأنبياء عليهم السلام: هذا صريح في إثبات الحياة لموسى صلى الله عليه وسلم في قبره، فإنه وصفه بالصلاة، وإنه قائم، ومثل ذلك لا يوصف به الروح، وإنما يوصف به الجسد، وفي تخصيصه بالقبر دليل على هذا، فإنه لو كان من أوصاف الروح لم يحتج لتخصيصه.

وقال الشيخ تقي الدين السبكيّ: في هذا الحديث أن الصلاة تستدعي جسدًا حيّا، ولا يلزم من كونها حياة حقيقة أن تكون لا بدّ معها كما كانت في الدنيا، من الاحتياج إلى الطعام، والشراب، وغير ذلك من صفات الأجسام التي نشاهدها، بل يكون لها حكم آخر انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-:

[فإن قيل]: كيف يَحُجُّون، ويُلبّون، وهم أموات، وهم في الدار الآخرة، وليست دار عمل؟.

فاعلم أن للمشايخ، وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة:

(1)

- انظر "شرح مسلم" للنووي ج 2 ص 238.

(2)

- انظر "زهر الربى" ج 3 ص 215 - 216.

ص: 353

أحدها: أنهم كالشهداء، بل هم أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجوا، ويصلوا، كما ورد في الحديث الآخر، وأن يتقرّبوا إلى اللَّه تعالى بما استطاعوا؛ لأنهم، وإن كانوا قد تُوفّوا، فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدّتها، وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء، انقطع العمل.

الوجه الثاني: أن عمل الآخرة ذِكْر، ودعاء، قال اللَّه تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} الآية [يونس: 10].

الوجه الثالث: أن تكون هذه رؤية منام، في غير ليلة الإسراء، أو في بعض ليلة الإسراء، كما قال في رواية ابن عمر رضي الله عنه:"بينا أنا نائم، رأيتني أطوف بالكعبة"، وذكر الحديث في قصة عيسى صلى الله عليه وسلم.

الوجه الرابع. أنه صلى الله عليه وسلم أُري أحوالهم التي كانت في حياتهم، ومثّلوا له في حال حياتهم، كيف كانوا؟، وكيف حجّهم، وتلبيتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"كأني أنظر إلى موسى، و"كأني أنظر إلى عيسى"، و"كأني أنظر إلى يونس" عليهم السلام.

الوجه الخامس: أن يكون أخبر عما أُوحي إليه صلى الله عليه وسلم، من أمرهم، وما كان منهم، وإن لم يرهم رؤية عين انتهى كلام القاضي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن القول الأول هو الأرجح؛ لظواهر النصوص، ولا داعي إلى هذه التأويلات البعيدة عن ظواهر الأحاديث، فيكون الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مخصوصين من عموم حديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله

" الحديث؛ لهذه الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 15/ 1631 - وفي "الكبرى" 23/ 1328 - بالإسناد المذكور و 1633 - و"الكبرى" 1329 و 1634 و 1635 و 1636 و1330 و 1637 و 1331 - بالأسانيد الآتية، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

(1)

- انظر "شرح مسلم" للنووي ج 2 ص 228 - 229.

ص: 354

أخرجه (م) 7/ 102 (أحمد) 3/ 120 و 3/ 148 و 3/ 248 (عبد بن حُميد)1205. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1632 -

أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ، يُصَلِّي» .

قَالَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ، عِنْدَنَا، مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ خَالِدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: هَذَا أَوْلَى بالصوَاب، عِنْدَنَا، مِنْ حَدِيثِ معَاذِ بْنِ خَالِدٍ، وَاللَّهُ

تَعَالَى أَعْلَمُ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. هذ إسناد ثان لحديث أنس رضي الله عنه بيّن به المصنف رحمه الله الاختلاف الذي أشار إليه في الترجمة، وقد تقدم وجهه هناك.

ورجاله تقدّموا في السند الماضي، سوى:

1 -

(العباس بن محمد) بن حاتم الدُّوريّ، أبي الفضل البغداديّ، خُوَارزميّ الأصل، ثقة حافظ [11] 102/ 135.

2 -

(يونس بن محمد) بن مسلم البغداديّ، أبي محمد الحافظ المؤدّب، ثقة ثبت، من صغار [9].

روى عن داود بن أبي الفُرَات، والليث بن سعد، ومعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة، وغيرهم. وعنه ابنه إبراهيم، وأحمد، وابن المدينيّ، وعباس الدُّوريّ، وغيرهم.

قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في صفر سنة (207)، وكذا قال أبو حبان الزياديّ. وقال خليفة، وابن سعد، ومطيّن، وغيرهم: مات سنة (208). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

وقوله: "هذا أولى بالصواب الخ" يعني أن كونه عن سليمان، وثابت، كلاهما، عن أنس أصح، من كونه عن سليمان، عن ثابت، عن أنس، لأن يونس بن محمد أحفظ، وأوثق من معاذ بن خالد، وقد تابعه فيه حَبّان بن هلال، كما بينه في الإسناد التالي.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1633 -

أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ثَابِتٌ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَرَرْتُ عَلَى قَبْرِ مُوسَى عليه السلام، وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثالث لحديث أنس رضي الله عنه، تابع فيه حبّانُ

ص: 355

بن هلال يونسَ بنَ محمد، في كونه عن سليمان، وثابت، كلاهما عن أنس رضي الله عنه.

و (أحمد بن سعيد): هو الرِّبَاطي المروزيّ: ثقة حافظ [11] 90/ 1030.

و (حبّان) -بفتح الحاء المهملة-: هو ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقة ثبت [9] 44/ 590 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1645 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، عَلَى مُوسَى عليه السلام، وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق رابع لحديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - أيضًا، ساقه المصنّف لبيان أن عيسى بنَ يونس تابع فيه حمادَ بنَ سلمة، في قوله: عن سليمان، عن أنس بدون واسطة ثابت.

و (علي بن خَشْرَم): هو المروزي، ثقة حافظ، من صغار [10] 8/ 8.

و (عيسى): هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، ثقة مأمون [8] 8/ 8.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1635 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، مَرَّ عَلَى مُوسَى عليه السلام، وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق خامس لحديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، ساقه المصنف لبيان أن المعتمر وافق يونس بن محمد، ومن وافقه في كونه عن سليمان، عن أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -.

و (محمد بن عبد الأعلى): هو الصنعاني البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

و (معتمر): هو ابن سليمان بن طَرْخان البصريّ، ثقة، من كبار [9] 10/ 10.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1636 -

أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، مَرَّ عَلَى مُوسَى عليه السلام، وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق سادس لحديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، ساقه المصنف لبيان أنه اختُلف على معتمر فيه، فإن محمد بن عبد الأعلى في الرواية السابقة عنه، جعله عن أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فخالفه يحيى بن عربيّ، وإسماعيل بن مسعود، كلاهما عنه، فجعلاه عن أنس، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 356

و (يحيى بن حَبيب): هو ابن عربي البصريّ، ثقة [10] 60/ 75.

و (إسماعيل بن مسعود): هو الجحدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله في "النُّكَت الظِّرَاف" جـ1 ص232: هذا الحديث جاء من طرُق عن سليمان التيميّ، عن أنس، عن بعض الصحابة، ومنهم من عيّنه، فقال: عن أبي هريرة، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" من رواية خالد الطحان، وابنُ شاهين من طريق بشر بن المفضّل، ومن طريق حُسين بن حفص، عن الثوريّ، ثلاثتهم عن سليمان التيميّ، عن أنس: أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه ابن شاهين من طريق عمر بن حبيب، عن سليمان، عن أنس، عن أبي هريرة. وقال. تفرّد به عمر بن حبيب انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أنه اتفق خالد الطحّان، وبشر بن المفضل، والثوريّ، كما ذكر الحافظ، ومعتمر بن سليمان، في رواية يحيى بن عربي، وإسماعيل بن مسعود عنه كما هو عند المصنف هنا، وابن أبي عديّ، عند المصنف أيضًا، خمستهم عن سليمان التيمي، عن أنس، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

واتفق حماد بن سلمة، وعيسى بن يونس، ومعتمر بن سليمان، في رواية محمد بن عبد الأعلى عنه، ثلاثتهم عن سليمان، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

والذي يظهر لي أن الحديث ثابت عن أنس رضي الله عنه بالوجهين، فيُحمَل على أنه سمعه من بعض الصحابة، ثم سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يحدث بالوجهين تارة عن بعض الصحابة، وتارة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا كثير في روايات الثقات الحفّاظ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1637 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق سابع لحديث أنس رضي الله عنه، وتقدم الكلام عليه في الذي قبله.

و (ابن أبي عديّ): هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، نسب لجده، ثقة [9] 122/ 175. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 357

‌16 - بَابُ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرد بهذه الترجمة- واللَّه تعالى أعلم- مشروعية إحياء الليل كله، من غير كراهة لمن لايتضرّر بذلك، ولا يضيّع الحقوق الواجبة عليه، وحديث الباب صريح في ذلك، لكنه محمول على بعض الأحيان بدليل حديث عائشة رضي الله عنها الآتي 17/ 1641 - "ولا قام ليلة حتى الصباح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1638 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، وَبَقِيَّةُ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ رَاقَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَةَ كُلَّهَا، حَتَّى كَانَ مَعَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَلَاتِهِ، جَاءَهُ خَبَّابٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَقَدْ صَلَّيْتَ اللَّيْلَةَ صَلَاةً، مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ نَحْوَهَا، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، «أَجَلْ، إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ، سَأَلْتُ رَبِّي عز وجل، فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِى اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي عز وجل، أَنْ لَا يُهْلِكَنَا، بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الأُمَمَ قَبْلَنَا، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي عز وجل، أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا، مِنْ غَيْرِنَا، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي، أَنْ لَا يَلْبِسَنَا شِيَعًا فَمَنَعَنِيهَا» .

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير) الحمصيّ، صدوق [10] 21/ 535.

2 -

(أبوه) عثمان بن سعيد بن كثير الحمصيّ، ثقة عابد [9] 69/ 85.

3 -

(بقيّة) بن الوليد الحمصي، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 557.

4 -

(ابن أبي حمزة) هو شعيب الحمصي، ثقة ثبت [7] 69/ 85.

5 -

(الزهري) محمد بن مسلم تقدم قريبًا.

6 -

(عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل) بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقة [3]. وقال أبو حاتم: يُقال: عُبيد اللَّه، وعبد اللَّه أصحّ.

روى عن أبيه، وعبد اللَّه بن خَبّاب، وابن عباس، وعبد اللَّه بن شَدّاد، وغيرهم. وعنه أخوه عون، وعاصم بن عُبيد اللَّه، والزهريّ، وغيرهم.

قال النسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال العجليّ: مدنيّ

ص: 358

تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد، وعمرو بن عليّ: قتله السَّمُوم بالأبواء، وهو مع سليمان بن عبد الملك، سنة (99) وقال الزبير بن بكّار نحو ذلك، وكذا أرّخه ابن المدينيّ.

روى له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف. له في البخاريّ، وأبي داود في رجوع عمر لما وقع الوباء بالشام، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

7 -

(عبد اللَّه بن خبّاب بن الأَرَتّ) المدنيّ، حليف بني زُهرة، يقال: له رؤية، ثقة [2].

روى عن أبيه، وأُبيّ بن كعب. وعنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الحارث، وعبد الرحمن ابن أبزى، وعند اللَّه بن أبي الهُذَيل، وغيرهم. قال العجليّ: ثقة، من كبار التابعين، قتله الحَرُوريّة، أرسله إليهم عليّ، فقتلوه، فأرسل إليهم عليّ، أَقِيدونا بعبد اللَّه بن خبّاب، فقالوا: كيف نُقيدك به، وكلّنا قتله؟ فقتلهم. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وقال أبو نعيم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، مختلف في صحبته، له رؤية، ولأبيه صحبة. وقال الغلابي: قُتل سنة (37) وكان من سادات المسلمين. ووى له الترمذي، والمصنّف حديثَ الباب فقط.

8 -

(أبوه) خبّاب بن الأرتّ التميميّ، أبو عبد اللَّه، من السابقين إلى الإسلام، وكان يُعذّب في اللَّه، شهد بدرًا، ثم نزل الكوفة، ومات رضي الله عنه بها سنه (37) روى له الجماعة، تقدّم 2/ 497 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، والباقون حمصيون. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه مرّتين، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الزهريُّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن خبّاب. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن خَباب بْنِ الأَرَت، عَنْ أَبِيهِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدرا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَي حضر وقعة بدر الكبرى في رمضان من السنة الثانية (أَنَّهُ رَاقَب رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي حَفِظَ فعله، أو انتظره حتى ينتهي من فعله ليحفظه (اللَّيْلَةَ كُلَّهَا) الظرف متعلّق بـ "راقب"، كلها، ولفظه في "الكبرى" من طريق صالح بن كيسان، عن الزهري: "رَمَقْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ليلة، صلاّها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلّها، حتى كان

ص: 359

مع الفجر

" الحديث.

وفيه دليل على عدم كراهة إحياء كل الليل في بعض الأحيان، ولا ينافي ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم ما قام ليلة كلها، لأن ذلك محمول على غالب أحواله صلى الله عليه وسلم.

(حَتَّى كَانَ مَعَ الْفَجْرِ) اسم "كان" ضمير يعود إلى الانتظار، والظرف خبرها، أي حتى كان الانتظار، منتهيا مع الفجر (فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَلَاتهِ) أي في تلك الليلة (جَاءَهُ خَبَّابٌ) رضي الله عنه (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بأبِي أَنْتَ وَأُمى) متعلق بفعل محذوف، والأصل أَفْديك بأبي، وأمّي، فحذف الفعل، وانفصل الضمير، أو "أنت" مبتدأ، والجار والمجرور متعلق بخبر مقدّر، أي أنت مَفْديّ بأبي وأمي (لَقَدْ صَلَّيْتَ اللَّيْلَةَ) بالنصب على الظرفية لما قبله (صَلَاةً، مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ نَحْوَهَا، فَقالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ) قال ابن محظور رحمه الله: "أجل" بفتحتين بمعنى "نعَمْ"، وقولههم: أجل هو جواب مثل نعم، قال الأخفش: إلا أنه أحسن من نعم في التصديق، ونعم أحسن منه في الاستفهام، فإذا قال: أنت سوف تذهب، قلت. أجلْ، وكان أحسن من نعم، وإذا قال: أتذهب؟ قل: نعم، وكان أحسن من أجل، وأَجَل تصديق لخبر يُخبرك به صاحبك، فيقول: فعل ذلك، فتصدّقه، بقولك له: أجل، وأما نعم فهو جواب المستفهم بكلام لا جَحْد فيه، تقول له: هل صلّيت؟ فيقول: نعم، فهو جواب المستفهم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما هنا موافق لما قاله الأخفش، فخبّاب رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعله تلك الليل، متعجبًا من تطويله الصلاة، فأجابه بـ "أجل". واللَّه تعالى أعلم.

(إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ) وفي نسخة "رغبة، ورهبة". يقال: رَغبتُ في الشيء، ورَغِبتُهُ، يتعدّى بنفسه أيضًا، من باب تَعِب: إذا أردته، رَغَبًا بفتح الغين، وسكونها، ورَغْبَى بفتح الراء، وضمها، ورَغْباء بالفتح والمدّ.

ويقال: رَهِب رَهَبَا، من باب تَعِبَ: خاف، والاسم الرهبة. وأما الرغْبَة، والرهْبَة، فالتاء فيه لتأنيث المصدر، والجمع رَغَبَات، ورَهَبَات، مثل سَجْدة، وسَجَدَات أفاده في "المصباح".

يعني أن هذه صلاةٌ، رَغِبتُ بها فيما وعد اللَّه تعالى من استجابة دعاء من دعاه، ورَهِبت فيها أن يُخَيّب أملي في ذلك. واللَّه تعالى أعلم. وقال السنديّ رحمه الله

(1)

- "لسان العرب" في مادة أجل.

ص: 360

تعالى: معنى "صلاة رغبة، ورهبة" أي صلاة رغبة في استجابة دعائها، ورهبة من ردّه. انتهى.

(سَألْتُ رَبِّي عز وجل، فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْن، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي) وفي نسخة "سألت اللَّه"(عز وجل، أَنْ لَا يُهْلِكَنَا، بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا) أي بعذاب الاستئصال، كما أهلك قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وغيرهم من الذين عصوا اللَّه عز وجل، وعصوا رُسُلهم - عليهم الصلاة والسلام -، ممن أخبر اللَّه تعالى عنهم في كتابه العزيز.

(فَأَعْطَانِيهَا، وَسَألْتُ رَبِّي عز وجل، أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا، مِنْ غَيْرِنَا) أي لا يجعل علينا سبيلاً لغلبة عدوّ من غير المسلمين، من اليهود والنصارى، والمشركين، وغيرهم (فَأعْطَانِيهَا) والمراد أن لا يغلبوا المسلمين غلبة تستبيح بيضة الإسلام، وتستأصل المسلمين جميعًا، فلا يَرِد ما يحصل في بعض الأحيان من غلبة بعض أعداء الإسلام على بعض المسلين (وَسَأَلْتُ رَبِّي، أَنْ لَا يَلْبِسَنَا) بفتح حرف المضارعة، وكسر الباء الموحدة، يقال: لَبَستُ الأمرَ لَبْسًا، من باب ضَرَب: خَلَطته، وفي التنزيل:{وللبسنا عليهم ما يَلبِسُون} ، والتشديد مبالغة، قاله في "المصباح". أي لا يخلطنا في معارك الحرب (شِيَعًا) بكسر، ففتح جمع شِيعة بالكسر: أي فِرَقًا مختلفين، يقتل بعضنا بعضًا (فَمَنَعَنِيهَا) أي منعني إجابة هذه الخصلة.

وهذا الحديث بمعنى قول اللَّه تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} الآية [الأنعام: 65].

فقد أخرج البخاري رحمه الله في "صحيحه" عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، قال: لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك"{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: "أعوذ بوجهك"{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هذه أهون -أو- أيسر". انتهى.

وقد أورد الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- في تفسير الآتية المذكورة أحاديث كثيرة بمعنى حديث الباب:

فمنها: ما أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال: حدثنا عبد الرزاق، قال: قال معمر: أخبرني أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أبي أسماء الرَّحَبي، عن شَدْاد بن أوس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن اللَّه عز وجل، زَوَى لي الأرض، حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ، ما زُوي لي منها، وإني أُعطيت الكنزين: الأبيض، والأحمر، وإني سألت ربي عز وجل، أن لا يُهلك أمتي بسنة بعامة، وأن لا

ص: 361

يسلط عليهم عدوا، فيهلكهم بعامة، وأن لا يَلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، وقال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يُردّ، وإني قد أعطيتك لأمتك، أن لا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدوا، ممن سواهم، فيهلكوهم بعامة، حتى يكون بعضهم، يُهلك بعضا، وبعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا".

قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وُضع السيف في أمتي، لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة".

قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: ليس -يعني هذا الحديث- في شيء من الكتب الستة، وإسناده جيد

(1)

.. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته. حديث خبّاب الأرتّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-16/ 1638 - وفي "الكبرى" 24/ 1332 - بالإسناد المذكور، وفي "الكبرى" أيضًا 24/ 1333 - عن محمد بن يحيى بن عبد اللَّه النيسابوري، عن يعقوب ابن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (ت) 2175 (أحمد) 5/ 108 و5/ 109. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية إحياء كلّ الليل أحيانا، إذا لم يترتّب عليه مفسدة. ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادة. ومنها: ما كان عليه من الشفقة بأمته، ورأفته بهم، فإن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لما عصتهم أممهم دعوا اللَّه تعالى عليهم، فأهلكوا إهلاكا مستأصلا لهم، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فدعا لأمته أن لا يهلكها بما أهلك به الأمم السابقة، مع أنه يَعلم أن منهم من يَستحق ما استحقته الأمم المكذبة لرسلهم، وهذا من غاية رأفته، وشدة شفقته على أمته صلى الله عليه وسلم، كما

قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]

(1)

- انظر "تفسير ابن كثير" جـ 2 ص 146.

ص: 362

ومنها: ما أعطاه اللَّه تعالى من المعجزات، حيث أجاب له دعوته لأمته، فلا يتسلّط عليها عدوّ من غيرها، فيستبيح بيضتها، وإنما يُهلك بعضها بعضا، لأمر قضاه اللَّه تعالى عليها، {وَاَللهُ يحكُمُ لَا مُعَقبَ لِحكُمِه} الآية [الرعد: 41]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌17 - الاخْتِلَافُ عَلَى عَائِشَةَ فِي إِحْيَاءِ اللَّيْلِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن الحديث الأول يدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحيى الليل كله، لأن قولها:"أحيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الليل" ظاهر في إرادة كله، والحديث الثاني يدلّ على أنه كان يقوم بعضه، وكذا الحديث الثالث.

والذي يظر لي أنه لا اختلاف بين أحاديثها، لإمكان حمل قولها:"أحيا الليل" أي معظمه، بدليل الحديث الثاني، والثالث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1639 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، أَحْيَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن يزيد) أبو يحيى المكّيّ، ثقة [10] 11/ 11.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحافظ الحجة [8] 1/ 1.

3 -

(أبو يعفور) الأصغر

(1)

: عبد الرحمن بن عُبيد بن نِسْطاس بكسر النون بن أبي صفية الثعلبيّ العامريّ البكّائيّ، ويقال: البِكَاليّ، ويقال: السلميّ الكوفي، ثقة [5].

روى عن السائب بن يزيد، وأبي الضحى، وإبراهيم النخعيّ، وغيرهم. وعنه

(1)

- وأما أبو يعفور الأكبر فاسمه وقدان، ويقال: واقد، كوفي ثقة من الطبقة [4].

ص: 363

السفيانان، وابن المبارك، وغيرهم. قال أحمد، وابن معين، ويعقوب بن سُفيان: ثقة.

وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 1639 و 2154 و 3455 و 5729.

4 -

(مسلم) بن صُبيح الهمدانيّ العطّار، أبو الضُّحَى الكوفي، ثقة فاضل [4] 96/ 123.

5 -

(مسروق) بن الأجدع الهمداني، أبو عائشة الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل [2] 90/ 112.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وسفيان، فمكيان، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين الكوفيين يروي بعضهم عن بعض: أبو يعفور، عن مسلم، عن مسروق. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مَسْرُوقٍ) -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: قَالَتْ: عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ) أي ليالي العشر الأخير من رمضان، وصرّح بكونه الأخير في حديث علي رضي الله عنه، عند ابن أبي شيبة، والبيهقيّ من طريق عاصم بن ضمرة، عنه. قاله في "الفتح"(أَحْيَا رَسُولُ) تنازعاه "كان"، و "أحيا"(اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَ) الظاهر أن المصنف -رحمه اللَّه تعالى- يرى أن معناه أحيا كل الليل، فلذا قال في الترجمة:"الاختلاف على عائشة في إحياء الليل"، لكن الذي يظهر، كما قدمته قريبًا أنه يحمل على أن المعنى معظم الليل، فلا اختلاف بين أحاديثها - واللَّه تعالى أعلم.

ومعنى أحيا الليل: أي سَهِره، فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه، لأن النوم أخو الموت (وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) أي للصلاة، وروى الترمذيّ، ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة رضي الله عنها:"لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا من أهله، يُطيق القيام إلا أقامه".

(وَشَدَّ الْمِئْزَرَ) أي اعتزل النساء، وبذلك جزم عبد الرزّاق، عن الثوريّ، واستشهد بقول الشاعر:[من البسيط]

قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ

عَنِ النِّسَاءِ وَلَو بَاتَتْ بِأَطْهَارِ

ص: 364

وذكر ابن أبي شيبة، عن أبي بكر بن عيّاش نحوه. وقال الخطابي: يحتمل أن يريد به الجِد في العبادة، كما يقال: شددت لهذا الأمر مِئْزري، أي تشمّرت له، ويحتمل أن يراد التشمير، والاعتزال معًا، ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز، كمن يقول: طويل النجاد لطويل القامة، وهو طويل النجاد حقيقة، فيكون المراد شدّ مئزره حقيقة، فلم يَحُلّه، واعتزل النساء، وشمّر للعبادة.

قال الحافظ: وقد وقع في رواية عاصم بن ضمرة المذكورة: "شدّ مئزره، واعتزل النساء"، فعطفه بالواو، فيتقوّى الاحتمال الأول انتهى

(1)

.

قال القرطبي رحمه الله: ذهب بعضهم إلى أن اعتزاله النساء كان بالاعتكاف، وفيه نظر، لقوله فيه. "وأيقظ أهله"، فإنه يُشعر بأنه كان معهم في البيت، فلو كان معتكفًا لكان في المسجد، ولم يكن معه أحد. وفيه نظر، فقد ثبت حديث:"اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه"، وعلى تقدير أنه لم يعتكف أحد منهنّ، فيحتمل أن يوقظهن من موضعه، وأن يوقظهن عند ما يدخل البيت لحاجته. قاله في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-17/ 1639 - وفي "الكبرى" 25/ 1334 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه.

أخرجه (خ) 3/ 61 (م) 3/ 175 (د) 1376 (ق) 1768 (الحميديّ) 187 (أحمد) 6/ 40 (ابن خزيمة). 2214 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادة، مع أن اللَّه غَفَرَ له ما تقدم من ذنبه، وما تأخّر. ومنها. فضل ليالي العشر الأواخر من رمضان على غيرها من الليالي. ومنها: استحباب الاجتهاد في تلك الليالي ما لا يجتهد في غيرها، فقد أخرج مسلم، وغيره عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره". ومنها: استحباب إيقاظ الأهل فيها لِيُحيُوها بالعبادة. واللَّه تعالى أعلم

(1)

- فتح ج 4 ص 803.

ص: 365

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.

1640 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: أَتَيْتُ الأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ، وَكَانَ لِي أَخًا صَدِيقًا، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، حَدِّثْنِي مَا حَدَّثَتْكَ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَتْ::: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيُحْيِى آخِرَهُ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفق عليه، وسيأتي مطوّلاً في 30/ 1680 ويأتي شرحه، وبيان مسائله هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

و"محمد بن عبد اللَّه بن المبارك". هو المُخَرِّميّ البغداديّ، الثقة الحافظ. و"يحيى": هو ابن آدم بن سليمان الكوفي، الثقة الحافظ. و"زهير": هو ابن معاوية بن حُديج الكوفي الثقة المثبت، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد اللَّه السبيعي الكوفي الثقة العابد.

وغرض المصنّف بإيراده هنا بيان الاختلاف بينه وبين قولها في الحديث الماضي: "أحيا الليل"، وقد تقدّم قريبًا أن الأصحّ أنه لا معارضة بينهما إذ يُحمَلُ قولها:"أحيا الليل" على إحياء مُعْظَمِهِ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه الموضع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1641 -

أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:: لَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا قَامَ لَيْلَةً، حَتَّى الصَّبَاحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلاً، قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في 2/ 1601 - مطوّلاً، ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد. وإنما أعاده هنا لبيان الاختلاف بينه وبين حديث عائشة المذكور أول الباب، وقد تقدم الجواب عنه قريبًا.

وسعيد: هو ابن أبي عروبة البصريّ الثقة المثبت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1642 -

أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، فَقَالَ:«مَنْ هَذِهِ؟» ، قَالَتْ: فُلَانَةُ، لَا تَنَامُ. فَذَكَرَتْ مِنْ صَلَاتِهَا، فَقَالَ:"مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ، لَا يَمَلُّ اللَّهُ عز وجل، حَتَّى تَمَلُّوا"، وَكَانَ

(1)

أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ، مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.

(1)

- وفي نسخة "ولكنّ أحب الدين إليه".

ص: 366

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شعيب بن يوسف) أبو عمرو النسائيّ، ثقة [10] 42/ 49.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحجة المشهور [9] 2/ 2.

3 -

(هشام) بن عروة المدني، الثقة الفقيه [5] 49/ 61.

4 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام المدني الثقة الفقيه الثبت [3] 40/ 44.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنسائيّ، ويحيى، فبصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَيْهَا) أي دخل البيت الذي فيه عائشة رضي الله عنها (وَعنْدَهَا امْرَأَةٌ) جملة في محل نصب على الحال (فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ "، قَالَتْ: فُلَانَةُ) هذه اللفظة كناية عن كلّ عَلَم مؤنث، فلا تنصرف، زاد عبد الرزّاق، عن معمر، عن هشام في هذا الحديث:"حسنةُ الهيئة"(لَا تَنَامُ) أي كلّ الليل، ففي رواية لأحمد "لا تنام، تصلي"، وللبخاري تعليقًا "لا تنام بالليل".

وهذه المرأة وقع في رواية مالك أنها من بني أسد، ولمسلم من رواية الزهريّ، عن عروة في هذا الحديث أنها الحَوْلاء بنتُ تُوَيْت -بمثناتين مصغّرًا- ابن حبيب -بفتح المهملة- ابن أسد بن عبد العزى، من رهط خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها. وفي روايته أيضًا "وزعموا أنها لا تنام في الليل"، وفي روايته أيضًا "وزعموا أنها لا تنام الليل".

فإن قلت: وقع في حديث الباب، من رواية هشام، عن عروة "دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وعندها امرأة"، وفي رواية الزهري، عنه "أن الحولاء مرّت بها"، فظاهره التغاير، فيحتمل أن تكون المارّة امرأة غيرها، من بني أسد أيضًا، أو أن قصّتها تعددت.

والجواب أن القصّة واحدة، ويبيّن ذلك رواية محمد بن إسحاق، عن هشام في هذا الحديث، ولفظه:"مرت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحولاء بنت تُوَيت". أخرجه محمد بن نصر في "كتاب قيام الليل" له، فيُحمل على أنها كانت أوّلاً عند عائشة، فلمّا دخل صلى الله عليه وسلم على

ص: 367

عائشة قامت المرأة، كما في رواية حماد بن سلمة

(1)

، فلما قامت لتخرج مرّت به في خلال ذهابها، فسأل عنها، وبهذا تجتمع الروايات. قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَذَكَرَتْ مِنْ صَلَاتِهَا) هذا تفسير لقولها: "لا تنام"، ولفظ "الكبرى"، وهي للبخاري أيضًا "تذكر من صلاتها". قال في "الفتح": بفتح الفوقانية، والفاعل عائشة، وروي بضم الياء التحتانية على البناء لما لم يُسمّ فاعله، أي يذكرون أن صلاتها كثيرة انتهى.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَهْ) قال الجوهري: هي كلمة مبنيّة على السكون، وهي اسم، سُمّي به الفعل، والمعنى اكفُفْ، يقال: مَهْمَتُهُ: إذا زجرتَهُ، فإن وصلتَ نَوَّنْتَ، فقلت: مَهٍ. وقال الداوديّ: أصل هذه الكلمة "ما هذا؟ "، كالإنكار، فطرحوا بعض اللفظة، فقالوا: مَة، فصيّروا الكلمتين كلمة. وهذا الزجر يحتمل أن يكونْ لعائشة، والمراد نهيها عن مدح المرأة بما ذَكَرتْ، ويحتمل أن يكون المراد النهي عن ذلك الفعل، وقد أخذ بذلك جماعة من الأئمة، فقالوا: يكره صلاة جميع الليل. قاله في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله جماعة هو الأرجح عندي، وهو ظاهر ما ذهب إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، حيث أورد الحديث في جملة أحاديث عائشة رضي الله عنها المختلفة في إحياء الليل، فإنه يدلّ على كراهة إحياء كلّ الليل بالصلاة مثل هذه المرأة، وهو يخالف حديثها المتقدّم "إذا دخلت العشر أحيا الليل"، وقد تقدم الجمع بين أحاديثها قريبًا، فتنبه. واللَّه تعالى أعلم.

(عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ) أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلّف ما لا يطاق.

وقال القاضي عياض رحمه الله: يحتمل أن يكون هذا خاصّا بصلاة الليل، ويحتمل أن يكون عامًا في الأعمال الشرعية انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: سبب ورده خاصّ بالصلاة، ولكن اللفظ عامّ، وهو المعتبر.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: حمله على العموم هو الصحيح، لأنه ثبت في رواية للبخاري بلفظ:"عليكم ما تطيقون من الأعمال"، فهو ظاهر في إرادة العموم. وإنما

(1)

- رواية حماد بن سلمة أخرجها الحسن بن سفيان في "مسنده" من طريقه، عن هشام بن عروة، ولفظه:"كانت عندي امرأة، فلما قامت، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هذه يا عائشة؟ "، قلت: يا رسول اللَّه، هذه فلانة، وهي أعبد أهل المدينة

" فذكر الحديث. اهـ فتح ج 1 ص 125.

(2)

- "فتح" ج 1 ص 125 طبعة دار الريان.

ص: 368

عبّر بقوله: "عليكم" مع أن المخاطب النساء، طلبًا لتعميم الحكم، فغلّب الذكور على الإناث. واللَّه تعالى أعلم.

(فَوَاللَّهِ) فيه جواز الحذف من غير استحلاف، وقد يُستحبّ إذا كان في تفخيم أمر من أمور الدين، أو حثّ عليه، أو تنفير من محذور. (لَا يَملُّ اللَّهُ عز وجل، حَتَّى تَمَلُّوا) هو بفتح الميم في الموضعين، والملال: استثقال الشيء، ونفور النفس عنه بعد محبّته.

وقد تقدم اختلاف العلماء في المعنى المراد بالملل هنا، وتحقيق القول الراجح في ذلك مستوفًى في شرح حديث عائشة رضي الله عنها "كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَصِيرة يبسطها بالنهار

" في-13/ 762 - باب "المصلى يكون بينه وبين الإمام سُترة"، فراجعه، تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(وكان أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ) أي إلى اللَّه تعالى، أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي نسخة:"ولكنّ أحبّ الدين إليه". قال في "الفتح": في رواية المستملي وحده "إلى اللَّه"، وكذا في رواية عبدة، عن هشام، عند إسحاق بن راهويه في "مسنده"، وكذا عند البخاريّ ومسلم من طريق أبي سلمة، ولمسلم عن القاسم، كلاهما عن عائشة، وقال باقي الرواة عن هشام:"وكان أحبّ الدين إليه"، أي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصرح به البخاريّ في "الرقاق" في رواية مالك، عن هشام، وليس بين الروايتين تخالف، لأن ما كان أحبّ إلى اللَّه، كان أحبّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. (مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ) أي الذي استمرّ عليه، ولم ينقطع عنه، وإن كان قليلاً، ففي الرواية [1655] من طريق أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها:"وكان أحبّ العمل إليه ما داوم عليه، وإن قلّ".

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: بدوام القليل تستمرّ الطاعة بالذكر، والمراقبة، والإخلاص، والإقبال على اللَّه، بخلاف الكثير الشاقّ حتى ينمو القليل الدائم، بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة.

وقال ابن الجوزيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما أَحَبّ الدائم لمعنيين:

أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرّض للذمّ، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية، ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعيّن عليه.

ثانيهما: أن مُداوِم الخير ملازمٌ للخدمة، وليس مَنْ لازَمَ الباب في كلّ يوم وقتًا ما، كمن لازم يوما كاملاً، ثم انقطع انتهى

(1)

.

(1)

- راجع "الفتح" ج 1 ص127.

ص: 369

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مَثَلُ العمل الكثير الشاقّ المنقطع مثل المطر الغزير الذي ينزل بكثرة كأفواه القِرَب في يوم واحد، بحيث يهدم البيوت، ويُفسد الزروع، ويَقطع السُّبُل، ويموت كثير من الناس، والبهائم بسيوله، ثم ينقطع في اليوم الثاني، فإنه مضرّة، لا تنتفع منه البلاد، ولا يستفيد منه العباد.

ومثل العمل القليل الدائم، كمثل المطر القليل الذي ينزل كل وقت بحسب الحاجة، فيُنبت الزرع، ويُدرّ الضرع، ويملأ الأودية بمياهه، فينتفع به الناس، والبهائم، فإنه نفع محض؛ لنفعه البلاد، وإغاثته العباد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-17/ 1642 وفي "الإيمان" 29/ 5037 - وفي "الكبرى" 9/ 1307 - بالإسناد المذكور، واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 1/ 17 (م) 2/ 189 و 2/ 190 (ت) في "الشمائل" 311 (ق) 4238 (أحمد) 6/ 46 و 6/ 51 و 6/ 199 و 6/ 212 و 6/ 231 و 6/ 247 و6/ 268 (عبد بن حُميد) 1485 (ابن خزيمة)1282. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: كراهة إحياء الليل كله بالعبادة، خشية الفتور، والملل على فاعله، فينقطع عن عبادة التزمها، فيكون رجوعًا عما بذل لربّه من نفسه. ومنها: جواز مدح الإنسان بما فيه من أعمال الخير. ومنها: استحباب الاقتصاد في العبادة، وكراهة التنطّع، والتعمّق فيها. ومنها: أن اللَّه تعالى يعامل عبده بما يعامله به هو، فإن أدام الإقبال عليه، أقبل عليه دائما، وإن أعرض عنه أعرض عنه، جزاء وفاقًا. ومنها: أن أحب الدين إلى اللَّه تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه، وإن كان قليلاً. ومنها: ما قاله النووي رحمه الله: في هذا دليل لمذهبنا، ومذهب جماعة، أو الأكثرين، أن صلاة جميع الليل مكروهة، وعن جماعة من السلف أنه لا بأس به، وهو رواية عن مالك، إذا لم يَنَم عن الصبح انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الأولون هو الحقّ؛ لصريح حديث الباب، فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك علي هذه المرأة، ففي "موطأ مالك" رحمه الله في هذا الحديث

ص: 370

زيادة "وكَرِهَ ذلك، حتى عُرِفت الكراهة في وجهه"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1643 -

أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَرَأَى حَبْلاً مَمْدُودًا، بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ:«مَا هَذَا الْحَبْلُ؟» . فَقَالُوا: لِزَيْنَبَ، تُصَلِّى، فَإِذَا فَتَرَتْ، تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ» .

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عمران بن موسى) القَزّاز الليثي، أبو عمرو البصريّ، صدوق [10] 6/ 6.

2 -

(عبد الوارث بن سعيد) العنبريّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت [8] 6/ 6.

3 -

(عبد العزيز) بن صُهيب البُنَانيّ البصريّ، ثقة [4] 18/ 19.

4 -

(أنس بن مالك) الأنصاريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - 5/ 5 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (101) من رباعيّات الكتاب. (ومنها). أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن رجال الأربعة، سوى أبي داود. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى - عنه من المكثرين السبعة، روت (2286) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَرَأَى حَبلاً مَمْدُودًا، بَيْنَ سَارِيتَيْن) أي اللتين في جانب المسجد، ولفظ البخاري "بين الساريتين" بالتعريف، وكأنهما كانتا معهودتين للمخاطب (فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ؟) أي ما فائدة مدّه بين السارتين؟ (فَقَالُوا) وفي نسخة "قالوا"(لِزَيْنَبَ) رضي الله عنها.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: جزم كثير من الشرّاح، تبعًا للخطيب في "مبهماته" بأنها بنت جحش، أم المؤمنين رضي الله عنها، ولم أر ذلك في شيء من الطرق صريحًا. ووقع في شرح الشيخ سراج الدين ابن الملقّن أن ابن أبي شيبة رواه كذلك، لكنّي لم أر في "مسنده"، و"مصنّفه" زيادة على قوله:"قالوا: لزينب". أخرجه عن إسماعيل ابن عُليّة، عن عبد العزيز، وكذا أخرجه مسلم عنه، وأبو نُعيم في "المستخرج" من طريقه،

(1)

- انظر "شرح النووي" ج 6 ص 73.

ص: 371

وكذلك رواه أحمد في "مسنده" عن إسماعيل، وأخرجه أبو داود عن شيخين له، عن إسماعيل، فقال عن أحدهما "زينب"، ولم يَنسُبها، وقال عن آخر "حَمْنَة بنت جحش"، فهذا قرينة في كون زينب هي بنت جحش.

وروى أحمد من طريق حماد، عن حُميد، عن أنس أنها حمنة بنت جحش أيضًا، فلعلّ نسبة الحبل إليهما باعتبار أنه ملك لإحداهما، والأخرى المتعلّقة به. وقد تقدّم في "كتاب الحيض" أن بنات جحش كانت كل واحدة منهنّ تُدعى زينب، فيما قيل، فعلى هذا فالحبل لحمنة، وأطلق عليها زينب باعتبار اسمها الآخر.

ووقع في "صحيح" ابن خزيمة من طريق شعبة عن عبد العزيز: "قالوا: ليمونة بنت الحارث"، وهي رواية شاذّة، وقيل: يحتمل تعدد القصة، ووهِمَ من فسّرها بجويرية بنت الحارث، فإن لتلك قصة أخرى انتهى

(1)

.

(تُصَلِّي) أي صلاة الليل قائمة (فَإِذَا فَتَرَتْ) بفتح المثنّاة، أي كَسِلت عن القيام في الصلاة، ووقع في مسلم بالشكّ، "فإذا فَتَرت، أو كَسِلَت" -بكسر السين- (تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حُلُّوهُ) بضم الحاء، أمر من حَلَّ العُقْدَةَ يحُلُّها، من باب قتل: نَقَضَها. وزاد البخاريّ لفظة "لا" قبله، ولفظه:"لا، حُلُّوه"، قال في "الفتح": يحتمل النفي، أي لا يكون هذا الحبل، أو لا يُحمد، ويحتمل النهي، أي لا تفعلوه انتهى (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَه) بفتح النون، أي مدّة نشاطه (فَإِذَا فَتَرَ) أي كسِلَ (فَليَقْعُدْ") يحتمل أن يكون أمرًا بالقعود عن القيام، فيُستدلّ به على جواز افتتاح الصلاة قائمًا، والقعود في أثنائها، وسيأتي نقل الخلاف فيه، في "باب صلاة القاعد" إن شاء اللَّه تعالى. ويحتمل أن يكون أمرًا بالقعود عن الصلاة، أي بترك ما كان عَزَم عليه من التنفّل، ويمكن أن يستدلّ به على قطع النافلة بعد الدخول فيها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-17/ 1643 - وفي "الكبرى" في-9/ 1306 - بالإسناد المذكور، وفي "الكبرى" أيضًا -9/ 1306 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن إسماعيل ابن عُليّة، عن

(1)

- "فتح" ج3 ص 347 - 348.

ص: 372

عبد العزيز به. واللَّه أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) رقم 1150 (م) 784 (د) 1312 (ق) 1371 (أحمد)11575. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: الحث على الاقتصاد في العبادة. ومنها: النهي عن التعمّق فيها. ومنها: الإقبال على العبادة بنشاط، وأنه إذا فَتَر فليقعد حتى يذهب عنه الفتور. ومنها: إزالة المنكر باليد واللسان لمن تمكن من ذلك. ومنها: جواز التنفّل للنساء في المسجد من غير كراهة، فإنها كانت تصلي النافلة فيه، فلم ينكر عليها ذلك، وإنما أنكر عليها التكلف لذلك، وجوازه للرجال يكون من باب أولى. ومنها: كراهة التعلّق بالحبل فى الصلاة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1644 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ، قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ:«أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(محمد بن منصور) الجَوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

3 -

(سفيان) بن عيينة، تقدم أول الباب.

4 -

(زياد بن عِلَاقة) الثعلبيّ، أبو مالك الكوفيّ، ثقة، رُمي بالنصب [3] 43/ 950.

5 -

(المغيرة بن شُعبة) بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفي الصحابي المشهور - رضي اللَّه تعالى عنه - 16/ 17 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيّات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (102) من رباعيّات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه الثاني، فإنه من أفراده. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ) بكسر العين المهملة، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ) - رضي

ص: 373

اللَّه تعالى عنه - (يَقُولُ، قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي في صلاة الليل، وفي رواية البخاريّ، من طريق مِسعَر، عن زياد:"إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لَيقوم، أو ليصلي"(حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ،) أي انتفخت من طول القيام، وفي رواية البخاري المذكورة:"حتى تَرِمَ قدماه"، أو "ساقاه".

(فَقِيلَ لَهُ) لم يُسمّ القائل في حديث شعبة، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: فقالت له عائشة. لِمَ تصنع هذا يا رسول اللَّه

" (قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند البزّاز: "فقيل له: تفعل هذا، وقد جاءك من اللَّه أن قد غفر لك؟ ". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا") الفاء للسببية، عن محذوف، تقديره، أأترك تهجّدي، فلا أكون عبدًا شكورًا. والمعنى أن المغفرة سبب لكون التهجّد شكرًا، فكيف أتركه.

قال ابن بطال رحمه الله: في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدّة في العبادة، وإن أضرّ ذلك ببدنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لم يعلم بذلك، فضلاً عمن لم يأمن أنه استحقّ النار انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ومحلّ ذلك ما إذا لم يُفض إلى الملال، لأن حال النبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل الأحوال، فكان لا يملّ من عبادة ربّه، وإن أضرّ ذلك ببدنه، بل صحّ أنه قال:"وجُعِلَت قرّة عيني في الصلاة"، كما أخرجه النسائيّ من حديث أنس رضي الله عنه

(1)

.

فأما غيره صلى الله عليه وسلم، فإذا خشي الملل لا ينبغي له أن يُكرِه نفسه، وعليه يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:"خذوا من الأعمال ما تطيقون" الحديث.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظن من سأله عن سبب تحمّله المشقّة في العبادة أنه إنما يعبد اللَّه خوفًا من الذنوب، وطلبًا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غُفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم أن هناك طريقًا آخر للعبادة، وهو الشكر على المغفرة، وإيصال النعمة لمن لا يستحقّ عليه فيها شيئًا، فيتعيّن كثرة الشكر على ذلك، والشكر الاعتراف بالنعمة، والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سُمّي شَكُورًا، ومن ثَمّ قال سبحانه وتعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. انتهى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث المغيرة بن شعبة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

(1)

- سيأتي في "كتاب عشرة النساء" 1/ 3939 و 1/ 3940.

ص: 374

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 17/ 1644 - وفي "الكبرى" 21/ 1325 - بالإسناد المذكور، وفي "الكبرى"

(1)

عن سويد بن نصر، عن عبد اللَّه بن المبارك، عن ابن عيينة به. وعن قتيبة، عن أبي عوانة، عن زياد بن عِلاقة به. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 63 و 6/ 169 و 8/ 124 (م1) 8/ 141 (ت) 412 وفي "الشمائل" 261 (ق) 1419 (الحميدي) 759 (أحمد) 4/ 251 و 4/ 255 (ابن خزيمة) 1182 و1183 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة العبادة، والاجتهاد فيها، والخشية من ربّه عز وجل، مع أنه غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر؛ ليكون عبداً شكورًا.

قال العلماء رحمهم الله: إنما ألزم الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام - أنفسَهم بشدّة الخوف، لعلمهم بعظيم نعمة اللَّه تعالى عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته، ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق اللَّه تعالى أعظم من أن يقوم بها العباد. واللَّه تعالى أعلم

(2)

.

ومنها: أن الشكر يكون بالعمل، كما يكون باللسان، كما قال اللَّه تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1645 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِهْرَانَ -وَكَانَ ثِقَةً- قَالَ: حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، حَتَّى تَزْلَعَ -يَعْنِي تَشَقَّقُ- قَدَمَاهُ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلَاس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(صالح بن مِهران) الشيباني مولاهم، أبو سفيان الأصبهانيّ، ثقة زاهد، كان يقال له: الحكيم [11]

(3)

.

(1)

- هكذا عزاه إلى "الكبرى" في "تحفة الأشراف".

(2)

- انظر "الفتح" ج 3 ص 322.

(3)

- هكذا جعله في "ت" من الطبقة الحادية عشرة، والظاهر أنه من العاشرة. فليُتأمّل.

ص: 375

روى عن النعمان بن عبد السلام، وشيبان بن زكريا المعالج، ومحمد بن يوسف الزاهد، وغيرهم. وعنه عمرو بن علي الفلاس، وأسيد بن عاصم، ومحمد بن عاصم، وغيرهم.

قال عمرو بن علي: كان ثقة. وقال أسيد بن عاصم: كان يفتي، وكان أفقه من الحسين بن حفص. وقال النسائيّ: ثقة. وقال أبو نُعيم: كان من الوَرَع بمحلّ. انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

[تنبيه]: قوله: "وكان ثقة": الظاهر أنه من كلام عمرو بن عليّ الراوي عنه. واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(النعمان بن عبد السلام) بن حَبيب بن حُطيط بن عُقبة بن خُثيم بن وائل بن مهانة ابن تيم اللَّه بن ثعلبة التيمي، أبو المنذر الأصفهانيّ، أصله من نيسابور، ثم صار إلى البصرة، فتفقه، ثقة عابد فقيه [9].

روى عن سَلَمَة بن وَرْدان، وخالد بن دينار، وابن جريج، ومالك، وغيرهم. وعنه ابن مهديّ، من أقرانه، وسليمان الشاذَكُونيّ، وإبراهيم بن سُويد، وغيرهم.

كان عبد الرحمن بن مهديّ يقول: حدثنا النعمان أبو المنذر الرجل الصالح. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه. محله الصدق، قال: فقلت له: النعمان، وحسين بن حفص، وعصام، أيّهم أحبّ إليك في الثوريّ؟ فقال: النعمان أحبّ إليّ. وقال أبو الشيخ: هو أرفع مَن رَوَى عن الثوريّ من الأصبهانيين، قال: وكان ممن يَنتحل السنّة، وينتحل مذهب الثوريّ في الفقه، وكان أبوه يتبع السلطان، وخلّف له ضَيعَةً، فتركها النعمان، ولم يأخذها. وذكروا أنه ابن عمّ يزيد بن زُريع. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو نُعيم الأصبهانيّ: كان أحد العبّاد الزّهّاد الفقهاء. وقال الحاكم في "المستدرك": ثقة مأمون. توفي سنة (183) وقيل: (173). انفرد بالرواية له المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الحديث فقط، وله ذِكْرٌ في "اللقطة" من "سنن أبي داود".

4 -

(سفيان) بن سعيد الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.

5 -

(عاصم بن كليب) الجَرْميّ الكوفي، صدوق رُمي بالإرجاء [5] 11/ 889.

6 -

(كُليب) بن شهاب، الجرمي الكوفي، صدوق [2] 11/ 889.

7 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 17/ 1645 - وفي "الكبرى" 21/ 1326 واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "تَزْلَعَ" بفتح الزاي، من باب تَعِبَ، قال المجد اللغويّ -رحمه اللَّه تعالى-: الزَّلَعُ محرّكة: شُقَاقٌ في ظاهر القدم، وباطِنِهِ، وفي ظاهر الكفّ، أو تَفَطّرُ الجلد،

ص: 376

وبهاءٍ: جِرَاحة فاسدة، وزَلِعَت جِراحتُهُ، كفَرِحَ: فسدت انتهى.

وقوله: "يعني تَشَقّق" جملة معترضة بين الفعل والفاعل الذي هـ و"قدماه"، وهو تفسير للزَّلَعِ من أحد الرواة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌18 - كيفَ يَفْعَلُ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَائِمًا؟ وَذِكْرُ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ عَنْ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف في حديثها رضي الله عنها، أن الحديث الأول، والثاني يدلان على أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل لا يختلف بالقيام والقعود، بل إذا افتتح قائما، ركع قائما، وإذا فتتح قاعدًا ركع قاعدًا، والأحاديث الثلاثة بعدهما يدلان على أن صلاته يختلف قيامًا وقعودًا، فكان يفتتح قاعدًا، فيقرأ طويلاً، ثم إذا بقي من قراءته قدر ثلاثين، أو أربعين آية قام، فقرأها، ثم ركع، وهكذا في الركعة الثانية، وأما الحديث الأخير ففيه أنه كان يصلي تسع ركعات، أو سبع ركعات بالقيام، ويصلي ركعتين جالسا.

قلت: لكن هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة أحاديثها، لأنه يُجمع بحمل ذلك على اختلاف الأوقات، فكان يفعل تارة هكذا، وتارة هكذا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1646 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ بُدَيْلٍ، وَأَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي لَيْلاً طَوِيلاً، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، رَكَعَ قَائِمًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا، رَكَعَ قَاعِدًا.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قبله.

2 -

(حمّاد) بن زيد بن درهم الجَهْضَميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 3/ 3.

3 -

(بُديل) بن مَيسرة الْعُقَيليّ البصريّ، ثقة [5] 55/ 859.

4 -

(أيوب) بن أبي تَمِيمَة كيسان السَّختياني البصريّ، ثقة حجة فقيه [5] 42/ 48.

ص: 377

[تنبيه]: قوله: "وأيوب" معطوف على "بديل"، مجرور بالفتحة لكونه غير منصرف، فما وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى" من ضبطه بالرفع بضبط القلم غلطٌ، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(عبد اللَّه بن شَقيق) الْعُقَيليّ البصريّ، ثقة فيه نصبٌ [3] 17/ 1544.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها) أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، غير شيخه، فبغلانيّ، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. (ومنها). أن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: كَان رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي لَيلاً طَوِيلاً) ولمسلم من طريق شعبة، عن بُديل، عن عبد اللَّه بن شقيق، قال: كنت شاكيًا بفارس، فكنت أصلي قاعدًا، فسألت عن ذلك عائشة؟، فقالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي ليلاً طويلاً قائمًا

" فذكر الحديث. وله من طريق خالد الحذّاء، عن عبد اللَّه ابن شقيق، قال: سألت عائشة، عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟، عن تطوعه، فقالت: كان يصلي في بيتي، قبل الظهر أربعا، ثم يخرج، فيصلي بالناس، ثم يدخل، فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل، فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي، فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات، فيهن الوتر، وكان يصلي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ، وهو قائم، ركع وسجد، وهو قائم، وإذا قرأ قاعدا، ركع وسجد، وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر، صلى ركعتين.

(فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا) أي إذا افتتح الصلاة قائمًا (رَكَعَ قَائِمًا) أي أتم صلاته على هيئته (وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا، رَكَعَ قَاعِدًا) أي إذا ابتدأ الصلاة قاعدًا أتمها كذلك. وفي الرواية التالية، من طريق ابن سيرين، عن عبد اللَّه بن شقيق:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي قائمًا وقاعدًا، فإذا افتتح الصلاة قائمًا ركع قائمًا، وإذا افتتح الصلاة قاعدًا، ركع قاعدًا". ولفظ مسلم: "يُكثر الصلاة قائمًا وقاعدًا

" فذكره.

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: فيه جواز النفل قاعدًا مع القدرة على القيام، وهو

ص: 378

إجماع العلماء انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-18/ 1646 - وفي "الكبرى" 28/ 1355 - بالإسناد المذكور، وفي 1647 - عن عبدة بن عبد الرحيم، عن وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين، عن عبد اللَّه بن شَقِيق، عنها. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 2/ 162 (د) 955 و 1251 (ت) 375 وفي "الشمائل" 280 و 436 و 286 (ق) 1164 و 1228 (أحمد) 6/ 30 و 98 و100 و 112 و 113 و 166 و 204 و 216 و 227 و 228 و 236 و 241 و 261 و 262 و 265 (ابن خزيمة) 1167و 1199 و 1245 و 1246 و 1247 و 1248. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1647 -

أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي قَائِمًا وَقَاعِدًا، فَإِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَائِمًا، رَكَعَ قَائِمًا، وَإِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا، رَكَعَ قَاعِدًا.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبدة بن عبد الرحيم) المروزي، نزيل دمشق، صدوق، من صغار [10] 45/ 597.

2 -

(وكيع) بن الجرّاح الحافظ الحجة الثبت [9] 23/ 25.

3 -

(يزيد بن إبراهيم) التُّسْتَريّ -بضم المثناة، وسكون المهملة، وفتح المثناة، ثم راء- أبو سعيد التميميّ مولاهم، نزيل البصرة، ثقة ثبت، من كبار [7].

روى عن الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وغيرهم. وعنه وكيع، وبَهْز بن أسد، وابن مهديّ، وغيرهم.

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقة. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: يزيد بن

(1)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 10.

ص: 379

إبراهيم أثبت من جرير بن حازم. وقال ابن أبي خيثمة: سُئل ابن معين عن يزيد بن إبراهيم، والسَّريّ بن يحيى، أيّهما أثبت؟ فقال: يزيد لا شكّ فيه، والسريّ ثقة. وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: هشام بن حسّان أحبّ إليك في ابن سيرين، أو يزيد ابن إبراهيم؟ فقال: ثقتان، قلت: فيزيد، أو جعفر بن حيّان؟، قال: يزيد. قال عثمان: وسمعت أبا الوليد يقول: يزيد أثبت عندنا من هشام، وقال يزيد بن زُريع: ما رأيت أحدًا من أصحاب الحسن أثبت من يزيد بن إبراهيم. وقال عبد الرحمن بن الحَكَم: ليس في أصحاب الحسن أثبت منه. وقال محمود بن غَيلان: ذُكر يزيد بن إبراهيم عند وكيع، فقال: ثقة ثقة. وقال ابن المدينيّ: ثَبْتٌ في الحسن، وابن سيرين. وقال يحيى ابن معين: يزيد بن إبراهيم، عن قتادة ليس بذاك. وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقة.

وقال أبو حاتم: ثقة من أوسط أصحاب الحسن وابن سيرين. وقال زياد بن أيوب، عن سعيد بن عامر. حدثنا يزيد بن إبراهيم الصدوق المسلم. وقال ابن سعد: كان ثقة ثَبْتًا، وكان عفّان يرفع أمره. ووثقه أحمد بن صالح، وعمرو بن عليّ، وابن نمير. وقال عليّ ابن إشكاب: حدثنا أبو قَطَن، حدثنا يزيد بن إبراهيم التُّستَريّ الذهب المُصَفّى. وقال عثمان الدارميّ، عن أبي الوليد: ما رأيت أكيس منه، كان يُحدّث عن الحسن، فيُغرب، ويحدثنا عن ابن سيرين، فيَلحَن، يعني أنه كان يحدّث كما سمع. وقال ابن عديّ: وليزيد أحاديث مستقيمة عن كلِّ من يَروي عنه، وإنما أُنكرت أحاديثُ رواها عن قتادة، عن أنس، وهو ممن يُكتب حديثه، ولا بأس به، وأرجو أن يكون صدوقًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وفرّق أبو محمد بن حرم في كتاب الحجّ من "المحلّى" بين يزيد بن إبراهيم التستريّ، وبين يزيد بن إبراهيم الراوي عن قتادة، فقال: إن التستريّ ثقة ثبت، والراوي عن قتادة ضعيف. قال الحافظ: ولا أدري مَن هو سلفه في جعله اثنين. وقال أبو الوليد الطيالسيّ: مات سنة (161) وقال عمرو بن علي: مات سنة اثنتين. وقال ابن ابنه محمد بن سعيد بن يزيد بن إبراهيم: مات سنة (163). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و 2848 حديث:"احتجم، وهو محرم، من وَثْءٍ كان به".

4 -

(ابن سيرين) محمد الإمام الحجة الثبت [3] 46/ 57.

والباقيان تقدما في السند الماضي، والحديث أخرجه مسلم، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1648 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَأَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ جَالِسٌ، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ، قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ، أَوْ أَرْبَعِينَ

ص: 380

آيَةً، قَامَ فَقَرَأَ، وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن سلمة) المراديّ المريّ، ثقة ثبت [10] 19/ 20.

2 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن العُتَقيّ المصري الفقيه، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الفقيه الحجة الثبت [7] 7/ 7.

4 -

(عبد اللَّه بن يزيد) المخزوميّ المدني الأعور المقرئ، ثقة [6] 51/ 961.

5 -

(أبو النضر) سالم بن أبي أمية المدني، ثقة ثبت يرسل [5] 98/ 121.

6 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، ومن قبله مدنيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: أبو النضر، عن أبي سلمة، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ جَالِسٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَيَقْرَأُ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَإذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ) فيه إشارة إلى أن الذي كان يقرؤه قبل أن يقوم أكثر، لأن البقيّة تطلق في الغالب على الأقلّ (قَدْرَ مَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ، أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةَ)"قدر" بالرفع فاعل "بقي"(قَامَ فَقَرَأَ، وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ) فيه أنه لا يشترط لمن افتتح النافلة قاعدًا أن يركع قاعدًا، أو قائمًا أن يركع قائما، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في موضع آخر: فيه رد على من اشترط على من افتتح النافلة قاعدًا أن يركع قاعدًا، أو قائمًا أن يركع قائمًا، وهو محكيّ عن أشهب، وبعض الحنفية، والحجة فيه ما رواه مسلم وغيره من طريق عبد اللَّه بن شقيق، عن عائشة في سؤاله لها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه "كان إذا قرأ قائمًا ركع قائمًا، وإذا قرأ قاعدًا ركع قاعدًا"

(2)

، وهذا

(1)

- "فتح" ج 3 ص 304.

(2)

- هو الحديث السابق للمصنف قبل هذا.

ص: 381

صحيح، ولكن لا يلزم منه منع ما رواه عروة عنها، فيُجمع بينهما بأنه كان يفعل كلاً من ذلك بحسب النشاط وعدمه. واللَّه أعلم.

وقد أنكر هشام بن عروة على عبد اللَّه بن شقيق هذه الرواية، واحتجّ بما رواه عن أبيه، أخرج ذلك ابن خزيمة في "صحيحه"، ثم قال: ولا مخالفة عندي بين الخبرين، لأن رواية عبد اللَّه بن شقيق محمولة على ما إذا قرأ جميع القراءة قاعدًا، أو قائما، ورواية هشام بن عروة محمولة على ما إذا قرأ بعضها جالسًا، وبعضها قائمًا انتهى

(1)

.

وقال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: فيه جواز الركعة الواحدة، بعضها من قيام، وبعضها من قعود، وهو مذهبنا، ومذهب مالك، وأبي حنيفة، وعامّة العلماء، وسواء قام، ثم قعد، أو قعد، ثم قام، ومنعه بعض السلف، وهو غلط، وحكى القاضي عن أبي يوسف، ومحمد صاحبي أبي حنيفة في آخرين كراهة القعود بعد القيام، ولو نوى القيام، ثم أراد أن يجلس جاز عندنا، وعند الجمهور، وجوّزه من المالكية ابن القاسم، ومنعه أشهب انتهى

(2)

. (ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ يَفعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ) أي من القراءة جالسًا، فإذا بقي من قراءته قدر ثلاثين، أو أربعين قام، فقرأ، وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-18/ 1648 - بالإسناد المذكور، وفي 18/ 1649 - و "الكبرى" - 28/ 1356 - عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها. وفي 18/ 1650 - عن زياد بن أيوب، عن ابن عُليّة، عن الوليد أبي هشام، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عنها. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 60 و 2/ 67 (م) 2/ 163 و 2/ 164 (د) 953 (ق) 1226 و 1227 (مالك في الموطإ) 105 (الحميديّ) 192 (أحمد) 6/ 46 و 52 و 127و 178 و 183 و 204 و 231 (عبد بن حميد) 1494 (ابن خزيمة) 1240 و1244 واللَّه تعالى أعلم

(1)

- "فتح" ج 3 ص 344.

(2)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 11 - 12.

ص: 382

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.

1649 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ::: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى جَالِسًا، حَتَّى دَخَلَ فِي السِّنِّ، فَكَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ جَالِسٌ، يَقْرَأُ فَإِذَا غَبَرَ مِنَ السُّورَةِ ثَلَاثُونَ، أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَ بِهَا، ثُمَّ رَكَعَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله، ورجاله أيضًا تقدموا قريبًا، وإسحاق بن إبراهيم، هو الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، وعيسى بن يونس: هو السبيعيّ.

وقوله: "حتى دخل" في السن، أي كبر سنه. وقوله:"غير" بالغين المعجمة، والباء الموحّدة، غبُورًا، من باب قَعَد: بقي، وقد يستعمل فيما مضى أيضًا، فيكون من الأضداد، وقال الزُّبَيديّ: غَبَر غُبُورًا: مَكَثَ، وفي لغة بالمهملة للماضي، وبالمعجمة للباقي. قاله في "المصباح".

والمراد هنا المعنى الأول، أي بقي من قراءته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1650 -

أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَأُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، قَامَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ إِنْسَانٌ أَرْبَعِينَ آيَةً.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، ورجاله رجال الصحيح، و"زياد بن أيوب": هو الملقّب دَلُّويَه البغداديّ، أبو هاشم طوسيّ الأصل، ثقة حافظ [10] 101/ 132. و"ابن عُلية": هو إسماعيل بن إبراهيم البصريّ الحافظ الثبت [8] 18/ 19. و"الوليد بن أبي هشام": هو المدني، صدوق [6] 1/ 1597 واسم أبي هشام زياد.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ "الوليد بن هشام" بحذف لفظة "أبي"، وهو خطأ فاحش، فتنبه. واللَّه تعالى أعلم.

و"أبو بكر بن محمد": هو ابن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدني، ثقة عابد [5] 118/ 163. و"عمرة": هي بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية، ثقة [3] 134/ 203. وقد تقدّم قريبًا شرح الحديث، وبيان مسائله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1651 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ،

ص: 383

عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ ، قُلْتُ: أَنَا سَعْدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَاكَ، قُلْتُ أَخْبِرِينِي عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ وَكَانَ، قُلْتُ: أَجَلْ. قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ صَلَاةَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ فَيَنَامُ، فَإِذَا كَانَ جَوْفُ اللَّيْلِ، قَامَ إِلَى حَاجَتِهِ، وَإِلَى طَهُورِهِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَيُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، يُخَيَّلُ إِلَيَّ، أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ، فِي الْقِرَاءَةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ يَضَعُ جَنْبَهُ، فَرُبَّمَا جَاءَ بِلَالٌ، فَآذَنَهُ

(1)

بِالصَّلَاةِ، قَبْلَ أَنْ يُغْفِيَ وَرُبَّمَا يُغْفِي، وَرُبَّمَا شَكَكْتُ أَغْفَى، أَوْ لَمْ يُغْفِ؟ حَتَّى يُؤْذِنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَسَنَّ، وَلَحُمَ، فَذَكَرَتْ مِنْ لَحْمِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا كَانَ جَوْفُ اللَّيْلِ، قَامَ إِلَى طَهُورِهِ، وَإِلَى حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَيُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ، يُخَيَّلُ إِلَيَّ، أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ يَضَعُ جَنْبَهُ، وَرُبَّمَا جَاءَ بِلَالٌ، فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، قَبْلَ أَنْ يُغْفِيَ، وَرُبَّمَا أَغْفَى، وَرُبَّمَا شَكَكْتُ أَغْفَى، أَمْ لَا؟ ، حَتَّى يُؤْذِنَهُ بِالصَّلَاةِ، قَالَتْ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث كلهم رجال الصحيح، وقد

تقدّموا، و"عمرو بن علي": هو الفلاّس البصريّ، و"عبد الأعلى": هو ابن عبد الأعلى

السامي البصريّ. و"هشام": هو ابن حسّان القُرْدُوسيّ البصريّ، والإسناد كله مسلسل

بالبصريّين.

وقولها: "كان وكان": أي كان كذا، وكان كذا، فقولها:"إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الخ" تفصيل وبيان لقولها: "كان وكان". وقولها: "ثم يأوي إلى فراشه" أي يرجع ويجيء. وقولها: "إلى حاجته" المراد حاجة البول ونحوه. وقولها: "وإلى طَهوره" بفتح الطاء، أي الماء الذي يتطهّر به.

وقولها: "ثم دخل المسجد": أي المحلّ الذي يصلي فيه، لا المسجد الجامع، بدليل قولها في الرواية الأخرى:"ثم يقوم إلى مصلّاه"، وبدليل قولها:"ويسلّم تسليمة واحدة شديدة، يكاد يوقظ أهل البيت"، فإيقاظ أهل البيت إنما يكون إذا صلى في البيت.

(1)

- وفي نسخة "فيؤذنه".

ص: 384

وقولها: "يُخيّل إليّ" بتشديد الياء، مبنيا للمفعول: أي يقع في ظنّي. وقولها: "آذنه" أي أعلمه. وقولها: "قبل أن يُغفي" بضم الياء، من الإغفاء، وهو النوم الخفيف. وقولها:"فكانت تلك صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" اسم الإشارة اسم "كان" مرفوع المحلّ، و"صلاة" بالنصب خبرها.

وقولها. "لَحُم" ككرُم، وعَلِمَ: أي كثر لحمه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم شرحه، وبيان مسائله في 2/ 1601 - فراجعه تستفد.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌19 - بَاب صَلَاةِ الْقَاعِدِ فِي النَّافِلةِ، وَذِكْرِ الاختِلَافِ عَلَى أَبي إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف على أبي إسحاق، كما سيتضح في كلام المصنف -رحمه اللَّه تعالى- أن عُمر بن أبي زائدة رواه عنه، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، فخالفه يونس بن أبي إسحاق، فرواه من أبيه، عن الأسود، عن أم سلمة رضي الله عنها، فجعله من مسند أم سلمة، بدلاً من كونه من مسند عائشة رضي الله عنها، ثم خالف يونس شعبةُ، وسفيانُ الثوريّ، فروياه عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة، فجعلا الواسطة بين أبي إسحاق، وأم سلمة أبا سلمة، بدلاً من الأسود.

هذا الاختلاف كله على حديث أبي إسحاق السبيعيّ الذي أشار إليه في الترجمة.

ثم بين المصنف -رحمه اللَّه تعالى- اختلافا آخر، وهو أنه قد خالف أبا إسحاق عثمانُ ابن أبي سليمان، فرواه عن أبي سلمة، عن عائشة، بدلاً من أم سلمة، ورواية عثمان أخرجها مسلم في "صحيحه". هذا خلاصة الاختلاف في هذا الحديث.

[فإن قلت]: كيف يُجمع بين هذه الاختلافات؟.

[قلت]: يُجمع بينها بأن أبا إسحاق رواه من حديث كل من عائشة، وأم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أما روايته لحديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فلا شك في

ص: 385

صحتها لأن شعبة رواها عنه، وهو لا يروي عنه إلا ما صرح فيه بالسماع، وقد وقع التصريح بذلك في رواية المصنّف هنا. وأما روايته لحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنهما، وإن كان فيها عنعنته، إلا أن رواية عثمان بن أبي سليمان الآتية -وهي صحيحة كما ذكرناه آنفًا- تشهد لها.

والحاصل أن الحديث صحيح مرويّ عن كلّ من عائشة، وأم سلمة - رضي اللَّه تعالى - عنهما، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1652 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ حَدِيثِ أَبِي عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَمْتَنِعُ مِنْ وَجْهِي، وَهُوَ صَائِمٌ، وَمَا مَاتَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ قَاعِدًا، ثُمَّ ذَكَرَتْ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ، وَكَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَيْهِ، مَا دَامَ عَلَيْهِ الإِنْسَانُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا. خَالَفَهُ يُونُسُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفَلاّس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(أبو عاصم) الضحّاك بن مَخلَد النَّبِيل الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 19/ 424.

[تنبيه]: قوله: "عن حديث أبي عاصم" أي أخبرنا عمرو بن عليّ عما حدّثه به أبو عاصم النبيل. ووقع في نسخة "الكبرى""عن حريث أبي عاصم" بالراء بدل "حديث أبي عاصم"، وهو غلطٌ فاحش، وأما ما كتبه محقق "السنن الكبرى" في الهامش فلا فائدة فيه، بل هو كلام ساقط. فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(عُمر بن أبي زائدة) الهَمْدانيّ الوادعيّ الكوفيّ، أخو زكريّا، أكبر منه، صدوق [6].

روى عن أبي إسحاق، وقيس بن أبي حازم، والشعبيّ، وغيرهم. وعنه ابن أخيه يحيى بن زكريا، وبهز بن أسد، وزيد بن الْحُباب، وأبو عاصم، وغيرهم.

قال ابن مهديّ: كان كَيّس الحفظ. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: صالح. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم، والنسائيّ: ليس به بأس. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: عُمر يرى القدر. وقال في موضع آخر: زكريّا أعلى من أخيه عمر بكثير. وقال العجليّ: كوفيّ ثقة. وقال العُقيليّ: كان يرى القدر، وهو في الحديث مستقيم. وقال يعقوب بن سُفيان: عمر لا بأس به، وزكريّا ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". مات بعد (150). روى له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

ص: 386

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعي الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بآخره [3] 38/ 42.

5 -

(الأسود) بن يزيد النخعي الكوفيّ، ثقة مخضرم مكثر فقيه [2] 29/ 33.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيحين وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبصريّ، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَمْتَنِعُ مِنْ وَجْهِي) أي من تقبيل وجهي (وَهُوَ صَائِمٌ) تعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يمتنع من التقبيل لأجل الصوم؛ لأنه غير مانع من ذلك.

وفيه جواز القبلة للصائم، وسيأتي تمام البحث فيه في "كتاب الصيام" إن شاء اللَّه تعالى.

(وَمَا مَاتَ حتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاِتهِ قَاعِدًا) أي لأجل ضعفه عن القيام الطويل (ثُمَّ ذَكرَتْ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ) أي ذكرت عائشة رضي الله عنها في حديثها كلمة، لم يحفظ الأسود لفظها، بل معناها، وهو "إلا المكتوبة"، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته النافلة، في أواخر حياته بعد ما ضعف قاعدا، وأما المكتوبة فإنه لا يصليها إلا قائما.

وفيه دليل على جواز النافلة قاعدًا، وأما المكتوبة فلا تجوز إلا بالقيام للقادر عليه. واللَّه تعالى أعلم.

(وَكَانَ أَحَبُّ الْعَمَل إِلَيْهِ) أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم (مَا دَامَ عَلَيْهِ الإِنْسَانُ) أي واظب، وثبت عليه، ولم ينقطع عنه إلا بعذر (وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا) أي وإن كان ذلك العمل الدائم قليلا، وقد تقدّم وجه كونه أحب من العمل الكثير المنقطع قبل باب، فراجعه، تستفد، واللَّه تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا في إسناده عنعنة أبي إسحاق، وهو مشهور بالتدليس، إلا أن رواية عثمان بن أبي سليمان الآتية تشهد له، فهو صحيح، وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا-19/ 1652 - وفي "الكبرى" 29/

ص: 387

1357 -

بالإسناد المذكور .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.

ثم بيّن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- الاختلاف الذي أشار إليه في الترجمة بقوله: (خَالَفَهُ يُونُس الخ) أي خالف يونسُ بنُ أبي إسحاق السبيعي عُمرَ بنَ أبي زائدة في هذا الإسناد، فرَوَاهُ عَن أَبِي إِسْحَاقَ السبيعيّ، عَنِ الْأَسْوَد بن يزيد، عَنْ أُمِّ سلَمَةَ، بدلاً من عائشة رضي الله عنها، كما بيّنه بقوله:

1653 -

أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ جَالِسًا، إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ.

خَالَفَهُ شُعْبَةُ، وَسُفْيَانُ، وَقَالَا: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سليمان بن سَلْم البَلْخيّ) الْهَدَاديّ، أبو داود المصاحفيّ، ثقة [11] 118/ 1075.

2 -

(النضر) بن شُميل، أبوْ الحسن البصريّ، نزيل مَرْوَ، ثقة ثبت، من كبار [9] 41/ 45.

3 -

(يونس) بن أبي إسحاق الهمدانيّ الكوفيّ، صدوق يَهِم قليلا [6] 16/ 652.

4 -

(أم سلمة) هند بنت أبي أمية، أم المؤمنين رضي الله عنها 123/ 183.

والباقيان تقدّما في الذي قبله.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا فيه عنعنة أبي إسحاق أيضًا، إلا أن رواية شعبة التالية تشهد له، فهو صحيح، وهو هذا السياق من أفراد المصنف أيضًا من بين أصحاب الأصول، أخرجه هنا-19/ 1653 وفي "الكبرى" 29/ 1358 - بالإسناد المذكور، وأخرجه (أحمد) 6/ 297. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ذكر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- اختلافًا آخر في هذا الحديث، بقوله:(خَالَفَهُ) أي عيسى بنَ يونس (شُعْبَةُ) بن الحجّاج (وَسُفْيَانُ) الثوريّ (وَقَالَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها، فجعلاه عن أبي سلمة بدلاً من الأسود، ثم ذكر رواية شعبة بقوله:

1654 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ قَاعِدًا، إِلاَّ الْفَرِيضَةَ، وَكَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَيْهِ أَدْوَمَهُ، وَإِنْ قَلَّ.

ص: 388

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح، أخرجه المصنف -رحمه اللَّه تعالى-: هنا -19/ 1654 - وفي "الكبرى"-29/ 1359 بالإسناد المذكور، و 19/ 1655 بالإسناد الآتي، وأخرجه (ابن ماجه) 1225 و4237 و (أحمد) 6/ 304 و 319 و 320 و321 و 322.

و (إسماعيل بن مسعود): هو الجَحدري البصريّ. و (خالد) هو: ابن الحارث الْهُجَيميّ .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ذكر رواية سفيان الثوريّ، بقوله:

1655 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ قَاعِدًا، إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ، وَكَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَيْهِ، مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ.

خَالَفَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، ولا تضرّه عنعنة أبي إسحاق؛ لأنه صرح بالسماع في رواية شعبة السابقة، فانتفت تهمة التدليس. واللَّه تعالى أعلم.

و (عبد اللَّه بن عبد الصمد) هو ابن أبي خِدَاش -بكسر المعجمة، وآخره معجمة- واسمه عليّ، الأسديّ الْمَوْصليّ، صدوق [11]. ووى عن أبيه، وعمه محمد، والوليد ابن مسلم. وعنه النسائي، وابن أخيه أحمد بن صالح بن عبد الصمد، ومحمد بن عَبْدُوس الدُّورِيّ، وغيرهم.

قال النسائيّ: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال موسى بن محمد الغَسّانيّ: سمعته بِسُرَّ مَن رَأَى يقول: القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، فحدّثت به عليّ بن حرب، فقال: سَرَرْتَني. قال موسى: قال عليّ: كان قال لي: تعالَ حتى نَقِف في القرآن، فقلتُ له: اذهب أنت، فقف وحدك. أرّخ أبو زكريّا الأزديّ وفاته سنة (255).

انفرد به المصنف، روى عنه في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم 1655 و 3420 و 4971.

و (يزيد) لم يتبيّن لي من هو، فقد ذكر في "تهذيب الكمال" ممن يروي عن سفيان الثوريّ، ممن اسمه يزيد ثلاثة: يزيد بن أبي حَكِيم العَدَنيّ، ويزيد زُريع، ويزيد بن هارون، فإن كان أحد هؤلاء الثلاثة، فالإسناد صحيح؛ لأن الأول صدوق، وأما الأخيران فإنهما إمامان مشهوران، وإلا فلا أدري من هو؟. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 389

و (سفيان) هو الثوريّ .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: "خالفه عثمان بن أبي سليمان" أي خالف أبا إسحاق السبيعي، عثمان أبي سليمان، فرواه عن أبي سلمة، عن عائشة، فجعله من مسند عائشة بدلاً من أم سلمة رضي الله عنها، ورواية عثمان هذه أخرجها مسلم في "صحيحه"، وقد تقدّم أن الحديث ثابت مرويّ عنهما معا، فلا داعي لتغليط بعض الحفاظ، فليُتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم ذكر رواية عثمان بن أبي سليمان، فقال:

1656 -

أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلَاتِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث رجاله كلهم رجال الصحيح، وقد

تقدّموا.

و"الحسن بن محمد". هو الزعفراني، أبو عليّ البغداديّ صاحب الشافعيّ، ثقة [10] 21/ 427. و"حجاج": هو بن محمد الأعور المصِّيصيّ، ثقة ثبت [9] 28/ 32.

و"ابن جُريج": هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج المكيّ، ثقة فقيه فاضل يدلس [6] 28/ 32. و"عثمان أبي سُليمان". هو ابن جُبير بن مُطعم القرشيّ النوفليّ، قاضي مكة، ثقة [6] 13/ 1205.

والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم 732 وأخرجه المصنّف هنا 19/ 1656 - وفي "الكبرى" 29/ 1360 - . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1668 -

أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَهُوَ قَاعِدٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، بَعْدَ مَا حَطَمَهُ النَّاسُ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أبو الأشعث) العجليّ، أحمد بن المِقْدَام البصريّ، صدوق [10] 138/ 319.

2 -

(يزيد بن زُيع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

3 -

(الجُرَيريّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة اختلط بآخره [5] 32/ 672.

4 -

(عبد اللَّه بن شَقِيق) العُقَيليّ البصريّ، ثقة فيه نَصْبّ [3] 17/ 1544.

ص: 390

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابية، فمدنية. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقِ) العُقَيليّ، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَهُوَ قَاعِدٌ؟) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (قَالَتْ: نَعَمْ) أي كان يصلي قاعدًا (بَعْدَ مَا حَطَمَهُ النَّاسُ) الحَطْم. الكسر، تعني بعد ما ضعف بما حمّله الناس من أثقالهم، يقال: حَطَمَ فلانًا أهله، من باب ضرب: إذا كَبِر فيهم، كأنهم بما حمّلوه من أثقالهم صيّروه شيخًا كبيرًا محطومًا. أفاده في "اللسان". واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم -732 - ، وأخرجه المصنف هنا -19/ 1657 - .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1658 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى فِي سُبْحَتِهِ، قَاعِدًا قَطُّ، حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامٍ، فَكَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا، يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ، فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا.

رجال هذا الإسناد: ستة، وقد تقدّموا قريبًا، سوى:

1 -

(السائب بن يزيد) الكنديّ صحابي صغير رضي الله عنه، تقدم 15/ 1392.

2 -

(المطّلب بن أبي وَداعة) الحارث بن صَبِرَة بن سُعيد السَّهْميّ المدني، من مسلمة الفتح رضي الله عنه 49/ 958.

3 -

(حفصة) بن عمر بن الخطّاب، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهما - 39/ 583 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 391

رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبلانيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض: السائب، عن المطّلب، عن حفصة رضي الله عنها واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ حَفْصَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صلَّى في سبْحَتِهِ) أي في صلاته النافلة (قَاعِدًا قَطّ، حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفاتِهِ بِعَامٍ، فَكَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا، يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ، فَيُرَتِّلُهَا) أي يقرأها بتمهّل، يقال. رتلت القرآن ترتيلاً: تمهّلت في القراءة، ولم أعجل. قاله في "المصباح"(حَتَّى تَكُونَ) أي السورة بواسطة الترتيل (أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا) أي إلى أن تصير تلك السورة أطول من سورة أطول منها بسبب ترتيله قراءتها، وليس المراد أن نفس السورة تكون أطول.

وفيه استحباب الترتيل في تلاوة القرآن، إذ المطلوب من تلاوته التدبر في آياته، وتذكّر ما فيها من المعاني الباهرة، كما قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، ولا يمكن ذلك للقارئ، والمستمع إلا بالترتيل .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى. في درجته: حديث حفصة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا-19/ 1657 - وفي "الكبرى" 29/ 37/ 1376 - بالإسناد المذكور. واللَّه أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 2/ 164 (ت) 373 وفي "الشمائل" 281 (مالك في الموطإ) ص 104 (أحمد) 6/ 285 (الدارمي) 1392 و 1393 (ابن خزيمة)1242. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 392

‌20 - بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْقَائِمِ عَلَى صَلَاةِ الْقَاعِدِ

1659 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي جَالِسًا، فَقُلْتُ: حُدِّثْتُ أَنَّكَ قُلْتَ، إِنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ، عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَأَنْتَ تُصَلِّى قَاعِدًا، قَالَ:«أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ» .

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبيد اللَّه بن سعيد) السرخسيّ، ثقة ثبت [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحافظ الحجة [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ المذكور في الباب الماضي.

4 -

(منصور) بن المعتمر الكوفي، ثقة ثبت حجة [5] 2/ 2.

5 -

(هلال بن يساف) -بفتح الياء وكسرها-، ويقال: إساف -بكسر الهمزة- الكوفيّ، ثقة [3] 39/ 43.

6 -

(أبو يحيى) الأعرج، مِصْدَع المُعَرْقب، مقبول [3] 89/ 111.

7 -

(عبد اللَّه بن عمرو) بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: هلال، عن أبي يحيى، وهو من رواية الأقران. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو) بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي جَالِسًا، فَقُلْتُ) وفي رواية أبي داود من طريق جرير، عن منصور، قال: حُدّثتُ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل قاعدًا، نصف الصلاة"، فأتيته، فوجدته يُصلي، جالسًا، فوضعت يدي على رأسي، فقال: (مالك، يا عبد اللَّه بن عمرو؟ "، قلتُ: حُدِّثتُ أنك يا رسول اللَّه قلت: "صلاة الرجل

" الحديث (حُدِّثْتُ) بالبناء

ص: 393

للمفعول (أَنَّكَ) بفتح همزة "أنّ" لوقوعها موقع المفرد، وهو النائب عن الفاعل (قُلْتَ: إنَّ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها مقول القول، (صَلَاةَ الْقَاعِدِ، عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ) قال النووي رحمه الله: معناه أن صلاة القاعد، فيها نصف ثواب القائم، فيتضمّن صحتها، ونُقصان أجرها، وهذا الحديث محمول على صلاة النفل قاعدًا مع القدرة على القيام، فهذا له نصف ثواب القائم، وأما إذا صلّى النفل قاعدًا لعجزه عن القيام، فلا ينقص ثوابه، بل يكون كثوابه قائمًا.

وأما الفرض، فإن صلى قاعدًا، مع قدرته على القيام لم تصحّ، فلا يكون فيه ثواب، بل يأثم به. قال أصحابنا. وإن استحلّه كفر، وجرت عليه أحكام المرتدّين، كما لو استحلّ الزنا، والربا، أو غيره من المحرمات الشائعة التحريم، وإن صلى القرض قاعدًا لعجزه عن القيام، أو مضطجعًا لعجزه عن القيام والقعود، فثوابه كثوابه قائمًا، لم ينقص باتفاق أصحابنا، فيتعيّن حمل الحديث في تنصيف الثواب على من صلى النفل قاعدًا مع قدرته على القيام. هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال الجمهور في تفسير هذا الحديث، وحكاه القاضي عياض رحمه الله عن جماعة، منهم الثوريّ، وابن الماجشون وحُكي عن الباجيّ، من أئمة المالكية أنه حمله على المصلي فريضة لعذر، أو نافلةً لعذر، أو لغير عذر، قال: وحمله بعضهم على من له عذر، يرخّص في القعود في القرض والنفل، ويمكنه القيام بمشقّة انتهى كلام النووي رحمه الله

(1)

.

(وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا، قَالَ: أَجَلْ) كـ"نعم" وزنًا ومعنى، وهي أحسن في مثل هذا من "نعم"، كما تقدّم. (وَلَكِنِّي لَسْتُ كأَحَدٍ مِنْكُمْ) أي لست مثلكم في كون ثواب صلاتي قاعدًا على النصف من صلاتي قائمًا، بل هو كصلاتي قائما، لا ينقص منه شيء.

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: هو عند أصحابنا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فجُعلت نافلته قاعدا مع القدرة على القيام كنافلته قائمًا، تشريفًا له، كما خُصّ بأشياء معروفة في كتب أصحابنا، وقد استقصيتها في أول "كتاب تهذيب الأسماء واللغات"

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لَحِقَه مشقّة من القيام لحطم الناس، وللسنّ، فكان أجره تامًّا، بخلاف غيره، ممن له عذر.

وردّ عليه النوويّ، فقال: هذا ضعيف، أو باطل، لأن غيره صلى الله عليه وسلم إن كان معذورًا، فثوابه أيضًا كامل، وإن كان قادرًا على القيام، فليس هو كالمعذور، فلا يبقى فيه تخصيص، فلا يحسن على هذا التقدير "لست كأحد منكم"، وإطلاق هذا

(1)

- "شرح مسلم" ج 6 ص 14/ 15.

(2)

- قلت: تقدم سردها من ألفية الحافظ العراقي رحمه الله في السيرة، راجع شرح حديث "أُعطيت خمسا، لم يعطهن أحد قبلي

" رقم 26/ 432 - "كتاب التيمم" من هذا الشرح تستفد، وباللَّه التوفيق.

ص: 394

القول

(1)

، فالصواب ما قاله أصحابنا أن نافلته قاعدًا مع القدرة على القيام ثوابها كثوابه قائمًا، وهو من الخصائص. واللَّه أعلم انتهى كلام النووي رحمه الله.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -، هذا الذي ردّ به النوويّ كلام عياض هو الصواب عندي. والحاصل أن من صلى قاعدا لعذر، فله الأجر كاملا، سواء النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره، فلا خصوصية له في ذلك، إنما الخصوصية له فيما إذا صلى قاعدًا من غير عذر، فإن له الأجر كاملاً.

ودليل ثبوت الأجر كاملاً للمعذور مطلقًا ما أخرجه البخاري رحمه الله في "كتاب الجهاد" من طريق إبراهيم السَّكْسَكيّ، قال: سمعت أبا بردة، واصطحب هو ويزيد بن أبى كبشة، في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة: سمعت، أبا موسى مرارا، يقول: قال رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد، أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا"، انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته، حديث عبد اللَّه بن عَمْرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-20/ 1659 - وفي "الكبرى" 30/ 1361 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (م) 2/ 165 (د) 950 (أحمد) 2/ 162 و192 و 201 و 203 (الدارمي) 1391 (ابن خزيمة)1237. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل صلاة القائم على صلاة القاعد، حيث إنه يفضل عليه بنصف الأجر. ومنها: جواز النافلة قاعدًا مع القدرة على القيام. ومنها: بيان شرف النبي صلى الله عليه وسلم، وعظيم منزلته عند اللَّه تعالى، حيث خصّه بعدم نقص أجر صلاته قاعدًا، بخلاف غيره، فينقص منهم نصف أجورهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- هكذا عبارة النوويّ في "شرح مسلم"، وفيها ركاكة، ولو قال: فلا يحسن إطلاق قوله: "لست كأحد منكم"، لكان أوضح. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 395

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌21 - فَضْلُ صَلَاةِ الْقَاعِدِ عَلَى صَلَاةِ النَّائِمِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: اعترض ابن بطال على هذه الترجمة، وادعى أن النسائيّ صحف الحديث

(1)

، قال: وغلطه فيه ظاهر؛ لأنه ثبت الأمر للمصلى إذا وقع عليه النوم أن يقطع الصلاة، وعقل ذلك بأنه لعله يستغفر، فيسبّ نفسه، قال: فكيف يأمره بقطع الصلاة، ثم يُثبت أن له نصف أجر القاعد. انتهى.

ورَدّ عليه الحافظ العراقي في "شرح الترمذي" -كما نقله في "الفتح"- فقال: ما حاصله: لعله هو الذي صحّف، وإنما ألجأه إلى ذلك حَمْلُ قوله:"نائمًا" على النوم الحقيقي الذي أُمر المصلي إذا وجده بقطع الصلاة، وليس ذلك المراد هنا، إنما المراد الاضطجاع. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فقد أجاد الحافظ العراقي -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الردّ، وأفاد.

فترجمة النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- صحيحة موافقة للحديث الذي أورده في الباب، ومن ادعى عليه التصحيف فهو المصحّف، لأنه لم يفهم المراد، من الحديث، فلسوء فهمه حمله على أن النوم هو النوم الحقيقي الذي ورد الأمر بقطع الصلاة من أجله، وليس كذلك، وإنما المراد بالنوم هو الاضطجاع، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ بتقليد ذوي الاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1660 -

أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الَّذِي يُصَلِّي قَاعِدًا؟ ، قَالَ:«مَنْ صَلَّى قَائِمًا، فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ» .

(1)

- أراد أنه صحّف أن لفظ الحديث "ومن صلى موميا" إلى- قوله: "نائما"، فترجم عليه "فضل صلاة القاعد على النائم". واللَّه أعلم.

ص: 396

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُميد بن مَسعَدة) الباهليّ البصريّ، صدوق [10] 5/ 5.

2 -

(سُفيان بن حَبيب) البصريّ، ثقة [9] 67/ 82.

3 -

(حُسين المعلّم) بن ذكوان الْعَوْذيّ البصريّ، ثقة ربما وهم [6] 122/ 174.

4 -

(عبد اللَّه بن بُريدة) بن الحُصيب الأسلميّ، أبو سَهْل المروزيّ، ثقة [3] 25/ 393.

5 -

(عمران بن حُصين) بن عُبيد بن خَلَف الخُزاعيّ، أبو نُجَيد الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما - 201/ 321 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير عبد اللَّه بن بُريدة، فمروزيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وصرح عبد اللَّه بن بريدة بالتحديث عند البخاريّ، فقال: "حدثني عمران بن حُصين، وكان مبسورًا

(1)

" (قَالَ: سَألْتُ النبِي صلى الله عليه وسلم، عَنِ الذِي يُصَلِّي قَاعِدًا؟) قال الخطّابي -رحمه اللَّه تعالى-. كنت تأولت هذا الحديث على أن المراد به صلاة التطوّع -يعني للقادر- لكن قوله: "من صلّى نائمًا" يُفسده، لأن المضطجع لا يصلي التطوّع كما يفعل القاعد، لأني لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخّص في ذلك، قال: فإن صحّت هذه اللفظة، ولم يكن بعض الرواة أدرجها قياسًا منه للمضطجع على القاعد، كما يتطوّع المسافر على راحلته، فالتطوّع للقادر على القعود مضطجعًا جائز بهذا الحديث، قال: وفي القياس المتقدّم نظر، لأن القعود شكل من أشكال الصلاة، بخلاف الاضطجاع، قال: وقد رأيت الآن أن المراد بحديث عمران المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل، فيقوم مع مشقّة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم، ترغيبًا له في القيام، مع جواز قعوده. انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهو حمل متّجه. قال: فمن صلى فرضًا قاعدًا، وكان

(1)

-أي كان مُصابا بمرض الباسور، بالباء الموحّدة، ويقال له: الناسور بالنون أيضا، أو الذي بالموحدة وَرَمّ في باطن المقعدة، والذي بالنون قرحة فاسدة، لا تقبل البرء، ما دام فيها ذلك الفساد. أفاده في "الفتح" ج 3 ص 298.

ص: 397

يشقّ عليه القيام أجزأه، وكان هو، ومن صلى قائمًا سواءً، قال: فلو تحامل هذا المعذور، وتكلف القيام، ولو شق عليه كان أفضل لمزيد أجر تكلّف القيام، فلا يمتنع أن يكون أجره على ذلك نظير أجره على أصل الصلاة، فيصحّ أن أجر القاعد على النصف من أجر القائم، ومن صلّى النفل قاعدًا مع القدرة على القيام أجزأه، وكان أجره على النصف من أجر القائم بغير إشكال.

وأما قول الباجيّ: إن الحديث في المفترض والمتنفّل معًا، فإن أراد بالمفترض ما قرّرناه فذاك، وإلا فقد أبى ذلك أكثر العلماء.

وحكى ابن التين وغيره عن أبي عُبيد، وابن الماجشون، وإسماعيل القاضي، وابن شعبان، والإسماعيليّ، والداوديّ، وغيرهم أنهم حملوا حديث عمران على المتنفّل، وكذا نقله الترمذيّ عن الثوريّ، قال: وأما المعذور إذا صلى جالسًا، فله مثل أجر القائم. ثم قال: وفي هذا الحديث ما يشهد له، يشير إلى ما أخرجه البخاري في "الجهاد"، من حديث أبي موسى رضي الله عنه، وقد تقدم لفظه. قال. ويؤيد ذلك قاعدة تغليب فضل اللَّه تعالى، وقبول عذر من له عذر. واللَّه أعلم.

ولا يلزم من اقتصار العلماء المذكورين في حمل الحديث المذكور على صلاة النافلة أن لا تَرِدَ الصورة التي ذكرها الخطابي، وقد ورد في الحديث ما يشهد لها، فعند أحمد من طريق ابن جُريج، عن ابن شهاب، عن أنس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهي مَحَمَّةٌ

(1)

، فحُمَّ الناسُ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، والناس يُصلّوْن من قُعود، فقال:"صلاة القاعد نصف صلاة القائم"، ورجاله ثقات، زاد في رواية:"فتجشّم الناس الصلاةَ قيامًا"، وله متابع عند النسائيّ

(2)

، من وجه آخر، وهو وارد في المعذور، فيحمل على من تكلّف القيام مع مشقّته عليه، كما بحثه الخطّابيّ.

وأما نفي الخطّابيّ جواز التنفّل مضطجعًا، فقد تبعه ابن بطال على ذلك، وزاد: لكن الخلاف ثابت، فقد نقله الترمذيّ بإسناده إلى الحسن البصريّ، قال: إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع قائما، وجالسًا، ومضطجعًا، وقال به جماعة من أهل العلم، وأحد الوجهين للشافعية، وصححه المتأخّرون، وحكاه عياض وجهًا عند المالكيّة أيضًا، وهو اختيار الأبهريّ منهم، واحتجّ بهذا الحديث.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الحسن البصريّ -رحمه اللَّه تعالى-، ومن تبعه

(1)

- يقال: أرض مَحَمّة، بفتح الميم، والحاء، وتشديد الميم الثانية، كمَذَمَّة، وبضم الميم، وكسر الحاء: ذات حُمَّى، أو كثيرتها. أفاده في "ق".

(2)

- هو في "الكبرى" برقم 32/ 1364.

ص: 398

أرجح عندي؛ لصحة حديث الباب، وما تقدم للخطابي من احتمال الإدراج فغير صحيح؛ لعدم استناده إلى حجة. وأما ما قاله السنديّ، من أن العلماء عَدُّوه بدعةً، وحدثا في الإسلام، فكلام لم يعتمد على تأمّل الحديث، وأقوال أهل العلم فيه، فكيف يكون بدعة، وقد صحّ الحديث فيه، وقال به جماعة من أهل العلم الذين تقدّم ذكرهم، إن هذا من العَجَب العُجَاب!. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: سؤال عمران - رضي اللَّه تعالى عنه - عن الرجل خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، بل الرجل والمرأة في ذلك سواء

(1)

.

(قَالَ: "من صَلَّى قَائِمًا، فَهُوَ أَفْضَلُ) ثوابًا ممن صلى قاعدًا (وَمنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَائِمِ) وهذا يُستثنَى من عمومه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن صلاته قاعدًا، لا ينقص أجرها عن صلاته قائما، لحديث عبد اللَّه بن عمرو المتقدّم في الباب السابق (وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا) أي مضطجعًا، كما فسره به البخاري في "صحيحه" فإنه قال عقب حديث الباب: ما نصه: قال أبو عبد اللَّه: "نائما" عندي مضطجعًا ههنا. انتهى. (فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ") هذا نصّ صريح في صحة صلاة النافلة مضطجعًا، وقد قال به جماعة من أهل العلم، وهو الحقّ، كما أسلفناه قريبا .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عمران بن حصين - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-21/ 1660 وفي "الكبرى" 31/ 1362 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه (خ) 2/ 59 (د) 951 (ت) 371 (ق) 1231 (أحمد) 4/ 433 و 435 و 442 و 443 (ابن خزيمة) 1236 و 1249. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "فتح" بتصرّف ج 3 ص 298 - 299.

ص: 399

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين: قد انتهيت من كتابة الجزء السابع عشر من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائي -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتبى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريمًا.

وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثامن عشر مفتتحًا بالباب 22 "نوع آخر" الحديث رقم 1661.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 400